الخصائص - ج ١

أبي الفتح عثمان بن جنّي

الخصائص - ج ١

المؤلف:

أبي الفتح عثمان بن جنّي


المحقق: الدكتور عبد الحميد الهنداوي
الموضوع : اللغة والبلاغة
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ٣
ISBN: 978-2-7451-3245-1
الصفحات: ٥٤٤

نعم ، وفى قوله :

* وسالت بأعناق المطىّ الأباطح (١) *

من الفصاحة ما لا خفاء به. والأمر فى هذا أسير ، وأعرف وأشهر.

فكأنّ العرب إنما تحلّى ألفاظها وتدبجها وتشيها ، وتزخرفها ، عناية بالمعان التى وراءها ، وتوصّلا بها إلى إدراك مطالبها ، وقد قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إنّ من الشعر لحكما وإنّ من البيان لسحرا» (٢). فإذا كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يعتقد هذا فى ألفاظ هؤلاء القوم ، التى جعلت مصايد وأشراكا للقلوب ، وسببا وسلّما إلى تحصيل المطلوب ، عرف بذلك أن الألفاظ خدم للمعانى ، والمخدوم ـ لا شكّ ـ أشرف من الخادم.

والأخبار فى التلطّف بعذوبة الألفاظ إلى قضاء الحوائج أكثر من أن يؤتى عليها ، أو يتجشّم للحال (نعت لها) ، ألا ترى إلى قول بعضهم وقد سأل آخر حاجة ، فقال المسئول : إن علىّ يمينا ألا أفعل هذا. فقال له السائل : إن كنت ـ أيّدك الله ـ لم تحلف يمينا قطّ على أمر فرأيت غيره خيرا منه فكفّرت عنها له ، وأمضيته ، فما أحبّ أن أحنثك ، وإن كان ذلك قد كان منك فلا تجعلنى أدون الرجلين عندك. فقال له : سحرتنى ، وقضى حاجته.

وندع هذا ونحوه لوضوحه ، ولنأخذ لما كنا عليه فنقول :

مما يدلّ على اهتمام العرب بمعانيها ، وتقدّمها فى أنفسها على ألفاظها ، أنهم قالوا فى شمللت ، وصعررت (٣) ، وبيطرت ، وحوقلت ، ودهورت (٤) ، وسلقيت (٥) ، وجعبيت (٦) : إنها ملحقة بباب دحرجت. وذلك أنهم وجدوها على سمتها : عدد

__________________

(١) سبق تخريجه.

(٢) «صحيح» أخرجه أحمد وأبو داود والترمذى وغيرهم ، وانظر صحيح أبى داود (ح ٤١٩٠) ، وراجع الصحيحة (١٧٣١).

(٣) صعرر الشىء فتصعرر دحرجه فتدحرج واستدار. اللسان (صعرر).

(٤) الدهورة : جمعك الشىء وقذفك به فى مهواة ؛ ودهورت الشىء : كذلك. اللسان (دهر).

(٥) سلقيت : مأخوذ من السلق وهو الصدم والدفع. اللسان (سلق).

(٦) جعبيته جعباء : صرعته. اللسان (جعب).

٢٤١

حروف ، وموافقة بالحركة والسكون ، فكانت هذه صناعة لفظيّة ، ليس فيها أكثر من إلحاقها ببنائها ، واتساع العرب بها فى محاوراتها ، وطرق كلامها.

والدليل على أن فعللت ، وفعيلت ، وفوعلت ، وفعليت ، ملحقة بباب دحرجت مجىء مصادرها على مثل مصادر باب دحرجت. وذلك قولهم : الشمللة ، والبيطرة ، والحوقلة ، والدهورة ، والسلقاة ، والجعباة. فهذا [ونحوه] كالدحرجة ، والهملجة ، والقوقاة ، والزوزاة. فلمّا جاءت مصادرها على مصادر الرباعيّة ، والمصادر أصول للأفعال حكم بإلحاقها بها ؛ ولذلك استمرّت فى تصريفها استمرار ذوات الأربعة. فقولك : بيطر يبيطر بيطرة ، كدحرج يدحرج دحرجة ، ومبيطر كمدحرج. وكذلك شملل يشملل شمللة ، وهو مشملل. فظهور تضعيفه على هذا الوجه أوضح دليل على إرادة إلحاقه. ثم إنهم قالوا : قاتل يقاتل قتالا ، ومقاتلة ، وأكرم يكرم إكراما ، وقطّع يقطع تقطيعا ، فجاءوا بأفعل ، وفاعل ، وفعّل ، غير ملحقة بدحرج ، وإن كانت على سمته وبوزنه ؛ كما كانت فعلل ، وفيعل ، وفوعل ، وفعول ، وفعلى ، على سمته ووزنه ملحقة. والدليل على أن فاعل وأفعل وفعّل غير ملحقة بدحرج وبابه امتناع مصادرها أن تأتى على مثال الفعللة ؛ ألا تراهم لا يقولون : ضارب ضاربة ، ولا أكرم أكرمة ، ولا قطّع قطّعة ؛ فلمّا امتنع فيها هذا ـ وهو العبرة فى صحّة الإلحاق ـ علم أنها ليست ملحقة بباب دحرج.

فإذا قيل : فقد تجيء مصادرها من غير هذا الوجه على مثال مصادر ذوات الأربعة ؛ ألا تراهم يقولون : قاتل قيتالا ، وأكرم إكراما ، (وَكَذَّبُوا بِآياتِنا كِذَّاباً) [النبأ : ٢٨] فهذا بوزن الدحراج ، والسرهاف ، والزلزال ، والقلقال ؛ قال :

* سرهفته ما شئت من سرهاف (١) *

قيل : الاعتبار بالإلحاق بها ليس إلا من جهة الفعللة ، دون الفعلال ، وبه كان

__________________

(١) الرجز للعجاج فى ديوانه ١ / ١٦٩ ، والأشباه والنظائر ١ / ٢٨٩ ، وسمط اللآلى ص ٧٨٨ ، وشرح المفصل ٦ / ٥٠ ، ولرؤبة فى خزانة الأدب ٢ / ٤٥ ، ٤٧ ، وشرح شواهد المغنى ٢ / ٩٥٧ ، وليس فى ديوانه ، وتاج العروس (سرهف) ، وبلا نسبة فى جمهرة اللغة ص ١١٥١ ، والخصائص ١ / ٢٢٢ ، ٢ / ٣٠٢ ، والمنصف ١ / ٤١ ، ٣ / ٤. وسرهفته : أحسنت غذاءه.

٢٤٢

يعتبر سيبويه. ويدلّ على صحّة ذلك أن مثال الفعللة لا زيادة فيه ، فهو بفعلل أشبه من مثال الفعلال ، والاعتبار بالأصول أشبه منه وأوكد منه بالفروع.

فإن قلت : ففى الفعللة الهاء زائدة ، قيل : الهاء فى غالب أمرها وأكثر أحوالها غير معتدّة ، من حيث كانت فى تقدير المنفصلة.

فإن قيل : فقد صحّ إذا أن فاعل ، وأفعل ، وفعّل ـ وإن كانت بوزن دحرج ـ غير ملحقة به ، فلم لم تلحق به؟ قيل : العلّة فى ذلك أن كلّ واحد من هذه المثل جاء لمعنى. فأفعل للنقل وجعل الفاعل مفعولا ؛ نحو دخل ، وأدخلته ، وخرج ، وأخرجته. ويكون أيضا للبلوغ ؛ نحو أحصد الزرع ، وأركب المهر ، وأقطف الزرع ، ولغير ذلك من المعانى. وأمّا فاعل فلكونه من اثنين فصاعدا ؛ نحو ضارب زيد عمرا ، وشاتم جعفر بشرا. وأما فعّل فللتكثير ؛ نحو غلّق الأبواب ، وقطّع الحبال ، وكسّر الجرار.

