الخصائص - ج ١

أبي الفتح عثمان بن جنّي

الخصائص - ج ١

المؤلف:

أبي الفتح عثمان بن جنّي


المحقق: الدكتور عبد الحميد الهنداوي
الموضوع : اللغة والبلاغة
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ٣
ISBN: 978-2-7451-3245-1
الصفحات: ٥٤٤

وعضرفوط ، وقرطبوس ، وقرعبلانة (١) ، وفنجليس (٢). فأما عرطليل (٣) ـ وهو رباعيّ ـ فقد استعمل بغير زيادة ؛ قال أبو النجم :

* فى سرطم هاد وعنق عرطل (٤) *

وكذلك خنشليل ؛ ألا ترى إلى قولهم : خنشلت المرأة والفرس إذا أسنّت ؛ وكذلك عنتريس ؛ ألا ترى أنه من العترسة وهى الشدّة. فأما قنفخر (٥) فإن النون فيه زائدة. وقد حذفت ـ لعمرى ـ فى قولهم : امرأة قفاخريّة إذا كانت فائقة فى معناها ؛ غير أنك وإن كنت قد حذفت النون فإنك قد صرت إلى زيادة أخرى خلفتها ، وشغلت الأصل شغلها وهى الألف وياء الإضافة. فأمّا تاء التأنيث فغير معتدّة. وأمّا حيزبون (٦) فرباعىّ لزمته زيادة الواو. فإن قلت : فهلا جعلته ثلاثيّا من لفظ (الحزب)؟ قيل يفسد هذا أن النون فى موضع زاى عيضموز (٧) ، فيجب لذلك أن تكون أصلا ، كجيم (خيسفوج) (٨) وأما (عريقصان) (٩) فتناوبته زيادتان ، وهما الياء فى عريقصان ، والنون فى (عرنقصان) كلاهما يقال بالنون والياء. وأمّا (عزويت) فمن لفظ (عزوت) لأنه (فعليت) والواو لام. وأمّا (قنديل) فكذلك أيضا ؛ ألا ترى إلى قول العجلىّ :

* ركّب فى ضخم الذّفارى قندل (١٠) *

__________________

(١) قرعبلانة : دويبّة عريضة محبنطئة عظيمة البطن. اللسان (قرعبل).

(٢) الفنجليس : الكمرة العظيمة.

(٣) العرطليل : الطويل ، وقيل الغليظ.

(٤) الرجز لأبى النجم فى لسان العرب (عرطل) ، وتهذيب اللغة ٣ / ٣٤٧ ، وكتاب العين ٢ / ٣٢٨ ، وتاج العروس (عرطل) ، والطرائق الأدبية ص ٦٨.

(٥) القنفخر والقفاخر : التارّ الناعم الضحم الجثة.

(٦) الحيزبون : العجوز ، والحيزبون : السيئة الخلق. وانظر اللسان (حزب ، حزبن).

(٧) العيضموز : العجوز الكبيرة. اللسان (عضمز).

(٨) الخيسفوج : حبّ القطن ، وقيل : هو نبت يتقصف ويتثنى. اللسان (خسفج).

(٩) عريقصان : من النبات.

(١٠) الرجز لأبى النجم فى اللسان (عمثل) ، (قندل) ، وتاج العروس (فرغ) ، (قندل) ، وكتاب الجيم ٢ / ٣١١ ، وبلا نسبة فى المخصص ١٣ / ٢٣٤. القندل : العظيم الرأس. اللسان (قندل).

٢٨١

وأما علندى (١) فتناهبته الزوائد. وذلك أنهم قد قالوا فيه : علودّ ، وعلادى ، وعلندى وعلندى ، ألا تراه غير منفكّ من الزيادة.

ولزوم الزيادة لما لزمته من الأصول يضعف تحقير الترخيم ؛ لأن فيه حذفا للزوائد. وبإزاء ذلك ما حذف من الأصول ؛ كلام يد ، ودم ، وأب ، وأخ ، وعين سه ، ومذ ، وفاء عدة ، وزنة ، وناس ، والله فى أقوى قولى سيبويه. فإذا جاز حذف الأصول فيما أرينا وغيره كان حذف الزوائد التى ليست لها حرمة الأصول أحجى وأحرى.

وأجاز أبو الحسن أظننت زيدا عمرا عاقلا ، ونحو ذلك ، وامتنع منه أبو عثمان ، وقال : استغنت العرب عن ذلك بقولهم : جعلته يظنّه عاقلا.

ومن ذلك استغناؤهم بواحد عن اثن ، وباثنين عن واحدين ، وبستّة عن ثلاثتين ، وبعشرة عن خمستين ، وبعشرين عن عشرتين ونحو ذلك.

* * *

__________________

(١) العلندى : البعير الضخم الطويل ، والأنثى علنداة.

٢٨٢

باب فى عكس التقدير

هذا موضع من العربيّة غريب. وذلك أن تعتقد فى أمر من الأمور حكما ما ، وقتا ما ، ثم تحور فى ذلك الشىء عينه فى وقت آخر فتعتقد فيه حكما آخر.

من ذلك الحكاية عن أبى عبيدة. وهو قوله : ما رأيت أطرف من أمر النحويين ؛ يقولون : إن علامة التأنيث لا تدخل على علامة التأنيث ، وهم يقولون (علقاة) وقد قال العجّاج :

* فكرّ فى علقى وفى مكور (١) *

يريد أبو عبيدة أنه قال (فى علقى) فلم يصرف للتأنيث ، ثم قالوا مع هذا (علقاة) أى فألحقوا تاء التأنيث ألفه. قال أبو عثمان : كان أبو عبيدة أجفى من أن يعرف هذا. وذلك أن من قال (علقاة) فالألف عنده للإلحاق بباب جعفر ، كألف (أرطى) فإذا نزع الهاء أحال اعتقاده الأول عمّا كان عليه ، وجعل الألف للتأنيث فيما بعد ، فيجعلها للإلحاق مع تاء التأنيث ، وللتأنيث إذا فقد التاء. ولهذا نظائر.

هى قولهم : بهمى وبهماة ، وشكاعى (٢) ، وشكاعاة ، وباقلّى وباقلاة ، ونقاوى ،

__________________

(١) الرجز للعجاج فى ديوانه ١ / ٣٦٢ ، ولسان العرب (أخر) ، (مكر) ، (علق) ، وإصلاح المنطق ص ٣٦٥ ، وجمهرة اللغة ص ٧٩٩ ، ٩٤٠ ، وشرح أبيات سيبويه ٢ / ٢٣٦ ، وشرح شواهد الشافية ص ٤١٧ ، والكتاب ٣ / ٢١٢ ، وتاج العروس (مكر) ، (علق) ، ديوان الأدب ٢ / ٥ ، تهذيب اللغة ١٠ / ٢٤١ ، والرؤبة فى المخصص ١٥ / ١٨١ ، ١٦ / ٨٨ ، وليس فى ديوانه ، وبلا نسبة فى الخصائص ١ / ٢٧١ ، ٢٧٤ ، ٣ / ٣٠٩ وسر صناعة الإعراب ٢ / ٥٥٨ ، وما ينصرف وما لا ينصرف ص ٢٨ ، ويروى (فحط) مكان (فكر). يروى :

* فحط فى علقى وفى مكور*

ويروى :

* يستنّ فى علقى وفى مكور*

يصف العجاج ثورا ، علقى نبت ، وقال سيبويه : تكون واحدة وجمعا. بعضهم يجعل ألفها للتأنيث وبعضهم يجعلها للإلحاق ، وتنوّن. والمكور : جمع مكر ، بالفتح. نبت أيضا وانظر اللسان (علق) ، والكتاب ٣ / ٢١٢.

