الخصائص - ج ١

أبي الفتح عثمان بن جنّي

الخصائص - ج ١

المؤلف:

أبي الفتح عثمان بن جنّي


المحقق: الدكتور عبد الحميد الهنداوي
الموضوع : اللغة والبلاغة
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ٣
ISBN: 978-2-7451-3245-1
الصفحات: ٥٤٤

ومن بعد فالعلّة الحقيقية عند أهل النظر لا تكون معلولة ؛ ألا ترى أن السواد الذى هو علّة لتسويد ما يحلّه إنما صار كذلك لنفسه ، لا لأن جاعلا جعله على هذه القضيّة. وفى هذا بيان.

فقد ثبت إذا أن قوله : علّة العلة إنما غرضه فيه أنه تتميم وشرح لهذه العلّة المقدّمة عليه. وإنما ذكرناه فى جملة هذه الأبواب لأن أبا بكر ـ رحمه‌الله ـ ذكره ، فأحببنا أن نذكر ما عندنا فيه. وبالله التوفيق.

* * *

٢٠١

باب فى حكم المعلول بعلتين

وهو على ضربين : أحدهما ما لا نظر فيه ؛ والآخر محتاج إلى النظر.

الأوّل منهما نحو قولك : هذه عشرىّ ، وهؤلاء مسلمىّ. فقياس هذا على قولك : عشروك ومسلموك أن يكون أصله عشروى ومسلموى ، فقلبت الواو ياء لأمرين كلّ واحد منهما موجب للقلب ، غير محتاج إلى صاحبه للاستعانة به على قلبه : أحدهما اجتماع الواو والياء وسبق الأولى منهما بالسكون ؛ والآخر أن ياء المتكلّم أبدا تكسر الحرف الذى قبلها إذا كان صحيحا ، نحو هذا غلامى ، ورأيت صاحبى ؛ وقد ثبت فيما قبل أن نظير الكسر فى الصحيح الياء فى هذه الأسماء ؛ نحو مررت بزيد ، ومررت بالزيدين ، ونظرت إلى العشرين. فقد وجب إذا ألا يقال : هذه عشروى بالواو ، كما لا يقال : هذا غلامى بضمّ الميم. فهذه علّة غير الأولى فى وجوب قلب الواو ياء فى عشروى وصالحوى ونحو ذلك ، وأن يقال عشرىّ بالياء البتّة ؛ كما يقال هذا غلامى بكسر الميم البتّة.

ويدلّ على وجوب قلب هذه الواو إلى الياء فى هذا الموضع من هذا الوجه ولهذه العلّة لا للطريق الأوّل ـ من استكراههم إظهار الواو ساكنة قبل الياء ـ أنهم لم يقولوا : رأيت فاى ، وإنما يقولون : رأيت فى. هذا مع أنّ هذه الياء لا ينكر أن تأتى بعد الألف ؛ نحو رحاى وعصاى ؛ لخفّة الألف ، فدلّ امتناعهم من إيقاع الألف قبل هذه الياء على أنه ليس طريقه طريق الاستخفاف والاستثقال ، وإنما هو لاعتزامهم ترك الألف والواو قبلها ؛ كتركهم الفتحة والضمّة قبل الياء فى الصحيح ؛ نحو غلامى ودارى.

فإن قيل : فأصل هذا إنما هو لاستثقالهم الياء بعد الضمة لو قالوا : هذا غلامى ، قيل : لو كان لهذا الموضع البتّة ، لفتحوا ما قبلها ؛ لأن الفتحة على كل حال أخفّ قبل الياء من الكسرة ، فقالوا : رأيت غلامى. فإن قيل : لمّا تركوا الضمّة هنا وهى علم للرفع أتبعوها الفتحة ؛ ليكون العمل من موضع واحد ، كما أنهم لمّا استكرهوا الواو بعد الياء نحو يعد حذفوها أيضا بعد الهمزة والنون والتاء فى نحو أعد ،

٢٠٢

ونعد ، وتعد ؛ قيل يفسد هذا من أوجه. وذلك أن حروف المضارعة تجرى مجرى الحرف الواحد من حيث كانت كلّها متساوية فى جعلها الفعل صالحا لزمانين : الحال والاستقبال ؛ فإذا وجب فى أحدها شيء أتبعوه سائرها ، وليس كذلك علم الإعراب : ألا ترى أن موضوع الإعراب على مخالفة بعضه بعضا ؛ من حيث كان إنما جيء به دالا على اختلاف المعانى.

فإن قلت : فحروف المضارعة أيضا موضوعة على اختلاف معانيها ؛ لأن الهمزة للمتكلّم ، والنون للمتكلّم إذا كان معه غيره ؛ وكذلك بقيّتها ، قيل : أجل ، إلا أنها كلها مع ذلك مجتمعة على معنى واحد ، وهو جعلها الفعل صالحا للزمانين على ما مضى. فإن قلت : فالإعراب أيضا كلّه مجتمع على جريانه على حرفه ، قيل : هذا عمل لفظىّ ، والمعانى أشرف من الألفاظ.

وأيضا فتركهم إظهار الألف قبل هذه الياء مع ما يعتقد من خفّة الألف ـ حتى إنه لم يسمع منهم نحو فاى ، ولا أباى ، ولا أخاى ، وإنما المسموع عنهم رأيت أبى وأخى ، وحكى سيبويه كسرت فىّ ـ أدلّ دليل على أنهم لم يراعوا حديث الاستخفاف والاستثقال حسب ، وأنّه أمر غيرهما. وهو اعتزامهم ألا تجيء هذه الياء إلّا بعد كسرة أو ياء أو ألف لا تكون علما للنصب : نحو هذه عصاى وهذا مصلاى. وعلى أن بعضهم راعى هذا الموضع أيضا فقلب هذه الألف ياء فقال : عصىّ ، ورحيّ ، ويا بشرىّ [هذا غلام](١) ، وقال أبو دواد :

فأبلونى بليتكم لعلىّ

أصالحكم وأستدرج نويّا (٢)

وروينا أيضا عن قطرب :

يطوّف بى عكبّ فى معد

ويطعن بالصملّة فى قفيّا

__________________

(١) «يا بشرىّ» بتشديد الياء : قراءة أبى الطفيل والحسن وابن أبى إسحاق والجحدرى : بقلب الألف ياء وإدغامها فى ياء الإضافة ، وهى لغة لهذيل وانظر البحر ٥ / ٢٩١.

