الخصائص - ج ١

أبي الفتح عثمان بن جنّي

الخصائص - ج ١

المؤلف:

أبي الفتح عثمان بن جنّي


المحقق: الدكتور عبد الحميد الهنداوي
الموضوع : اللغة والبلاغة
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ٣
ISBN: 978-2-7451-3245-1
الصفحات: ٥٤٤

وقال الله عزوجل : (هذا فَلْيَذُوقُوهُ حَمِيمٌ وَغَسَّاقٌ) [ص : ٥٧]. فقوله تعالى : (فَلْيَذُوقُوهُ) اعتراض بين المبتدأ وخبره. وقال رؤبة :

إنى وأسطار سطرن سطرا

لقائل يا نصر نصر نصرا (١)

فاعترض بالقسم بين اسم إنّ وخبرها.

والاعتراض فى شعر العرب ومنثورها كثير وحسن ، ودالّ على فصاحة المتكلم وقوّة نفسه وامتداد نفسه ، وقد رأيته فى أشعار المحدثين ، وهو فى شعر إبراهيم بن المهدىّ أكثر منه فى شعر غيره من المولّدين.

* * *

__________________

(١) الرجز لرؤبة فى ملحق ديوانه ص ١٧٤ ، ولسان العرب (نصر) ، وتاج العروس (نصر) ، ومقاييس اللغة ٥ / ٤٣٦ ، ومجمل اللغة ٤ / ٤٠٨ ، وخزانة الأدب ٢ / ٢١٩ ، والدرر ٤ / ٢٢ ، وشرح شواهد الإيضاح ص ٢٤٣ ، وشرح المفصل ٢ / ٣ ، والكتاب ٢ / ١٨٥ ، ١٨٦ ، ولذى الرمة فى شرح شذور الذهب ص ٥٦٤ ، وليس فى ديوانه ، وبلا نسبة فى لسان العرب (سطر) ، وتهذيب اللغة ١٢ / ٣٢٧ ، وتاج العروس (سطر) ، (نصر) ، (الياء) وأسرار العربية ص ٢٩٧ ، والأشباه والنظائر ٤ / ٨٦ ، والدرر ٦ / ٢٦ ، ومغنى اللبيب ٢ / ٣٨٨ ، والمقاصد النحوية ٤ / ٢٠٩ ، والمقتضب ٤ / ٢٠٩ ، وهمع الهوامع ١ / ٢٤٧ ، ٢ / ١٢١. البيت فى الكتاب (٢ / ١٨٥) لرؤبة وتبعه ابن القطاع فأنشده هكذا ولكن لم يعين القائل. قال الصاغانى وليس لرؤبة ومع هذا هو تصحيف (والرواية : «يا نضر نضرا نضرا» بالضاد المعجمة ونضر هذا هو حاجب نصر بن سيار بالصاد المهملة) وبعده :

بلغك الله فبلغ نصرا

نصر بن سيار يثبنى وفرا

٣٤١

باب فى التقديرين المختلفين لمعنيين مختلفين

هذا فى كلام العرب كثير فاش ، والقياس له قابل مسوغ.

فمن ذلك قولهم : مررت بزيد ، وما كان نحوه ، مما يلحق من حروف الجرّ معونة لتعدّى الفعل. فمن وجه يعتقد فى الباء أنها بعض الفعل من حيث كانت معدّية وموصّلة له. كما أن همزة النقل فى (أفعلت) وتكرير العين فى (فعّلت) يأتيان لنقل الفعل وتعديته ؛ نحو قام ، وأقمته ، وقوّمته ، وسار ، وأسرته ، وسيّرته.

فلمّا كان حرف الجرّ الموصّل للفعل معاقبا لأحد شيئين ، كلّ واحد منهما مصوغ فى نفس المثال جرى مجراهما فى كونه جزءا من الفعل أو كالجزء منه. فهذا وجه اعتداده كبعض الفعل.

وأمّا وجه اعتداده كجزء من الاسم فمن حيث كان مع ما جرّه فى موضع نصب ، وهذا يقضى له بكونه جزءا ممّا بعده أو كالجزء منه ؛ ألا تراك تعطف على مجموعهما بالنصب ، كما تعطف على الجزء الواحد فى نحو قولك : ضربت زيدا وعمرا ؛ وذلك قولك : مررت بزيد وعمرا ، ورغبت فيك وجعفرا ، ونظرت إليك وسعيدا ؛ أفلا ترى إلى حرف الجرّ الموصّل للفعل كيف قدّر تقديرين مختلفين [لمعنيين مختلفين].

ووجه جوازه من قبل القياس أنك إنما تستنكر اجتماع تقديرين مختلفين لمعنيين متفقين ؛ وذلك كأن تروم أن تدلّ على قوّة اتصال حرف الجرّ بالفعل ، فتعتدّه تارة كالبعض له ، والأخرى كالبعض للاسم. فهذا ما لا يجوز مثله ؛ لأنه لا يكون كونه كبعض الاسم دليلا على شدّة امتزاجه بالفعل ، لكن لمّا اختلف المعنيان جاز أن يختلف التقديران ، فاعرف ذلك ، فإنه مما يقبله القياس ولا يدفعه.

ومثل ذلك قولهم : (لا أبا لك) ، فههنا تقديران مختلفان لمعنيين مختلفين.

وذلك أن ثبات الألف فى (أبا) من (لا أبا لك) دليل الإضافة ؛ فهذا وجه. ووجه آخر أن ثبات اللام وعمل (لا) فى هذا الاسم يوجب التنكير والفصل. فثبات الألف دليل الإضافة والتعريف ، ووجود اللام دليل الفصل والتنكير. وليس هذا

٣٤٢

فى الفساد والاستحالة بمنزلة فساد تحقير مثال الكثرة الذى جاء فساده من قبل تدافع حاليه. وذلك أنّ وجود ياء التحقير يقتضى كونه دليلا على القلّة ، وكونه مثالا موضوعا للكثرة دليل على الكثرة ؛ وهذا يجب منه أن يكون الشىء الواحد فى الوقت الواحد قليلا كثيرا. وهذا ما لا يجوز لأحد اعتقاده.

وليس كذلك تقديرك الباء فى نحو : مررت بزيد تارة كبعض الاسم ، وأخرى كبعض الفعل ، من قبل أن هذه إنما هى صناعة لفظيّة يسوغ معها تنقّل الحال وتغيّرها ، فأمّا المعانى فأمر ضيّق ، ومذهب مستصعب ؛ ألا تراك إذا سئلت عن زيد من قولنا : قام زيد سمّيته فاعلا ، وإن سئلت عن زيد من قولنا : زيد قام سمّيته مبتدأ لا فاعلا ، وإن كان فاعلا فى المعنى. وذلك أنك سلكت طريق صنعة اللفظ فاختلفت السّمة ، فأمّا المعنى فواحد. فقد ترى إلى سعة طريق اللفظ وضيق طريق المعنى.

