الخصائص - ج ١

أبي الفتح عثمان بن جنّي

الخصائص - ج ١

المؤلف:

أبي الفتح عثمان بن جنّي


المحقق: الدكتور عبد الحميد الهنداوي
الموضوع : اللغة والبلاغة
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ٣
ISBN: 978-2-7451-3245-1
الصفحات: ٥٤٤

فشاذّ. وكذلك قراءة بعضهم (ما وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَما قَلى) [الضحى : ٣] فأما قولهم :

ودع الشىء يدع ـ إذا سكن ـ فاتّدع ؛ فمسموع متّبع ؛ وعليه أنشد بيت الفرزدق :

وعضّ زمان يا ابن مروان لم يدع

من المال إلا مسحت أو مجلّف (١)

فمعنى «لم يدع» ـ بكسر الدال ـ أى لم يتدع ولم يثبت ، والجملة بعد «زمان» فى موضع جر لكونها صفة له ، والعائد منها إليه محذوف للعلم بموضعه ، وتقديره : لم يدع فيه أو لأجله من المال إلا مسحت أو مجلّف ؛ فيرتفع «مسحت» بفعله و «مجلف» عصف عليه ، وهذا أمر ظاهر ليس فيه من الاعتذار والاعتلال ما فى الرواية الأخرى. ويحكى عن معاوية أنه قال : خير المجالس ما سافر فيه البصر ، واتّدع فيه البدن. ومن ذلك استعمالك «أن» بعد كاد نحو : كاد زيد أن يقوم ؛ هو قليل شاذّ فى الاستعمال ، وإن لم يكن قبيحا ولا مأبيّا فى القياس.

ومن ذلك قول العرب : أقائم أخواك أم قاعدان؟ هذا كلامها. قال أبو عثمان : والقياس يوجب أن تقول : أقائم أخواك أم قاعد هما؟ إلا أن العرب لا تقوله إلا قاعدان ؛ فتصل الضمير ، والقياس يوجب فصله ليعادل الجملة الأولى.

* * *

__________________

ولأبى الأسود أو لأنس فى لسان العرب (ودع) ، وبلا نسبة فى شرح شافية ابن الحاجب ١ / ١٣١ ، وشرح شواهد الشافية ص ٥٠.

(١) انظر الخزانة ص ٣٤٩ ج ٢ ، والرواية التى أوردها ابن جنى هنا رواها أبو عبيدة ، ورواها ابن الأنبارى فى شرح المفضليات فى قصيدة سويد بن أبى كاهل اليشكرى. انظر الشرح ٣٩٦. (نجار).

١٤١

باب فى تقاود (١) السماع وتقارع الانتزاع

هذا الموضع كأنه أصل الخلاف الشاجر بين النحويين. وسنفرد له بابا. غير أنّا نقدم هاهنا ما كان لائقا به ، ومقدّمة للقول من بعده. وذلك على أضرب :

فمنها أن يكثر الشىء فيسأل عن علّته ؛ كرفع الفاعل ، ونصب المفعول ، فيذهب قوم إلى شيء ، ويذهب آخرون إلى غيره. فقد وجب إذا تأمّل القولين واعتماد أقواهما ، ورفض صاحبه. فإن تساويا فى القوّة لم ينكر اعتقادهما جميعا ؛ فقد يكون الحكم الواحد معلولا بعلّتين. وسنفرد لذلك بابا. وعلى هذا معظم قوانين العربية. وأمره واضح ، فلا حاجة بنا إلى الإطالة فيه.

ومنها أن يسمع الشىء ، فيستدلّ به من وجه على تصحيح شيء أو إفساد غيره ، ويستدلّ به من وجه آخر على شيء غير الأوّل. وذلك كقولك : ضربتك ، وأكرمته ، ونحو ذلك مما يتصل فيه الضمير المنصوب بالضمير قبله المرفوع. فهذا موضع يمكن أن يستدلّ به على شدّة اتصال الفعل بفاعله.

ووجه الدلالة منه على ذلك أنهم قد أجمعوا على أن الكاف فى نحو ضربتك من الضمير المتصل ، كما أن الكاف فى نحو ضربك زيد كذلك ، ونحن نرى الكاف فى ضربتك لم تباشر نفس الفعل ، كما باشرته فى نحو ضربك زيد ، وإنما باشرت الفاعل الذى هو التاء ، فلو لا أن الفاعل قد مزج بالفعل ، وصيغ معه ، حتى صار جزءا من جملته ، لما كانت الكاف من الضمير المتصل ، ولاعتدّت لذلك منفصلة لا متصلة. لكنهم أجروا التاء التى هى ضمير الفاعل فى نحو ضربتك ـ وإن لم تكن من نفس حروف الفعل ـ مجرى نون التوكيد التى يبنى الفعل عليها ، ويضمّ إليها ، فى نحو لأضربنّك. فكما أنّ الكاف فى نحو هذا معتدّة من الضمير المتصل وإن لم تل نفس الفعل ، كذلك الكاف فى نحو ضربتك ضمير متصل وإن

__________________

(١) تقاود السماع : اطراده فى شيء ، وعدم اختلافه فيه ؛ كرفع الفاعل : اتفق السماع فيه. وتقارع الانتزاع : تخالفه وتغايره ، من قولهم : تقارع القوم : تضاربوا بالسيوف. والانتزاع : الاستنباط. (نجار).

١٤٢

لم تل نفس الفعل.

فهذا وجه الاستدلال بهذه المسألة ونحوها على شدّة اتصال الفعل بفاعله ، وتصحيح القول بذلك.

وأمّا وجه إفساده شيئا آخر فمن قبل أنّ فيه ردّا على من قال : إن المفعول إنما نصبه الفاعل (١) وحده ، لا الفعل وحده ، ولا الفعل والفاعل جميعا.

وطريق الاستدلال بذلك أنا قد علمنا أنهم إنما يعنون بقولهم : الضمير المتصل : أنه متصل بالعامل فيه لا محالة ؛ ألا تراهم يقولون : إن الهاء فى نحو مررت به ، ونزلت عليه ، ضمير متصل ، أى متصل بما عمل فيه وهو الجارّ ؛ وليس لك أن تقول : إنه متصل بالفعل ؛ لأن الباء كأنها جزء من الفعل ؛ من حيث كانت معاقبة لأحد أجزائه المصوغة فيه ، وهى همزة أفعل ؛ وذلك نحو أنزلته ونزلت به ، وأدخلته ودخلت به ، وأخرجته وخرجت به ؛ لأمرين :

أحدهما أنك إن اعتددت الباء لما ذكرت كأنها بعض الفعل ، فإنّ هنا دليلا آخر يدل على أنها كبعض الاسم ؛ ألا ترى أنك تحكم عليها وعلى ما جرّته بأنهما جميعا فى موضع نصب بالفعل ، حتى إنك لتجيز (٢) العطف عليهما جميعا بالنصب ؛ نحو قولك : مررت بك وزيدا ، ونزلت عليه وجعفرا ؛ فإذا كان هنا أمران أحدهما على حكم والآخر على ضدّه ، وتعارضا هذا التعارض ، ترافعا أحكامهما ، وثبت أن الكاف فى نحو مررت بك متصلة بنفس الباء ؛ لأنها هى العاملة فيها. وكذلك الهاء فى نحو إنه أخوك ، وكأنه صاحبك ، وكأنه جعفر : هى ضمير متصل ، أى متصل بالعامل فيه ، وهذا واضح.

