الخصائص - ج ١

أبي الفتح عثمان بن جنّي

الخصائص - ج ١

المؤلف:

أبي الفتح عثمان بن جنّي


المحقق: الدكتور عبد الحميد الهنداوي
الموضوع : اللغة والبلاغة
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ٣
ISBN: 978-2-7451-3245-1
الصفحات: ٥٤٤

وفعيال مثال مرفوض. فإن قلت (كان يصير من صوياغ إلى لفظ فوعال) ، قيل قد ثبت أن عين هذه الكلمة واو فـ (صوياغ) إذا لو صير إليه لكان (فعيالا) لا محالة ، فلذلك قلنا : إنهم أبدلوا العين الأولى ياء ، ثم إنهم (أبدلوا لها) العين الثانية ، وإذا كان المبدل هو الأول لزم أن يكون هو الزائد ؛ لأن حرمة الزائد أضعف من حرمة الأصل.

فهذا أيضا أحد ما يشهد بصحّة قول الخليل.

ومنها قولهم : صمحمح ، ودمكمك ؛ فالحاء الأولى هى الزائدة ؛ وكذلك الكاف الأولى ؛ وذلك أنها فاصلة بين العينين ، والعينان متى اجتمعتا فى كلمة واحدة مفصولا بينهما فلا يكون الحرف الفاصل بينهما إلا زائدا ؛ نحو عثوثل ، وعقنقل ، وسلالم ، وخفيفد. وقد ثبت أيضا بما قدّمناه [قبيل] أن العين الأولى هى الزائدة.

فثبت إذا أن الميم والحاء الأوليين فى (صمحمح) هما الزائدتان ، وأن الميم والحاء الأخريين هما الأصلان. فاعرف ذلك ؛ فإنه مما يحقّق مذهب الخليل.

ومنها أن التاء فى (تفعيل) عوض من عين (فعّال) الأولى ، والتاء زائدة فينبغى أن تكون عوضا من زائد أيضا ، من حيث كان الزائد بالزائد أشبه منه بالأصلى.

فالعين الأولى إذا من (قطّاع) هى الزائدة ؛ لأن تاء تقطيع عوض منها ؛ كما أن هاء تفعلة فى المصدر عوض من ياء تفعيل ، وكلتاهما زائدة.

فليس واحد من المذهبين إلا وله داع إليه ، وحامل عليه. وهذا مما يستوقفك عن القطع على أحد المذهبين إلا بعد تأمّله ، وإنعام الفحص عنه. والتوفيق بالله عزوجل.

* * *

٤٤١

باب فى الأصلين

(يتقاربان فى التركيب بالتقديم والتأخير)

اعلم أن كل لفظين وجد فيهما تقديم وتأخير فأمكن أن يكونا جميعا أصلين ليس أحدهما مقلوبا عن صاحبه فهو القياس الذى لا يجوز غيره. وإن لم يمكن ذلك حكمت بأن أحدهما مقلوب عن صاحبه ، ثم أريت أيّهما الأصل ، وأيّهما الفرع. وسنذكر وجوه ذلك.

فممّا تركيباه أصلان لا قلب فيهما قولهم : جذب ، وجبذ ؛ ليس أحدهما مقلوبا عن صاحبه. وذلك أنهما جميعا يتصرّفان تصرّفا واحدا ؛ نحو جذب يجذب جذبا فهو جاذب ، والمفعول مجذوب ، وجبذ يجبذ جبذا فهو جابذ ، والمفعول مجبوذ.

فإن جعلت مع هذا أحدهما أصلا لصاحبه فسد ذلك ؛ لأنك لو فعلته لم يكن أحدهما أسعد بهذه الحال من الآخر. فإذا وقفت الحال بينهما ولم يؤثر بالمزيّة أحدهما وجب أن يتوازيا وأن يمثلا بصفحتيهما معا. وكذلك ما هذه سبيله.

فإن قصر أحدهما عن تصرّف صاحبه ولم يساوه فيه كان أوسعهما تصرّفا أصلا لصاحبه. وذلك كقولهم أنى الشىء يأنى ، وآن يئين. فآن مقلوب عن أنى.

والدليل على ذلك وجودك مصدر أنى يأنى وهو الإنى ، ولا تجد لآن مصدرا ؛ كذا قال الأصمعىّ. فأمّا الأين فليس من هذا فى شيء ، إنما الأين : الإعياء والتعب.

فلمّا عدم من (آن) المصدر الذى هو أصل للفعل ، علم أنه مقلوب عن أنى يأنى إنّى ؛ قال الله تعالى (إِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلى طَعامٍ غَيْرَ ناظِرِينَ إِناهُ) [الأحزاب : ٥٣] أى بلوغه وإدراكه. قال أبو على : ومنه سمّوا الإناء ؛ لأنه لا يستعمل إلا بعد بلوغه حظّه من خرزه أو صياغته أو نجارته أو نحو ذلك. غير أن أبا زيد قد حكى لآن مصدرا ، وهو الأين. فإن كان الأمر كذلك فهما إذا أصلان متساويان ، وليس أحدهما أصلا لصاحبه.

ومثل ذلك [فى القلب] قولهم (أيست من كذا) فهو مقلوب من (يئست) لأمرين ، ذكر أبو على أحدهما ؛ وهو ما ذهب إليه من أن (أيست) لا مصدر له ،

٤٤٢

وإنما المصدر (ليئست) وهو اليأس واليآسة. قال فأمّا قولهم فى اسم الرجل (إياس) فليس مصدرا لأيست ، ولا هو أيضا من لفظه. وإنما هو مصدر (أست الرجل) أءوسه إياسا ، سمّوه به كما سمّوه عطاء تفاؤلا بالعطيّة. ومثل ذلك عندى تسميتهم إيّاه (عياضا) وإنما هو مصدر عضته أى أعطيته ؛ قال :

عاضها الله غلاما بعد ما

شابت الأصداغ ، والضرس نقد (١)

عطف جملة من مبتدأ وخبر على أخرى من فعل وفاعل ، أعنى قوله : (والضرس نقد) أى ونقد الضرس. وأمّا الآخر فعندى أنه لو لم يكن مقلوبا لوجب إعلاله ، وأن يقول : است أآس ، كهبت أهاب. فظهوره صحيحا يدلّ على أنه إنما صحّ لأنه مقلوب عما تصحّ عينه وهو (يئست) لتكون الصحّة دليلا على ذلك المعنى ؛ كما كانت صحّة (عور) دليلا على أنه فى معنى ما لا بدّ من صحّته وهو (اعورّ).

