الخصائص - ج ١

أبي الفتح عثمان بن جنّي

الخصائص - ج ١

المؤلف:

أبي الفتح عثمان بن جنّي


المحقق: الدكتور عبد الحميد الهنداوي
الموضوع : اللغة والبلاغة
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ٣
ISBN: 978-2-7451-3245-1
الصفحات: ٥٤٤

فقد وضح بذلك فرق ما بين حالى المبتدأ والفاعل فى وصف تعليل ارتفاعهما ، وأنهما وإن اشتركا فى كون كلّ واحد منهما مسندا إليه ، فإن هناك فرقا من حيث أرينا.

ومن ذلك قولك فى جواب من سألك عن علّة انتصاب زيد ، من قولك : ضربت زيدا : إنه إنما انتصب ؛ لأنه فضلة ، ومفعول به. فالجواب قد استقلّ بقولك : لأنه فضلة ، وقولك من بعد : (ومفعول به) تأنيس وتأييد لا ضرورة بك إليه ؛ ألا ترى أنك تقول فى نصب «نفس» من قولك : طبت به نفسا : إنما انتصب لأنه فضلة ، وإن كانت النفس هنا فاعلة فى المعنى. فقد علمت بذلك أن قولك : ومفعول به زيادة على العلّة تطوّعت بها. غير أنه فى ذكرك كونه مفعولا معنى ما ، وإن كان صغيرا. وذلك أنه قد ثبت وشاع فى الكلام أن الفاعل رفع ، والمفعول به نصب ، وكأنك أنست بذلك شيئا. وأيضا فإن فيه ضربا من الشرح. وذلك أن كون الشىء فضلة لا يدلّ على أنه لا بدّ من أن يكون مفعولا به ؛ ألا ترى أن الفضلات كثيرة ؛ كالمفعول به ، والظرف ، والمفعول له ، والمفعول معه ، والمصدر ، والحال ، والتمييز ، والاستثناء. فلمّا قلت : (ومفعول به) ميّزت أىّ الفضلات هو. فاعرف ذلك وقسه.

* * *

٢٢١

باب فى عدم النظير

أمّا إذا دلّ الدليل فإنه لا يجب إيجاد النظير. وذلك مذهب الكتاب ، فإنه حكى فيما جاء على فعل (إبلا) وحدها ، ولم يمنع الحكم بها عنده أن لم يكن لها نظير ؛ لأن إيجاد النظير بعد قيام الدليل إنما هو للأنس به ، لا للحاجة إليه.

فأمّا إن لم يقم دليل فإنك محتاج إلى إيجاد النظير ؛ ألا ترى إلى عزويت ، لمّا لم يقم الدليل على أن واوه وتاءه أصلان احتجت إلى التعلّل بالنظير ، فمنعت من أن يكون (فعويلا) لمّا لم تجد له نظيرا ، وحملته على (فعليت) ؛ لوجود النظير ؛ وهو عفريت ونفريت.

وكذلك قال أبو عثمان فى الردّ على من ادّعى أن (السين) و (سوف) ترفعان الأفعال المضارعة : لم نر عاملا فى الفعل تدخل عليه اللام ، وقد قال سبحانه (فَلَسَوْفَ تَعْلَمُونَ) [الشعراء : ٤٩] فجعل عدم النظير ردّا على من أنكر قوله.

وأمّا إن لم يقم الدليل ولم يوجد النظير فإنك تحكم مع عدم النظير. وذلك كقولك فى الهمزة والنون من أندلس (١) : إنهما زائدتان ، وإن وزن الكلمة بهما «أنفعل» وإن كان مثالا لا نظير له. وذلك أن النون لا محالة زائدة ؛ لأنه ليس فى ذوات الخمسة شيء على (فعللل) فتكون النون فيه أصلا لوقوعها موقع العين ، وإذا ثبت أن النون زائدة فقد برد فى يدك ثلاثة أحرف أصول ، وهى الدال واللام والسين ، وفى أوّل الكلمة همزة ، ومتى وقع ذلك حكمت بكون الهمزة زائدة ، ولا تكون النون أصلا والهمزة زائدة ؛ لأن ذوات الأربعة لا تلحقها الزوائد من أوائلها إلا فى الأسماء الجارية على أفعالها ؛ نحو مدحرج وبابه. فقد وجب إذا أن الهمزة والنون زائدتان ، وأن الكلمة بهما على أنفعل ، وإن كان هذا مثالا لا نظير له.

فإن ضامّ الدليل النظير فلا مذهب بك عن ذلك ؛ وهذا كنون عنتر. فالدليل يقضى بكونها أصلا ، لأنها مقابلة لعين جعفر ، والمثال أيضا معك وهو (فعلل) وكذلك القول على بابه. فاعرف ذلك وقس.

__________________

(١) فى اللسان (دلس) «وأندلس ـ بفتح الهمزة وضم الدال : جزيرة معروفة ، وفى القاموس بضم الهمزة والدال واللام ، وياقوت بفتح الهمزة وضم الدال وفتحها وضم اللام.

٢٢٢

باب فى إسقاط الدليل

وذلك كقول أبى عثمان (١) : لا تكون الصفة غير مفيدة ، فلذلك قلت : مررت برجل أفعل. فصرف أفعل هذه لمّا لم تكن الصفة مفيدة. وإسقاط هذا أن يقال له : قد جاءت الصفة غير مفيدة. وذلك كقولك فى جواب من قال رأيت زيدا : المنىّ يا فتى ؛ فالمنىّ صفة ، وغير مفيدة.

ومن ذلك قول البغداديّين : إن الاسم يرتفع بما يعود عليه من ذكره ؛ نحو زيد مررت به ، وأخوك أكرمته. فارتفاعه عندهم إنما هو لأن عائدا عاد عليه ، فارتفع بذلك العائد. وإسقاط هذا الدليل أن يقال لهم : فنحن نقول : زيد هل ضربته ، وأخوك متى كلّمته؟ ومعلوم أن ما بعد حرف الاستفهام لا يعمل فيما قبله ، فكما اعتبر أبو عثمان أنّ كلّ صفة فينبغى أن تكون مفيدة فأوجد أنّ من الصفات ما لا يفيد ، وكان ذلك كسرا لقوله ؛ كذلك قول هؤلاء : إن كلّ عائد على اسم عار من العوامل يرفعه يفسده وجود عائد على اسم عار من العوامل وهو غير رافع له ، فهذا طريق هذا.

* * *

__________________

(١) أبو عثمان هو المازنى.

