الخصائص - ج ١

أبي الفتح عثمان بن جنّي

الخصائص - ج ١

المؤلف:

أبي الفتح عثمان بن جنّي


المحقق: الدكتور عبد الحميد الهنداوي
الموضوع : اللغة والبلاغة
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ٣
ISBN: 978-2-7451-3245-1
الصفحات: ٥٤٤

فإن قلت : فإنّ الشاة من قولهم : رجل أشوه ، وامرأة شوهاء ؛ للقبيحين. وهذا ضدّ الأول ؛ ففيه جوابان : أحدهما أن تكون الشاة جرت مجرى القلب لدفع العين عنها لحسها ؛ كما يقال فى استحسان الشىء : قاتله الله ؛ كقوله :

رمى الله فى عينى بثينة بالقذى

وفى الشنب من أنيابها بالقوادح (١)

وهو كثير. والآخر أن يكون من باب السلب ؛ كأنه سلب القبح منها ؛ كما قيل للحرم : نالة. ولخشبة الصرار تودية (٢) ؛ ولجوّ السماء السّكاك.

ومنه تحوّب وتأثّم ؛ أى ترك الحوب والإثم.

وهو باب واسع ؛ وقد كتبنا منه فى هذا الكتاب ما ستراه بإذن الله تعالى. وأهل اللغة يسمعون هذا فيرونه ساذجا غفلا ، ولا يحسنون لما نحن فيه من حديثه فرعا ولا أصلا.

ومن ذلك قولهم : الفضّة ؛ سمّيت بذلك لانفضاض أجزائها ، وتفرّقها فى تراب معدنها ، كذا أصلها وإن كانت فيما بعد قد تصفّى وتهدّب وتسبك. وقيل لها فضّة ، كما قيل لها لجين. وذلك لأنها ما دامت فى تراب معدنها فهى ملتزقة (فى التراب) متلجّنة به ؛ قال الشمّاخ :

وماء قد وردت أميم طام

عليه الطير كالورق اللجين (٣)

__________________

(١) البيت من الطويل ، وهو لجميل بثينة فى ديوانه ص ٥٣ ، والأغانى ٨ / ١٠٤ ، وأمالى المرتضى ٢ / ١٥٧ ، وخزانة الأدب ٥ / ٢١٧ ، ٢١٩ ، ٦ / ٣٩٨ ، ٤٠٠ ، ٤٠٣ ، وسمط اللآلى ص ٧٣٦ ، ولسان العرب (نيب) ، (قدح) ، (عين) ، وبلا نسبة فى جمهرة اللغة ص ٥٠٤. الشنب : جمع أشنب ؛ من الشنب وهو رقة الأسنان وعذوبتها. والقوادح جمع القادح ، وهو السواد يظهر فى الأسنان.

(٢) هى خشبة تشد على أطباء الناقة لئلا يرضعها الفصيل. وكأنه يريد من بنائها على السلب أن الغرض من التودية منع الودى ، وهو السيلان يقال ودى : سال ، أى أن التودية تحول دون ودى اللبن.

(٣) البيت من الوافر ، وهو للشماخ ، فى ديوانه ص ٣٢٠ ، ولسان العرب (لجن) ، وتهذيب اللغة ١١ / ٨٠ ، والمخصص ١٠ / ٢٢٤ ، وأساس البلاغة (لجن) ، وتاج العروس (لجن) ، وبلا نسبة فى جمهرة اللغة ص ٤٩٢ ، ومجمل اللغة ٤ / ٢٦٧ ، ومقاييس اللغة ٥ / ٢٣٥ ، وديوان الأدب ١ / ٤٢٤.

٤٨١

أى المتلزق المتلجّن ، وينبغى أن يكونوا إنما ألزموا هذا الاسم التحقير لاستصغار معناه ما دام فى تراب معدنه. ويشهد عندك بهذا المعنى قولهم فى مراسله (الذهب) وذلك لأنه ما دام كذلك غير مصفّى فهو كالذاهب ؛ لأن ما فيه من التراب كالمستهلك له ، أو لأنه لمّا قلّ فى الدنيا فلم يوجد إلا عزيزا صار كأنه مفقود ذاهب ؛ ألا ترى أن الشىء إذا قلّ قارب الانتفاء. وعلى ذلك قالت العرب : قلّ رجل يقول ذلك إلا زيد بالرفع ؛ لأنهم أجروه مجرى ما يقول ذاك أحد إلا زيد.

وعلى نحو من هذا قالوا : قلّما يقوم زيد ؛ فكفّوا (قل) بـ (ما) عن اقتضائها الفاعل ، وجاز عندهم إخلاء الفعل من الفاعل لما دخله من مشابهة حرف النفى ؛ كما بقّوا المبتدأ بلا خبر فى نحو هذا من قولهم : أقلّ امرأتين تقولان ذلك ، لمّا ضارع المبتدأ حرف النفى. أفلا ترى إلى أنسهم باستعمال القلّة مقارنة للانتفاء.

فكذلك لمّا قلّ هذا الجوهر فى الدنيا أخذوا له اسما من الذهاب الذى هو الهلاك.

ولأجل هذا أيضا سمّوه (تبرا) لأنه (فعل) من التبار. ولا يقال له (تبر) حتى يكون فى تراب معدنه ، أو مكسورا.

ولهذا قالوا للجام من الفضّة (الغرب) ، وهو (فعل) من الشىء الغريب ؛ وذلك أنه ليس فى العادة والعرف استعمال الآنية من الفضّة ، فلمّا استعمل ذلك فى بعض الأحوال كان عزيزا غريبا. هذا قول أبى إسحاق. وإن شئت جذبته إلى ما كنّا عليه فقلت : إنّ هذا الجوهر غريب من بين الجواهر لنفاسته وشرفه ؛ ألا تراهم إذا أثنوا على إنسان قالوا : هو وحيد فى وقته ، وغريب فى زمانه ، ومنقطع النظير ، ونسيج وحده. ومنه قول الطائىّ الكبير:

غرّبته العلا على كثرة النا

س فأضحى فى الأقربين جنيبا

فليطل عمره فلو مات فى مر

ومقيما بها لمات غريبا (١)

وقول شاعرنا :

أبدو فيسجد من بالسوء يذكرنى

ولا أعاتبه صفحا وإهوانا

__________________

(١) جنيبا : أى غريبا. والبيتان من قصيدة يمدح بها أبا سعيد محمد بن يوسف الثغرى. وهى فى الديوان. (نجار).

٤٨٢

وهكذا كنت فى أهلى وفى وطنى

إن النفيس عزيز حيثما كانا

ويدلّك على أنهم قد تصوّروا هذا الموضع من امتزاجه بتراب معدنه أنهم إذا صفّوه وهذّبوه أخذوا له اسما من ذلك المعنى ، فقالوا له : الخلاص ، والإبريز ، والعقيان. فالخلاص فعال من تخلّص ، والإبريز إفعيل من برز يبرز ، والعقيان فعلان من عقى الصبىّ يعقى ، وهو أول ما ينجيه عند سقوطه من بطن أمّه قبل أن يأكل ، وهو العقى. فقيل له ذلك لبروزه ؛ كما قيل له البراز.