فأمّا تسميتهم الرجل (أوسا) فإنه يحتمل أمرين ، أحدهما أن يكون مصدر (أسته) أى أعطيته ؛ كما سمّوه عطاء وعطيّة. والآخر أن يكون سمّوه به كما سمّوه ذئبا. فأمّا ما أنشدناه من قول الآخر :

لى كلّ يوم من ذؤاله

ضغث يزيد على إباله (٢)

فلأحشأنّك مشقصا

أوسا أويس من الهباله (٣)

__________________

(١) البيت من الرمل ، وهو للهذلى فى لسان العرب (نقد) ، وبلا نسبة فى المنطق ص ٤٩ ، والخصائص ٢ / ٧١ ، وشرح شواهد المغنى ص ٨٧٣ ، ولسان العرب (صدغ) ، ومغنى اللبيب ص ٤٨٥.

(٢) ذؤالة : الذئب ، وقوله «ضغث يزيد على إبالة» أى بلية على بلية ، وكان الذئب طمع فى ناقته الهبالة. فى اللسان (فى كل يوم).

(٣) قول أسماء بن خارجة فى اللسان (أوس). يقال حشأه سهما : رماه به. والمشقص : سهم عريض النصل. وأويس : تصغير أوس ، وهو الذئب. وأوسا : هو موضع الشاهد ، خاطب بهذا الذّئب ، وقيل : افترس له شاة فقال : لأضعنّ فى حشاك مشقصا عوضا يا أويس من غنيمتك التى غنمتها من غنمى. وقال ابن سيده : أوسا أى عوضا ، انظر اللسان (أوس).

٤٤٣

فـ (أوسا) منه ينتصب على المصدر بفعل دلّ عليه قوله : (لأحشأنّك) فكأنه قال (لأءوسنّك أوسا) كقول الله سبحانه (وَتَرَى الْجِبالَ تَحْسَبُها جامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحابِ صُنْعَ اللهِ) [النمل : ٨٨] لأن مرورها يدلّ على صنع الله ، فكأنه قال : صنع الله ذلك صنعا ، وأضاف المصدر إلى فاعله ؛ كما لو ظهر الفعل الناصب لهذا المصدر لكان مسندا إلى اسم الله تعالى. وأمّا قوله (أويس) فنداء ، أراد : يا أويس ، يخاطب الذئب ، وهو اسم له مصغّرا ، كما أنه اسم له مكبّرا ؛ قال :

يا ليت شعرى عنك ـ والأمر أمم ـ

ما فعل اليوم أويس فى الغنم (١)

فأمّا ما يتعلق به (من) فإن شئت علّقته بنفس أوسا ؛ ولم يعتدد بالنداء فاصلا لكثرته فى الكلام ، وكونه معترضا به للتسديد ، كما ذكرنا من هذا الطرز فى باب الاعتراض فى قوله :

يا عمر الخير جزيت الجنّه

فاكس بنيّاتى وأمّهنّه

أو ـ يا أبا حفص ـ لأمضينّه (٢)

فاعترض بالنداء بين (أو) والفعل. وإن شئت علّقته بمحذوف يدلّ عليه (أوسا) فكأنه قال : أءوسك من الهبالة ، أى أعطيك من (٣) الهبالة. وإن شئت جعلت حرف الجرّ هذا وصفا لأوسا ، فعلّقته بمحذوف ، وضمّنته ضمير الموصوف.

ومن المقلوب قولهم امضحلّ ، وهو مقلوب عن اضمحلّ ؛ ألا ترى أن المصدر إنما هو على اضمحلّ وهو الاضمحلال ؛ ولا يقولون : امضحلال. وكذلك قولهم : اكفهرّ واكرهفّ ، الثانى مقلوب عن الأوّل ؛ لأن التصرّف (على اكفهرّ وقع) ، ومصدره الاكفهرار ، ولم يمرر بنا الاكرهفاف ؛ قال النابغة :

__________________

(١) الرجز لعمرو ذى الكلب الهذلى فى شرح أشعار الهذليين ص ٥٧٥ ، ولسان العرب (لجب) ، (مرخ) ، (حشك) ، (رخم) ، (عمم) ، وتاج العروس (لجب) ، (مرخ) ، (جول) ، (رخم) ، (عمم) ، وللهذلى فى لسان العرب (أوس) ، وتاج العروس (أوس) ، وبلا نسبة فى جمهرة اللغة ص ٢٣٨ ، ومقاييس اللغة ١ / ١٥٧ ، والمخصص ٨ / ٦٦ ، وكتاب العين ٧ / ٣٣٠.

(٢) الرجز بلا نسبة فى لسان العرب (أوس) ، (خضل) ، ورصف المبانى ص ٤٠٠ ، وشرح المفصل ١ / ٤٤.

(٣) من : هنا للتعويض. أى أعطيك عوضها.

٤٤٤

أو فازجروا مكفهرّا لا كفاء له

كالليل يخلط أصراما بأصرام (١)

وقد حكى بعضهم مكرهفّ. فإن ساواه فى الاستعمال فهما ـ على ما نرى ـ أصلان.

ومن ذلك : هذا لحم شخم ، وخشم ، وفيه تشخيم ، ولم أسمع تخشيم. فهذا يدلّ على أن (شخم أصل الخشم).

ومن ذلك قولهم : اطمأنّ. ذهب سيبويه فيه إلى أنه مقلوب ، وأنّ أصله من طأمن ، وخالفه أبو عمر فرأى ضدّ ذلك. وحجة سيبويه فيه أنّ (طأمن) غير ذى زيادة ، واطمأنّ ذو زيادة ، والزيادة إذا لحقت الكلمة لحقها ضرب من الوهن لذلك ، وذلك لأنّ مخالطتها شيء ليس من أصلها مزاحمة لها وتسوية فى التزامه بينها وبينه ، وهو [و] إن لم تبلغ الزيادة على الأصول فحش الحذف منها ، فإنه ـ على كل حال ـ على صدد من التوهين لها ؛ إذ كان زيادة عليها تحتاج إلى تحملها ، كما يتحامل بحذف محذف منها. وإذا كان فى الزيادة طرف من الإعلال للأصل كان أن يكون القلب مع الزيادة أولى. وذلك أن الكلمة إذا لحقها ضرب من الضعف أسرع إليها ضعف آخر ؛ وذلك كحذفهم ياء حنيفة فى الإضافة إليها لحذف تائها فى قولهم حنفىّ ، ولمّا لم يكن فى (حنيف) تاء تحذف فيحذف ياؤها جاء فى الإضافة إليه على أصله ، فقالوا : حنيفىّ.

فإن قال أبو عمر : جرى المصدر على اطمأنّ يدلّ على أنه هو الأصل ، وذلك قولهم : الاطمئنان ، قيل : قولهم (الطأمنة) بإزاء قولك : الاطمئنان ، فمصدر بمصدر ، وبقى على أبى عمر أنّ الزيادة جرت فى المصدر جريها فى الفعل. والعلّة فى الموضعين واحدة. وكذلك الطّمأنينة ذات زيادة ، فهى إلى الاعتلال أقرب. ولم يقنع أبا عمر أن يقول : إنما أصلان متقاودان كجبذ وجذب ، حتى مكّن خلافه لصاحب الكتاب بأن عكس الأمر عليه البتة.

