الخصائص - ج ١

أبي الفتح عثمان بن جنّي

الخصائص - ج ١

المؤلف:

أبي الفتح عثمان بن جنّي


المحقق: الدكتور عبد الحميد الهنداوي
الموضوع : اللغة والبلاغة
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ٣
ISBN: 978-2-7451-3245-1
الصفحات: ٥٤٤

ومعلوم أننا لا نقصد هنا تلك المحاكاة الساذجة المباشرة كتلك الأصوات المعبرة عن الطقطقة والفرقعة ؛ وإنما نقصد أوجه الشبه والمناسبة الدقيقة بين البناء الصوتى للكلمة ومعناها السياقى الذى وظفت لأجله تلك السمات الصوتية.

وسوف نعرض هنا لأهم تلك الدراسات التى تعرضت لهذا الجانب مع تتميم تلك المحاولات بما ينقصها فى نظر بحثنا هذا من التعليل والتفسير لكيفية دلالة الأصوات على المعانى التى استشعرها هؤلاء الدارسون.

فمن هذه الدراسات : دراسة د / محمد النويهى عن الشعر الجاهلى ، فقد عرض فيها لجملة من الألفاظ التى حكم عليها النقاد بالصعوبة وعدم الفصاحة ثم برر فنية تلك الألفاظ بما اشتملت عليه من صعوبة من خلال تأمله لما اشتملت عليه هذه الألفاظ من محاكاة للمعانى وقد كانت تلك التحليلات مصحوبة برده على تلك الشروط الجامدة التى اشترطها البلاغيون لفصاحة الكلمة :

يقول د / النويهى :

«أما البلاغيون والنقاد فلم يكد يزيد التفاتهم فى هذا المجال على قولهم : إن مخارج الحروف ينبغى أن تكون فصيحة ، وجعلوا أحد شروط الفصاحة عدم تنافر الحروف ، وعلى إعجابهم بالأبيات التى رأوا تحقق الفصاحة بها معبرين عن هذا الإعجاب بعبارات عامة مائعة تخلو من التحليل الدقيق ، وذمهم للأبيات التى رأوا خلوها من الفصاحة ، وحتى فى مقياسهم الذى وضعوه للفصاحة وهى عدم تنافر الحروف قد خانهم التوفيق ، لأنهم لم ينتبهوا إلى أن المعنى والعاطفة قد يقتضيان هذا التنافر ويجعلانه أمرا لازما ، انظر مثلا إلى بيت امرئ القيس يصف شعر محبوبته ، وهم يستشهدون به على قبح التنافر :

غدائره مستشزرات إلى العلا

تضل العقاص فى مثنى ومرسل

لا شك أن فى قوله : «مستشزرات» تنافرا بين الحروف يجعل الكلمة ثقيلة النطق لكن قليلا من التفكير يهدينا إلى أن هذا التنافر لازم فنيا مؤكدا أنه ينطبق على الصورة التى يريد الشاعر أن يرسمها لهذه الخصلات الكثيرة الكثيفة الثقيلة التى تتزاحم على رأس محبوبته وترتفع إلى أعلى ويغيب بعض الشعر الكثيف تحتها من مفتول ظل على انتظامه ، وغير مفتول انطلق هنا وهناك ، صورة غنية رائعة حاشدة مزدحمة ، إذا أجدنا

٤١

تصورها واستمعنا إلى «مستشزرات» أدركنا كيف أنها تقتضى هذا التنافر ، وبدأنا نستحليه ونتلذذ بتعثر لساننا فى النطق به. وهو حقا تنافر ، ولكن ما أقوى انسجامه مع الصورة المرسومة» (١).

ونستطيع أن نقول مؤيدين كلام د / النويهى ومفسرين فى الوقت نفسه لمطابقة تلك الكلمة لسياقها : إن ما عابه النقاد والبلاغيون على هذه الكلمة ورأوا فيه سببا لعدم فصاحتها هو بعينه ما نستشعر فيه أسباب إيحائها بالمعنى الذى أراد الشاعر التعبير عنه فأجاد.

وذلك لأن البلاغيين قد حكموا على هذه الكلمة بعدم الفصاحة لكون حروفها متقاربة ليست متباعدة المخارج (٢) ولكون حروفها مع ذلك متنافرة «فإن فى توسيط الشين وهو من المهموسة الرخوة بين التاء وإنها من المهموسة الشديدة ، وبين الزاى وإنها من حروف الصفير المهجورة من التنافر ما لا يخفى (٣) فلو قيل : (مستشرفات) لزال الثقل (٤).

وإذا تأملنا هذا الذى ذكروه فى أسباب عدم فصاحة تلك الكلمة ثم وازنا بين السمات الصوتية والنطقية لتلك الحروف وبين المعنى الذى تعبر عنه لوجدناها معبرة تمام التعبير عن هذا المعنى ؛ وذلك لأن الميم شفوية ، وكلا من السين والثاء والزاى أسنانية متقاربة المخرج ، مما يجعل هذه الأحرف معبرة بهذا التقارب فى النطق الذى يتعثر فيه اللسان تعثرا شبيها بتعثر المدرى فى خصلات هذا الشعر الكثيف المتعثكل بين مثنى ومرسل.

كما يتخلل الشين تلك الأحرف ليعبر بما له من استطالة وتفش وانبساط عن استطالة ذلك الشعر وانبساطه وتفشيه وانسداله.

كذلك تشارك الراء بما لها من صفة تكرارية فى التعبير عن الكثرة والتزاحم فى تلك الخصلات الشعرية المتكررة ويضاعف المد بالألف بما له من صفات الهوى والعمق والجوفية ، والامتداد فى مضاعفة الشعور بكثرة هذا الشعر وعمقه وامتداده إلى أغوار بعيدة» (٥).

__________________

(١) (الشعر الجاهلى ص ٤٤ ـ ٤٥) ، د / محمد النويهى.

(٢) انظر سر الفصاحة لابن سنان ص ٦٠ ، والتبيان للطيبى ٢ / ٤٩٧ بتحقيقى.

(٣) التبيان ٢ / ٤٩٦ ـ ٤٩٧.

(٤) القول فى المثل السائر ١ / ٢٠٥ ـ ٢٠٦.

(٥) انظر سر الفصاحة لابن سنان ص ٦٠ ، والتبيان للطيبى ٢ / ٤٩٧ بتحقيقى.

٤٢

ويلفتنا د / النويهى إلى «أن كلمة مستشزرات» ليست هى الكلمة المتنافرة الوحيدة فى بيتى امرئ القيس ، ومن ثم يتعرض إلى البيت السابق على هذا البيت وهو قوله :

وفرع يزين المتن أسود فاحم

أثيث كقنو النخلة المتعثكل

يقول : فهذه الكلمة الأخيرة التى تبدو غريبة نافرة لمسامعنا تنسجم بحروفها وترتيب مقاطعها مع الصورة الكثيفة المتداخلة التى يريد الشاعر أن يرسمها لهذا الشعر الغزير بالتجعدات المتدلى على ظهرها ، ويستشهد بقول تأبط شرّا :

قليل إدخال الزاد إلا تعلة

فقد نشز الشر سوف والتصق المعا

يقول : لم لجأ تأبط شرّا إلى هذا التنافر فى قوله «نشز الشر سوف»؟ ألأنه بدوى متوحش عديم الفصاحة؟ بل لأنه يصف نفسه ـ وهو من الشعراء الصعاليك ـ بالجوع وقلة الطعام حتى أصابه الهزل ، فبرزت رءوس ضلوعه من صدره شاخصة للعيان.