فإن قلت : فأنت إذا قلت فى (لا أبا لك) إن الألف تؤذن بالإضافة والتعريف ، واللام تؤذن بالفصل والتنكير ، فقد جمعت على الشىء الواحد فى الوقت الواحد معنيين ضدّين ، وهما التعريف والتنكير ، وهذان ـ كما ترى ـ متدافعان.

قيل : الفرق بين الموضعين واضح ، وذلك أن قولهم : (لا أبا لك) كلام جرى مجرى المثل ، وذلك أنك إذا قلت هذا فإنك لا تنفى فى الحقيقة أباه ، وإنما تخرجه مخرج الدعاء ؛ أى أنت عندى ممن يستحقّ أن يدعى عليه بفقد أبيه. كذا فسّره أبو علىّ ، وكذلك هو لمتأمّله ؛ ألا ترى أنه قد أنشد توكيدا لما رآه من هذا المعنى فيه قوله :

* وتترك أخرى فردة لا أخا لها*

ولم يقل : لا أخت لها ، ولكن لمّا جرى هذا الكلام على أفواههم (لا أبا لك) (ولا أخا لك) قيل مع المؤنّث على حدّ ما يكون عليه مع المذكّر ، فجرى هذا نحوا من قولهم لكل أحد من ذكر وأنثى واثنين وجماعة (الصيف ضيعت اللبن) على التأنيث ؛ لأنه كذا جرى أوّله ، وإذا كان الأمر كذلك علم أن قولهم (لا أبا لك) إنما فيه تعادى ظاهره ، (واجتماع) صورتى الفصل والوصل ، والتعريف والتنكير ، لفظا لا معنى. وإذا آل الأمر إلى ذلك عدنا إلى مثل ما كنا عليه ؛ من تنافر قضيّتى

٣٤٣

اللفظ فى نحو : مررت بزيد ؛ إذا أردت بذلك أن تدلّ على شدة اتصال حرف الجرّ بالفعل وحده دون الاسم ، ونحن إنما عقدنا فساد الأمر وصلاحه على المعنى ؛ كأن يكون الشىء الواحد فى الوقت الواحد قليلا كثيرا. (وهذا) ما لا يدّعيه مدّع ، ولا يرضاه ـ مذهبا لنفسه ـ راض.

ويؤكّد عندك خروج هذا الكلام مخرج المثل كثرته فى الشعر ، وأنه يقال لمن له أب ولمن ليس له أب. فهذا الكلام دعاء فى المعنى لا محالة ، وإن كان فى اللفظ خبرا. ولو كان دعاء مصرّحا وأمرا معنيّا لما جاز أن يقال لمن لا أب له ؛ لأنه إذا كان لا أب له لم يجر أن يدعى عليه بما هو فيه لا محالة ؛ ألا ترى أنك لا تقول للأعمى : أعماه الله ، ولا للفقير : أفقره الله ؛ وهذا ظاهر باد. وقد (مرّ به) الطائىّ الكبير فقال :

نعمة الله فيك لا أسأل ال

له إليها نعمى سوى أن تدوما

ولو أنى فعلت كنت كمن يس

أله وهو قائم أن يقوما

فكما لا تقول لمن لا أب له : أفقدك الله أباك ؛ كذلك يعلم أن قولهم لمن لا أب له : (لا أبا لك) لا حقيقة لمعناه مطابقة للفظه ، وإنما هى خارجة مخرج المثل ، على ما فسّره أبو علىّ. قال عنترة :

فافنى حياءك لا أبا لك واعلمى

أنّى امرؤ سأموت إن لم أقتل (١)

وقال :

ألق الصحيفة لا أبا لك إنه

يخشى عليك من الحباء النّقرس (٢)

وقال :

__________________

(١) البيت لعنترة فى ديوانه ص ٢٥٢ ، ولسان العرب (أبى) (قنا) ، وتاج العروس (قنا) وكتاب العين ٥ / ٢١٧ ، وبلا نسبة فى تهذيب اللغة ٩ / ٣١٤ ، ومقاييس اللغة ٥ / ٢٩.

(٢) البيت للمتلمس فى ديوانه ص ١٨٦ ، ولسان العرب (نقرس) ، (أبى) ، وتهذيب اللغة ٩ / ٣٩٥ ، وتاج العروس (نقرس). قال المتلمس يخاطب طرفة. يقول : إنه يخشى عليه من الحباء ، الذى كتب له به ، النّقرس ، وهو الهلاك والداهية العظيمة.

٣٤٤

أبالموت الذى لا بدّ أنى

ملاق لا أباك تخوّفينى (١)

أراد : لا أبا لك ؛ فحذف اللام من جارى عرف الكلام. وقال جرير :

يا تيم تيم عدىّ لا أبا لكم

لا يلقينّكم فى سوأة عمر (٢)

وهذا أقوى دليل على كون هذا القول مثلا لا حقيقة ؛ ألا ترى أنه لا يجوز أن يكون للتّيم كلّها أب واحد ، ولكن معناه : كلكم أهل للدعاء عليه والإغلاظ له.

وقال الحطيئة :

أقلّوا عليهم لا أبا لأبيكم

من اللّوم أو سدّوا المكان الذى سدّوا (٣)

فإن قلت : فقد أثبت الحطيئة فى هذا البيت ما نفيته أنت فى البيت الذى قبله ، وذلك أنه قال (لأبيكم) فجعل للجماعة أبا واحدا ، وأنت قلت هناك : إنه لا يكون لجماعة تيم أب واحد ؛ فالجواب عن هذا من موضعين : أحدهما ما قدّمناه من أنه لا يريد حقيقة الأب ، وإنما غرضه الدعاء مرسلا ففحّش بذكر الأب على ما مضى.

والآخر أنه قد يجوز أن يكون أراد بقوله (لأبيكم) الجمع ؛ أى لا أبا لآبائكم.

__________________

(١) البيت لأبى حيّة النميرى فى ديوانه ص ١٧٧ ، وخزانة الأدب ٤ / ١٠٠ ، ١٠٥ ، ١٠٧ ، والدرر ٢ / ٢١٩ ، وشرح شواهد الإيضاح ص ٢١١ ، ولسان العرب (خعل) ، (أبى) ، (فلا) ، وبلا نسبة فى الأشباه والنظائر ٣ / ١٣٢ ، وشرح التصريح ٢ / ٢٦ ، وشرح ديوان الحماسة للمرزوقى ص ٥٠١ ، وشرح شذور الذهب ص ٤٢٤ ، وشرح المفصل ٢ / ١٠٥ ، واللامات ص ١٠٣ ، والمقتضب ٤ / ٣٧٥ ، والمقرب ١ / ١٩٧ ، والمنصف ٢ / ٣٣٧ ، وهمع الهوامع ١ / ٣٣٧.