وذهب سيبويه فى قولهم (أينق) مذهبين : أحدهما أن تكون عين أنوق قلبت

__________________

(١) البيت من البسيط وهو للنابغة فى ديوانه ص ٨٣ ، ولسان العرب (صرم) ، وتاج العروس (صرم). المكفهرّ : الجيش.

٤٤٥

إلى ما قبل الفاء فصارت فى التقدير (أونق) ثم أبدلت الواو ياء لأنها ؛ كما أعلّت بالقلب كذلك أعلّت أيضا بالإبدال على ما مضى ؛ والآخر أن تكون العين حذفت ثم عوّضت الياء منها قبل الفاء. فمثالها على هذا القول (أيفل) ، وعلى القول الأوّل (أعفل).

وذهب الفرّاء فى (الجاه) إلى أنه مقلوب من الوجه. وروينا عن الفرّاء أنه قال : سمعت أعرابية من غطفان ، وزجرها ابنها ، فقلت لها : ردّى عليه ، فقالت : أخاف أن يجوهنى بأكثر من هذا. قال : وهو من الوجه ، أرادت : يواجهنى. وكان أبو علىّ ـ رحمه‌الله ـ يرى أنّ الجاه مقلوب عن الوجه أيضا. قال : ولمّا أعلّوه بالقلب أعلّوه أيضا بتحريك عينه ونقله من فعل إلى فعل ، (يريد أنه) صار من وجه إلى جوه ، ثم حرّكت عينه فصار إلى جوه ، ثم أبدلت عينه لتحرّكها وانفتاح ما قبلها ، فصار (جاه) كما ترى ، وحكى أبو زيد : قد وجه الرجل وجاهة عند السلطان ، وهو وجيه. وهذا يقوّى القلب ؛ لأنهم لم يقولوا (جويه) ولا نحو ذلك.

ومن المقلوب (قسىّ) و (أشياء) فى قول الخليل.

وقوله :

* مروان مروان أخو اليوم اليمى*

فيه قولان : أحدهما أنه أراد : أخو اليوم السهل اليوم الصعب ، يقال يوم أيوم ، ويوم ، كأشعث وشعث ، وأخشن وخشن ، وأوجل ووجل ، فقلب فصار (يمو) فانقلبت العين لانكسار ما قبلها ، طرفا. والآخر أنه أراد : أخو اليوم اليوم ، كما يقال عند الشدّة والأمر العظيم : اليوم اليوم ، فقلب فصار (اليمو) ثم نقله من فعل إلى فعل ، كما أنشده أبو زيد من قوله :

علام قتل مسلم تعبّدا

مذ سنة وخمسون عددا (١)

 ـ يريد خمسون ـ فلما انكسر ما قبل الواو قلبت ياء فصار اليمى. هذان قولان فيه مقولان.

__________________

(١) الرجز بلا نسبة فى لسان العرب (خمس) ، (يوم) والدرر ٦ / ٢٣٢ ، والمحتسب ١ / ٨٦ ، ونوادر أبى زيد ص ١٦٥ ، وهمع الهوامع ٢ / ١٥٧ ، وتاج العروس (خمس).

٤٤٦

ويجوز عندى فيه وجه ثالث لم يقل به. وهو أن يكون أصله على ما قيل فى المذهب الثانى : أخو اليوم اليوم ، ثم قلب فصار (اليمو) ثم نقلت الضمّة إلى الميم فى حدّ قولك : هذا بكر ، فصارت اليمو ، فلمّا وقعت الواو طرفا بعد ضمّة فى الاسم أبدلوا من الضمّة كسرة ، ثم من الواو ياء ، فصارت اليمى ، كأحق وأدل.

فإن قيل : هلا لم تستنكر الواو هنا بعد الضمة لمّا لم تكن الضمّة لازمة؟

قيل : هذا وإن كان على ما ذكرته فإنهم قد أجروه فى هذا النحو مجرى اللازم ؛ ألا تراهم يقولون على هذه اللغة : هذه هند ، ومررت بجمل ، فيتبعون الكسر الكسر والضمّ الضمّ ؛ كراهية للخروج من كسرة هاء هند إلى ضمة النون ، وإن كانت الضمّة عارضة. وكذلك كرهوا مررت بجمل لئلا يصيروا فى الأسماء إلى لفظ فعل. فكما أجروا النقل فى هذين الموضعين مجرى اللازم فكذلك يجوز أن يجرى اليمو مجرى (أدلو وأحقو) فيغيّر كما غيّرا ، فقيل (اليمى) حملا على الأدلى والأحقى. (فإن قيل : نحو زيد وعون لا ينقل إلى عينه حركة لامه ، واليوم كعون ، قيل جاز ذلك ضرورة لما يعقب من صلاح القافية ، وأكثر ما فيه إجراء المعتلّ مجرى الصحيح لضرورة الشعر).

ومن المقلوب بيت القطامىّ :

ما اعتاد حبّ سليمى حين معتاد

ولا تقضّى بواقى دينها الطادى (١)

هو مقلوب عن الواطد ، وهو الفاعل من وطد يطد ، أى ثبت. فقلب عن (فاعل) إلى (عالف).

ومثله عندنا (الحادى) لأنه فاعل من وحد ، وأصله الواحد فنقل عن فاعل (إلى عالف) سواء ، فانقلبت الواو التى هى فى الأصل فاء ياء ؛ لانكسار ما قبلها فى الموضعين جميعا. وحكى الفرّاء : معى عشرة فاحدهنّ لى ، أى اجعلهن أحد عشر ، فظاهر هذا يؤنس بأن (الحادى) فاعل. والوجه إن كان المروىّ صحيحا أن

__________________

(١) البيت من البسيط ، وهو للقطامى فى ديوانه ص ٧٨ ، ولسان العرب (طود) ، (وطد) ، (طدى) ، ومقاييس اللغة ٦ / ١٢١ ، ومجمل اللغة ٤ / ٥٣٥ ، وتهذيب اللغة ١٤ / ٣ ، وبلا نسبة فى المخصص ١٢ / ٧١ ، وتاج العروس (طدى) ، وكتاب العين ٧ / ٤٤٣.

٤٤٧

يكون الفعل مقلوبا من وحدت إلى حدوت ، وذلك أنهم لمّا رأوا (الحادى) فى ظاهر الأمر على صورة فاعل صار كأنه جار على (حدوت) جريان غاز على غزوت ؛ كما أنهم لما استمرّ استعمالهم (الملك) بتخفيف الهمزة صار كأنّ ملكا على فعل ، فلمّا صار اللفظ بهم إلى هذا بنى الشاعر على ظاهر أمره فاعلا منه ، فقال حين ماتت نساؤه بعضهنّ إثر بعض :

غدا مالك يرمى نسائى كأنّما

نسائى لسهمى مالك غرضان (١)

يعنى ملك الموت ؛ ألا تراه يقول بعد هذا :

فيا رب عمّر لى جهيمة أعصرا

فمالك موت بالقضاء دهانى (٢)

وهذا ضرب من تدريج اللغة. وقد تقدّم الباب الذى ذكرنا فيه طريقه فى كلامهم فليضمم هذا إليه ؛ فإنه كثير جدّا.

