الخصائص - ج ١

أبي الفتح عثمان بن جنّي

الخصائص - ج ١

المؤلف:

أبي الفتح عثمان بن جنّي


المحقق: الدكتور عبد الحميد الهنداوي
الموضوع : اللغة والبلاغة
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ٣
ISBN: 978-2-7451-3245-1
الصفحات: ٥٤٤

فأمّا قول من قال : إن قولهم (لهنّك) إن أصله (لله إنك) فقد [تقدّم ذكرنا] ذلك مع ما عليه فيه فى موضع آخر ؛ وعلى أن أبا علىّ قد كان قوّاه بأخرة ، وفيه تعسّف.

ومن إصلاح اللفظ قولهم : كأن زيدا عمرو. اعلم أن أصل هذا الكلام : زيد كعمرو ، ثم أرادوا توكيد الخبر فزادوا فيه (إنّ) فقالوا : إنّ زيدا كعمرو ، ثم إنهم بالغوا فى توكيد التشبيه فقدّموا حرفه إلى أوّل الكلام عناية به ، وإعلاما أن عقد الكلام عليه ؛ فلمّا تقدّمت الكاف وهى جارّة لم يجز أن تباشر (إنّ) لأنها ينقطع عنها ما قبلها من العوامل ، فوجب لذلك فتحها ، فقالوا : كأنّ زيدا عمرو.

ومن ذلك أيضا قولهم : لك مال ، وعليك دين ؛ فالمال والدين هنا مبتدءان ، وما قبلهما خبر عنهما ، إلا أنك لو رمت تقديمهما إلى المكان المقدّر لهما لم يجز ؛ لقبح الابتداء بالنكرة فى الواجب ، فلمّا جفا ذلك فى اللفظ أخّروا المبتدأ وقدّموا الخبر ، وكان ذلك سهلا عليهم ، ومصلحا لما فسد عندهم. وإنّما كان تأخّره مستحسنا من قبل أنه لمّا تأخّر وقع موقع الخبر ، ومن شرط الخبر أن يكون نكرة ، فلذلك صلح به اللفظ ، وإن كنا قد أحطنا علما بأنه فى المعنى مبتدأ. فأمّا من رفع الاسم فى نحو هذا بالظرفيّة ، فقد كفى مئونة هذا الاعتذار ؛ لأنه ليس مبتدأ عنده.

فإن قلت : فقد حكى عن العرب (أمت فى حجر لا فيك) ، وقولهم : (شرّ أهرّ ذا ناب) ، وقولهم : (سلام عليك) قال الله سبحانه وتعالى : (سَلامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي) [مريم : ٤٧] ، وقال : (وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ) [المطففين : ١] ونحو ذلك. والمبتدأ فى جميع هذا نكرد مقدّمة.

قيل : أمّا قوله سلام عليك ، وويل له ، وأمت فى حجر لا فيك ، فإنه جاز لأنه ليس فى المعنى خبرا ، إنما هو دعاء ومسألة ، أى ليسلّم الله عليك ، وليلزمه الويل ، وليكن الأمت فى الحجارة لا فيك. والأمت : الانخفاض والارتفاع والاختلاف ؛ قال الله عزوجل : (لا تَرى فِيها عِوَجاً وَلا أَمْتاً) [طه : ١٠٧] أى اختلافا. ومعناه : أبقاك الله بعد فناء الحجارة ، وهى ممّا توصف بالخلود والبقاء ؛ ألا تراه كيف قال :

ما أطيب العيش لو أن الفتى حجر

تنبو الحوادث عنه وهو ملموم! (١)

__________________

(١) البيت لابن مقبل فى ديوانه ص ٢٧٣ ، وشرح شواهد المغنى ٢ / ٦٦١ ، وبلا نسبة فى لسان

٣٢١

وقال :

* بقاء الوحى فى الصمّ الصلاب*

وأمّا قولهم (شرّ أهرّ ذا ناب) فإنما جاز الابتداء فيه بالنكرة من حيث كان الكلام عائدا إلى معنى النفى ، أى ما أهرّ ذا ناب إلا شرّ ، وإنما كان المعنى هذا لأن الخبريّة عليه أقوى ؛ ألا ترى أنك لو قلت : أهرّ ذا ناب شرّ لكنت على طرف من الإخبار غير مؤكّد ، فإذا قلت : ما أهرّ ذا ناب إلا شرّ كان ذلك أوكد ؛ ألا ترى أنّ قولك : ما قام إلا زيد أوكد من قولك : قام زيد. وإنما احتيج إلى التوكيد فى هذا الموضع من حيث كان أمرا عانيا مهمّا. وذلك أن قائل هذا القول سمع هرير كلب فأضاف منه وأشفق لاستماعه أن يكون لطارق شرّ ، فقال : شرّ أهرّ ذا ناب ؛ أى ما أهرّ ذا ناب إلا شرّ ؛ تعظيما عند نفسه ، أو عند مستمعه. وليس هذا فى نفسه كأن يطرق بابه ضيف أو يلم به مسترشد. (فلمّا عناه وأهمّه ، وكّد الإخبار عنه) ، وأخرج القول مخرج الإغلاظ به والتأهيب لما دعا إليه.

ومن ذلك امتناعهم من الإلحاق بالألف إلا أن تقع آخرا ؛ نحو أرطى ، ومعزى ، وحبنطى ، وسرندى ، وزبعرى ، وصلخدى ؛ وذلك أنها إذا وقعت طرفا وقعت موقع حرف متحرّك ، فدلّ ذلك على قوّتها عندهم ، وإذا وقعت حشوا وقعت موقع الساكن فضعفت لذلك فلم تقو ، فيعلم بذلك إلحاقها بما هى على سمت متحرّكه ؛ ألا ترى أنك لو ألحقت بها ثانية ، فقلت : خاتم ملحق بجعفر لكانت مقابلة لعينه وهى ساكنة ، فاحتاطوا للّفظ بأن قابلوا بالألف فيه الحرف المتحرك ليكون أقوى لها ، وأدلّ على شدّة تمكّنها بتنوينها أيضا ، وكون ما هى فيه على (وزن أصل من الأصول له) أنها للإلحاق به. وليست كذلك ألف قبعثرى ، وضبغطرى ؛ لأنها وإن كانت طرفا ومنوّنة ، فإن المثال الذى هى فيه [لا] مصعد للأصول إليه فيلحق هذا به ، لأنه لا أصل لها سداسيّا ، فإنما ألف قبعثرى قسم من الألفات الزوائد فى أواخر الكلم ثالث ، لا للتأنيث ، ولا للإلحاق. فاعرف ذلك.

ومن ذلك أنهم لمّا (أجمعوا الزيادة) فى آخر بنات الخمسة ـ كما زادوا فى آخر

__________________

 ـ العرب (أمت) ، (نعم) ، والحيوان ٤ / ٣١٠ ، وخزانة الأدب ١١ / ٣٠٤ ، وشرح الأشمونى ٣ / ٦٠٢ ، وشرح المفصل ١ / ٨٧ ، ومغنى اللبيب ١ / ٢٧٠ ، وتاج العروس (نعم).