فلمّا كانت هذه الزوائد فى هذه المثل إنما جيء بها للمعانى خشوا إن هم جعلوها ملحقة بذوات الأربعة أن يقدّر أن غرضهم فيها إنما هو إلحاق اللفظ باللفظ ؛ نحو شملل ، وجهور ، وبيطر ؛ فتنكّبوا إلحاقها بها ؛ صونا للمعنى ، وذبّا عنه أن يستهلك ويسقط حكمه ، فأخلّوا بالإلحاق لمّا كان صناعة لفظيّة ، ووقّروا المعنى ورجّبوه ؛ لشرفه عندهم ، وتقدّمه فى أنفسهم. فرأوا الإخلال باللفظ فى جنب الإخلال بالمعنى يسيرا سهلا ، وحجما محتقرا ، وهذا الشمس إنارة مع أدنى تأمّل.

ومن ذلك أيضا أنهم لا يلحقون الكلمة من أوّلها إلا أن يكون مع الحرف الأوّل غيره ؛ ألا ترى أن (مفعلا) لمّا كانت زيادته فى أوّله لم يكن ملحقا بها ؛ نحو : مضرب ، ومقتل. وكذلك (مفعل) نحو : مقطع ، ومنسج ، وإن كان مفعل بوزن جعفر ، ومفعل بوزن هجرع (١). يدلّ على أنهما ليسا ملحقين بهما ما نشاهده من ادّغامهما ، نحو مسدّ ، ومردّ ، ومتلّ (٢) ، ومشلّ (٣). ولو كانا ملحقين لكانا

__________________

(١) الهجرع : الطويل الممشوق ، الأحمق ، الجبان. اللسان (هجرع).

(٢) المتلّ : الذى يتل به أى يصرع به ، الشديد.

(٣) رجل مشلّ : خفيف سريع ، وحمار مشلّ : كثير الطرد.

٢٤٣

حرى أن يخرجا على أصولهما ، كما خرج شملل وصعرر على أصله. فأمّا محبب فعلم خرج شاذّا ، كتهلل ، ومكوزة ، ونحو ذلك مما احتمل لعلميّته.

وسبب امتناع مفعل ومفعل أن يكونا ملحقين ـ وإن كانا على وزن جعفر ، وهجرع ـ أن الحرف الزائد فى أوّلهما ، وهو لمعنى ؛ وذلك أن مفعلا يأتى للمصادر ، نحو ذهب مذهبا ، ودخل مدخلا ، وخرج مخرجا. ومفعلا يأتى للآلات ، والمستعملات ؛ نحو مطرق ، ومروح ، ومخصف ، ومئزر. فلما كانت الميمان ذواتى معنى خشوا إن هم ألحقوا بهما أن يتوهّم أن الغرض فيهما إنما هو الإلحاق حسب ، فيستهلك المعنى المقصود بهما ، فتحاموا الإلحاق بهما ؛ ليكون ذلك موفّرا على المعنى لهما.

ويدلك على تمكّن المعنى فى أنفسهم وتقدّمه للّفظ عندهم تقديمهم لحرف المعنى فى أوّل الكلمة ، وذلك لقوّة العناية به ، فقدّموا دليله ليكون ذلك أمارة لتمكّنه عندهم.

وعلى ذلك تقدّمت حروف المضارعة فى أوّل الفعل ؛ إذ كنّ دلائل على الفاعلين : من هم ، وما هم ، وكم عدّتهم ؛ نحو أفعل ، ونفعل ، وتفعل ، ويفعل ، وحكموا بضدّ [هذا للّفظ] ؛ ألا ترى إلى ما قاله أبو عثمان فى الإلحاق : إنّ أقيسه أن يكون بتكرير اللام ، فقال : باب شمللت ، وصعررت ، أقيس من باب حوقلت ، وبيطرت ، وجهورت.

أفلا ترى إلى حروف المعانى : كيف بابها التقدّم ، وإلى حروف الإلحاق والصناعة : كيف بابها التأخّر. فلو لم يعرف سبق المعنى عندهم ، وعلوّ فى تصوّرهم ، إلا بتقدّم دليله ، وتأخّر دليل نقيضه ، لكان مغنيا من غيره كافيا.

وعلى هذا حشوا بحروف المعانى فحصّنوها بكونها حشوا ، وأمنوا عليها ما لا يؤمن على الأطراف ، المعرّضة للحذف والإجحاف. وذلك كألف التكسير وياء التصغير ؛ نحو دراهم ، ودريهم ، وقماطر ، وقميطر. فجرت فى ذلك ـ لكونها حشوا ـ مجرى عين الفعل المحصّنة فى غالب الأمر ، المرفوعة عن حال الطرفين من الحذف ؛ ألا ترى إلى كثرة باب عدة ، وزنة ، وناس ، والله فى أظهر قولى سيبويه ، وما حكاه أبو زيد من قولهم ، لاب لك ، وويلمّه ، ويا با المغيرة ، وكثرة

٢٤٤

باب يد ، ودم ، وأخ ، وأب ، وغد ، وهن ، وحر ، واست ، وباب ثبة ، وقلة ؛ وعزة ، وقلّة باب مذ ، وسه : إنما هما هذان الحرفان بلا خلاف. وأما ثبة (١) ولثة فعلى الخلاف. فهذا يدلّك على ضنّهم بحروف المعانى ، وشحّهم عليها : حتى قدّموها عناية بها ، أو وسّطوها تحصينا لها.

فإن قلت : فقد نجد حرف المعنى آخرا ، كما نجده أوّلا ووسطا. وذلك تاء التأنيث ، وألف التثنية ، وواو الجمع على حدّه ، والألف والتاء فى المؤنّث ، وألفا التأنيث فى حمراء وبابها ، وسكرى وبابها ، وياء الإضافة ؛ كهنىّ ، فما ذلك؟

قيل : ليس شيء مما تأخّرت فيه علامة معناه إلا لعاذر مقنع. وذلك أن تاء التأنيث إنما جاءت فى طلحة وبابها آخرا من قبل أنهم أرادوا أن يعرّفونا تأنيث ما هو ، وما مذكّره ، فجاءوا بصورة المذكّر كاملة مصحّحة ، ثم ألحقوها تاء التأنيث ليعلموا حال صورة التذكير ، وأنه قد استحال بما لحقه إلى التأنيث ؛ فجمعوا بين الأمرين ودلّوا على الغرضين. ولو جاءوا بعلم التأنيث حشوا لانكسر المثال ، ولم يعلم تأنيث أىّ شيء هو.

فإن قلت : فإن ألف التكسير وياء التحقير قد تكسران مثال الواحد والمكبّر ، وتخترمان صورتيهما ؛ لأنهما حشو لا آخر. وذلك قولك دفاتر ودفيتر ، وكذلك كليب ، وحجير ، ونحو ذلك ، قيل : أمّا التحقير فإنه أحفظ للصورة من التكسير ؛ ألا تراك تقول فى تحقير حبلى : حبيلى ، وفى صحراء : صحيراء ، فتقرّ ألف التأنيث بحالها ، فإذا كسّرت قلت : حبالى ، وصحارى ، وأصل حبالى حبال ؛ كدعا وتكسير دعوى ، فتغيّر علم التأنيث. وإنما كان الأمر كذلك من حيث كان تحقير الاسم لا يخرجه عن رتبته الأولى ـ أعنى الإفراد ـ فأقرّ (بعض لفظه) لذلك ؛ وأمّا التكسير فيبعده عن الواحد الذى هو الأصل ، فيحتمل التغيير ، لا سيّما مع اختلاف معانى الجمع ، فوجب اختلاف اللفظ. وأمّا ألف التأنيث

__________________

(١) ثبة الحوض : وسطه الذى يثوب إليه الماء. وانظر اللسان (ثبا). يقول ابن جنى فى سر الصناعة فى حرف الواو (٢ / ١٥٠) أما «ثبة» فالمحذوف منها اللام يدل على ذلك أنه الثبة : الجماعة من الناس وغيرهم ، قال تعالى : (فَانْفِرُوا ثُباتٍ أَوِ انْفِرُوا جَمِيعاً). فـ «ثبات» كقولك : جماعات متفرقة.