ومثل قوله (فاحدهنّ) فى أنه مقلوب من (وحد) قول الأعرابيّة : (أخاف أن يجوهنى) (وهو) مقلوب من الوجه.

فأمّا وزن (مالك) على الحقيقة فليس فاعلا لكنه (مافل) ألا ترى أن أصل (ملك) ملأك : مفعل ، من تصريف ألكنى إليها عمرك الله ، وأصله الئكنى فخفّفت همزته ، فصار ألكنى ، كما صار (ملأك) بعد التخفيف إلى ملك ، ووزن ملك (مفل).

ومن طريف المقلوب قولهم للقطعة الصعبة من الرمل (تيهورة) وهى عندنا (فيعولة) من تهوّر الجرف ، وانهار الرمل ونحوه. وقياسها أن تكون قبل تغييرها (هيوورة) فقدّمت العين وياء (فيعول) إلى ما قبل الفاء ، فصارت (ويهورة) ثم أبدلت الواو التى هى عين مقدّمة قبل الياء تاء كتيقور (٣) ، فصارت (تيهورة) كما ترى. فوزنها على لفظها الآن (عيفولة). أنشدنا أبو على :

__________________

(١) البيت من الطويل ، وهو بلا نسبة فى لسان العرب (لأك) ، (ملك).

(٢) البيت من الطويل ، وهو بلا نسبة فى لسان العرب (لأك) ، (جهم) ، وتاج العروس (جهم).

(٣) تيقور : هو الوقار. وأصله : ويقور.

٤٤٨

خليلىّ لا يبقى على الدهر فادر

بتيهورة بين الطخاف العصائب (١)

 ـ [ويروى : الطخاف العصائب] ـ فهذا قول ؛ وهو لأبى علىّ رحمه‌الله.

ويجوز عندى أن تكون فى الأصل أيضا (تفعولة) كتعضوضة ، وتذنوبة ، فيكون أصلها على هذا (تهوورة) فقدّمت العين على الفاء إلى أن صار وزنها (تعفولة) وآل اللفظ بها إلى (توهورة) فأبدلت الواو التى هى عين مقدّمة ياء ، كما أبدلت عين (أينق) لمّا قدّمت فى أحد مذهبى الكتاب ياء فنقلت من (أنوق) إلى (أونق) ومن (أونق) تقديرا إلى (أينق) لأنها كما أعلّت بالقلب كذا أعلّت بالإبدال فصارت أينقا. وكذلك صارت توهورة (إلى تيهورة).

وإن شئت جعلتها من الياء لا من الواو ؛ فقد حكى أبو الحسن عنهم : هار الجرف يهير. ولا تحمله على طاح يطيح وتاه يتيه فى قول الخليل ؛ لقلّة ذلك ، ولأنهم قد قالوا أيضا : تهيّر الجرف ؛ فى معنى تهوّر ، وحمله على (تفعّل) أولى من حمله على (تفيعل) كتحيّز. فإذا كانت (تيهورة) من الياء على هذا القول فأصلها (تهيورة) ثم قدّمت العين التى هى الياء على الفاء فصار تيهورة. وهذا القول إنما فيه التقديم من غير إبدال. وإنما قدّمنا القول الأوّل وإن كانت كلفة الصنعة فيه أكثر ؛ لأن كون عين هذه الكلمة واوا فى اللغة أكثر من كونها ياء.

ويجوز فيه عندى وجه ثالث ، وهو أن يكون فى الأصل (يفعولة) كيعسوب ويربوع ، فيكون أصلها (يهوورة) ثم قدّمت العين إلى صدر الكلمة فصارت (ويهورة : عيفولة) ثم أبدلت الواو التى هى عين مقدّمة تاء على ما مضى فصارت (تيهورة).

__________________

(١) البيت من الطويل ، وهو لأبى ذؤيب الهذلى فى لسان العرب (عصب) ، وتاج العروس (عصب) ، وهو لصخر الغى فى لسان العرب (طخف) ، وتاج العروس (طغف) ، وهو فى شرح أشعار الهذليين ص ٢٤٦ ، من قصيدة تنسب لأبى ذؤيب ، ولصخر الغىّ ، ولأخى صخر الغىّ ، وفيه أن من يرويها لأخى صخر الغى أكثر. الطخا فالعصائب : الطخا مقصور من الطخاء وهو السحاب المرتفع الرقيق ، والعصائب جمع عصابة وهو غيم أحمر تراه فى الأفق الغربى وفى اللسان الطخاف وهما بمعنى. والغادر : الوعل المسنّ.

٤٤٩

ودعانا إلى اعتقاد القلب والتحريف فى هذه الكلمة المعنى المتقاضية هى. وذلك أن الرمل مما ينهار ، ويتهوّر ، ويهور ، ويهير ، ويتهيّر.

فإن كسّرت هذه الكلمة أقررت تغييرها [عليها] كما أن (أينقا) لما كسّرتها العرب أقرّتها على تغييرها ، فقالت : أيانق. فقياس هذا أن تقول فى تكسير (تيهورة) على كل قول وكل تقدير : تياهير. وكذلك المسموع عن العرب أيضا فى تكسيرها.

والقلب فى كلامهم كثير. وقد قدّمنا فى أوّل هذا الباب أنه متى أمكن تناول الكلمة على ظاهرها لم يجز العدول عن ذلك بها ، وإن دعت ضرورة إلى القول بقلبها كان ذلك مضطرّا إليه لا مختارا.

* * *

٤٥٠

باب فى الحرفين المتقاربين

يستعمل أحدهما مكان صاحبه

اعلم أن هذا الباب لاحق بما قبله وتال له. فمتى أمكن أن يكون الحرفان جميعا أصلين (كل واحد منهما قائم برأسه) لم يسغ العدول عن الحكم بذلك. فإن دلّ دالّ أو دعت ضرورة إلى القول بإبدال أحدهما من صاحبه عمل بموجب الدلالة ، وصيّر إلى مقتضى الصنعة.

ومن ذلك سكّر طبرزل ، وطبرزن : هما متساويان فى الاستعمال ، فلست بأن تجعل أحدهما أصلا لصاحبه أولى منك بحمله على ضدّه.