٣٢٢

بنات الأربعة ـ خصّوا بالزيادة فيه الألف ؛ استخفافا لها ، ورغبة فيها هناك دون أختيها : الياء والواو. وذلك أن بنات الخمسة لطولها لا ينتهى إلى آخرها إلا وقد ملّت ، فلمّا تحمّلوا الزيادة فى آخرها طلبوا أخفّ الثلاث ـ وهى الألف ـ فخصّوها بها ، وجعلوا الواو والياء حشوا فى نحو عضرفوط ، وجعفليق ؛ لأنهم لو جاءوا بهما طرفا وسداسيّين مع ثقلهما ، لظهرت الكلفة فى تجشّمهما ، وكدّت فى احتمال النطق بهما ، كلّ ذلك لإصلاح اللفظ.

ومن ذلك باب الادغام فى المتقارب ؛ نحو ودّ فى وتد ، ومن الناس (ميّقول) فى (من يقول) ، ومنه جميع باب التقريب ؛ نحو اصطبر ، وازدان ، وجميع باب المضارعة ، نحو مصدر وبابه.

ومن ذلك تسكينهم لام الفعل إذا اتّصل بها علم الضمير المرفوع ؛ نحو ضربت ، وضربن ، وضربنا. وذلك أنهم أجروا الفاعل هنا مجرى جزء من الفعل ، فكره اجتماع الحركات (الذى لا يوجد) فى الواحد. فأسكنوا اللام ، إصلاحا للّفظ فقالوا : ضربت ، ودخلنا ، وخرجتم. نعم وقد كان يجتمع فيه أيضا خمس متحركات ؛ نحو : خرجتما ، فالإسكان إذا أشدّ وجوبا. وطريق إصلاح اللفظ كثير واسع ؛ فتفطّن له.

ومن ذلك أنهم لمّا أرادوا أن يصفوا المعرفة بالجملة كما وصفوا بها النكرة (ولم) يجز أن يجروها عليها لكونها نكرة أصلحوا اللفظ بإدخال (الذى) لتباشر بلفظ حرف التعريف المعرفة ، فقالوا : مررت بزيد الذى قام أخوه ، ونحوه.

* * *

٣٢٣

باب فى تلاقى اللغة

هذا موضع لم أسمع فيه لأحد شيئا إلا لأبى علىّ رحمه‌الله.

وذلك أنه كان يقول فى باب أجمع ، وجمعاء ، وما يتبع ذلك من أكتع ، وكتعاء ، وبقيّته : إن هذا اتّفاق وتوارد وقع فى اللغة على غير ما كان فى وزنه منها. قال : لأن باب أفعل وفعلاء ، إنما هو للصفات ، وجميعها تجيء على (هذا الوضع) نكرات ؛ نحو أحمر وحمراء ، وأصفر وصفراء ، وأسود وسوداء ، وأبلق وبلقاء ، وأخرق وخرقاء. هذا كلّه صفات نكرات ، فأمّا أجمع وجمعاء ، فاسمان معرفتان وليسا بصفتين ، فإنما ذلك اتّفاق وقع بين هذه الكلم المؤكّد بها.

قال : ومثله ليلة طلقة وليال طوالق ، [قال : فليس طوالق] تكسير (طلقة) ، لأن فعلة لا تكسّر على فواعل ، وإنما طوالق جمع طالقة ، وقعت موقع جمع طلقة.

وهذا الذى قاله وجه صحيح. وأبين منه عندى وأوضح قولهم فى العلم : سلمان ، وسلمى ؛ فليس سلمان إذا من سلمى ، كسكران من سكرى. ألا ترى أن فعلان الذى يقاوده فعلى إنما بابه الصفة ، كغضبان وغضبى ، وعطشان وعطشى ، وخزيان وخزيا ، وصديان وصديا ؛ وليس سلمان ، ولا سلمى بصفتين ، ولا نكرتين ، وإنما سلمان من سلمى كقحطان من ليلى ؛ غير أنهما كانا من لفظ واحد فتلاقيا فى عرض اللغة من غير قصد لجمعهما ، ولا إيثار لتقاودهما. ألا تراك لا تقول : هذا رجل سلمان ، ولا امرأة سلمى ؛ كما تقول : هذا سكران ، وهذه سكرى ، وهذا غضبان ، وهذه غضبى. وكذلك لو جاء فى العلم (ليلان) لكان ليلان من ليلى ، كسلمان من سلمى. وكذلك لو وجد فى العلم (قحطى) لكان من قحطان كسلمى من سلمان.

وأقرب إلى ذلك من سلمان وسلمى ، قولهم فى العلم : عدوان ، والعدوى ، مصدر أعداه الجرب ونحوه. ومن ذلك قولهم : (أسعد) لبطن من العرب ؛ ليس هذا من سعدى كالأكبر من الكبرى ، والأصغر من الصغرى. وذلك أن هذا إنما هو تقاود الصفة ، وأنت لا تقول : مررت بالمرأة السّعدى ، ولا بالرجل الأسعد.

٣٢٤

فينبغى ـ على هذا ـ أن يكون أسعد من سعدى كأسلم من بشرى. وذهب بعضهم إلى أنّ أسعد تذكير سعدى ، ولو كان كذلك لكان حرى أن يجيء به سماع ، ولم نسمعهم قطّ وصفوا بسعدى ، وإنما هذا تلاق وقع بين هذين الحرفين المتّفقى اللفظ ، كما يقع هذان المثالان فى المختلفيه (١) ؛ نحو أسلم ، وبشرى.

وكذلك أيهم ويهماء ليسا كأدهم ودهماء ؛ لأمرين : أحدهما أن الأيهم الجمل الهائج ، (أو السيل) واليهماء الفلاة ؛ فهما مختلفان. والآخر أنّ أيهم لو كان مذكّر يهماء لوجب أن يأتى فيهما (يهم) كدهم ، ولم نسمع ذلك ؛ فعلمت بذلك أن هذا تلاق بين اللغة ، وأنّ أيهم لا مؤنّث له ، ويهماء لا مذكّر لها.

ومن التلاقى قولهم فى العلم : أسلم وسلمى. وليس هذا كالأكبر والكبرى ؛ لأنه ليس وصفا. فتأمّل أمثاله فى اللغة. ومثله شتّان ، وشتّى ؛ إنما هما كسرعان وسكرى.

وإنما وضعت من هذا الحديث رسما لتتنبّه على ما يجيء من مثله ، فتعلم به أنه توارد وتلاق وقع فى أثناء هذه اللغة عن غير قصد له ، ولا مراسلة بين بعضه وبعض.

وليس من هذا الباب سعد وسعدة ؛ من قبل أن هاتين صفتان مسوقتان على منهاج واستمرار. فسعد من سعدة ؛ كجلد من جلدة ، وندب (٢) من ندبة. ألا تراك تقول : هذا يوم سعد ، وهذه ليلة سعدة ؛ كما تقول : هذا شعر جعد ، وهذه جمّة جعدة. فاعرف ذلك إلى ما يليه ، وقسه بما قرّرته عليه ، بإذن الله تعالى.