فالتأتى والتلطّف فى جميع هذه الأشياء وضمّها ، وملاءمة ذات بينها هو (خاصّ اللغة) وسرّها ، وطلاوتها الرائقة وجوهرها. فأمّا حفظها ساذجة ، وقمشها محطوبة هرجة (١) فنعوذ بالله منه ، ونرغب بما آتاناه سبحانه عنه.

وقال أبو علىّ رحمه‌الله : قيل له حبىّ كما قيل له سحاب. تفسيره أن حبيّا (فعيل) من حبا يحبو. وكأن السحاب لثقله يحبو حبوا ؛ كما قيل له سحاب وهو (فعال) من سحب ؛ لأنه يسحب أهدابه. وقد جاء بكليهما شعر العرب ؛ قالت امرأة :

وأقبل يزحف زحف الكسير

سياق الرعاء البطاء العشارا (٢)

وقال أوس :

دان مسفّ فويق الأرض هيدبه

يكاد يدفعه من قام بالراح (٣)

وقالت صبية منهم لأبيها فتجاوزت ذلك :

أناخ بذى نفر بركة

كأنّ على عضديه كتافا (٤)

__________________

(١) الهرج : الضعيف.

(٢) البيت من المتقارب ، وهو بلا نسبة فى لسان العرب (حبا) ، وتاج العروس (حبا).

(٣) البيت من البسيط ، وهو لأوس بن حجر فى ديوانه ص ١٥ ، والأغانى ٩ / ٤٤ ، والخصائص ٢ / ١٢٦ ، والشعر والشعراء ١ / ٢١٣ ، ولعبيد بن الأبرص فى ديوانه ص ٥٣ ، وجمهرة اللغة ص ١٣٤ ، والحماسة الشجرية ٢ / ٧٧٠ ، وسمط اللآلى ص ٤٤١ ، ولسان العرب (هدب) ، ولأوس أو لعبيد فى الحيوان ٦ / ١٣٢ ، وشرح شواهد الإيضاح ص ٤٢٣.

(٤) البيت من المتقارب وهو لسحيم عبد بنى الحسحاس فى ديوانه ص ٤٨ ، ومعجم ما استعجم ص ٢٦٣ (ذو بقر) ، وبلا نسبة فى لسان العرب (كتف) (حبا) ، وتاج العروس (كتف) ، (حبا).

٤٨٣

وقال [أبوهم] :

وألقى بصحراء الغبيط بعاعه

نزول اليمانى ذى العياب المحمّل (١)

قال : ومن ذلك قولهم فى أسماء الحاجة : الحاجة ، والحوجاء ، واللوجاء والإرب ، والإربة ، والمأربة ، واللّبانة ـ والتّلاوة بقيّة الحاجة ، والتليّة أيضا ـ والأشكلة ؛ والشهلاء ؛ قال [الشاعر] :

لم أقض حين ارتحلوا شهلائى

من الكعاب الطفلة الغيداء (٢)

وأنت تجد مع ذلك من اختلاف أصولها ومبانيها جميعها [راجعا] إلى موضع واحد ، ومخطوما بمعنى لا يختلف ، وهو الإقامة على الشىء والتشبّث به. وذلك أن صاحب الحاجة كلف بها ، ملازم للفكر فيها ، مقيم على تنجّزها واستحثاثها ؛ قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «حبّك الشىء يعمى ويصمّ» (٣). وقال المولّد :

صاحب الحاجة أعمى

لا يرى إلا قضاها

وتفسير ذلك أن الحاج شجر له شوك ، وما كانت هذه سبيله فهو متشبّث بالأشياء ، فأىّ شيء مرّ عليه اعتاقه وتشبّث به. فسمّيت الحاجة تشبيها بالشجرة ذات الشوك. أى أنا مقيم عليها ، متمسّك بقضائها ، كهذه الشجرة فى اجتذابها ما مرّ بها ، وقرب منها. والحوجاء منها ، وعنها تصرّف الفعل : احتاج يحتاج احتياجا ، وأحوج يحوج ؛ وحاج يحوج ، فهو حائج.

واللوجاء من قولهم : لجت الشىء ألوجه لوجا ، إذا أدرته فى فيك. والتقاؤهما أن الحاجة متردّدة على الفكر ، ذاهبة جائية إلى أن تقضى ؛ كما أن الشىء إذا تردّد

__________________

(١) البيت من الطويل ، وهو لامرئ القيس فى ديوانه ص ٢٥ ، وتهذيب اللغة ١ / ١١٩ ، وجمهرة اللغة ص ١٠٠١ ، ومقاييس اللغة ١ / ١٨٤ ، وتاج العروس (غبط) ، (بعع) ، ولسان العرب (بعع). صحراء الغبيط : موضع. البعاع : السحاب المثقل بالماء.

(٢) الرجز بلا نسبة فى تهذيب اللغة ٦ / ٨٤ ، وجمهرة اللغة ص ٨٨١ ، ١١٥٧ ، والاشتقاق ص ٤٤٣ ، ٥٢٤ ، والمخصص ١٢ / ٢٢٣ ، ولسان العرب (شهل) ، وتاج العروس (شهل).

(٣) «ضعيف» أخرجه أحمد والبخارى فى تاريخه وأبو داود عن أبى الدرداء ، وانظر ضعيف الجامع (٢٦٨٧).

٤٨٤

فى الفم فإنه لا يزال كذلك إلى أن يسيغه الإنسان أو يلفظه.

والإرب ، والإربة ، والمأربة كله من الأربة وهى العقدة ، وعقد مؤرّب ، إذا شدّد. وأنشد أبو العباس لكناز بن نفيع يقوله لجرير :

غضبت علينا أن علاك ابن غالب

فهلّا على جدّيك إذ ذاك تغضب!

هما حين يسعى المرء مسعاة جدّه

أناخا فشدّاك ؛ العقال المؤرّب! (١)

والحاجة معقودة بنفس الإنسان ، متردّدة على فكره.

واللّبانة من قولهم : تلبن بالمكان إذا أقام به ولزمه. وهذا هو المعنى عينه.

والتّلاوة والتليّة من تلوت الشىء إذا قفوته واتّبعته لتدركه. ومنه قوله :

الله بينى وبين قيّمها

يفرّ منّى بها وأتّبع (٢)

والأشكلة كذلك ؛ كأنها من الشكال (٣) ، أى طالب الحاجة مقيم عليها ، كأنها شكال له ، ومانعة من تصرّفه وانصرافه عنها. ومنه الأشكل من الألوان : الذى خالطت حمرته بياضه ، فكأن كل واحد من اللونين اعتاق صاحبه أن يصحّ ويصفو لونه.