أفكان يستطيع أن يؤدى صورته هذه أداء حيا بغير هذا التنافر؟

واستشهد الدكتور النويهى بقول الأعشى فى وصف محبوبته وضخامة أوراكها وامتلاء ذراعيها بالشحم فى تفسير هذه الظاهرة ، بقول الأعشى :

هركولة فنق درم مرافقها

كان أخمصها بالشوك منتعل

يقول : إن الشاعر يتعمد تعمدا أن يأتى بألفاظ ضخمة ليصور الصورة الضخمة التى يريد حملها إلينا.

وهذا الذى قرره د / النويهى قد أيده فيه كثير من الباحثين بعده وزادوا عليه ، بأمثلة كثيرة وقفوا فيها أمام الدلالة الصوتية لتلك الألفاظ التى حكم البلاغيون والنقاد القدامى عليها بعدم الفصاحة (١).

فمن ذلك على سبيل المثال كلمة «ضيزى» فهى ولا شك ليس لها من انسيابية النطق وجمال الوقع على الأذن ما للكلمة المرادفة لها «جائرة» لكنا نزعم أنها فى موقعها من قول الله تعالى فى سورة النجم يخاطب المشركين : (أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنْثى. تِلْكَ إِذاً قِسْمَةٌ ضِيزى) [النجم : ٢١ ، ٢٢] دالة أبلغ دلالة على المراد ، وهو فساد القسمة ، وحيفها

__________________

(١) انظر على سبيل المثال د / عبد الواحد علام ـ قضايا ومواقف فى التراث البلاغى ص ١٦ ـ ١٨ وانظر ما سوف نورده من كلام د / شفيق السيد ، د / إبراهيم عبد الرحمن.

٤٣

بشكل يولد فى النفس ـ عند نطق الكلمة ـ إحساسا بثقلها وبغضها ، والنفور منها ، وهى دلالة لا تتفجر من الكلمة السابقة (١).

ونؤيد ما ذكر ونتممه ببيان أوجه المناسبة بين السمات الصوتية لتلك الكلمة ودلالتها فنقول : إن الناظر فى مناسبة تلك الكلمة لدلالتها لا يحتاج أكثر من أن يتأمل طريقة نطقه بها ، وأن ينظر إلى هيئة الفم حال النطق بها ، حيث نلاحظ أن النطق بحرف الضاد مصحوبا بحركة ياء المد يجعل الفم منفتحا بدرجة كبيرة سببها أن مخرج الضاد من حافة اللسان مما يلى الأضراس فإذا جاءت الضاد مصحوبة بالمد بالياء ، فإن ذلك يؤدى إلى انفتاح الفم انفتاحا أفقيا إلى هذه الدرجة التى هى أشبه بهيئة المشمئز من الشىء ، ويزداد الاقتراب فى الشبه بهذه الهيئة حينما ينتقل الفم فجاءة من نطق الشين ذات الكسرة الطويلة إلى نطق الزاى ذات الفتحة الطويلة (المد بالألف) مما يؤدى إلى انتقال الفم من الانفتاح الأفقى العرضى إلى الانفتاح الرأسى الطولى ليوحى بهذه الطريقة الإشارية المتولدة من نطق هذه الكلمة بدلالة النفور والاشمئزاز من تلك القسمة الجائرة التى تبعث على الاشمئزاز والأنفة من تلك العقول الفاسدة التى سوغت أن يكون الملائكة الذين هم عباد الرحمن إناثا بينما هم لا يرضون بالإناث لأنفسهم فيتخلصون منهم بالقتل والوأد.

ويمكننا أن نقف كذلك عند الدلالة الصوتية لكلمة «اثاقلتم» من قوله تعالى فى سورة التوبة : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ما لَكُمْ إِذا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ أَرَضِيتُمْ بِالْحَياةِ الدُّنْيا مِنَ الْآخِرَةِ فَما مَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ) [التوبة : ٣٨] لتلك الكلمة يستشعر صعوبة واضحة فى نطقها ، وليست خفيفة الوقع كذلك على الأذن ، وذلك على خلاف ما نراه فى كلمة بديلة وهى «تثاقلتم» بيد أن الأول بتشكيلها الصوتى أقوى من تصوير المراد والإيحاء به ، إذ ترسم صورة مجسمة للتباطؤ الشديد ، وتثير فى خيال قارئها وسامعها صورة ذلك الجسم المثاقل يرفعه الرافعون فى جهد فيسقط من أيديهم فى ثقل (٢) وحينما نوازن بين السمات الصوتية لهذه الكلمة وبين سياقها نجد أنها قد جاءت معبرة تمام التعبير عن الفكرة التى سيقت لأجلها ؛ حيث نلاحظ

__________________

(١) انظر سيد قطب ، التصوير الفنى فى القرآن (دار الشروق) ص ٧٦.

(٢) انظر سيد قطب ، التصوير الفنى فى القرآن (دار الشروق) ص ٧٦.

٤٤

أن حرف الثاء قد جاء مكررا وهو حرف يخرج مما بين طرف اللسان وأطراف الثنايا العليا فهو قريب المخرج ، وتكرره بالتشديد يصور هيئة المتثاقل المتباطئ فهو لا يبرح مكانه بل يتردد فيه ، كما أن النطق لا يزال يتردد فى مخرج الثاء يكرره ولا يبرحه ثم يأتى المد ليصور لك أن هذا المتثاقل لا يتحرك ولا يمتد إلا فى مكانه ، فهو مد خاص بهذا الحرف القريب المخرج (الثاء) الذى لا يكاد النطق يبرحه تارة بتشديده وتكريره وتارة بمده ، ثم ها هو المد يبلغ أقصاه حيث مخرج القاف أقصى اللسان ، وهنا يظن الظان أن المتثاقل قد تحرك شيئا أو جاوز مكانه فإذا به يرتد تارة أخرى إلى مكانه الذى قد قام منه وهو منطقة طرف اللسان حيث الثاء واللام والتاء ، بل إنه يتساقط ويتأخر عن مكان ابتدائه حيث يرتد إلى مخرج الميم عند الشفتين ، ولا شك أن المرء حينما ينطق بهذه الكلمة لا يكاد يصل إلى نطق تلك الميم الساكنة ، وخاصة مع إيحاء هذا المقطع الأخير (تم) حتى يستشعر أن شيئا قد سقط على الأرض فجأة محدثا هذا الصوت.

وكأن النطق بهذه الكلمة يصور هيئة المتثاقل المتساقط وهو يتردد فى قيامه ويتلعثم فيه ويتمادى فى تباطئه وذلك فى نطق الثاء المشددة الممدودة ، ثم لا يلبث أن ينهض حتى يتساقط مرتدا إلى مكان قيامه أو متجاوزا عنه إلى الخلف قليلا ، فهو لا يكاد يقوم حتى يسقط وهنا نستشعر أن الكلمة بسماتها الصوتية موحية ومعبرة عن معنى التثاقل والتباطؤ بدرجة فنية عالية لا تستطيع أن توحى بها دلالتها المعجمية وحدها.