(٢) البيت لجرير فى ديوانه ص ٢١٢ ، والأزهية ص ٢٣٨ ، والأغانى ٢١ / ٣٤٩ ، وخزانة الأدب ٢ / ٢٩٨ ، ٣٠١ ، ٤ / ٩٩ ، ١٠٧ ، والدرر ٦ / ٢٩ ، وشرح أبيات سيبويه ١ / ١٤٢ ، وشرح شواهد المغنى ٢ / ٨٥٥ ، وشرح المفصل ٢ / ١٠ ، والكتاب ١ / ٥٣ ، ٢ / ٢٠٥ ، واللامات ص ١٠١ ، ولسان العرب (أبى) والمقاصد النحوية ٤ / ٢٤٠ ، والمقتضب ٤ / ٢٢٩ ، ونوادر أبى زيد ص ١٣٩ ، وبلا نسبة فى الأشباه والنظائر ٤ / ٢٠٤ ، وأمالى ابن الحاجب ٢ / ٧٢٥ ، وجواهر الأدب ص ١٩٩ ، ٤٢١ ، وخزانة الأدب ٨ / ٣١٧ ، ١٠ / ١٩١ ، ورصف المبانى ص ٢٤٥ ، وشرح الأشمونى ٢ / ٤٥٤ ، وشرح ابن عقيل ص ٥٢٢ ، وشرح المفصل ٢ / ١٠٥ ، ٣ / ٢١ ومغنى اللبيب ٢ / ٤٥٧ ، وهمع الهوامع ٢ / ١٢٢.

(٣) انظر الديوان والكامل ٥ / ١٥٤. (نجار).

٣٤٥

يريد الدعاء على آبائهم من حيث ذكرها ، فجاء به جمعا مصحّحا على قولك : أب ، وأبون ، وأبين ؛ قال :

فلمّا تبيّنّ أصواتنا

بكين وفدّيننا بالأبينا (١)

وعليه قول الآخر ـ أنشدناه ـ :

فمن يك سائلا عنى فإنى

بمكّة مولدى وبها ربيت (٢)

وقد شنئت بها الآباء قبلى

فما شنئت أبىّ ولا شنيت

أى ما شنئت آبائى. فهذا شيء عرض ، ولنعد.

ومن ذلك قولهم : مختار ومعتاد ، ونحو ذلك ؛ فهذا يحمل تقديرين مختلفين لمعنيين مختلفين. وذلك أنه إن كان اسم الفاعل فأصله مختير ومعتود ؛ كمقتطع (بكسر العين). وإن كان مفعولا فأصله مختير ومعتود ، كمقتطع. فـ «مختار» من قولك : أنت مختار ، للثياب ؛ أى مستجيد لها أصله مختير. ومختار من قولك : هذا ثوب مختار ، أصله مختير. فهذان تقديران مختلفان لمعنيين. وإنما كان يكون هذا منكرا لو كان تقدير فتح العين وكسرها لمعنى واحد ؛ فأمّا وهما لمعنيين فسائغ حسن. وكذلك ما كان من المضعّف فى هذا الشرج (٣) من الكلام ؛ نحو قولك : هذا رجل معتدّ للمجد ؛ ونحوه ، فهذا هو اسم الفاعل ، وأصله معتدد (بكسر العين) ، وهذا رجل معتدّ ؛ أى منظور إليه ، فهذا مفتعل (بفتح العين) وأصله معتدد كقولك : هذا معنى معنى معتبر ؛ أى ليس ؛ بصغير محتقر. وكذلك هذا جوز معتدّ ، فهذا أيضا اسم المفعول ، وأصله معتدد كمقتسم ، ومقتطع. ونظائر هذا وما قبله كثيرة فاشية.

ومن ذلك قولهم : كساء ، وقضاء ، ونحوه ؛ أعللت اللام لأنك لم تعتدّ بالألف حاجزا لسكونها ، وقلبتها أيضا لسكونها وسكون الألف قبلها ؛ فاعتددتها من وجه ،

__________________

(١) أورده سيبويه فى الكتاب ٢ / ١٠١ ، وقال : «أنشدناه من نثق به ، وزعم أنه جاهلى» وهو زياد بن واصل السلمى. وانظر الخزانة ٢ / ٢٧٥. (نجار).

(٢) ربيت وربوت فى حجره أربى ربا وربوا أى : نشأت. والبيت فى اللسان (ربا).

(٣) الشرج : الضرب والنوع.

٣٤٦

ولم تعتددها من آخر.

ومن ذلك أيضا قولهم : أيّهم تضرب يقم زيد. فـ (أيّهم) من حيث كانت جازمة لـ (تضرب) يجب أن تكون مقدّمة عليها ، ومن حيث كانت منصوبة بـ (تضرب) يجب أن تكون فى الرتبة مؤخّرة عنها ، فلم يمتنع أن يقع هذان التقديران على اختلافهما ؛ من حيث كان هذا إنما هو عمل صناعىّ لفظىّ. ولو كان التعادى والتخالف فى المعنى لفسد (ولم) يجز. وأيضا فإن حقيقة الجزم إنما هو لحرف الجزاء المقدّر المراد ، لا لـ (أىّ) ؛ (فإذا) كان كذلك كان الأمر أقرب مأخذا ، وألين ملمسا.

* * *

٣٤٧

باب فى تدريج اللغة

وذلك أن يشبه شيء شيئا من موضع ، فيمضى حكمه على حكم الأوّل ، ثم يرقّى منه إلى غيره.

فمن ذلك قولهم : جالس الحسن أو ابن سيرين ، (ولو) جالسهما جميعا لكان مصيبا مطيعا لا مخالفا ، وإن كانت (أو) إنما هى فى أصل وضعها لأحد الشيئين.

وإنما جاز ذلك فى هذا الموضع ، لا لشيء رجع إلى نفس (أو) بل لقرينة انضمّت من جهة المعنى إلى (أو). وذلك لأنه قد عرف أنه إنما رغّب فى مجالسة الحسن لما لمجالسه فى ذلك من الحظّ ، وهذه الحال موجودة فى مجالسة ابن سيرين أيضا ، وكأنه قال : جالس هذا الضرب من الناس. وعلى ذلك جرى النهى فى هذا الطرز من القول فى قول الله سبحانه (وَلا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِماً أَوْ كَفُوراً) [الإنسان : ٢٤] وكأنه ـ والله أعلم ـ قال : لا تطع هذا الضرب من الناس. ثم إنه لما رأى (أو) فى هذا الموضع قد جرت مجرى الواو تدرّج من ذلك إلى غيره ، فأجراها مجرى الواو فى موضع عار من هذه القرينة التى سوّغته استعمال (أو) فى معنى الواو ؛ ألا تراه كيف قال :

وكان سيّان ألا يسرحوا نعما

أو يسرحوه بها ، واغبرّت السوح (١)

وسواء وسيّان لا يستعمل إلا بالواو. وعليه قول الآخر :

فسيّان حرب أو تبوءوا بمثله

وقد يقبل الضيم الذليل المسيّر (٢)

أى فسيّان حرب وبواؤكم بمثله ، كما أن معنى الأوّل : فكان سيّان ألا يسرحوا نعما ، وأن يسرحوه بها. وهذا واضح.