(٢) الشكاعى : نبت عيدانه دقيقة خضراء ، والناس يتداوون بها انظر. اللسان (شكع).

٢٨٣

ونقاواة ، وسمانى ، وسماناة. ومثل ذلك من الممدود قولهم : طرفاء وطرفاءة ، وقصباء وقصباءة ، وحلفاء وحلفاءة ، وباقلاء وباقلاءة. فمن قال : (طرفاء) فالهمزة عنده للتأنيث ، ومن قال : (طرفاءة) فالتاء عنده للتأنيث ، وأمّا الهمزة على قوله فزيادة لغير التأنيث. وأقوى القولين فيها عندى أن تكون همزة مرتجلة غير منقلبة ؛ لأنها إذا كانت منقلبة فى هذا المثال فإنها عن ألف التأنيث لا غير ؛ نحو صحراء ، وصلفاء (١) ، وخبراء (٢) ، والحرشاء. وقد يجوز أن تكون منقلبة عن حرف لغير الإلحاق فتكون ـ فى الانقلاب لا فى الإلحاق ـ كألف علباء ، وحرباء. وهذا مما يؤكّد عندك حال الهاء ؛ ألا ترى أنها إذا لحقت اعتقدت فيما قبلها حكما ما ، فإن لم تلحق حار الحكم إلى غيره. ونحو منه قولهم : الصفنة (٣) ، والصفن ، والرضاع ، والرضاعة ، وهو صفو الشىء وصفوته ، وله نظائر قد ذكرت ، ومنه البرك ، والبركة للصدر.

ومن ذلك قولنا : كان يقوم زيد ، ونحن نعتقد رفع (زيد) بـ (كان) ، ويكون (يقوم) خبرا مقدّما عليه. فإن قيل : ألا تعلم أنّ (كان) إنما تدخل على الكلام الذى كان قبلها مبتدأ وخبرا ، وأنت إذا قلت : يقوم زيد فإنما الكلام من فعل وفاعل فكيف ذلك؟ فالجواب أنه لا يمتنع أن يعتقد مع (كان) فى قولنا : كان يقوم زيد أن زيدا مرتفع بـ (كان) ، وأنّ (يقوم) مقدّم عن موضعه ، فإذا حذفت (كان) زال الاتّساع وتأخّر الخبر الذى هو (يقوم) فصار بعد (زيد) ، كما أن ألف (علقاة) للإلحاق ، فإذا حذفت الهاء استحال التقدير فصارت للتأنيث ، حتى قال :

* فكرّ فى علقى وفى مكور (٤) *

على ذا تأوّله أبو عثمان ، ولم يحمله على أنهما لغتان. وأظنه إنما ذهب إلى ذلك لما رآه قد كثرت نظائره ؛ نحو سمانى وسماناة ، وشكاعى وشكاعاة ، وبهمى وبهماة. فألف (بهمى) للتأنيث ، وألف (بهماة) زيادة لغير الإلحاق ، كألف قبعثرى ،

__________________

(١) الصلفاء : المكان الغليظ الجلد.

(٢) الخبراء : القاع ينبت السدر. والجمع الخبارى ، بفتح الراء وكسرها. اللسان (خبر).

(٣) الصفن الصفن الصفنة والصفنة : وعاء الخصية. والجمع أصفان.

(٤) سبق تخريجه.

٢٨٤

وضبغطرى. ويجوز أن تكون للإلحاق بجخدب على قياس قول أبى الحسن الأخفش ، إلا أنه إلحاق اختصّ مع التأنيث ؛ ألا ترى أن أحدا لا ينوّن (بهمى) فعلى ذلك يكون الحكم على قولنا : كان يقوم زيد ، ونحن نعتقد أن زيدا مرفوع بكان.

ومن ذلك ما نعتقده فى همزة حمراء ، وصفراء ، ونحوهما أنهما للتأنيث ، فإن ركّبت الاسم مع آخر قبله ، حرت عن ذلك الاستشعار والتقدير فيها ، واعتقدت غيره. وذلك أن تركّب مع (حمراء) اسما قبلها فتجعلهما جميعا كاسم واحد فتصرف (حمراء) حينئذ. وذلك قولك : هذا دار حمراء ، ورأيت دار حمراء ، ومررت بدار حمراء ، وكذلك هذا كلبصفراء ، ورأيت كلبصفراء ، ومررت بكلبصفراء ، [فلا تصرف الاسم للتعريف والتركيب كحضرموت. فإن نكّرت صرفت فقلت : ربّ كلبصفراء مررت به] ، وكلبصفراء آخر. فتصرف فى النكرة ، وتعتقد فى هذه الهمزة مع التركيب أنها لغير التأنيث ، وقد كانت قبل التركيب له.

ونحو من ذلك ما نعتقده فى الألفات إذا كنّ فى الحروف والأصوات أنها غير منقلبة ، وذلك نحو ألف لا ، وما ، وألف قاف ، وكاف ، ودال ، وأخواتها ، وألف على ، وإلى ، ولدى ، وإذا ، فإن نقلتها فجعلتها أسماء أو اشتققت منها فعلا استحال ذلك التقدير ، واعتقدت فيها ما تعتقده فى المنقلب. وذلك قولك : موّيت إذا كتبت (ما) ولوّيت إذا كتبت (لا) وكوّفت كافا حسنة ، ودوّلت دالا جيّدة ، وزوّيت زايا قويّة. ولو سميت رجلا بـ (على) أو (إلى) أو (لدى) أو (ألا) أو [إذا] ، لقلت فى التثنية : علوان ، وإلوان ، ولدوان ، وألوان ، وإذوان ، فاعتقدت فى هذه الألفات مع التسميد بها وعند الاشتقاق منها الانقلاب ، وقد كانت قبل ذلك عندك غير منقلبة. وأغرب من ذلك قولك : بأبى أنت!. فالباء فى أوّل الاسم حرف جرّ بمنزلة اللام فى قولك : لله أنت! فإذا اشتققت منه فعلا اشتقاقا صوتيّا استحال ذلك التقدير فقلت : بأبأت به بئباء ، وقد أكثرت من البأبأة. فالباء الآن فى لفظ الأصل ، وإن كنا قد أحطنا علما بأنها فيما اشتقّت منه زائدة للجرّ. ومثال البئباء على هذا الفعلال كالزلزال ، والقلقال ، والبأبأة الفعللة ، كالقلقلة ، والزلزلة ، وعلى هذا اشتقّوا منهما (البئب) فصار فعلا من باب سلس ، وقلق ؛ قال :