على أن فى الآية كلمة أخرى لا تقل دلالتها الصوتية عن دلالة تلك الكلمة فى التعبير عن ذلك التثاقل والخلود إلى الأرض والركون إلى الدعة والراحة ، ألا وهى كلمة (الأرض) وذلك أنك إذا تأملت وقوفك على الضاد الساكنة بما لها من صفات الاستطالة والانبساط والتفشى لاستشعرت فيها ما يوحى به نطق الضاد من استطالة الركود والانبساط فيه ، وتفشى هؤلاء المتثاقلين واسترخائهم وتمددهم فى التصاقهم بالأرض واستنامتهم إليها.

إنها دلالة لا تلوح بها الدلالة المعجمية للكلمة ، من قريب ولا من بعيد وإنما تنفرد بها الدلالة الصوتية لهذا الحرف فى ذلك النسق والسياق الدلالى.

مثال ثالث من القرآن الكريم وذلك كلمة «يصطرخون» من قوله تعالى : (وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ نارُ جَهَنَّمَ لا يُقْضى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذابِها كَذلِكَ نَجْزِي

٤٥

 كُلَّ كَفُورٍ. وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيها رَبَّنا أَخْرِجْنا نَعْمَلْ صالِحاً غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ) [فاطر : ٣٦ ، ٣٧] فهذه الكلمة بجرسها الغليظ تصور بدقة بالغة «غلظ الصراخ المتجاوب من الكفار من كل مكان ، المنبعث من حناجر مكتظة بالأصوات الخشنة ، كما تلقى إليك ظل الإهمال لهذا الاصطراخ الذى لا يجد من يهتم به أو يلبيه. وتلمح من وراء ذلك كله صورة ذلك العذاب الذى هم فيه يصطرخون» (١).

وهذا الذى ذكره أ/ سيد قطب بين مدى القيمة الدلالية لهذه الكلمة بهذا التشكيل الصوتى بحيث لا يعبر عن تلك القيمة تشكيل آخر ولو كان من نفس مادة الكلمة ـ مثل (يصرخون) فإن فى الصاد والطاء بما فيها من تفخيم وإطباق يصطدم فيه اللسان بأعلى الفم عن اللثة عن نطق الطاء يعبر تمام التعبير عن حال أهل النار الذين يحاولون الخروج من تلك وهذا هو عين ما يصطرخون به (رَبَّنا أَخْرِجْنا) فإذ بهم يجدونها مطبقة عليهم ، تصطدم محاولاتهم وأصواتهم بجدرانها فترتد إليهم خائبة ، هذا الإطباق والاصطدام هو ما يوحى به اجتماع الصاد والطاء بما لهذا الاجتماع من سمات صوتية تشبه ذلك الحال ، كما تتلاقى دلالات التفخيم فى كل من الصاد والطاء والخاء لتعبر عن ضخامة الصراخ والجؤار لأهل النار كما تعبر الراء بما لها من صفة التكرارية عن تكرر ذلك الصراخ واستمراريته ، ويشارك فى هذا حرف الواو بما له من صفة المد والهوى إلى غاية سحيقة ليدل على طول هذا الصراخ ، ثم تأتى النون فى نهاية الكلمة معبرة بانتهاء الحزينة عن مدى الحسرة والخيبة التى يئوب بها الكافر من هذا الصراخ الطويل الدائم العظيم الأليم.

والملاحظ أن هذه الدراسات الحديثة قد تركزت فى أغلبها على ما يمكن أن نسميه بلغة الأسلوبية بالاختيار الأسلوبى للأصوات ، ولكن من بين هذه الدراسات الحديثة التى التفتت إلى القيمة الفنية لدلالة الأصوات نجد بعض الدراسات التى التفتت إلى دراسة تلك الظاهرة بوصفها تكرارا أسلوبيا.

فمن هذه الدراسات دراسة د / إبراهيم عبد الرحمن فى كتابه قضايا الشعر ، حيث ينص على تسمية هذه الظاهرة بظاهرة التكرار الصوتى ، ويتوصل إلى أن الشاعر الجاهلى كان يسعى إلى تحقيقه من طريقين متقابلين : أحدهما : نمطى ، يتصل بنظام القصيدة

__________________

(١) انظر سيد قطب ، التصوير الفنى فى القرآن (دار الشروق) ص ٧٦.

٤٦

القديمة كما كانت قد استقرت عليه عبر تاريخها الطويل ، وهو الالتزام بقافية واحدة وبحر واحد ، يحدث بهما الشاعر إيقاعا صوتيا واحدا فى القصيدة جميعا.

والثانى : إبداعى ، يكشف فيه الشاعر عن قدراته الخاصة فى إحداث أصوات بعينها تتكرر فى كل بيت على حدة ، فتخلق فى داخله «جناسا صوتيا» وتختلف من بيت إلى آخر ، فتخلق بين هذا البيت وغيره من أبيات القصيدة الأخرى وقوافيها ، ما يصح أن نسميه «طباقا صوتيا» ومعنى ذلك أن الشاعر القديم قد استطاع أن يقيم من هذا «التكرار الصوتى» كما يتجلى فى موسيقى الأبيات والقوافى بناء موسيقيا متنوعا ، فلزم أن تكون أصوات الأبيات الشعرية فى كل الأحوال من جنس أصوات القافية ، كما أنها تختلف من بيت إلى آخر ـ وهكذا مزج الشاعر فى موسيقاه بين المخالفة والمماثلة اللتين تنبعان من أصل واحد هو ما أسميناه بالتكرار الصوتى.

وقد حقق الشاعر القديم هذا التكرار الصوتى بوسائل عديدة ، نستطيع على أساس وصفى خالص أن نحصرها فى أشكال ثلاثة أولها : تكرار حروف بعينها فى كل بيت شعرى على حدة ، بحيث يحدث تكرارها أصواتا ، وإيقاعات موسيقية معينة ، والثانى : تكرار كلمات بعينها يتخيرها الشاعر تخيرا موسيقيا خاصا ، لتؤدى الشعرية إلى توفير إيقاع موسيقى خاص بكل بيت على حدة ، ويتمثل الشكل الثالث لظاهرة التكرار الصوتى فى توالى حركات تتفق أو تختلف مع حركة القافية والروى ، وقد كان الشاعر الجاهلى كثيرا ما يجمع بين شكل أو أكثر من أشكال هذا التكرار الصوتى فى البيت الشعرى الواحد (١).

ويتناول د / إبراهيم عبد الرحمن شعر الأعشى تناولا يدل على وعيه بالعلاقة المتبادلة بين التشكيل الصوتى لبعض القصائد وبين المحتوى الشعرى ، فنراه يقول :

قد اتضح لنا بمراجعة ديوان الأعشى أن عنايته قد انصرفت إلى صوت بعينه من أصوات اللين ، هو صوت ألف المد .. ومثل هذه العناية بهذا الصوت من شأنها أن تؤكد حرص الشاعر على تحقيق البطء الموسيقى فى أشعاره ، فإن هذا الصوت. من أطول الأصوات فى اللغة العربية. كما اتضح لنا أن قصائد الديوان التى جاءت قوافيها المطلقة مقرونة بحروف اللين قد غلب عليها أو قل خصصها الأعشى لموضوعين هما :

__________________

(١) قضايا الشعر ص ٦١ ـ ٦٢.