* * *

__________________

(١) قول ابن جنى فى اللسان والتاج (سعد) بهذا اللفظ.

(٢) رجل ندب : خفيف فى الحاجة ، سريع ، ظريف ، نجيب ؛ وكذلك الفرس ، والجمع ندوب وندباء. اللسان (ندب).

٣٢٥

باب فى هل يجوز لنا فى الشعر

 من الضرورة ما جاز للعرب أو لا؟

سألت أبا علىّ رحمه‌الله عن هذا فقال : كما جاز أن نفيس منثورنا على منثورهم ، فكذلك يجوز لنا أن نقيس شعرنا على شعرهم. فما أجازته الضرورة لهم أجازته لنا ، وما حظرته عليهم حظرته علينا.

وإذا كان كذلك فما كان من أحسن ضروراتهم ، فليكن من أحسن ضروراتنا ، وما كان من أقبحها عندهم فليكن من أقبحها عندنا. وما بين ذلك بين ذلك.

فإن قيل : هلا لم يجز لنا متابعتهم على الضرورة ، من حيث كان القوم لا يترسّلون فى عمل أشعارهم ترسّل المولّدين ، ولا يتأنّون فيه ، ولا يتلوّمون (١) على حوكه (وعمله) ، وإنما كان أكثره ارتجالا ، قصيدا كان ، أو رجزا ، أو رملا.

فضرورتهم إذا أقوى من ضرورة المحدثين. فعلى هذا ينبغى أن يكون عذرهم فيه أوسع ، وعذر المولّدين أضيق.

قيل : يسقط هذا من أوجه : أحدها أنه ليس جميع الشعر القديم مرتجلا ، بل قد كان يعرض لهم فيه من الصبر عليه ، والملاطفة له ، والتلوّم على رياضته ، وإحكام صنعته نحو مما يعرض لكثير من المولّدين. ألا ترى إلى ما يروى عن زهير : من أنه عمل سبع قصائد فى سبع سنين ، فكانت تسمّى حوليات زهير ؛ لأنه كان يحوك القصيدة فى سنة. والحكاية فى ذلك عن ابن أبى حفصة أنه قال : كنت أعمل القصيدة فى أربعة أشهر ، وأحكّكها فى أربعة أشهر ، وأعرضها فى أربعة أشهر ، ثم أخرج بها إلى الناس. فقيل له : فهذا هو الحولى المنقّح. وكذلك الحكائد عن ذى الرمّة : أنه قال : لمّا قال :

* بيضاء فى نعج صفراء فى برج (٢) *

__________________

(١) تلوّم فى الأمر : تمكّث وانتظر. ولي فيه لومة ، أى تلوّم. والتلوّم : الانتظار والتلبث. وانظر اللسان (لوم).

(٢) صدر بيت لذى الرمة فى ديوانه ص ٣٣ ، وجمهرة اللغة ص ١٣٣١ ، وجمهرة أشعار العرب

٣٢٦

أجبل (١) حولا لا يدرى ما يقول ، إلى أن مرّت به صينيّة فضّة [قد] أشربت ذهبا فقال :

* كأنها فضّة قد مسّها ذهب (٢) *

وقد وردت أيضا بذلك أشعارهم ؛ قال ذو الرمة :

* أجنّبه المساند والمحالا (٣) *

ألا تراه كيف اعترف بتأنّيه فيه وصنعته إياه. وقال عدىّ بن الرقاع العاملىّ :

وقصيدة قد بتّ أجمع بينها

حتى أقوّم ميلها وسنادها

نظر المثقّف فى كعوب قناته

حتى يقيم ثقافه منآدها (٤)

وقال سويد بن كراع :

أبيت بأبواب القوافى كأنما

أذود بها سربا من الوحش نزّعا (٥)

__________________

 ـ ص ٩٤٥ ، والكامل ص ٩٣٤ ، وبلا نسبة فى المخصص ١ / ٩٨ ، ويروى البيت كاملا :

بيضاء فى دعج صفراء فى نعج

كأنها فضة قد مسها ذهب

(١) الإجبال : الانقطاع ، من قولهم أجبل الحافر إذا أفضى إلى الجبل أو الصخر الذى لا يحيك فيه المعول وانظر اللسان (جبل).

(٢) عجز بيت لذى الرمة فى ديوانه ص ٣٣ ، وجمهرة اللغة ص ١٣٣١ ، وجمهرة أشعار العرب ص ٩٤٥ ، والكامل ص ٩٣٤ ، وبلا نسبة فى المخصص ١ / ٩٨ ، ويروى صدره :

* كحلاء فى برج صفراء فى دعج*

(٣) عجز بيت لذى الرمّة فى ديوانه ص ١٥٣٢ ، ولسان العرب (سند) ، وجمهرة اللغة ص ١١٢٤ ، ويروى (أجانبه) مكان (أجنّبه) وصدره :

* وشعر قد أرقت له غريب*

والمساند : أى به سناد. قال ابن سيده : ساند شعره سنادا وساند فيه كلاهما : خالف بين الحركات التى تلى الأرداف فى الروىّ. وانظر اللسان (سند). و «المحال : الكلام لغير شيء ، والمستقيم كلام لشيء» قاله الخليل فى اللسان (حول).

(٤) البيت لعدى بن الرقاع فى ديوانه ص ٣٨ ، والطرائف الأدبية ص ٨٩ ، والأغانى ٩ / ٣٦٠ ، وبلا نسبة فى مقاييس اللغة ١ / ٣٨٣.

(٥) البيت لسويد بن كراع فى لسان العرب (بوب) وتاج العروس (بوب) ، والأغانى ١٢ / ٣٩٩ ، والشعر والشعراء ص ٦٣٩.

٣٢٧

وإنما يبيت عليها لخلوّه بها ، ومراجعته النظر فيها. وقال :

أعددت للحرب التى أعنى بها

قوافيا لم أعى باجتلابها

حتى إذا أذللت من صعابها

واستوسقت لى صحت فى أعقابها

فهذا ـ كما ترى ـ مزاولة ومطالبة واغتصاب لها ومعاناة كلفة بها.

ومن ذلك الحكاية عن الكميت وقد افتتح قصيدته التى أوّلها :

* ألا حيّيت عنّا يا مدينا (١) *

ثم أقام برهة لا يدرى بما ذا يعجّز (٢) على هذا الصدر ، إلى أن دخل حمّاما وسمع إنسانا دخله ، فسلّم على أخر فيه ، فأنكر ذلك عليه ، فانتصر بعض الحاضرين له فقال : وهل بأس بقول المسلّمين ؛ فاهتبلها الكميت فقال :

* وهل بأس بقول مسلّمينا (٣) *

ومثل هذا فى أشعارهم الدّالة على الاهتمام بها ، والتعب فى إحكامها كثير معروف. فهذا وجه.