(٢) البيت من الوافر ، وهو لأبى دؤاد الإيادى فى ديوانه ص ٣٥٠ ، وسر صناعة الإعراب ٢ / ٧٠١ ، وشرح شواهد المغنى ٢ / ٨٣٩ ، وللهذلىّ فى مغنى اللبيب ٢ / ٤٧٧ ، وبلا نسبة فى لسان العرب (علل) ، ومغنى اللبيب ٢ / ٤٢٣.

٢٠٣

فإن لم تثأرانى من عكب

فلا أرويتما أبدا صديّا (١)

وهو كثير. ومن قال هذا لم يقل فى هذان غلاماى : [غلامىّ] بقلب الألف ياء ؛ لئلا يذهب علم الرفع.

ومن المعلول بعلّتين قولهم : سىّ ، وريّ. وأصله سوى ، وروى ، فانقلبت الواو ياء ـ إن شئت ـ ؛ لأنها ساكنة غير مدغمة وبعد كسرة ، وـ إن شئت ـ ؛ لأنها ساكنة قبل الياء. فهاتان علّتان ، إحداهما كعلّة قلب ميزان ؛ والأخرى كعلّة طيّا وليّا مصدرى طويت ولويت ؛ وكل واحدة منهما مؤثّرة.

فهذا ونحوه أحد ضربى الحكم المعلول بعلّتين ، الذى لا نظر فيه.

والآخر منهما ما فيه النظر ؛ وهو باب ما لا ينصرف. وذلك أن علّة امتناعه من الصرف إنما هى لاجتماع شبهين فيه من أشباه الفعل. فأمّا السبب الواحد فيقلّ عن أن يتم علّة بنفسه حتى ينضمّ إليه الشبه الآخر من الفعل.

فإن قيل : فإذا كان فى الاسم شبه واحد من أشباه الفعل ، أله فيه تأثير أم لا؟ فإن كان له فيه تأثير فما ذا التأثير؟ وهل صرف زيد إلا كصرف كلب وكعب؟ وإن لم يكن للسبب الواحد إذا حلّ الاسم تأثير فيه فما باله إذا انضمّ إليه سبب آخر أثّرا فيه فمنعاه الصرف؟ وهلا إذا كان السبب الواحد لا تأثير له فيه لم يؤثّر فيه الآخر كما لم يؤثر فيه الأوّل؟ وما الفرق بين الأوّل والآخر؟ فكما لم يؤثّر الأول هلا لم يؤثّر الآخر؟

فالجواب أن السبب الواحد وإن لم يقو حكمه إلى أن يمنع الصرف فإنه لا بدّ فى حال انفراده من تأثير فيما حلّه ، وذلك التأثير الذى نومئ إليه وندّعى حصوله هو تصويره الاسم الذى حلّه على صورة ما إذا انضمّ إليه سبب آخر اعتونا معا

__________________

(١) البيتان من الوافر ، وهما للمنخّل اليشكرى فى الأغانى ٢١ / ٨ ، ولسان العرب (عكب) ، (حرر) ، وبلا نسبة فى إصلاح المنطق ص ٤٠٢ ، وشرح عمدة الحافظ ص ٥١٤ ، وشرح المفصل ٣ / ٣٣ ، والمحتسب ١ / ٧٦. عكبّ : هو عكبّ اللخمىّ ، صاحب سجن النعمان بن المنذر. والصملّة : العصا اللسان (عكب) ، تاج العروس (صمل). والصّدى : طائر يصيح فى هامة المقتول إذا لم يثأر به ، وإنما كان يزعم ذلك أهل الجاهلية. اللسان (صدى).

٢٠٤

على منع الصرف ؛ ألا ترى أن الأوّل لو لم تجعله على هذه الصفة التى قدّمنا ذكرها لكان مجىء الثانى مضموما إليه لا يؤثّر أيضا ؛ كما لم يؤثّر الأوّل ، ثم كذلك إلى أن تفنى أسباب منع الصرف ، فتجتمع كلها فيه وهو مع ذلك منصرف.

لا ، بل دلّ تأثير الثانى على أن الأوّل قد كان شكّل الاسم على صورة إذا انضمّ إليه سبب آخر انضمّ إليها مثلها ، وكان من مجموع الصورتين ما يوجب ترك الصرف.

فإن قلت : ما تقول فى اسم أعجمىّ ، علم فى بابه ، مذكّر ، متجاوز للثلاثة ؛ نحو يوسف وإبراهيم ، ونحن نعلم أنه الآن غير مصروف لاجتماع التعريف والعجمة عليه ، فلو سمّيت به من بعد مؤنّثا ألست قد جمعت فيه بعد ما كان عليه ـ من التعريف والعجمة ـ التأنيث ، فليت شعرى أبالأسباب الثلاثة منعته الصرف أم باثنين منها؟

فإن كان بالثلاثة كلّها فما الذى زاد فيه التأنيث الطارئ عليه؟ فإن كان لم يزد فيه شيئا فقد رأيت أحد أشباه الفعل غير مؤثّر ؛ وليس هذا من قولك. وإن كان أثّر فيه التأنيث الطارئ عليه شيئا فعرّفنا ما ذلك المعنى.