٢٨٥

* يا بأبى أنت ويا فوق البئب! (١) *

فالبئب الآن بمنزلة الضلع ، والعنب ، والقمع ، [والقرب]. ومن ذلك قولهم : القرنوة للنبت ، وقالوا : قرنيت السقاء ، إذا دبغته بالقرنوة ، فالياء فى قرنيت الآن للإلحاق ، بمنزلة ياء سلقيت ، وجعبيت ، وإنما هى بدل من واو (قرنوة) التى هى لغير الإلحاق. وسألنى أبو علىّ ـ رحمه‌الله ـ عن ألف (يا) من قوله ـ فيما أنشده أبو زيد ـ :

فخير نحن عند الناس منكم

إذا الداعى المثوّب قال يالا (٢)

فقال : أمنقلبة هى؟ قلت : لا ؛ لأنها فى حرف أعنى (يا) فقال : بل هى منقلبة. فاستدللته على ذلك ، فاعتصم بأنها قد خلطت باللام بعدها ووقف عليها ، فصارت اللام كأنها جزء منها ، فصارت (يال) بمنزلة قال ، والألف فى موضع العين وهى مجهولة ، فينبغى أن يحكم عليها بالانقلاب عن الواو. هذا جمل ما قاله ؛ ولله هو وعليه رحمته ، فما كان أقوى قياسه ، وأشدّ بهذا العلم اللطيف الشريف أنسه. فكأنه إنما كان مخلوقا له. وكيف كان لا يكون كذلك ، وقد أقام على هذه الطريقة مع جلّة أصحابها ، وأعيان شيوخها ، سبعين سنة ، زائحة علله ، ساقطة عنه كلفه ، وجعله همّه وسدمه (٣) ، لا يعتاقه عنه ولد ، ولا يعارضه فيه متجر ، ولا يسوم به مطلبا ، ولا يخدم به رئيسا إلا بأخرة وقد حطّ من أثقاله ، وألقى عصا ترحاله! ثم إنى ـ ولا أقول إلا حقّا ـ لأعجب من نفسى فى وقتى هذا ، كيف تطوع لى بمسألة ، أم كيف تطمح بى إلى انتزاع علّة! مع ما الحال عليه من علق

__________________

(١) البيت فى اللسان (أبى) أنشده الجاحظ مع أبيات فى كتاب البيان والتبيين لآدم مولى بلعنبر ، يقول لابن له. وفيه «البيب» بدل «البئب» قال أبو علىّ : الباء مبدلة من همزة بدلا لازما ؛ وبيبت الرجل إذا قلت له بأبى.

(٢) البيت لزهير بن مسعود الضبّى فى تخليص الشواهد ص ١٨٢ ، وخزانة الأدب ٢ / ٦ ، والدرر ٣ / ٤٦ ، وشرح شواهد المغنى ٢ / ٥٩٥ ، والمقاصد النحوية ١ / ٥٢٠ ، ونوادر أبى زيد ص ٢٩ ، ٢٣٧ ، ٣٥٤ ، وشرح شواهد المغنى ٢ / ٨٤٧ ، وشرح ابن عقيل ص ١٠٢ ، ولسان العرب (يا) ومغنى اللبيب ١ / ٢١٩ ، ٢ / ٤٤٥ ، وهمع الهوامع ١ / ١٨١.

(٣) السدم : الهمّ.

٢٨٦

الوقت وأشجانه ، وتذاؤبه وخلج أشطانه (١) ، ولو لا معازّة الخاطر واعتنافه ، ومساورة الفكر واكتداده ، لكنت عن هذا الشأن بمعزل ، وبأمر سواه على شغل.

وقال لى مرّة رحمه‌الله تأنيسا بهذه الانتقالات : كما جاز إذا سمّيت بـ (ضرب) أن تخرجه من البناء إلى الإعراب ، كذلك يجوز أيضا أن تخرجه من جنس إلى جنس إذا أنت نقلته من موضعه إلى غيره.

ومن طريف ما ألقاه ـ رضى الله تعالى عنه ـ علىّ أنه سألنى يوما عن قولهم هات لا هاتيت ، فقال (ما هاتيت)؟ فقلت : فاعلت ، فهات من هاتيت ، كعاط من عاطيت ، فقال : أشيء آخر؟ فلم يحضر إذ ذاك ، فقال أنا أرى فيه غير هذا.

فسألته عنه ، فقال : يكون فعليت ، قلت : ممّه؟ قال : من الهوتة ، وهى المنخفض من الأرض ـ قال : وكذلك (هيت) لهذا البلد (٢) ، لأنه منخفض من الأرض ـ فأصله هوتيت ، ثم أبدلت الواو التى هى عين فعليت ، وإن كانت ساكنة ؛ كما أبدلت فى يا جل ، ويا حل ، فصار هاتيت ، وهذا لطيف حسن. على أن صاحب العين قد قال : إن الهاء فيه بدل من همزة ، كهرقت ونحوه. والذى يجمع بين هاتيت وبين الهوتة حتى دعا ذلك أبا علىّ إلى ما قال به ، أن الأرض المنخفضة تجذب إلى نفسها بانخفاضها. وكذلك قولك : هات ، إنما هو استدعاء منك للشيء ، واجتذابه إليك. وكذلك صاحب العين إنما حمله على اعتقاد بدل الهاء من الهمزة أنه أخذه من أتيت الشىء ، والإتيان ضرب من الانجذاب إلى الشىء. والذى ذهب إليه أبو علىّ فى (هاتيت) غريب لطيف.

ومما يستحيل فيه التقدير لانتقاله من صورة إلى أخرى قولهم (هلممت) إذا قلت : هلمّ. فهلممت الآن كصعررت ، وشمللت ، وأصله قبل غير هذا ، إنما هو أوّل (ها) للتنبيه لحقت مثال الأمر للمواجه توكيدا. وأصلها ها لم ، فكثر استعمالها ، وخلطت (ها) بـ (لم) ، توكيدا للمعنى لشدّة الاتصال ، فحذفت الألف لذلك ، ولأن لام (لم) فى الأصل ساكنة ، ألا ترى أن تقديرها أوّل (المم) وكذلك يقولها أهل الحجاز ، ثم زال هذا كلّه بقولهم (هلممت) فصارت كأنها

__________________

(١) الأشطان : جمع شطن وهو الحبل. وخلج أشطانه : فساد أسبابه.

(٢) هو بلد على شاطئ الفرات ، وعلى هذا فالياء فى هيت أصلها الواو.

٢٨٧

فعللت ، من لفظ (الهلمام) وتنوسيت حال التركيب. وكأنّ الذى صرفهما جميعا عن ظاهر حاله حتى دعا أبا علىّ إلى أن جعله من (الهوتة) ، وغيره من لفظ أتيت عدم تركيب ظاهره ، ألا ترى أنه ليس فى كلامهم تركيب (ه ت و) ولا (ه ت ى) فنزلا جميعا عن بادى أمره إلى لفظ غيره.

فهذه طريق اختلاف التقدير ، وهى واسعة ، غير أنى قد نبّهت عليها ، فأمض الرأى والصنعة فيما يأتى منها.