٢٢٣

باب فى اللفظين على المعنى الواحد

 يردان عن العالم متضادين

وذلك عندنا على أوجه : أحدها أن يكون أحدهما مرسلا ، والآخر معلّلا. فإذا اتّفق ذلك كان المذهب الأخذ بالمعلّل ، ووجب مع ذلك أن يتأوّل المرسل. وذلك كقول صاحب الكتاب ـ فى غير موضع ـ فى التاء من (بنت وأخت) : إنها للتأنيث ، وقال أيضا مع ذلك فى باب ما ينصرف وما لا ينصرف : إنها ليست للتأنيث. واعتلّ لهذا القول بأن ما قبلها ساكن ، وتاء التأنيث فى الواحد لا يكون ما قبلها ساكنا ، إلا أن يكون ألفا ؛ كقناة ، وفتاة ، وحصاة ، والباقى كلّه مفتوح ؛ كرطبة ، وعنبة ، وعلامة ، ونسّابة. قال : ولو سمّيت رجلا ببنت وأخت لصرفته.

وهذا واضح. فإذا ثبت هذا القول الثانى بما ذكرناه ، وكانت التاء فيه إنما هى عنده على ما قاله بمنزلة تاء (عفريت) و (ملكوت) وجب أن يحمل قوله فيها : إنها للتأنيث على المجاز وأن يتأوّل ، ولا يحمل القولان على التضادّ.

ووجه الجمع بين القولين أن هذه التاء وإن لم تكن عنده للتأنيث فإنها لمّا لم توجد فى الكلمة إلا فى حال التأنيث استجاز أن يقول فيها : إنها للتأنيث ؛ ألا ترى أنك إذا ذكّرت قلت (ابن) فزالت التاء كما تزول التاء من قولك : ابنة. فلمّا ساوقت تاء بنت تاء ابنة ، وكانت تاء ابنة للتأنيث ، قال فى تاء بنت ما قال فى تاء ابنة. وهذا من أقرب ما يتسمّح به فى هذه الصناعة ؛ ألا ترى أنه قال فى عدّة مواضع فى نحو (حمراء) و (أصدقاء) و (عشراء) (١) وبابها : إن الألفين للتأنيث ، وإنما صاحبة التأنيث منهما الأخيرة التى قلبت همزة لا الأولى ، وإنما الأولى زيادة لحقت قبل الثانية التى هى كألف (سكرى) و (عطشى) فلمّا التقت الألفان وتحرّكت الثانية قلبت همزة. ويدلّ على أن الثانية للتأنيث وأن الأولى ليست له أنك لو اعتزمت إزالة العلامة للتأنيث فى هذا الضرب من الأسماء غيّرت الثانية وحدها ، ولم تعرض للأولى. وذلك قولهم : (حمراوان) و (عشراوات) و (صحراوىّ).

__________________

(١) ناقة عشراء : مضى لحملها عشرة أشهر.

٢٢٤

وهذا واضح.

قال أبو علىّ رحمه‌الله : ليس بنت من ابن كصعبة من صعب ، إنما تأنيث ابن على لفظه ابنة. والأمر على ما ذكر.

فإن قلت : فهل فى بنت وأخت علم تأنيث أو لا؟

قيل : بل فيهما علم تأنيث. فإن قيل : وما ذلك العلم؟ قيل : الصيغة (فيهما علامة تأنيثهما) ، وذلك أن أصل هذين الاسمين عندنا فعل : بنو وأخو ، بدلالة تكسيرهم إيّاهما على أفعال فى قولهم : أبناء ، وآخاء. قال بشر بن المهلّب :

وجدتم بنيكم دوننا إذ نسبتم

وأىّ بنى الآخاء تنبو مناسبه! (١)

فلمّا عدلا عن فعل إلى فعل وفعل وأبدلت لاماهما تاء فصارتا بنتا ، وأختا كان هذا العمل وهذه الصيغة علما لتأنيثهما ؛ ألا تراك إذا فارقت هذا الموضع من التأنيث رفضت هذه الصيغة البتّة ، فقلت فى الإضافة إليهما : بنوىّ ، وأخوىّ ؛ كما أنك إذا أضفت إلى ما فيه علامة تأنيث أزلتها البتة ؛ نحو حمراوىّ وطلحىّ ، وحبلويّ. فأمّا قول يونس : بنتىّ وأختىّ فمردود عند سيبويه. وليس هذا الموضع موضوعا للحكم بينهما ، وإن كان لقول يونس أصول تجتذبه وتسوّغه.

وكذلك إن قلت : إذا كان سيبويه لا يجمع بين ياءي الإضافة وبين صيغة بنت ، وأخت ، من حيث كانت الصيغة علما لتأنيثهما فلم صرفهما علمين لمذكّر ، وقد أثبت فيهما علامة تأنيث بفكّها ونقضها مع ما لا يجامع علامة التأنيث : من ياءي الإضافة فى بنوىّ ، وأخوىّ؟ فإذا أثبت فى الاسمين بها علامة للتأنيث ، فهلا منع الاسمين الصرف بها مع التعريف ، كما تمنع الصرف باجتماع التأنيث إلى التعريف فى نحو طلحة ، وحمزة ، وبابهما ، فإن هذا أيضا ممّا قد أجبنا عنه فى موضع آخر.

وكذلك القول فى تاء ثنتان ، وتاء ذيت ، وكيت ، وكلتى : التاء فى جميع ذلك بدل من حرف علّة ، كتاء بنت وأخت ، وليست للتأنيث. إنما التاء فى ذيّة ، وكيّة ، واثنتان ، وابنتان ، للتأنيث.

__________________

(١) البيت من الطويل ، وهو لبشر بن المهلب فى الخصائص ١ / ٢٠٢ ، ولبعض بنى المهلب فى الخصائص ١ / ٣٣٨ ، وبلا نسبة فى سر صناعة الإعراب ص ١٥٠ ، ولسان العرب (أخا).