وثان : أن من المحدثين أيضا من يسرع العمل ولا يعتاقه بطء ، ولا يستوقف فكره ، ولا يتعتع خاطره. فمن ذلك ما حدّثنى به من شاهد المتنبى وقد حضر عند أبى على الأوارجىّ ، وقد وصف له طردا (٤) كان فيه وأراده على وصفه ، فأخذ الكاغد والدواة واستند إلى جانب المجلس ـ وأبو على يكتب كتابا ـ فسبقه المتنبى فى كتبه الكتاب فقطعه عليه ثم أنشده.

__________________

(١) صدر بيت للكميت فى ديوانه ٢ / ١١٤ ، ولسان العرب (عجز) والفاخر ص ٢ ، وخزانة الأدب ١ / ١٧٩ ، وعجزه :

* وهل بأس بقول مسلمينا*

(٢) عجّز الشاعر : جاء بعجز البيت. والقصة فى اللسان (عجز).

(٣) عجز بيت للكميت فى ديوانه ٢ / ١١٤ ، ولسان العرب (عجز) والفاخر ص ٢ ، وخزانة الأدب ١ / ١٧٩ ، وصدره :

* ألا حيّيت عنا يا مدينا*

(٤) الطرد : ممارسة الصيد ، وفى الحديث : كنت أطارد حيّة ، أى أخدعها لأصيدها ؛ ومنه طراد الصيد. وانظر اللسان (طرد).

٣٢٨

* ومنزل ليس لنا بمنزل (١) *

وهى طويلة مشهورة [فى شعره].

وحضرت أنا مجلسا لبعض الرؤساء ليلة وقد جرى ذكر السرعة وتقدّم البديهة ، وهنالك حدث من غير شعراء بغداد ، فتكفّل أن يعمل فى ليلته تلك مائتى بيت فى ثلاث قصائد على أوزان اختزناها عليه ومعان حددناها له ؛ فلما كان الغد فى آخر النهار أنشدنا القصائد الثلاث على الشرط والاقتراح ، وقد صنعها وظاهر إحكامها وأكثر من البديع المستحسن فيها.

وثالث : كثرة ما ورد فى أشعار المحدثين من الضرورات ؛ كقصر الممدود ، وصرف ما لا ينصرف ، وتذكير المؤنّث ونحوه. وقد حضر ذلك وشاهده جلّة أصحابنا من أبى عمرو إلى آخر وقت ، والشعراء من بشّار إلى فلان وفلان ، ولم نر أحدا من هؤلاء العلماء أنكر على أحد من المولّدين ما ورد فى شعره من هذه الضرورات التى ذكرناها وما كان نحوها ؛ فدلّ ذلك على رضاهم به وترك تناكرهم إيّاه.

فإن قلت : فقد عيب بعضهم كأبى نواس وغيره فى أحرف أخذت عليهم ، قيل : هذا كما عيب الفرزدق وغيره فى أشياء استنكرها أصحابنا. فإذا جاز عيب أرباب اللغة وفصحاء شعرائنا كان مثل ذلك فى أشعار المولّدين أحرى بالجواز.

فإذا كانوا قد عابوا بعض ما جاء به القدماء فى غير الشعر بل فى حال السّعة وموقف الدّعة كان ما يرد من المولّدين فى الشعر ـ وهو موقف فسحة وعذر ـ أولى بجواز مثله.

فمن ذلك استنكارهم همز مصائب ، وقالوا : منارة ومنائر ، ومزادة ومزائد ؛ فهمزوا ذلك فى الشعر وغيره ؛ وعليه قال الطرمّاح :

__________________

(١) البيت للراعى النميرى فى ديوانه ص ٨٨ ، ولسان العرب (حفد) ، (سوف) ، (سيف) ، ومقاييس اللغة ٣ / ١٢٢ ، ومجمل اللغة ٣ / ١٠٨ ، وتهذيب اللغة ٤ / ٤٢٧ ، ١٣ / ٩٣ ، وتاج العروس (حفد) ، (سوف) ، وبلا نسبة فى المخصص ١٠ / ١٠ وديوان الأدب ٢ / ٢٩١ ، وورد عجزه برواية أخرى هى :

* أخبّ بهنّ المخلفان وأحفدا*

٣٢٩

مزائد خرقاء اليدين مسيفة

يخبّ بها مستخلف غير آئن (١)

وإنما الصواب مزاود ، ومصاوب ، ومناور ؛ قال :

يصاحب الشيطان من يصاحبه

فهو أذى جمّة مصاوبه (٢)

ومن ذلك قولهم فى غير الضرورة : ضبب البلد : كثر ضبابه. وألل السقاء : تغيّرت ريحه. ولححت عينه : التصقت ، ومششت الدابّة (٣). وقالوا : إن الفكاهة مقودة إلى الأذى. وقرأ بعضهم (٤) : (لَمَثُوبَةٌ مِنْ عِنْدِ اللهِ خَيْرٌ) [البقرة : ١٠٣] ، وقالوا : كثرة الشراب مبولة ، وكثرة الأكل منومة ، وهذا شيء مطيبة للنفس ، وهذا طريق مهيع ؛ إلى غير ذلك مما جاء فى السّعة ومع غير الضرورة. وإنما صوابه : لحّت عينه ، وضبّ البلد ، وألّ السقاء ، ومشّت الدابّة ، ومقادة إلى الأذى ، ومثابة ، ومبالة ، ومنامة ، ومطابة ، ومهاع.

فإذا جاز هذا للعرب عن غير حصر ولا ضرورة قول كان استعمال الضرورة فى الشعر للمولّدين أسهل ، وهم فيه أعذر.

فأمّا ما يأتى عن العرب لحنا فلا نعذر فى مثله مولدا.

فمن ذلك بيت الكتاب :

وما مثله فى الناس إلا مملّكا

أبو أمّه حىّ أبوه يقاربه (٥)

__________________

(١) قبله :

كأن العيون المرسلات عشية

شآبيب دمع العبرة المتحاتن

المتحاتن : المتتابع ، وشآبيب الدمع : دفعاته ، واحدها شؤبوب. (نجار). مزائد : جمع مزادة وهى قربة يوضع فيها الماء. قال ابن سيده : كذا وجدناه بخط ابن حمزة مزائد ، مهموز. وأساف الخرز يسيفه إسافة : خرمه. وانظر اللسان (سوف). الآئن : من الأون وهو الراحة. وانظر اللسان (أون) ويخبّ بضم الياء من الإخباب وهو الإسراع فى المشى.

(٢) الرجز بلا نسبة فى لسان العرب (أذى) وتاج العروس (أذى). الأذىّ : الشديد التأذى ، وقيل : هو المؤذى. وفى رواية اللسان (أذى): «حمة» ، بالحاء المهملة.

(٣) المشش : ورم يأخذ فى مقدم عظم الوظيف أو باطن الساق فى إنسيّه. وانظر اللسان (مشش).

(٤) وفى البحر المحيط (١ / ٥٠٤) : وقرأ قتادة ، وأبو السمال ، وعبد الله بن بريدة : بسكون الثاء كمشورة. الآية ١٠٣ / البقرة.

(٥) البيت للفرزدق فى لسان العرب (ملك) ومعاهد التنصيص ١ / ٤٣.