ومن لفظ (الهوتة) ومعناها قولهم مضى هيتاء من الليل ؛ وهو فعلاء منه ، ألا تراهم قالوا : قد تهوّر الليل. ولو كسّرت (هيتاء) لقلت (هواتىّ) وقريب من لفظه ومعناه قول الله سبحانه (هَيْتَ لَكَ) [يوسف : ٢٣] إنما معناه هلمّ لك ، وهذا اجتذاب واستدعاء له ؛ قال :

أن العراق وأهله

عنق إليك فهيت هيتا (١)

* * *

__________________

(١) البيت بلا نسبة فى جمهرة اللغة ص ٢٥١ ، ٤٤٠ ، وشرح المفصل ٤ / ٣٢ ، ولسان العرب (هيت) ، (عنق) ، والمحتسب ١ / ٣٣٧ وقبله :

أبلغ أمير المؤمني

ن أخا العراق إذا أتيتا

هيت : موضع على شاطئ الفرات. قال أبو على : ياء هيت ، التى هى أرض. واو. وانظر اللسان (هيت).

٢٨٨

باب فى الفرق بين تقدير الإعراب وتفسير المعنى

هذا الموضع كثيرا ما يستهوى من يضعف نظره إلى أن يقوده إلى إفساد الصنعة.

وذلك كقولهم فى تفسير قولنا (أهلك والليل) معناه الحق أهلك قبل الليل ، فربما دعا ذاك من لا دربة له إلى أن يقول (أهلك والليل) فيجرّه ، وإنما تقديره الحق أهلك وسابق الليل. وكذلك قولنا زيد قام : ربّما ظنّ بعضهم أن زيدا هنا فاعل فى الصنعة ، كما أنه فاعل فى المعنى. وكذلك تفسير معنى قولنا : سرّنى قيام هذا وقعود ذاك ، بأنه سرّنى أن قام هذا وأن قعد ذاك ، ربما اعتقد فى هذا وذاك أنهما فى موضع رفع لأنهما فاعلان فى المعنى. ولا تستصغر هذا الموضع ؛ فإن العرب أيضا قد مرّت به وشمّت روائحه ، وراعته. وذلك أن الأصمعى أنشد فى جملة أراجيزه شعرا من مشطور السريع طويلا ، ممدودا ، مقيّدا ، التزم الشاعر فيه أن جعل قوافيه كلها فى موضع جرّ إلا بيتا واحدا من الشعر :

يستمسكون من حذار الإلقاء

بتلعات كجذوع الصيصاء (١)

ردى ردى ورد قطاة صمّاء

كدريّة أعجبها برد الماء (٢)

تطّرد قوافيها كلّها على الجرّ إلا بيتا واحدا ، وهو قوله :

* كأنها وقد رآها الرؤاء (٣) *

والذى سوّغه ذاك ـ على ما التزمه فى جميع القوافى ـ ما كنّا على سمته من القول. وذلك أنه لمّا كان معناه : كأنها فى وقت رؤية الرؤاء تصوّر معنى الجرّ من هذا الموضع ، فجاز أن يخلط هذا البيت بسائر الأبيات ، وكأنه لذلك لم يخالف.

ونظير هذا عندى قول طرفة :

__________________

(١) الرجز لغيلان الربعى فى لسان العرب (تلع) ، وتاج العروس (تلع) ، وبلا نسبة فى لسان العرب (لقا) وجمهرة اللغة ص ٢٤٢ ، ٨٦٦ ، ١٢٣٤.

(٢) الرجز بلا نسبة فى أساس البلاغة (ورد).

(٣) الرجز لغيلان الربعى فى لسان العرب (رأى).

٢٨٩

فى جفان تعترى نادينا

وسديف حين هاج الصنّبر (١)

يريد الصنّبر ، فاحتاج للقافية إلى تحريك الباء ، فتطرّق إلى ذلك بنقل حركة الإعراب إليها ؛ تشبيها بباب قولهم : هذا بكر ، ومررت ببكر ، وكان يجب على هذا أن يضمّ الباء فيقول : الصنّبر ؛ لأن الراء مضمومة ، إلا أنه تصوّر معنى إضافة الظرف إلى الفعل فصار إلى أنه كأنه قال : حين هيج الصنّبر ، فلمّا احتاج إلى حركة الباء تصوّر معنى الجرّ فكسر الباء ، وكأنه قد نقل الكسرة عن الراء إليها.

ولو لا ما أوردته فى هذا لكان الضمّ مكان الكسر. وهذا أقرب مأخذا من أن تقول : إنه حرّف القافية للضرورة كما حرّفها الآخر فى قوله :

هل عرفت الدار أم أنكرتها

بين تبراك فشسّى عبقر (٢)

فى قول من قال : أراد عبقر ، ثم حرّف الكلمة. ونحوه فى التحريف قول العبد :

وما دمية من دمى ميسنا

ن معجبة نظرا واتّصافا (٣)

أراد ـ فيما قيل ـ ميسان ، فزاد النون ضرورة ، فهذا ـ لعمرى ـ تحريف بتعجرف عار من الصنعة. والذى ذهبت أنا إليه هناك فى (الصنبر) ليس عاريا من الصنعة.

فإن قلت : فإن الإضافة فى قوله (حين هاج الصنبر) إنما هى إلى الفعل لا إلى الفاعل فكيف حرّفت غير المضاف إليه؟ قيل الفعل مع الفاعل كالجزء الواحد ، وأقوى الجزأين منهما هو الفاعل ، فكأن الإضافة إنما هى إليه لا إلى الفعل ، فلذلك جاز أن يتصوّر فيه معنى الجرّ.

__________________

(١) البيت فى ديوانه ص ٥٦ ، ولسان العرب (صنبر) ، وتهذيب اللغة ١٢ / ٢٧١ ، وتاج العروس (صنبر). الصّنّبر : الريح الباردة فى غيم. والسديف : السّنام المقطّع ، وقيل شحمه. اللسان (سدف).

(٢) البيت للمرار بن منقذ العدوى فى لسان العرب (عبقر) ، (شسس) ، (برك) ، وتهذيب اللغة ٣ / ٢٩٢ ، وتاج العروس (شسس) ، (برك) ، وشرح اختيارات المفضل ص ٤٢٤ ، وجمهرة اللغة ص ١٣٣ ، ٣٢٥ ، وبلا نسبة فى لسان العرب (صنبر).

(٣) البيت لسحيم عبد بنى الحسحاس فى ديوانه ص ٤٣ ، وسر صناعة الإعراب ١ / ١٤٧ ، ولسان العرب (ميس) ، (وصف) ، والممتع فى التصريف ١ / ٣٨٦.