٢٢٥

فإن قلت : فمن أين لنا فى علامات التأنيث ما يكون معنى لا لفظا؟ قيل : إذا قام الدليل لم يلزم النظير. وأيضا فإن التاء فى هذا وإن لم تكن للتأنيث فإنها بدل خصّ التأنيث ، والبدل وإن كان كالأصل لأنه بدل منه فإن له أيضا شبها بالزائد من موضع آخر ، وهو كونه غير أصل ، كما أن الزائد غير أصل ؛ ألا ترى إلى ما حكاه عن أبى الخطّاب من قول بعضهم فى راية : راءة بالهمز ، كيف شبّه ألف راية ـ وإن كانت بدلا من العين ـ بالألف الزائدة ، فهمز اللام بعدها ، كما يهمزها بعد الزائدة فى نحو سقاء ، وقضاء. وأمّا قول أبى عمر (١) : إن التاء فى كلتى زائدة ، وإنّ مثال الكلمة بها (فعتل) فمردود عند أصحابنا ؛ لما قد ذكر فى معناه من قولهم : إن التاء لا تزاد حشوا إلا فى (افتعل) وما تصرّف منه ، [و] لغير ذلك ، غير أنى قد وجدت لهذا القول نحوا ونظيرا. وذلك فيما حكاه الأصمعىّ من قولهم للرجل القوّاد : الكلتبان ، وقال مع ذلك : هو من الكلب ، وهو القيادة. فقد ترى التاء على هذا زائدة حشوا ، ووزنه فعتلان. ففى هذا شيئان : أحدهما التسديد من قول أبى عمر ، والآخر إثبات مثال فائت للكتاب. وأمثل ما يصرف إليه ذلك أن يكون الكلب ثلاثيّا ، والكلتبان رباعيّا ؛ كزرم (٢) وازرأمّ ، وضفد (٣) ، واضفأدّ ، وكزغّب الفرخ وازلغبّ ، ونحو ذلك من الأصلين الثلاثيّ والرباعىّ ، المتداخلين. وهذا غور عرض ، فقلنا فيه ولنعد.

ومن ذلك أن يرد اللفظان عن العالم متضادّين على غير هذا الوجه. وهو أن يحكم فى شيء بحكم ما ، ثم يحكم فيه نفسه بضدّه ، غير أنه لم يعلّل أحد القولين. فينبغى حينئذ أن ينظر إلى الأليق بالمذهب ، والأجرى على قوانينه ، فيجعل هو المراد المعتزم منهما ، ويتأوّل الآخر إن أمكن.

وذلك كقوله : حتّى الناصبة للفعل ، وقد تكرر من قوله أنها حرف من حروف الجرّ ، وهذا ناف لكونها ناصبة له ، من حيث كانت عوامل الأسماء لا تباشر

__________________

(١) هو صالح بن إسحاق أبو عمر الجرمىّ البصرىّ. قال الخطيب : كان فقيها عالما بالنحو واللغة أخذ النحو عن الأخفش ويونس ، واللغة عن الأصمعى وأبى عبيدة ، ومات سنة ٢٢٥ ، انظر البغية ٢ / ٨. وانظر اللسان (كلو).

(٢) زرم دمعه وبوله وكلامه وازرأمّ : انقطع.

(٣) ضفد الرجل واضفأدّ : صار كثير اللحم ثقيلا مع حمق. اللسان (ضفد).

٢٢٦

الأفعال ، فضلا عن أن تعمل فيها. وقد استقرّ من قوله فى غير مكان ذكر عدّة الحروف الناصبة للفعل ، وليست فيها حتّى. فعلم بذلك وبنصّه عليه فى غير هذا الموضع أنّ (أن) مضمرة عنده بعد حتّى ، كما تضمر مع اللام الجارّة فى نحو قوله سبحانه (لِيَغْفِرَ لَكَ اللهُ) [الفتح : ٢] ونحو ذلك. فالمذهب إذا هو هذا.

ووجه القول فى الجمع بين القولين بالتأويل أن الفعل لمّا انتصب بعد حتى ، ولم تظهر هناك (أن) وصارت حتّى عوضا منها ، ونائبة عنها نسب النصب إلى (حتّى) وإن كان فى الحقيقة لـ (أن).

ومثله معنى لا إعرابا قول الله سبحانه : (وَما رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلكِنَّ اللهَ رَمى) [الأنفال : ٧] فظاهر هذا تناف بين الحالتين ؛ لأنه أثبت فى أحد القولين ما نفاه قبله : وهو قوله ما رميت إذ رميت. ووجه الجمع بينهما أنه لمّا كان الله أقدره على الرمى ومكّنه منه وسدّده له وأمره به فأطاعه فى فعله نسب الرمى إلى الله ، وإن كان مكتسبا للنبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم مشاهدا منه.

ومثله معنى قولهم : أذّن ولم يؤذّن ، وصلّى ولم يصلّ ، ليس أن الثانى ناف للأوّل ، لكنه لمّا لم يعتقد الأوّل مجزئا لم يثبته صلاة ولا أذانا.

وكلام العرب لمن عرفه وتدرّب بطريقها فيه جار مجرى السحر لطفا ، وإن جسا (١) عنه أكثر من ترى وجفا.

ومن ذلك أن يرد اللفظان عن العالم متضادّين ، غير أنه قد نصّ فى أحدهما على الرجوع عن القول الآخر ، فيعلم بذلك أن رأيه مستقرّ على ما أثبته ولم ينفه ، وأن القول الآخر مطّرح من رأيه.

فإن تعارض القولان مرسلين ، غير مبان أحدهما من صاحبه بقاطع يحكم عليه به بحث عن تاريخهما ، فعلم أن الثانى هو ما اعتزمه ، وأن قوله به انصراف منه عن القول الأوّل ؛ إذ لم يوجد فى أحدهما ما يماز به عن صاحبه.

فإن استبهم الأمر فلم يعرف التاريخ وجب سبر المذهبين ، وإنعام الفحص عن حال القولين. فإن كان أحدهما أقوى من صاحبه وجب إحسان الظنّ بذلك

__________________

(١) جسا الرجل جسوا وجسوّا : صلب. اللسان (جسا).

٢٢٧

العالم ، وأن ينسب إليه أن الأقوى منهما هو قوله الثانى الذى به يقول وله يعتقد ، وأن الأضعف منهما هو الأوّل منهما الذى تركه إلى الثانى. فإن تساوى القولان فى القوّة وجب أن يعتقد فيهما أنهما رأيان له ؛ فإنّ الدواعى إلى تساويهما فيهما عند الباحث عنهما هى الدواعى التى دعت القائل بهما إلى أن اعتقد كلا منهما.

هذا بمقتضى العرف ، وعلى إحسان الظن ؛ فأمّا القطع الباتّ فعند الله علمه.