__________________

(١) البيت لأبى ذؤيب الهذلى فى خزانة الأدب ٥ / ١٣٤ ، ١٣٧ ، ١٣٨ ، وشرح أشعار الهذليين ص ١٢٢ ، وشرح شواهد الإيضاح ص ٢٤٥ ، وشرح شواهد المغنى ص ١٩٨ ، ولسان العرب (سوا) وبلا نسبة فى خزانة الأدب ٤ / ٨٩ ، ١١ / ٧٠ ، ورصف المبانى ص ١٣٢ ، ٤٢٧ ، وشرح المفصل ٨ / ٩١ ، ومغنى اللبيب ص ٦٣.

(٢) البيت بلا نسبة فى شرح المفصّل ٨ / ٩١ ، ولسان العرب (سوا).

٣٤٨

ومن ذلك قولهم : صبية وصبيان ؛ قلبت الواو من صبوان وصبوة فى التقدير ـ لأنه من صبوت ـ لانكسار الصاد قبلها ، وضعف الباء أن تعتدّ حاجزا ؛ لسكونها.

وقد ذكرنا ذلك. فلمّا ألف هذا واستمرّ تدرّجوا منه إلى أن أقرّوا قلب الواو ياء بحاله وإن زالت الكسرة ، وذلك قولهم أيضا : صبيان وصبية ، (وقد) كان يجب ـ لمّا زالت الكسرة ـ أن تعود الياء واوا إلى أصلها ، لكنهم أقرّوا الياء بحالها لاعتيادهم إيّاها حتى صارت كأنها كانت أصلا. وحسّن ذلك لهم شيء آخر ، وهو أن القلب فى صبية وصبيان إنما كان استحسانا وإيثارا ، لا عن وجوب علّة ، ولا قوّة قياس ؛ فلمّا لم تتمكّن علّة القلب ورأوا اللفظ بياء قوى عندهم إقرار الياء بحالها ؛ لأن السبب الأوّل إلى قلبها لم يكن قويّا ، ولا ممّا يعتاد فى مثله أن يكون مؤثّرا.

ومن ذلك قولهم فى الاستثبات عمن قال ضربت رجلا : منا؟ ومررت برجل منى؟ وعندى رجل : منو؟ فلمّا شاع هذا ونحوه عنهم تدرّجوا منه إلى أن قالوا : ضرب من منا ؛ كقولك : ضرب رجل رجلا.

ومن ذلك قولهم : أبيض لياح ، وهو من الواو ؛ لأنه بياضه ما يلوح للناظر.

فقلبت الواو ياء لانكسار ما قبلها ، وليس ذلك عن قوّة علّة ، إنما هو للجنوح إلى خفّة الياء مع أدنى سبب ، وهو التطرّق إليها بالكسرة طلبا للاستخفاف ، لا عن وجوب قياس ؛ ألا ترى أن هذا الضرب من (الأسماء التى ليست) جمعا كرباض ، وحياض ، ولا مصدرا جاريا على فعل معتلّ ؛ كقيام ، وصيام ، إنما يأتى مصحّحا ؛ نحو : خوان ، وصوان ؛ غير أنهم لميلهم عن الواو إلى الياء ما أقنعوا أنفسهم فى لياح فى قلبهم إيّاه إلى الواو بتلك الكسرة قبلها ، وإن كانت ليس مما يؤثّر حقيقة التأثير مثلها ، ولأنهم شبّهوه لفظا إمّا بالمصدر كحيال ، وصيال ، وإمّا بالجمع كسوط ، وسياط ، ونوط ، ونياط. نعم ، وقد فعلوا مثل هذا سواء فى موضع آخر. وذلك قول بعضهم فى صوان : صيان ، وفى صوار : صيار ؛ فلمّا ساغ ذلك من حيث أرينا أو كاد تدرّجوا منه إلى أن فتحوا فاء لياح ، ثم أقرّوا الياء بحالها وإن كانت الكسرة قبلها قد زايلتها ، وذلك قولهم فيه : لياح. وشجّعه على ذلك شيئا أن قلب الواو ياء فى لياح لم يكن عن قوّة ولا استحكام علّة ، وإنما هو لإيثار

٣٤٩

الأخفّ على الأثقل ، فاستمرّ على ذلك وتدرّج منه إلى أن أقرّ الياء بحالها مع الفتح ؛ إذ كان قلبها مع الكسر أيضا ليس بحقيقة موجب. قال : وكما أن القلب مع الكسر لم يكن عن صحّة عمل ، وإنما هو لتخفيف مؤثر ، فكذلك أقلب أيضا مع الفتح وإن لم يكن موجبا ، غير أن الكسر هنا على ضعفه أدعى إلى القلب من الفتح ، فلذلك جعلنا ذاك تدرّجا عنه إليه ولم نسوّ بينهما فيه. فاعرف ذلك.

وقريب من ذلك قول الشاعر :

ولقد رأيتك بالقوادم مرّة

وعلىّ من سدف العشىّ رياح (١)

قياسه رواح ؛ لأنه فعال من راح يروح ، لكنه لمّا كثر قلب هذه الواو فى تصريف هذه الكلمة ياء ـ نحو ريح ورياح ، ومريح ومستريح ـ وكانت الياء أيضا عليهم أخفّ ، وإليهم أحبّ ، تدرّجوا من ذلك إلى أن قلبوها فى رياح ، وإن زالت الكسرة التى كانت قلبتها فى تلك الأماكن.

ومن ذلك قلبهم الذال دالا فى (ادّكر) وما تصرّف منه ؛ نحو يدّكر ، ومدّكر ، وادّكار ، وغير ذلك : تدرّجوا من هذا إلى غيره بأن قلبوها دالا فى غير بناء افتعل ، فقال ابن مقبل.

* من بعض ما يعترى قلبى من الدكر (٢) *

ومن ذلك قولهم : الطنّة ـ بالطاء ـ فى الظنة ، وذلك فى اعتيادهم اطّنّ ، ومطّن ، واطّنان ، كما جاءت الدكر على الأكثر.

ومن ذلك حذفهم الفاء ـ على القياس ـ من ضعة وقحة ؛ كما حذفت من عدة وزنة ؛ ثم إنهم عدلوا بها عن فعلة إلى فعلة ، فأقرّوا الحذف بحاله ، وإن زالت الكسرة التى كانت موجبة له ، فقالوا : الضعة ، والقحة ، فتدرّجوا بالضعة ،

__________________

(١) البيت للأسدى فى أساس البلاغة (روح) ، وبلا نسبة فى لسان العرب (روح) ، (سدف) ، وتاج العروس (روح) ، (سدف). و «رباح» بكسر الراء فسره ثعلب فقال : معناه وقت. القوادم : موضع.