٤٧

المديح والهجاء. ومعنى ذلك أننا نستطيع أن نربط بين فتنة الأعشى بأصوات اللين فى أبياته وقوافيه ، وبين معانى أشعاره ، ومثل هذا الربط ضرورى ، وتفسير ذلك : إن صدق ما نذهب إليه أنه كان يريد توكيد هذه المعانى وتثبيتها. وكانت هذه الأصوات التى تحققها حروف اللين ، والتى كان يشيعها فى أبيات قصائده ويلحقها بقوافيه تتيح له مثل هذا التوكيد عن طريق التمهل ، أو قل عن طريق هذا البطء الموسيقى الذى يميز قصائده تلك (١).

ويتضح من هذا الكلام أن د / إبراهيم يربط بين الدلالة الصوتية للمد فى شعر الأعشى وبين أغراضه ومعانيه التى وظف لها تلك السمة الصوتية.

ونكاد نلمح توافقا عاما بين هذين الغرضين (المديح والهجاء) مع ظاهرة المد الصوتى لتلك القوافى المعبرة عن هذين الغرضين ، ويرجع ذلك فى رأينا إلى ما يقتضيه هذان الغرضان من الحاجة إلى تقرير المعانى وبسطها والإطناب فيها.

كما يقف د / إبراهيم وقفة أخرى ليقرر حرص الشاعر على الملاءمة بين موسيقى القصيدة معانيها ، أو قل حرصه على الملاءمة بين الصخب والضجيج والبحث الدائب عن المتعة أو الجرى وراءها ، تلك التى كان لا يريد أن يفوته شيء منها وبين موسيقى قصيدته ، فعلى الرغم من أن الأعشى أخذ ينثر فيها أصوات المد نثرا ، فإنه قد استطاع تقصير هذه الأصوات الطويلة ، والملاءمة بينها وبين الجو النفسى الذى أخذ يذيعه فى القصيدة جميعا ، جو اللهفة والمتعة ، وإذا رحنا نبحث عن الوسائل التى استغلها لتقصير هذه الأصوات ألفيناها تتركز فى حرص الشاعر على ألا يمد روى قوافيه كما اعتاد أن يفعل فى قصائده الأخرى حتى لا يعطى لقارئ هذا الشعر فرصة التمهل عند القافية قبل أن يستأنف قراءة البيت التالى (٢).

والحق أن أمثال هذه الإشارات اللطيفة إلى ظاهرة التكرار الصوتى وما لها من قيمة فنية قد لفتتنا إلى ضرورة الوقوف أمام هذه الظاهرة وقفة متأنية ، فأفردناها بالدراسة ضمن بحث لنا عن ظاهرة التكرار ، نظرا لاستحقاق تلك الظاهرة لإفرادها بالبحث ، وخشية من عدم إيفائها حقها من الدراسة فى هذا البحث تجنبا للإطالة.

__________________

(١) قضايا الشعر ص ٨٣ ـ ٨٤.

(٢) قضايا الشعر ص ٩٤.

٤٨

هذا بالنسبة لظاهرة التكرار الصوتى ، أما بالنسبة لظاهرة الاختيار الصوتى التى أوردنا هنا بعض نماذجها ، فيمكننا أن نقسمها باعتبار النظر إلى السمات الصوتية المختارة أو المنظور إلى توظيفها الفنى.

عرضنا فيما سبق فى ـ إطار الدلالة الصوتية ـ لبعض الأمثلة التى تنظر إلى الأسلوب بوصفه اختيارا ، أو بوصفه تكرارا ، ولكننا لا نكاد نجد فى هذه الدراسات ما ينظر إلى أسلوبية الأصوات باعتبارها عدولا أو انحرافا عن قاعدة ما.

وإذا ارتضينا اعتبار شيوع الظاهرة فى نص ما هو القاعدة التى يتم العدول عنها (١) ؛ فإننا نستطيع أن نقرر أنه قد تم العدول الصوتى عن القاعدة الصوتية الشائعة فى القرآن الكريم ـ على سبيل المثال ـ فى عدد من المواضع لأغراض فنية ، نحاول الكشف عنها فى بعض ما نعرض من الأمثلة.

فمن المواضع العجيبة التى تمثل عدولا صوتيا عن السياق القرآنى لفظ (مجراها) بإمالة الألف لتكون قريبة من نطقها من الياء ، وذلك فى قوله تعالى : (وَقالَ ارْكَبُوا فِيها بِسْمِ اللهِ مَجْراها وَمُرْساها) [هود : ٤١].

حيث نلاحظ أن هذه اللفظة (مجراها) هى اللفظة الوحيدة فى السياق القرآنى كله فى قراءة حفص التى تتسم بهذه السمة الصوتية (سمة الإمالة).

وحينما نتأمل سياق الآية نستشعر مدى مناسبة هذه اللفظة لجوها السياقى ؛ فالأمر بركوب السفينة هنا متجه إلى هؤلاء المؤمنين من أتباع نوح ـ عليه‌السلام ـ وقد أمروا بركوب تلك السفينة الغريبة العجيبة التى لا عهد لهم بها من قبل ، وهى راسية على بر ليس فيه قطرة ماء ، ومن هنا كان التعجب من جرى هذه السفينة وكونها وسيلة للنجاة.

فطمأنهم الله تعالى إلى أن هذه السفينة سوف تجرى بمشيئته وبركته (بسم الله) وأن جريها سوف يكون سهلا رخاء بلا معاناة ولا مشقة ، ومن ثم جاءت الإمالة فى مجراها لتعبر عن حركة تلك السفينة حيث تشق عباب الطوفان فى يسر وسهولة ورخاء.

وحينما أراد الله تعالى أن يطمئنهم لرسوها ، جاء بلفظ (مرساها) بلا إمالة ليعبر عن حال رسو السفينة وما يناسبه من الثبات والاستقرار مما لا يتلاءم مع صفة الإمالة الواردة

__________________

(١) انظر الأقوال فى تحديد قاعدة العدول فى علم الأسلوب. د / صلاح فضل ص ١٨١ مؤسسة مختار للنشر والتوزيع.

٤٩

فى مجراها.

ومن ذلك قوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ يُبايِعُونَكَ إِنَّما يُبايِعُونَ اللهَ يَدُ اللهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّما يَنْكُثُ عَلى نَفْسِهِ وَمَنْ أَوْفى بِما عاهَدَ عَلَيْهُ اللهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً) [الفتح : ١٠].

فالملاحظ فى هذه الآية أنها هى الآية الوحيدة فى القرآن التى جاء ضمير الغائب الموصول فيها مضموما ؛ لأن القاعدة الشائعة فى مجيئه فى القرآن هى الكسر فيقال (عليه) بالكسر لا بالضم ؛ وذلك كما فى قوله تعالى : (وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ) [الأحزاب : ٣٧]. وكما فى قوله تعالى : (فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ) [يونس : ١٢٣].