والشهلاء كذلك ؛ لأنها من المشاهلة وهى مراجعة القول ؛ قال :

__________________

(١) البيتان من الطويل ، وهو لكناز بن نفيع فى تاج العروس (أرب) ، ولسان العرب (أرب) ، ولكناز بن ربيعة أو أخيه ربعى بن ربيعة فى لسان العرب (أهل). يريد بابن غالب : الفرزدق ، ويريد بالمرء : الفرزدق أو هو المرء غير مخصص. يقول : إذا سعى الفرزدق فى المكارم مسعاة جده قعد بك جداك عن سبل العلا فهما ينيخانك ويشدانك : يعقلانك عن السير ، ثم قال : العقال المؤرب : أى هذا هو العقال حقا. فقوله العقال خبر لمبتدإ محذوف كما ترى. ويرى المبرد أن العقال بدل من الضمير فى شداك بدل اشتمال. وانظر معجم الشعراء للمرزبانى ٣٥٣. (نجار).

(٢) أى الأحوص الأنصارى. وانظر الأغانى ٤ / ٤٩ طبعة بولاق ، وشعراء ابن قتيبة ٥٠٠. وقبل البيت :

كأن لبنى صبير غادية

أو دمية زينت بها البيع

والصبير : السحاب الأبيض. والغادية : السحابة تجيء وقت الغداة. (نجار).

(٣) الشكال : هو حبل يوثق به يد الدابة ورجلها.

٤٨٥

قد كان فيما بيننا مشاهله

ثم تولّت وهى تمشى البأدلة

البأدلة : أن تحرّك فى مشيها بآدلها ، وهى لحم صدرها. وهى مشية القصار من النساء.

فقد ترى إلى ترامى هذه الأصول والميل بمعانيها إلى موضع واحد.

ومن ذلك ما جاء عنهم فى الرجل الحافظ للمال ، الحسن الرعية له والقيام عليه.

يقال : هو خال مال ، وخائل مال ، وصدى مال ، وسرسور مال ، وسؤبان مال ، ومحجن مال (وإزاء مال) وبلو مال ، وحبل مال ، (وعسل مال) وزرّ مال. وجميع ذلك راجع إلى الحفظ لها ، والمعرفة بها.

فخال مال يحتمل أمرين : أحدهما أن يكون صفة على (فعل) كبطل وحسن ، أو (فعل) ككبش صاف ورجل مال. ويجوز أن يكون محذوفا من فاعل ؛ كقوله :

* لاث به الأشاء والعبرىّ (١) *

فأمّا خائل مال ففاعل لا محالة. وكلاهما من قوله : كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يتخوّلنا بالموعظة ، أى يتعهّدنا بها شيئا فشيئا ويراعينا. قال أبو على : هو من قولهم تساقطوا أخول أخول أى شيئا بعد شيء. وأنشدنا :

يساقط عنه روقه ضارياتها

سقاط حديد القين أخول أخولا (٢)

فكأنّ هذا الرجل يرعى ماله ، ويتعهّده ، حفظا له وشحّا عليه.

وأما صدى مال ، فإنه يعارضها من هاهنا وهاهنا ، ولا يهملها ولا يضيع أمرها ـ

__________________

(١) لاث : أصله لائث من لاث النبات : التف وكثر. الأشاء : صغار النخل. والعبرى : ما ينبت من شجر الضال على شطوط الأنهار.

(٢) البيت من الطويل ، وهو لضابئ بن الحارث فى الخصائص ٣ / ٢٩٠ ، والدرر ٤ / ٣٤ ، والشعر والشعراء ٢١ / ٣٥٩ ، ولسان العرب (سقط) ، (خول) ، والمحتسب ٢ / ٤١ ، ونوادر أبى زيد ص ١٤٥ ، وتاج العروس (خول) ، وبلا نسبة فى جمهرة اللغة ص ٦٢١ ، وشرح شذور الذهب ص ٩٨ ، والمحتسب ١ / ٨٦ ، وهمع الهوامع ١ / ٢٤٩. الروق : القرن. حديد القين : الشرار. ضارياتها : الضارى من الكلاب. هذا فى وصف الضوء يردع عنه الكلاب.

٤٨٦

ومنه الصدى لما يعارض الصوت. ومنه قراءة الحسن رضى الله عنه (صاد والقرآن) وكان يفسّره : عارض القرآن بعملك ، أى قابل كلّ واحد منهما بصاحبه ـ [قال العجلىّ :

* يأتى لها من أيمن وأشمل (١) *

] وكذلك سرسور مال ، أى عارف بأسرار المال ، فلا يخفى عنه شيء من أمره.

ولست أقول كما يقول الكوفيّون ـ وأبو بكر معهم ـ : إن سرسورا من لفظ السرّ ، لكنه قريب من لفظه ومعناه ، بمنزلة عين ثرّة وثرثارة. وقد تقدّم ذكر ذلك.

وكذلك سوبان مال ؛ هو (فعلان) من السّأب ، وهو الزقّ للشراب ؛ قال الشاعر:

إذا ذقت فاها قلت علق مدمّس

أريد به قيل فغودر فى ساب (٢)

والتقاؤهما أن الزقّ إنما وضع لحفظ ما فيه ، فكذلك هذا الراعى يحفظ المال ويحتاط عليه احتياط الزقّ على ما فيه.

وكذلك محجن مال ، هو (مفعل) من احتجنت الشىء إذا حفظته وادّخرته.

وكذلك إزاء مال ، هو (فعال) من أزى الشىء يأزى إذا تقبّض واجتمع ؛ قال :

* ظلّ لها يوم من الشّعرى أزى (٣) *

أى يغمّ الأنفاس ويضيّقها لشدة الحرّ. وكذلك هذا الراعى يشحّ عليها ويمنع

__________________

(١) زيادة فى ش ، ب خلت منها أ. وفى ج : «قال العجلى يصف الراعى : يأتى بها من أيمن وأشمل». والعجلى هو أبو النجم. وهذا فى أرجوزته الطويلة التى أولها :

* الحمد لله الوهوب المجزل*

(نجار).

(٢) البيت من الطويل ، وهو بلا نسبة فى لسان العرب (سأب) ، (دمس) ، (علق) ، ومقاييس اللغة ٤ / ١٢٨ ، ومجمل اللغة ٣ / ٤٠٥ ، وكتاب العين ٧ / ٢٣٤ ، والمخصص ١١ / ٨١ ، وتهذيب اللغة ١٢ / ٣٧٩ ، ١٣ / ١٠٤ ، وجمهرة اللغة ص ٦٤٨ ، وتاج العروس (سأب) ، (دمس).