٢٩٠

فإن قيل : فأنت إذا أضفت المصدر إلى الفاعل جررته فى اللفظ واعتقدت مع هذا أنه فى المعنى مرفوع ، فإذا كان فى اللفظ أيضا مرفوعا فكيف يسوغ لك بعد حصوله فى موضعه من استحقاقه الرفع لفظا ومعنى أن تحور به فتتوهّمه مجرورا؟ قيل هذا الذى أردناه وتصوّرناه هو مؤكّد للمعنى الأوّل ، لأنك كما تصوّرت فى المجرور معنى الرفع ، كذلك تمّمت حال الشبه بينهما فتصوّرت فى المرفوع معنى الجرّ. ألا ترى أن سيبويه لمّا شبّه الضارب الرجل بالحسن الوجه وتمثّل ذلك فى نفسه ورسا فى تصوّره ، زاد فى تمكين هذه الحال له وتثبيتها عليه ، بأن عاد فشبّه الحسن الوجه بالضارب الرجل فى الجرّ ؛ كلّ ذلك تفعله العرب ، وتعتقده العلماء فى الأمرين ، ليقوى تشابههما وتعمر ذات بينهما ، ولا يكونا على حرد (١) ، وتناظر غير مجد ، فاعرف هذا من مذهب القوم واقتفه تصب بإذن الله تعالى.

ومن ذلك قولهم فى قول العرب : كلّ رجل وصنعته ، وأنت وشأنك : معناه أنت مع شأنك ، وكل رجل مع صنعته ، فهذا يوهم من أمم أن الثانى خبر عن الأوّل ، كما أنه إذا قال أنت مع شأنك فإن قوله (مع شأنك) خبر عن أنت. وليس الأمر كذلك ؛ بل لعمرى إن المعنى عليه ، غير أن تقدير الأعراب على غيره. وإنما (شأنك) معطوف على (أنت) ، والخبر محذوف للحمل على المعنى ، فكأنه قال : كلّ رجل وصنعته مقرونان ، وأنت وشأنك مصطحبان. وعليه جاء العطف بالنصب مع أنّ ؛ قال :

أغار على معزاى لم يدر أننى

وصفراء منها عبلة الصفوات (٢)

ومن ذلك قولهم أنت ظالم إن فعلت ، ألا تراهم يقولون فى معناه : إن فعلت فأنت ظالم ، فهذا ربما أوهم أن (أنت ظالم) جواب مقدّم ، ومعاذ الله أن يقدّم جواب الشرط عليه ، وإنما قوله (أنت ظالم) دالّ على الجواب وسادّ مسدّه ؛ فأمّا أن يكون هو الجواب فلا.

ومن ذلك قولهم فى عليك زيدا : إن معناه خذ زيدا ، وهو ـ لعمرى ـ كذلك ،

__________________

(١) الحرد : الغيظ والغضب.

(٢) البيت بلا نسبة فى الأشباه والنظائر ٤ / ١٤ ، والخصائص ١ / ٢٨٣ ، ولسان العرب (معز).

٢٩١

إلا أن (زيدا) الآن إنما هو منصوب بنفس (عليك) من حيث كان اسما لفعل متعدّ ، لا أنه منصوب بـ (خذ).

ألا ترى إلى فرق ما بين تقدير الإعراب وتفسير المعنى ؛ فإذا مرّ بك شيء من هذا عن أصحابنا فاحفظ نفسك منه ، ولا تسترسل إليه ؛ فإن أمكنك أن يكون تقدير الإعراب على سمت تفسير المعنى فهو ما لا غاية وراءه ، وإن كان تقدير الإعراب مخالفا لتفسير المعنى تقبّلت تفسير المعنى على ما هو عليه ، وصحّحت طريق تقدير الإعراب ، حتى لا يشذّ شيء منها عليك ، وإيّاك أن تسترسل فتفسد ما تؤثر إصلاحه ؛ ألا تراك تفسّر نحو قولهم : ضربت زيدا سوطا أنّ معناه ضربت زيدا ضربة بسوط. وهو ـ لا شكّ ـ كذلك ، ولكن طريق إعرابه أنه على حذف المضاف ، أى ضربته ضربة سوط ثم حذفت الضربة على عبرة حذف المضاف. ولو ذهبت تتأوّل ضربته سوطا على أن تقدير إعرابه : ضربة بسوط كما أن معناه كذلك للزمك أن تقدّر أنك حذفت الباء ، كما تحذف حرف الجر فى نحو قوله : أمرتك الخير ، وأستغفر الله ذنبا ، فتحتاج إلى اعتذار من حذف حرف الجرّ ، وقد غنيت عن ذلك كلّه بقولك : إنه على حذف المضاف ؛ أى ضربة سوط ومعناه ضربة بسوط ، فهذا ـ لعمرى ـ معناه ، فأمّا طريق إعرابه وتقديره فحذف المضاف.

* * *

٢٩٢

باب فى أن المحذوف

 إذا دلت الدلالة عليه كان فى حكم الملفوظ به

 إلا أن يعترض هناك من صناعة اللفظ ما يمنع منه

من ذلك أن ترى رجلا قد سدّد سهما نحو الغرض ثم أرسله ، فتسمع صوتا فتقول : القرطاس والله ، أى أصاب القرطاس. فـ (أصاب) الآن فى حكم الملفوظ به البتّة ، وإن لم يوجد فى اللفظ ، غير أن دلالة الحال عليه نابت مناب اللفظ به. وكذلك قولهم لرجل مهو بسيف فى يده : زيدا ، أى اضرب زيدا.

فصارت شهادة الحال بالفعل بدلا من اللفظ به. وكذلك قولك للقادم من سفر : خير مقدم ، أى قدمت خير مقدم ، وقولك : قد مررت برجل إن زيدا وإن عمرا ، أى إن كان زيدا وإن كان عمرا ، وقولك للقادم من حجّه : مبرور مأجور ، أى أنت مبرور مأجور ، ومبرورا مأجورا ، أى قدمت مبرورا مأجورا ، وكذلك قوله :

رسم دار وقفت فى طلله

كدت أقضى الغداة من جلله (١)

أى ربّ رسم دار. وكان رؤبة إذا قيل له كيف أصبحت يقول : خير عافاك الله ـ أى بخير ـ يحذف الباء لدلالة الحال عليها بجرى العادة والعرف بها. وكذلك قولهم : الذى ضربت زيد ، تريد الهاء وتحذفها ، لأن فى الموضع دليلا عليها.

وعلى نحو من هذا تتوجّه عندنا قراءة حمزة ، وهى قوله سبحانه : (وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي تَسائَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحامَ) [النساء : ١] ليست هذه القراءة عندنا من الإبعاد والفحش والشناعة والضعف على ما رآه فيها وذهب إليه أبو العباس ، بل الأمر فيها دون ذلك وأقرب وأخفّ وألطف ؛ وذلك أن لحمزة أن يقول لأبى العباس : إننى لم أحمل (الأرحام) على العطف على المجرور المضمر ، بل اعتقدت أن تكون فيه باء ثانية حتى كأنى قلت : (وبالأرحام) ، ثم حذفت الباء ؛ لتقدّم ذكرها ؛ كما

__________________

(١) هذا البيت من شواهد النحو فى مباحث حرف الجر ، وهو مطلع القصيدة ، وبعده :

موحشا ما ترى به أحدا

تنسج الريح ترب معتدله

واقفا فى رباع أم جبير

من ضحا يومه إلى أصله (نجار).