فالجواب هو أنه جعله على صورة ما إذا حذف منه سبب من أسباب الفعل بقى بعد ذلك غير مصروف أيضا ؛ ألا تراك لو حذفت من يوسف اسم امرأة التأنيث ، فأعدته إلى التذكير لأقررته أيضا على ما كان عليه من ترك الصرف ، وليس كذلك امرأة سمّيتها بجعفر ، ومالك ؛ ألا تراك لو نزعت عن الاسم تأنيثه لصرفته ؛ لأنك لم تبقّ فيه بعد إلا شبها واحدا من أشباه الفعل. فقد صار إذا المعنى الثالث مؤثّرا أثرا ما ؛ كما كان السبب الواحد مؤثّرا أثرا ما ؛ على ما قدّمنا ذكره ؛ فاعرف ذلك.

وأيضا فإن «يوسف» اسم امرأة أثقل منه اسم رجل ، كما أن «عقرب» اسم امرأة أثقل من «هند» ؛ ألا تراك تجيز صرفها ، ولا تجيز صرف «عقرب» علما. فهذا إذا معنى حصل ليوسف عند تسمية المؤنّث به ، وهو معنى زائد بالشّبه الثالث.

فأمّا قول من قال : إن الاسم الذى اجتمع فيه سببان من أسباب منع الصرف فمنعه إذا انضمّ إلى ذلك ثالث امتنع من الإعراب أصلا ففاسد عندنا من أوجه :

أحدها أن سبب البناء فى الاسم ليس طريقه طريق حديث الصرف ، وترك

٢٠٥

الصرف ؛ إنما سببه مشابهة الاسم للحرف لا غير. وأمّا تمثيله ذلك بمنع إعراب حذام ، وقطام ، وبقوله فيه : إنه لمّا كان معدولا عن حاذمة ، وقاطمة ، وقد كانتا معرفتين لا ينصرفان (١) ، وليس بعد منع الصرف إلا ترك الإعراب البتّة ، فلا حق فى الفساد بما قبله ؛ لأنه منه ، وعليه حذاه. وذلك أن علّة منع هذه الإعراب إنما هو شيء أتاها من باب دراك ، ونزال ، ثمّ شبّهت حذام ، وقطام ، ورقاش بالمثال ، والتعريف ، والتأنيث بباب دراك ، ونزال ، على (ما بيّنّاه) هناك. فأمّا أنه لأنه ليس بعد منع الصرف إلا رفع الإعراب أصلا فلا.

ومما يفسد قول من قال : إن الاسم إذا منعه السببان الصرف فإن اجتماع الثلاثة فيه ترفع عنه الإعراب أنا نجد فى كلامهم من الأسماء ما يجتمع فيه خمسة أسباب من موانع الصرف ، وهو مع ذلك معرب غير مبنىّ. وذلك كامرأة سمّيتها «بأذربيجان» فهذا اسم قد اجتمعت فيه خمسة موانع : وهى التعريف ، والتأنيث ، والعجمة ، والتركيب ، والألف والنون ، وكذلك إن عنيت «بأذربيجان» البلدة ، والمدينة ؛ لأن البلد فيه الأسباب الخمسة ؛ وهو مع ذلك معرب كما ترى. فإذا كانت الأسباب الخمسة لا ترفع الإعراب فالثلاثة أحجى بألا ترفعه ، وهذا بيان.

ولتحامى الإطالة ما أحذف أطرافا من القول ؛ على أنّ فيما يخرج إلى الظاهر كافيا بإذن الله.

* * *

__________________

(١) كذا فى الأصول. والوجه أن يقال : تنصرفان ، وكأنه ذكّر نظرا لتأوّلهما باللفظين. (نجار).

٢٠٦

باب فى إدراج (١) العلة واختصارها

هذا موضع يستمرّ (النحويّون عليه) ، فيفتق عليهم ما يتعبون بتداركه ، والتعذّر منه. وذلك كسائل سأل عن قولهم : آسيت الرجل ، فأنا أواسيه ، وآخيته ، فأنا أواخيه ، فقال : وما أصله؟ فقلت : أؤاسيه ، وأؤاخيه ـ وكذلك نقول ـ فيقول لك : فما علّته فى التغيير؟ فتقول : اجتمعت الهمزتان ، فقلبت الثانية واوا ؛ لانضمام ما قبلها. وفى ذلك شيئان : أحدهما أنك لم تستوف ذكر الأصل ، والآخر أنك لم تتقصّ شرح العلّة.

أمّا إخلالك بذكر حقيقة الأصل فلأن أصله «أؤاسوك» لأنه أفاعلك من الأسوة ، فقلبت الواو ياء لوقوعها طرفا بعد الكسرة ، وكذلك أؤاخيك أصله «أؤاخوك» لأنه من الأخوّة ، فانقلبت اللام لما ذكرنا ؛ كما تنقلب فى نحو أعطى واستقصى.

وأمّا تقصّى علّة تغيير الهمزة بقلبها واوا فالقول فيه أنه اجتمع فى كلمة واحدة همزتان غير عينين ، (الأولى منهما مضمومة ، والثانية مفتوحة) و (هى) حشو غير طرف ، فاستثقل ذلك ، فقلبت الثانية على حركة ما قبلها ـ وهى الضمّة ـ واوا.

ولا بدّ من ذكر جميع ذلك ، وإلا أخللت ؛ ألا ترى أنك قد تجمع فى الكلمة الواحدة بين همزتين فتكونان عينين ، فلا تغيّر ذلك ؛ وذلك نحو سآل ورءاس ، وكبنائك من سألت نحو تبّع ، فتقول : «سؤّل» فتصحّان لأنهما عينان ، ألا ترى أن لو بنيت من قرأت مثل «جرشع» (٢) لقلت «قرء» وأصله قرؤؤ ، فقلبت الثانية ياء ، وإن كانت قبلها همزة مضمومة ، وكانتا فى كلمة واحدة ، لمّا كانت الثانية منهما طرفا لا حشوا. وكذلك أيضا ذكرك كونهما فى كلمة واحدة ؛ ألا ترى أن من العرب من يحقّق الهمزتين إذا كانتا من كلمتين ؛ نحو قول الله تعالى : (السُّفَهاءُ

__________________

(١) الإدراج فى اللغة : لفّ الشىء فى الشىء ، ودرج الكتاب : طيّه وأدرجت الكتاب إذا طويته. وانظر اللسان (درج).