__________________

(١) الذى قال : إن المفعول نصبه الفاعل وحده هو هشام بن معاوية الضرير أبو عبد الله النحوى الكوفىّ أحد أعيان أصحاب الكسائى ، توفى سنة تسع ومائتين وانظر البغية ٢ / ٣٢٨ ، وذهب الكوفيون إلى أن العامل فى المفعول النصب الفعل والفاعل جميعا ، وذهب البصريون إلى أن الفعل وحده عمل فى الفاعل والمفعول جميعا. وانظر الإنصاف ١ / ٧٨.

(٢) هذا رأى ابن جنى ، والنحاة لا يجيزون ذلك ، فإن من شروط العطف على المحل عندهم ظهور الإعراب المحلى فى الفصيح ، نحو ، ليس زيد بقائم ولا قاعدا ، وانظر حاشية الدسوقى على المغنى ٢ / ١١٩ فى أقسام العطف.

١٤٣

والآخر إطباق النحويين على أن يقولوا فى نحو هذا : إن الضمير قد خرج عن الفعل ، وانفصل من الفعل ؛ وهذا تصريح منهم بأنه متصل أى متصل بالباء العاملة فيه ، فلو كانت التاء فى ضربتك هى العاملة فى الكاف ، لفسد ذلك ؛ من قبل أن أصل عمل النصب إنما هو للفعل ، وغيره من النواصب مشبه فى ذلك بالفعل ، والضمير بالإجماع أبعد شيء عن الفعل ؛ من حيث كان الفعل موغلا فى التنكير ، والاسم المضمر متناه فى التعريف. بل إذا لم يعمل الضمير فى الظرف ولا فى الحال ـ وهما مما تعمل فيه المعانى ـ كان الضمير من نصب المفعول به أبعد ، وفى التقصير عن الوصول إليه أقعد. وأيضا فإنك تقول : زيد ضرب عمرا ، والفاعل مضمر فى نفسك ، لا موجود فى لفظك ، فإذا لم يعمل المضمر ملفوظا به ، كان ألا يعمل غير ملفوظ به أحرى وأجدر.

وأمّا الاستدلال بنحو ضربتك على شيء غير الموضعين المتقدّمين ، فأن يقول قائل : إنّ الكاف فى نحو ضربتك منصوبة بالفعل والفاعل جميعا ، ويقول : إنه متصل بهما كاتصاله بالعامل فيه فى نحو إنك قائم ونظيره. وهذا أيضا وإن كان قد ذهب إليه هشام فإنه عندنا فاسد من أوجه :

أحدها أنه قد صحّ ووضح أن الفعل والفاعل قد تنزّلا باثنى عشر دليلا منزلة الجزء الواحد ، فالعمل إذا إنما هو للفعل وحده ، واتصل به الفاعل فصار جزءا منه ؛ كما صارت النون فى نحو لتضربنّ زيدا كالجزء منه ، حتى خلط بها ، وبنى معها.

ومنها أن الفعل والفاعل إنما هو معنى ، والمعانى لا تعمل فى المفعول به ، إنما تعمل فى الظروف.

ومن ذلك أن تستدلّ بقول ضيغم (١) الأسدىّ :

إذا هو لم يخفنى فى ابن عمى

 ـ وإن لم ألقه ـ الرجل الظلوم (٢)

على جواز ارتفاع الاسم بعد إذا الزمانية بالابتداء ؛ ألا ترى أن «هو» من قوله

__________________

(١) فى اللسان (ضغم) «وضيغم : من شعرائهم : قال ابن جنّى : هو ضيغم الأسدىّ».

(٢) البيت من الوافر ، وهو لضيغم الأسدى فى لسان العرب (ظلم). وتاج العروس (ظلم).

١٤٤

«إذا هو لم يخفنى» ضمير الشأن والحديث ؛ وأنه مرفوع لا محالة. فلا يخلو رفعه من أن يكون بالابتداء كما قلنا ، أو بفعل مضمر. فيفسد أن يكون مرفوعا بفعل مضمر ؛ لأن ذلك المضمر لا دليل عليه ، ولا تفسير له ؛ وما كانت هذه سبيله لم يجز إضماره.

فإن قلت : فلم لا يكون قوله «لم يخفنى فى ابن عمى الرجل الظلوم» تفسيرا للفعل الرافع لـ «هو»؟ كقولك : إذا زيد لم يلقنى غلامه فعلت كذا ، فترفع زيدا بفعل مضمر يكون ما بعده تفسيرا له.

قيل : هذا فاسد من موضعين : أحدهما أنا لم نر هذا الضمير على شريطة التفسير عاملا فيه فعل محتاج إلى تفسير. فإذا أدّى هذا القول إلى ما لا نظير له ، وجب رفضه واطّراح الذهاب إليه. والآخر أن قولك «لم يخفنى الرجل الظلوم» إنما هو تفسير لـ «هو» ، من حيث كان ضمير الشأن والقصّة لا بدّ له أن تفسره الجملة ؛ نحو قول الله عزوجل : (قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ) [الإخلاص : ١] فقولنا (الله أحد) تفسير لـ «هو». وكذلك قوله تعالى : (فَإِنَّها لا تَعْمَى الْأَبْصارُ) [الحج : ٤٦] فقولك : (لا تعمى الأبصار) تفسير لـ «ها» ، من قولك : فإنها ، من حيث كانت ضمير القصّة. فكذلك قوله : «لم يخفنى الرجل الظلوم» إنما هذه الجملة تفسير لـ «هو».

فإذا ثبت أن هذه الجملة إنما هى تفسير لنفس الاسم المضمر بقى ذلك الفعل المضمر لا دليل عليه ؛ وإذا لم يقم عليه دليل بطل إضماره ؛ لما فى ذلك من تكليف علم الغيب. وليس كذلك (إذا زيد قام أكرمتك) ونحوه ؛ من قبل أن زيدا تامّ ، غير محتاج إلى تفسير. فإذا لم يكن محتاجا إليه صارت الجملة بعده تفسيرا للفعل الرافع له ، لا له نفسه.