وعليه طريق الشافعىّ فى قوله بالقولين فصاعدا. وقد كان أبو الحسن ركّابا لهذا الثّبج (١) ، آخذا به ، غير محتشم منه ، وأكثر كلامه فى عامّة كتبه عليه. (وكنت إذا ألزمت عند أبى علىّ ـ رحمه‌الله ـ قولا لأبى الحسن شيئا لا بدّ للنظر من إلزامه إيّاه يقول لى : مذاهب أبى الحسن كثيرة).

ومن الشائع فى الرجوع عنه من المذاهب ما كان أبو العباس تتبّع به كلام سيبويه ، وسمّاه مسائل الغلط. فحدّثنى أبو علىّ عن أبى بكر أن أبا العبّاس كان يعتذر منه ويقول : هذا شيء كنّا رأيناه فى أيّام الحداثة ، فأمّا الآن فلا. وحدّثنا أبو علىّ ، قال : كان أبو يوسف (٢) إذا أفتى بشىء أو أملّ شيئا ، فقيل له : قد قلت فى موضع كذا غير هذا يقول : هذا يعرفه من يعرفه ؛ أى إذا أنعم النظر فى القولين وجدا مذهبا واحدا.

وكان أبو علىّ ـ رحمه‌الله ـ يقول فى هيهات : أنا أفتى مرّة بكونها اسما سمى به الفعل ؛ كصه ومه ، وأفتى مرّة أخرى بكونها ظرفا ، على قدر ما يحضرنى فى الحال. وقال مرّة أخرى : إنها وإن كانت ظرفا فغير ممتنع أن تكون مع ذلك اسما سمّى به الفعل ؛ كعندك ودونك. وكان إذا سمع شيئا من كلام أبى الحسن يخالف قوله يقول : عكّر الشيخ. وهذا ونحوه من خلاج الخاطر ، وتعادى المناظر ، هو الذى دعا أقواما إلى أن قالوا بتكافؤ الأدلّة ، واحتملوا أثقال الصّغار والذّلّة.

وحدّثنى أبو على : قال : قلت لأبى عبد الله البصرىّ : أنا أعجب من هذا

__________________

(١) ثبج كل شيء : معظمه ووسطه وأعلاه ، والجمع أثباج وثبوج.

(٢) هو يعقوب بن إبراهيم بن سعد بن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف القرشىّ الزهرىّ أبو يوسف المدنى ، نزيل بغداد ، من شيوخ الإمام أحمد بن حنبل ، مات سنة ٢٠٨ ، انظر تهذيب الكمال ٣٢ / ٣١٠.

٢٢٨

الخاطر فى حضوره تارة ، ومغيبه أخرى. وهذا يدلّ على أنه من عند الله. فقال : نعم ، هو من عند الله ، إلا أنه لا بدّ من تقديم النظر ؛ ألا ترى أن حامدا البقّال لا يخطر له.

ومن طريف حديث هذا الخاطر أننى كنت منذ زمان طويل رأيت رأيا جمعت فيه بين معنى آية ومعنى قول الشاعر :

وكنت أمشى على رجلين معتدلا

فصرت أمشى على أخرى من الشجر (١)

ولم أثبت حينئذ شرح حال الجمع بينهما ثقة بحضوره متى استحضرته ، ثم إنى الآن ـ وقد مضى له سنون ـ أعانّ (٢) الخاطر وأستثمده (٣) ، وأفانيه (٤) وأتودّده ، على أن يسمح لى بما كان أرانيه من الجمع بين معنى الآية والبيت ، وهو معتاص متأبّ ، وضنين به غير معط.

وكنت وأنا أنسخ التذكرة لأبى علىّ إذا مرّ بى شيء قد كنت رأيت طرفا منه ، أو ألممت به فيما قبل أقول له : قد كنت شارفت هذا الموضع ، وتلوّح لى بعضه ، ولم أنته إلى آخره ، وأراك أنت قد جئت به واستوفيته وتمكّنت فيه ، فيتبسّم ـ رحمه‌الله ـ ، له ويتطلق إليه ؛ سرورا باستماعه ، ومعرفة بقدر نعمة الله عنده فيه ، وفى أمثاله.

وقلت مرّة لأبى بكر أحمد بن على الرازىّ ـ رحمه‌الله ـ وقد أفضنا فى ذكر أبى علىّ ونبل قدره ، ونباوة (٥) محلّه : أحسب أن أبا علىّ قد خطر له وانتزع من

__________________

(١) البيت من الطويل ، وهو للجعدى فى ديوانه ص ١٧٨ ، ولسان العرب (أتى) ، (ولى) ، وتاج العروس (أتى) ، (ولى) ، وبلا نسبة فى لسان العرب (حلب) ، وديوان الأدب (٣ / ٢٢٤) ، وتاج العروس (حلب).

(٢) أى : أعارض ، يقال : عنّ الشىء أى اعترض ، والعنن : الاعتراض. اللسان (عنن).

(٣) الثّمد والثّمد : الماء القليل الذى لا مادّ له. وفى حديث طهفة : وافجر لهم الثّمد وهو ـ بالتحريك ـ الماء القليل ، أى افجره لهم حتى يصير كثيرا وانظر اللسان (ثمد).

(٤) المفاناة : المداراة ، وفانيت الرجل : داريته. اللسان (فنى).

(٥) نباوة : الارتفاع والشرف ، والنّبوة والنباوة والنبىّ : ما ارتفع من الأرض.

٢٢٩

علل هذا العلم ثلث ما وقع لجميع أصحابنا ، فأصغى أبو بكر إليه ، ولم يتبشّع هذا القول عليه.

وإنما تبسّطت فى هذا الحديث ليكون باعثا على إرهاف الفكر ، واستحضار الخاطر ، والتطاول إلى ما أوفى نهده ، وأوعر سمته ، وبالله سبحانه الثقة.

* * *

٢٣٠

باب فى الدور ، والوقوف منه على أول رتبة

هذا موضع كان أبو حنيفة ـ رحمه‌الله ـ يراه ويأخذ به. وذلك أن تؤدّى الصنعة إلى حكم ما ، مثله مما يقتضى التغيير ؛ فإن أنت غيرت صرت أيضا إلى مراجعة مثل ما منه هربت. فإذا حصلت على هذا وجب أن تقيم على أوّل رتبة ، ولا تتكلّف عناء ولا مشقّة. وأنشدنا أبو علىّ ـ رحمه‌الله ـ غير دفعة بيتا مبنى معناه على هذا ، وهو :

رأى الأمر يفضى إلى آخر

فصيّر أخره أوّلا

وذلك كأن تبنى من قويت مثل رسالة فتقول على التذكير : قواءة ، وعلى التأنيث : قواوة ، ثم تكسّرها على حدّ قول الشاعر :

موالى حلف لا موالى قرابة

ولكن قطينا يحلبون الأتاويا (١)

 ـ جمع إتاوة ـ ، فيلزمك أن تقول حينئذ : قواو ، فتجمع بين واوين مكتنفتى ألف التكسير ، ولا حاجز بين الأخيرة منهما وبين الطّرف.