ومن ذلك قولهم : هتلت السماء ، وهتنت : هما أصلان ؛ ألا تراهما متساويين فى التصرّف ؛ يقولون : هتنت السماء تهتن تهتانا ، وهتلت تهتل تهتالا ، وهى سحائب هتّن ، وهتّل ؛ قال امرؤ القيس :

فسحّت دموعى فى الرداء كأنها

كلّى من شعيب ذات سحّ وتهتان (١)

وقال العجّاج :

عزّز منه وهو معطى الإسهال

ضرب السوارى متنه بالتهتال (٢)

ومن ذلك ما حكاه الأصمعى من قولهم : دهمج البعير يدهمج دهمجة ، ودهنج يدهنج دهنجة ، إذا قارب الخطو وأسرع ، وبعير دهامج ، ودهانج ؛ وأنشد للعجّاج :

كأنّ رعن الآل منه فى الآل

بين الضحا وبين قيل القيال

إذا بدا دهانج ذو أعدال (٣)

__________________

(١) البيت من الطويل ، وهو لامرئ القيس فى ديوانه ص ٩٠ ، وكتاب العين ١ / ٢٦٥.

(٢) الرجز للعجاج فى ديوانه ٢ / ٣١٨ ـ ٣١٩ ، ولسان العرب (ضنك) ، (هتل) ، وتهذيب اللغة ٦ / ٢٣٦ ، ١٠ / ٤١ ، وتاج العروس (عزز) ، (ضنك) ، (هتل) ، وبلا نسبة فى تهذيب اللغة ١ / ٨٣ ، ولسان العرب (عزز).

(٣) الرجز للعجاج فى ملحق ديوانه ٢ / ٣٢٠ ، ولسان العرب (دهنج) ، (قيل) ، وأمالى القالى ـ

٤٥١

وأنشد أيضا :

وعير لها من بنات الكداد

يدهنج بالوطب والمزود (١)

فأمّا قولهم : ما قام زيد بل عمرو ، وبن عمرو فالنون بدل من اللام ؛ ألا ترى إلى كثرة استعمال (بل) وقلة استعمال (بن) والحكم على الأكثر لا على الأقل.

هذا هو الظاهر من أمره. ولست مع هذا أدفع أن يكون (بن) لغة قائمة برأسها.

وكذلك قولهم : رجل (خامل) و (خامن) النون فيه بدل من اللام ؛ ألا ترى أنه أكثر ، وأن الفعل عليه تصرّف ، وذلك قولهم : خمل يخمل خمولا. وكذلك قولهم : قام زيد فمّ عمرو ، الفاء بدل من الثاء فى ثمّ ؛ ألا ترى أنه أكثر استعمالا.

فأمّا قولهم (فى الأثافى : الأثاثى) فقد ذكرناه فى كتابنا «فى سرّ الصناعة» وقال الأصمعىّ : بنات مخر وبنات بخر : سحائب يأتين قبل الصيف (بيض) منتصبات فى السماء ، قال طرفة :

كبنات المخر يمأدن إذا

أنبت الصيف عساليج الخضر (٢)

قال أبو على رحمه‌الله : كان أبو بكر يشتقّ هذه الأسماء من البخار ، فالميم على هذا فى (مخر) بدل من الباء فى (بخر) لما ذكر أبو بكر. وليس ببعيد عندى أن تكون الميم أصلا فى هذا أيضا ؛ وذلك لقول الله سبحانه : (وَتَرَى الْفُلْكَ فِيهِ مَواخِرَ) [فاطر : ١٢] أى ذاهبة (وجائية) ، وهذا أمر قد يشاركها فيه السحائب ؛ ألا ترى إلى قول الهذلىّ :

__________________

٢ / ٩١) ، وسر صناعة الإعراب ٢ / ٤٤١ ، وسمط اللآلى ص ٧٢٨ ، وتاج العروس (دهنج) ، (أول) ، وبلا نسبة فى جمهرة اللغة ص ١١٣٦ ، ١٢١١ ، وتهذيب اللغة ٦ / ٥١١ ، وكتاب العين ٤ / ١١٦ ، ومقاييس اللغة ١ / ٦١.

(١) البيت من المتقارب ، وهو للفرزدق فى ديوانه ١ / ١٧٥ ، ولسان العرب (دهنج) ، والتنبيه والإيضاح ١ / ٢٠٦ ، ٢ / ١٥ ، وتاج العروس (دهمج) ، (كدد) وبلا نسبة فى لسان العرب (دهمج) ، (كدد) ، والمخصص ١٣ / ٢٨٤.

(٢) البيت من الرمل ، وهو لطرفة فى ديوانه ص ٥٣ ، ولسان العرب (عسلج) ، (خضر) ، (مخر) ، (حبط) ، وتهذيب اللغة ٣ / ٣١٢ ، ٤ / ٣٩٦ ، ٥ / ٤٠ ، ٧ / ١٠٠ ، وكتاب العين ٢ / ٣١٥ ، وتاج العروس (خضر).

٤٥٢

شربن بماء البحر ثم ترفّعت

متى لجج خضر لهن نئيج (١)

فهذا يدل على مخالطة السحائب عندهم البحر وتركّضها فيه ، وتصرّفها على صفحة مائه. وعلى كل حال فقول أبى بكر أظهر.

ومن ذلك قولهم : باهلة بن أعصر ، ويعصر ؛ فالياء فى (يعصر) بدل من الهمزة فى (أعصر) يشهد بذلك ما ورد به الخبر من أنه إنما سمّى بذلك لقوله :

أبنىّ إن أباك غيّر لونه

كرّ الليالى واختلاف الأعصر (٢)

يريد جمع عصر. وهذا واضح.

فأمّا قولهم : إناء قربان ، وكربان إذا دنا أن يمتلئ فينبغى أن يكونا أصلين ؛ لأنك تجد لكل واحدة منهما متصرّفا ، أى قارب أن يمتلئ ، وكرب أن يمتلئ ، إلا أنهم قد قالوا : جمجمة قربى (٣) ، ولم نسمعهم قالوا (كربى). فإن غلبت القاف على الكاف من هنا فقياس ما.

وقال الأصمعى : يقال : جعشوش ، وجعسوس (٤) ، وكل ذلك إلى قمأة وقلّة وصغر ، ويقال : هم من جعاسيس الناس ، ولا يقال بالشين فى هذا. فضيق الشين مع سعة السين يؤذن بأنّ الشين بدل من السين. نعم ، والاشتقاق يعضد كون

__________________

(١) البيت من الطويل ، وهو لأبى ذؤيب الهذلى فى الأزهية ص ٢٠١ ، والأشباه والنظائر ٤ / ٢٨٧ ، وجواهر الأدب ص ٩٩ ، وخزانة الأدب ٧ / ٩٧ ـ ٩٩ ، والدرر ٤ / ١٧٩ ، وسرّ صناعة الإعراب ص ١٣٥ ، ٤٢٤ ، وشرح أشعار الهذليين ١ / ١٢٩ ، وشرح شواهد المغنى ص ٢١٨ ، ولسان العرب (شرب) ، (مخر) ، (متى) ، والمحتسب ٢ / ١١٤ ، والمقاصد النحوية ٣ / ٢٤٩ ، وبلا نسبة فى أدب الكاتب ص ٥١٥ ، والأزهية ص ٢٨٤ ، وأوضح المسالك ٣ / ٦ ، والجنى الدانى ص ٤٣ ، ٥٠٥ ، وجواهر الأدب ص ٤٧ ، ٣٧٨ ، ورصف المبانى ص ١٥١ ، وشرح الأشمونى ص ٢٨٤ ، وشرح ابن عقيل ص ٣٥٢ ، وشرح عمدة الحافظ ص ٢٦٨ ، وشرح قطر الندى ص ٢٥٠ ، والصاحبى فى فقه اللغة ص ١٧٥ ، ومغنى اللبيب ص ١٠٥ ، وهمع الهوامع ٢ / ٣٤.