فإذا ثبت بما أوردناه ما أردناه ، علمت وتحقّقت أن «هو» من قوله «إذا هو لم يخفنى الرجل الظلوم» مرفوع بالابتداء لا بفعل مضمر.

وفى هذا البيت تقوية لمذهب أبى الحسن فى إجازته الرفع بعد إذا الزمانية بالابتداء فى نحو قوله تعالى (إِذَا السَّماءُ انْشَقَّتْ) [الانشقاق : ١] و (إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ) [التكوير : ١].

١٤٥

ومعنا ما يشهد لقوله هذا : شيء غير هذا ، غير أنه ليس ذلك غرضنا هنا ، إنما الغرض إعلامنا أن فى البيت دلالة على صحّة مذهب أبى الحسن هذا. فهذا وجه صحيح يمكن أن يستنبط من بيت ضيغم الذى أنشدناه.

وفيه دليل آخر على جواز خلوّ الجملة الجارية خبرا عن المبتدأ من ضمير يعود إليه منها ؛ ألا ترى أن قوله «لم يخفنى الرجل الظلوم» ليس فيه عائد على هو ، وكيف يكون الأمر إلا هكذا ؛ ألا تعلم أن هذا المضمر على شريطة التفسير لا يوصف ولا يؤكّد ولا يعطف عليه ولا يبدل منه ولا يعود عائد ذكر عليه ؛ وذلك لضعفه ؛ من حيث كان مفتقرا إلى تفسيره. وعلى هذا ونحوه عامّة ما يرد عليك من هذا الضرب ؛ ألا ترى أن قول الله عزوجل (اللهُ أَحَدٌ) لا ضمير فيه يعود على (هو) من قبله.

واعلم أن اللفظ قد يرد شيء منه فيجوز جوازا صحيحا أن يستدلّ به على أمر ما ، وأن يستدلّ به على ضدّه البتّة. وذلك نحو سررت بزيد ، ورغبت فى عمرو ، وعجبت من محمد ، وغير ذلك من الأفعال الواصلة بحروف الجرّ.

فأحد ما يدلّ عليه هذا الضرب من القول أنّ الجارّ معتدّ من جملة الفعل الواصل به ؛ ألا ترى أن الباء فى نحو مررت بزيد معاقبة لهمزة النقل فى نحو أمررت زيدا ، وكذلك قولك أخرجته وخرجت به ، وأنزلته ونزلت به. فكما أن همزة أفعل مصوغة فيه ، كائنة من جملته ، فكذلك ما عاقبها من حروف الجرّ ينبغى أن يعتدّ أيضا من جملة الفعل ؛ لمعاقبته ما هو من جملته. فهذا وجه.

والآخر أن يدلّ ذلك على أن حرف الجرّ جار مجرى بعض ما جرّه ؛ ألا ترى أنك تحكم لموضع الجارّ والمجرور بالنصب فيعطف عليه فينصب لذلك ، فتقول : مررت بزيد وعمرا ، وكذلك أيضا لا يفصل بين الجارّ والمجرور ؛ لكونهما فى كثير من المواضع بمنزلة الجزء الواحد. أفلا تراك كيف تقدّر اللفظ الواحد تقديرين مختلفين ، وكل واحد منهما مقبول فى القياس ، متلقى بالبشر والإيناس.

ومن ذلك قول الآخر :

١٤٦

زمان علىّ غراب غداف

فطيّره الشيب عنّى فطارا (١)

فهذا موضع يمكن أن يذهب ذاهب فيه إلى سقوط حكم ما تعلّق به الظرف من الفعل ، ويمكن أيضا أن يستدلّ به على ثباته وبقاء حكمه. وذلك أن الظرف الذى هو (علىّ) متعلق بمحذوف ، وتقديره غداة ثبت علىّ أو استقر علىّ غراب ، ثم حذف الفعل وأقيم الظرف مقامه. وقوله فطيّره ـ كما ترى ـ معطوف. فأما من أثبت به حكم الفعل المحذوف فله أن يقول : إن طيّره معطوف على ثبت أو استقرّ ، وجواز العطف عليه أدلّ دليل على اعتداده وبقاء حكمه ، وأن العقد عليه ، والمعاملة فى هذا ونحوه إنما هى معه ؛ ألا ترى أن العطف نظير التثنية ، ومحال أن يثنّى الشىء فيصير مع صاحبه شيئين إلا وحالهما فى الثبات والاعتداد واحدة.

فهذا وجه جواز الاستدلال به على بقاء حكم ما تعلّق به الظرف ، وأنه ليس أصلا متروكا ، ولا شرعا منسوخا.

وأمّا جواز اعتقاد سقوط حكم ما تعلّق به الظرف من هذا البيت فلأنه قد عطف قوله «فطّيره» على قوله «علىّ» وإذا جاز عطف الفعل على الظرف قوى حكم الظرف فى قيامه مقام الفعل المتعلّق هو به ، وإسقاطه حكمه وتولّيه من العمل ما كان الفعل يتولاه ، وتناوله به ما كان هو متناولا له.

فهذان وجهان من الاستدلال بالشىء الواحد على الحكمين الضدّين ، وإن كان وجه الدلالة به على قوّة حكم الظرف وضعف حكم الفعل فى هذا وما يجرى مجراه هو الصواب عندنا ، وعليه اعتمادنا وعقدنا. وليس هذا موضع الانتصار لما نعتقده فيه ، وإنما الغرض منه أن نرى وجه ابتداء تفرّع القول ، وكيف يأخذ بصاحبه ، ومن أين يقتاد الناظر فيه إلى أنحائه ومصارفه.

ونظير هذا البيت فى حديث الظرف والفعل من طريق العطف قول الله عزّ اسمه (يَوْمَ تُبْلَى السَّرائِرُ. فَما لَهُ مِنْ قُوَّةٍ وَلا ناصِرٍ) [الطارق : ٩ ، ١٠] أفلا تراه كيف

__________________

(١) البيت من المتقارب ، وهو للكميت فى لسان العرب (غرب). الغداف : الشعر الأسود الطويل. اللسان (غدف).

١٤٧

عطف الظرف الذى هو «له من قوّة» على قوله «تبلى» وهو فعل ، فالآية نظيرة البيت فى العطف وإن اختلفا فى تقدّم الظرف تارة ، وتأخّره أخرى.

وهذا أمر فيه انتشار وامتداد ، وإنما أفرض منه وممّا يجرى مجراه ما يستدلّ به ويجعل عيارا على غيره. والأمر أوسع شقّة ، وأظهر كلفة ومشقّة ؛ ولكن إن طبنت (١) له ، ورفقت به ، أولاك جانبه ، وأمطاك كاهله وغاربه ؛ وإن خبطته (٢) وتورّطته كدّك مهله ، وأوعرت بك سبله ، فرفقا وتأمّلا.