٢٤٥

المقصورة والممدودة فمحمولتان على تاء التأنيث ، وكذلك علم التثنية والجمع على حدّه لاحق بالهاء أيضا. وكذلك ياء النسب. وإذا كان الزائد غير ذى المعنى قد قوى سببه ، حتى لحق بالأصول عندهم ، فما ظنّك بالزائد ذى المعنى؟ وذلك قولهم فى اشتقاق الفعل من قلنسوة تارة : تقلنس ، وأخرى : تقلسى ، فأقرّوا النون وإن كانت زائدة ، وأقرّوا أيضا الواو حتى قلبوها ياء فى تقلسيت. وكذلك قالوا : قرنوة (١) ، فلما اشتقّوا الفعل منها قالوا قرنيت السّقاء ، فأثبتوا الواو ، كما أثبتوا بقيّة حروف الأصل : من القاف ، والراء ، والنون ، ثم قلبوها ياء فى قرنيت. هذا مع أن الواو فى قرنوة زائدة للتكثير والصيغة ، لا للإلحاق ولا للمعنى ، وكذلك الواو فى قلنسوة للزيادة غير الإلحاق وغير المعنى. وقالوا فى نحوه ، تعفرت الرجل إذا صار عفريتا ، فهذا تفعلت ؛ وعليه جاء تمسكن ، وتمدرع ، وتمنطق ، وتمندل ، ومخرق (٢) ، وكان يسمّى محمدا ثم تمسلم أى صار يسمّى مسلما ، و (مرحبك الله ، ومسهلك) ، فتحمّلوا ما فيه تبقية الزائد مع الأصل فى حال الاشتقاق ؛ كلّ ذلك توفية للمعنى ، وحراسة له ، ودلالة عليه. ألا تراهم إذ قالوا : تدرّع ، وتسكّن وإن كانت أقوى اللغتين عند أصحابنا فقد عرّضوا أنفسهم لئلا يعرف غرضهم : أمن الدّرع والسكون ؛ أم من المدرعة والمسكنة؟ وكذلك بقيّة الباب.

ففى هذا شيئان : أحدهما حرمة الزائد فى الكلمة عندهم حتى أقرّوه إقرار الأصول. والآخر ما يوجبه ويقضى به : من ضعف تحقير الترخيم وتكسيره عندهم ، لما يقضى به ، ويفضى بك إليه : من حذف الزوائد ، على معرفتك بحرمتها عندهم.

فإن قلت : فإذا كان الزائد إذا وقع أوّلا لم يكن للإلحاق فكيف ألحقوا بالهمزة فى ألندد (٣) وألنجج (٤) ، وبالياء فى يلندد ويلنجج ، والدليل على الإلحاق ظهور

__________________

(١) القرنوة : نبات عريض الورق ينبت فى ألوية الرمل ، قال الأزهرى فى القرنوة : رأيت العرب يدبغون بورقه الأهب. اللسان (قرن).

(٢) يقول ابن جنى فى سر الصناعة فى آخر حرف الميم (١ / ٣٦٦) «وقالوا مخرق الرجل ، وضعفها ابن كيسان».

(٣) الألندد واليلندد : كالألدّ ، أى الشديد الخصومة.

(٤) الألنجج واليلنجج : عود من الطيب يتبخر به.

٢٤٦

التضعيف؟ قيل : قد قلنا قبل : إنهم لا يلحقون الزائد من أوّل الكلمة إلا أن يكون معه زائد آخر ؛ فلذلك جاز الإلحاق بالهمزة والياء فى ألندد ، ويلندد ، لمّا انضمّ إلى الهمزة والياء والنون.

وكذلك ما جاء عنهم من إنقحل (١) ـ فى قول صاحب الكتاب ـ ينبغى أن تكون الهمزة فى أوّله للإلحاق ـ بما اقترن بها من النون ـ بباب جردحل. ومثله ما رويناه عنهم من قولهم : رجل إنزهو ، وامرأة إنزهوة ، ورجال إنزهوون ، ونساء إنزهوات ، إذا كان ذا زهو ؛ فهذا إذا انفعل. ولم يحك سيبويه من هذا الوزن إلا إنقحلا وحده ؛ وأنشد الأصمعىّ ـ رحمه‌الله ـ :

* لمّا رأتنى خلقا إنقحلا (٢) *

ويجوز عندى فى إنزهو غير هذا ، وهو أن تكون همزته بدلا من عين ، فيكون أصله عنزهو : فنعلو ، من العزهاة ، وهو الذى لا يقرب النساء. والتقاؤهما أن فيه انقباضا وإعراضا ، وذلك طرف من أطراف الزهو ؛ قال :

إذا كنت عزهاة عن اللهو والصّبا

فكن حجرا من يابس الصخر جلمدا (٣)

وإذا حملته على هذا لحق بباب أوسع من إنقحل ، وهو باب قندأو (٤) ، وسندأو (٥) ، وحنطئو (٦) ، وكنتأو (٧).

فإن قيل : ولم لمّا كان مع الحرف الزائد إذا وقع أوّلا زائد ثان غيره صارا جميعا للإلحاق ، وإذا انفرد الأوّل لم يكن له؟ قيل : لما كنّا عليه من غلبة المعانى

__________________

(١) رجل إنقحل : يابس الجلد من الكبر والهرم.

(٢) الرجز بلا نسبة فى لسان العرب (قحل) ، وجمهرة اللغة ص ٥٥٩ ، وتاج العروس (قحل).

(٣) البيت من الطويل ، وهو للأحوص فى ديوانه ص ٩٨ ، وطبقات فحول الشعراء ص ٦٦٤ ، والشعر والشعراء ص ٥٢٦ ، وبلا نسبة فى لسان العرب (عزه) ، وكتاب العين ٦ / ٢٠٦ ، والمخصص ١٦ / ١٧٥ ، وأساس البلاغة ص ٣٠١ (عزه) ٣٤٨ ، (فند) ، ٥١٢ (يبس) ، وتاج العروس (عزه).

(٤) القندأو : الجرىء. والسندأو : القصير أو الخفيف. الحنطأو : العظيم البطن أو القصير. الكنتأو : الجمل الشديد.

٢٤٧

للألفاظ ، على ما تقدّم.

وذلك أن أصل الزيادة فى أوّل الكلمة إنما هو للفعل. وتلك حروف المضارعة فى أفعل ، ونفعل ، وتفعل ، ويفعل ، وكلّ واحد من أدلّة المضارعة إنما هو حرف واحد ، فلمّا انضمّ إليه حرف آخر فارق بذلك طريقه فى باب الدلالة على المعنى ، فلم ينكر أن يصار به حينئذ إلى صنعة اللفظ ، وهى الإلحاق.

