الخصائص - ج ١

أبي الفتح عثمان بن جنّي

الخصائص - ج ١

المؤلف:

أبي الفتح عثمان بن جنّي


المحقق: الدكتور عبد الحميد الهنداوي
الموضوع : اللغة والبلاغة
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ٣
ISBN: 978-2-7451-3245-1
الصفحات: ٥٤٤

أفلا ترى إلى احتياطك فى العلّة كيف أسقط عنك هذه الالتزامات كلّها ، ولو لم تقدّم الأخذ بالحزم لاضطررت إلى تخصيص العلّة ، وأن تقول : هذا من أمره ... ، وهذا من حاله ... ، والعذر فى كذا وكذا ... ، وفى كذا وكذا .. وأنت إذا قدّمت ذلك الاحتياط لم يتوجّه عليك سؤال ؛ لأنه متى قال لك : فقد صحّت الياء والواو فى جيل ، وحوبة ، قلت : هذا سؤال يسقطه ما تقدّم ؛ إذ كانت الحركة عارضة لا لازمة ، ولو لم تحتط بما قدّمت لأجاءتك الحال إلى تمحل الاعتذار.

وهذا عينه موجود فى العلل الكلاميّة ؛ ألا ترى أنك تقول فى إفساد اجتماع الحركة والسكون على المحلّ الواحد : لو اجتمعا لوجب أن يكون المحلّ الواحد ساكنا متحرّكا فى حال واحدة ، ولو لا قولك : فى حال واحدة لفسدت العلّة ؛ ألا ترى أنّ المحلّ الواحد قد يكون ساكنا متحرّكا فى حالين اثنتين.

فقد علمت بهذا وغيره مما هو جار مجراه قوّة الحاجة إلى الاحتياط فى تخصيص العلة.

فإن قلت : فأنت إذا حصّل عليك هذا الموضع لم تلجأ فى قلب الواو والياء إذا تحرّكتا وانفتح ما قبلهما ألفين ، إلا إلى الهرب من اجتماع الأشباه ؛ وهى حرف العلّة والحركتان اللتان اكتنفتاه ، وقد علم مضارعة الحركات لحروف اللين ، وهذا أمر موجود فى قام ، وخاف ، وهاب ، كوجوده فى حول ، وعور ، وصيد ، وعين ؛ ألا ترى أن أصل خاف وهاب : خوف وهيب ، فهما فى الأصل كحول وصيد ، وقد تجشّمت فى حول وصيد من الصحّة ما تحاميته فى خوف وهيب. فأمّا احتياطك بزعمك فى العلّة بقولك : إذا عرى الموضع من اللّبس ، وقولك : إذا كان فى معنى ما لا بدّ من صحّته ، وقولك : وكانت الحركة غير لازمة ، فلم نرك أوردته إلا لتستثنى به ما يورده الخصم عليك : مما صحّ من الياء والواو وهو متحرّك وقبله فتحة. وكأنك إنما جئت إلى هذه الشواذّ التى تضطرّك إلى القول بتخصيص العلل فحشوت بها حديث علّتك لا غير ؛ وإلا فالذى أوجب القلب فى خاف ، وهاب ، من استثقال حرفى اللين متحرّكين مفتوحا ما قبلهما موجود البتة فى حول وصيد ، وإذا كان الأمر كذلك دلّ على انتقاض العلّة وفسادها.

قيل : لعمرى إنّ صورة حول وصيد لفظا هى صورة خوف وهيب ، إلا أنّ هناك

١٨١

من بعد هذا فرقا ، وإن صغر فى نفسك وقلّ فى تصوّرك وحسّك ، فإنه معنى عند العرب مكين فى أنفسها ، متقدّم فى إيجابه التأثير الظاهر عندها. وهو ما أوردناه وشرطناه : من كون الحركة غير لازمة ، وكون الكلمة فى معنى ما لا بدّ من صحّة حرف لينه ، ومن تخوّفهم التباسه بغيره ؛ فإن العرب ـ فيما أخذناه عنها ، وعرفناه من تصرّف مذاهبها ـ ، عنايتها بمعانيها أقوى من عنايتها بألفاظها. وسنفرد لهذا بابا نتقصّاه فيه بمعونة الله. أو لا تعلم عاجلا إلى أن تصير إلى ذلك الباب آجلا ، أنّ سبب إصلاحها ألفاظها ، وطردها إيّاها على المثل والأحذية التى قنّنتها لها ، وقصرتها عليها ، إنما هو لتحصين المعنى وتشريفه ، والإبانة عنه وتصويره ؛ ألا ترى أن استمرار رفع الفاعل ، ونصب المفعول ، إنما هو للفرق بين الفاعل والمفعول ؛ وهذا الفرق أمر معنوىّ ، أصلح اللفظ له وقيد مقاده الأوفق من أجله.

فقد علم بهذا أن زينة الألفاظ وحليتها لم يقصد بها إلا تحصين المعانى وحياطتها. فالمعنى إذا هو المكرّم المخدوم ، واللفظ هو المتبذل الخادم.

وبعد فإذا جرت العلّة فى معلولها ، واستتبّت على منهجها وأمّها قوى حكمها ، واحتمى جانبها ، ولم يسع أحدا أن يعرض لها إلا بإخراجه شيئا إن قدر على إخراجه منها. فأمّا أن يفصّلها ويقول : بعضها هكذا ، وبعضها هكذا فمردود عليه ، ومرذول عند أهل النظر فيما جاء به. وذلك أن مجموع ما يورده المعتلّ بها هو حدّها ووصفها ، فإذا انقادت وأثّرت وجرت فى معلولاتها فاستمرّت ، لم يبق على بادئها ، وناصب نفسه للمراماة عنها ، بقيّة فيطالب بها ، ولا قصمة سواك فيفكّ يد ذمّته عنها.

فإن قلت : فقد قال الهذلىّ : ... (١).

فقد كنت قلت فى هذه اللفظة فى كتابى فى ديوان هذيل : إنه إنما أعلّت هذه العين هناك ولم تصحّ كما صحّت عين اجتوروا واعتونوا من حيث كان ترك قلب الياء ألفا أثقل عليهم من ترك قلب الواو ألفا ؛ لبعد ما بين الألف والواو ، وقربها

__________________

(١) بيت الهذلى الذى سقط هنا فيما بين أيدينا من الأصول فيه (استاف) فى معنى تسايفوا. ولم أعثر على البيت بعد طول البحث. وسبب ذلك أن شعر الهذليين لم يصلنا كله. (نجار).

١٨٢

من الياء ، وكلّما تدانى الحرفان أسرع انقلاب أحدهما إلى صاحبه ، وانجذابه نحوه ، وإذا تباعدا كانا بالصحّة والظهور قمنا. وهذا ـ لعمرى ـ جواب جرى هناك على مألوف العرف فى تخصيص العلّة. فأمّا هذا الموضع فمظنّة من استمرار المحجّة واحتماء العلّة. وذلك أن يقال : إنّ استاف هنا لا يراد به تسايفوا أى تضاربوا بالسيوف ، فتلزم صحّته كصحّة عين تسايفوا ؛ كما لزمت صحّة اجتوروا لمّا كان فى معنى ما لا بدّ من صحّة عينه ، وهو تجاوروا ؛ بل تكون استافوا هنا : تناولوا سيوفهم وجرّدوها. ثم يعلم من بعد أنهم تضاربوا ؛ مما دلّ عليه قولهم : استافوا ، فكأنه من باب الاكتفاء بالسبب عن المسبّب ؛ كقوله :

ذر الآكلين الماء ظلما فما أرى

ينالون خيرا بعد أكلهم الماء (١)

يريد قوما كانوا يبيعون الماء فيشترون بثمنه ما يأكلونه ، فاكتفى بذكر الماء الذى هو سبب المأكول من ذكر المأكول.