ومن ثم يمثل الضم فى هذه الكلمة عدولا عن القاعدة الصوتية القرآنية ، فيا ترى ما سر هذا العدول؟

إذا تأملنا سياق الآية وجدناها تتحدث عن مبايعة المؤمنين لرسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ وتعظيم الله تعالى تلك البيعة ووصفها بأنها مبايعة له هو سبحانه ، وإذا كانت البيعة لله رب العالمين فإن حقها التفخيم والتغليظ والتشديد والتوثيق ، ولذا جاء الضمير فى (عليه) مضموما إشعارا بذلك التفخيم ، وذلك ما لا يوحى به مجىء الضمير على أصل القاعدة مكسورا فى هذا السياق ، وأمر آخر يكشف عن القيمة الفنية لهذا العدول الصوتى ، وهو أن حركة الحرف السابق على لفظ الجلالة تؤثر فيه بالتفخيم والترقيق حسب القاعدة الصوتية لنطق هذا اللفظ فى القرآن الكريم ؛ فإذا جاءت الهاء فى (عليه) مكسورة كانت اللام من لفظ الجلالة مرققة ، أما حيث جاءت الهاء مضمومة فإن اللام من لفظ الجلالة تنطق مفخما فيتناسب تفخيم لفظ الجلالة مع ما يقتضيه السياق من تعظيم المعاهد ، وتفخيم شأنه ، والتحذير من نكث العهد معه.

ومن مظاهر العدول الصوتى فى القرآن الكريم كذلك ، ذلك العدول بفك الإدغام فى لفظة (يحببكم) فى قوله تعالى : (قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) [آل عمران : ٣١] فالقاعدة الصوتية هنا هى الإدغام كما فى قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكافِرِينَ يُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ وَلا يَخافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ) [المائدة : ٥٤].

٥٠

ويمكننا أن نعلل لفك الإدغام فى الآية الأولى بالنظر إلى سياقها فهو سياق ترغيب فى اتباع الرسول ، وبيان أنه شرط لثبوت الادعاء بمحبة العبد لربه ، ووعد بالجزاء الحسن على تلك المحبة وذلك الاتباع ، وقد جعل الله تعالى الجزاء من جنس العمل ، فجعل جزاء هؤلاء الصادقين فى محبته ، محبة مضاعفة منه سبحانه لهم فكان فى فك الإدغام فى الباء المشددة ما يشعر بمضاعفة محبته تعالى وبسطها ومدها لمن أحبه واتبع رسوله.

كما أن لهذا الفك معنى آخر نستطيع أن نستشفه من الآية وهو أن فى لفظ يحببكم بفك الإدغام من الرقة ما ليس فى اللفظ المدغم ، فالناطق بالكلمة بهذه الطريقة يستشعر ـ ولله المثل الأعلى ـ فى اللفظ تدليلا وتنعيما للمخاطبين ، كما يوحى قرب مخرج الباء الشفوية بتقريبهم ، كما يوحى إسكانهم بما فى هذه المحبة من طمأنينة القلب وسكينته.

أما فى آية المائدة التى جاءت على الإدغام فقد كان الإدغام أنسب لسياقها لكونها تتحدث عن الجهاد فى سبيل الله ، وهذا سياق يناسبه التشديد والخشونة فمن ثم جاءت الكلمة مدغمة إظهارا لذلك التشديد.

ومن مواضع العدول الصوتى العجيبة فى القرآن الكريم كذلك لفظ (يهدى) فى قوله تعالى : (قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكائِكُمْ مَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ قُلِ اللهُ يَهْدِي لِلْحَقِّ أَفَمَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أَمَّنْ لا يَهِدِّي إِلَّا أَنْ يُهْدى فَما لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ) [يونس : ٣٥].

ونظرا لأننا سوف نختم البحث بهذه الآية فإننا سوف نتعرض لما فيها كذلك من ظاهرة اختيار صوتى للمد وتركه فى هذه الآية ، بالإضافة إلى ما فيها من عدول فى لفظ (يهدى).

حيث نلاحظ المد فى قوله تعالى : (يَهْدِي إِلَى الْحَقِ) حيث يجوز مد الياء من يهدى لوجود سببها وهو الهمزة بعدها ، بخلاف يهدى الثانية فى قوله تعالى : (يَهْدِي لِلْحَقِ) حيث يمتنع المد لامتناع سببه ، وكذلك يجوز المد فى (يَهِدِّي إِلَّا) لوجود الهمز بعد الياء ، ويمتنع فى (يهدى).

وإذا تأملنا أولا : أسباب اختيار المد فى مواضعه فى الآية مسترشدين بالسياق ، وجدنا ذلك التناسق العجيب بين الآية بسياقها وما احتف بها من دلالات أخر صوتية ومعجمية وصرفية ونحوية.

فالآية إنما تعقد مقارنة بين هداية الله تعالى لأوليائه ، ومن ثم استحقاقه للعبودية ،

٥١

وبين حال الآلهة الباطلة المزعومة من حيث العجز عن تقديم أى نوع من الهداية لشركائهم قل أم كثر ، طال طريقه أم قصر ، ولذا جاءت الآية بهذا الأسلوب الاستفهامى الإنكارى : (هَلْ مِنْ شُرَكائِكُمْ مَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِ)؟ ويأتى المد فى ياء يهدى ليوحى بطول طريق الهداية لدى هؤلاء الشركاء لو هدوا ، وتتضافر دلالة المد هنا وهى دلالة صوتية مع الدلالة المعجمية لكلمة (إلى) التى تفيد بعد المسافة ، فكأن الله تعالى يقول لهم : (هَلْ مِنْ شُرَكائِكُمْ مَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِ) ولو بطريق طويل بعيد؟! ويأتى الجواب فى صورة التحدى الذى لا يحتمل الموازنة والمقارنة : (قُلِ اللهُ يَهْدِي لِلْحَقِ) وهنا تأتى الدلالة الصوتية ممثلة فى ترك المد فى ياء يهدى إيحاء بقصر مسافة الهداية بالنسبة لله تعالى ، فهو يهدى إلى طريق مستقيم ، والطريق المستقيم هو أقصر الطرق المؤدية إلى الحق.

وتتضافر تلك الدلالة الصوتية مع الدلالة المعجمية لحرف اللام الذى يفيد قرب المسافة ولصوقها ، فهدايته سبحانه تقربك للحق وتلصقك به من أقرب الطرق وأقصرها.

ثم يأتى الاستفهام التوبيخى : (أَفَمَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أَمَّنْ لا يَهِدِّي إِلَّا أَنْ يُهْدى فَما لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ) وهنا يأتى المد فى الهداية المنسوبة إلى الحق سبحانه ، ليصبح المعنى : أفمن يهدى إلى الحق ولو بطريق طويل ـ (مع أن طريق هدايته أقصر الطرق ، ولكن كأنه يعبر عن طوله فى نظر المعرضين) ـ أحق أن يتبع أم من لا تكون منه الهداية أصلا ولو ببطء شديد وتراخ إلى الأبد؟!.