ويدلّك على تمكّن الزيادة إذا وقعت أوّلا فى الدلالة على المعنى تركهم صرف أحمد ، وأرمل ، وأزمل (١) ، وتنضب ، ونرجس ، معرفة ؛ لأن هذه الزوائد فى أوائل الأسماء وقعت موقع ما هو أقعد منها فى ذلك الموضع ، وهى حروف المضارعة. فضارع أحمد أركب ، وتنضب تقتل ، ونرجس نضرب ، فحمل زوائد الأسماء فى هذا على أحكام زوائد الأفعال ؛ دلالة على أن الزيادة فى أوائل الكلم إنما بابها الفعل.

فإن قلت : فقد نجدها للمعنى ومعها زائد آخر غيرها ؛ وذلك نحو ينطلق وأنطلق ، واحرنجم ، ويخرنطم ، ويقعنسس. قيل : المزيد للمضارعة هو حرفها وحده ، فأمّا النون فمصوغة فى حشو الكلمة فى الماضى ؛ نحو احرنجم ، ولم تجتمع مع حرف المضارعة فى وقت واحد ، كما التقت الهمزة والياء مع النون فى ألنجج ويلندد فى وقت واحد.

فإن قلت : فقد تقول : رجل ألدّ ثم تلحق النون فيما بعد ، فتقول : ألندد ، فقد رأيت الهمزة والنون غير مصطحبتين. قيل : هاتان حالان متعاديتان ؛ وذلك أن ألدّ ليس من صيغة ألندد فى شيء ، إنما ألدّ مذكر لدّاء ؛ كما أن أصمّ تذكير صمّاء. وأمّا ألندد فهمزته مرتجلة مع النون فى حال واحدة ، ولا يمكنك أن تدّعى أن احرنجم لمّا صرت إلى مضارعه فككت يده عمّا كان فيها من الزوائد ، ثم ارتجلت له زوائد غيرها ؛ ألا ترى أن المضارع مبناه على أن ينتظم جميع حروف الماضى من أصل أو زائد ؛ كبيطر ويبيطر ، وحوقل ويحوقل ، وجهور ، ويجهور ، وسلقى ويسلقى ، وقطّع ويقطّع ، و (تكسّر ويتكسّر) وضارب ويضارب.

__________________

(١) الأزمل : الصوت ، وجمعه الأزامل.

٢٤٨

فأمّا أكرم يكرم ، فلولا ما كره من التقاء الهمزتين فى أؤكرم لو جيء به ، بما أصله للزم أن يؤتى بزيادته فيه ؛ كما جيء بالزيادة فى نحو يتدحرج ، وينطلق.

وأمّا همزة انطلق فإنما حذفت فى ينطلق للاستغناء عنها ، بل قد كانت فى حال ثباتها فى حكم الساقط أصلا ؛ فهذا واضح.

ولأجل ما قلناه : من أن الحرف المفرد فى أوّل الكلمة لا يكون للإلحاق ما حمل أصحابنا تهلل (١) على أن ظهور تضعيفه إنما جاز لأنه علم ، والأعلام تغيّر كثيرا. ومثله عندهم محبب ؛ لما ذكرناه.

وسألت يوما أبا علىّ ـ رحمه‌الله ـ عن تجفاف (٢) : أتاؤه للإلحاق بباب قرطاس؟ فقال : نعم ، واحتجّ فى ذلك بما انضاف إليها من زيادة الألف معها. فعلى هذا يجوز أن يكون ما جاء عنهم من باب أملود (٣) وأظفور ملحقا بباب عسلوج (٤) ، ودملوج ، وأن يكون إطريح وإسليح (٥) ملحقا بباب شنظير (٦) وخنزير. ويبعد هذا عندى ؛ لأنه يلزم منه أن يكون باب إعصار وإسنام (٧) ملحقا بباب حدبار (٨) وهلقام (٩) ، وباب إفعال لا يكون ملحقا ؛ ألا ترى أنه فى الأصل للمصدر ؛ نحو إكرام ، وإحسان ، وإجمال ، وإنعام ، وهذا مصدر فعل غير ملحق ، فيجب أن يكون المصدر فى ذلك على سمت فعله غير مخالف له. وكأنّ هذا ونحوه إنما لا يجوز أن يكون ملحقا من قبل أن ما زيد على الزيادة الأولى فى أوّله إنما هو حرف لين ، وحرف اللين لا يكون للإلحاق ، إنما جيء به لمعنى ، وهو امتداد الصوت به ، وهذا حديث غير حديث الإلحاق ؛ ألا ترى أنك إنما تقابل بالملحق الأصل ، وباب

__________________

(١) تهلل : قرية بالريف. انظر معجم البلدان. اللسان (جفف).

(٢) التّجفاف والتّجفاف : الذى يوضع على الخيل من حديد أو غيره فى الحرب.

(٣) أملود : ناعم ، وامرأة أملودة : ناعمة. الملد : الشباب ونعمته.

(٤) العسلوج : ما لان واخضرّ من قضبان الشجر والكرم أول ما ينبت.

(٥) الإسليح : شجرة ترعاها الإبل فيغزر لبنها.

(٦) الشّنظير : السيئ الخلق.

(٧) الأسنام بفتح الهمزة : جمع الأسنامة : ضرب من الشجر. والأسنام : ثمر الحلىّ. اللسان (سنم).

(٨) الحدبار : الناقة الضامرة.

(٩) الهلقام : الضخم الطويل.

٢٤٩

المدّ إنما هو الزيادة أبدا ، فالأمران على ما ترى فى البعد غايتان.

فإن قلت على هذا : فما تقول فى باب إزمول (١) ، وإدرون (٢) ، أملحق هو أم غير ملحق ، وفيه ـ كما ترى ـ مع الهمزة الزائدة الواو زائدة؟ قيل : لا ، بل هو ملحق بباب جردحل (٣) وحنزقر (٤). وذلك أن الواو التى فيه ليست مدا ؛ لأنها مفتوح ما قبلها ، فشابهت الأصول بذلك فألحقت بها.

فإن قلت : فقد قال فى طومار : إنه ملحق بقسطاس ، والواو كما ترى بعد الضمّة ، أفلا تراه كيف ألحق بها مضموما ما قبلها. قيل : الأمر كذلك ؛ وذلك أن موضع المدّ إنما هو قبيل الطرف مجاورا له ؛ كألف عماد ، وياء سعيد ، وواو عمود.

فأمّا واو طومار ، وياء ديماس (٥) فيمن قال دياميس فليستا للمدّ ؛ لأنهما لم تجاورا الطّرف. وعلى ذلك قال فى طومار : إنه ملحق لمّا تقدّمت الواو فيه ، فلم تجاور طرفه.

فلو بنيت على هذا من (سألت) مثل طومار وديماس لقلت : سوءال ، وسيئال.

فإن خفّفت الهمزة ألقيت حركتها على الحرفين قبلها ، ولم تحتشم ذلك ، فقلت : سوال ، وسيال ، ولم تجرهما مجرى واو مقروءة وياء خطيئة فى إبدالك الهمزة بعدهما إلى لفظهما ، وادّغامك إيّاهما فيها ، فى نحو مقروّة ، وخطيّة. فلذلك لم يقل فى تخفيف سوءال ، وسيئال : سوّال ، ولا سيّال. فاعرفه.

فإن قيل : ولم لم يتمكّن حال المدّ إلا أن يجاور الطّرف؟ قيل : إنما جيء بالمدّ فى هذه المواضع لنعمته وللين الصوت به. وذلك أن آخر الكلمة موضع الوقف ، ومكان الاستراحة والأون (٦) ؛ فقدّموا أمام الخوف الموقوف عليه ما يؤذن بسكونه ، وما يخفّض من غلواء (٧) الناطق واستمراره على سنن جريه ، وتتابع نطقه. ولذلك

__________________

(١) الإزمولة : المصوت من الوعول وغيرها. اللسان (زمل).