فأمّا تفسير أهل اللغة أنّ استاف القوم فى معنى تسايفوا فتفسير على المعنى ؛ كعادتهم فى أمثال ذلك ؛ ألا تراهم قالوا فى قول الله عزوجل (مِنْ ماءٍ دافِقٍ) [الطارق : ٦] إنه بمعنى مدفوق ، فهذا ـ لعمرى ـ معناه ، غير أن طريق الصنعة فيه أنه ذو دفق كما حكاه الأصمعىّ عنهم من قولهم : ناقة ضارب إذا ضربت (٢) ، وتفسيره أنها ذات ضرب أى ضربت. وكذلك قوله تعالى : (لا عاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللهِ) [هود : ٤٣] أى لا ذا عصمة ، وذو العصمة يكون مفعولا كما يكون فاعلا ، فمن هنا قيل : إن معناه : لا معصوم. وكذلك قوله :

لقد عيّل الأيتام طعنة ناشره

أناشر لا زالت يمينك آشره (٣)

__________________

(١) البيت من الطويل ، وهو بلا نسبة فى لسان العرب (أكل) ، وتاج العروس (أكل).

(٢) أى ضربها الفحل ، وضرب الجمل الناقة يضربها إذا نزا عليها. اللسان (ضرب).

(٣) البيت من الطويل ، وهو لنائحة همّام بن مرّة فى التنبيه والإيضاح ٢ / ٧٨ ، وبلا نسبة فى تهذيب اللغة ٩ / ٢٢١ ، ١١ / ٤١٠ ، وجمهرة اللغة ص ٧٣٤ ، ومجمل اللغة ١ / ١٩٣ ، وتاج العروس (أشر) ، (نشر) ، ولسان العرب (أشر) ، (نشر) ، (وقص) ، (ومق) ، (عبل) ، (ضمن). وأراد : لا زالت يمينك مأشورة أو ذات أشر. يقال : أشرت الخشبة أشرا ووشرتها وشرا إذا شققتها مثل نشرتها نشرا. وذلك أن الشاعر إنما دعا على ناشرة لا له ؛ قال ابن برى : هذا البيت لنائحة همام بن مرة بن ذهل بن شيبان ، وكان قتله ناشرة ، وهو الذى ربّاه ، قتله غدرا ؛ ـ

١٨٣

أى ذات أشر ، والأشر : الحزّ والقطع ، وذو الشىء قد يكون مفعولا كما يكون فاعلا ؛ وعلى ذلك عامّة باب طاهر ، وطالق ، وحائض ، وطامث ؛ ألا ترى أن معناه : ذات طهر ، وذات طلاق ، وذات حيض ، وذات طمث. فهذه ألفاظ ليست جارية على الفعل ؛ لأنها لو جرت عليه للزم إلحاقها تاء التأنيث ؛ كما لحقت نفس الفعل. وعلى هذا قول الله تعالى : (فِي عِيشَةٍ راضِيَةٍ) [القارعة : ٧] أى ذات رضا ، فمن هنا صارت بمعنى مرضيّة. ولو جاءت مذكّرة لكانت كضارب وبازل ، كباب حائض وطاهر ؛ إذ الجميع غير جار على الفعل ، لكن قوله تعالى «راضية» كقوله (لا زالت يمينك آشرة).

وينبغى أن يعلم أن هذه التاء فى (راضية) و (آشرة) ليست التاء التى يخرج بها اسم الفاعل على التأنيث لتأنيث الفعل من لفظه ؛ لأنها لو كانت تلك لفسد القول ؛ ألا ترى أنه لا يقال : ضربت الناقة ولا رضيت العيشة. وإذا لم تكن إيّاها وجب أن تكون التى للمبالغة ؛ كفروقة ، وصرورة ، وداهية ، وراوية ، مما لحقته التاء للمبالغة والغاية. وحسّن ذلك أيضا شيء آخر. وهو جريانها صفة على مؤنث ، وهى بلفظ الجارى على الفعل ، فزاد ذلك فيما ذكرنا ؛ ألا ترى إلى همز حائض ، وإن لم يجر على الفعل ، إنما سببه أنه شابه فى اللفظ ما اطّرد همزه من الجارى على الفعل ؛ نحو قائم ، وصائم وأشباه ذلك. ويدلّك على أن عين حائض همزة ، وليست ياء خالصة ـ كما لعلّه يظنّه كذلك ظانّ ـ قولهم : امرأة زائر ، من زيارة النساء ، وهذا واضح ؛ ألا ترى أنه لو كانت العين صحيحة لوجب ظهورها واوا وأن يقال : زاور. وعليه قالوا : الحائش ، والعائر للرمد ، وإن لم يجريا على الفعل ، لمّا جاءا مجىء ما يجب همزه وإعلاله فى غالب الأمر.

نعم وإذا كانوا قد أنّثوا المصدر لمّا جرى وصفا على المؤنّث ؛ نحو امرأة عدلة ، وفرس طوعة القياد ، وقول أميّة :

__________________

وكان همام قد أبلى فى بنى تغلب فى حرب البسوس وقاتل قتالا شديدا ثم إنه عطش فجاء إلى رحله يستسقى وناشرة عند رحله ، فلما رأى غفلته طعنه بحربة فقتله وهرب إلى بنى تغلب. اللسان (أشر).

١٨٤

والحيّة الحتفة الرّقشاء أخرجها

من حجرها آمنات الله والكلم (١)

وإذا جاز دخول التاء على المصادر وليست على صورة اسم الفاعل ولا هى الفاعل فى الحقيقة ، وإنما استهوى لذلك جريها وصفا على المؤنّث ، كان باب «عيشة راضية» ، و «يد آشرة» أحرى بجواز ذلك فيه ، وجريه عليه.

فإن قلت : فقد قالوا فى يوجل : ياجل ، وفى ييأس : ياءس ، وفى طىّء طائىّ ، وقالوا : حاحيت ، وعاعيت ، وهاهيت ، فقلبوا الياء والواو هنا ألفين ، وهما ساكنتان ، وفى هذا نقض لقولك ؛ ألا تراك إنما جعلت علة قلب الواو والياء ألفين تلك الأسباب التى أحدها كونهما متحرّكتين ، وأنت تجدهما ساكنتين ، ومع ذلك فقد تراهما منقلبتين.

قيل : ليس هذا نقضا ، ولا يراه أهل النظر قدحا. وذلك أن الحكم الواحد قد يكون معلولا بعلّتين ثنتين ، فى وقت واحد تارة ، وفى وقتين اثنين. وسنذكر ذلك فى باب المعلول بعلّتين.