(٢) البيت من الكامل ، وهو لباهلة بن أعصر فى لسان العرب (عصر) ، وتاج العروس (عصر) ، ولمنبه بن سعد بن قيس عيلان فى أساس البلاغة (عصر) ، وبلا نسبة فى لسان العرب (يبر) ، والمخصص ٦ / ٣٣.

(٣) جمجمة قربى : هى قدح من خشب يشرب فيه ، وهى أيضا ضرب من المكاييل.

(٤) جعشوش وحعسوس : هو القصير اللئيم.

٤٥٣

السين ـ غير معجمة ـ هى الأصل ، وكأنه اشتقّ من (الجعس) صفة على (فعلول) وذلك أنه شبّه الساقط المهين من الرجال بالخرء ؛ لذلّه ونتنه.

ونحو من ذلك فى البدل قولهم : فسطاط وفستاط ، وفسّاط ، وبكسر الفاء أيضا ، فذلك ست لغات. فإذا صاروا إلى الجمع قالوا (فساطيط وفساسيط) (ولا يقولون) (فساتيط) بالتاء. فهذا يدلّ أن التاء فى (فستاط) إنما هى بدل من طاء (فسطاط) أو من سين (فسّاط) فإن قلت هلا اعتزمت أن تكون التاء فى (فستاط) بدلا من طاء (فسطاط) لأن التاء أشبه بالطاء منها بالسين؟ قيل بإزاء ذلك أيضا : إنك إذا حكمت بأنها بدل من سين (فسّاط) ففيه شيئان جيّدان : أحدهما تغيير للثانى من المثلين ، وهو أقيس من تغيير الأوّل من المثلين ، لأن الاستكراه فى الثانى يكون لا فى الأوّل ؛ والآخر أن السينين فى (فسّاط) ملتقيتان ، والطاءين فى (فسطاط) منفصلتان بالألف بينهما ، واستثقال المثلين ملتقيين أحرى من استثقالهما مفترقين ، [وأيضا فإن السين والتاء جميعا مهموستان ، والطاء مجهورة].

فعلى هذا الاعتبار ينبغى أن يتلقّى ما يرد من حديث الإبدال إن كان هناك إبدال ، أو اعتقاد أصليّة الحرفين إن كانا أصلين. وعلى ما ذكرناه فى الباب الذى قبل هذا ينبغى أن تعتبر الكلمتان فى التقديم والتأخير ؛ نحو اضمحلّ وامضحلّ ، وطأمن واطمأنّ. والأمر واسع. وفيما أوردناه من مقاييسه كاف بإذن الله.

ونحن نعتقد إن أصبنا فسحة أن نشرح كتاب يعقوب بن السكّيت فى القلب والإبدال ؛ فإن معرفة هذه الحال فيه (أمثل من معرفة عشرة أمثال لغته ، وذلك أن مسألة واحدة من القياس) ، أنبل وأنبه من كتاب لغة عند عيون الناس. قال لى أبو على رحمه‌الله (بحلب) سنة ستّ وأربعين : أخطئ فى خمسين مسألة فى اللغة ولا أخطئ فى واحدة من القياس. ومن الله المعونة وعليه الاعتماد.

* * *

٤٥٤

باب فى قلب لفظ إلى لفظ بالصنعة والتلطف

 لا بالإقدام والتعجرف

أما ما طريقه الإقدام من غير صنعة فنحو ما قدّمناه آنفا من قولهم : ما أطيبه وأيطبه ، وأشياء فى قول الخليل و (قسىّ) وقوله (أخو اليوم اليمى). فهذا ونحوه طريقه طريق الاتساع فى اللغة من غير تأتّ ولا صنعة. ومثله موقوف على السماع ، وليس لنا الإقدام عليه من طريق القياس.

فأمّا ما يتأتّى له ويتطرّق إليه بالملاينة والإكثاب ، من غير كدّ ولا اغتصاب ، فهو ما (عليه عقد هذا الباب). وذلك كأن يقول لك قائل : كيف تحيل لفظ (وأيت إلى لفظ أويت) فطريقه أن تبنى من (وأيت) فوعلا ، فيصير بك التقدير فيه إلى (ووأى) فتقلب اللام ألفا لتحرّكها وانفتاح ما قبلها ، فيصير (ووأى) ثم تقلب الواو الأولى همزة ؛ لاجتماع الواوين فى أوّل الكلمة فيصير (أوأى) ثم تخفّف الهمزة فتحذفها ، وتلقى حركتها على الواو قبلها ، فيصير (أوا) اسما كان أو فعلا. فقد رأيت كيف استحال لفظ (وأى) إلى لفظ (أوا) من غير تعجرف ولا تهكّم على الحروف.

وكذلك لو بنيت مثل فوعال لصرت إلى (ووآى) ثم إلى (أوآى) ثم (أوآء) ثم تخفّف فيصير إلى (أواء) فيشبه حينئذ لفظ (آءة) (١) أو أويت. أو لفظ قوله :

* فأوّ لذكراها إذا ما ذكرتها*

وقد فعلت العرب ذلك ؛ منه قولهم : (أوار النار) وهو وهجها ولفحها ، ذهب فيه الكسائىّ مذهبا حسنا ـ وكان هذا الرجل كثيرا فى السداد والثقة عند أصحابنا ـ قال : هو (فعال) من وأرت الإرة (٢) أى احتفرتها لإضرام النار فيها. وأصلها (وآر) ثم خفّفت الهمزة فأبدلت فى اللفظ [واوا] فصارت (ووار) فلمّا التقت فى أول

__________________

(١) الآءة شجرة عندهم وأصلها : أوأة بالتحريك.

(٢) الإرة : موقد النار.

٤٥٥

الكلمة الواوان وأجرى غير اللازم مجرى اللازم أبدلت الأولى همزة فصارت (أوار) أفلا ترى إلى استحالة لفظ (وأر) إلى لفظ (أور) بالصنعة.