٣٣٠

ومراده فيه معروف ، وهو فيه غير معذور. ومثله فى الفصل قول الآخر ـ (فيما) أنشده ابن الأعرابىّ ـ :

فأصبحت بعد خطّ بهجتها

كأنّ قفرا رسومها قلما (١)

أراد : فأصبحت بعد بهجتها قفرا كأن قلما خطّ رسومها ؛ فأوقع من الفصل والتقديم والتأخير ما تراه.

وأنشدنا أيضا :

فقد والشكّ بيّن لى عناء

بوشك فراقهم صرد يصيح (٢)

أراد : فقد بيّن لى صرد يصيح بوشك فراقهم والشكّ عناء. فقد ترى إلى ما فيه من الفصول التى لا وجه (لها ولا لشيء منها).

وأغرب من ذلك وأفحش وأذهب فى القبح قول الآخر :

لها مقلتا حوراء طلّ خميلة

من الوحش ما تنفكّ ترعى عرارها (٣)

أراد : لها مقلتا حوراء من الوحش ما تنفكّ ترعى خميلة طلّ عرارها. فمثل هذا لا نجيزه للعربىّ أصلا ، فضلا عن أن نتّخذه للمولّدين رسما.

وأمّا قول الآخر :

معاوى لم ترع الأمانة فارعها

وكن حافظا لله والدين شاكر (٤)

فحسن جميل ؛ وذلك أنّ (شاكر) هذه قبيلة ، وتقديره : معاوى لم ترع الأمانة شاكر ، فارعها أنت وكن حافظا لله والدين. فأكثر ما فى هذا الاعتراض بين الفعل والفاعل ، والاعتراض للتسديد قد جاء بين الفعل والفاعل ، وبين المبتدأ والخبر ،

__________________

(١) البيت لذى الرمّة فى ملحق ديوانه ص ١٩٠٩ ، وبلا نسبة فى الإنصاف ٢ / ٤٣١ ، وخزانة الأدب ٤ / ٤١٨ ، ولسان العرب (خطط).

(٢) البيت بلا نسبة فى رصف المبانى ص ٣٩٣ ، وشرح شواهد المغنى ص ٤٨٩ ، ومغنى اللبيب ص ١٧١ ، ويروى صدره :

* فقد والله بيّن لى عنائى*

(٣) البيت بلا نسبة فى كتاب العين ١ / ٨٦ ، ويروى (أدماء) مكان (حوراء).

(٤) البيت بلا نسبة فى لسان العرب (شكر).

٣٣١

وبين الموصول والصلة ، وغير ذلك ، مجيئا كثيرا فى القرآن ، وفصيح الكلام.

ومثله من الاعتراض بين الفعل والفاعل قوله :

وقد أدركتنى ـ والحوادث جمّة ـ

أسنّة قوم لا ضعاف ولا عزل (١)

والاعتراض فى هذه اللغة كثير حسن. ونحن نفرد له بابا يلى هذا الباب ، بإذن الله سبحانه وتعالى.

ومن طريف الضرورات وغريبها ووحشيّها وعجيبها ما أنشده أبو زيد من قول الشاعر :

هل تعرف الدار ببيدا إنّه

دار لخود قد تعفّت إنّه

فانهلّت العينان تسفحنّه

مثل الجمان جال فى سلكنّه

لا تعجبى منّا سليمى إنه

إنا لحلالون بالثغرنّه

وهذه الأبيات قد شرحها أبو علىّ رحمه‌الله فى البغداديّات ، فلا وجه لإعادة ذلك هنا. فإذا آثرت معرفة ما فيها فالتمسه منها.

وكذلك ما أنشده أيضا أبو زيد للزفيان السعدىّ :

يا إبلى ما ذامه فتأبيه

ماء رواء ونصىّ حوليه

هذّا بأفواهك حتى تأبيه

حتى تروحى أصلا تباريه

تبارى العانة فوق الزازيه (٢)

هكذا روينا عن أبى زبد ، وأمّا الكوفيون فرووه على خلاف هذا ؛ يقولون :

__________________

(١) البيت لجويرية بن زيد فى الدرر ٤ / ٢٥ ، ولرجل من بنى دارم فى شرح شواهد المغنى ٢ / ٨٠٧ ، وبلا نسبة فى سر صناعة الإعراب ١ / ١٤٠ ، ولسان العرب (هيم) ، ومغنى اللبيب ٢ / ٣٨٧ ، وهمع الهوامع ١ / ٣٤٨.

(٢) الرجز للزفيان السعدى فى ديوانه ص ١٠٠ ، ولسان العرب (زيز) وتاج العروس (زيز) ، وبلا نسبة فى تهذيب اللغة ٥ / ٢٤١ ، ١٣ / ٢٧٠ ، ٢٧٩ ، ١٥ / ٣١٣ ، وتاج العروس (زبى). والنّصىّ : نبت معروف ، يقال له نصىّ ما دام رطبا ، فإذا ابيض فهو الطريفة فإذا اضخم ويبس فهو الحلىّ ، والنصىّ نبت ناعم من أفضل المرعى. وانظر اللسان (نصا) والعانة : القطيع من حمر الوحش. والزازية : الأرض الغليظة.

٣٣٢

فتأبيه ، ونصىّ حوليه ، وحتى تأبيه ، وفوق الزازية. فينشدونه من السريع لا من الرجز كما أنشده أبو زيد. وقد ذكرت هذه الأبيات بما يجب فيها فى كتابى «فى النوادر الممتعة» ومقداره ألف ورقة. وفيه من كلتا الروايتين صنعة طريفة.

وأخبرنا محمد بن الحسن عن أحمد بن يحيى ـ أحسبه عن ابن الأعرابىّ ـ بقول الشاعر :

وما كنت أخشى الدهر إحلاس مسلم

من الناس ذنبا جاءه وهو مسلما (١)

وقال فى تفسيره معناه : ما كنت أخشى الدهر إحلاس مسلم مسلما ذنبا جاءه وهو ، ولو وكّد الضمير فى جاء فقال : جاءه هو وهو ، لكان أحسن. وغير التوكيد أيضا جائز.

وأبيات الإعراب كثيرة ، وليس على ذكرها وضعنا هذا الباب. ولكن اعلم أن البيت إذا تجاذبه أمران : زيغ الإعراب ، وقبح الزّحاف ، فإن الجفاة الفصحاء لا يحفلون بقبح الزحاف إذا أدّى إلى صحّة الإعراب. كذلك قال أبو عثمان ، وهو كما ذكر. وإذا كان الأمر كذلك فلو قال فى قوله :

* ألم يأتيك والأنباء تنمى (٢) *

__________________

(١) البيت بلا نسبة فى لسان العرب (حلس).