* * *

__________________

(١) طبنت له : أى فطنت له ، الطّبن ، بالتحريك : الفطنة. اللسان (طبن).

(٢) خبطه يخبطه خبطا : ضربه ضربا شديدا. اللسان (خبط).

١٤٨

باب فى مقاييس العربية

وهى ضربان : أحدهما معنوىّ والآخر لفظىّ. وهذان الضربان وإن عمّا وفشوا فى هذه اللغة ، فإن أقواهما وأوسعهما هو القياس المعنوىّ ؛ ألا ترى أن الأسباب المانعة من الصرف تسعة : واحد منها لفظىّ وهو شبه الفعل لفظا ، نحو أحمد ، ويرمع (١) وتنضب ، وإثمد ، وأبلم ، وبقّم (٢) ، وإستبرق ، والثمانية الباقية كلها معنويّة ؛ كالتعريف ، والوصف ، والعدل ، والتأنيث ، وغير ذلك. فهذا دليل.

ومثله اعتبارك باب الفاعل والمفعول به ، بأن تقول : رفعت هذا لأنه فاعل ، ونصبت هذا لأنه مفعول. فهذا اعتبار معنوىّ لا لفظىّ. ولأجله ما كانت العوامل اللفظية راجعة فى الحقيقة إلى أنها معنوية ؛ ألا تراك إذا قلت : ضرب سعيد جعفرا ، فإنّ (ضرب) لم تعمل فى الحقيقة شيئا ؛ وهل تحصل من قولك ضرب إلا على اللفظ بالضاد والراء والباء على صورة فعل ، فهذا هو الصوت ، والصوت مما لا يجوز أن يكون منسوبا إليه الفعل.

وإنما قال النحويّون : عامل لفظىّ ، وعامل معنوىّ ؛ ليروك أن بعض العمل يأتى مسبّبا عن لفظ يصحبه ؛ كمررت بزيد ، وليت عمرا قائم ، وبعضه يأتى عاريا من مصاحبة لفظ يتعلق به ؛ كرفع المبتدإ بالابتداء ، ورفع الفعل لوقوعه موقع الاسم ؛ هذا ظاهر الأمر ، وعليه صفحة القول. فأما فى الحقيقة ومحصول الحديث ، فالعمل من الرفع والنصب والجرّ والجزم إنما هو للمتكلّم نفسه ، لا لشيء غيره.

وإنما قالوا : لفظىّ ومعنوىّ لمّا ظهرت آثار فعل المتكلم بمضامّة اللفظ للفظ ، أو باشتمال المعنى على اللفظ. وهذا واضح.

واعلم أن القياس اللفظىّ إذا تأمّلته لم تجده عاريا من اشتمال المعنى عليه ؛ ألا ترى أنك إذا سئلت عن «إن» من قوله :

__________________

(١) اليرمع : حجارة رخوة.

(٢) تنضب ، وأبلم ، وبقّم : من الأشجار.

١٤٩

ورجّ الفتى للخير ما إن رأيته

على السّنّ خيرا لا يزال يزيد (١)

فإنك قائل : دخلت على «ما» ـ وإن كانت «ما» هاهنا مصدريّة ـ ؛ لشبهها لفظا بما النافية التى تؤكّد بإن من قوله :

ما إن يكاد يخلّيهم لوجهتهم

تخالج الأمر إن الأمر مشترك (٢)

وشبه اللفظ بينهما يصيّر «ما» المصدرية إلى أنها كأنها «ما» التى معناها النفى ؛ أفلا ترى أنك لو لم تجذب إحداهما إلى أنها كأنها بمعنى الأخرى لم يجز لك إلحاق «إن» بها.

فالمعنى إذا أشيع وأسير حكما من اللفظ ؛ لأنك فى اللفظىّ متصوّر لحال المعنوىّ ، ولست فى المعنوىّ بمحتاج إلى تصوّر حكم اللفظىّ. فاعرف ذلك.

واعلم أن العرب تؤثر من التجانس والتشابه وحمل الفرع على الأصل ، ما إذا تأمّلته عرفت منه قوّة عنايتها بهذا الشأن ، وأنه منها على أقوى بال ؛ ألا ترى أنهم لمّا أعربوا بالحروف فى التثنية والجمع الذى على حدّه ، فأعطوا الرفع فى التثنية الألف ، والرفع فى الجمع الواو ، والجرّ فيهما الياء ، وبقى النصب لا حرف له فيماز به ، جذبوه إلى الجرّ فحملوه عليه دون الرفع ؛ لتلك الأسباب المعروفة هناك ، فلا حاجة بنا هنا إلى الإطالة بذكرها ، ففعلوا ذلك ضرورة ، ثم لمّا صاروا إلى جمع التأنيث حملوا النصب أيضا على الجرّ ، فقالوا ضربت الهندات (كما قالوا مررت بالهندات) ولا ضرورة هنا ؛ لأنهم قد كانوا قادرين على أن يفتحوا التاء فيقولوا : رأيت الهندات ، فلم يفعلوا ذلك مع إمكانه وزوال الضرورة التى عارضت فى المذكر عنه ، فدلّ دخولهم تحت هذا ـ مع أن الحال لا تضطرّ إليه ـ

__________________

(١) البيت من الطويل ، وهو للمعلوط القريعى فى شرح التصريح ١ / ١٨٩ ، وشرح شواهد المغنى ص ٨٥ ، ٧١٦ ، ولسان العرب (أنن) ، والمقاصد النحويّة ٢ / ٢٢ ، وبلا نسبة فى الأزهية ص ٥٢ ، ٩٦ والأشباه والنظائر ٢ / ١٨٧ ، وأوضح المسالك ١ / ٢٤٦ ، والجنى الدانى ص ٢١١ ، وجواهر الأدب ص ٢٠٨ ، وخزانة الأدب ٨ / ٤٤٣ ، والدرر ٢ / ١١٠ ، وسر صناعة الإعراب ١ / ٣٧٨ ، وشرح المفصل ٨ / ١٣٠ ، والكتاب ٤ / ٢٢٢ ، ومغنى اللبيب ١ / ٢٥ ، والمقرب ١ / ٩٧ ، وهمع الهوامع ١ / ١٢٥.

(٢) البيت من البسيط ، وهو لزهير بنى أبى سلمى فى ديوانه ص ١٦٥ ، ولسان العرب (أنن) ، والمقتضب ٢ / ٣٦٣ ، وتاج العروس (أنن).

١٥٠

على إيثارهم واستحبابهم حمل الفرع على الأصل ، وإن عرى من ضرورة الأصل. وهذا جلىّ كما ترى.