وقال أبو زيد فى تخفيف همزتى (افعوعلت) من (وأيت) جميعا : (أويت) وقد أوضح هذا أبو زيد وكيف صنعته (١) ، وتلاه بعده أبو عثمان فى تصريفه. وأجاز أبو عثمان أيضا فيها (وويت) [قال] لأن نيّة الهمزة فاصلة بين الواوين. فقياس هذا أن تصحّح واوى (ووار) عند التخفيف ؛ لتقديرك فيه نيّة التحقيق ؛ وعليه قال الخليل فى تخفيف (فعل) من وأيت (أوى) ؛ أفلا تراه كيف أحالته الصنعة من لفظ إلى لفظ. وكذلك لو بنيت من (أوّل) مثال (فعل) لوجب أن تقول (أول) : فتصيّرك الصنعة من لفظ (وول) إلى لفظ (أول).

ومن ذلك قول العرب : (تسرّيت) من لفظ (س ر ر) ، وقد أحالته الصنعة إلى لفظ (س ر ى). ومثله (قصّيت أظفارى) هو من لفظ (ق ص ص) ، وقد آل بالصنعة إلى لفظ (ق ص ى). وكذلك قوله :

* تقضّى البازى إذا البازى كسر (٢) *

هو فى الأصل من تركيب (ق ض ض) ، ثم أحاله ما عرض من استثقال تكريره إلى لفظ (ق ض ى). وكذلك قولهم : تلعّيت ـ من اللعاعة ـ أى خرجت أطلبها ـ وهى نبت ـ أصلها (ل ع ع) ، ثم صارت بالصنعة إلى لفظ (ل ع ى) ؛ قال :

__________________

(١) وذلك أن افعوعلت من وأيت : ايأوأيت. ثم تنقل حركة الهمزة الأولى على ما قبلها وتحذف ، وترد الياء إلى الواو الأصلية وتحذف همزة الوصل فتصير إلى ووأيت ، ثم تنقل حركة الهمزة وتحذفها فتصير إلى وويت ، ثم تبدل الواو الأولى همزة كما فى أواصل فتصير إلى أويت. انظر شرح الأشمونى على الألفية عند قول ابن مالك : وهمزا أوّل الواوين ، فى باب الإبدال.

(٢) الرجز للعجاج فى ديوانه ١ / ٤٢ ، ٤٣ ، ولسان العرب (ضبر) ، (ظفر) ، (عمر) ، وأدب الكاتب ص ٤٨٧ ، والأشباه والنظائر ١ / ٤٨ ، وإصلاح المنطق ص ٣٠٢ ، والدرر ٦ / ٢٠ ، وشرح المفصل ١٠ / ٢٥ ، والممتع فى التصريف ١ / ٣٧٤ ، والتنبيه والإيضاح ٢ / ١٥٨ ، وتاج العروس (ضبر) ، (ظفر) ، (عمر) ، (كدر) ، (كسر) (قضض) ، (بوع) ، (قضى) ، وديوان الأدب ٢ / ١٥٦ ، ١٥٨ ، ٤ / ١٣٢ ، وتهذيب اللغة ٣ / ٢٩ ، وشرح الأشمونى ٣ / ٨٧٩ ، والمقرب ٢ / ١٧١ ، وهمع الهوامع ٢ / ١٥٧.

٤٥٦

كاد اللّعاع من الحوذان يشحطها

ورجرج بين لحييها خناطيل (١)

وأشباه هذا كثير.

والقياس من بعد أنه متى ورد عليك لفظ أن تتناوله على ظاهره ، ولا تدّعى فيه قلبا ولا تحريفا ، إلا أن تضح سبيل ، أو يقتاد دليل.

ومن طريف هذا الباب قولك فى النسب إلى (محيّا» : (محوىّ) وذلك أنك حذفت الألف ؛ لأنها خامسة ، فبقى محىّ كقصىّ ، فحذفت للإضافة ما حذفت من قصىّ ، وهى الياء الأولى التى هى عين (محيّا) الأولى ، فبقى (محى) فقلبت الياء ألفا لتحرّكها وانفتاح ما قبلها فصارت (محا) كهدى. فلمّا أضفت إليها قلبت الألف واوا ، فقلت (محوىّ) كقولك فى هدى : هدوىّ. فمثال محوىّ فى اللفظ (مفعىّ) واللام على ما تقدّم محذوفة. ثم إنك من بعد لو بنيت من (ضرب) ـ على قول من أجاز الحذف فى الصحيح لضرب من الصنعة ـ مثل قولك (محوىّ) لقلت (مضرىّ) فحذفت الباء من (ضرب) كما حذفت لام (محيّا). أفلا تراك كيف أحلت بالصنعة لفظ (ضرب) إلى لفظ (مضر) فصار (مضرىّ) كأنه منسوب إلى (مضر).

وكذلك لو بنيت مثل قولهم فى النسب إلى تحيّة : (تحوىّ) من نزف أو نشف أو نحو ذلك لقلت : تنفىّ. وذلك أن (تحيّة) تفعلة ، وأصلها (تحيية) كالتسوية والتجزئة ، فلمّا نسبت إليها حذفت أشباه حرفيها بالزائد وهو العين ، أعنى الياء الأولى ، فكما تقول فى (عصيّة وقضيّة) عصوىّ وقضوىّ ، قلت أيضا فى تحيّة (تحوىّ) فوزن لفظ (تحوىّ) الآن (تفلىّ) ؛ فإذا أردت مثل ذلك من (نزف) و (نشف) قلت (تنفى) ومثالها (تفلى) ؛ إلا أنه مع هذا خرج إلى لفظ الإضافة إلى

__________________

(١) البيت من البسيط ، وهو لابن مقبل فى ديوانه ص ٣٨٧ ، ولسان العرب (رجج) ، (سحط) ، (لعع) ، والتنبيه والإيضاح ١ / ٢٠٦ ، وجمهرة اللغة ص ١٥٧ ، ٥٣١ ، ومقاييس اللغة ٢ / ٣٨٥ ، والمخصص ١٠ / ١٨٧ ، وتاج العروس (رجج) ، (حوذ) ، (سحط) ، (لعع) ، (خنطل) ، وأمالى القالى ١ / ٢٥٧ ، ولجران العواد فى ديوانه ص ٨٥. الحوذان : نبت ، يشحطها : يذبحها. الرجرج : اللعاب. خناطيل : قطع متفرقة. يصف بقرة أكل السبع ولدها ، فهى تغص بما لا يغص به من اللعاع الأخضر حتى ليكاد يذبحها ، وهى تغص أيضا باللعاب الذى يتقطع خناطيل حزنا على ولدها.

٤٥٧

تنوفة إذا قلت (تنفىّ) كقول العرب فى الإضافة إلى (شنوءة) : شنئىّ. أفلا ترى إلى الصنعة كيف تحيل لفظا إلى لفظ ، وأصلا إلى أصل.