(٢) صدر بيت لقيس بن زهير فى الأغانى ١٧ / ١٣١ ، وخزانة الأدب ٨ / ٣٥٩ ، ٣٦١ ، ٣٦٢ ، الدرر ١ / ١٦٢ ، وشرح أبيات سيبويه ١ / ٣٤٠ ، وشرح شواهد الشافية ص ٤٠٨ ، وشرح شواهد المغنى ص ٣٢٨ ، ٨٠٨ ، والمقاصد النحويّة ١ / ٢٣٠ ، ولسان العرب (أتى) وبلا نسبة فى أسرار العربية ص ١٠٣ ، والأشباه والنظائر ٥ / ٢٨٠ ، والإنصاف ١ / ٣٠ ، وأوضح المسالك ١ / ٦ ، والجنى الدانى ص ٥٠ ، وجواهر الأدب ص ٥٠ وخزانة الأدب ٩ / ٥٢٤ ، ورصف المبانى ص ١٤٩ ، وسر صناعة الإعراب ١ / ٨٧ ، ٢ / ٦٣١ ، وشرح الأشمونى ١ / ١٦٨ وشرح شافية ابن الحاجب ٣ / ١٨٤ ، وشرح المفصل ٨ / ٢٤ ، ١٠ / ١٠٤ ، والكتاب ٣ / ٣١٦ ، ولسان العرب (قدر) (رضى) ، (شظى) ، (يا) والمحتسب ١ / ٦٧ ، ٢١٥ ، ومغنى اللبيب ١ / ١٠٨ ، ٢ / ٣٨٧ ، والمقرب ١ / ٥٠ ، ٢٠٣ ، والممتع فى التصريف ٢ / ٥٣٧ ، والمنصف ٢ / ٨١ ، ١١٤ ، ١١٥ ، وهمع الهوامع ١ / ٥٢ وعجز البيت :

* بما لاقت لبون بنى زياد*

٣٣٣

* ألم يأتك والأنباء تنمى*

لكان أقوى قياسا ، على ما رتّبه أبو عثمان ؛ ألا ترى أن الجزء كان يصير منقوصا ، لأنه يرجع إلى مفاعيل : ألم يأت مفاعيل.

وكذلك بيت الأخطل :

كلمع أيدى مثاكيل مسلّبة

يندبن ضرس بنات الدهر والخطب (١)

أقوى القياسين على ما مضى أن ينشد «مثاكيل» غير مصروف ؛ لأنه يصير الجزء فيه من مستفعلن إلى مفتعلن ، وهو مطوىّ ، والذى روى «مثاكيل» بالصرف. وكذلك بقيّة هذا.

فإن كان ترك زيغ الإعراب يكسر البيت كسرا ، لا يزاحفه زحافا ، فإنه لا بدّ من ضعف زيغ الإعراب واحتمال ضرورته ، وذلك كقوله :

* سماء الإله فوق سبع سمائيا (٢) *

فهذا لا بدّ من التزام ضرورته ؛ لأنه لو قال : سمايا لصار من الضرب الثانى إلى الثالث ، وإنما مبنى هذا الشعر على الضرب الثانى لا الثالث. وليس كذلك قوله :

أبيت على معارى فاخرات

بهن ملوّب كدم العباط (٣)

__________________

 ـ أى تلبس السلاب والسّلب ، وهى ثياب سود تلبسها النساء فى المأتم ، واحدتها سلبة. والخطب : إنما أراد الخطوب ؛ جمع الخطب وهو الأمر أو الشأن ، فحذف تخفيفا ، وقد يكون من باب رهن ورهن. وانظر اللسان (سلب) ، (خطب).

(١) البيت للأخطل فى ديوانه ص ٢٨٧ ، والأشباه والنظائر ٢ / ٦١ ، وسر صناعة الإعراب ٢ / ٦٣٢ ، ولسان العرب (خطب) (ضرس) ، (ثكل) ، (نجم) ، المحتسب ١ / ١٩٩ ، ٢٠٠ ، ٢ / ٨ ، والمنصف ١ / ٣٤٨.

(٢) عجز بيت لأمية بن أبى الصلت فى ديوانه ص ٧٠ ، وخزانة الأدب ١ / ٢٤٤ ، ٢٤٧ ، وشرح أبيات سيبويه ٢ / ٣٠٤ ، والكتاب ٣ / ٣١٥ ، ولسان العرب (سما) وبلا نسبة فى الأشباه والنظائر ٢ / ٣٣٧ ، وما ينصرف وما لا ينصرف ص ١١٥ ، والمقتضب ١ / ١٤٤ ، والممتع فى التصريف ٢ / ٥١٣ ، والمنصف ٢ / ٦٦ ، ٦٨ ، ويروى صدره :

* له ما رأت عين البصير وفوقه*

(٣) البيت للمتنخل الهذلى فى شرح أشعار الهذليين ٣ / ١٢٦٨ ، وشرح ديوان الحماسة للمرزوقى ص ٩٩٣ ، ولسان العرب (لوب) ، (عرا) ، وللهذلى فى الكتاب ٣ / ٣١٣ ، والمنصف ٢ / ٦٧ ،

٣٣٤

لأنه لو قال : معار لما كسر الوزن ؛ لأنه إنما كان يصير من مفاعلتن إلى مفاعيلن ، وهو العصب. لكن مما لا بدّ من التزام ضرورته مخافة كسر وزنه قول الآخر :

خريع دوادى فى ملعب

تأزّر طورا وترخى الإزارا (١)

فهذا لا بدّ من تصحيح معتلّه ؛ ألا ترى أنه لو أعلّ اللام وحذفها فقال دواد ، لكسر البيت البتّة.

فاعرف إذا حال ضعف الإعراب الذى لا بدّ من التزامه مخافة كسر البيت ، ومن الزحاف الذى يرتكبه الجفاة الفصحاء إذا أمنوا كسر البيت ، ويدعه من حافظ على صحّة الوزن من غير زحاف ؛ وهو كثير. فإن أمنت كسر البيت اجتنبت ضعف الإعراب ، وإن أشفقت من كسره ألبتّة دخلت تحت كسر الإعراب.

* * *

__________________

 ـ ٧٥ ، ٣ / ٦٧ ، وتاج العروس (عرا) ، وبلا نسبة فى لسان العرب (عبط) ، (سما). الخريع : الناعمة مع فجور ، والجمع خروع وخرائع. والدوادىّ : آثار أراجيح الصبيان ، واحدتها دوداة. اللسان (دود) والدوداة : الأرجوحة وقيل : هى صوت الأرجوحة. القاموس.

(١) البيت للكميت بن زيد فى ديوانه ١ / ١٩٠ ، ولسان العرب (دوا) ، والمقتضب ١ / ١٤٤ ، وبلا نسبة فى ما ينصرف وما لا ينصرف ص ١١٤ ، والممتع فى التصريف ٢ / ٥٥٦ ، والمنصف ٢ / ٦٨ ، ٨٠ ، ٣ / ٦٨ ، ٧٩.