(٢) عجز بيت لتميم بن مقبل فى ديوانه ص ٨١ ، وسر صناعة الإعراب ١ / ١٨٨ ، والمقرب ٢ / ١٦٧ ، والممتع فى التصريف ١ / ٣٥٩ ، والمنصف ٣ / ١٤٠ ، ويروى صدره :

* يا ليت لى سلوة تشفى النفوس بها*

٣٥٠

والقحة ، إلى الضعة ، والقحة ، وهى عندنا فعلة ، كقصعة ، وجفنة ، (لا أن) فتحت لأجل الحرف الحلقىّ فيما ذهب إليه محمد بن يزيد.

ومن ذلك قولهم : بأيّهم تمرر أمرر ؛ فقدّموا حرف الجرّ على الشرط فأعملوا فيه ، وإن كان الشرط لا يعمل فيه ما قبله ؛ لكنهم لمّا لم يجدوا طريقا إلى تعليق حرف الجرّ استجازوا إعماله فى الشرط. فلمّا ساغ لهم ذلك تدرّجوا منه إلى أن أضافوا إليه الاسم فقالوا : غلام من تضرب أضربه ، وجارية من تلق ألقها.

فالاسم فى هذا إنما جاز عمله فى الشرط من حيث كان محمولا فى ذلك على حرف الجرّ. وجميع هذا حكمه فى الاستفهام حكمه فى الشرط من حيث كان الاستفهام له صدر الكلام ؛ كما أن الشرط كذلك. فعلى هذه جاز بأيّهم تمرّ؟

وغلام من تضرب؟ فأمّا قولهم :

* أتذكر إذ من يأتنا نأته (١) *

فلا يجوز إلا فى ضرورة الشعر ؛ وإنما يجوز على تقدير حذف المبتدأ ، أى أتذكر إذ الناس من يأتنا نأته ، فلمّا باشر المضاف غير المضاف إليه فى اللفظ أشبه الفصل بين المضاف والمضاف إليه ؛ فلذلك أجازوه فى الضرورة.

فإن قيل : فما الذى يمنع من إضافته إلى الشرط وهو ضرب من الخبر؟ قيل : لأن الشرط له صدر الكلام ؛ فلو أضفت إليه لعلّقته بما قبله ، وتانك حالتان متدافعتان. فأمّا بأيّهم تمرر أمرر ونحوه فإن حرف الجرّ متعلّق بالفعل بعد الاسم ، والظرف فى قولك : أتذكر إذ من يأتنا نأته متعلّق بقولك أتذكر ، وإذا خرج ما يتعلّق به حرف الجرّ من حيّز الاستفهام لم يعمل فى الاسم المستفهم به ولا المشروط به.

ومن التدريج فى اللغة أن يكتسى المضاف من المضاف إليه كثيرا من أحكامه : من التعريف ، والتنكير ، والاستفهام ، والشياع وغيره ؛ ألا ترى أن ما لا يستعمل من الأسماء فى الواجب إذا أضيف إليه شيء منها صار فى ذلك إلى حكمه.

__________________

(١) هذا صورة شطر بيت من الشعر ، ولم يأت فى شعر ، ولكنه أجيز إذا فرض أن أدخله شاعر فى شعره. وانظر الكتاب ١ / ٤٤٠ ، والهمع ٢ / ٦٢. (نجار).

٣٥١

وذلك قولك : ما قرعت حلقة باب دار أحد قطّ ؛ فسرى ما فى (أحد) من العموم والشياع إلى «الحلقة». ولو قلت : قرعت حلقة باب دار أحد ، أو نحو ذلك لم يجز.

ومن التدريج فى اللغة : إجراؤهم الهمزة المنقلبة عن حرفى العلّة عينا مجرى الهمزة الأصليّة. وذلك نحو قولهم فى تحقير قائم ، وبائع : قويئم ، وبويئع ؛ فألحقوا الهمزة المنقلبة بالهمزة الأصليّة فى سائل ، وثائر ؛ من سأل وثأر ، إذا قلت : سويئل ، وثويئر. وليست كذلك اللام إذا انقلبت همزة عن أحد الحرفين ؛ نحو كساء ، وقضاء ؛ ألا تراك تقول فى التحقير : كسىّ ، وقضىّ ؛ فتردّ حرف العلّة وتحذفه لاجتماع الياءات. وليست كذلك الهمزة الأصليّة ؛ ألا تراك تقول فى تحقير سلاء وخلاء (١) بإقرار الهمزة لكونها أصلية ، وذلك سليّئ وخليّئ. وتقول أيضا فى تكسير كساء وقضاء بترك الهمزة البتّة ؛ وذلك قولك : أكسية ، وأقضية. وتقول فى سلاء ، وخلاء : أسلئة وأخلئة ؛ فاعرف ذلك.

لكنك لو بنيت من قائم وبائع شيئا مرتجلا أعدت الحرفين البتّة. وذلك كأن تبنى منهما مثل جعفر ، فتقول : قومم وبيعع. ولم تقل : قأمم ، ولا بأعع ؛ لأنك إنما تبنى من أصل المثال لا من حروفه المغيّرة ؛ ألا تراك لو بنيت من قيل وديمة مثال (فعل) لقلت : دوم وقول ؛ لا غير.

فإن قلت : ولم لم تقرر الهمزة فى قائم وبائع فيما تبنيه منهما ، كما أقررتها فى تحقيرهما؟

قيل : البناء من الشىء أن تعمد لأصوله ، فتصوغ منها وتطرح زوائده فلا تحفل بها. وليس كذلك التحقير. وذلك أن صورة المحقّر معك ، ومعنى التكبير والتحقير فى أن كل واحد منهما واحد واحد ، وإنما بينهما أن أحدهما كبير والأخر صغير ، فأما الإفراد والتوحيد فيهما كليهما فلا نظر فيه. قال أبو على ـ رحمه‌الله ـ فى صحّة الواو فى نحو أسيود ، وجديول : مما أعان على ذلك وسوغه أنه فى معنى

__________________

(١) السلاء : السمن. والخلاء فى الإبل كالحران فى الدوابّ ، خلأت الناقة تخلأ خلأ وخلاء ، بالكسر والمد : وخلوء ، وهى خلوء : بركت ، أو حرنت من غير علة. وانظر اللسان (خلأ).

٣٥٢

جدول صغير ؛ فكما تصحّ الواو فى جدول صغير فكذلك أنس بصحّة الواو فى جديول. وليس كذلك الجمع ؛ لأنه رتبة غير رتبة الآحاد ، فهو شيء آخر ، فلذلك سقطت فى الجمع حرمة الواحد ؛ ألا تراك تقول فى تكسير قائم : قوّام ، وقوّم ؛ فتطرح الهمزة وتراجع لفظ الأصل ، ولا تقول : قؤّام ، ولا قؤّم ؛ كما قلت فى التحقير : قويئم ؛ بالهمز.