(٢) الجرشع : العظيم الصدر ، وقيل الطويل. اللسان (جرشع).

٢٠٧

أَلا) [البقرة : ١٣] فإذا كانتا فى كلمة واحدة فكلّهم يقلب ؛ نحو جاء ، وشاء ، ونحو خطايا ، ورزايا ، فى قول الكافّة غير الخليل.

فأمّا ما يحكى عن بعضهم من تحقيقهما فى الكلمة الواحدة ؛ نحو أئمة ، وخطائئ [مثل خطا عع] ، وجائئ فشاذّ لا يجوز أن يعقد عليه باب. ولو اقتصرت فى تعليل التغيير فى (أواسيك) ونحوه على أن تقول : اجتمعت الهمزتان فى كلمة واحدة ، فقلبت الثانية واوا ، لوجب عليك أن تقلب الهمزة الثانية فى نحو سئال ورءاس واوا ، وأن تقلب همزة أأدم وأأمن واوا ، وأن تقلب الهمزة الثانية فى خطائئ واوا. ونحو ذلك كثير لا يحصى ؛ وإنما أذكر من كلّ نبذا ، لئلا يطول الكتاب جدّا.

* * *

٢٠٨

باب فى دور (١) الاعتلال

هذا موضع طريف. ذهب محمّد بن يزيد فى وجوب إسكان اللام فى نحو ضربن ، وضربت إلى أنه لحركة ما بعده من الضمير : يعنى مع الحركتين قبل.

وذهب أيضا فى حركة الضمير من نحو هذا أنها إنما وجبت لسكون ما قبله. فتارة اعتلّ لهذا بهذا ، ثمّ دار تارة أخرى ، فاعتلّ لهذا بهذا. وفى ظاهر ذلك اعتراف بأن كلّ واحد منهما ليست له حال مستحقّة تخصّه فى نفسه ، وإنما استقرّ على ما استقرّ عليه لأمر راجع إلى صاحبه.

ومثله ما أجازه سيبويه فى جرّ (الوجه) من قولك : هذا الحسن الوجه. وذلك أنه أجاز فيه الجرّ من وجهين : أحدهما طريق الإضافة الظاهرة ، والآخر تشبيه بالضارب الرجل. [وقد أحطنا علما بأن الجرّ إنما جاز فى الضارب الرجل] ونحوه ممّا كان الثانى منهما منصوبا ؛ لتشبيههم إيّاه بالحسن الوجه ؛ أفلا ترى كيف صار كلّ واحد من الموضعين علّة لصاحبه فى الحكم الواحد الجارى عليهما جميعا.

وهذا من طريف أمر هذه اللغة ، وشدّة تداخلها ، وتزاحم الألفاظ والأغراض على جهاتها. والعذر أن الجرّ لمّا فشا واتّسع فى نحو الضارب الرجل ، والشاتم الغلام ، والقاتل البطل ، صار ـ لتمكّنه فيه ، وشياعه فى استعماله ـ كأنه أصل فى بابه ، وإن كان إنما سرى إليه لتشبيهه بالحسن الوجه. فلمّا كان كذلك قوى فى بابه ، حتى صار لقوّته قياسا وسماعا ، كأنه أصل للجرّ فى (هذا الحسن الوجه) ، وسنأتى على بقيّة هذا الموضع فى باب نفرده له بإذن الله.

لكن ما أجازه أبو العبّاس وذهب إليه فى باب ضربن وضربت من تسكين اللام لحركة الضمير ، وتحريك الضمير لسكون اللام شنيع الظاهر ، والعذر فيه أضعف

__________________

(١) دور الاعتلال : هو أن يعلل الشىء بعلة معللة بذلك الشىء مثل : «ملكت» فوجب تسكين لام الفعل لاتصاله بتاء الضمير المتحركة ، وتحرك هذه «التاء» بسبب السكون العارض فى آخر الفعل فاعتلّ لهذا بهذا ثم دار فاعتلّ لهذا بهذا. المعجم المفصل فى النحو ص ٥١٩.

٢٠٩

منه فى مسألة الكتاب ، ألا ترى أن الشىء لا يكون علّة نفسه ، وإذا لم يكن كذلك كان من أن يكون علّة علّته أبعد ، وليس كذلك قول سيبويه ؛ وذلك أن الفروع إذا تمكّنت (قويت قوّة تسوّغ) حمل الأصول عليها. وذلك لإرادتهم تثبيت الفرع والشهادة له بقوّة الحكم.

* * *

٢١٠

باب فى الرد على من اعتقد فساد علل النحويين

 لضعفه هو فى نفسه عن إحكام العلة

اعلم أن هذا الموضع هو الذى يتعسّف بأكثر من ترى. وذلك أنه لا يعرف أغراض القوم ، فيرى لذلك أن ما أوردوه من العلّة ضعيف واه ساقط غير متعال.

وهذا كقولهم : يقول النحويّون إن الفاعل رفع ، والمفعول به نصب ، وقد ترى الأمر بضدّ ذلك ؛ ألا ترانا نقول : ضرب زيد فنرفعه وإن كان مفعولا به ، ونقول : إنّ زيدا قام فننصبه وإن كان فاعلا ، ونقول : عجبت من قيام زيد فنجرّه وإن كان فاعلا ، ونقول أيضا : قد قال الله عزوجل : (وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ) [البقرة : ١٤٩ ، ١٥٠] فرفع (حيث) وإن كان بعد حرف الخفض. ومثله عندهم فى الشناعة قوله ـ عزوجل ـ (لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ) [الروم : ٤] وما يجرى هذا المجرى.

ومثل هذا يتعب مع هذه الطائفة ، لا سيّما إذا كان السائل [عنه] من يلزم الصبر عليه. ولو بدأ الأمر بإحكام الأصل لسقط عنه هذا الهوس وذا اللغو ؛ ألا ترى أنه لو عرف أن الفاعل عند أهل العربيّة ليس كلّ من كان فاعلا فى المعنى ، وأن الفاعل عندهم إنما هو كلّ اسم ذكرته بعد الفعل وأسندت ونسبت ذلك الفعل إلى ذلك الاسم ، وأن الفعل الواجب وغير الواجب فى ذلك سواء ، لسقط صداع هذا المضعوف السؤال.