ومن ذلك حملهم حروف المضارعة بعضها على حكم بعض ، فى نحو حذفهم الهمزة فى نكرم ، وتكرم ، ويكرم ؛ لحذفهم إيّاها فى أكرم ؛ لما كان يكون هناك من الاستثقال ؛ لاجتماع الهمزتين فى نحو أؤكرم ، وإن عريت بقيّة حروف المضارعة ـ لو لم تحذف ـ من اجتماع همزتين ؛ وحذفهم أيضا الفاء من نحو وعد ، وورد ، فى يعد ، ويرد ؛ لما كان يلزم ـ لو لم تحذف ـ من وقوع الواو بين ياء وكسرة ، ثم حملوا على ذلك ما لو لم يحذفوه لم يقع بين ياء وكسرة ؛ نحو أعد ، وتعد ، ونعد ؛ لا للاستثقال ، بل لتتساوى أحوال حروف المضارعة فى حذف الفاء معها.

فإذا جاز أن يحمل حروف المضارعة بعضها على بعض ـ ومراتبها متساوية ، وليس بعضها أصلا لبعض ـ كان حمل المؤنّث على المذكّر لأن المذكّر أسبق رتبة من المؤنّث ، أولى وأجدر.

ومن ذلك مراعاتهم فى الجمع حال الواحد ؛ لأنه أسبق من الجمع ؛ ألا تراهم لمّا أعلّت الواو فى الواحد ، أعلّوها أيضا فى الجمع ، فى نحو قيمة وقيم ، وديمة وديم ، ولمّا صحّت فى الواحد صحّحوها فى الجمع ، فقالوا : زوج وزوجة ، وثور وثورة.

فأمّا ثيرة ففى إعلال واوه ثلاثة أقوال :

أما صاحب الكتاب فحمله على الشذوذ ، وأما أبو العباس فذكر أنهم أعلّوه ليفصلوا بذلك بين الثور من الحيوان وبين الثور ، وهو القطعة من الأقط ؛ لأنهم لا يقولون فيه إلا ثورة بالتصحيح لا غير. وأمّا أبو بكر فذهب فى إعلال ثيرة إلى أن ذلك لأنها منقوصة من ثيارة ، فتركوا الإعلال فى العين أمارة لما نووه من الألف ؛ كما جعلوا تصحيح نحو اجتوروا ، واعتونوا ، دليلا على أنه فى معنى ما لا بدّ من صحته ، وهو تجاوروا وتعاونوا. وقد قالوا أيضا : ثيرة ؛ قال :

* صدر النهار يراعى ثيرة رتعا (١) *

__________________

(١) عجز البيت من البسيط ، وهو للأعشى فى ديوانه ص ١٥٥ ، وكتاب الجيم ١ / ١٠٩ ، وتاج

١٥١

وهذا لا نكير له فى وجوبه لسكون عينه

نعم وقد دعاهم إيثارهم لتشبيه الأشياء بعضها ببعض أن حملوا الأصل على الفرع ؛ ألا تراهم يعلّون المصدر لإعلال فعله ، ويصحّحونه لصحّته. وذلك نحو قولك : قمت قياما ، وقاومت قواما. فإذا حملوا الأصل الذى هو المصدر على الفرع الذى هو الفعل ، فهل بقى فى وضوح الدلالة على إيثارهم تشبيه الأشياء المتقاربة بعضها ببعض شبهة!

وعلى ذلك أيضا عوّضوا فى المصدر ما حذفوه فى الفعل ؛ فقالوا : أكرم يكرم ، فلمّا حذفوا الهمزة فى المضارع أثبتوها فى المصدر ، فقالوا : الإكرام ؛ فدلّ هذا على أن هذه المثل كلّها جارية مجرى المثال الواحد ؛ ألا تراهم لمّا حذفوا ياء فرازين (١) ، عوّضوا منها الهاء فى نفس المثال فقالوا فرازنة. وكذلك لمّا حذفوا فاء عدة ، عوّضوا منها نفسها التاء وكذلك أينق (٢) فى أحد قولى سيبويه فيها : لمّا حذفوا عينها عوّضوا منها الياء فى نفس المثال.

فدلّ هذا وغيره ممّا يطول تعداده على أن المثال والمصدر واسم الفاعل كلّ واحد منها يجرى عندهم ، وفى محصول اعتدادهم مجرى الصورة الواحدة ؛ حتى إنه إذا لزم فى بعضها شيء لعلّة ما أوجبوه فى الآخر ، وإن عرى فى الظاهر من تلك العلّة ، فأمّا فى الحقيقة فكأنها فيه نفسه ؛ ألا ترى أنه إذا صحّ أنّ جميع هذه الأشياء على اختلاف أحوالها تجرى عندهم مجرى المثال الواحد ، فإذا وجب فى شيء منها حكم فإنه لذلك كأنه أمر لا يخصّه من بقيّة الباب ، بل هو جار فى

__________________

 ـ العروس (رتع) ، وبلا نسبة فى جمهرة اللغة ص ٤٢٤ ، والمخصص ٨ / ٣٦ ، والمنصف ١ / ٣٤٩. ويروى تراعى بدلا من : يراعى. وصدر البيت :

* فظل يأكل منها وهى راتعة*

(١) فرزان : من لعب الشّطرنج ، أعجمىّ معرّب ، وجمعه فرازين. اللسان (فرزن).

(٢) أينق : الياء فى أينق عوض من الواو أونق فيمن جعلها أيفلا ؛ ومن جعلها أعفلا فقدم العين مغيّرة إلى الياء جعلها بدلا من الواو ، فالبدل أعم تصرفا من العوض ، إذ كل عوض بدل وليس كل بدل عوضا. وذهب سيبويه فى قولهم أينق مذهبين : أحدهما أن تكون عين أينق قلبت إلى قبل الفاء فصارت فى التقدير أونق ثم أبدلت الواو ياء لأنها كما أعلت بالقلب كذلك أعلت أيضا بالإبدال ، والآخر أن تكون العين حذفت ثم عوّضت الياء منها قبل الفاء. اللسان (نوق).

١٥٢

الجميع مجرى واحدا ؛ لما قدّمنا ذكره من الحال آنفا.

واعلم أنّ من قوّة القياس عندهم اعتقاد النحويّين أن ما قيس على كلام العرب فهو عندهم من كلام العرب ؛ نحو قولك فى قوله : كيف تبنى من ضرب مثل جعفر : ضربب هذا من كلام العرب ، ولو بنيت مثله ضيرب ، أو ضورب ، أو ضروب ، أو نحو ذلك ، لم يعتقد من كلام العرب ؛ لأنه قياس على الأقلّ استعمالا والأضعف قياسا. وسنفرد لهذا الفصل بابا ؛ فإن فيه نظرا صالحا.