وسألت مرّة أبا على ـ رحمه‌الله ـ عن ردّ سيبويه كثيرا من أحكام التحقير إلى أحكام التكسير وحمله إيّاها عليها ؛ ألا تراه قال تقول : سريحين لقولك : سراحين ، ولا تقول : عثيمين ؛ لأنك لا تقول : عثامين ، ونحو ذلك. فقال : إنما حمل التحقير فى هذا على التكسير من حيث كان التكسير بعيدا عن رتبة الآحاد.

فاعتدّ ما يعرض فيه لاعتداده بمعناه ، والمحقّر هو المكبّر ، والتحقير فيه جار مجرى الصفة ؛ فكأن لم يحدث بالتحقير أمر يحمل عليه غيره ، كما حدث بالتكسير حكم يحمل عليه الإفراد : هذا معقد معناه ، وما أحسنه وأعلاه!.

ومن التدريج قولهم : هذا حضرموت بالإضافة ؛ على منهاج اقتران الاسمين أحدهما بصاحبه. ثم تدرّجوا من هذا إلى التركيب فقالوا : هذا حضرموت. ثم تدرّجوا من هذا إلى أن صاغوهما جميعا صياغة المفرد فقالوا : هذا حضرموت ؛ فجرى لذلك مجرى عضرفوط ، ويستعور.

ومن التدريج فى اللغة قولهم : ديمة (١) وديم ؛ واستمرار القلب فى العين للكسرة قبلها ، ثم تجاوزوا ذلك لمّا كثر وشاع إلى أن قالوا : ديّمت السماء ودوّمت ؛ فأمّا دوّمت فعلى القياس ، وأما ديّمت فلاستمرار القلب فى ديمة وديم.

أنشد أبو زيد :

هو الجواد ابن الجواد ابن سبل

إن دوّموا جاد وإن جادوا وبل (٢)

__________________

(١) هى المطر الدائم فى سكون.

(٢) الرجز لجهم بن سبل فى لسان العرب (سبل) ، (يوم) ، ولأبى زياد الكلابى فى تاج العروس (سبل) وبلا نسبة فى لسان العرب (دوم) وجمهرة اللغة ص ٣٤٠ ، ٣٨٠ ، والمخصص ٩ / ١١٤ ، ومقاييس اللغة ٦ / ٨٢ ، وديوان الأدب ٣ / ٤٣٨ ، وتاج العروس (سبل) ، (دوم) ،

٣٥٣

ورواه أيضا «ديّموا» بالياء. نعم ثم قالوا : دامت السماء تديم ؛ فظاهر هذا أنه أجرى مجرى باع يبيع ، وإن كان من الواو.

فإن قلت : فلعله فعل يفعل من الواو ؛ كما ذهب الخليل فى طاح يطيح ، وتاه يتيه ؛ قيل : حمله على الإبدال أقوى ؛ ألا ترى أنه قد حكى فى مصدره ديما ؛ فهذا مجتذب إلى الياء ، مدرّج إليها ، مأخوذ به نحوها.

فإن قلت : فلعلّ الياء لغة فى هذا الأصل كالواو ، بمنزلة ضاره يضيره ضيرا ، وضاره يضوره ضورا. قيل : يبعد ذلك هنا ؛ ألا ترى إلى اجتماع الكافّة على قولهم : الدوام ، وليس أحد يقول : الديام ؛ فعلمت بذلك أن العارض فى هذا الموضع إنما هو من جهة الصنعة ، لا من جهة اللغة.

ومثل ذلك ما حكاه أبو زيد من قولهم : (ماهت (١) الركيّة تميه ميها) ؛ مع إجماعهم على أمواه ، وأنه لا أحد يقول : أمياه.

ونحو من ذلك ما يحكى عن عمارة بن عقيل من أنه قال فى جمع ريح : أرياح ؛ حتى نبّه عليه فعاد إلى أرواح. وكأن أرياحا أسهل قليلا ؛ لأنه قد جاء عنهم قوله :

* وعلىّ من سدف العشىّ رياح (٢) *

فهو بالياء لهذا آنس.

وجماع هذا الباب غلبة الياء على الواو لخفّتها ؛ فهم لا يزالون تسبّبا إليها ،

__________________

والأزمنة ـ والأمكنة ٢ / ٨٨. وقال الجوهرى : سبل اسم فرس نجيب فى العرب ؛ قال الأصمعىّ : هى أم أعوج. والرواية :

* أنا الجواد ابن الجواد ابن سبل*

اللسان (سبل).

(١) ماهت الرّكيّة تميه ميها وماهة وميهة : كثر ماؤها. اللسان (ميه).

(٢) عجز بيت للأسدى فى أساس البلاغة (روح) ، وبلا نسبة فى لسان العرب (روح) ، (سدف) ، وتاج العروس (روح) ، (سدف) ويروى صدره :

* ولقد رأيتك بالقوادم نظرة*

٣٥٤

ونجشا (١) عنها ، واستثارة لها ، وتقرّبا ما استطاعوا منها.

ونحو هذه الطريق فى التدريج : حملهم علباوان على حمراوان ، ثم حملهم رداوان على علباوان ، ثم حملهم قرّاوان على رداوان ؛ وقد تقدّم ذكره. وفى هذا كاف مما يرد فى معناه بإذن الله تعالى.

ومن ذلك أنه لمّا اطّردت إضافة أسماء الزمان إلى الفعل ؛ نحو : قمت يوم قمت ، وأجلس حين تجلس ؛ شبّهوا ظرف المكان بها فى (حيث) ؛ فتدرّجوا من «حين» إلى «حيث» فقالوا : قمت حيث قمت. ونظائره كثيرة.

* * *

__________________

(١) النجش : البحث عن الشىء واستخراجه.

٣٥٥

باب فى أن ما قيس على كلام العرب

فهو من كلام العرب

هذا موضع شريف. وأكثر الناس يضعف عن احتماله ؛ لغموضه ولطفه.

والمنفعة به عامّة ، والتساند إليه مقوّ مجد. وقد نصّ أبو عثمان عليه فقال : ما قيس على كلام العرب فهو من كلام العرب ؛ ألا ترى أنك لم تسمع أنت ولا غيرك اسم كل فاعل ولا مفعول ، وإنما سمعت البعض فقست عليه غيره. فإذا سمعت «قام زيد» أجزت ظرف بشر ، وكرم خالد.

قال أبو على : إذا قلت : «طاب الخشكنان» فهذا من كلام العرب ؛ لأنك بإعرابك إيّاه قد أدخلته كلام العرب.