وكذلك القول على المفعول أنه إنما ينصب إذا أسند الفعل إلى الفاعل ، فجاء هو فضلة ، وكذلك لو عرف أن الضمّة فى نحو حيث وقبل وبعد ليست إعرابا وإنما هى بناء.

وإنما ذكرت هذا الظاهر الواضح ليقع الاحتياط فى المشكل الغامض. وكذلك ما يحكى عن الجاحظ من أنه قال : قال النحويون : إن أفعل الذى مؤنّثه فعلى لا يجتمع فيه الألف واللام ومن ، وإنما هو بمن أو بالألف واللام ؛ نحو قولك : الأفضل وأفضل منك ، والأحسن وأحسن من جعفر ، ثم قال : وقد قال الأعشى :

٢١١

فلست بالأكثر منهم حصى

وإنّما العزّة للكاثر (١)

ورحم الله أبا عثمان ، أما إنه لو علم أن «من» فى هذا البيت ليست التى تصحب أفعل للمبالغة ؛ نحو أحسن منك وأكرم منك ، لضرب عن هذا القول إلى غيره مما يعلو فيه قوله ، ويعنو لسداده وصحّته خصمه. وذلك أن «من» فى بيت الأعشى إنما هى كالتى فى قولنا : أنت من الناس حرّ ، وهذا الفرس من الخيل كريم. فكأنه قال : لست من بينهم بالكثير الحصى ، ولست فيهم بالأكثر حصى. فاعرف ذلك.

* * *

__________________

(١) البيت من السريع ، وهو للأعشى فى ديوانه ص ١٩٣ ، والاشتقاق ص ٦٥ ، وأوضح المسالك ٣ / ٢٩٥ ، وخزانة الأدب ١ / ١٨٥ ، ٣ / ٤٠٠ ، ٨ / ٢٥٠ ، ٢٥٤ ، وشرح التصريح ٢ / ١٠٤ ، وشرح شواهد الإيضاح ص ٣٥١ ، وشرح شواهد المغنى ٢ / ٩٠٢ ، وشرح المفصل ٦ / ١٠٠ ، ١٠٣ ، ولسان العرب (كثر) ، (سدف) ، (حصى) ، ومغنى اللبيب ٢ / ٥٧٢ ، والمقاصد النحويّة ٤ / ٣٨ ، ونوادر أبى زيد ص ٢٥ ، وبلا نسبة فى جمهرة اللغة ص ٤٢٢ ، وخزانة الأدب ٢ / ٢١١ ، وشرح الأشمونى ٢ / ٣٨٦ ، وشرح ابن عقيل ص ٤٦٥ ، وشرح المفصل ٣ / ٦.

٢١٢

باب فى الاعتلال لهم بأفعالهم

ظاهر هذا الحديث طريف ، ومحصوله صحيح ، وذلك إذا كان الأوّل المردود إليه الثانى جاريا على (صحّة علّة).

من ذلك أن يقول قائل : إذا كان الفعل قد حذف فى الموضع الذى لو ظهر فيه لما أفسد معنى كان ترك إظهاره فى الموضع الذى لو ظهر فيه لأحال المعنى وأفسده أولى وأحجى ؛ ألا ترى أنهم يقولون : الذى فى الدار زيد ، وأصله الذى استقرّ أو ثبت فى الدار زيد ، ولو أظهروا هذا الفعل هنا لما أحال معنى ؛ ولا أزال غرضا ، فكيف بهم فى ترك إظهاره فى النداء ؛ ألا ترى أنه لو تجشّم إظهاره فقيل : أدعو زيدا ، وأنادى زيدا لاستحال أمر النداء فصار إلى لفظ الخبر المحتمل للصدق والكذب ، والنداء ممّا لا يصحّ فيه تصديق ولا تكذيب.

ومن الاعتلال لهم بأفعالهم أن تقول : إذا كان اسم الفاعل ـ على قوّة تحمّله للضمير ـ متى جرى على غير من هو له ـ صفة أو صلة أو حالا أو خبرا ـ لم يحتمل الضمير كما يحتمله الفعل ، فما ظنّك بالصفة المشبّهة باسم الفاعل ؛ نحو قولك : زيد هند شديد عليها هو ، إذا أجريت (شديدا) خبرا عن (هند) وكذلك قولك : أخواك زيد حسن فى عينه هما ، والزيدون هند ظريف فى نفسها هم ، وما ظنّك أيضا بالشّفة المشبّهة [بالصفة المشبّهة] باسم الفاعل ؛ نحو قولك : أخوك جاريتك أكرم عليها من عمرو هو ، وغلاماك أبوك أحسن عنده من جعفر هما ، والحجر الحيّة أشدّ عليها من العصا هو.

ومن قال : مررت برجل أبى عشرة أبوه قال : أخواك جاريتهما أبو عشرة عندها هما ، فأظهرت الضمير. وكان ذلك أحسن من رفعه الظاهر ؛ لأن هذا الضمير وإن كان منفصلا ومشبها للظاهر بانفصاله فإنه على كلّ حال ضمير. وإنما وحّدت فقلت : أبو عشرة عندها هما ولم تثنّه فتقول : أبوا عشرة ؛ من قبل أنه قد رفع ضميرا منفصلا مشابها للظاهر ، فجرى مجرى قولك : مررت برجل أبى عشرة أبواه. فلمّا رفع الظاهر ، وما يجرى مجرى الظاهر شبّهه بالفعل فوحّد ألبتّة. ومن

٢١٣

قال : مررت برجل قائمين أخواه فأجراه مجرى قاما أخواه فإنه يقول : مررت برجل أبوى عشرة أبواه. والتثنية فى (أبوى عشرة) من وجه تقوى ، ومن آخر تضعف. أمّا وجه القوّة فلأنها بعيدة عن اسم الفاعل الجارى مجرى الفعل ، فالتثنية فيه ـ لأنه اسم ـ حسنة ؛ وأمّا وجه الضعف فلأنه على كل حال قد أعمل فى الظاهر ، ولم يعمل إلا لشبهه بالفعل ؛ وإذا كان كذلك وجب له أن يقوى شبه الفعل ؛ ليقوم العذر بذلك فى إعماله عمله ؛ ألا ترى أنهم لمّا شبّهوا الفعل باسم الفاعل فأعربوه كنفوا هذا المعنى بينهما ، وأيّدوه بأن شبّهوا اسم الفاعل بالفعل فأعملوه. وهذا فى معناه واضح سديد كما تراه.