فإن قلت : فما شرطك واحتياطك فى باب قلب الواو ياء إذا اجتمعت مع الياء فى نحو سيّد ، وهيّن ، وجيّد ، وشويت شيّا ، ولويت يده ليّا ، وقد تراهم قالوا حيوة ، وضيون ، وقالوا عوى الكلب عوية ، وقالوا فى تحقير أسود ، وجدول : جديول ، وأسيود ، وأجازوا قياس ذلك فيما كان مثله : مما واوه عين متحركة أو زائدة قبل الطرف؟

فالذى نقول فى هذا ونحوه : أن الياء والواو متى اجتمعتا ، وسبقت الأولى بالسكون منهما ، ولم تكن الكلمة (٢) علما ، ولا مرادا بصحّة واوها التنبيه على أصول أمثالها ، ولا كانت تحقيرا محمولا على تكسير ، فإن الواو منه تقلب ياء.

فإذا فعلت هذا واحتطت للعلّة به أسقطت تلك الإلزامات عنك ؛ ألا ترى أن

__________________

(١) البيت من البسيط ، وهو لأميّة بن أبى الصلت فى ديوانه ص ٥٧ ، والأشباه والنظائر ٢ / ٣٨٩ ، ولسان العرب (حتف) ، (عدل). ويروى : بيتها بدلا من حجرها. وفيه : وصف أمية الحية بالحتفة ، والحتف : الموت والهلاك.

(٢) التعليل للقياس فى هذا القلب ، وحسب العلة أن تكون وافية به. والقلب فى العلم وما قصد به التنبيه على الأصل شذوذ فلا يجب أن تراعى فى العلة. (نجار).

١٨٥

(حيوة) علم والأعلام تأتى مخالفة للأجناس فى كثير من الأحكام ، وأن (ضيون) إنما صحّ لأنه خرج على الصحّة تنبيها على أن أصل سيّد وميّت : سيود وميوت.

وكذلك (عوية) خرجت سالمة ؛ ليعلم بذلك أن أصل ليّة لوية ، وأن أصل طيّة طوية ، وليعلم أن هذا الضرب من التركيب وإن قلّ فى الاستعمال ، فإنه مراد على كل حال.

وكذلك أجازوا تصحيح نحو أسيود وجديول ، إرادة للتنبيه على أن التحقير والتكسير فى هذا النحو من المثل من قبيل واحد.

فإن قلت : فقد قالوا فى العلم أسيّد ، فأعلّوا كما أعلّوا فى الجنس ؛ نحو قوله :

أسيّد ذو خرّيطة نهارا

من المتلقّطى قرد القمام (١)

فعن ذلك أجوبة. منها أن القلب الذى فى أسيّد قد كان سبق إليه وهو جنس كقولك : غليّم أسيّد ، ثم نقل إلى العلميّة بعد أن أسرع فيه القلب فبقى بحاله ، لا أن القلب إنما وجب فيه بعد العلميّة ، وقد كان قبلها ـ وهو جنس نكرة ـ صحيحا.

ويؤنّس بهذا أيضا أن الإعلال فى هذا النحو هو الاختيار فى الأجناس. فلمّا سبق القلب الذى هو أقوى وأقيس القولين سمّى به معلا ، فبقى بعد النقل على صورته. ومثل ذلك ما نقوله فى «عيينة» أنه إنما سمّى به مصغّرا فبقى بعد بحاله قبل ، ولو كان إنما حقّر بعد أن سمّى به لوجب ترك إلحاق علامة التأنيث به ؛ كما أنك لو سمّيت رجلا هندا ، ثم حقّرت قلت : هنيد : ولو سمّيته بها محقّرة قبل التسمية لوجب أن تقرّ التاء بحالها ، فتقول : هذا هنيدة مقبلا. هذا مذهب الكتاب ، وإن كان يونس يقول بضدّه. ومنها أنا لسنا نقول : إن كلّ علم فلا بدّ من صحّة واوه إذا اجتمعت مع الياء ساكنة أولاهما فيلزمنا ما رمت إلزامنا ، وإنما قلنا : إذا اجتمعت الياء والواو ، وسبقت الأولى منهما بالسكون ، ولم يكن الاسم علما ،

__________________

(١) البيت من الوافر ، وهو للفرزدق فى ديوانه ٢ / ٢٩٠ ، وشرح أبيات سيبويه ١ / ١٨٢ ، وشرح عمدة الحافظ ص ٤٨٩ ، والكتاب ١ / ١٨٥ ، ولسان العرب (قرد). وقبله.

سيأتيهم بوحى القول عنى

ويدخل رأسه تحت القرام

والقرد ، بالتحريك : نفاية الصّوف خاصة ، ثم استعمل فيما سواه من الوبر والشعر والكتان. والقمام : الكناسة. وانظر اللسان (قرد).

١٨٦

ولا على تلك الأوصاف التى ذكرنا فإن الواو تقلب ياء وتدغم الياء فى الياء. فهذه علّة من علل قلب الواو ياء. فأمّا ألا تعتلّ الواو إذا اجتمعت مع الياء ساكنة أولاهما إلا من هذا الوجه فلم نقل به. وكيف يمكن أن نقول به وقد قدّمنا أن الحكم الواحد قد يكون معلولا بعلّتين وأكثر من ذلك ، وتضمّنّا أن نفرد لهذا الفصل بابا!

فإن قلت : ألسنا إذا رافعناك فى صحّة «حيوة» إنما نفزع إلى أن نقول : إنما صحّت لكونها علما ، والأعلام تأتى كثيرا أحكامها تخالف أحكام الأجناس ، وأنت تروم فى اعتلالك هذا الثانى أن تسوّى بين أحكامهما ، وتطرد على سمت واحد كلا منهما.

قيل : الجواب الأوّل قد استمرّ ، ولم تعرض له ، ولا سوّغتك الحال الطعن فيه ، وإنما هذا الاعتراض على الجواب الثانى. والخطب فيه أيسر. وذلك أنّ لنا مذهبا سنوضّحه فى باب يلى هذا ؛ وهو حديث الفرق بين علّة الجواز وعلّة الوجوب.

ومن ذلك أن يقال لك : ما علّة قلب واو سوط ، وثوب ، إذا كسّرت فقلت : ثياب ، وسياط؟.

وهذا حكم لا بدّ فى تعليله من جمع خمسة أغراض ، فإن نقصت واحدا فسد الجواب ، وتوجه عليه الإلزام.

والخمسة : أنّ ثيابا ، وسياطا ، وحياضا ، وبابه جمع ، والجمع أثقل من الواحد ، وأنّ عين واحده ضعيفة بالسكون ، وقد يراعى فى الجمع حكم الواحد ، وأنّ قبل عينه كسرة ، وهى مجلبة فى كثير من الأمر لقلب الواو ياء ، وأنّ بعدها ألفا ، والألف شبيهة بالياء ، وأنّ لام سوط وثوب صحيحة.

فتلك خمسة أوصاف لا غنى بك عن واحد منها. ألا ترى إلى صحّة خوان ، وبوان (١) ، وصوان ، لمّا كان مفردا لا جمعا. فهذا باب. ثم ألا ترى إلى صحّة واو

__________________

(١) بوان ، بكسر الباء وبالضم لغة ، عن الفراء : عمود من أعمدة الخباء ، والجمع أبونة وبون ، بالضم. اللسان (بون)

١٨٧

زوجة ، وعودة ، وهى جمع واحد ساكن العين ، وهو زوج ، وعود (١) ، ولامه أيضا صحيحة ، وقبلها فى الجمع كسرة. ولكن بقى من مجموع العلة أنه لا ألف بعد عينه ؛ كألف حياض ، ورياض. وهذا باب أيضا.