ويؤكّد هذا عندك أن ما أعرب من أجناس الأعجميّة قد أجرته العرب مجرى أصول كلامها ؛ ألا تراهم يصرفون فى العلم نحو آجرّ ، وإبريسيم ، وفرند ، وفيروزج ، وجميع ما تدخله لام التعريف. وذلك أنه لمّا دخلته اللام فى نحو الديباج ، والفرند ، والسهريز (١) ، والآجرّ ؛ أشبه أصول كلام العرب ، أعنى النكرات. فجرى فى الصرف ومنعه مجراها.

قال أبو على : ويؤكّد ذلك أن العرب اشتقّت من الأعجمىّ النكرة ، كما تشتقّ من أصول كلامها ؛ قال رؤبة :

هل ينجينّى حلف سختيت

أو فضّة أو ذهب كبريت (٢)

__________________

(١) والسّهريز والسّهريز بضم السين وكسرها : ضرب من التمر ، معرب ويقال سهريز وشهريز ، بالسين والشين جميعا ، وهو بالسين أعرب ويقال : ثوب سهريز ؛ بالوصف والإضافة. اللسان (شهرز).

(٢) الرجز لرؤبة بن العجاج فى ديوانه ص ٢٦ ، ولسان العرب (سخت) ، (كبرت) ، (كبر) ، وتهذيب اللغة ٧ / ١٦١ ، ١٠ / ٤٣٥ ، وتاج العروس (سخت) ، (كبرت) ، وجمهرة اللغة ص ١١٩٠ ، وكتاب العين ٤ / ١٩٤ ، ٥ / ٤٣٠ ، وديوان الأدب ٢ / ٧٥ ، وللعجاج فى ديوانه ٢ / ١٨٩ ، ١٩٠ ، وبلا نسبة فى جمهرة اللغة ص ١١١١ ، ومجمل اللغة ٤ / ٢٣٧ ،

٣٥٦

قال : فـ «سختيت» من السخت ؛ كـ «زحليل» (١) من الزحل.

وحكى لنا أبو على عن ابن الأعرابى أظنه قال : يقال درهمت الخبّازى ؛ أى صارت كالدراهم ، فاشتقّ من الدرهم وهو اسم أعجمىّ. وحكى أبو زيد : رجل مدرهم. قال ولم يقولوا منه : درهم ؛ إلا أنه إذا جاء اسم المفعول فالفعل نفسه حاصل فى الكفّ. ولهذا أشباه.

وقال أبو عثمان فى الإلحاق المطرّد إن موضعه من جهة اللام ؛ نحو قعدد ، ورمدد ، وشملل ، وصعرر. وجعل الإلحاق بغير اللام شاذّا لا يقاس عليه. وذلك نحو جوهر ، وبيطر ، وجدول ، وحذيم ، ورهوك ، وأرطى ، ومعزى ، وسلقى ، وجعبى. قال أبو على وقت القراءة عليه كتاب أبى عثمان : لو شاء شاعر ، أو ساجع ، أو متّسع ، أن يبنى بإلحاق اللام اسما ، وفعلا ، وصفة ، لجاز له ، ولكان ذلك من كلام العرب. وذلك نحو قولك : خرجج أكرم من دخلل ، وضربب زيد عمرا ، ومررت برجل ضربب وكرمم ونحو ذلك. قلت له : أفترتجل اللغة ارتجالا؟ قال : ليس بارتجال ، لكنه مقيس على كلامهم ، فهو إذا من كلامهم. قال : ألا ترى أنك تقول : طاب الخشكنان فتجعله من كلام العرب ، وإن لم تكن العرب تكلّمت به. هكذا قال ؛ فبرفعك إيّاه كرفعها ما صار لذلك محمولا على كلامها ، ومنسوبا إلى لغتها.

ومما اشتقّته العرب من كلام العجم ما أنشدناه (من قول الراجز) :

هل تعرف الدار لأمّ الخزرج

منها فظلت اليوم كالمزرّج (٢)

أى الذى شرب الزرجون (٣) ؛ وهى الخمر. فاشتق المزرّج من الزرجون ؛ وكان

__________________

والمخصص ـ ٣ / ٨٨ ، ويروى (ينفعنّى كذب) مكان (ينجّينّى حلف) وفيه : و «حلف سختيت» ، «كذب سختيت» وسختيت أى شديد من السخت وهو الشديد ، وكذب سختيت : خالص. و «هل يعصمنى» والكبريت : الذهب الأحمر قال ابن الأعرابى : ظن رؤبة أن الكبريت ذهب.

(١) الزحليل : السريع ، من الزحل وهو السريع. اللسان (زحل).

(٢) الرجز بلا نسبة فى لسان العرب (زرجن) والممتع فى التصريف ١ / ٢٥٤ ، والمنصف ١ / ١٤٨ ، وتاج العروس (زرج) ، (جبر) ومقاييس اللغة ٤ / ٩١ ، ومجمل اللغة ٣ / ٣٩٣.

(٣) الزرجون : لون الذهب ، فارسية معربة. اللسان (زرجن).

٣٥٧

قياسه : كالمزرجن ، من حيث كانت النون فى زرجون قياسها أن تكون أصلا ؛ إذ كانت بمنزلة السين من قربوس. قال أبو على : ولكن العرب إذا اشتقّت من الأعجمىّ خلّطت فيه. قال : والصحيح من نحو هذا الاشتقاق قول رؤبة.

* فى خدر ميّاس الدمى معرجن (١) *

وأنشدناه (المعرجن) باللام. فقوله (المعرجن) يشهد بكون النون من عرجون أصلا ، وإن كان من معنى الانعراج ؛ ألا تراهم فسّروا قول الله تعالى : (حَتَّى عادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ) [يس : ٣٩] فقالوا : هى الكباسة (٢) إذا قدمت فانحنت ؛ فقد (كان على هذا القياس يجب) أن يكون نون (عرجون) زائدة ، كزيادتها فى (زيتون) ، غير أن بيت رؤبة الذى يقول فيه (المعرجن) منع هذا ، وأعلمنا أنه أصل رباعيّ قريب من لفظ الثلاثيّ ؛ كسبطر من سبط ، ودمثر ، من دمث ؛ ألا ترى أنه ليس فى الأفعال (فعلن) وإنما ذلك فى الأسماء نحو علجن (٣) ، وخلبن.