٢٩٣

حذفت لتقدّم ذكرها فى نحو قولك : بمن تمرر أمرر ، وعلى من تنزل أنزل ، ولم تقل : أمر ربه ولا أنزل عليه ، لكن حذفت الحرفين لتقدّم ذكرهما. وإذا جاز للفرزدق أن يحذف حرف الجرّ لدلالة ما قبله عليه (مع مخالفته له فى الحكم) فى قوله :

وإنّى من قوم بهم يتّقى العدا

ورأب الثأى والجانب المتخوّف (١)

أراد : وبهم رأب الثأى ، فحذف الباء فى هذا الموضع لتقدّمها فى قوله : بهم يتقى العدا ، وإن كانت حالاهما مختلفتين. ألا ترى أن الباء فى قوله (بهم يتقى العدا) منصوبة الموضع لتعلّقها بالفعل الظاهر الذى هو يتّقى ، كقولك : بالسيف يضرب زيد ، والباء فى قوله : (وبهم رأب الثأى) مرفوعة الموضع عند قوم ، وعلى كلّ حال فهى متعلّقة بمحذوف ورافعه الرأب ـ ونظائر هذا كثيرة ـ كان حذف الباء من قوله (والأرحام) لمشابهتها الباء فى (به) موضعا وحكما أجدر ، وقد أجازوا تبّا له وويل على تقدير وويل له ، فحذفوها وإن كانت اللام فى (تبّا له) لا ضمير فيها وهى متعلّقة بنفس (تبّا) مثلها فى هلمّ لك وكانت اللام فى (ويل له) خبرا ، ومعلّقة بمحذوف وفيها ضمير ، فهذا عروض (٢) بيت الفرزدق.

فإن قلت : فإذا كان المحذوف للدّلالة عليه عندك بمنزلة الظاهر فهل تجيز توكيد الهاء المحذوفة فى نحو قولك : الذى ضربت زيد ، فتقول : الذى ضربت نفسه زيد ؛ كما تقول : الذى ضربته نفسه زيد؟ قيل : هذا عندنا غير جائز ؛ وليس ذلك لأن المحذوف هنا ليس بمنزلة المثبت ، بل لأمر آخر ، وهو أن الحذف هنا إنما الغرض به التخفيف لطول الاسم ، فلو ذهبت تؤكّده لنقضت الغرض. وذلك أن لتوكيد والإسهاب ضدّ التخفيف والإيجاز ؛ فلمّا كان الأمر كذلك تدافع الحكمان ، فلم يجز أن يجتمعا ؛ كما لا يجوز ادّغام الملحق ؛ لما فيه من نقض الغرض. وكذلك

__________________

(١) البيت للفرزدق فى ديوانه ٢ / ٢٩ ، والأشباه والنظائر ٢ / ٣٢٦ ، وجمهرة أشعار العرب ص ٨٨٧ ، ولسان العرب (رأب) ، وبلا نسبة فى الخصائص ١ / ٢٨٦. رأب الثأى : إصلاح الفساد. ورأب الصدع والإناء يرأبه رأبا ورأبة : أصلحه. وانظر اللسان (رأب).

(٢) يقال : هذه المسألة عروض هذه ، أى نظيرها. اللسان (عرض).

٢٩٤

قولهم لمن سدّد سهما ثم أرسله نحو الغرض فسمعت صوتا فقلت : القرطاس والله أى أصاب القرطاس : لا يجوز توكيد الفعل الذى نصب (القرطاس). لو قلت : إصابة القرطاس ، فجعلت (إصابة) مصدرا للفعل الناصب للقرطاس لم يجز ؛ من قبل أن الفعل هنا قد حذفته العرب وجعلت الحال المشاهدة دالّة عليه ، ونائبة عنه ، فلو أكّدته لنقضت الغرض ؛ لأن فى توكيده تثبيتا للفظه المختزل ، ورجوعا عن المعتزم من حذفه واطّراحه والاكتفاء بغيره منه. وكذلك قولك للمهوى بالسيف فى يده : زيدا ، أى اضرب زيدا لم يجز أن تؤكّد ذلك الفعل الناصب لزيد ؛ ألا تراك لا تقول : ضربا زيدا وأنت تجعل (ضربا) توكيدا لا ضرب المقدّرة ؛ من قبل أن تلك اللفظة قد أنيبت عنها الحال الدالّة عليها ، وحذفت هى اختصارا ، فلو أكّدتها لنقضت القضيّة التى كنت حكمت بها لها ، لكن لك أن تقول : ضربا زيدا لا على أن تجعل ضربا توكيدا للفعل الناصب لزيد ، بل على أن تبدله منه فتقيمه مقامه فتنصب به زيدا ، فأمّا على التوكيد به لفعله وأن يكون زيد منصوبا بالفعل الذى هذا توكيد له فلا.

فهذه الأشياء لو لا ما عرض من صناعة اللفظ ـ أعنى الاقتصار على شيء دون شيء ـ لكان توكيدها جائزا حسنا ، لكن (عارض ما منع) فلذلك لم يجز ؛ لا لأن المحذوف ليس فى تقدير الملفوظ به.

ومما يؤكّد لك أن المحذوف للدلالة عليه بمنزلة الملفوط به إنشادهم قول الشاعر :

قاتلى القوم يا خزاع ولا

يأخذكم من قتالهم فشل (١)

فتمام الوزن أن يقال : فقاتلى القوم ، فلو لا أنّ المحذوف إذا دلّ الدليل عليه بمنزلة المثبت ، لكان هذا كسرا ، لا زحافا. وهذا من أقوى وأعلى ما يحتجّ به لأن المحذوف للدلالة عليه بمنزلة الملفوظ به البتّة ، فاعرفه ، واشدد يدك به.

وعلى الجملة فكلّ ما حذف تخفيفا فلا يجوز توكيده ، لتدافع حاليه به ؛ من حيث التوكيد للإسهاب والإطناب ، والحذف للاختصار والإيجاز. فاعرف ذلك

__________________

(١) البيت من المنسرح وقد دخله الخرم ، ولو قال : (فقاتلى) نجا من ذلك. وقد ذكره أبو رياش كاملا هكذا. وانظر التبريزى فى شرح الحماسة. ونهاية الشطر الأول «لا» وانظر الدمامينى فى الموطن السابق. (نجار).

٢٩٥

مذهبا للعرب.

ومما يدلّك على صحّة ذلك قول العرب ـ فيما رويناه عن محمد بن الحسن عن أحمد بن يحيى ـ : (راكب الناقة طليحان) كذا رويناه هكذا ؛ وهو يحتمل عندى وجهين :

أحدهما ما نحن عليه من الحذف ، فكأنه قال : راكب الناقة والناقة طليحان ، فحذف المعطوف لأمرين : أحدهما تقدّم ذكر الناقة ، والشىء إذا تقدّم ذكره دلّ على ما هو مثله. ومثله من حذف المعطوف قول الله عزوجل (فَقُلْنَا اضْرِبْ بِعَصاكَ الْحَجَرَ فَانْفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتا عَشْرَةَ عَيْناً) [البقرة : ٦٠] أى فضرب فانفجرت. فحذف (فضرب) لأنه معطوف على قوله : (فقلنا). وكذلك قول التغلبىّ (١) :

* إذا ما الماء خالطها سخينا*

أى شربنا فسخينا. فكذلك قوله : راكب الناقة طليحان ، أى راكب الناقة والناقة طليحان.