(٢) الإدرون : المعلف. والأصل. اللسان (درن).

(٣) الجردحل من الإبل : الضخم. ناقة جردحل : ضخمة غليظة. اللسان (جردحل).

(٤) الحنزقر : القصير الدميم من الناس. اللسان (حنزقر).

(٥) الديماس : الحمّام. والسّرب المظلم. اللسان (دمس).

(٦) الأون : الدّعة والسكينة والرّفق. اللسان (أون).

(٧) الغلواء : السرعة.

٢٥٠

كثرت حروف المدّ قبل حرف الروىّ ـ كالتأسيس والرّدف ـ ليكون ذلك مؤذنا بالوقوف ، ومؤدّيا إلى الراحة والسكون. وكلّما جاور حرف المدّ الروىّ كان آنس به ، وأشدّ إنعاما لمستمعه. نعم وقد نجد حرف اللين فى القافية عوضا عن حرف متحرّك ، أوزنة حرف متحرّك حذف من آخر البيت فى أتمّ أبيات ذلك البحر ؛ كثالث الطويل ، وثانى البسيط والكامل. فلذلك كان موضع حرف اللين إنما هو لما جاور الطرف. فأمّا ألف فاعل وفاعال وفاعول ونحو ذلك فإنها وإن كانت راسخة فى اللّين ، وعريقة فى المدّ ، فليس ذلك لاعتزامهم المدّ بها ، بل المدّ فيها ـ أين وقعت ـ شيء يرجع إليها فى ذوقها ، وحسن النطق بها ؛ ألا تراها دخولها فى (فاعل) لتجعل الفعل من اثنين فصاعدا ؛ نحو ضارب وشاتم ؛ فهذا معنى غير معنى المدّ ، وحديث غير حديثه. وقد ذكرت هذا الموضع فى كتابى فى شرح تصريف أبى عثمان وغيره من كتبى ، وما خرج من كلامى.

فإن قلت : فإذا كان الأمر كذا فهلا زيدت المدّات فى أواخر الكلم للمدّ ، فإن ذلك أنأى لهنّ ، وأشدّ تماديا بهنّ؟ قيل : يفسد ذاك من حيث كان مؤدّيا إلى نقض الغرض ، وذلك أنهنّ لو تطرفن لتسلّط الحذف عليهنّ ، فكان يكون ما أرادوه من زيادة الصوت بهنّ داعيا إلى استهلاكه بحذفهنّ ؛ ألا ترى أن ما جاء فى آخره الياء والواو قد حفظن عليه ، وارتبطن له بما زيد عليهن من التاء من بعدهن ؛ وذلك كعفرية ، وحدرية (١) ، وعفارية ، وقراسية (٢) ، وعلانية ، ورفاهية ، وبلهنية (٣) ، وسحفنية (٤) ؛ وكذلك عرقوة ، وترقوة ، وقلنسوة ، وقمحدوة (٥). فأما رباع وثمان وشناح (٦) فإنما احتمل ذلك فيه للفرق بين المذكّر والمؤنّث فى رباعية وثمانية وشناحية. وأيضا فلو زادوا الواو طرفا لوجب قلبها ياء ؛ ألا تراها لمّا حذفت التاء عنها فى الجمع قلبوها ياء ؛ قال :

__________________

(١) الحذرية : الأرض الخشنة ، والجمع الحذارى. اللسان (حذر).

(٢) القراسية : الضخم الشديد من الإبل وغيرها ، اللسان (قرس).

(٣) البلهنية : سعة العيش. اللسان (بلهن).

(٤) رجل سحفنية : هو المحلوق الرأس. اللسان (سحف).

(٥) القمحدوة : الهنة الناشزة فوق القفا. اللسان (قمحد).

(٦) الشّناح من الإبل : الطويل الجسيم. والأنثى شناحية. اللسان (شنح).

٢٥١

* أهل الرياط البيض والقلنسى (١) *

وقال المجنون :

* وبيض القلنسى من رجال أطاول*

وقال :

* حتى تقضّى عرقى الدلىّ (٢) *

وأيضا فلو زيدت هذه الحروف طرفا للمدّ بها لانتقض الغرض من موضع آخر.

وذلك أن الوقف على حرف اللين ينقصه ويستهلك بعض مدّه ، ولذلك احتاجوا لهنّ إلى الهاء فى الوقف ؛ ليبين بها حرف المدّ. وذلك قولك : وا زيداه ، ووا غلامهموه ، ووا غلام غلامهيه. وهذا شيء اعترض فقلنا فيه ، ولنعد.

فإن قيل زيادة على ما مضى : إذا كان موضع زيادة الفعل أوّله ؛ بما قدّمته ، وبدلالة اجتماع ثلاث زوائد فيه ، نحو استفعل ؛ وباب زيادة الاسم آخرا بدلالة اجتماع ثلاث زوائد فيه ؛ نحو عنظيان (٣) ، وخنذيان (٤) ، وخنزوان (٥) ، وعنفوان ، فما بالهم جعلوا الميم ـ وهى من زوائد الأسماء ـ مخصوصا بها أوّل المثال ؛ نحو مفعل ، ومفعول ، ومفعال ، ومفعل ، وذلك الباب على طوله؟.

__________________

(١) الرجز بلا نسبة فى لسان العرب (عنس) ٦ ، ١٨١ (قلس) ، ٧ / ٣٠٧ (ريط) ، وشرح المفصل ١٠ / ١٠٧ ، والكتاب ٣ / ٣١٧ ، وما ينصرف وما لا ينصرف ص ١١٦ ، والمقتضب ١ / ١٨٨ ، والمنصف ٢ / ١٢٠ ، ٣ / ٧٠ ، وتهذيب اللغة ٨ / ٤٠٨ ، وتاج العروس (١٦ / ٢٩٠ (عنس) ، ٣٩٣ (قلس) ، ١٩ / ٣١٧ (ريط) ، وكتاب العين ٥ / ٧٩ وقبله :

* لا مهل حتّى تلحقى بعنس*

(٢) الرجز بلا نسبة فى تخليص الشواهد ص ١٤٧ ، والخصائص ١ / ٢٣٥ ، وشرح المفصل ١٠ / ١٠٨ ، والكتاب ٣ / ٣٠٩ ، ولسان العرب (عرق) ، والمقتضب ١ / ١٨٨ ، والمنصف ٢ / ١٢٠ ، والمخصص ٩ / ١٦٥ ، وتاج العروس (عرق). القضّ : الكسر. العرقوة : خشبة معروضة على الدلو. والجمع عرق وأصله عرقو. إلا أنه ليس فى الكلام اسم آخره واو قبلها حرف مضموم. هذا مذهب سيبويه وغيره من النحويين ، فعدلوا إلى إبدال الواو ياء. اللسان (عرق).

(٣) العنظيان : الشرير المتسمع البذيّ الفحاش. اللسان (عنظ).

(٤) الخنذيان : الكثير الشر. اللسان (خنذ).

(٥) الخنزوان : الكبر. اللسان (خنز).

٢٥٢

قيل : لمّا جاءت لمعنى ضارعت بذلك حروف المضارعة فقدّمت ، وجعل ذلك عوضا من غلبة زيادة الفعل على أوّل الجزء ؛ كما جعل قلب الياء واوا فى التقوى والبقوى عوضا من كثرة دخول الواو على الياء. وعلى الجملة فالاسم أحمل للزيادة فى آخره من الفعل ، وذلك لقوّة الاسم وخفّته ، فاحتمل سحب الزيادة من آخره. والفعل ـ لضعفه وثقله ـ لا يتحامل بما يتحامل به الاسم من ذلك لقوّته.