ومما يدلّك على أنّ ما قيس على كلام العرب فإنه من كلامها أنك لو مررت على قوم (يتلاقون بينهم مسائل) أبنية التصريف ؛ نحو قولهم فى مثال (صمجمح) من الضرب : (ضربرب) ومن القتل (قتلتل) ومن الأكل (أكلكل) ومن الشرب (شربرب) ومن الخروج (خرجرج) ومن الدخول (دخلخل). وفى مثل (سفرجل) من جعفر : (جعفرر) ومن صقعب (٤) (صقعبب) ومن زبرج (زبرجج) ومن ثرتم (ثرتمم) ونحو ذلك. فقال لك قائل : بأىّ لغة كان هؤلاء يتكلمون؟ لم تجد بدا من أن تقول : بالعربيّة ، وإن كانت العرب لم تنطق بواحد من هذه الحروف. فإن قلت : فما تصنع بما حدّثكم به أبو صالح السليل بن أحمد بن عيسى بن الشيخ

__________________

(١) الرجز لرؤبة فى ديوانه ص ١٦١ ، ولسان العرب (عرجن) ، وتهذيب اللغة ٣ / ٣٢٠ ، وتاج العروس (عرجن) وبلا نسبة فى المخصص ١١ / ١٠٨ ، وكتاب الجيم ٢ / ٢٤٢ ، وقبله :

* أو ذكر ذات الرّبد المعهن*

(٢) الكباسة بكسر الكاف : العذق التام بشماريخه وبسره ، وهو من التمر بمنزلة العنقود من العنب. اللسان (كبس).

(٣) ناقة علجن : صلبة كناز اللحم ، وامرأة علجن : ماجنة. اللسان (علجن).

(٤) الصقعب : الطويل من الرجال ، بالصاد والسين ؛ وفى الصحاح : الطويل مطلقا. اللسان (صقعب).

٣٥٨

عن أبى عبد الله محمد بن العباس اليزيدىّ قال : حدّثنا الخليل بن أسد النوشجانىّ قال : قرأت على الأصمعىّ هذه الأرجوزة للعجّاج :

* يا صاح هل تعرف رسما مكرسا (١) *

فلمّا بلغت :

* تقاعس العزّ بنا فاقعنسسا (٢) *

قال لى الأصمعىّ : قال لى الخليل : أنشدنا رجل :

* ترافع العزّ بنا فارفنععا*

فقلت : هذا لا يكون. فقال : كيف جاز للعجّاج أن يقول :

* تقاعس العزّ بنا فاقعنسسا*

فهذا يدل على امتناع القوم من أن يقيسوا على كلامهم ما كان من هذا النحو من الأبنية ، على أنه من كلامهم ؛ ألا ترى إلى قول الخليل وهو سيّد قومه ، وكاشف قناع القياس فى علمه ، كيف منع من هذا ؛ ولو كان ما قاله أبو عثمان صحيحا ومذهبا مرضيا لما أباه الخليل ولا منع منه!

فالجواب عن هذا من أوجه عدّة : أحدها ـ أن الأصمعىّ لم يحك عن الخليل أنه انقطع هنا ، ولا أنه تكلّم بشىء بعده ؛ فقد يجوز أن يكون الخليل لمّا احتجّ

__________________

(١) الرجز للعجاج فى ديوانه ١ / ١٨٥ ، ولسان العرب (بلس) ، (كرس) ، والتنبيه والإيضاح ٢ / ٢٦٢ ، وتهذيب اللغة ١٢ / ٤٤٢ ، وتاج العروس (بلس) ، (عجنس) ، (كرس) ، (وكف) ، وجمهرة اللغة ص ٧١٩ ، وأساس البلاغة (بجس) ، وبلا نسبة فى لسان العرب (حلب) ، ومقاييس اللغة ٥ / ١٦٩ ، والمخصص ١ / ١٢٦ ، ٥ / ١٢٣ ، وتاج العروس (حلب) ، وتهذيب اللغة ١٠ / ٥٣. ويروى بعده :

قال نعم أعرفه وأبلسا

وانحلبت عيناه من فرط الأسى

(٢) الرجز للعجاج فى ديوانه ١ / ٢١٠ ـ ٢١١ ، ولسان العرب (قعس) والتنبيه والإيضاح ٢ / ٢٩٧ ، وتاج العروس (قعس) ، وأساس البلاغة (قيس) ، ولرؤبة فى ديوان الأدب ٢ / ٤٦٥ ، ولسان العرب (قيس) ولجرير فى تاج العروس (قيس) وبلا نسبة فى ديوان الأدب ٣ / ٤٥٧ ، وكتاب العين ١ / ١٣٠ ، ٢ / ٣٤٩. وبعده :

* فبخس الناس وأعيا البخسا*

٣٥٩

عليه منشده ذلك البيت ببيت العجّاج عرف الخليل حجّته فترك مراجعته ، وقطع الحكاية على هذا الموضع يكاد يقطع بانقطاع الخليل عنده ، ولا ينكر أن يسبق الخليل إلى القول بشىء فيكون فيه تعقّب له فينبّه عليه فينتبه.

وقد يجوز أيضا أن يكون الأصمعىّ سمع من الخليل فى هذا من قبوله أو ردّه على المحتجّ به ما لم يحكه للخليل بن أسد ، لا سيّما والأصمعىّ ليس مما ينشط للمقاييس ، ولا لحكاية التعليل.

نعم ، وقد يجوز أن يكون الخليل أيضا أمسك عن شرح الحال فى ذلك ، وما قاله لمنشده البيت من تصحيح قوله ، أو إفساده ، للأصمعىّ لمعرفته بقلّة انبعاثه فى النظر وتوفّره على ما يروى ويحفظ. وتؤكد هذا عندك الحكاية عنه وعن الأصمعىّ ، وقد كان أراده الأصمعىّ على أن يعلّمه العروض فتعذّر ذلك على الأصمعىّ وبعد عنه ؛ فيئس الخليل منه فقال له يوما : يا أبا سعيد ، كيف تقطّع قول الشاعر :

إذا لم تستطع شيئا فدعه

وجاوزه إلى ما تستطيع (١)

قال : فعلم الأصمعىّ أن الخليل قد تأذّى ببعده عن علم العروض فلم يعاوده فيه.

ووجه غير هذا ، وهو ألطف من جميع ما جرى وأصنعه وأغمضه ؛ وذلك أن يكون الخليل إنما أنكر ذلك لأنه بناه (ممّا) لامه حرف حلقىّ ، والعرب لم تبن هذا المثال مما لامه أحد حروف الحلق ، إنما هو مما لامه حرف فموىّ ، وذلك نحو اقعنسس ، واسحنكك ، واكلندد (٢) ، واعفنجج (٣). فلمّا قال الرجل للخليل (فارفنععا) أنكر ذلك من حيث أرينا.

فإن قيل : وليس ترك العرب أن تبنى هذا المثال مما لامه حرف حلقىّ ، بمانع أحدا من بنائه من ذلك ؛ ألا ترى أنه ليس كلّ ما يجوز فى القياس يخرج به

__________________

(١) البيت لعمرو بن معد يكرب فى ديوانه ص ١٤٥ ، وتاج العروس (زمع) ، (طوع) ، (ودع) ، والأصمعيات ص ١٧٥ ويروى (أمرا) مكان (شيئا).

(٢) اكلندد : اشتدّ وتقبّض. وانظر اللسان (كلد).

(٣) اعفنجج الرجل : خرق ، والعفنجج : الأحمق ، الجافى الخلق. اللسان (عفج).

٣٦٠