٣٣٥

باب فى الاعتراض

اعلم أنّ هذا القبيل من هذا العلم كثير ، قد جاء فى القرآن ، وفصيح الشعر ، ومنثور الكلام. وهو جار عند العرب مجرى التأكيد ، فلذلك لا يشنع عليهم ، ولا يستنكر عندهم ، أن يعترض به بين الفعل وفاعله ، والمبتدأ وخبره ، وغير ذلك ممّا لا يجوز الفصل (فيه) بغيره ، إلا شاذّا أو متأوّلا. قال الله سبحانه وتعالى : (فَلا أُقْسِمُ بِمَواقِعِ النُّجُومِ. وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ. إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ) [الواقعة : ٧٥ ـ ٧٧] فهذا فيه اعتراضان : أحدهما قوله (وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ) لأنه اعترض به بين القسم الذى هو قوله (فَلا أُقْسِمُ بِمَواقِعِ النُّجُومِ) وبين جوابه الذى هو قوله (إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ) وفى نفس هذا الاعتراض اعتراض آخر ، بين الموصوف الذى هو (قسم) وبين صفته التى هى (عظيم) وهو قوله (لَوْ تَعْلَمُونَ). فذانك اعتراضان كما ترى. ولو جاء الكلام غير معترض فيه لوجب أن يكون : فلا أقسم بمواقع النجوم ، إنه لقرآن كريم ، وإنه لقسم [عظيم لو تعلمون].

ومن ذلك (قول امرئ القيس) :

ألا هل أتاها ـ والحوادث جمّة ـ

بأن امرأ القيس بن تملك بيقرا (١)

فقوله : «والحوادث جمّة» اعتراض بين الفعل وفاعله. ومثله قوله :

* ألا هل أتاها والحوادث كالحصى*

وأنشدنا أبو علىّ :

وقد أدركتنى ـ والحوادث جمّة ـ

أسنّة قوم لا ضعاف ولا عزل (٢)

__________________

(١) البيت لامرئ القيس فى ديوانه ص ٣٩٢ ، وخزانة الأدب ٩ / ٥٢٤ ، ٥٢٥ ، ٥٢٧ ، وسمط اللآلى ص ٤٠ ، وشرح المفصل ٨ / ٢٣ ، ولسان العرب (بقر) ، (شظى) والمنصف ١ / ٨٤ ، وبلا نسبة فى الإنصاف ١ / ١٧١ ، والجنى الدانى ص ٥٠.

(٢) البيت لجويرية بن زيد فى الدرر ٤ / ٢٥ ، ولرجل من بنى دارم فى شرح شواهد المغنى

٣٣٦

فهذا كله اعتراض بين الفعل وفاعله. وأنشدنا أيضا :

ذاك الذى ـ وأبيك ـ تعرف مالك

والحقّ يدفع ترّهات الباطل (١)

فقوله : «وأبيك» اعتراض بين الموصول والصلة. وروينا لعبيد الله بن الحرّ :

تعلّم ولو كاتمته الناس أننى

عليك ـ ولم أظلم ـ بذلك عاتب (٢)

فقوله : «ولو كاتمته الناس» اعتراض بين الفعل ومفعوله ، وقوله : «ولم أظلم بذلك» اعتراض بين اسم أن وخبرها.

ومن ذلك قول أبى النّجم ـ أنشدناه ـ :

وبدّلت ـ والدهر ذو تبدّل ـ

هيفا دبورا بالصبا والشّمأل (٣)

فقوله : «والدهر ذو تبدّل» اعتراض بين المفعول الأوّل والثانى.

ومن الاعتراض قوله :

ألم يأتيك ـ والأنباء تنمى ـ

بما لاقت لبون بنى زياد (٤)

فقوله : «والأنباء تنمى» اعتراض بين الفعل وفاعله. وهذا أحسن مأخذا فى الشعر من أن يكون فى «يأتيك» ضمير (من متقدّم مذكور).

فأمّا ما أنشده أبو علىّ من قول الشاعر :

__________________

 ـ ٢ / ٨٠٧ ، وبلا نسبة فى سر صناعة الإعراب ١ / ١٤٠ ، ولسان العرب (هيم) ، ومغنى اللبيب ٢ / ٣٨٧ ، وهمع الهوامع ١ / ٣٤٨.

(١) البيت لجرير فى ديوانه ص ٥٨٠ ، والدرر ١ / ٢٨٧ ، وشرح شواهد المغنى ٢ / ٨١٧ ، وبلا نسبة فى لسان العرب (تره) ، ومغنى اللبيب ٢ / ٣٩١ ، والمقرب ١ / ٦٢ ، وهمع الهوامع ١ / ٨٨ ، ٢٤٧ ، وتاج العروس (تره).

(٢) البيت بلا نسبة فى أساس البلاغة (غمض) ، وتاج العروس (غمض).

(٣) الرجز لأبى النجم فى خزانة الأدب ٢ / ٣٩١ ، وشرح شواهد المغنى ١ / ٤٥٠ ، ٢ / ٨٠٨ ، والطرائف الأدبية ص ٥٨ ، وبلا نسبة فى لسان العرب (بدل) ، والدرر ٤ / ٢٦ ، ومغنى اللبيب ٣ / ٣٨٧ ، وهمع الهوامع ١ / ٢٤٨. الهيف : ريح حارة تأتى من قبل اليمن.

(٤) سبق.

٣٣٧

أتنسى ـ لا هداك الله ـ ليلى

وعهد شبابها الحسن الجميل!

كأنّ ـ وقد أتى حول جديد ـ

أثافيها حمامات مثول (١)

فإنه لا اعتراض فيه. وذلك أن الاعتراض لا موضع له من الإعراب ، ولا يعمل فيه شيء من الكلام المعترض به بين بعضه وبعض على ما تقدّم. فأمّا قوله :

«وقد أتى حول جديد» فذو موضع من الإعراب ، وموضعه النصب بما فى «كأنّ» من معنى التشبيه ؛ ألا ترى أن معناه : أشبهت وقد أتى حول جديد حمامات مثولا ، أو أشبّهها وقد مضى حول جديد بحمامات مثول ، أى أشبّهها فى هذا الوقت وعلى هذه الحال بكذا.

وأنشدنا :

أرانى ـ ولا كفران لله أيّة

لنفسى ـ لقد طالبت غير منيل (٢)

ففى هذا اعتراضان (٣) : أحدهما ـ «ولا كفران لله». والآخر ـ قوله : «أيّة» أى أويت لنفسى أيّة ؛ معناه رحمتها ورققت لها. فقوله : أويت لها لا موضع له من الإعراب. وسألنا الشجرىّ أبا عبد الله يوما عن فرس كانت له ؛ فقال : هى بالبادية. قلنا لم؟ قال : إنها وجية (٤) ، فأنا آوى لها ؛ أى أرحمها وأرقّ لها. وكذلك قول الآخر :

أرانى ولا كفران لله إنّما

أواخى من الأقوام كلّ بخيل (٥)

_________________

(١) الثانى منهما لأبى الغول الطهوى فى الدرر ٤ / ٢٧ وشرح شواهد المغنى ٢ / ٨١٨ ، ونوادر أبى زيد ص ١٥١ ، وبلا نسبة فى لسان العرب (ثفا) ومغنى اللبيب ٢ / ٣٩٢ ، والمنصف ٢ / ١٨٥ ، ٣ / ٨٢ ، وهمع الهوامع ١ / ٢٤٨ ، وتاج العروس (ثفا).