ووجه ذلك أن الذى قال (الأتاويا) إنما أراد جمع إتاوة ، وكان قياسه أن يقول : أتاوى ؛ كقوله فى علاوة ، وهراوة : علاوى ، وهراوى ؛ غير أنّ هذا الشاعر سلك طريقا أخرى غير هذه. وذلك أنه لما كسّر إتاوة حدث فى مثال التكسير همزة بعد ألفه بدلا من ألف فعالة ؛ كهمزة رسائل وكنائن ، فصار التقدير به إلى أتاء ، ثم تبدل من كسرة الهمزة فتحة ؛ لأنها عارضة فى الجمع ، واللام معتلّة كباب مطايا ، وعطايا ، فتصير حينئذ إلى أتاءى ، ثم تبدل من الياء ألفا فتصير إلى أتاء ، ثم تبدل من الهمزة واوا ؛ لظهورها لاما فى الواحد ؛ فتقول : أتاوى كعلاوى. وكذا تقول العرب فى تكسير إتاوة : أتاوى. غير أنّ هذا الشاعر لو فعل ذلك لأفسد قافيته ،

__________________

(١) البيت من الطويل ، وهو للجعدى فى ديوانه ص ١٧٨ ، ولسان العرب (أتى) ، (ولى) ، وتاج العروس (أتى) ، (حلب) ، (ولى) ، وبلا نسبة فى لسان العرب (حلب) ، وديوان الأدب ٣ / ٢٢٤. وفيه يسألون الأتاويا» بدل «يحلبون الأتاويا» أى هم خدم يسألون الخراج ، وهو الإتاوة. وانظر اللسان (أتى).

٢٣١

فاحتاج إلى إقرار الكسرة بحالها لتصحّ بعدها الياء التى هى روىّ القافية ؛ كما معها من القوافى التى هى (الروابيا) و (الأدانيا) ونحو ذلك ؛ فلم يستجز أن يقرّ الهمزة العارضة فى الجمع بحالها ؛ إذ كانت العادة فى هذه الهمزة أن تعلّ وتغيّر إذا كانت اللام معتلّة ، فرأى إبدال همزة أتاء واوا ؛ ليزول لفظ الهمزة التى من عادتها فى هذا الموضع أن تعلّ ولا تصحّ لما ذكرنا ، فصار (الأتاويا).

وكذلك قياس فعالة من القوّة إذا كسّرت أن تصير بها الصنعة إلى قواء ، ثم تبدل من الهمزة الواو ؛ كما فعل من قال (الأتاويا) فيصير اللفظ إلى قواو. فإن أنت استوحشت من اكتناف الواوين لألف التكسير على هذا الحدّ وقلت : أهمز كما همزت فى أوائل لزمك أن تقول : قواء ؛ ثم يلزمك ثانيا أن تبدل من هذه الهمزة الواو على ما مضى من حديث (الأتاويا) فتعاود أيضا قواو ، ثم لا تزال بك قوانين الصنعة إلى أن تبدل من الهمزة الواو ، ثم من الواو الهمزة ، ثم كذلك ، ثم كذلك إلى ما لا غاية. فإذا أدّت الصنعة إلى هذا ونحوه وجبت الإقامة على أوّل رتبة منه ، وألا تتجاوز إلى أمر تردّ بعد إليها ، ولا توجد سبيلا ولا منصرفا عنها.

فإن قلت : إن بين المسألتين فرقا. وذلك أن الذى قال (الأتاويا) إنما دخل تحت هذه الكلفة ، والتزم ما فيها من المشقّة ، وهى ضرورة واحدة ، وأنت إذا قلت فى تكسير مثال فعالة من القوّة : قواو قد التزمت ضرورتين : إحداهما إبدالك الهمزة الحادثة فى هذا المثال واوا على ضرورة (الأتاويا) ، والأخرى كنفك الألف بالواوين مجاورا آخرهما الطرف ؛ فتانك ضرورتان ، وإنما هى فى (الأتاويا) واحدة. وهذا فرق ، يقود إلى اعتذار وترك.

قيل : هذا ساقط ، وذلك أن نفس السؤال قد كان ضمن ما يلغى هذا الاعتراض ؛ ألا ترى أنه كان : كيف يكسّر مثال فعالة من القوة على قول من قال (الأتاويا)؟ والذى قال ذلك كان قد أبدل من الهمزة العارضة فى الجمع واوا ، فكذلك فأبدلها أنت أيضا فى مسألتك. فأمّا كون ما قبل الألف واوا أو غير ذلك من الحروف ، فلم يتضمّن السؤال ذكرا له ، ولا عيجا (١) به ، فلا يغنى إذا ذكره ،

__________________

(١) العيج : شبه الاكتراث ، قال ابن سيده : ما عاج يقوله عيجا وعيجوجة : لم يكترث له أو لم يصدّقه. اللسان (عيج).

٢٣٢

ولا الاعتراض على ما مضى بحديثه ؛ أفلا ترى أن هذا الشاعر لو كان يسمح نفسا بأن يقرّ هذه الهمزة العارضة فى أتاء مكسورة بحالها كما أقرّها الآخر فى قوله :

له ما رأت عين البصير وفوقه

سماء الإله فوق سبع سمائيا (١)

وكان أبو علىّ ينشدناه :

* ... فوق ستّ سمائيا*

لقال (الأتائيا) كقوله (سمائيا).

فقد علمت بذلك شدّة نفوره عن إقرار الهمزة العارضة فى هذا الجمع مكسورة.

وإنما اشتدّ ذلك عليه ونبا عنه لأمر ليس موجودا فى واحد (سمائيا) الذى هو سماء. وذلك أن فى إتاوة واوا ظاهرة ، فكما أبدل غيره منها الواو مفتوحة فى قوله (الأتاوى) كالعلاوى والهراوى ؛ تنبيها على كون الواو ظاهرة فى واحده ـ أعنى إتاوة ـ كوجودها فى هراوة وعلاوة ، كذلك أبدل منها الواو فى أتاو ، وإن كانت مكسورة ؛ شحّا على الدلالة على حال الواحد ، وليس كذلك قوله : * ... فوق سبع سمائيا* ألا ترى أن لام واحده ليست واوا فى اللفظ فتراعى فى تكسيره ؛ كما روعيت فى تكسير هراوة وعلاوة. فهذا فرق ـ كما تراه ـ واضح.