(٣) قائله من باهلة. وعجزه :

* نعوذ منه بزرانيق الركى*

وزرانيق الركى : أبنية تبنى على جوانب الآبار ، وعلى البئر زرنوقان يعلق عليهما البكرة. وانظر اللسان (أزى) ، ومجالس ثعلب ٦١٤. (نجار).

٤٨٧

من تسرّبها. وأنشد أبو علىّ عن أبى بكر لعمارة :

هذا الزمان مولّ خيره آزى

صارت رءوس به أذناب أعجاز

وكذلك بلو مال ، أى هو بمعرفته به قد بلاه واختبره ؛ قال الله سبحانه : (وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَا أَخْبارَكُمْ) [محمد : ٣١] قال عمر بن لحأ :

فصادفت أعصل من أبلائها

يعجبه النزع على ظمائها (١)

وكذلك حبل مال ، كأنه يضبطها ؛ كما يضبطها الحبل يشدّ به. ومنه الحبل : الداهية من الرجال ؛ لأنه يضبط الأمور ويحيط بها.

وكذلك عسل مال ؛ لأنه يأتيها ويعسل إليها من كلّ مكان ، ومنه الذئب العسول ؛ ألا ترى أنه إنما سمى ذئبا لتذاؤبه وخبثه ، ومجيئه تارة من هنا ، ومرة من هنا.

وكذلك زرّ مال : أى يجمعه ويضبطه ؛ كما يضبط الزرّ [الشىء] المزرور.

فهذه الأصول وهذه الصّيغ على اختلاف الجميع مرتمية إلى موضع واحد على ما ترى.

ومن ذلك قولهم للدم : الجديّة ، والبصيرة. فالدم من الدمية لفظا ومعنى.

وذلك أن الدمية إنما هى للعين والبصر ، وإذا شوهدت فكأن ما هى صورته مشاهد بها ، وغير غائب مع حضورها ، فهى تصف حال ما بعد عنك. وهذا هو الغرض فى هذه الصّور المرسومة للمشاهدة. وتلك عندهم حال الدم ؛ ألا ترى أن الرميّة إذا غابت عن الرامى استدلّ عليها بدمها فاتبعه حتى يؤدّيه إليها. ويؤكّد ذلك لك قولهم فيه (البصيرة) وذلك أنها [إذا] أبصرت أدّت إلى المرمىّ الجريح. ولذلك أيضا قالوا له (الجديّة) لأنه يجدى على الطالب للرميّة ما يبغيه منها. ولو لم ير

__________________

(١) الرجز لعمر بن لجأ التيمى فى ديوانه ص ١٥١ ، ولسان العرب (بلا) ، وتاج العروس (بلى) ، وبلا نسبة فى المخصص ٧ / ٨٢. يتحدث عن إبل سقاها. والأعصل : اليابس البدن. والنزع : نزع الدلو من البئر.

٤٨٨

الدم لم يستدل عليها ، ولا عرف موضعها ؛ قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «كل ما أصميت ودع ما أنميت» (١).

وهذا مذهب فى هذه اللغة طريف ، غريب لطيف. وهو فقهها ، وجامع معانيها ، وضامّ نشرها. وقد هممت غير دفعة أن أنشئ فى ذلك كتابا أتقصّى فيه أكثرها ، والوقت يضيق دونه. ولعله لو خرج لما أقنعه ألف ورقة إلا على اختصار وإيماء. وكان أبو على رحمه‌الله يستحسن هذا الموضع جدّا ، وينبّه عليه ، ويسرّ بما يحضره خاطره منه. وهذا باب إنما يجمع بين بعضه وبعض من طريق المعانى مجرّدة من الألفاظ ، وليس كالاشتقاق الذى هو من لفظ واحد ، فكأن بعضه منبهة على بعض. وهذا إنما يعتنق فيه الفكر المعانى غير منبهتة عليها الألفاظ. فهو أشرف الصنعتين ، وأعلى المأخذين. فتفطّن له ، وتأنّ لجمعه ؛ فإنه يؤنقك ويفئ عليك ، ويبسط ما تجعّد من خاطرك ، ويريك من حكم البارى ـ عزّ اسمه ما تقف تحته ، وتسلّم لعظم الصنعة فيه ، وما أودعته أحضانه ونواحيه.

* * *

__________________

(١) أورده الهيثمى فى «المجمع» (٤ / ١٦٢) ، وقال : «رواه الطبرانى فى الأوسط ، وفيه عبادة بن زياد ـ بفتح العين ـ وثقه أبو حاتم وغيره وضعفه موسى بن هارون وغيره».

٤٨٩

باب فى الاشتقاق الأكبر

هذا موضع لم يسمّه أحد من أصحابنا ؛ غير أن أبا على ـ رحمه‌الله ـ كان يستعين به ، ويخلد إليه ، مع إعواز الاشتقاق الأصغر. لكنه مع هذا لم يسمّه ، وإنما كان يعتاده عند الضرورة ، ويستروح إليه ، ويتعلّل به. وإنما هذا التلقيب لنا نحن. وستراه فتعلم أنه لقب مستحسن. وذلك أن الاشتقاق عندى على ضربين : كبير وصغير.

فالصغير ما فى أيدى الناس وكتبهم ؛ كأن تأخذ أصلا من الأصول فتتقرّأه فتجمع بين معانيه ، وإن اختلفت صيغه ومبانيه. وذلك كتركيب (س ل م) فإنك تأخذ منه معنى السلامة فى تصرّفه ؛ نحو سلم ويسلم ، وسالم ، وسلمان ، وسلمى والسلامة ، والسليم : اللديغ ؛ أطلق عليه تفاؤلا بالسلامة. وعلى ذلك بقيّة الباب إذا تأوّلته ، وبقيّة الأصول غيره ؛ كتركيب (ض ر ب) و (ج ل س) و (ز ب ل) على ما فى أيدى الناس من ذلك. فهذا هو الاشتقاق الأصغر. وقد قدّم أبو بكر ـ رحمه‌الله ـ رسالته فيه بما أغنى عن إعادته ؛ لأن أبا بكر لم يأل فيه نصحا ، وإحكاما ، وصنعة وتأنيسا.

وأمّا الاشتقاق الأكبر فهو أن تأخذ أصلا من الأصول الثلاثية ، فتعقد عليه وعلى تقاليبه الستة معنى واحدا ، تجتمع التراكيب الستة وما يتصرف من كل واحد منها عليه ، وإن تباعد شيء من ذلك [عنه] ردّ بلطف الصنعة والتأويل إليه ؛ كما يفعل الاشتقاقيون ذلك فى التركيب الواحد. وقد كنا قدّمنا ذكر طرف من هذا الضرب من الاشتقاق فى أوّل هذا الكتاب عند ذكرنا أصل الكلام والقول وما يجيء من تقليب تراكيبهما ؛ نحو (ك ل م) (ك م ل) (م ك ل) (م ل ك) (ل ك م) (ل م ك) ، وكذلك (ق ول) (ق ل و) (وق ل) (ول ق) (ل ق و) (ل وق) ، وهذا أعوص مذهبا ، وأحزن مضطربا. وذلك أنا عقدنا تقاليب الكلام الستة على القوّة والشدّة ، وتقاليب القول الستّة على الإسراع والخفّة. وقد مضى ذلك فى صدر الكتاب.