وهنا يأتى العدول الصوتى فى كلمة (يهدى) التى لا نظير لها فى السياق القرآنى كله لتعبر بذلك التشكيل الصوتى ، وتلك الطريقة النطقية عن البطء الشديد فى الهداية يستفاد ذلك البطء من كسر الهاء التى تأتى من أقصى الحلق ليصطدم الصوت بالدال الأسنانية المشددة المكسورة التى يظل الصوت حبيسا عندها لتضعيفها ثم يتمادى به فى الهوى مع الياء الممدودة مدا طويلا ، لوجود سبب المد بعده وهو همزة إلا ، ليوحى ذلك المد بطول طريق الهداية مع بطئها الشديد كذلك.

ثم يزداد عجبك بعد ذلك إذا تأملت أن تلك الهداية مع بطئها وطولها الشديد وتراخيها الأبدى منفية كذلك على كل حال ، فهؤلاء الشركاء لا يهدون أبدا بحال من الأحوال ؛ إلا أن يهدوا ، ولا تكون الهداية إلا من الله تعالى ، فهم لا يهدون أصلا من

٥٢

قبل أنفسهم.

وبهذا نرى ما لهذا العدول الصوتى من قيمة فنية فى هذا السياق ، تتضافر مع العناصر الدلالية الأخرى.

وبعد فلعلنا نكون قد وفقنا إلى إلقاء بعض الضوء على القيمة الفنية لتلك الدلالة الصوتية التى لا تزال بحاجة إلى العديد من البحوث التى تكشف عن أسرارها وغوامضها ، ولعلنا قد نوفق إلى الكشف عن بعض تلك الأسرار فى بحوث لاحقة لنا إن شاء الله تعالى.

* * *

٥٣
٥٤

بسم الله الرّحمن الرّحيم

الحمد لله الواحد العدل القديم. وصلى الله على صفوته محمد وآله المنتخبين.

وعليه وعليهم‌السلام أجمعين.

هذا ـ أطال الله بقاء مولانا الملك السيد المنصور المؤيد ، بهاء الدولة وضياء الملّة ، وغياث الأمّة ، وأدام ملكه ونصره ، وسلطانه ومجده ، وتأييده وسمّوه ، وكبت شانئه وعدوّه ـ كتاب لم أزل على فارط الحال ، وتقادم الوقت ، ملاحظا له ، عاكف الفكر عليه ، منجذب الرأى والرويّة إليه ، وادّا أن أجد موصلا (١) أصله به ، أو خللا أرتقه بعمله ، والوقت يزداد بنواديه (٢) ضيقا ، ولا ينهج لى إلى الابتداء طريقا. هذا مع إعظامى له ، وإعصامى بالأسباب المنتاطة به ، واعتقادى فيه أنه من أشرف ما صنّف فى علم العرب ، وأذهبه فى طريق القياس والنظر ، وأعوده عليه بالحيطة والصون ، وآخذه له من حصّة التوقير والأون (٣) ، وأجمعه للأدلّة على ما أودعته هذه اللغة الشريفة : من خصائص الحكمة ، ونيطت به من علائق الإتقان والصنعة ، فكانت مسافر وجوهه ، ومحاسر أذرعه وسوقه ، تصف لى ما اشتملت عليه مشاعره ، وتحى (٤) إلىّ بما خيطت عليه أقرابه وشواكله (٥) ، وترينى

__________________

(١) فى نسخة : مهملا.

(٢) نوادى الإبل : شواردها ، والمعنى : أن الوقت لا يتسع لشوارد هذا الكتاب ولا يسمح بجمعها وإيلافها.

(٣) التوقير مصدر ، وقر الدابة : سكنها ، ويراد به الإراحة ؛ فالمراد حصة الراحة والتخفف من حركة العمل. والأون : الدعة والسكون.

(٤) مضارع وحى ، وهو كأوحى. يقال : وحى إليه بكذا : أشار إليه به وأومأ. ومنه قول العجاج [من الرجز] :

الحمد لله الذى استقلّت

بإذنه السماء واطمأنّت

بإذنه الأرض وما تعنّت

وحى لها القرار فاستقرّت

ويروى : أوحى لها. انظر ديوان العجاج (٢١٨).

(٥) الأقراب : جمع قرب ؛ كقفل ، وهى من الفرس خاصرته ، والشواكل واحدها شاكلة ، وهى من الفرس الجلد بين عرض الخاصرة والثفنة ، وهى الركبة.

٥٥

أن تعريد (١) كل من الفريقين : البصريين والكوفيين عنه ، وتحاميهم طريق الإلمام به ، والخوض فى أدنى أوشاله (٢) وخلجه (٣) ، فضلا عن اقتحام غماره ولججه ، إنما كان لامتناع جانبه ، وانتشار شعاعه (٤) ، وبادى تهاجر قوانينه وأوضاعه. وذلك أنّا لم نر أحدا من علماء البلدين (٥) تعرّض لعمل أصول النحو ، على مذهب أصول الكلام والفقه. فأما كتاب أصول أبى بكر (٦) فلم يلمم فيه بما نحن عليه ، إلا حرفا أو حرفين فى أوّله ، وقد تعلّق عليه به. وسنقول فى معناه.

على أن أبا الحسن (٧) قد كان صنّف فى شيء من المقاييس كتيبا ، إذا أنت قرنته

__________________

(١) التعريد : الهرب والفرار.

(٢) أوشال : جمع وشل ، وهو القليل من الماء.

(٣) خلج : جمع خلوج ، وهو النهر ، أو شرم من البحر. ويأتى الخليج وجمعه خلج بمعنى الماء الكثير فعلى هذا تكون مطابقة بين الوشل والخلج ، القاموس (خلج) ، وقد يكون الخلج هنا جمع خلوج بمعنى القليل من الماء لأن النهر أقل من البحر ، أو لأن الخلج شرم من البحر ، ولعل هذا هو الأولى لتكون هناك مقابلة بين كل من الأوشال والخلج فى مقابل الغمار واللجج.

(٤) انتشار شعاعه ، يعنى : انتشار متفرّقه ؛ تقول : ذهبوا شعاعا ، أى : متفرّقين ، وطار فؤاده شعاعا : تفرقت همومه. القاموس (شعع).

(٥) البلدان : البصرة والكوفة.

(٦) هو ابن السراج محمد بن السرىّ ، توفى سنة ٣١٦ ه‍. وهو المعنىّ بأبى بكر حيث أطلق. وكتاب «الأصول» له لا يعنى ببيان أصول النحو إلا لماما حرفا أو حرفين ـ كما قال ابن جنى ـ إنما موضوعه : أصول القواعد النحوية ، لا أصول الأدلة النحوية من السماع والإجماع والقياس والاستصحاب. انظر مقدمة محققه د. حسين الفتلى.

(٧) هو الأخفش سعيد بن مسعدة توفى سنة ٢١٠ ه‍ ، وهو الأخفش الأوسط. والأخافش أحد عشر ، ذكرهم السيوطى فى كتابه «المزهر» فى النوع السابع والأربعين من علوم اللغة ، وهو «معرفة المتفق والمفترق» الفصل الأول : فيما يتعلّق بأئمة اللغة والنحو ، قال : «الأخفش أحد عشر نحويا:

أحدهم : الأخفش الأكبر ، أبو الخطاب عبد الحميد بن عبد المجيد ، أحد شيوخ سيبويه.