نعم ، وقد يلتزم الشاعر لإصلاح البيت ما تتجمّع فيه أشياء مستكرهة لا شيئان اثنان : وذلك أكثر من أن يحاط به. فإذا كان كذلك لزم ما رمناه ، وصحّ به ما قدّمناه.

فهذا طريق ما يجئ عليه ؛ فقس ما يرد عليك به.

* * *

__________________

(١) البيت من الطويل ، وهو لأمية بن أبى الصلت فى ديوانه ص ٧٠ ، وخزانة الأدب (١ / ٢٤٤ ، ٢٤٧) ، وشرح أبيات سيبويه (٢ / ٣٠٤) ، والكتاب (٣ / ٣١٥) ، ولسان العرب (١٤ / ٣٩٨) (سما) ، وبلا نسبة فى الأشباه والنظائر (٢ / ٣٣٧) ، والخصائص (١ / ٢١١ ، ٢١٢) ، (٢ / ٣٤٨) ، وما ينصرف وما لا ينصرف ص ١١٥ ، والمقتضب (١ / ١٤٤) ، والممتع فى التصريف (٢ / ٥١٣) ، والمنصف (٢ / ٦٦ ، ٦٨).

٢٣٣

باب فى الحمل على أحسن الأقبحين

اعلم أن هذا موضع من مواضع الضرورة المميّلة. وذلك أن تحضرك الحال ضرورتين لا بدّ من ارتكاب إحداهما ، فينبغى حينئذ أن تحمل الأمر على أقربهما وأقلّهما فحشا.

وذلك كواو (ورنتل) (١) أنت فيها بين ضرورتين : إحداهما أن تدّعى كونها أصلا فى ذوات الأربعة غير مكرّرة ، والواو لا توجد فى ذوات الأربعة إلا مع التكرير ؛ نحو الوصوصة ، والوحوحة ، وضوضيت ، وقوقيت. والآخر أن تجعلها زائدة أوّلا ، والواو لا تزاد أوّلا. فإذا كان كذلك كان أن تجعلها أصلا أولى من أن تجعلها زائدة ؛ وذلك أن الواو قد تكون أصلا فى ذوات الأربعة على وجه من الوجوه ، أعنى فى حال التضعيف. فأمّا أن تزاد أوّلا فإن هذا أمر لم يوجد على حال. فإذا كان كذلك رفضته ولم تحمل الكلمة عليه.

ومثل ذلك قولك : فيها قائما رجل. لمّا كنت بين أن ترفع قائما فتقدّم الصفة على الموصوف ـ وهذا لا يكون ـ وبين أن تنصب الحال من النكرة ـ وهذا على قلّته جائز ـ حملت المسألة على الحال فنصبت.

وكذلك ما قام إلا زيدا أحد ، عدلت إلى النصب ؛ لأنك إن رفعت لم تجد قبله ما تبدله منه ، وإن نصبت دخلت تحت تقديم المستثنى على ما استثنى منه. وهذا وإن كان ليس فى قوّة تأخيره عنه فقد جاء على كلّ حال. فاعرف ذلك أصلا فى العربية تحمل عليه غيره.

* * *

__________________

(١) ورنتل : هو الشر والأمر العظيم. اللسان (ورنتل).

٢٣٤

باب فى حمل الشىء على الشىء

من غير الوجه الذى أعطى الأول ذلك الحكم

اعلم أن هذا باب طريقه الشبه اللفظىّ ؛ وذلك كقولنا فى الإضافة (١) إلى ما فيه همزة التأنيث بالواو ؛ وذلك نحو حمراوىّ ، وصفراوىّ ، وعشراوىّ. وإنما قلبت الهمزة فيه ولم تقرّ بحالها لئلا تقع علامة التأنيث حشوا. فمضى هذا على هذا لا يختلف.

ثم إنهم قالوا فى الإضافة إلى علباء : علباوىّ ، وإلى حرباء : حرباوىّ ؛ فأبدلوا هذه الهمزة وإن لم تكن للتأنيث ، لكنها لمّا شابهت همزة حمراء وبابها بالزيادة حملوا عليها همزة علباء. ونحن نعلم أن همزة حمراء لم تقلب فى حمراوىّ لكونها زائدة فتشبّه بها همزة علباء من حيث كانت زائدة مثلها ، لكن لمّا اتّفقتا فى الزيادة حملت همزة علباء على همزة حمراء. ثم إنهم تجاوزوا هذا إلى أن قالوا فى كساء ، وقضاء : كساوىّ ، وقضاوىّ ؛ فأبدلوا الهمزة واوا ، حملا لها على همزة علباء ؛ من حيث كانت همزة كساء ، وقضاء مبدلة من حرف ليس للتأنيث ؛ فهذه علّة غير الأولى ؛ ألا تراك لم تبدل همزة علباء واوا فى علباوىّ لأنها ليست للتأنيث ، فتحمل عليها همزة كساء وقضاء من حيث كانتا لغير التأنيث.

ثم إنهم قالوا من بعد فى قرّاء : قرّاوىّ ، فشبّهوا همزة قرّاء بهمزة كساء ؛ من حيث كانت أصلا غير زائدة ؛ كما أن همزة كساء غير زائدة. وأنت لم تكن أبدلت همزة كساء فى كساوىّ من حيث كانت غير زائدة ، لكن هذه أشباه لفظيّة يحمل أحدها على ما قبله ، تشبّثا به وتصوّرا له. واليه والى نحوه أومأ سيبويه بقوله : وليس شيء يضطرّون إليه إلا وهم يحاولون به وجها.

وعلى ذلك قالوا : صحراوات ، فأبدلوا الهمزة واوا لئلا يجمعوا بين علمى تأنيث ، ثم حملوا التثنية عليه من حيث كان هذا الجمع على طريق التثنية ، ثم قالوا : علباوان حملا بالزيادة على حمراوان ، ثم قالوا : كساوان تشبيها له

__________________

(١) يريد النسب.

٢٣٥

بعلباوان ، ثم قالوا : قرّاوان حملا له على كساوان ، على ما تقدّم.