ثم ألا ترى إلى صحّة طوال ، وقوام ، وهما جمعان ، وقبل عينهما كسرة ، وبعدهما ألف ، ولاماهما صحيحتان. لكن بقى من مجموع العلّة أنّ عينه فى الواحد متحركة ؛ وهى فى طويل ، وقويم. وهذا أيضا باب.

ثم ألا ترى إلى صحّة طواء ، ورواء ، جمع طيّان ، وريّان ؛ فيه الجمعيّة ، وأنّ عين واحده ساكنة ، بل معتلّة ، وقبل عينه كسرة وبعدها ألف. لكن بقى عليك أنّ لامه معتلّة ، فكرهوا إعلال عينه لئلا يجمعوا بين إعلالين.

وهذا الموضع ممّا يسترسل فيه المعتلّ لاعتلاله ، فلعلّه أن يذكر من الأوصاف الخمسة التى ذكرناها وصفين (أو أكثره) ثلاثة ويغفل الباقى ، فيدخل عليه الدخل منه ، فيرى أن ذلك نقض للعلة ، ويفزع إلى ما يفزع إليه من لا عصمة له ، ولا مسكة عنده. ولعمرى إنه كسر لعلّته هو لاعتلالها فى نفسها. فأمّا مع إحكام علّة الحكم فإنّ هذا ونحوه ساقط عنه.

ومن ذلك ما يعتقده فى علّة الادغام. وهو أن يقال : إن الحرفين المثلين إذا كانا لازمين متحرّكين حركة لازمة ، ولم يكن هناك إلحاق ، ولا كانت الكلمة مخالفة لمثال فعل ، وفعل ، أو كانت فعل فعلا ، ولا خرجت منبّهة على بقيّة بابها ، فإن الأوّل منها يسكّن ويدغم فى الثانى. وذلك نحو شدّ ، وشلّت يده ، وحبّذا زيد ، وما كان عاريا مما استثنيناه ؛ ألا ترى أنّ شدّ وإن كان فعل فإنه فعل ؛ وليس كطلل ، وشرر ، وجدد (٢) ، فيظهر. وكذلك شلّت يده : فعلت. وحبّذا زيد أصله حبب ككرم ، وقضو الرجل. ومثله شرّ الرجل من الشرّ : هو فعل ؛ لقولهم : شررت يا رجل ؛ وعليه جاء رجل شرير كرديء. وعلى ذلك قالوا أجدّ فى الأمر ، وأسرّ الحديث ، واستعدّ ؛ لخلوّه ممّا شرطناه.

__________________

(١) العود : هو المسن من الإبل.

(٢) الجدد : الأرض الغليظة.

١٨٨

فلو عارضك معارض بقولهم : اصبب الماء ، وامدد الحبل ، لقلت : ليست الحركتان لازمتين ؛ لأن الثانية لالتقاء الساكنين. وكذلك إن ألزمك ظهور نحو جلبب ، وشملل : وقعدد ، ورمدد (١) ، قلت : هذا كلّه ملحق ؛ فلذلك ظهر.

وكذلك إن أدخل على قولك هما يضرباننى ، ويكرماننى ، ويدخلاننا قلت : سبب ظهوره أن الحرفين ليسا لازمين ؛ ألا ترى أن الثانى من الحرفين ليس ملازما ؛ لقولك : هما يضربان زيدا ويكرمانك ونحو ذلك. وكذلك إن ألزمك ظهور نحو جدد (٢) ، وقدد ، وسرر ، قلت : هذا مخالف لمثال فعل وفعل.

فإن ألزمك نحو قول قعنب :

مهلا أعاذل قد جرّبت من خلقى

أنّى أجود لأقوام ، وإن ضننوا (٣)

وقول العجّاج :

* تشكو الوجى من أظلل وأظلل (٤) *

وقول الآخر :

__________________

(١) يقال : رماد رمدد : إذا كان دقيقا غير متماسك.

(٢) الجدّة : الخطة التى فى ظهر الحمار تخالف لونه. اللسان (جدد).

(٣) البيت من البسيط ، وهو لقعنب ابن أم صاحب ، وسمط اللآلى ص ٥٧٦ ، وشرح أبيات سيبويه ١ / ٣١٨ ، والكتاب ١ / ٢٩ ، ٣ / ٥٣٥ ، ولسان العرب (ظلل) ، (ضنن) ، والمنصف ١ / ٣٣٩ ، ٢ / ٣٠٣ ، ونوادر أبى زيد ص ٤٤ ، وبلا نسبة فى خزانة الأدب ١ / ١٥٠ ، ٢٤٥ ، وشرح شافية ابن الحاجب ٣ / ٢٤١ ، وشرح المفصل ٣ / ١٢ ، ولسان العرب (حمم) ، والمقتضب ١ / ١٤٢ ، ٢٥٣ ، ٣ / ٣٥٤ ، والمنصف ٢ / ٦٩.

(٤) البيت من الرجز للعجاج فى ديوانه ١ / ٢٣٦ ، ٢٣٧ ، ولسان العرب (ظلل) ، (ملل) ، وشرح أبيات سيبويه ٢ / ٣١٠ ، وكتاب الصناعتين ص ١٥٠ ، ونوادر أبى زيد ص ٤٤ ، وتهذيب اللغة ١٥ / ٣٥٢ ، وتاج العروس (ظلل) ، (ملل) ، وبلا نسبة فى الأشباه والنظائر ١ / ٥١ ، وشرح شافية ابن الحاجب ٣ / ٢٤٤ ، والكتاب ٣ / ٥٣٥ ، ولسان العرب (كفح) ، (كدس) ، والمقتضب ١ / ٢٥٢ ، ٣ / ٣٥٤ ، والممتع فى التصريف ٢ / ٦٥٠ ، والمنصف ١ / ٣٣٩ ، وكتاب العين ٨ / ١٥٠ ، ومقاييس اللغة ٣ / ٤٦٢ ، ومجمل اللغة ٣ / ٣٥٨. وبعده :

* من طول إملال وظهر أملل*

والأظلّ : ما تحت منسم البعير.

١٨٩

وإن رأيت الحجج الرواددا

قواصرا بالعمر أو مواددا (١)

قلت : هذا ظهر على أصله منبهة على بقيّة بابه ، فتعلم به أنّ أصل الأصمّ أصمم ، وأصل صبّ صبب ، وأصل الدوابّ والشوابّ الدوابب والشوابب ؛ على ما نقوله فى نحو استصوب وبابه : إنما خرج على أصله إيذانا بأصول ما كان مثله.

فإن قيل : فكيف اختصّت هذه الألفاظ ونحوها بإخراجها على أصولها دون غيرها؟ قيل : رجع الكلام بنا وبك إلى ما كنّا فرغنا منه معك فى باب استعمال بعض الأصول وإهمال بعضها ؛ فارجع إليه تره إن شاء الله.