والثانى : الأخفش الأوسط ، أبو الحسن سعيد بن مسعدة ، تلميذ سيبويه.

والثالث : الأخفش الأصغر ، أبو الحسن على بن سليمان ، من تلامذة المبرد وثعلب ، مات سنة ٣١٥ ه‍.

والرابع : أحمد بن عمران بن سلامة الألهانى مصنف غريب الموطإ ، مات قبل سنة ٢٥٠ ه‍.

والخامس : أحمد بن محمد الموصلى أحد شيوخ ابن جنّى ، مصنف كتاب «تعليل القراءات» ...» ا ه. المقصود من كلام السيوطى. ـ

٥٦

بكتابنا هذا علمت بذاك أنا نبنا عنه فيه ، وكفيناه كلفة التعب به ، وكافأناه على لطيف ما أولاناه من علومه المسوقة إلينا ، المفيضة ماء البشر والبشاشة علينا ، حتى دعا ذلك أقواما نزرت (١) من معرفة حقائق هذا العلم حظوظهم ، وتأخّرت عن إدراكه أقدامهم ، إلى الطعن عليه ، والقدح فى احتجاجاته وعلله. وسترى ذلك مشروحا فى الفصول بإذن الله تعالى.

ثم إن بعض من يعتادنى ، ويلمّ لقراءة هذا العلم بى ، ممن آنس بصحبته لى ، وأرتضى حال أخذه عنى ، سأل فأطال المسألة ، وأكثر الحفاوة والملاينة ، أن أمضى الرأى فى إنشاء هذا الكتاب ، وأوليه طرفا من العناية والانصباب. فجمعت بين ما أعتقده : من وجوب ذلك علىّ ، إلى (٢) ما أوثره من إجابة هذا السائل لى. فبدأت به ، ووضعت يدى فيه ، واستعنت الله على عمله ، واستمددته سبحانه من إرشاده وتوفيقه وهو ـ عزّ اسمه ـ مؤتى ذاك بقدرته ، وطوله ومشيئته.

__________________

واعلم أنه حيث أطلق «أبو الحسن» فى كتابنا هذا ـ فالمراد به الأخفش الأوسط دون غيره من الأخافش ، وهذه الكنية حيث أطلقت فى كتب النحاة : فلا يكاد يراد منها إلا أبو الحسن سعيد ابن مسعدة ، الأخفش الأوسط ، ويزعم ابن الطيب الفاسى فى شرحه على «اقتراح السيوطى» : أن هذه الكنية عند النحاة خاصة بالأخفش الأصغر على بن سليمان ، وهو وهم ظاهر منه. ولا يفوتك أن تعلم أن المجد الفيروزآبادي ذكر فى «قاموسه» أن الأخافش فى النحاة ثلاثة» ، وقد بان لك من كلام السيوطى فى المزهر أنهم أحد عشر ، فلعل صاحب القاموس يريد بالأخافش من النحاة المشهورين من المتقدمين ، وهم الأكبر والأوسط والأصغر (انظر : المزهر : (٢ / ٤٥٣ ، ٤٥٤) ، والقاموس (خفش).

(١) نزرت : أى قلّت وندرت.

(٢) الواجب فى العربية أن يقال : جمعت بين كذا وكذا ، أو : جمعت كذا إلى كذا ، فقول ابن جنى : «فجمعت بين ما أعتقده ... إلى ما أوثره ...» توهّم أنه قال أولا : «فجمعت ما أعتقده» بدون ذكر لـ «بين» ؛ فقال : «إلى ما أوثره» ، وإجراء الكلام على التوهم باب فى النحو واللغة مطروق ، وسبيل فيه مهيع. وقد علّق الأستاذ محمد على النجار ـ رحمه‌الله ـ على هذا الموضع ، فقال : (الواجب فى العربية أن يقال : «وما ... إلخ» ، ولكنه راعى فى الجمع معنى الضم) ا ه كلامه ، لكن هذا الجواب لا ينهض ؛ لأن معنى الضم مراد من «الجمع» اعتبار ؛ فلو أنك وضعت : «فضممت» مكان قول ابن جنى «فجمعت» ، لما استقامت معك العبارة ، ولا سلست لك ، اللهم إلا على ما ذكرنا لك من التوهّم والحسبان ، فاعلم ذلك وقس عليه تخريج نظائره مما تلفيه من عبارات ابن جنى فى هذا الكتاب وغيره.

٥٧

هذا باب القول على الفصل بين الكلام والقول

ولنقدّم أمام القول على فرق بينهما (١) ، طرفا من ذكر أحوال تصاريفهما ، واشتقاقهما ، مع تقلب حروفهما ؛ فإن هذا موضع يتجاوز قدر الاشتقاق ، ويعلوه إلى ما فوقه. وستراه فتجده طريقا غريبا ، ومسلكا من هذه اللغة الشريفة عجيبا.

فأقول : إنّ معنى «ق و ل» أين وجدت ، وكيف تصرّفت (٢) ، من تقدّم بعض حروفها على بعض ، وتأخّره عنه ، إنما هو للخفوف (٣) والحركة. وجهات تراكيبها الست مستعملة كلها ، لم يهمل شيء منها. وهى : «ق و ل» ، «ق ل و» ، «و ق ل» ،

__________________

(١) فى نسخة : «الفرق بينهما» ، وما فى سائر النسخ أولى ؛ لأمور :

الأول : كثرة النسخ التى فيها : «فرق بينهما» ، وتفرّد النسخة التى فيها : «الفرق بينهما».

الثانى : أن قوله : «فرق بينهما» تقرأ بإضافة «فرق» إلى «بينهما» والبين» هنا : الوصل والاجتماع ؛ إذ البين ـ فى لغة العرب ـ من الأضداد ، وهو ظرف متصرّف ، يقع ظرفا وغير ظرف ، وقد قرأ أكثر السبعة ـ ابن كثير وأبو عمرو وغيرهما ـ : (لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ)[الأنعام : ٩٤] برفع «بينكم». وبإضافة «فرق» إلى «بينهما» فى قول ابن جنى : يتحقق السجع مع قوله : «أحوال تصاريفهما» بالإضافة أيضا لانكسار الهاء فيهما ، لانكسار ما قبلها ، وهذا يفوت بما فى النسخة الفردة : «الفرق بينهما» ، واعتبار السجع وتوافق الفواصل فى كلام أهل العلم ـ مراعى ومقصود ، وليس لنا ألا نعتبره. الثالث : أن ما فى أكثر النسخ : «فرق بينهما» أوفق بعبارات ابن جنى ، ونسق أسلوبه ، وإنك لواجده ، ويحمل ما تشابه من كلام المؤلفين فى موضع على ما اطرد وأحكم منه فى موضع آخر ، فاعتبر ذلك هنا.

(٢) فى بعض النسخ : «وقعت».