وأمثال هذا فى الاحتجاج لهم بأفعالهم كثيرة ، وإنما أضع من كل شيء رسما ما ، ليحتذى. فأما الإطالة والاستيعاب فلا.

* * *

٢١٤

باب فى الاحتجاج بقول المخالف

اعلم أن هذا ـ على [ما فى] ظاهره ـ صحيح ومستقيم. وذلك أن ينبغ من أصحابه نابغ فينشئ خلافا ما على أهل مذهبه ، فإذا سمّع خصمه به ، وأجلب عليه قال : هذا لا يقول به أحد من الفريقين ؛ فيخرجه مخرج التقبيح له ، والتشنيع عليه.

وذلك كإنكار أبى العبّاس (١) جواز تقديم خبر (ليس) عليها ؛ فأحد ما يحتجّ به عليه أن يقال له : إجازة هذا مذهب سيبويه وأبى الحسن وكافّة أصحابنا ، والكوفيّون (٢) أيضا معنا. فإذا كانت إجازة ذلك مذهبا للكافّة من البلدين وجب عليك ـ يا أبا العبّاس ـ أن تنفر عن خلافه ، وتستوحش منه ، ولا تأنس بأوّل خاطر يبدو لك فيه.

ولعمرى إن هذا ليس بموضع قطع على الخصم ؛ إلا أن فيه تشنيعا عليه ، وإهابة به إلى تركه ، وإضاقة (٣) لعذره فى استمراره عليه ، وتهالكه فيه ، من غير إحكامه وإنعام الفحص عنه. وإنما لم يكن فيه قطع لأن للإنسان أن يرتجل من المذاهب ما يدعو إليه القياس ، ما لم يلو بنصّ أو ينتهك حرمة شرع. فقس على ما ترى ؛ فإننى إنما أضع من كل شيء مثالا موجزا.

* * *

__________________

(١) أبو العباس هو المبرد.

(٢) ذهب الكوفيون إلى أنه لا يجوز تقديم خبر «ليس» عليها ، وإليه ذهب أبو العباس المبرد من البصريين ، وزعم بعضهم أنه مذهب سيبويه ، وليس بصحيح ، والصحيح أنه ليس له فى ذلك نص. وذهب البصريون إلى أنه يجوز تقديم خبر «ليس» عليها كما يجوز تقديم خبر كان عليها. الإنصاف ١ / ١٦٠ المسألة ١٨.

(٣) الإضافة : التضييق.

٢١٥

باب القول على إجماع أهل العربية متى يكون حجة؟

اعلم أن إجماع أهل البلدين إنما يكون حجّة إذا أعطاك خصمك يده ألا يخالف المنصوص. والمقيس على المنصوص ، فأمّا إن لم يعط يده بذلك فلا يكون إجماعهم حجّة عليه. وذلك أنه لم يرد ممن يطاع أمره فى قرآن ولا سنّة أنهم لا يجتمعون على الخطأ ؛ كما جاء النصّ عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من قوله : «أمّتى لا تجتمع على ضلالة» (١) وإنما هو علم منتزع من استقراء هذه اللغة. فكلّ من فرق له عن علّة صحيحة ، وطريق نهجة كان خليل نفسه ، وأبا عمرو فكره.

إلا أننا ـ مع هذا الذى رأيناه وسوّغنا مرتكبه ـ لا نسمح له بالإقدام على مخالفة الجماعة التى قد طال بحثها ، وتقدّم نظرها ، وتتالت أواخر على أوائل ، وأعجازا على كلاكل ، والقوم الذين لا نشكّ فى أن الله ـ سبحانه وتقدّست أسماؤه ـ قد هداهم لهذا العلم الكريم ، وأراهم وجه الحكمة فى الترجيب له والتعظيم ، وجعله ببركاتهم ، وعلى أيدى طاعاتهم ، خادما للكتاب المنزل ، وكلام نبيه المرسل ، وعونا على فهمهما ؛ ومعرفة ما أمر به ، أو نهى عنه الثّقلان منهما ، إلا بعد أن يناهضه إتقانا ، ويثابته عرفانا ، ولا يخلد إلى سانح خاطره ، ولا إلى نزوة من نزوات تفكّره. فإذا هو حذا على هذا المثال ، وباشر بإنعام تصفّحه أحناء الحال ، أمضى الرأى فيما يريه الله منه ، غير معازّ به ، ولا غاضّ من السّلف ـ رحمهم‌الله ـ فى شيء منه. فإنه إذا فعل ذلك سدّد رأيه. وشيّع خاطره ، وكان بالصواب مئنّة ، ومن التوفيق مظنّة ، وقد قال أبو عثمان عمرو بن بحر الجاحظ : ما على الناس شيء أضرّ من قولهم : ما ترك الأوّل للآخر شيئا. وقال أبو عثمان المازنىّ : «وإذا قال العالم قولا متقدّما فللمتعلّم الاقتداء به (والانتصار له) ، (والاحتجاج) لخلافه ، إن وجد إلى ذلك سبيلا» وقال الطائى الكبير :

__________________

(١) ذكره الحافظ فى «التلخيص» ، (٣ / ١٤١) ، وقال : «هذا حديث مشهور له طرق كثيرة ، لا يخلو واحد منها من مقال ، منها لأبى داود عن أبى مالك الأشعرى مرفوعا : ... وفى إسناده انقطاع ، وللترمذى والحاكم عن ابن عمر مرفوعا ... وفيه سليمان بن شعبان المدنى ، وهو ضعيف ـ وأخرج الحاكم له شواهد ..».