ويدلّك على ثقل الزيادة فى آخر الكلمة أنك لا تجد فى ذوات الخمسة ما زيد فيه من آخره إلا الألف لخفّتها ؛ وذلك قبعثرى (١) ، وضبغطرى (٢) ، وإنما ذلك لطول ذوات الخمسة ، فلا ينتهى إلى آخرها إلا وقد ملّت لطولها. فلم يجمعوا على آخرها تماديه وتحميله الزيادة عليه. فإنما زيادتها فى حشوها ؛ نحو عضرفوط (٣) ، وقرطبوس (٤) ، ويستعور (٥) ، وصهصليق (٦) ، وجعفليق (٧) ، وعندليب ، وحنبريت (٨).

وذلك أنهم لمّا أرادوا ألا يخلوا ذوات الخمسة من الزيادة ، كما لم يخلوا منها الأصلين اللذين قبلها حشوا بالزيادة تقديما لها ؛ كراهية أن ينتهى إلى آخر الكلمة على طولها ، ثم يتجشّموا حينئذ زيادة هناك فيثقل أمرها ، ويتشنّع عليهم تحمّلها.

فقد رأيت ـ بما أوردناه ـ غلبة المعنى للّفظ ، وكون اللفظ خادما له ، مشيدا به ، وأنه إنما جيء به له ، ومن أجله. وأمّا غير هذا الطريق : من الحمل على المعنى وترك اللفظ ـ كتذكير المؤنّث ، وتأنيث المذكّر ، وإضمار الفاعل لدلالة المعنى عليه ، وإضمار المصدر لدلالة الفعل عليه ، وحذف الحروف ، والأجزاء التوامّ ، والجمل ، وغير ذلك حملا عليه وتصوّرا له ، وغير ذلك مما يطول ذكره ، ويملّ أيسره ـ فأمر مستقرّ ، ومذهب غير مستنكر.

__________________

(١) قبعثرى : الجمل الضخم.

(٢) ضبغطرى : هو الأحمق.

(٣) العضرفوط : دويبة بيضاء ناعمة. ويقال : ذكر العظاء. اللسان (عضرفط).

(٤) القرطبوس بفتح القاف : الداهية. اللسان (قرطبس).

(٥) اليستعور : شجر تصنع منه المساويك. وقيل : موضع. اللسان (يستعر).

(٦) صهصليق : شديدة الصوت صخّابة ، ومنهم من قيد فقال : العجوز الصخابة. اللسان (صهصلق).

(٧) الجعفليق : العظيمة من النساء. اللسان (جعفلق).

(٨) كذب حنبريت : خالص ، وكذلك ماء حنبريت اللسان (حنبرت).

٢٥٣

باب فى أن العرب قد أرادت من العلل والأغراض

ما نسبناه إليها ، وحملناه عليها

اعلم أن هذا موضع فى تثبيته وتمكينه منفعة ظاهرة ، وللنفس به مسكة وعصمة ؛ لأن فيه تصحيح ما ندّعيه على العرب : من أنّها أرادت كذا لكذا ، وفعلت كذا لكذا. وهو أحزم لها ، وأجمل بها ، وأدلّ على الحكمة المنسوبة إليها ، من أن تكون تكلفت ما تكلّفته : من استمرارها على ووتيرة واحدة ، وتقرّيها منهجا واحدا ، تراعيه وتلاحظه ، وتتحمّل لذلك مشاقّه وكلفه ، وتعتذر من تقصير إن جرى وقتا منها فى شيء منه.

وليس يجوز أن يكون ذلك كلّه فى كل لغة لهم ، وعند كلّ قوم منهم ، حتى لا يختلف ولا ينتقض ، ولا يتهاجر ، على كثرتهم ، وسعة بلادهم ، وطول عهد زمان هذه اللغة لهم ، وتصرّفها على ألسنتهم ، اتّفاقا وقع ، حتى لم يختلف فيه اثنان ، ولا تنازعه فريقان ، إلا وهم له مريدون ، وبسيافه على أوضاعهم فيه معنيّون ؛ ألا ترى إلى اطّراد رفع الفاعل ، ونصب المفعول ، والجرّ بحروف الجرّ ، والنصب بحروفه ، والجزم بحروفه ، وغير ذلك من حديث التثنية والجمع ، والإضافة والنسب ، والتحقير ، وما يطول شرحه ؛ فهل يحسن بذى لبّ أن يعتقد أنّ هذا كله اتّفاق وقع ، وتوارد اتّجه!.

فإن قلت ؛ (فما تنكر) أن يكون ذلك شيئا طبعوا عليه ، وأجيئوا إليه ، من غير اعتقاد منهم لعلله ، ولا لقصد من القصود التى تنسبها إليهم فى قوانينه وأغراضه ، بل لأن آخرا منهم حذا على ما نهج الأوّل فقال به ، وقام الأوّل للثانى فى كونه إماما له فيه مقام من هدى الأوّل إليه ، وبعثه عليه ، ملكا كان أو خاطرا؟

قيل : لن يخلو ذلك أن يكون خبرا روسلوا به ، أو تيقّظا نبّهوا على وجه الحكمة فيه. فإن كان وحيا أو ما يجرى مجراه فهو أنبه له ، وأذهب فى شرف الحال به ؛ لأن الله سبحانه إنما هداهم لذلك ووقفهم عليه ؛ لأن فى طباعهم قبولا له ، وانطواء على صحّة الوضع فيه ؛ لأنهم مع ما قدّمناه من ذكر كونهم عليه فى

٢٥٤

أوّل الكتاب من لطف الحسّ وصفائه ، ونصاعة جوهر الفكر ونقائه ، لم يؤتوا هذه اللغة الشريفة ، المنقادة الكريمة ، إلا ونفوسهم قابلة لها ، محسّة لقوّة الصنعة فيها ، معترفة بقدر النّعمة عليهم بما وهب لهم منها ؛ ألا ترى إلى قول أبى مهديّة (١) :

يقولون لى : شنبذ ، ولست مشنبذا

طوال الليالى ما أقام ثبير

ولا قائلا : زوذا ليعجل صاحبى

وبستان فى صدرى علىّ كبير

ولا تاركا لحنى لأحسن لحنهم

ولو دار صرف الدهر حيث يدور

وحدّثنى المتنبى شاعرنا ـ وما عرفته إلا صادقا ـ قال : كنت عند منصرفى من مصر فى جماعة من العرب ، وأحدهم يتحدّث. فذكر فى كلامه فلاة واسعة ، فقال : يحير فيها الطرف ، قال : وآخر منهم يلقّنه سرّا من الجماعة بينه وبينه ، فيقول له : يحار يحار. أفلا ترى إلى هداية بعضهم لبعض ، وتنبيهه إيّاه على الصواب.

وقال عمّار (٢) الكلبىّ ـ وقد عيب عليه بيت من شعره ؛ فامتعض لذلك ـ :

ما ذا لقينا من المستعربين ومن

قياس نحوهم هذا الذى ابتدعوا

إن قلت قافية بكرا يكون بها

بيت خلاف الذى قاسوه أو ذرعوا

قالوا لحنت ، وهذا ليس منتصبا

وذاك خفض ، وهذا ليس يرتفع

وحرّضوا بين عبد الله من حمق

وبين زيد فطال الضرب والوجع

كم بين قوم قد احتالوا لمنطقهم

وبين قوم على إعرابهم طبعوا

ما كلّ قولى مشروحا لكم ، فخذوا

ما تعرفون ، وما لم تعرفوا فدعوا

لأن أرضى أرض لا تشبّ بها

نار المجوس ولا تبنى بها البيع (٣)

__________________

(١) فى المعرّب للجواليقىّ ص ٩ نسبته لأبى المهدىّ ، وكذا هو فى مجالس ابن حنزابة ونصه : «كان أبو مهدىّ هذا ـ وهو من باهلة ـ يضرب حنكيه يمينا وشمالا ...» ، وكذا هو «أبو مهدى» فى ذيل الأمالى ٣٩. وفى السمط ٢١ أن الصواب : «أبو مهدية» كما فى فهرست ابن النديم ٤٩ والمرزبانى ١٨٥. وهو صاحب قصة فى اللسان (خسا) باسم أبى مهدية. (نجار).