* * *

١٥٣

باب فى جواز القياس على ما يقل

 ورفضه فيما هو أكثر منه

هذا باب ظاهره ـ إلى أن تعرف صورته ـ ظاهر التناقض ؛ إلا أنه مع تأمّله صحيح. وذلك أن يقل الشىء وهو قياس ، ويكون غيره أكثر منه ، إلا أنه ليس بقياس.

الأوّل قولهم فى النسب إلى شنوءة : شنئىّ ؛ فلك ـ من بعد ـ أن تقول فى الإضافة إلى قتوبة : قتبىّ ، وإلى ركوبة : ركبيّ ، وإلى حلوبة : حلبىّ ؛ قياسا على شنئىّ. وذلك أنهم أجروا فعولة مجرى فعيلة ؛ لمشابهتها إيّاها من عدّة أوجه : أحدها أن كل واحدة من فعولة وفعيلة ثلاثىّ ؛ ثم إن ثالث كل واحدة منهما حرف لين يجرى مجرى صاحبه ؛ ألا ترى إلى اجتماع الواو والياء ردفين وامتناع ذلك فى الألف ، وإلى جواز حركة كل واحدة من الياء والواو مع امتناع ذلك فى الألف ، إلى غير ذلك. ومنها أن فى كل واحدة من فعولة وفعيلة تاء التأنيث. ومنها اصطحاب فعول وفعيل على الموضع الواحد ؛ نحو أثيم وأثوم ، ورحيم ورحوم ، ومشىّ ومشوّ (١) ، ونهىّ عن الشىء ونهوّ.

فلمّا استمرّت حال فعيلة وفعولة هذا الاستمرار ، جرت واو شنوءة مجرى ياء حنيفة ؛ فكما قالوا : حنفىّ قياسا قالوا : شنئىّ أيضا قياسا.

قال أبو الحسن : فإن قلت : إنما جاء هذا فى حرف واحد ـ يعنى شنوءة ـ قال : فإنه جميع ما جاء. وما ألطف هذا القول من أبى الحسن! وتفسيره أن الذى جاء فى فعولة هو هذا الحرف ، والقياس قابله ، ولم يأت فيه شيء ينقضه. فإذا قاس الإنسان على جميع ما جاء ، وكان أيضا صحيحا فى القياس مقبولا ، فلا غرو ولا ملام.

وأمّا ما هو أكثر من باب شنئىّ ، ولا يجوز القياس عليه ؛ لأنه لم يكن هو على

__________________

(١) المشىّ والمشوّ : الدواء المسهل.

١٥٤

قياس ، فقولهم فى ثقيف : ثقفىّ ، وفى قريش : قرشىّ ، وفى سليم : سلمىّ. فهذا وإن كان أكثر من شنئىّ فإنه عند سيبويه ضعيف فى القياس. فلا يجيز على هذا فى سعيد سعدىّ ، ولا فى كريم كرمىّ.

فقد برد فى اليد من هذا الموضع قانون يحمل عليه ، ويردّ غيره إليه. وإنما أذكر من هذا ونحوه رسوما لتقتدى ، وأفرض منه آثارا لتقتفى ، ولو التزمت الاستكثار منه لطال الكتاب به ، وأملّ قارئه.

واعلم أن من قال فى حلوبة : حلبىّ قياسا على قولك فى حنيفة : حنفىّ ، فإنه لا يجيز فى النسب إلى حرورة حررىّ ، ولا فى صرورة (١) صررىّ ، ولا فى قوولة قولىّ. وذلك أن فعولة فى هذا محمولة الحكم على فعيلة ، وأنت لا تقول فى الإضافة إلى فعيلة إذا كانت مضعّفة أو معتلّة العين إلا بالتصحيح ؛ نحو قولهم فى شديد : شديدى ، وفى طويلة : طويلى ؛ استثقالا لقولك : شددىّ ، وطولىّ. فإذا كانت فعولة محمولة على فعيلة ، وفعيلة لا تقول فيها مع التضعيف واعتلال العين إلا بالإتمام ، فما كان محمولا عليها أولى بأن يصحّ ولا يعلّ. ومن قال فى شنوءة : شنئى فأعلّ ، فإنه لا يقول فى نحو جرادة وسعادة إلا بالإتمام : جرادىّ وسعادىّ.

وذلك لبعد الألف عن الياء [و] لما فيها من الخفّة. ولو جاز أن يقول فى نحو جرادة : جردى ، لم يجز ذلك فى نحو حمامة وعجاجة : حممىّ ولا عججىّ ؛ استكراها للتضعيف ، إلا أن يأنس بإظهار تضعيف فعل ، ولا فى نحو سيابة وحوالة : سيبىّ ولا حولىّ ؛ استكراها لحركة المعتلّ فى هذا الموضع. وعلّة ذلك ثابتة فى التصريف ، فغنينا عن ذكرها الآن.

* * *

__________________

(١) الصرورة : الذى لا يأتى النساء.

١٥٥

باب فى تعارض السماع والقياس

إذا تعارضا نطقت بالمسموع على ما جاء عليه ، ولم تقسه فى غيره ؛ وذلك نحو قول الله تعالى : (اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطانُ) [المجادلة : ١٩] فهذا ليس بقياس ؛ لكنه لا بدّ من قبوله ؛ لأنك إنما تنطق بلغتهم ، وتحتذى فى جميع ذلك أمثلتهم. ثم إنك من بعد لا تقيس عليه غيره ؛ ألا تراك لا تقول فى استقام : استقوم ، ولا فى استباع : استبيع.

فأمّا قولهم «استنوق الجمل» و «استتيست الشاة» و «استفيل الجمل» فكأنه أسهل من استحوذ ؛ وذلك أن استحوذ قد تقدّمه الثلاثى معتلا ؛ نحو قوله :

يحوذهنّ وله حوذىّ

كما يحوذ الفئة الكمىّ (١)

 ـ يروى بالذال والزاى : يحوذهن ويحوزهن ـ فلما كان استحوذ خارجا عن معتلّ : أعنى حاذ يحوذ ، وجب إعلاله ؛ إلحاقا فى الإعلال به. وكذلك باب أقام ، وأطال ، واستعاذ ، واستزاد ، مما يسكن ما قبل عينه فى الأصل ؛ ألا ترى أن أصل أقام أقوم ، وأصل استعاذ استعوذ ، فلو أخلينا وهذا اللفظ لاقتضت الصورة تصحيح العين لسكون ما قبلها ؛ غير أنه لمّا كان منقولا ومخرجا من معتلّ ـ هو قام ، وعاذ ـ أجرى أيضا فى الإعلال عليه. وليس كذلك «استنوق الجمل» و «استتيست الشاة» لأن هذا ليس منه فعل معتلّ ؛ ألا تراك لا تقول : ناق ولا تاس ؛ إنما الناقة والتيس اسمان لجوهر ، لم يصرّف منهما فعل معتلّ. فكان خروجهما على الصّحة أمثل منه فى باب استقام واستعاذ. وكذلك استفيل.