وهذا الذى قدّمناه آنفا هو الذى عناه أبو بكر رحمه‌الله بقوله : قد تكون علّة الشىء الواحد أشياء كثيرة ، فمتى عدم بعضها لم تكن علّة. قال : ويكون أيضا عكس هذا ، وهو أن تكون علّة واحدة لأشياء كثيرة. أمّا الأوّل فإنه ما نحن بصدده من اجتماع أشياء تكون كلّها علّة ، وأمّا الثانى فمعظمه الجنوح إلى المستخفّ ، والعدول عن المستثقل. وهو أصل الأصول فى هذا الحديث ؛ وقد مضى صدر منه. وسترى بإذن الله بقيّته.

واعلم أن هذه المواضع التى ضممتها ، وعقدت العلة على مجموعها ، قد أرادها أصحابنا وعنوها ، وإن لم يكونوا جاءوا بها مقدّمة محروسة فإنهم لها أرادوا ، وإيّاها نووا ؛ ألا ترى أنهم إذا استرسلوا فى وصف العلّة وتحديدها قالوا : إن علّة شدّ ومدّ ونحو ذلك فى الادغام إنما هى اجتماع حرفين متحرّكين من جنس واحد.

فإذا قيل لهم : فقد قالوا : قعدد ، وجلبب ، واسحنكك ، قالوا : هذا ملحق ، فلذلك ظهر. وإذا ألزموا نحو اردد الباب ، واصبب الماء ، قالوا : الحركة الثانية عارضة لالتقاء الساكنين ، وليست بلازمة. وإذا أدخل عليهم نحو جدد ، وقدد ، وخلل (٢) ، قالوا : هذا مخالف لبناء الفعل. وإذا عورضوا بنحو طلل ، ومدد ، فقيل لهم : هذا على وزن الفعل قالوا : هو كذلك ، إلا أن الفتحة خفيفة ، والاسم أخفّ من الفعل ، فظهر التضعيف فى الاسم ؛ لخفّته ، ولم يظهر فى الفعل ـ نحو

__________________

(١) الرجز لرؤبة فى ديوانه ص ٤٥ ، وتاج العروس (ردد) ، وبلا نسبة فى الأشباه والنظائر ١ / ٥٢ ، ونوادر أبى زيد ص ١٦٤. ويروى الحجيج بدلا من : الحجج.

(٢) والخلل جمع الخلّة. والخلة من النبات ما كانت فيه حلاوة من المرعى. اللسان (خلل).

١٩٠

قصّ ، ونصّ ـ لثقله. وإذا قيل لهم : قالوا هما يضرباننى ، وهم يحاجّوننا ، قالوا : المثل الثانى ليس بلازم. وإذا أوجب عليهم نحو قوله «وإن ضننوا» ولححت عينه ، وضبب البلد ، وألل السقاء ، قالوا : خرج هذا شاذّا ؛ ليدلّ على أن أصل قرّت عينه قررت ، وأن أصل حلّ الحبل ونحوه حلل. فهذا الذى يرجعون إليه فيما بعد متفرّقا قدّمناه نحن مجتمعا. وكذلك كتب محمد (١) بن الحسن رحمه‌الله إنما ينتزع أصحابنا (٢) منها العلل ، لأنهم يجدونها منثورة فى أثناء كلامه ، فيجمع بعضها إلى بعض بالملاطفة والرّفق. ولا تجد له علّة فى شيء من كلامه مستوفاة محرّرة.

وهذا معروف من هذا الحديث عند الجماعة غير منكور.

الآن قد أريتك بما مثّلته لك من الاحتياط فى وضع العلّة كيف حاله ، والطريق إلى استعمال مثله فيما عدا ما أوردته ، وأن تستشف ذلك الموضع ، فتنظر إلى آخر ما يلزمك إياه الخصم ، فتدخل الاستظهار بذكره فى أضعاف ما تنصبه من علّته ؛ لتسقط عنك فيما بعد الأسولة والإلزامات التى يروم مراسلك الاعتراض بها عليك ، والإفساد لما قرّرته من عقد علّتك. ولا سبيل إلى ذكر جميع ذلك ؛ لطوله ومخافة الإملال ببعضه. وإنما تراد المثل ليكفى قليلها من كثير غيرها ، ولا قوّة إلا بالله.

* * *

__________________

(١) هو صاحب أبى حنيفة ، وصاحب الجامع الكبير ، والجامع الصغير فى الفقه محمد بن الحسن ابن واقد الشيبانى أبو عبد الله الفقيه الحنفى البغدادى توفى سنة ١٨٩ تسع وثمانين ومائة ، ومن تصانيفه أيضا الجرجانيات. الرقيات فى المسائل. انظر هديد العارفين ٦ / ٨ ط دار الكتب.

(٢) يريد الحنفية ، وكان ابن جنى حنفيا ، وكان ينصر الحنفية على الشافعية. وانظر الترتيب فى الوضوء فى حرف الواو من سر الصناعة.

١٩١

باب ذكر الفرق بين العلة الموجبة وبين العلة المجوزة

اعلم أن أكثر العلل عندنا مبناها على الإيجاب بها ؛ كنصب الفضلة ، أو ما شابه فى اللفظ الفضلة ، ورفع المبتدأ ، والخبر ، والفاعل ، وجرّ المضاف إليه ، وغير ذلك. فعلل هذه الداعية إليها موجبة لها ، غير مقتصر بها على تجويزها ؛ وعلى هذا مقاد كلام العرب.

وضرب آخر يسمّى علّة ، وإنما هو فى الحقيقة سبب يجوّز ولا يوجب.

من ذلك الأسباب الستّة الداعية إلى الإمالة ، هى علّة الجواز ، لا علّة الوجوب ؛ ألا ترى أنه ليس فى الدنيا أمر يوجب الإمالة لا بدّ منها ، وأن كلّ ممال لعلّة من تلك الأسباب الستّة لك أن تترك إمالته مع وجودها فيه. فهذه إذا علّة الجواز لا علة الوجوب.

ومن ذلك أن يقال لك : ما علة قلب واو «أقّتت» همزة؟ فتقول : علّة ذلك أن الواو انضمّت ضمّا لازما. وأنت مع هذا تجيز ظهورها واوا غير مبدلة ، فتقول : وقّتت. فهذه علّة الجواز إذا ، لا علّة الوجوب. وهذا وإن كان فى ظاهر ما تراه فإنه معنى صحيح ؛ وذلك أن الجواز معنى تعقله النفس ؛ كما أن الوجوب كذلك ؛ فكما أن هنا علّة للوجوب فكذلك هنا علّة للجواز. هذا أمر لا ينكر ، ومعنى مفهوم لا يتدافع.

ومن علل الجواز أن تقع النكرة بعد المعرفة التى يتم الكلام بها ، وتلك النكرة هى المعرفة فى المعنى ، فتكون حينئذ مخيّرا فى جعلك تلك النكرة ـ إن شئت ـ حالا ، وـ إن شئت ـ بدلا ؛ فتقول على هذا : مررت بزيد رجل صالح ، على البدل ، وإن شئت قلت : مررت بزيد رجلا صالحا ، على الحال. أفلا ترى كيف كان وقوع النكرة عقيب المعرفة على هذا الوصف علّة لجواز كلّ واحد من الأمرين ، لا علّة لوجوبه.

وكذلك كلّ ما جاز لك فيه من المسائل الجوابان ، والثلاثة ، وأكثر من ذلك على هذا الحدّ ، فوقوعه عليه علّة لجواز ما جاز منه ، لا علّة لوجوبه. فلا تستنكر

١٩٢

هذا الموضع.