٢١٦

يقول من تطرق أسماعه

كم ترك الأوّل للآخر! (١)

فممّا جاز خلاف الإجماع الواقع فيه منذ بدئ هذا العلم وإلى آخر هذا الوقت ، ما رأيته (٢) أنا فى قولهم : هذا جحر ضبّ خرب. فهذا يتناوله آخر عن أوّل ، وتال عن ماض على أنه غلط من العرب ، لا يختلفون فيه ولا يتوقّفون عنه ، وأنه من الشاذّ الذى لا يحمل عليه ، ولا يجوز ردّ غيره إليه.

وأمّا أنا فعندى أنّ فى القرآن مثل هذا الموضع نيّفا على ألف موضع. وذلك أنه على حذف المضاف لا غير. فإذا حملته على هذا الذى هو حشو الكلام من القرآن والشعر ساغ وسلس ، وشاع وقبل.

وتلخيص هذا أن أصله : هذا جحر ضبّ خرب جحره ؛ فيجرى «خرب» وصفا على «ضبّ» وإن كان فى الحقيقة للجحر. كما تقول مررت برجل قائم أبوه (٣) ، فتجرى «قائما» وصفا على «رجل» وإن كان القيام للأب لا للرجل ، لما ضمن من ذكره. والأمر فى هذا أظهر من أن يؤتى بمثال له أو شاهد عليه. فلمّا كان أصله كذلك حذف الحجر المضاف إلى الهاء ، وأقيمت الهاء مقامه فارتفعت ؛ لأن المضاف المحذوف كان مرفوعا ، فلمّا ارتفعت استتر الضمير المرفوع فى نفس «خرب» فجرى وصفا على ضبّ ـ وإن كان الخراب للجحر لا للضبّ ـ على تقدير حذف المضاف ، على ما أرينا. وقلّت آية تخلو من حذف المضاف ، نعم ، وربّما كان فى الآية الواحدة من ذلك عدّة مواضع.

وعلى نحو من هذا حمل أبو علىّ رحمه‌الله :

__________________

(١) هو من قصيدة له فى مدح أبى سعيد ، أولها :

قل للأمير الأريحىّ الذى

كفاه للبادى وللحاضر

وقبله :

لا زلت من شكرى فى حلة

لابسها ذو سلب فاخر

فالحديث فى البيت الشاهد عن حلة الثناء فى البيت. وانظر الديوان ١٤٣. (نجار).

(٢) ينبّه ابن هشام فى المغنى فى القاعدة الثانية من الكتاب الثامن «أنكر السيرافى وابن جنى الخفض على الجوار وتأولا قولهم «خرب» بالجر على أنه صفة «لضب».

(٣) أى ضميره. يريد أن المسوّغ لمجيء قائم وصفا للرجل وهو ليس بوصف له فى الحقيقة ، بل الموصوف حقيقة الأب ، هو تضمن الأب ذكر الرجل. (نجار).

٢١٧

* كبير أناس فى بجاد مزمّل (١) *

ولم يحمله على الغلط ، قال : لأنه أراد : مزمّل فيه ، ثم حذف حرف الجرّ ، فارتفع الضمير فاستتر فى اسم المفعول.

فإذا أمكن ما قلنا ، ولم يكن أكثر من حذف المضاف الذى قد شاع واطّرد ، كان حمله عليه أولى من حمله على الغلط الذى لا يحمل غيره عليه ، ولا يقاس به.

ومثله قول لبيد :

أو مذهب جدد على ألواحه

الناطق المبروز والمختوم (٢)

أى المبروز به ، ثم حذف حرف الجرّ فارتفع الضمير ، فاستتر فى اسم المفعول.

وعليه قول الآخر :

* إلى غير موثوق من الأرض تذهب (٣) *

أى موثوق به ، ثم حذف حرف الجرّ فارتفع الضمير ، فاستتر فى اسم المفعول.

__________________

(١) عجز البيت من الطويل ، وهو لامرئ القيس فى ديوانه ص ٢٥ ، وتذكرة النحاة ص ٣٠٨ ، ٣٤٦ ، وخزانة الأدب ٥ / ٩٨ ، ٩٩ ، ١٠٠ ، ١٠٢ ، ٩ / ٣٧ ، وشرح شواهد المغنى ٢ / ٨٨٣ ، ولسان العرب (عقق) ، (زمل) ، (خزم) ، (ابن) ، ومغنى اللبيب ٢ / ٥١٥ ، وتاج العروس (خزم) ، وبلا نسبة فى الأشباه والنظائر ٢ / ١٠ ، والمحتسب ٢ / ١٣٥. وصدر البيت :

* كأن ثبيرا فى عرانين وبله*

البجاد : كساء مخطط من أكسية الأعراب. اللسان (بجد).

(٢) البيت من الكامل ، وهو للبيد بن ربيعة فى ديوانه ص ١١٩ ، والكتاب ٤ / ١٥١ ، ولسان العرب (ذهب) ، (برز) ، (نطق) ، (فعم) ، وبلا نسبة فى مجالس ثعلب ص ٢٣٢. المذهب : المطلىّ بالذهب. جدد : جمع جدّة ، والجدّة : الطريقة. وأنشد بعضهم المبرز على احتمال الخزل فى متفاعلن ؛ قال أبو حاتم فى قول لبيد إنما هو :

* الناطق المبرز والمختوم*

مزاحف فغيّره الرواة فرارا من الزحاف ، وقال : ولعله المزبور وهو المكتوب وانظر اللسان (برز).