__________________

(١) الرجز للعجاج فى ديوانه ص ١ / ٥٢٤ ، ولسان العرب (حوز) ، ومقاييس اللغة ٢ / ١١٥ ، ١١٨ ، ومجمل اللغة ٢ / ١١٧ ، وتهذيب اللغة ٥ / ١١٧ ، ٢٠٧ ، وجمهرة اللغة ص ٥٣٠ ، وبلا نسبة فى لسان العرب (حوذ) ، وتاج العروس (حوذ) ، (حوز) ، وكتاب العين ٤ / ٢٧٥ ، والمخصص ٧ / ١٠٣ ، وجمهرة اللغة ص ١٠٤٨. الحوذ والحوز : السوق السريع ، والحوذى والحوزىّ : السائق الخفيف والبيت يصف ثورا وكلابا ، وكان أبو عبيدة يروى رجز العجاج حوذىّ ، بالذال ، والمعنى واحد ، يعنى به الثور أنه يطرد الكلاب وله طارد من نفسه يطرده من نشاطه وحدّه.

١٥٦

ومع هذا أيضا فإن استنوق ، واستتيس شاذّ ؛ ألا تراك لو تكلّفت أن تأتى باستفعل من الطود ، لما قلت : استطود ، ولا من الحوت استحوت ، ولا من الخوط استخوط ؛ ولكان القياس أن تقول : استطاد ، واستحات ، واستخاط.

والعلّة فى وجوب إعلاله وإعلال استنوق ، واستفيل ، واستتيست أنا قد أحطنا علما بأن الفعل إنّما يشتقّ من الحدث لا من الجوهر ؛ ألا ترى إلى قوله (وأمّا الفعل فأمثلة أخذت من لفظ أحداث الأسماء) فإذا كان كذلك وجب أن يكون استنوق مشتقّا من المصدر. وكان قياس مصدره أن يكون معتلا ، فيقال : استناقة ، كاستعانة ، واستشارة. وذلك أنه وإن لم يكن تحته ثلاثىّ معتلّ كقام وباع فيلزم إجراؤه فى الإعلال عليه ، فإن باب الفعل إذا كانت عينه أحد الحرفين أن يجيء معتلا ، إلا ما يستثنى من ذلك ؛ نحو طاول ، وبايع ، وحول ، وعور ، واجتوروا ، واعتونوا ؛ لتلك العلل المذكورة هناك. وليس باب أفعل ولا استفعل منه. فلمّا كان الباب فى الفعل ما ذكرناه من وجوب إعلاله ، وجب أيضا أن يجيء استنوق ونحوه بالإعلال ؛ لاطّراد ذلك فى الفعل ؛ كما أن الاسم إذا كان على فاعل كالكاهل والغارب ، إلا أن عينه حرف علّة لم يأت عنهم إلا مهموزا ، وإن لم يجر على فعل ؛ ألا تراهم همزوا الحائش (١) ، وهو اسم لا صفة ، ولا هو جار على فعل ، فأعلّوا عينه ، وهى فى الأصل واو من الحوش.

فإن قلت : فلعلّه جار على حاش ، جريان قائم على قام ؛ قيل : لم نرهم أجروه صفة ، ولا أعملوه عمل الفعل ؛ وإنما الحائش : البستان بمنزلة الصّور (٢) ، وبمنزلة الحديقة فإن قلت : فإن فيه معنى الفعل ؛ لأنه يحوش ما فيه من النخل وغيره ، وهذا يؤكّد كونه فى الأصل صفة ، وإن كان قد استعمل استعمال الأسماء ؛ كصاحب ووالد ؛ قيل : ما فيه من معنى الفعلية لا يوجب كونه صفة ؛ ألا ترى إلى

__________________

(١) الحائش : جماعة النخل والطّرفاء : ضرب من الشجر. وهو فى النخل أشهر ، لا واحد له من لفظه ، وفى الحديث : أنه دخل حائش نخل فقضى فيه حاجته ؛ هو النخل الملتف المجتمع ، كأنه لالتفافه يحوش بعضه إلى بعض ، وأصله الواو كذا قال الجوهرى ، وذكره ابن الأثير فى حيش. وانظر اللسان (حوش).

(٢) الصور : جماعة النخل.

١٥٧

قولهم : الكاهل والغارب (١) ، وهما وإن كان فيهما معنى الاكتهال والغروب فإنهما اسمان.

ولا يستنكر أن يكون فى الأسماء غير الجارية على الأفعال معانى الأفعال. من ذلك قولهم : مفتاح ، ومنسج ، ومسعط ، ومنديل ، ودار ، ونحو ذلك ؛ تجد فى كل واحد منها معنى الفعل ، وإن لم تكن جارية عليه. فمفتاح من الفتح ، ومنسج من النسج ، ومسعط من الإسعاط ، ومنديل من الندل ، وهو التناول ؛ قال الشاعر :

على حين ألهى الناس جلّ أمورهم

فندلا زريق المال ندل الثعالب (٢)

وكذلك دار : من دار يدور لكثرة حركة الناس فيها ؛ وكذلك كثير من هذه المشتقّات تجد فيها معانى الأفعال وإن لم تكن جارية عليها. فكذلك الحائش جاء مهموزا وإن لم يكن اسم فاعل ، لا لشيء غير مجيئه على ما يلزم اعتلال عينه ؛ نحو قائم ، وبائع ، وصائم. فاعرف ذلك. وهو رأى أبى علىّ رحمه‌الله ، وعنه أخذته لفظا ومراجعة وبحثا.

ومثله سواء الحائط : هو اسم بمنزلة الركن والسقف ، وإن كان فيه معنى الحوط. ومثله أيضا العائر للرمد ، هو اسم مصدر بمنزلة الفالج ، والباطل ، والباغز ، وليس اسم فاعل ولا جاريا على معتلّ ؛ وهو كما تراه معتلّ.

__________________

(١) الكاهل : مقدّم أعلى الظهر مما يلى العنق ، والغارب من البعير ما بين السنام والعنق.