٤٩٠

لكن بقى علينا (أن نحضر هنا) مما يتّصل به أحرفا ، تؤنّس بالأوّل ، وتشجّع منه المتأمّل.

فمن ذلك تقليب (ج ب ر) فهى ـ أين وقعت ـ للقوّة والشدّة. منها (جبرت العظم ، والفقير) إذا قوّيتهما وشددت منهما ، والجبر : الملك لقوّته وتقويته لغيره.

ومنها (رجل مجرّب) إذا جرّسته الأمور ونجّذته ، فقويت منّته ، واشتدّت شكيمته.

ومنه الجراب لأنه يحفظ ما فيه ، وإذا حفظ الشىء وروعى اشتدّ وقوى ، وإذا أغفل وأهمل تساقط ورذى (١). ومنها (الأبجر والبجرة) وهو القوىّ السرّة. ومنه قول علىّ صلوات الله عليه : إلى الله أشكو عجرى وبجرى ، تأويله : همومى وأحزانى ، وطريقه أن العجرة كلّ عقدة فى الجسد ؛ فإذا كانت فى البطن والسرّة فهى البجرة [والبجرة] تأويله أنّ السرّة غلظت ونتأت فاشتدّ مسّها وأمرها. وفسّر أيضا قوله : عجرى وبجرى ، أى ما أبدى وأخفى من أحوالى. و (منه البرج لقوته فى نفسه وقوة ما يليه) به ، وكذلك البرج لنقاء بياض العين وصفاء سوادها ، هو قوّة أمرها ، وأنه ليس بلون مستضعف ، ومنها رجّبت الرجل إذا عظّمته وقوّيت أمره. ومنه رجب لتعظيمهم إيّاه عن القتال فيه ، وإذا كرمت النخلة على أهلها فمالت دعموها بالرجبة ، وهى شيء تسند إليه لتقوى به. والراجبة : أحد فصوص الأصابع ، وهى مقوّية لها. ومنها الرباجىّ وهو الرجل يفخر بأكثر من فعله ؛ قال :

* وتلقاه رباجيّا فخورا (٢) *

تأويله أنه يعظّم نفسه ، ويقوّى أمره.

ومن ذلك تراكيب (ق س و) (ق وس) (وق س) (وس ق) (س وق) وأهمل (س ق و) وجميع ذلك إلى القوّة والاجتماع. منها (القسوة) وهى شدّة القلب واجتماعه ؛ ألا ترى إلى قوله :

يا ليت شعرى ـ والمنى لا تنفع ـ

هل أغدون يوما وأمرى مجمع (٣)

__________________

(١) رذى : أثقله المرض.

(٢) أورده فى الجمهرة ١ / ٢٠٩ غير معزوّ.

(٣) الرجز بلا نسبة فى إصلاح المنطق ص ٢٦٣ ، وأمالى المرتضى ١ / ٥٥٩ ، والدرر ٤ / ٢٠ ، وشرح شواهد المغنى ٢ / ٨١١ ، ولسان العرب (جمع) ، (رمى) ، ومغنى اللبيب ٢ / ٣٨٨ ، ونوادر أبى زيد ، وهمع الهوامع ، وتاج العروس (جمع) ، وتهذيب اللغة ١ / ٣٩٦.

٤٩١

أى قوىّ مجتمع ، ومنها (القوس) لشدّتها ، واجتماع طرفيها. ومنها (الوقس) لابتداء الجرب ، وذلك لأنه يجمع الجلد ويقحله ، ومنها (الوسق) للحمل ؛ وذلك لاجتماعه وشدّته ، ومنه استوسق الأمر أى اجتمع (وَاللَّيْلِ وَما وَسَقَ) [الانشقاق : ١٧] أى جمع ، ومنها (السّوق) ، وذلك لأنه استحثاث وجمع للمسوق بعضه إلى بعض ؛ وعليه قال :

* مستوسقات لو يجدن سائقا (١) *

فهذا كقولك : مجتمعات لو يجدن جامعا.

فإن شدّ شيء من شعب هذه الأصول عن عقده ظاهرا ردّ بالتأويل إليه ، وعطف بالملاطفة عليه. بل إذا كان هذا قد يعرض فى الأصل الواحد حتى يحتاج فيه إلى ما قلناه ، كان فيما انتشرت أصوله بالتقديم والتأخير أولى باحتماله ، وأجدر بالتأوّل له.

ومن ذلك تقليب (س م ل) (س ل م) (م س ل) (م ل س) (ل م س) (ل س م) والمعنى الجامع لها المشتمل عليها الإصحاب والملاينة. ومنها الثوب (السّمل) وهو الخلق. وذلك لأنه ليس عليه من الوبر والزئبر ما على الجديد. فاليد إذا مرّت عليه للّمس لم يستوقفها عنه جدّة المنسج ، ولا خشنة الملمس. والسمل : الماء القليل ؛ كأنه شيء قد أخلق وضعف عن قوّة المضطرب ، وجمّة المرتكض ؛ ولذلك قال :

حوضا كأنّ ماءه إذا عسل

من آخر الليل رويزيّ سمل (٢)

وقال آخر :

ورّاد أسمال المياه السدم

فى أخريات الغبش المغمّ (٣)

__________________

(١) الرجز للعجاج فى ملحق ديوانه ٢ / ٣٠٧ ، وتاج العروس (وسق) ، ولسان العرب (وسق) ، وبلا نسبة فى تهذيب اللغة ٩ / ٢٣٥ ، وديوان الأدب ٣ / ٢٨٣ ، ولسان العرب (وسق).

(٢) الرجز بلا نسبة فى لسان العرب (غضض) ، (عسل) ، وتاج العروس (غضض) ، وجمهرة اللغة ص ١٢٦٠ ، وكتاب العين ١ / ٣٣٣ ، والمخصص ٤ / ٩٣ ، ومقاييس اللغة ٤ / ٣١٤ ، وأساس البلاغة (عسل) ، وتاج العروس (عسل).

(٣) الرجز بلا نسبة فى لسان العرب (سدم) ، (غمم) ، وتاج العروس (سدم) ، (غمم). ـ السدم : المندفنة الغائرة. والغبش : الظلمة إذ يقبل الصباح. والمغم ذو الغيم أو الذى يضيق الأنفاس من شدة الحر.

٤٩٢

ومنها السلامة. وذلك أن السليم ليس فيه عيب تقف النفس عليه ولا يعترض عليها به. ومنها [المسل و] المسل والمسيل كلّه واحد ، وذلك أن الماء لا يجرى إلا فى مذهب له وإمام منقاد به ، ولو صادف حاجزا لاعتاقه فلم يجد متسرّبا معه.