فإن قلت : فهلا كان التقدير على حذف المعطوف عليه ، أى الناقة وراكب الناقة طليحان؟ قيل يبعد ذلك من وجهين :

__________________

(١) عجز بيت لعمرو بن كلثوم فى ديوانه ص ٦٤ ، ولسان العرب (طلح) ، (حصص) ، (سخن) ، (سخا) ، وجمهرة اللغة ص ٩٩ ، وتاج العروس (حصص) ، (سخن) ، وكتاب العين (١ / ٧١) ، والمخصص ٣ / ٢ ، ١٥ / ٦٠ ، الأغانى ١١ / ٤٥ ، وجمهرة أشعار العرب ١ / ٣٨٩ ، والخزانة ٣ / ١٧٨ ، وشرح ديوان امرئ القيس ص ٣٢٠ ، وشرح ديوان الحماسة للمرزوقى ١ / ١٨٨ ، وشرح القصائد السبع ص ٣٧٢ ، وشرح القصائد العشر ص ٣٢١ ، وشرح المعلقات السبع ص ١٦٥ ، وشرح المعلقات العشر ص ٨٨ ، وشعراء النصرانية ص ٤٥٥ ، وللتغلبى فى التاج (طلح) ومقاييس اللغة ٢ / ١٣ ، ٣ / ١٦٨ ، وديوان الأدب ٤ / ٩٢ ، وبلا نسبة فى أساس البلاغة (حصص).

والمعلقة أولها :

ألا هبى بصحنك فاصبحينا

ولا تبقى خمور الأندرينا

مشعشعة كأن الحص فيها

يقال : «سخين» أى ماء ساخن. ويقال : «سخينا» من السخاء أى : جدنا بأموالنا. وانظر اللسان (سخن) ، والمعلقة.

٢٩٦

أحدهما أن الحذف اتّساع ، والاتّساع بابه آخر الكلام وأوسطه ، لا صدره وأوّله ؛ ألا ترى أن من اتّسع بزيادة (كان) حشوا أو آخرا لا يجيز زيادتها أوّلا ، وأن من اتّسع بزيادة (ما) حشوا وغير أوّل لم يستجز زيادتها أولا إلا فى شاذّ من القول ؛ نحو قوله :

وقدما هاجنى فازددت شوقا

بكاء حمامتين تجاوبان (١)

فيمن رواه (وقدما) بزيادة (ما) على أنه يريد : وقد هاجنى ، لا فيمن رواه فقال : (وقدما هاجنى) أى وقديما هاجنى.

والآخر أنه لو كان تقديره : الناقة وراكب الناقة طليحان ، لكان قد حذف حرف العطف وبقّى المعطوف به ؛ وهذا شاذّ ، إنما حكى منه أبو عثمان عن أبى زيد : أكلت لحما ، سمكا ، تمرا ، وأنشد أبو الحسن :

كيف أصبحت كيف أمسيت ممّا

يزرع الودّ فى فؤاد الكريم (٢)

وأنشد ابن الأعرابى :

وكيف لا أبكى على علاتى

صبائحى غبائقى قيلاتى (٣)

وهذا كله شاذّ ، ولعلّه جميع ما جاء منه. وأما على القول الآخر ، فإنه ـ لعمرى ـ قد حذف حرف العطف مع المعطوف به ، وهذا ما لا بدّ منه ؛ ألا ترى أنه إذا حذف المعطوف لم يجز أن يبقى الحرف العاطفة قبله بحاله ؛ لأن حرف العطف لا يجوز تعليقه. فإن قلت فقد قال (٤) :

قد وعدتنى أمّ عمرو أن تا

تدهن رأسى وتفلّينى وا

__________________

(١) البيت لجحدر فى لسان العرب (جوب) ، وتاج العروس (جوب) ، ويروى :

ومما زادنى فاهتجت شوقا

غناء حمامتين تجاوبان

(٢) البيت بلا نسبة فى الأشباه والنظائر ٨ / ١٣٤ ، والدرر ٦ / ١٥٥ ، وديوان المعانى ٢ / ٢٢٥ ، ورصف المبانى ص ٤١٤ ، وشرح الأشمونى ٢ / ٤٣١ ، وشرح عمدة الحافظ ص ٦٤١ ، وهمع الهوامع ٢ / ١٤٠.

(٣) الرجز بلا نسبة فى لسان العرب (صبح) ، (غبق) ، (قيل) ، وتهذيب اللغة ٤ / ٢٦٦ ، ٩ / ٣٠٥ ، ١٦ / ١٥١ ، وديوان الأدب ٣ / ٣١٢ ، وتاج العروس (غبق) ، (قيل).

(٤) الرجز بلا نسبة فى لسان العرب (نتا) ، (قنف) ، (فلا).

٢٩٧

وتمسح القنفاء حتى تنتا

فإنما جاز هذا لضرورة الشعر ، ولأنه أيضا قد أعاد الحرف فى أوّل البيت الثانى ، فجاز تعليق الأوّل بعد أن دغمه بحرف الإطلاق وأعاده ، فعرف ما أراد بالأوّل ، فجرى مجرى قوله :

عجّل لنا هذا وألحقنا بذا ال

الشّحم إنّا قد مللناه بجل (١)

فكما علّق حرف التعريف مدعوما بألف الوصل وأعاده فيما بعد ، فكذلك علّق حرف العطف مدعوما بحرف الإطلاق وأعاده فيما بعد. فإن قلت : فألف قوله (وا) ملفوظ بها ، وألف الوصل فى قوله (بذال) غير ملفوظ بها ، قيل لو ابتدأت اللام لم يكن من الهمزة بدّ. فإن قلت : أفيجوز على هذا (قام زيدوه ، وعمرو) فتجرى هاء بيان الحركة مجرى ألف الإطلاق؟ فإنه أضعف القياسين. وذلك أن ألف الإطلاق أشبه بما صيغ فى الكلمة من هاء بيان الحركة ؛ ألا ترى إلى ما جاء من قوله :

ولاعب بالعشىّ بنى بنيه

كفعل الهرّ يحترش العظايا (٢)

فأبعده الإله ولا يؤبّى

ولا يسقى من المرض الشفايا (٣)

 ـ وقرأته علىّ أبى على : ولا يشفى ـ ألا ترى أن أبا عثمان قال : شبّه ألف

__________________

(١) الرجز لغيلان بن حريث فى الدرر ١ / ٢٤٥ ، الكتاب ٤ / ١٤٧ ، والمقاصد النحوية ١ / ٥١٠ ، ولحكيم بن معيّة فى شرح أبيات سيبويه ٢ / ٣٦٩ ، وبلا نسبة فى لسان العرب (طرا) ، ورصف المبانى ٤١ ، ٧٠ ، ١٥٣ ، وشرح الأشمونى ١ / ٨٣ ، والكتاب ٣ / ٣٢٥ ، واللامات ص ٤١ ، وما ينصرف وما لا ينصرف ص ١٢١ ، والمقتضب ١ / ٨٤ ، ٢ / ٩٤ ، والمنصف ١ / ٦٦ ، وهمع الهوامع ١ / ٧٩ ، وكتاب العين ٦ / ١٣٤ ، وتاج العروس (طرا) ، ويروى «بذال» مكان «بذل».