(٣) ورد هذا الشطر مع اختلاف فى ثلاثة أبيات لبشر بن أبى خازم ، وهاكها :

حلفت برب الداميات نحورها

وما ضمّ أجياد المصلى ومذهب

لئن شبت الحرب العوان التى أرى

وقد طال إبعاد بها وترهب

لتحتملن بالليل منكم ظعينة

إلى غير موثوق من العز تهرب

وانظر معجم البلدان (أجياد). (نجار).

٢١٨

باب فى الزيادة فى صفة العلة لضرب من الاحتياط

قد يفعل أصحابنا ذلك إذا كانت الزيادة مثبّتة لحال المزيد عليه. وذلك كقولك فى همز (أوائل) : أصله (أواول) فلمّا اكتنفت الألف واوان ، وقربت الثانية منهما من الطرف ، ولم يؤثر إخراج ذلك على الأصل ؛ تنبيها على غيره من المغيّرات فى معناه ، ولا هناك ياء قبل الطرف منويّة مقدّرة ، وكانت الكلمة جمعا ثقل ذلك ، فأبدلت الواو همزة ، فصار أوائل.

فجميع ما أوردته محتاج إليه ، إلا ما استظهرت به من قولك : وكانت الكلمة جمعا ، فإنك لو لم تذكره لم يخلل ذلك بالعلّة ؛ ألا ترى أنك لو بنيت من قلت وبعت واحدا على فواعل كعوارض (١) ، أو أفاعل [من أوّل أو يوم أو ويح] كأباتر (٢) لهمزت كما تهمز فى الجمع.

فذكرك (الجمع) فى أثناء الحديث إنما زدت الحال به أنسا ؛ من حيث كان الجمع فى غير هذا ممّا يدعو إلى قلب الواو ياء فى نحو حقى (٣) ودلىّ ، فذكرته هنا تأكيدا لا وجوبا. وذكرك أنهم لم يؤثروا فى هذا إخراج الحرف على أصله دلالة على أصل ما غيّر من غيره فى نحوه لئلا يدخل عليك أن يقال لك : قد قال الراجز :

* تسمع من شذّانها عواولا (٤) *

وذكرت أيضا قولك : ولم يكن هناك ياء قبل الطرف مقدّرة ؛ لئلا يلزمك قوله :

* وكحل العينين بالعواور (٥) *

__________________

(١) عوارض : جبل ببلاد طيئ ، عليه قبر حاتم. وانظر اللسان (عرض).

(٢) الأباتر : الذى يقطع رحمه ، وقيل : الذى لا نسل له.

(٣) جمع حقو ـ بفتح الأول وسكون الثانى ـ وهو الخصر.

(٤) الرجز بلا نسبة فى لسان العرب (عول) ، وتاج العروس (عول).

(٥) من رجز لجندل بن المثنى الطهوىّ وهو :

غرّك أن تقاربت أباعرى

وأن رأيت الدهر ذا الدوائر

حتى عظامى وأراه ثاغرى

وكحل ...

وانظر شرح شواهد الشافية للبغدادى ٣٧٤. (نجار).

٢١٩

ألا ترى أن أصله عواوير ، من حيث كان جمع عوّار. والاستظهار فى هذين الموضعين أعنى حديث عواول ، وعواور أسهل احتمالا من دخولك تحت الإفساد عليك بهما ، واعتذارك من بعد بما قدّمته فى صدر العلّة. فإذا كان لا بدّ من إيراده فيما بعد إذا لم تحتط بذكره [فيما قبل] كان الرأى تقديم ذكره ، والاستراحة من التعقّب عليك به. فهذا ضرب.

ولو استظهرت بذكر ما لا يؤثّر فى الحكم لكان ذلك منك خطلا ولغوا من القول ؛ ألا ترى أنك لو سئلت عن رفع طلحة من قولك : جاءنى طلحة ، فقلت : ارتفع لإسناد الفعل إليه ، ولأنه مؤنّث ، أو لأنه علم ، لم يكن ذكرك التأنيث والعلميّة إلا كقولك : ولأنه مفتوح الطاء ، أو لأنه ساكن عين الفعل ، ونحو ذلك مما لا يؤثّر فى الحال. فاعرف بذلك موضع ما يمكن الاحتياط به للحكم مما يعرى من ذلك ، فلا يكون له فيه حجم. وإنما المراعى من ذلك كلّه كونه مسندا إليه الفعل.

فإن قيل : هلا كان ذكرك أنت أيضا هنا الفعل لا وجه له ؛ ألا ترى أنه إنما ارتفع بإسناد غيره إليه ، فاعلا كان أو مبتدأ. والعلّة فى رفع الفاعل هى العلّة فى رفع المبتدأ ، وإن اختلفا من جهة التقديم والتأخير؟

قلنا : لا ، لسنا نقول هكذا مجرّدا ، وإنما نقول فى رفع المبتدأ : إنه إنما وجب ذلك له من حيث كان مسندا إليه ، عاريا من العوامل اللفظيّة قبله فيه ، وليس كذلك الفاعل ؛ لأنه وإن كان مسندا إليه فإن قبله عاملا لفظيّا قد عمل فيه ، وهو الفعل ؛ وليس كذلك قولنا : زيد قام ؛ لأن هذا لم يرتفع لإسناد الفعل إليه حسب ، دون أن انضمّ إلى ذلك تعرّيه من العوامل اللفظيّة من قبله. فلهذا قلنا : ارتفع الفاعل بإسناد الفعل إليه ، ولم نحتج فيما بعد إلى شيء نذكره ، كما احتجنا إلى ذلك فى باب المبتدأ ؛ ألا تراك تقول : إنّ زيدا قام فتنصبه ـ وإن كان الفعل مسندا إليه ـ لمّا لم يعر من العامل اللفظىّ الناصبة.

__________________

 ـ العواور : أصله «العواوير» حذف الياء للضرورة ، ولذلك لم يهمز لأن الياء فى نيّة الثبات ، فكما كان لا يهمزها والياء ثابتة كذلك لم يهمزها والياء فى نيّة الثبات ، والعوّار : القذى ، والرمد. اللسان (عور). وانظر شرح الرضى للشافية ٣ / ١٣١.

٢٢٠