ومنها الأملس والملساء. وذلك أنه لا اعتراض على الناظر فيه والمتصفّح له. ومنها اللمس. وذلك أنه إن عارض اليد شيء حائل بينها وبين الملموس لم يصحّ هناك لمس ؛ فإنما هو إهواء باليد نحوه ، ووصول منها إليه لا حاجز ولا مانع ، ولا بدّ مع اللمس من إمرار اليد وتحريكها على الملموس ، ولو كان هناك حائل لاستوقفت به عنه. ومنه الملامسة (أَوْ لامَسْتُمُ النِّساءَ) [المائدة : ٦] أى جامعتم ، وذلك أنه لا بدّ هناك من حركات واعتمال ، وهذا واضح. فأمّا (ل س م) فمهمل. وعلى أنهم قد قالوا : نسمت الريح إذا مرّت مرّا سهلا ضعيفا ، والنون أخت اللام ، وسترى نحو ذلك.

(ومرّ بنا أيضا ألسمت الرجل حجّته إذا لقّنته وألزمته إيّاها. قال :

لا تلسمنّ أبا عمران حجّته

ولا تكونن له عونا على عمرا (١)

فهذا من ذلك ، أى سهلتها وأوضحتها).

واعلم أنا لا ندعى أن هذا مستمرّ فى جميع اللغة ، كما لا ندعى للاشتقاق الأصغر أنه فى جميع اللغة. بل إذا كان ذلك (الذى هو) فى القسمة سدس هذا أو خمسة متعذّرا صعبا كان تطبيق هذا وإحاطته أصعب مذهبا وأعزّ ملتمسا. بل لو صحّ من هذا النحو وهذه الصنعة المادّة الواحدة تتقلّب على ضروب التقلب كان غريبا معجبا. فكيف به وهو يكاد يساوق الاشتقاق الأصغر ، ويجاريه إلى المدى الأبعد.

وقد رسمت لك منه رسما فاحتذه ، وتقيّله تحظ به ، وتكثر إعظام هذه اللغة الكريمة من أجله. نعم ، وتسترفده فى بعض الحاجة إليه ، فيعينك ويأخذ بيديك ؛ ألا ترى أن أبا على [رحمه‌الله] كان يقوّى كون لام (أثفيّة) فيمن جعلها (أفعولة)

__________________

(١) البيت من البسيط ، وهو بلا نسبة فى المخصص ١٢ / ٦٨.

٤٩٣

واوا بقولهم : جاء يثفه ، ويقول : [هذا] من الواو لا محالة كيعده. فيرجّح بذلك الواو على الياء التى ساوقتها فى يثفوه ويثفيه. أفلا تراه كيف استعان على لام ثفا بفاء وثف. وإنما ذلك لأنها مادّة واحدة شكّلت على صور مختلفة ، فكأنها لفظة واحدة. وقلت مرة للمتنبئ : أراك تستعمل فى شعرك ذا ، وتا ، وذى كثيرا ، ففكّر شيئا ثم قال : إن هذا الشعر لم يعمل كلّه فى وقت واحد. فقلت له : أجل لكن المادّة واحدة. فأمسك ألبتّة. والشىء يذكر لنظيره ؛ فإن المعانى وإن اختلفت معنيّاتها ، آوية إلى مضجع غير مقضّ ، وآخذ بعضها برقاب بعض.

* * *

٤٩٤

باب فى الادغام الأصغر

قد ثبت أن الادغام المألوف المعتاد إنما هو تقريب صوت من صوت. وهو فى الكلام على ضربين : أحدهما أن يلتقى المثلان على الأحكام التى يكون عنها الادغام ، فيدغم الأول فى الآخر.

والأوّل من الحرفين فى ذلك على ضربين : ساكن ومتحرك ؛ فالمدغم الساكن الأصل كطاء قطّع ، وكاف سكّر الأوليين ؛ والمتحرك نحو دال شدّ ، ولام معتلّ.

والآخر أن يلتقى المتقاربان على الأحكام التى يسوغ معها الادغام ، فتقلب أحدهما إلى لفظ صاحبه فتدغمه فيه. وذلك مثل (ودّ) فى اللغة التميمية ، وامّحى ، وامّاز ، واصّبر ، واثّاقل عنه. والمعنى الجامع لهذا كله تقريب الصوت من الصوت ؛ ألا ترى أنك فى قطّع ونحوه قد أخفيت الساكن الأوّل فى الثانى حتى نبا اللسان عنهما نبوة واحدة ، وزالت الوقفة التى كانت تكون فى الأوّل لو لم تدغمه فى الآخر ؛ ألا ترى أنك لو تكلّفت ترك ادّغام الطاء الأولى لتجشّمت لها وقفة عليها تمتاز من شدّة ممازجتها للثانية بها ؛ كقولك قططع وسككر ، وهذا إنما تحكمه المشافهة به. فإن أنت أزلت تلك الوقيفة والفترة على الأول خلطته بالثانى فكان قربه منه (وادّغامه) فيه أشدّ لجذبه إليه وإلحاقه بحكمه. فإن كان الأول من المثلين متحرّكا ثم أسكنته وادّغمته فى الثانى فهو أظهر أمرا ، وأوضح حكما ؛ ألا ترى أنك إنما أسكنته لتخلطه بالثانى وتجذبه إلى مضامّته ومماسّة لفظه بلفظه بزوال الحركة التى كانت حاجزة بينه وبينه. وأمّا إن كانا مختلفين ثم قلبت وادغمت ، فلا إشكال فى إيثار تقريب أحدهما من صاحبه ؛ لأن قلب المتقارب أوكد من تسكين النظير.

فهذا حديث الادغام الأكبر ؛ وأما الادغام الأصغر ، فهو تقريب الحرف من الحرف وإدناؤه منه من غير ادّغام يكون هناك. وهو ضروب.

فمن ذلك الإمالة ، وإنما وقعت فى الكلام لتقريب الصوت من الصوت. وذلك نحو عالم ، وكتاب ، وسعى ، وقضى ، واستقضى ؛ ألا تراك قرّبت فتحة العين من

٤٩٥

عالم إلى كسرة اللام منه ، بأن نحوت بالفتحة نحو الكسرة ، فأملت الألف نحو الياء. وكذلك سعى وقضى : نحوت بالألف نحو الياء التى انقلبت عنها. وعليه بقيّة الباب.

ومن ذلك أن تقع فاء افتعل صادا أو ضادا ، أو طاء أو ظاء ، فتقلب لها تاؤه طاء. وذلك نحو اصطبر ، واضطرب ، واطّرد ، واظطلم. فهذا تقريب من غير ادّغام ، فأمّا اطّرد فمن ذا الباب أيضا ، ولكن ادّغامه ورد هاهنا التقاطا لا قصدا.