(٢) هذا الشعر فى معجم الأدباء فى ترجمة ابن جنى ١٢ / ١٠٣ ، وفيه : «عمرو» بدل «عمار». (نجار).

(٣) الأول منهم بلا نسبة فى اللسان (عرب) والتاج (عرب).

٢٥٥

والخبر المشهور فى هذا للنابغة وقد عيب عليه قوله فى الداليّة المجرورة :

* وبذاك خبّرنا الغراب الأسود (١) *

فلمّا لم يفهمه أتى بمغنّية فغنّته :

* من آل ميّة رائح أو مغتد

عجلان ذا زاد وغير مزوّد (٢)

ومدّت الوصل وأشبعته ، ثم قالت :

* وبذاك خبّرنا الغراب الأسود (٣) *

ومطلت واو الوصل ، فلمّا أحسّه عرفه واعتذر منه وغيّره ـ فيما يقال ـ إلى قوله :

* وبذاك تنعاب الغراب الأسود (٤) *

وقال ؛ دخلت يثرب وفى شعرى صنعة ، ثم خرجت منها وأنا أشعر العرب.

كذا الرواية. وأمّا أبو الحسن فكان يرى ويعتقد أن العرب لا تستنكر الإقواء.

ويقول : قلّت قصيدة إلا وفيها الإقواء. ويعتلّ لذلك بأن يقول : إن كل بيت منها شعر قائم برأسه. وهذا الاعتلال منه يضعف ويقبّح التضمين فى الشعر.

وأنشدنا أبو عبد الله الشجرىّ يوما لنفسه شعرا مرفوعا ، وهو قوله :

نظرت بسنجار كنظرة ذى هوى

رأى وطنا فانهلّ بالماء غالبه

لأونس من أبناء سعد ظعائنا

يزنّ الذى من نحوهن مناسبه (٥)

__________________

(١) عجز البيت للنابغة فى ديوانه ص ٨٩ ، والأغانى ١١ / ٨ ، وجواهر الأدب ص ٢٨٨ ، والدرر ٢ / ٢٠ ، والشعر والشعراء ١ / ١٦٤ ، وبلا نسبة فى اللسان (وجه) وهمع الهوامع ١ / ٩٩ وصدر البيت يروى :

* زعم البوارح أن رحلتنا غدا*

(٢) البيت للنابغة الذبيانى فى ديوانه ص ٨٩ ، والأزهية ص ١١٩ ، وخزانة الأدب ٢ / ١٣٣ ، ٤٤٨ ، ٧ / ٢٠٣ ، ٢٠٤ ولسان العرب (قوا).

(٣) سبق تخريجه.

(٤) عجز بيت للنابغة فى ديوانه ص ٨٩ واللسان (سنع) ، والتاج (حتم).

(٥) آنس الشخص : أبصره.

٢٥٦

يقول فيها يصف البعير :

فقامت إليه خدلة الساق أعلقت

به منه مسموما دوينة حاجبه (١)

فقلت : يا أبا عبد الله : أتقول (دوينه حاجبه) مع قولك (مناسبه) و (أشانبه)! فلم يفهم ما أردت ، فقال : فكيف أصنع؟ أليس هاهنا تضع الجرير (٢) على القرمة (٣) ، على الجرفة (٤)؟ وأومأ إلى أنفه ، فقلت : صدقت ، غير أنك قلت (أشانبه) و (غالبه) فلم يفهم ، وأعاد اعتذاره الأوّل. فلمّا طال هذا قلت له : أيحسن أن يقول الشاعر :

(آذنتنا ببينها أسماء

ربّ ثاو يملّ منه الثّواء) (٥)

ومطلت الصوت ومكّنته ، ثم يقول مع ذلك :

* ملك المنذر بن ماء السمائى (٦) *

فأحس حينئذ ، وقال : أهذا! أين هذا من ذاك! إن هذا طويل ، وذاك قصير.

فاستروح إلى قصر الحركة فى (حاجبه) وأنها أقلّ من الحرف فى (أسماء) و (السماء).

وسألته يوما فقلت له : كيف تجمع (دكّانا)؟ فقال : دكاكين ، قلت : فسرحانا؟

قال : سراحين ، قلت : فقرطانا (٧)؟ قال : قراطين ، قلت : فعثمان؟ قال : عثمانون.

فقلت له : هلا قلت أيضا عثامين؟ قال : أيش عثامين! أرأيت إنسانا يتكلّم بما ليس

__________________

(١) قال ابن سيده : فإنى لا أعرف دون تؤنث بالهاء بعلامة تأنيث ولا بغير علامة ، ألا ترى أن النحويين كلهم قالوا : الظروف كلها مذكرة إلا قدام ووراء؟ وخدلة الساق : ممتلئة الساق.

(٢) الجرير : حبل من أدم يخطم به البعير.

(٣) القرمة : بالفتح والضم. من سمات الإبل على الأنف. اللسان (قرم) والقاموس.

(٤) الجرفة : بالفتح والضم. من سمات الإبل فى الفخذ وقيل تحت الأذن. اللسان (قرم) والقاموس.

(٥) البيت للحارث بن حلزة فى ديوانه ص ١٩ ، والأغانى ١١ / ٣٦ ، وخزانة الأدب ٣ / ١٨١ ، ١٨٢ ، وشرح المعلقات السبع ص ٢١٦ ، ولسان العرب (قفا) ، والمقاصد النحوية ٢ / ٤٤٥.

(٦) عجز البيت للحارث بن حلزة فى ديوانه ص ٢٩ ، ولسان العرب (قوا) وخزانة الأدب ٤ / ٣٦٢ ، وشرح القصائد السبع ٤٧٤ ، والشعر والشعراء ١ / ٢٠٤ ، ومعاهد التنصيص ١ / ٣٢٠.

(٧) القرطان : كالبرذعة لذوات الحافر. اللسان (قرطن).

٢٥٧

من لغته ، والله لا أقولها أبدا.

والمروىّ عنهم فى شغفهم بلغتهم وتعظيمهم لها واعتقادهم أجمل الجميل فيها أكثر من أن يورد أو جزء من أجزاء كثيرة منه.

فإن قلت : فإن العجم أيضا بلغتهم مشغوفون ، ولها مؤثرون ، ولأن يدخلها شيء من العربىّ كارهون ؛ ألا ترى أنهم إذا أورد الشاعر منهم شعرا فيه ألفاظ من العربىّ عيب به ، وطعن لأجل ذلك عليه. فقد تساوت حال اللغتين فى ذلك. فأيّة فضيلة للعربيّة على العجميّة؟

قيل : لو أحسّت العجم بلطف صناعة العرب فى هذه اللغة ، وما فيها من الغموض والرّقة والدقة لاعتذرت من اعترافها بلغتها ، فضلا عن التقديم لها ، والتنويه منها.

فإن قيل : لا ، بل لو عرفت العرب مذاهب العجم فى حسن لغتها ، وسداد تصرّفها ، وعذوبة طرائقها لم تبأ (١) بلغتها ، ولا رفعت من رءوسها باستحسانها. وتقديمها.