(٢) البيت لابن الدمينة فى ديوانه ص ٨٦ ، ولكثير عزة فى الدرر ٢ / ٢٢٧ ، وبلا نسبة فى شرح شواهد المغنى ٢ / ٨٢٠ ، ولسان العرب (أوا) ومغنى اللبيب ٢ / ٣٩٤ ، وتهذيب اللغة ١٥ / ٦٥١ ، وهمع الهوامع ١ / ١٤٧ ، وتاج العروس (أوا).

(٣) ذكر ابن هشام فى المغنى فى مبحث الجملة المعترضة : أن أبا على لا يجيز الاعتراض بأكثر من جملة ، وأوّل هذا البيت ، وترى ابن جنى هنا على خلافه ، ولم ينبه عليه. (نجار).

(٤) الوجا : أن يشتكى البعير باطن خفّه والفرس باطن حافره. اللسان (وجا).

(٥) البيت لكثير عزة فى ديوانه ص ٥٠٨ ، وشرح المفصل ٨ / ٥٥ ، والكتاب ٣ / ١٣١ ، وبلا نسبة فى الدرر ٤ / ٢٤ ، وهمع الهوامع ١ / ٢٤٧.

٣٣٨

ومن الاعتراض قولهم : زيد ـ ولا أقول إلا حقّا ـ كريم. وعلى ذلك مسئلة الكتاب : إنه ـ المسكين ـ أحمق ؛ ألا ترى أن تقديره : إنه أحمق ، وقوله «المسكين» أى هو المسكين ؛ وذلك اعتراض بين اسم إنّ وخبرها. ومن ذلك مسألته : «لا أخا ـ فاعلم ـ لك». فقوله : «فاعلم» اعتراض بين المضاف والمضاف إليه ، كذا الظاهر.

وأجاز أبو علىّ رحمه‌الله أن يكون «لك» خبرا ، ويكون «أخا» اسما مقصورا تامّا غير مضاف ؛ كقولك : لا عصا لك. ويدلّ على صحّة هذا القول أنهم قد كسّروه على أفعال ، وفاؤه مفتوحة ؛ فهو إذا فعل ، وذلك قولهم : أخ وآخاء فيما حكاه يونس.

وقال بعض آل المهلّب :

وجدتم بنيكم دوننا إذ نسبتم

وأىّ بنى الآخاء تنبو مناسبه! (١)

فغير منكر أن يخرج واحدها على أصله ، كما خرج واحد الآباء على أصله ؛ وذلك قولهم : هذا أبا ، ورأيت أبا ، ومررت بأبا. وروينا عن محمد بن الحسن عن أحمد بن يحيى ، قال : يقال هذا أبوك ، وهذا أباك ، وهذا أبك ؛ فمن قال : هذا أبوك ، أو أباك ، فتثنيته أبوان ، ومن قال هذا أبك ، فتثنيته أبان ، وأبوان. وأنشد :

سوى أبك الأدنى وإنّ محمدا

علا كلّ عال يا بن عمّ محمد (٢)

وأنشد أبو علىّ عن أبى الحسن :

تقول ابنتى لمّا رأتنى شاحبا

كأنك فينا يا أبات غريب (٣)

قال : فهذا تأنيث أبا ، وإذا كان كذلك جاز جوازا حسنا أن يكون قولهم : لا أبا لك «أبا» منه اسم مقصور كما كان ذلك فى «أخا لك». ويحسّنه أنك إذا حملت الكلام عليه جعلت له خبرا ، ولم يكن فى الكلام فصل بين المضاف والمضاف إليه بحرف الجرّ ؛ غير أنه يؤنّس بمعنى إرادة الإضافة قول الفرزدق :

__________________

(١) البيت بلا نسبة فى سر صناعة الإعراب ص ١٥٠ ، ولسان العرب (أخا).

(٢) البيت بلا نسبة فى لسان العرب (أبى) ، وتاج العروس (أبى).

(٣) البيت لأبى الحدرجان فى نوادر أبى زيد ص ٢٣٩ ، وبلا نسبة فى الدرر ١ / ٢٣٣ ، ولسان العرب (أبى) ، والمقاصد النحوية ٤ / ٢٥٣ ، وهمع الهوامع ٢ / ١٥٧.

٣٣٩

* ظلمت ولكن لا يدى لك بالظلم (١) *

فلهذا جوّزناهما جميعا.

وروينا لمعن بن أوس :

وفيهن ـ والأيام يعثرن بالفتى ـ

نوادب لا يمللنه ونوائح (٢)

ففصل بقوله : «والأيام يعثرن بالفتى» بين المبتدأ وخبره. وأنشدنا.

لعلّك ـ والموعود صدق لقاؤه ـ

بدا لك فى تلك القلوص بداء (٣)

وسألته عن بيت كثيّر :

وإنى وتهيامى بعزّة بعد ما

تخلّيت مما بيننا وتخلّت (٤)

فأجاز أن يكون قوله : «وتهيامى بعزة» جملة من مبتدأ وخبر ، اعترض بها بين اسم إن وخبرها الذى هو قوله :

لكالمرتجى ظلّ الغمامة كلّما

تبوأ منها للمقيل اضمحلّت

فقلت له : أيجوز أن يكون (وتهيامى) بعزّة قسما؟ فأجاز ذلك ولم يدفعه.

__________________

(١) عجز بيت للفرزدق فى ديوانه ٢ / ٢٧٦ ، وجمهرة اللغة ص ١٥٣ ، والمحتسب ٢ / ٢٧٩ ، وصدره :

* فلو كنت مولى الظّلّ أو فى ظلاله*

(٢) قبله :

رأيت رجالا يكرهون بناتهم

وفيهن ـ لا تكذب ـ نساء صوالح

والبيتان فى الأمالى ٢ / ١٩٠ ، واللآلئ ٨٠٤ ، والخزانة ٣ / ٢٥٨ ، والأغانى (بولاق) ١٠ / ١٦٥. (نجار).

(٣) البيت لمحمد بن بشير فى ديوانه ص ٢٩ ، والأغانى ١٦ / ٧٧ ، وخزانة الأدب ٩ / ٢١٣ ، ٢١٥ ، والدرر ٤ / ٢٠ ، وشرح شواهد المغنى ص ٨١٠ ، وللشماخ ابن ضرار فى ملحق ديوانه ص ٤٢٧ ، ولسان العرب (بدا) وبلا نسبة فى سمط اللآلى ص ٧٠٥ ، وشرح شذور الذهب ٢١٨ ، ومغنى اللبيب ص ٣٨٨ ، وهمع الهوامع ١ / ١٤٧. وعد رجل محمد بن بشير الخارجىّ بقلوص ، فمطله ، فقال فيه يذمه ، وانظر الأغانى (١٦ / ١٣٢).

(٤) البيت لكثير عزّة فى ديوانه ص ١٠٣ ، وخزانة الأدب ٥ / ٢١٤ ، وسر صناعة الإعراب ص ١٣٩ ، وشرح شواهد المغنى ص ٨١٢ ، ولسان العرب (هيم) ، ومغنى اللبيب ص ٣٨٩ ، والمقاصد النحويّة ٢ / ٤٠٩.

٣٤٠