وذلك أن فاءه طاء ، فلمّا أبدلت تاؤه طاء صادفت الفاء طاء فوجب الادغام ؛ لما اتفق حينئذ ؛ ولو لم يكن هناك طاء لم يكن ادّغام ؛ ألا ترى أن اصطبر واضطرب واظطلم لمّا كان الأول منه غير طاء لم يقع ادّغام ؛ قال :

* ... ويظلم أحيانا فيظطلم (١) *

وأما فيظلم [وفيطّلم] بالظاء والطاء جميعا فادّغام عن قصد لا عن توارد.

فقد عرفت بذلك فرق ما بين اطّرد ، وبين اصّبر ، واظّلم ، واطّلم.

ومن ذلك أن تقع فاء (افتعل) زايا أو دالا أو ذالا ، فتقلب تاؤه لها دالا ؛ كقولهم : ازدان ، وادّعى (وادّكر ، واذدكر) فيما حكاه أبو عمرو.

فأما ادّعى فحديثه حديث اطّرد لا غير فى أنه لم تقلب قصدا للادغام ، لكن قلبت تاء ادّعى دالا ؛ كقلبها فى ازدان ، ثم وافقت فاؤه الدال المبدلة من التاء ، فلم يكن من الادغام بدّ.

وأما اذدكر (فمنزلة بين) ازدان وادّعى. وذلك أنه لما قلب التاء دالا [لوقوع الذال] قبلها صار إلى اذدكر ، فقد كان هذا وجها يقال مثله ، مع أن أبا عمرو قد أثبته وذكره ؛ غير أنه أجريت الذال لقربها من الدال بالجهر مجرى الدال ، فأوثر الادغام لتضام الحرفين فى الجهر فأدغم. فهذه منزلة بين منزلتى ازدان وادّعى.

__________________

(١) بعض بيت من البسيط ، وهو لزهير بن أبى سلمى فى ديوانه ص ١٥٢ ، وسر صناعة الإعراب ١ / ٢١٩ ، وسمط اللآلى ص ٤٦٧ ، وشرح أبيات سيبويه ٢ / ٤٠٣ ، وشرح التصريح ٢ / ٣٩١ ، وشرح شواهد الشافية ص ٤٩٣ ، وشرح المفصل ١٠ / ٤٧ ، ١٤٩ ، والكتاب ٤ / ٤٦٨ ، ولسان العرب (ظلم) ، والمقاصد النحوية ٤ / ٥٨٢ ، وبلا نسبة فى أوضح المسالك ٤ / ٣٩٩ ، وشرح الأشمونى ٣ / ٨٧٣ ، وشرح شافية ابن الحاجب ٣ / ١٨٩ ، ولسان العرب (ظنن).

٤٩٦

وأما اذّكر فكاسّمع ، واصّبر.

ومن ذلك أن تقع السين قبل الحرف المستعلى فتقرب منه بقلبها صادا على ما هو مبين فى موضعه من باب الادغام. وذلك كقولهم فى سقت : صقت ، وفى السوق : الصوق ، وفى سبقت : صبقت ، وفى سملق (١) وسويق : صملق وصويق ، وفى سالغ (٢) وساخط : صالغ وصاخط ، وفى سقر : صقر ، وفى مساليخ : مصاليخ. ومن ذلك قولهم ستّ أصلها سدس ، فقرّبوا السين من الدال بأن قلبوها تاء ، فصارت سدت فهذا تقريب لغير ادّغام ، ثم إنهم فيما بعد أبدلوا الدال تاء لقربها منها ؛ إرادة للإدغام الآن ، فقالوا ستّ. فالتغيير الأوّل للتقريب من غير إدغام ، والتغيير الثانى مقصود به الإدغام.

ومن ذلك تقريب الصوت من الصوت مع حروف الحلق ؛ نحو شعير ، وبعير ، ورغيف. وسمعت الشجرىّ غير مرّة يقول : زئير الأسد ، يريد الزئير. وحكى أبو زيد عنهم : الجنّة لمن خاف وعيد الله. فأمّا مغيرة فليس إتباعه لأجل حرف الحلق ؛ إنما هو من باب منتن ، ومن قولهم أنا أجوؤك وأنبؤك. والقرفصاء ، والسلطان ، وهو منحدر من الجبل ، وحكى سيبويه أيضا منتن ؛ ففيه إذا ثلاث لغات : منتن ، وهو الأصل ، ثم يليه منتن ، وأقلها منتن. فأمّا قول من قال : إنّ منتن من قولهم أنتن ، ومنتن من قولهم نتن الشىء فإن ذلك لكنة منه.

ومن ذلك أيضا قولهم (فعل يفعل) مما عينه أو لامه حرف حلقىّ ، نحو سأل يسأل ، وقرأ يقرأ ، وسعر يسعر ، وقرع يقرع ، وسحل يسحل ، وسبح يسبح. وذلك أنهم ضارعوا بفتحة العين فى المضارع جنس حرف الحلق لمّا كان موضعا منه مخرج الألف التى منها الفتحة.

ومن التقريب قوله الحمد لله ، والحمد لله.

ومنه تقريب الحرف من الحرف ؛ نحو قولهم فى نحو مصدر : مزدر ، وفى التصدير : التزدير. وعليه قول العرب فى المثل (لم يحرم من فزد له) أصله فصد له ، ثم أسكنت العين ، على قولهم فى ضرب : ضرب ، وقوله :

__________________

(١) السملق : هو الأرض المستوية أو القفر لا نبات فيه.

(٢) سلغت الشاة : أى طلع نابها.

٤٩٧

* ونفخوا فى مدائنهم فطاروا (١) *

فصار تقديره : فصد له ، فلمّا سكنت الصاد فضعفت به وجاورت الصاد ـ وهى مهموسة ـ الدال ـ وهى مجهورة ـ قرّبت منها بأن أشمّت شيئا من لفظ الزاى المقاربة للدال بالجهر.

ونحو من ذلك قولهم : مررت بمذعوز وابن بور : فهذا نحو من قيل وغيض لفظا ، وإن اختلفا طريقا.

ومن ذلك إضعاف الحركة لتقرب بذلك من السكون ؛ نحو حيى ، وأحيا ، وأعيا ، فهو ـ وإن كان مخفى ـ (بوزنه محركا) ، وشاهد ذاك قبول وزن الشعر له قبوله للمتحرّك ألبتة. وذلك قوله :

* أان زم أجمال وفارق جيرة (٢) *

فهذا بزنته محقّقا فى قولك : أأن زمّ أجمال. فأمّا روم الحركة فهى وإن كانت من هذه فإنما هى كالإهابة بالساكن نحو الحركة ، وهو لذلك ضرب من المضارعة.