(٣) كذا فى النسخ ، ولو قال : «إنما هو الخفوف» لكان يشبه أن يكون أقرب ، وهو من قولهم : خف القوم خفوفا : إذا ارتحلوا مسرعين. والظاهر : أن ابن جنى حاول بهذا تأكيد اختصاص معنى «ق و ل» بالخفوف والحركة ، وإنما يتأتى تأكيد الاختصاص هنا بأداتين له ، هما : «إنّما» ، و «لام الاختصاص» فى قوله : «للخفوف». وكون اللام للاختصاص مما ذكر النحاة فى كتبهم ، ومثلوا له بمثل قولهم : اللجام للفرس». فإن يكن ابن جنى حاول هذا المعنى ، فقد جاء لفظه مطابقا لما حاول منه ويكون ـ حينئذ ـ أنسب بالسياق ، وأوفق له.

٥٨

«و ل ق» ، «ل ق و» ، «ل و ق».

الأصل الأوّل «ق و ل» وهو القول. وذلك أن الفم واللسان يخفّان له ، ويقلقان ويمذلان (١) به. وهو بضد السكوت ، الذى هو داعية إلى السكون ؛ ألا ترى أن الابتداء لما كان أخذا فى القول ، لم يكن الحرف المبدوء به إلا متحركا ، ولمّا كان الانتهاء أخذا فى السكوت ، لم يكن الحرف الموقوف عليه إلا ساكنا (٢).

الأصل الثانى «ق ل و» منه القلو : حمار الوحش ؛ وذلك لخفّته وإسراعه ؛ قال العجّاج :

* تواضخ التقريب قلوا مغلجا (٣) *

ومنه قولهم «قلوت البسر والسّويق ، فهما مقلوّان» وذلك لأن الشىء إذا قلى جفّ وخفّ ، وكان أسرع إلى الحركة وألطف ، ومنه قولهم «اقلوليت يا رجل» قال :

__________________

(١) من قولهم : مذل مذلا ، أى : ضجر وقلق ، فهو مذل ، وهى مذلة ، وفيها لغتان : مذل يمذل مذلا ، من باب فرح ، ومذل يمذل مذلا ، من باب نصر. انظر «تهذيب لسان العرب» (مذل).

(٢) ولذلك فلا يبتدأ إلا بمتحرك ، فإن بدئ بساكن ، اجتلبت له همزة وصل متحركة يبتدأ بها ؛ ليتوصل بها إلى النطق بالساكن ، وكذا لا يوقف إلا على ساكن ؛ لأنه موضع راحة وسكون ، فإن وقف على متحرك ، اجتلبت له هاء السكت ـ وهى ساكنة ـ ليوقف عليها.

(٣) الرجز للعجّاج فى ديوانه ٢ / ٥١ ، ولسان العرب ٣ / ٦٧ (وضخ) ، وبلا نسبة فى كتاب العين ٤ / ٢٨٣. ويروى : محلجا. وهو من أرجوزة طويلة له ، يصف أتانا له ، وفيها :

كأنّ تحتى ذات شغب سمحجا

قوداء لا تحمل إلا مخدجا

كالقوس ردّت غير ما أن تعوجا

تواضخ التقريب قلوا محلجا

جأبا ترى تليله مسحّجا

وقوله : «تواضخ التقريب» أى : تجتهد مع فحلها فى الجرى ، وأصل المواضخة : المباراة فى الاستقاء بالدلاء ، وهو أن يستقى الرجل دلوا والآخر دلوا ، والتقريب : نوع من الجرى وهو أن يرفع يديه معا ، ويضعهما معا ؛ كما فى قول امرئ القيس :

له أيطلا ظبى وساقا نعامة

وإرخاء سرحان وتقريب تتفل

والمغلج ـ أو المحلج فى رواية الديوان ـ أى : الشديد المدمج ، يقول : هو مطوىّ مثل المغلج ، أو المحلج ، يقول : عوده شديد ، وخلقه شديد. أو : المغلج : هو الذى يطرد أتنه ، يعنى : الفحل. وانظر الأرجوزة بتمامها ـ مع شرحها ـ فى «ديوان العجاج» (ص ٢٧١ ـ ٣٠٣).

٥٩

قد عجبت منى ومن يعيليا

لمّا رأتنى خلقا مقلوليا (١)

أى خفيفا للكبر وطائشا ؛ وقال :

وسرب كعين الرمل عوج إلى الصّبا

رواعف بالجادىّ حور المدامع (٢)

سمعن غناء بعد ما نمن نومة

من الليل فاقلولين فوق المضاجع (٣)

أى خففن لذكره وقلقن فزال عنهنّ نومهنّ واستثقالهنّ على الأرض. وبهذا يعلم أن لام اقلوليت واو ، لا ياء. فأمّا لام اذلوليت (٤) فمشكوك فيها.

ومن هذا الأصل أيضا قوله :

__________________

(١) الرجز للفرزدق فى الدرر ١ / ١٠٢ ؛ وشرح التصريح ٢ / ٢٢٨ ، وبلا نسبة فى أوضح المسالك ٤ / ١٣٩ ، وشرح الأشمونى ٢ / ٥٤١ ، والكتاب ٣ / ٣١٥ ، ولسان العرب ١٥ / ٩٤ (علا) ، ١٥ / ٢٠٠ (فلا) وما ينصرف وما لا ينصرف ص ١١٤ ، والمقتضب ١ / ١٤٢ ؛ والممتع فى التصريف ٢ / ٥٥٧ ، والمنصف ٢ / ٦٨ ، ٧٩ ، ٣ / ٦٧ ، وهمع الهوامع ١ / ٣٦ ، وتهذيب اللغة ٩ / ٢٩٧ ، وكتاب العين ٥ / ٢١٢ ، وتاج العروس (علا) ، (قلا).

(٢) يصف نساء حسانا ، وقوله : «كعين الرمل» يريد : كبقر الوحش ، تشبهنها فى اتساع عيونها وجمالها ، والعين : جمع عيناء ، وعوج : جمع أعوج ، أى : ميل ، والجادىّ ـ بالجيم لا بالحاء ـ : الزعفران ؛ يريد : أن رائحة الزعفران تظهر فى أنوفهن ؛ فكأنما هو أثر رعافهنّ ، والرعاف : خروج الدم من الأنف ، تقول : رعف يرعف ، من بابى نصر وفتح ، وحسن ، وطرب وهو راعف ، وهى راعفة ، وجمع راعفة : رواعف ، وقيل للذى يخرج من الأنف : رعاف ؛ لسبقه علم الراعف. (نجار) بتصرف وزيادات انظر «تهذيب لسان العرب» (رعف).

(٣) البيت من الطويل ، وهو بلا نسبة فى لسان العرب ١٥ / ٢٠٠ (قلا) ، وتاج العروس (قلا).

والبيت فى «أساس البلاغة» للزمخشرى مادة (قلو): «اقلولى الرجل : استوفز وتجافى عن مكانه ؛ قال:

سمعن غنائى بعد ما نمن نومة

من الليل فاقلولين فوق المضاجع»

وروايته : «غنائى» بالإضافة إلى ياء المتكلم مكان رواية ابن جنى «غناء» ، ولعلها أولى بمراد الشاعر ، وما ساق له حديثه ، من أنه يطرب هؤلاء الغانيات الحسان بغنائه وشجوه ، والأمر على ما تراه.

(٤) اذلولى : ذل وانقاد. (نجار).

٦٠