وهذا ونحوه إنما الغرض فيه الرياضة به ، وتدرّب الفكر بتجشّمه ، وإصلاح الطبع لما يعرض فى معناه وعلى سمته. فأمّا لأن يستعمل فى الكلام (مضرىّ) من (ضرب) ، و (تنفىّ) من (نزف) فلا. ولو كان لا يخاض فى علم من العلوم إلا بما لا بدّ له من وقوع مسائله معيّنة محصلة لم يتمّ علم على وجه ، ولبقى مبهوتا بلا لحظ ، ومخشوبا بلا صنعة ؛ ألا ترى إلى كثرة مسائل الفقه والفرائض والحساب والهندسة وغير ذلك من المركّبات المستصعبات ، (وذلك) إنما يمرّ فى الفرط منها (١) الجزء النادر الفرد ، وإنما الانتفاع بها من قبل ما تقنيه النفس من الارتياض بمعاناتها.

* * *

__________________

(١) أى فى الحين. ويقال : إنما ألقى فلانا فى الفرط إذا كنت تلقاه بعد أيام. وتقول أيضا : ألقاه فى الفرط بعد الفرط أى فى الحين بعد الحين.

٤٥٨

باب فى اتفاق اللفظين واختلاف المعنيين

 فى الحروف والحركات والسكون

غرضنا من هذا الباب ليس ما جاء به الناس فى كتبهم ؛ نحو وجدت فى الحزن ، ووجدت الضالّة ، ووجدت فى الغضب ، ووجدت أى علمت ؛ كقولك : وجدت الله غالبا ، ولا كما جاء عنهم من نحو (الصدى) : الطائر يخرج من رأس المقتول إذا لم يدرك بثأره ، و (الصدى) : العطش ، و (الصدى) : ما يعارض الصوت فى الأوعية الخالية ، و (الصدى) من قولهم : فلان صدى مال ؛ أى حسن الرعية له ، والقيام عليه. ولا (هل) بمعنى الاستفهام ، وبمعنى قد ، و (أم) للاستفهام وبمعنى بل ، ونحو ذلك ؛ فإن هذا الضرب من الكلام ـ وإن كان أحد الأقسام الثلاثة عندنا التى أوّلها اختلاف اللفظين لاختلاف المعنيين ، (ويليه) اختلاف اللفظين واتّفاق المعنيين ـ كثير فى كتب العلماء ، وقد تناهبته أقوالهم ، وأحاطت بحقيقته أغراضهم. وإنما غرضنا هنا ما وراءه من القول على هذا النحو فى الحروف ، والحركات ، والسكون ، المصوغة فى أنفس الكلم من ذلك الحروف.

قد يتّفق (لفظ الحروف ويختلف معناها) وذلك نحو قولهم : درع دلاص ، وأدرع دلاص ، وناقة هجان ، ونوق هجان (١). فالألف فى دلاص فى الواحد بمنزلة الألف فى ناقة كناز ، وامرأة ضناك ، و (الألف فى دلاص) فى الجمع بمنزلة ألف ظراف ، وشراف. وذلك لأن العرب كسّرت فعالا على فعال ، كما كسرت فعيلا على فعال ؛ نحو كريم ، وكرام ، ولئيم ولئام. وعذرها فى ذلك أن فعيلا أخت فعال ، ألا ترى أن كلّ واحد منهما ثلاثىّ الأصل ، وثالثه حرف لين ، وقد اعتقبا أيضا على المعنى الواحد ، نحو كليب وكلاب ، وعبيد وعباد ، وطسيس وطساس ؛ قال الشاعر :

* قرع يد اللعّابة الطسيسا (٢) *

__________________

(١) هجان : أى بيضاء كريمة.

(٢) الرجز لرؤبة فى ديوانه ص ٧١ ، ولسان العرب (طسس) ، وجمهرة اللغة ص ١٣٣. ـ قرع يد اللعابة الطسيسا : أى أن النوم يميل الرءوس ويلعب بها ، كما يلعب اللاعب بالطسيس.

٤٥٩

فلمّا كانا كذلك ـ وإنما بينهما اختلاف حرف اللين لا غير ، ومعلوم مع ذلك قرب الياء من الألف ، وأنها أقرب إلى الياء منها إلى الواو ـ كسّر أحدهما على ما كسّر عليه صاحبه ، فقيل : درع دلاص ، وأدرع دلاص ، كما قيل : ظريف وظراف ، وشريف وشراف.

ومثل ذلك قولهم فى تكسير عذافر ، وجوالق : عذافر ، وجوالق ، وفى تكسير قناقن : قناقن ، وهداهد : هداهد ؛ قال الراعى :

كهداهد كسر الرّماة جناحه

يدعو بقارعة الطريق هديلا (١)

فألف عذافر زيادة لحقت الواحد للبناء لا غير ، وألف عذافر ألف التكسير ، كألف دراهم ، ومنابر. فألف عذافر تحذف كما تحذف نون جحنفل فى جحافل ، وواو فدوكس ، فى فداكس ، وكذلك بقيّة الباب.

وأغمض من ذلك أن تسمى رجلا بعبالّ وحمارّ ، جمع عبالة ، وحمارّة ، على حدّ قولك : شجرة وشجر ، ودجاجة ودجاج ، فتصرف ، فإن كسّرت عبالا ، وحمارّا هاتين ، قلت : حمارّ ، وعبالّ ؛ فلم تصرف ؛ لأن هذه الألف الآن ألف التكسير ، بمنزلة ألف مخادّ ، ومشادّ ، جمع مخدّة ومشدّ. أفلا نرى إلى هاتين الألفين كيف اتّفق لفظاهما واختلف معناهما ، ولذلك لم تصرف الثانى لما ذكرنا ، وصرفت الأوّل ؛ لأنه ليست ألفه للتكسير ، إنما هى كألف دجاجة ، وسمامة ، وحمامة.

ومن ذلك أن توقع فى قافية اسما لا ينصرف منصوبا فى لغة من نوّن القافية فى الإنشاد ؛ نحو قوله :

* أقلّى اللوم عاذل والعتابن (٢) *

__________________

(١) البيت من الكامل ، وهو للراعى النميرى فى ديوانه ص ٢٣٨ ، ولسان العرب (هدد) ، (هدل) ، والتنبيه والإيضاح ٢ / ٦٢ ، وجمهرة اللغة ص ١٩٤ ، وتهذيب اللغة ٥ / ٣٥٣ ، ٣٥٤ ، وكتاب العين ٣ / ٣٤٧ ، ومجمل اللغة ٤ / ٤٤٧ ، وتاج العروس (هدد) ، (هدل) ، والمخصص ٨ / ١٣٤ ، والحيوان ٣ / ٢٤٣ ، وبلا نسبة فى جمهرة اللغة ص ٦٨٣.

(٢) صدر بيت من الوافر ، وهو لجرير فى ديوانه ص ٨١٣ ، وبلا نسبة فى لسان العرب (روى).

٤٦٠