قيل : قد اعتبرنا ما تقوله ، فوجدنا الأمر فيه بضدّه. وذلك أنا نسأل علماء العربية ممن أصله عجمىّ وقد تدرّب بلغته قبل استعرابه ، عن حال اللغتين ، فلا يجمع بينهما ، بل لا يكاد يقبل السؤال عن ذلك ؛ لبعده فى نفسه ، وتقدّم لطف العربيّة فى رأيه وحسّه. سألت غير مرّة أبا علىّ ـ رضى الله عنه ـ عن ذلك ، فكان جوابه عنه نحوا مما حكيته.

فإن قلت : ما تنكر أن يكون ذلك ، لأنه كان عالما بالعربيّة ، ولم يكن عالما باللغة العجميّة ، ولعلّه لو كان عالما بها لأجاب بغير ما أجاب به. قيل : نحن قد قطعنا بيقين ، وأنت إنما عارضت بشكّ ، ولعلّ هذا ليس قطعا كقطعنا ، ولا يقينا كيقيننا.

وأيضا فإن العجم العلماء بلغة العرب وإن لم يكونوا علماء بلغة العجم فإن قواهم فى العربيّة تؤيّد معرفتهم بالعجميّة ، وتؤنسهم بها ، وتزيد فى تنبيههم على أحوالها ؛ لاشتراك العلوم اللغويّة واشتباكها وتراميها إلى الغاية الجامعة لمعانيها. ولم نر أحدا

__________________

(١) بأى يبأى بأوا : فخر ، والبأو : الكبر والفخر ، والبأى لغة فى البأو. اللسان (بأى).

٢٥٨

من أشياخنا فيها ـ كأبى حاتم (١) ، وبندار (٢) ، وأبى علىّ ، وفلان ، وفلان ـ يسوّون بينهما ولا يقرّبون بين حاليهما. وكأنّ هذا موضع ليس للخلاف فيه مجال ؛ لوضوحه عند الكافّة. وإنما أوردنا منه هذا القدر احتياطا به ، واستظهارا على مورد له عسى أن يورده.

فإن قلت : زعمت أن العرب تجتمع على لغتها فلا تختلف فيها ، وقد نراها ظاهرة الخلاف ؛ ألا ترى إلى الخلاف فى (ما) الحجازيّة ، والتميميّة ، وإلى الحكاية فى الاستفهام عن الأعلام فى الحجازيّة ، وترك ذلك فى التميميّة ، إلى غير ذلك ، قيل : هذا القدر من الخلاف لقلته ونزارته ، محتقر غير محتفل به ، ولا معيج (٣) عليه ، وإنما هو فى شيء من الفروع يسير. فأمّا الأصول وما عليه العامّة والجمهور ، فلا خلاف فيه ، ولا مذهب للطاعن به. وأيضا فإن أهل كلّ واحدة من اللغتين عدد كثير ، وخلق (من الله) عظيم ، وكلّ واحد منهم محافظ على لغته ، لا يخالف شيئا منها ولا يوجد عنده تعاد فيها. فهل ذلك إلا لأنهم يحتاطون ، ويقتاسون ، ولا يفرّطون ، ولا يخلّطون. ومع هذا فليس شيء مما يختلفون فيه ـ على قلّته وخفّته ـ إلا له من القياس وجه يؤخذ به. ولو كانت هذه اللغة حشوا مكيلا ، وحثوا مهيلا ، لكثر خلافها ، وتعادت أوصافها : فجاء عنهم جرّ الفاعل ، ورفع المضاف إليه والمفعول به ، والجزم بحروف النصب ، والنصب بحروف الجزم ؛ بل جاء عنهم الكلام سدى غير محصّل ، وغفلا من الإعراب ، ولاستغنى بإرساله وإهماله عن إقامة إعرابه ، والكلف الظاهرة بالمحاماة على طرد أحكامه.

هذا كلّه وما أكنى عنه من مثله ـ تحاميا للإطالة به ـ إن كانت هذه اللغة شيئا خوطبوا به ، وأخذوا باستعماله. وإن كانت شيئا اصطلحوا عليه ، وترافدوا بخواطرهم وموادّ حكمهم على عمله وترتيبه ، وقسمة أنحائه ، وتقديمهم أصوله ،

__________________

(١) هو سهل بن محمد بن عثمان بن القاسم أبو حاتم السّجستانىّ البصرىّ ، أستاذ المبرد. مات سنة ٢٥٥ ه‍ وانظر البغية. (١ / ٢٠٦).

(٢) هو بندار بن عبد الحميد أبو عمر الكرخى الأصبهانى المعروف بابن لرّة. البغية (١ / ٤٧٦).

(٣) العيج : شبه الاكتراث ، يقال : ما عاج بقوله عيجا : لم يكترث له. اللسان (عيج).

٢٥٩

وإتباعهم إيّاها فروعه ـ وكذا ينبغى أن يعتقد ذلك منهم ؛ لما نذكره آنفا ـ فهو مفخر لهم ، ومعلم من معالم السّداد ، دلّ على فضيلتهم.

والذى يدلّ على أنهم قد أحسّوا ما أحسسنا ، وأرادوا [وقصدوا] ما نسبنا إليهم إرادته وقصده شيئان : أحدهما حاضر معنا ، والآخر غائب عنا ، إلا أنه مع أدنى تأمّل فى حكم الحاضر معنا.

فالغائب ما كانت الجماعة من علمائنا تشاهده من أحوال العرب (ووجوهها) ، وتضطرّ إلى معرفته من أغراضها وقصودها : من استخفافها شيئا أو استثقاله ، وتقبّله أو إنكاره ، والأنس به أو الاستيحاش منه ، والرضا به ، أو التعجّب من قائله ، وغير ذلك من الأحوال الشاهدة بالقصود ، بل الحالفة على ما فى النفوس ؛ ألا ترى إلى قوله :

تقول ـ وصكّت وجهها بيمينها ـ

أبعلي هذا بالرحى المتقاعس! (١)

فلو قال حاكيا عنها : أبعلي هذا بالرحى المتقاعس ـ من غير أن يذكر صكّ الوجه ـ لأعلمنا بذلك أنها كانت متعجّبة منكرة ، لكنّه لمّا حكى الحال فقال : (وصكّت وجهها) علم بذلك قوّة إنكارها ، وتعاظم الصورة لها. هذا مع أنك سامع لحكاية الحال ، غير مشاهد لها ، ولو شاهدتها لكنت بها أعرف ، ولعظم الحال فى نفس تلك المرأة أبين ، وقد قيل (ليس المخبر كالمعاين) ولو لم ينقل إلينا هذا الشاعر حال هذه المرأة بقوله : وصكّت وجهها ، لم نعرف به حقيقة تعاظم الأمر لها. وليست كلّ حكاية تروى لنا ، ولا كلّ خبر ينقل إلينا يشفع به شرح الأحوال التابعة له ، المقترنة ـ كانت ـ به. نعم ولو نقلت إلينا لم نفد بسماعها ما كنا نفيده لو حضرناها.

وكذلك قول الآخر :

__________________

(١) البيت لهذلول بن كعب العنبرى فى شرح ديوان الحماسة للمرزوقى ص ٦٩٦ ، وبلا نسبة فى خزانة الأدب ٨ / ٤٣٠ ، والخصائص ١ / ٢٤٥ ، والدرر ١ / ٢٩٣ ، واللامات ص ٥٨ ، والمنصف ١ / ١٣٠. القعس : نقيض الحدب ، وهو خروج الصدر ودخول الظهر. اللسان (قعس).

٢٦٠