(٢) البيت من الطويل ، وهو لأعشى همدان فى الحماسة البصرية ٢ / ٢٦٢ ، ٢٦٣ ، ولشاعر من همدان فى شرح أبيات سيبويه ١ / ٣٧١ ، ٣٧٢ ، ولأعشى همدان أو للأحوص أو لجرير فى المقاصد النحوية ٣ / ٤٦ ، وهما فى ملحق ديوان الأحوص ص ٢١٥ ، وملحق ديوان جرير ص ١٠٢١ ، وبلا نسبة فى الإنصاف ص ٢٩٣ ، وأوضح المسالك ٢ / ٢١٨ ، وجمهرة اللغة ص ٦٨٢ ، وسر صناعة الإعراب ص ٥٠٧ ، وشرح الأشمونى ١ / ٢٠٤ ، وشرح التصريح ١ / ٣٣١ ، وشرح ابن عقيل ص ٢٨٩ ، والكتاب ١ / ١١٥ ، ولسان العرب (خشف) ، (ندل). الندل : النقل والاختلاس ، يقول : اندلى يا زريق ، وهى قبيلة. ندل الثعالب ، يريد السرعة ؛ والعرب تقول : أكسب من ثعلب ؛ قال ابن برى : وقيل فى هذا الشاعر إنه يصف قوما لصوصا يأتون فيسرقون ويملئون حقائبهم ثم يعودون ، وقيل : يصف تجارا ، وقوله : على حين ألهى الناس جل أمورهم : يريد حين اشتغل الناس بالفتن والحروب. اللسان (ندل) وقبله :

يمرون بالدّهنا خفافا عيابهم

ويخرجن من دارين بجر الحقائب

١٥٨

فإن قلت : فما تقول فى استعان وقد أعلّ ، وليس تحته ثلاثىّ معتلّ ، ألا تراك لا تقول : عان يعون كقام يقوم؟ قيل : هو وإن لم ينطق بثلاثيّه فإنه فى حكم المنطوق به ، وعليه جاء أعان يعين.

وقد شاع الإعلال فى هذا الأصل ؛ ألا تراهم قالوا : المعونة ـ فأعلّوها كالمثوبة ، والمعوضة (١) ـ والإعانة ، والاستعانة. فأمّا المعاونة فكالمعاودة : صحّت لوقوع الألف قبلها.

فلمّا اطّرد الإعلال فى جميع ذلك دلّ أن ثلاثيّه وإن لم يكن مستعملا فإنه فى حكم ذلك. وليس هذا بأبعد من اعتقاد موضع (أن) لنصب الأفعال فى تلك الأجوبة ، وهى الأمر والنهى وبقيّة ذلك ، وإن لم تستعمل قطّ. فإذا جاز اعتقاد ذلك ، وطرد المسائل عليه لدلالة الحال على ثبوته فى النفس ، كان إعلال نحو أعان ، واستعان ، ومعين ، ومستعين ، والإعانة والاستعانة ـ لاعتقاد كون الثلاثيّ من ذلك فى حكم الملفوظ به ـ أحرى وأولى.

وأيضا فقد نطقوا من ثلاثيّه بالعون ، وهو مصدر ، وإذا ثبت أمر المصدر الذى هو الأصل لم يتخالج شكّ فى الفعل الذى هو الفرع ؛ قال لى أبو علىّ بالشام : إذا صحّت الصفة فالفعل فى الكفّ. وإذا كان هذا حكم الصفة كان فى المصدر أجدر ؛ لأن المصدر أشدّ ملابسة للفعل من الصفة ؛ ألا ترى أن فى الصفة [ما ليس بمشتق] نحو قولك : مررت بإبل مائة ، ومررت برجل أبى عشرة أبوه ، ومررت بقاع عرفج (٢) كلّه ، ومررت بصحيفة طين خاتمها ، ومررت بحيّة ذراع طولها ، وليس هذا مما يشاب به المصدر ، إنما هو ذلك الحدث الصافى ؛ كالضرب ، والقتل ، والأكل ، والشرب.

فإن قلت : ألا تعلم أن فى الناقة معنى الفعل. وذلك أنها فعلة من التنوّق فى الشىء وتحسينه ، قال ذو الرمّة :

 ... تنوّقت

به حضرميّات الأكفّ الحوائك (٣)

__________________

(١) المعوضة : العوض.

(٢) العرفج : نبات طيب الرائحة ، واحده عرفجة.

(٣) البيت من الطويل ، وهو لذى الرمّة فى تتمة ديوانه ص ١٧١٤ ، ولسان العرب (نوق) ، وتاج

١٥٩

والتقاؤهما أن الناقة عندهم مما يتحسّن به ويزدان بملكه ؛ وبالإبل يتباهون ، وعليها يحملون ويتحمّلون ؛ ولذلك قالوا لمذكّرها : الجمل ؛ لأنه فعل من الجمال ، كما أن الناقة فعلة من التنوّق. وعلى هذا قالوا : قد كثر عليه المشاء ، والفشاء ، والوشاء ، إذا تناسل عليه المال. فالوشاء فعال من الوشى ، كأنّ المال عندهم زينة وجمال لهم ، كما يلبس من الوشى للتحسّن به. وعلى ذلك قالوا : ما بالدار دبّيج ، فهو فعّيل من لفظ الديباج ومعناه. وذلك أن الناس هم الذين يشون الأرض ، وبهم تحسن ، وعلى أيديهم وبعمارتهم تجمل. وعليه قالوا : إنسان ؛ لأنه فعلان من الأنس.

فقد ترى إلى توافى هذه الأشياء ، على انتشارها ، وتباين شعاعها ، وكونها عائدة إلى موضع واحد ؛ لأن التنوّق ، والجمال ، والأنس ، والوشى ، والديباج ، مما يؤثر ويستحسن ـ وكنت عرضت هذا الموضع على أبى علىّ رحمه‌الله فرضيه وأحسن تقبّله ـ فكذلك يكون استنوق من باب استحوذ من حاذ يحوذ ؛ من حيث كان فى الناقة معنى الفعل من التنوّق ، دون أن يكون بعيدا عنه ؛ كما رمت أنت فى أوّل الفصل. انقضى السؤال.

فالجواب أن استنوق أبعد عن الفعل من استحوذ على ما قدّمنا. فأمّا ما فى الناقة من معنى الفعليّة والتنوّق ، فليس بأكثر مما فى الحجر من معنى الاستحجار والصلابة ، فكما أن استحجر الطين واستنسر البغاث من لفظ الحجر والنّسر ، فكذلك استنوق من لفظ الناقة ، والجميع ناء عن الفعل ؛ وما فيه من معنى الفعليّة إنما هو كما فى مفتاح ومدقّ ومنديل ونحو ذلك منه.

ومما ورد شاذّا عن القياس ومطّردا فى الاستعمال قولهم : الحوكة ، والخونة. فهذا من الشذوذ عن القياس على ما ترى ، وهو فى الاستعمال منقاد غير متأبّ ؛ ولا تقول على هذا فى جمع قائم : قومة ، ولا فى صائم : صومة ، ولو جاء على فعلة ما كان إلا معلّا. وقد قالوا على القياس : خانة.

__________________

 ـ العروس (نوق) ، (حاك). وصدره :

* كأن عليها سحق لفق تنوّقت*

والسحق : البالى ، اللّفق : أحد شقى الملاءة. الحضرميات : نسبة إلى حضرموت.

١٦٠