وسبب هذه الحمول والإضافات والإلحاقات كثرة هذه اللغة وسعتها ، وغلبة حاجة أهلها إلى التصرّف فيها ، والتّركّح (١) فى أثنائها ؛ لما يلابسونه ويكثرون استعماله من الكلام المنثور ؛ والشعر الموزون ، والخطب والسّجوع ، ولقوّة إحساسهم فى كلّ شيء شيئا ، وتخيّلهم ما لا يكاد يشعر به من لم يألف مذاهبهم.

وعلى هذا ما منع الصرف من الأسماء للشّبه اللفظىّ نحو أحمر ، وأصفر ، وأصرم ، وأحمد ، وتألب ، وتنضب علمين (٢) ؛ لما فى ذلك من شبه لفظ الفعل ، فحذفوا التنوين من الاسم لمشابهته ما لا حصّة له فى التنوين ، وهو الفعل. والشّبه اللفظىّ كثير. وهذا كاف.

* * *

__________________

(١) ركحة الدار وركحها : ساحتها ؛ وتركح فيها ، توسّع ، وتركح فلان فى المعيشة إذا تصرف فيها. وانظر اللسان (ركح).

(٢) التألب : شجر تتخذ منه القسىّ ، التنضب : شجر تتخذ منه السهام. وانظر اللسان (تألب) ، (نضب).

٢٣٦

باب فى الرد على من ادعى على العرب عنايتها بالألفاظ

وإغفالها المعانى

اعلم أن هذا الباب من أشرف فصول العربيّة ، وأكرمها ، وأعلاها ، وأنزهها.

وإذا تأمّلته عرفت منه وبه ما يؤنقك ، ويذهب فى الاستحسان له كل مذهب بك.

وذلك أن العرب كما تعنى بألفاظها فتصلحها وتهذّبها وتراعيها ، وتلاحظ أحكامها ، بالشعر تارة ، وبالخطب أخرى ، وبالأسجاع التى تلتزمها وتتكلّف استمرارها ، فإن المعانى أقوى عندها ، وأكرم عليها ، وأفخم قدرا فى نفوسها.

فأوّل ذلك عنايتها بألفاظها. فإنها لمّا كانت عنوان معانيها ، وطريقا إلى إظهار أغراضها ، ومراميها ، أصلحوها ورتّبوها ، وبالغوا فى تحبيرها وتحسينها ؛ ليكون ذلك أوقع لها فى السمع ، وأذهب بها فى الدلالة على القصد ؛ ألا ترى أن المثل إذا كان مسجوعا لذّ لسامعه فحفظه ، فإذا هو حفظه كان جديرا باستعماله ، ولو لم يكن مسجوعا لم تأنس النفس به ، ولا أنقت لمستمعه ، وإذا كان كذلك لم تحفظه ، وإذا لم تحفظه لم تطالب أنفسها باستعمال ما وضع له ، وجيء به من أجله. وقال لنا أبو علىّ يوما : قال لنا أبو بكر : إذا لم تفهموا كلامى فاحفظوه ، فإنكم إذا حفظتموه فهمتموه. وكذلك الشعر : النفس له أحفظ ، وإليه أسرع ؛ ألا ترى أن الشاعر قد يكون راعيا جلفا ، أو عبدا عسيفا ، تنبو صورته ، وتمجّ جملته ، فيقول ما يقوله من الشعر ، فلأجل قبوله ، وما يورده عليه من طلاوته ، وعذوبة مستمعه ما يصير قوله حكما يرجع إليه ، ويقتاس به ؛ ألا ترى إلى قول العبد الأسود (١) :

إن كنت عبدا فنفسى حرّة كرما

أو أسود اللون إنى أبيض الخلق

وقول نصيب :

سودت فلم أملك سوادى وتحته

قميص من القوهىّ بيض بنائقه (٢)

__________________

(١) هو سحيم عبد بنى الحساس. وانظر الأغانى ص ٢ ج ٢٠ طبعة بولاق ، والديوان ٥٥. (نجار).

(٢) البيت من الطويل ، وهو لنصيب فى ديوانه ص ١١٠ ، وتاج العروس (سود) ، (قوه) ، (نبق) ، أو الأشباه والنظائر ٦ / ٢٧ ، والأغانى ١ / ٣٣٣ ، وذيل الأمالى ص ١٢٧ ، وشرح المفصل

٢٣٧

وقول الآخر (١) :

إنّى وإن كنت صغيرا سنّى

وكان فى العين نبوّ عنّى

فإن شيطانى أمير الجن

يذهب بى فى الشّعر كلّ فنّ

حتّى يزيل عنّى التظنّى

فإذا رأيت العرب قد أصلحوا ألفاظها وحسّنوها ، وحموا حواشيها وهذّبوها ، وصقلوا غروبها (٢) وأرهفوها ، فلا ترينّ أن العناية إذ ذاك إنما هى بالألفاظ ، بل هى عندنا خدمة منهم للمعانى ، وتنويه [بها] وتشريف منها. ونظير ذلك إصلاح الوعاء وتحصينه ، وتزكيته ، وتقديسه ، وإنما المبغىّ بذلك منه الاحتياط للموعى عليه ، وجواره بما يعطّر بشره ، ولا يعرّ جوهره ، كما قد نجد من المعانى الفاخرة السامية ما يهجّنه ويغضّ منه كدرة لفظه ، وسوء العبارة عنه.

فإن قلت : فإنا نجد من ألفاظهم ما قد نمّقوه ، وزخرفوه ، ووشّوه ، ودبّجوه ، ولسنا نجد مع ذلك تحته معنى شريفا ، بل لا نجده قصدا ولا مقاربا ؛ ألا ترى إلى قوله :

ولمّا قضينا من منى كلّ حاجة

ومسّح بالأركان من هو ماسح

أخذنا بأطراف الأحاديث بيننا

وسالت بأعناق المطىّ الأباطح (٣)

__________________

 ـ ٧ / ١٥٧ ، ١٦٢ ، والكتاب ٤ / ٥٧ ، ولسان العرب (نبق) ، (قوه) ، وبلا نسبة فى كتاب العين ٥ / ١٨٠ ، ٧ / ٢٨٢. القوهىّ : ضرب من الثياب بيض ، فارسى. الأزهرىّ الثياب القوهية معروفة منسوبة إلى قوهستان. اللسان (قوه). البنائق : العرى التى تدخل فيها الأزرار. وأراد بقوله : «سودت» أنه عورت عينه ، واستعار لها تحت السواد كمن عينه قميصا بيضا بنائقه. اللسان (بنق).