فإن قلت : فهل تجيز أن يحلّ السواد محلا ما ، فيكون ذلك علّة لجواز اسوداده لا لوجوبه؟ قيل : هذا فى هذا ونحوه لا يجوز ، بل لا بدّ من اسوداده البتّة ، وكذلك البياض والحركة والسكون ونحو ذلك متى حلّ شيء منها فى محلّ لم يكن له بدّ من وجود حكمه فيه ووجوبه البتّة له ؛ لأن هناك أمرا لا بدّ من ظهور أثره. وإذا تأمّلت ما قدّمناه رأيته عائدا إلى هذا الموضع ، غير مخالف له ولا بعيد عنه ؛ وذلك أن وقوع النكرة تليّة المعرفة ـ على ما شرحناه من تلك الصفة ـ سبب لجواز الحكمين اللذين جازا فيه ؛ فصار مجموع الأمرين فى وجوب جوازهما كالمعنى المفرد الذى استبدّ به ما أريتناه : من تمسّكك بكلّ واحد من السواد والبياض ، والحركة والسكون.

فقد زالت عنك إذا شناعة هذا الظاهر ، وآلت بك الحال إلى صحّة معنى ما قدّمته : من كون الشىء علّة للجواز لا للوجوب. فاعرف ذلك وقسه ؛ فإنه باب واسع.

* * *

١٩٣

باب فى تعارض العلل

الكلام فى هذا المعنى من موضعين : أحدهما الحكم الواحد تتجاذب كونه العلّتان أو أكثر منهما. والآخر الحكمان فى الشىء الواحد المختلفان ، دعت إليهما علّتان مختلفتان.

الأوّل منهما كرفع المبتدأ ؛ فإننا نحن نعتلّ لرفعه بالابتداء ، على ما قد بينّاه وأوضحناه من شرحه وتلخيص معناه. والكوفيّون يرفعونه إما بالجزء الثانى الذى هو مرافعه عندهم ، وإمّا بما يعود عليه من ذكره على حسب مواقعه. وكذلك رفع الخبر ورفع الفاعل ، ورفع ما أقيم مقامه ، ورفع خبر إنّ وأخواتها. وكذلك نصب ما انتصب ، وجرّ ما انجرّ ، وجزم ما انجزم ، مما يتجاذب الخلاف فى علله. فكلّ واحد من هذه الأشياء له حكم واحد تتنازعه العلل ، على ما هو مشروح من حاله فى أماكنه. وإنما غرضنا أن نرى هنا جمله ، لا أن نشرحه ، ولا أن نتكلم على تقوية ما قوى منه ، وإضعاف ما ضعف منه.

الثانى منهما الحكمان فى الشىء الواحد المختلفان دعت إليهما علّتان مختلفتان ؛ وذلك كإعمال أهل الحجاز ما النافية للحال ، وترك بنى تميم إعمالها ، وإجرائهم إيّاها مجرى (هل) ونحوها ممّا لا يعمل ؛ فكأنّ أهل الحجاز لمّا رأوها داخلة على المبتدأ والخبر دخول ليس عليهما ، ونافية للحال نفيها إيّاها ، أجروها فى الرفع والنصب مجراها إذا اجتمع فيها الشبهان بها. وكأنّ بنى تميم لمّا رأوها حرفا داخلا بمعناه على الجملة المستقلّة بنفسها ، ومباشرة لكلّ واحد من جزأيها ؛ كقولك : ما زيد أخوك ، وما قام زيد ، أجروها مجرى (هل) ؛ ألا تراها داخلة على الجملة لمعنى النفى دخول (هل) عليها للاستفهام ؛ ولذلك كانت عند سيبويه (١) لغة التميميين أقوى قياسا من لغة الحجازيّين.

ومن ذلك (ليتما) ؛ ألا ترى أن بعضهم يركّبهما جميعا ، فيسلب بذلك (ليت)

__________________

(١) فى الكتاب ١ / ٥٧ يقول : ذلك الحرف «ما». «وأما بنو تميم فيجرونها مجرى أمّا وهل. وهو القياس ، لأنه ليس بفعل وليس ما كليس ولا يكون فيها إضمار».

١٩٤

عملها ، وبعضهم يلغى (ما) عنها ، فيقرّ عملها عليها : فمن ضمّ (ما) إلى (ليت) وكفّها بها عن عملها ألحقها بأخواتها : من (كأنّ) و (لعلّ) و (لكنّ) وقال أيضا : لا تكون (ليت) فى وجوب العمل بها أقوى من الفعل ؛ [و] قد نراه إذا كفّ بـ (ما) زال عنه عمله ؛ وذلك كقولهم : قلّما يقوم زيد فـ (ما) دخلت على (قلّ) كافّة لها عن عملها ، ومثله كثر ما ، وطالما ، فكما دخلت (ما) على الفعل نفسه فكفّته عن عمله وهيّأته لغير ما كان قبلها متقاضيا له ، كذلك تكون ما كافّة لـ (ليت) عن عملها ، ومصيّرة لها إلى جواز وقوع الجملتين جميعا بعدها ، ومن ألغى (ما) عنها وأقرّ عملها ، جعلها كحرف الجرّ فى إلغاء (ما) معه ؛ نحو قول الله تعالى : (فَبِما نَقْضِهِمْ مِيثاقَهُمْ) [المائدة : ١٣] وقوله : (عَمَّا قَلِيلٍ) [المؤمنون : ٤٠] و (مِمَّا خَطِيئاتِهِمْ) [نوح : ٢٥] ونحو ذلك ، وفصل بينها وبين (كأنّ) و (لعلّ) بأنها أشبه بالفعل منهما ؛ ألا تراها مفردة وهما مركّبتان ؛ لأن الكاف زائدة ، واللام زائدة.

هذا طريق اختلاف العلل لاختلاف الأحكام فى الشىء الواحد ؛ فأمّا أيّها أقوى ، وبأيها يجب أن يؤخذ؟ فشىء آخر ليس هذا موضعه ، ولا وضع هذا الكتاب له.

ومن ذلك اختلاف أهل الحجاز وبنى تميم فى هلمّ.

فأهل الحجاز يجرونها مجرى صه ، ومه ، ورويد ، ونحو ذلك مما سمّى به الفعل ، وألزم طريقا واحدا. وبنو تميم يلحقونها علم التثنية والتأنيث والجمع ، ويراعون أصل ما كانت عليه لم. وعلى هذا مساق جميع ما اختلفت العرب فيه.

فالخلاف إذا بين العلماء أعمّ منه بين العرب. وذلك أن العلماء اختلفوا فى الاعتلال لما اتّفقت العرب عليه ، كما اختلفوا أيضا فيما اختلفت العرب فيه ، وكلّ ذهب مذهبا ، وإن كان بعضه قويّا ، وبعضه ضعيفا.

* * *

١٩٥

باب فى أن العلة إذا لم تتعد لم تصح

من ذلك قول من اعتلّ لبناء نحو كم ، ومن ، وما ، وإذ ، ونحو ذلك بأنّ هذه الأسماء لمّا كانت على حرفين شابهت بذلك ما جاء من الحروف على حرفين ؛ نحو هل ، وبل ، وقد. قال : فلمّا شابهت الحرف من هذا الموضع وجب بناؤها ، كما أن الحروف مبنيّة. وهذه علّة غير متعدّية ، وذلك أنه كان يجب على هذا أن يبنى ما كان من الأسماء أيضا على حرفين ؛ نحو يد ، وأخ ، وأب ، ودم ، وفم ، وحر ، وهن ، ونحو ذلك.