(٢) البيت لأعصر بن قيس عيلان فى لسان العرب (حما) ، وبلا نسبة فى لسان العرب (ثمن) ، والمخصّص ٨ / ١٠٠ ، ١٥ / ١١٧. العظاية : دويبة على خلقة سام أبرص أعيظم منها شيئا ، والعظاءة لغة فيها ، والجمع عظايا وعظاء. اللسان (عظى).

(٣) البيت لأعصر بن سعد بن قيس عيلان فى لسان العرب (حما) ، وبلا نسبة فى لسان العرب (ثمن) ، ويروى :

فلا ذاق النعيم ولا شرابا

ولا يعطى من المرض الشفايا

٢٩٨

الإطلاق بتاء التأنيث ، أى فصحّح اللام لها كما يصحّحها للهاء ، وليست كذلك هاء بيان الحركة ؛ لأنها لم تقو قوّة تاء التأنيث ؛ أولا ترى أن ياء الإطلاق فى قوله :

* ... كلّه لم أصنعى (١) *

قد نابت عن الضمير العائد حتى كأنه قال : لم أصنعه ، فلذلك كان (وا) من قوله : (وتفلينى وا) كأنه لاتّصاله بالألف غير معلّق. فإذا كان فى اللفظ كأنه غير معلق وعاد من بعد معطوفا به لم يكن هناك كبير مكروه فيعتذر منه.

فإن قلت : فإنّ هاء بيان الحركة قد عاقبت لام الفعل ؛ نحو ارمه ، واغزه ، واخشه ، فهذا يقوّيها ، فإنه موضع لا يجوز أن يسوّى به بينها وبين ألف الإطلاق.

والوجه الآخر الذى لأجله حسن حذف المعطوف أن الخبر جاء بلفظ التثنية ، فكان ذلك دليلا على أن المخبر عنه اثنان. فدلّ الخبر على حال المخبر عنه. إذ كان الثانى هو الأوّل. فهذا أحد وجهىّ ما تحتمله الحكاية.

والآخر أن يكون الكلام محمولا على حذف المضاف أى راكب الناقة أحد طليحين ، كما يحتمل ذلك قوله سبحانه (يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجانُ) [الرحمن : ٢٣] أى من أحدهما ، وقد ذهب فيه إليه فيما حكاه أبو الحسن. فالوجه الأوّل ؛ وهو ما كنا عليه : من أن المحذوف من اللفظ إذا دلّت الدلالة عليه كان بمنزلة الملفوظ به ، ألا ترى أن الخبر لمّا جاء مثنّى دلّ على أن المخبر عنه مثنّى كذلك أيضا ، وفى هذا القول دليل على ما يرد من نحوه بمشيئة الله [وحوله].

* * *

__________________

(١) جزء من رجز لأبى النجم فى تخليص الشواهد ص ٢٨١ ، وخزانة الأدب ١ / ٣٥٩ ، والدرر ٢ / ١٣ ، وشرح أبيات سيبويه ١ / ١٤ ، ٤٤١ ، وشرح شواهد المغنى ٢ / ٥٤٤ ، وشرح المفصل ٦ / ٩٠ ، والكتاب ١ / ٨٥ ، والمحتسب ١ / ٢١١ ، ومعاهد التنصيص ١ / ١٤٧ ، ومغنى اللبيب ١ / ٢٠١ ، والمقاصد النحوية ٤ / ٢٢٤ ، وتاج العروس (خير) ، وبلا نسبة فى الأغانى ١٠ / ١٧٦ ، وخزانة الأدب ٣ / ٢٠ ، ٦ / ٢٧٢ ، ٢٧٣ ، وشرح المفصل ٢ / ٣٠ ، والكتاب ١ / ١٢٧ ، ١٣٧ ، ١٤٦ ، المقتضب ٤ / ٢٥٢ ، وهمع الهوامع ١ / ٩٧.

٢٩٩

باب فى نقض المراتب إذا عرض هناك عارض

من ذلك امتناعهم من تقديم الفاعل فى نحو ضرب غلامه زيدا. فهذا لم يمتنع من حيث كان الفاعل ليس رتبته التقديم ، وإنما امتنع لقرينة انضمّت إليه ، وهى إضافة الفاعل إلى ضمير المفعول ، وفساد تقدّم المضمر على مظهره لفظا ومعنى.

فلهذا وجب إذا أردت تصحيح المسألة أن تؤخّر الفاعل فتقول : ضرب زيدا غلامه ، وعليه قول الله سبحانه : (وَإِذِ ابْتَلى إِبْراهِيمَ رَبُّهُ) [البقرة : ١٢٤] وأجمعوا على أن ليس بجائز ضرب غلامه زيدا ، لتقدّم المضمر على مظهره لفظا ومعنى. وقالوا فى قول النابغة:

جزى ربّه عنّى عدىّ بن حاتم

جزاء الكلاب العاويات وقد فعل (١)

إن الهاء عائدة على مذكور متقدّم ، كلّ ذلك لئلا يتقدّم ضمير المفعول عليه مضافا (إلى الفاعل) فيكون مقدّما عليه لفظا ومعنى. وأمّا أنا فأجيز أن تكون الهاء فى قوله :

* جزى ربّه عنّى عدىّ بن حاتم (٢) *

عائدة على (عدىّ) خلافا على الجماعة.

فإن قيل : ألا تعلم أن الفاعل رتبته التقدّم ، والمفعول رتبته التأخّر ، فقد وقع كلّ منهما الموقع الذى هو أولى به ، فليس لك أن تعتقد فى الفاعل وقد وقع مقدّما أنّ موضعه التأخير ، وإنّما المأخوذ به فى ذلك أن يعتقد فى الفاعل إذا وقع مؤخّرا

__________________

(١) البيت للنابغة الذبيانى فى ديوانه ص ١٩١ ، وله أو لأبى الأسود الدؤلى فى خزانة الأدب ١ / ٢٧٧ ، ٢٧٨ ، ٢٨١ ، ٢٨٧ ، والدرر ١ / ٢١٧ ، وللنابغة أو لأبى الأسود أو لعبد الله بن همارق فى شرح التصريح ١ / ٢٨٣ ، والمقاصد النحوية ٢ / ٤٨٧ ، ولأبى الأسود الدؤلى فى ملحق ديوانه ص ٤٠١ ، وتخليص الشواهد ص ٤٩٠ ، وبلا نسبة فى أوضح المسالك ٢ / ١٢٥ ، وشرح الأشمونى ٢ / ٥٩ ، وشرح شذور الذهب ص ١٧٨ ، شرح ابن عقيل ص ٢٥٢ ، ولسان العرب (عوى) وهمع الهوامع ١ / ٦٦.

(٢) سبق منذ قليل.

٣٠٠