(١) هو مالك بن أمية كما فى الوحشيات ، ووردت الأشطار الثلاثة الأول فى الحيوان ١ / ٣٠٠ غير معزوّة. (نجار).

(٢) مأخوذ من غروب الأسنان وهى أطرافها ، وأحدها غرب ، انظر اللسان (غرب).

(٣) البيتان من الطويل ، وهو لكثير عزّة فى ملحق ديوانه ص ٥٢٥ ، وزهر الآداب ص ٣٤٩ ، وللمضرب عقبة بن كعب بن زهير فى الحماسة البصرية ٢ / ١٠٣ ، وبلا نسبة فى لسان العرب (طرف) ، وأمالى المرتضى ٢ / ٣٥٩ ، والشعر والشعراء ص ٧٢ ، ومعجم البلدان ٥ / ١٩٨ (منى) ، وأساس البلاغة ص ٢٢٧ ، (سيل) ، وتاج العروس (طرف).

٢٣٨

فقد ترى إلى علوّ هذا اللفظ ومائه ، وصقاله وتلامح أنحائه ، ومعناه مع هذا ما تحسّه وتراه : إنما هو : لمّا فرغنا من الحج ركبنا الطريق راجعين ، وتحدّثنا على ظهور الإبل. ولهذا نظائر كثيرة شريفة الألفاظ رفيعتها ، مشروفة المعانى خفيضتها.

قيل : هذا الموضع قد سبق إلى التعلّق به من لم ينعم النظر فيه ، ولا رأى ما أراه القوم منه ، وإنما ذلك لجفاء طبع الناظر ، وخفاء غرض الناطق. وذلك أن فى قوله «كل حاجة» [ما] يفيد منه أهل النسيب والرّقّة ، وذوو الأهواء والمقة (١) ما لا يفيده غيرهم ، ولا يشاركهم فيه من ليس منهم ؛ ألا ترى أن من حوائج (منى) أشياء كثيرة غير ما الظاهر عليه ، والمعتاد فيه سواها ؛ لأن منها التلاقى ، ومنها التشاكى ، ومنها التخلّى ، إلى غير ذلك ممّا هو تال له ، ومعقود الكون به. وكأنه صانع عن هذا الموضع الذى أومأ إليه ، وعقد غرضه عليه ، بقوله فى آخر البيت :

* ومسّح بالأركان من هو ماسح (٢) *

أى إنما كانت حوائجنا التى قضيناها ، وآرابنا التى أنضيناها ، من هذا النحو الذى هو مسح الأركان وما هو لاحق به ، وجار فى القربة من الله مجراه ؛ أى لم يتعدّ هذا القدر المذكور إلى ما يحتمله أوّل البيت من التعريض الجارى مجرى التصريح.

وأمّا البيت الثانى فإنّ فيه :

* أخذنا بأطراف الأحاديث بيننا (٣) *

وفى هذا ما أذكره ؛ لتراه فتعجب ممّن عجب منه ووضع من معناه. وذلك أنه لو قال : أخذنا فى أحاديثنا ، ونحو ذلك لكان فيه معنى يكبره أهل النسيب ، وتعنو له ميعة (٤) الماضى الصليب. وذلك أنهم قد شاع عنهم واتّسع فى محاوراتهم علوّ قدر الحديث بين الأليفين ، والفكاهة بجمع شمل المتواصلين ؛ ألا ترى إلى قول الهذلىّ :

__________________

(١) المقة : المحبة.

(٢) سبق تخريجه.

(٣) سبق تخريجه.

(٤) ميعة الشباب والسكر والنهار : أوله وأنشطه. اللسان (ميع).

٢٣٩

وإنّ حديثا منك ـ لو تعلمينه ـ

جنى النحل فى ألبان عوذ مطافل (١)

وقال آخر :

وحديثها كالغيث يسمعه

راعى سنين تتابعت جدبا

فأصاخ يرجو أن يكون حيّا

ويقول من فرح هيا ربّا (٢)

وقال الآخر :

وحدّثتنى يا سعد عنها فزدتنى

جنونا فزدنى من حديثك يا سعد (٣)

وقال المولّد :

وحديثها السّحر الحلال لو انه

لم يجن قتل المسلم المتحرّز (٤)

الأبيات الثلاثة. فإذا كان قدر الحديث ـ مرسلا ـ عندهم هذا ، على ما ترى فكيف به إذا قيّده بقوله (بأطراف الأحاديث). وذلك أن فى قوله (أطراف الأحاديث) وحيا خفيّا ، ورمزا حلوا ؛ ألا ترى أنه يريد بأطرافها ما يتعاطاه المحبّون ، ويتفاوضه ذوو الصبابة المتيّمون ؛ من التعريض ، والتلويح ، والإيماء دون التصريح ، وذلك أحلى وأدمث ، وأغزل وأنسب ، من أن يكون مشافهة وكشفا ، ومصارحة وجهرا ، وإذا كان كذلك فمعنى هذين البيتين أعلى عندهم ، وأشدّ تقدّما فى نفوسهم ، من لفظهما وإن عذب موقعه ، وأنق له مستمعه.

__________________

(١) البيت من الطويل ، وهو لأبى ذؤيب الهذلى فى الدرر (٥ / ٧) ، وشرح أشعار الهذليين ١ / ١٤١ ، وشرح شواهد الإيضاح ص ٥٨٧ ، وشرح شواهد الشافية ص ١٤٤ ، ولسان العرب (بكر) ، (طفل) ، وتاج العروس (طفل) ، وبلا نسبة فى شرح شافية ابن الحاجب ٢ / ١٨٢ ، وهمع الهوامع ٢ / ٤٦.

(٢) البيت الثانى من الطويل ، وهو بلا نسبة فى أمالى القالى ١ / ٨٤ ، والبيان والتبيين ١ / ٢٨٣ ، والخصائص ١ / ٢٩ ، ٢١٩ ، وشرح شواهد المغنى ص ٦٣ ، ولسان العرب (هيا) ، ومغنى اللبيب ص ٢٠ ، وفى معجم شواهد النحو الشعرية (الرقم ٢٢٢) أنه ورد منسوبا للراعى فى ألف باء للبلوى ٢ / ٤٧٨ ، ولم أجده فى ديوانه ، وقد ورد (ويقول من فرح).

(٣) هو العباس بن الأحنف. وانظر الديوان المطبوع فى استامبول ص ٥٨ ، ومعاهد التنصيص ١ / ٥٧. (نجار).

(٤) هو ابن الرومى. وانظر فى هذا الجزء ص ٢٩ (نجار).

٢٤٠