وأخفى منها الإشمام ؛ لأنه للعين لا للأذن. وقد دعاهم إيثار قرب الصوت إلى أن أخلّوا بالإعراب ، فقال بعضهم :

* وقال اضرب الساقين إمّك هابل (٣) *

وهذا نحو [من] الحمد لله ، والحمد لله.

وجميع ما هذه حاله مما قرّب فيه الصوت من الصوت جار مجرى الإدغام بما ذكرناه من التقريب. وإنما احتطنا له بهذه السّمة التى هى الإدغام الصغير ؛ لأن فى هذا إيذانا بأن التقريب شامل للموضعين ، وأنه هو المراد المبغىّ فى كلتا الجهتين ، فاعرف ذلك.

__________________

(١) عجز بيت من الوافر ، وهو للقطامى فى ديوانه ص ١٤٣ ، ولسان العرب (نفخ) ، والمنصف ١ / ٢٤ ، وبلا نسبة فى الإنصاف ١ / ١٢٥.

(٢) صدر بيت من الطويل ، وهو لكثير عزة فى ديوانه ص ١٧٠ ، وشرح المفصل ٩ / ١٣٣ ، ولسان العرب (روم) ، والمنصف ٢ / ١٩٢.

(٣) الشاهد فيه كسر الميم فى إمك إتباعا لكسر الهمزة. والإمّ لغة فى الأمّ وهذا إخلال بإعراب المبتدأ.

٤٩٨

باب فى تصاقب الألفاظ لتصاقب المعانى

هذا غور من العربية لا ينتصف منه ولا يكاد يحاط به. وأكثر كلام العرب عليه ، وإن كان غفلا مسهوّا عنه. وهو على أضرب :

منها اقتراب الأصلين الثلاثيين ؛ كضيّاط وضيطار ، ولوقة وألوقة ، ورخو ورخودّ ، وينجوج وألنجوج. وقد مضى ذكر ذلك.

ومنها اقتراب الأصلين ، ثلاثيّا أحدهما ، ورباعيّا صاحبه ، أو رباعيّا أحدهما ، وخماسيّا صاحبه ؛ كدمث ودمثر ، وسبط وسبطر ، ولؤلؤ ولآل ، والضبغطى والضبغطرى. ومنه قوله :

* قد دردبت والشيخ دردبيس (١) *

وقد مضى هذا [أيضا].

ومنها التقديم والتأخير على ما قلنا فى الباب الذى قبل هذا فى تقليب الأصول ؛ نحو (ك ل م) و (ك م ل) و (م ك ل) ونحو ذلك. وهذا كلّه والحروف واحدة غير متجاورة. لكن من وراء هذا ضرب غيره ، وهو أن تتقارب الحروف لتقارب المعانى. وهذا باب واسع.

من ذلك قول الله سبحانه : (أَلَمْ تَرَ أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّياطِينَ عَلَى الْكافِرِينَ تَؤُزُّهُمْ أَزًّا) [مريم : ٨٣] أى تزعجهم وتقلقهم. فهذا فى معنى تهزّهم هزّا ، والهمزة أخت الهاء ؛ فتقارب اللفظان لتقارب المعنيين. وكأنهم خصّوا هذا المعنى بالهمزة لأنها أقوى من الهاء ، وهذا المعنى أعظم فى النفوس من الهزّ ؛ لأنك قد تهزّ ما لا بال له ؛ كالجذع وساق الشجرة ، ونحو ذلك.

(ومنه العسف والأسف ؛ والعين أخت الهمزة كما أن الأسف يعسف النفس وينال منها ، والهمزة أقوى من العين ؛ كما أن أسف النفس أغلظ من [التردّد] بالعسف. فقد ترى تصاقب اللفظين لتصاقب المعنيين).

__________________

(١) سبق تخريجه.

٤٩٩

ومنه القرمة وهى الفقرة تحزّ على أنف البعير. وقريب منه قلّمت أظفارى ؛ لأن هذا انتقاص للظفر ، وذلك انتقاص للجلد. فالراء أخت اللام ؛ والعملان متقاربان. وعليه قالوا فيه : الجرفة ، وهى من (ج ر ف) وهى أخت جلفت القلم ، إذا أخذت جلفته ، وهذا من (ج ل ف) ؛ وقريب منه الجنف وهو الميل ، وإذا جلفت الشىء أو جرفته فقد أملته عمّا كان عليه ، وهذا من (ج ن ف).

ومثله تركيب (ع ل م) فى العلامة والعلم. وقالوا مع ذلك : بيضة عرماء ، وقطيع أعرم ، إذا كان فيهما سواد وبياض ، وإذا وقع ذلك بان أحد اللونين من صاحبه ، فكان كل واحد منهما علما لصاحبه. وهو من (ع ر م) قال أبو وجزة السعدىّ :

ما زلن ينسبن وهنا كلّ صادقة

باتت تباشر عرما غير أزواج

حتى سلكن الشوى منهن فى مسك

من نسل جوّابة الآفاق مهداج (١)

ومن ذلك تركيب (ح م س) و (ح ب س) قالوا : حبست الشىء وحمس الشرّ إذا اشتدّ. والتقاؤهما أن الشيئين إذا حبس أحدهما صاحبه تمانعا وتعازّا ، فكان ذلك كالمشرّ يقع بينهما.

ومنه العلب : الأثر ، والعلم : الشقّ فى الشفة العليا. فذاك من (ع ل ب) وهذا من (ع ل م) والباء أخت الميم ؛ قال طرفة :

كأنّ علوب النسع فى دأياتها

موارد من خلقاء فى ظهر قردد (٢)

__________________

(١) البيتان من البسيط ، وهما لأبى وجزة السعدى فى لسان العرب (هدج) ، (لقح) ، (مسك) ، والتنبيه والإيضاح ١ / ٢٢٥ ، ٤ / ٥٦ ، ٦ / ٤٠ ، وتاج العروس (هدج) ، (لقح) ، وبلا نسبة فى المخصص ٤ / ٤٦. الشوى من الدابة اليدان والرجلان. والمسك ما يكون فى رجل الدابة كالخلخال. وجوابة الآفاق المهداج : الريح الحنون. أراد أن الأتن أدخلن قوائمهن فى الماء فصار الماء لأرجلهن وأيديهن كالمسك ، ووصف أن هذا الماء ماء مطر ساقته الريح انظر اللسان (هدج) و (مسك).

(٢) البيت من الطويل ، وهو لطرفة بن العبد فى ديوانه ص ٢٦ ، ولسان العرب (علب) ، (ورد) ، ـ (دأى) ، وتهذيب اللغة ١٤ / ٢٣٣ ، وتاج العروس (علب) ، (ورد) ، (دأى) ، وبلا نسبة فى المخصص ١٢ / ٤١. النسع : سير تشد به الرحال. والدأيات : أضلاع الكتف. والخلقاء : الصخرة الملساء. والقردد : ما ارتفع من الأرض.

٥٠٠