فإن قيل : هذه الأسماء لها أصل فى الثلاثة ، وإنما حذف منها حرف ، فهو لذلك معتدّ ، فالجواب أنّ هذه زيادة فى وصف العلّة ، لم تأت بها فى أوّل اعتلالك.

وهبنا سامحناك بذلك ، قد كان يجب على هذا أن يبنى باب يد ، وأخ ، وأب ونحو ذلك ؛ لأنه لمّا حذف فنقص شابه الحرف ، وإن كان أصله الثلاثة ؛ ألا ترى أن المنادى المفرد المعرفة قد كان أصله أن يعرب ، فلمّا دخله شبه الحرف لوقوعه موقع المضمر بنى ، ولم يمنع من بنائه جريه معربا قبل حال البناء. وهذا شبه معنوىّ كما ترى ، مؤثّر داع إلى البناء ، والشبه اللفظىّ أقوى من الشبه المعنوىّ ، فقد كان يجب على هذا أن يبنى ما جاء من الأسماء على حرفين وله أصل فى الثلاثة ، وألا يمنع من بنائه كونه فى الأصل ثلاثيّا ، كما لم يمنع من بناء زيد فى النداء كونه فى الأصل معربا ، بل إذا كانت صورة إعراب زيد قبل ندائه معلومة مشاهدة ، ثم لم يمنع ذاك من بنائه كان أن يبنى باب يد ، ودم ، وهن ، لنقصه ولأنه لم يأت تامّا على أصله إلا فى أماكن شاذّة أجدر. وعلى أن منها ما لم يأت على أصله البتّة وهو معرب. وهو حر ، وسه ، وفم. فأمّا قوله :

* يا حبّذا عينا سليمى والفما (١) *

__________________

(١) الرجز بلا نسبة فى لسان العرب (فوه) ، (خطا) ، وجواهر الأدب ص ٢٩٠ ، وخزانة الأدب ٤ / ٤٦٢ ، والدرر ١ / ١٠٩ ، ورصف المبانى ص ٣٤٣ ، وسر صناعة الإعراب ص ٤٨٤ ، وهمع الهوامع ١ / ٣٩ ، وجمهرة اللغة ص ١٣٠٧. ويروى وجه بدلا من : عينا. وبعده :

* والجيد والنحر وثدى قد نما*

١٩٦

وقول الآخر :

* هما نفثا فى فىّ من فمويهما (١) *

فإنه على كلّ حال لم يأت على أصله ، وإن كان قد زيد (٢) فيه ما ليس منه.

فإن قلت : فقد ظهرت اللام فى تكسير ذلك ؛ نحو أفواه ، وأستاه ، وأحراح ، قيل : قد ظهر أيضا الإعراب فى زيد نفسه ، لا فى جمعه ، ولم يمنع ذلك من بنائه. وكذلك القول فى تحقيره وتصريفه ؛ نحو فويه ، واسته (٣) ، وحرح (٤).

ومن ذلك قول أبى إسحاق فى التنوين اللاحق فى مثال الجمع الأكبر ؛ نحو جوار ، وغواش : إنه عوض من ضمّة الياء ؛ وهذه علّة غير جارية ؛ ألا ترى أنها لو كانت متعدّية لوجب أن تعوّض من ضمّة ياء يرمى ، فتقول : هذا يرم ، ويقض ، ويستقض.

فإن قيل : الأفعال لا يدخلها التنوين ، ففى هذا جوابان : أحدهما أن يقال له :

__________________

(١) صدر البيت من الطويل ، وهو للفرزدق فى ديوانه ٢ / ٢١٥ ، وتذكرة النحاة ص ١٤٣ ، وجواهر الأدب ص ٩٥ ، وخزانة الأدب ٤ / ٤٦٠ ـ ٤٦٤ ، ٧ / ٤٧٦ ، ٥٤٦ ، والدرر ١ / ١٥٦ ، وسر صناعة الإعراب ١ / ٤١٧ ، ٢ / ٤٨٥ ، وشرح أبيات سيبويه ٢ / ٢٥٨ ، وشرح شواهد الشافية ص ١١٥ ، والكتاب ٣ / ٣٦٥ ، ٦٢٢ ، ولسان العرب (فمم) ، و (فوه) ، والمحتسب ٢ / ٢٣٨ ، وبلا نسبة فى أسرار العربية ص ٢٣٥ ، والأشباه والنظائر ١ / ٢١٦ ، والإنصاف ١ / ٣٤٥ ، وجمهرة اللغة ص ١٣٠٧. وشرح شافية ابن الحاجب ٣ / ٢١٥ ، والمقتضب ٣ / ١٥٨ ، والمقرب ٢ / ٢٩ ، وهمع الهوامع ١ / ٥١. وعجز البيت :

* على النّابح العاوى أسدّ رجام*

(٢) وفى اللسان. وحذفت الهاء كما حذفت من شفة ومن عضة ، وبقيت الواو طرفا متحركة فوجب إبدالها ألفا لانفتاح ما قبلها فبقى فا ، ولا يكون الاسم على حرفين أحدهما التنوين ، فأبدل مكانها حرف جلد مشاكل لها ، وهو الميم ، لأنهما شفهيتان. اللسان (فوه). وقد أورد ابن جنى فى سر الصناعة ٢ / ٥١ «فأما «الفما» فيجوز أن تنصبه بفعل مضمر ، كأنه قال : وأحب الفما. ويجوز أن يكون «الفما» فى موضع رفع إلا أنه اسم مقصور بمنزلة عصا.

وعليه جاء بيت الفرزدق :

* هما نفثا فى فىّ من فمويهما*

(٣) الاستة : عظيم الاست.

(٤) رجل حرح : يحب الأحراح ، جمع حر وهو الفرج.

١٩٧

علّتك ألزمتك إيّاه ، فلا تلم إلا نفسك ؛ والآخر أن يقال له : إن الأفعال إنما يمتنع منها التنوين اللاحق للصرف ، فأمّا التنوين غير ذاك فلا مانع له ؛ ألا ترى إلى تنوينهم الأفعال فى القوافى لمّا لم يكن ذلك الذى هو علم للصرف ؛ كقول العجّاج :

* من طلل كالأتحمىّ أنهجن (١) *

وقول جرير :

* وقولى إن أصبت : لقد أصابن (٢) *

ومع هذا ، فهل التنوين إلا نون ، وقد ألحقوا الفعل النونين : الخفيفة والثقيلة.

وهاهنا إفساد لقول أبى إسحاق آخر ؛ وهو أن يقال له : إن هذه الأسماء قد عاقبت ياءاتها ضمّاتها ؛ ألا تراها لا تجتمع معها ، فلمّا عاقبتها جرت لذلك مجراها ، فكما أنك لا تعوّض من الشىء وهو موجود ، فكذلك أيضا يجب ألا تعوّض منه وهناك ما يعاقبه ويجرى مجراه. غير أن الغرض فى هذا الكتاب إنما هو الإلزام الأوّل ؛ لأن به ما يصحّ تصوّر العلّة ، وأنها غير متعدّية.

ومن ذلك قول الفرّاء فى نحو لغة ، وثبة ، ورئة ، ومائة : إن ما كان من ذلك المحذوف منه الواو فإنه يأتى مضموم الأوّل ؛ نحو لغة ، وبرة ، وثبة ، وكرة ، وقلة ؛ وما كان من الياء فإنه يأتى مكسور الأوّل ؛ نحو مائة ، ورئة. وهذا يفسده قولهم : سنة ، فيمن قال : سنوات (٣) ، وهى من الواو كما ترى ، وليست مضمومة الأوّل.

__________________

(١) الرجز بلا نسبة فى لسان العرب (بيع) ، وهو للعجاج فى ديوانه ٢ / ١٣ ، وتخليص الشواهد ص ٤٧ ، وسر صناعة الإعراب ٢ / ٥١٤ ، وشرح أبيات سيبويه ٢ / ٣٥١ ، وشرح شواهد المغنى ٢ / ٧٩٣ ، وشرح المفصل ١ / ٦٤ ، والكتاب ٤ / ٢٠٧ ، والمقاصد النحوية ١ / ٢٦ ، وتاج العروس (بلل) ، ولرؤبة فى معاهد التنصيص ١ / ١٤ ، وليس فى ديونه وبلا نسبة فى رصف المبانى ص ٣٥٤ ، ولسان العرب (بيع) ، وكتاب العين ٣ / ٣٩٣. وقبله :

* ما هاج أحزانا وشجوا قد شجا*

(٢) عجز البيت من الوافر ، وهو لجرير فى ديوانه ص ٨١٣ ، وبلا نسبة فى لسان العرب (روى). وصدر البيت :

* أقلّى اللوم عاذل والعتابن*

(٣) فى الكامل ٢ / ٣٧٤ «والواو فى قول بعض «سنة» فإنّ بعضهم يقول «سنهات» ، وهذا الحرف ـ

١٩٨

وكذلك قولهم : عضة ، محذوفها الواو ؛ لقولهم فيها : عضوات ؛ قال :

هذا طريق يأزم المآزما

وعضوات تقطع اللهازما (١)

وقالوا أيضا : ضعة ، وهى من الواو مفتوحة الأوّل ؛ ألا تراه قال :

* متّخذا من ضعوات تولجا (٢) *

فهذا وجه فساد العلل إذا كانت واقفة غير متعدّية. وهو كثير ، فطالب فيه بواجبه ، وتأمّل ما يرد عليك من أمثاله.

* * *

__________________

فى القرآن يقرأ على ضروب : فمن قرأ «لم يتسنّه وانظر» فوصل بالهاء فهو مأخوذ من «سانهت» ومن جعله من الواو قال فى الوصل : «لم يتسنّ وانظر» فإذا وقف قال : «لم يتسنّه» فكانت الهاء زائدة لبيان الحركة ، بمنزلة الهاء فى قوله : «فبهداهم اقتده» ، و «كتابيه» و «حسابيه».

(١) الرجز بلا نسبة فى جمهرة اللغة ص ٢٨٩ ، وجواهر الأدب ص ٩٦ ، وخزانة الأدب ٦ / ٤٤٢ ، وشرح المفصل ٥ / ٣٨ ، والكتاب ٣ / ٣٦٠ ، ولسان العرب (أزم) ، (عضه) ، ومجالس ثعلب ١ / ٤٤ ، والممتع فى التصريف ٢ / ٦٢٥ ، والمنصف ١ / ٥٩ ، ٣ / ٣٨ ، ١٢٧ ، والمخصص ١٤ / ٧ ، وتاج العروس (أزم) ، (عضه). ويروى عصوات ، وهى جمع عصا ، وأنشد الأصمعى عن أبى مهديّة. و «تمشق» بدل «تقطع» وتمشق : تضرب. والمأزم : كل طريق ضيّق بين جبلين.

(٢) الرجز لجرير فى ديوانه ص ١٨٦ ، ١٨٧ ، ولسان العرب (دلج) ، (ولج) ، (ضعا) ، والتنبيه والإيضاح ١ / ٢٢٣ ، وكتاب العين ٢ / ١٩٥ ، وتاج العروس (دلج) ، (ضعا) ، وبلا نسبة فى لسان العرب (تلج) ، ومقاييس اللغة ٣ / ٣٦٢ ، ومجمل اللغة ٣ / ٢٨٢ ، وديوان ٢ / ٣٦ ، والمخصص ٧ / ١٨٢. والضعوات : جمع ضعة لنبت مثل الثمام. والتولج : كناس الظبى أو الوحش الذى يلج فيه ، التاء فيه مبدلة من الواو. وانظر اللسان (ضعو ، ولج).

١٩٩

باب فى العلة وعلة العلة

ذكر أبو بكر (١) فى أوّل أصوله هذا ؛ ومثّل منه برفع الفاعل. قال : فإذا سئلنا عن علّة رفعه قلنا : ارتفع بفعله ، فإذا قيل : ولم صار الفاعل مرفوعا؟ فهذا سؤال عن علّة العلّة.

وهذا موضع ينبغى أن تعلم منه أنّ هذا الذى سماه علّة العلّة إنما هو بتجوّز فى اللفظ ، فأمّا فى الحقيقة فإنّه شرح وتفسير وتتميم للعلّة ؛ ألا ترى أنه إذا قيل له : فلم ارتفع الفاعل قال : لإسناد الفعل إليه ، ولو شاء لابتدأ هذا فقال فى جواب رفع زيد من قولنا قام زيد : إنما ارتفع لإسناد الفعل إليه ، فكان مغنيا عن قوله : إنما ارتفع بفعله ، حتى تسأله فيما بعد عن العلّة التى ارتفع لها الفاعل. وهذا هو الذى أراده المجيب بقوله : ارتفع بفعله ، أى بإسناد الفعل إليه.

نعم ولو شاء لما طله فقال له : ولم صار المسند إليه الفعل مرفوعا؟ فكان جوابه أن يقول : إن صاحب الحديث أقوى الأسماء ، والضمّة أقوى الحركات ، فجعل الأقوى للأقوى. وكان يجب على ما رتّبه أبو بكر أن تكون هنا علّة ، وعلّة العلّة ، وعلّة علّة العلّة. وأيضا فقد كان له أن يتجاوز هذا الموضع إلى ما وراءه فيقول : وهلا عكسوا الأمر فأعطوا الاسم الأقوى الحركة الضعيفة ؛ لئلا يجمعوا بين ثقيلين. فإن تكلّف متكلّف جوابا عن هذا تصاعدت عدّة العلل ، وأدّى ذاك إلى هجنة القول وضعفة القائل به ، وكذلك لو قال لك قائل فى قولك : قام القوم إلا زيدا : لم نصبت زيدا؟ لقلت : لأنه مستثنى ؛ وله من بعد أن يقول : ولم نصبت المستثنى؟ فيكون من جوابه ؛ لأنه فضلة ؛ ولو شئت أجبت مبتدئا بهذا فقلت : إنما نصبت زيدا فى قولك : قام القوم إلا زيدا ؛ لأنه فضلة. والباب واحد ، والمسائل كثيرة. فتأمّل وقس.

فقد ثبت بذلك أن هذا موضع تسمّح (فيه أبو بكر) أو لم ينعم تأمّله.

__________________

(١) هو ابن السراج.

٢٠٠