الخصائص - ج ١

أبي الفتح عثمان بن جنّي

الخصائص - ج ١

المؤلف:

أبي الفتح عثمان بن جنّي


المحقق: الدكتور عبد الحميد الهنداوي
الموضوع : اللغة والبلاغة
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ٣
ISBN: 978-2-7451-3245-1
الصفحات: ٥٤٤

ومنه تركيب (ق ر د) و (ق ر ت) قالوا للأرض : قردد ، وتلك نباك تكون فى الأرض ، فهو من قرد الشىء وتقرّد إذا تجمّع ؛ أنشدنا أبو علىّ :

أهوى لها مشقص حشر فشبرقها

وكنت أدعو قذاها الإثمد القردا (١)

[أى أسمّى الإثمد القرد أذى لها. يعنى عينه] وقالوا : قرت الدم عليه أى جمد ، والتاء أخت الدال كما ترى. فأمّا لم خصّ هذا المعنى بذا الحرف فسنذكره فى باب يلى هذا بعون الله تعالى.

ومن ذلك العلز : خفّة وطيش وقلق يعرض للإنسان ، وقالوا (العلّوص) لوجع فى الجوف يلتوى له الإنسان ويقلق منه. فذاك من (ع ل ز) وهذا من (ع ل ص) والزاى أخت الصاد.

ومنه الغرب : الدلو العظيمة ، (وذلك لأنها يغرف من الماء بها) ، فذاك من (غ ر ب) وهذا من (غ ر ف) أنشد أبو زيد :

كأن عينىّ وقد بانونى

غربان فى جدول منجنون (٢)

واستعملوا تركيب (ج ب ل) و (ج ب ن) و (ج ب ر) لتقاربها فى موضع واحد ، وهو الالتئام والتماسك. منه الجبل لشدّته وقوّته ، وجبن إذا استمسك وتوقّف وتجمع ، ومنه جبرت العظم ونحوه أى قوّيته.

وقد تقع المضارعة فى الأصل الواحد بالحرفين ؛ نحو قولهم : السحيل ، والصهيل ، قال :

__________________

(١) البيت من البسيط ، وهو لابن أحمر الباهلى فى ديوانه ص ٤٩ ، ولسان العرب (دعا) ، (هوا) ، وجمهرة اللغة ص ١٢٦٤ ، والمخصص ٩ / ٩٨ ، وتهذيب اللغة ٣ / ١٢٤ ، والمذكر والمؤنث للأنبارى ص ٢٥٨.

(٢) الرجز بلا نسبة فى لسان العرب (منجنون) ، (نحا) ، وتاج العروس (منجنون) ، (نحا).

٥٠١

كأن سحيله فى كل فجر

على أحساء يمئود دعاء (١)

وذاك من (س ح ل) وهذا من (ص ه ل) والصاد أخت السين كما أن الهاء أخت الحاء. ونحو منه قولهم (سحل) فى الصوت و (زحر) والسين أخت الزاى ؛ كما أن اللام أخت الراء.

وقالوا (جلف وجرم) فهذا للقشر ، وهذا للقطع ، وهما متقاربان معنى ، متقاربان لفظا ؛ لأن ذاك من (ج ل ف) وهذا من (ج ر م).

(وقالوا : صال يصول ؛ كما قالوا : سار يسور).

نعم ، وتجاوزوا ذلك إلى أن ضارعوا بالأصول الثلاثة : الفاء والعين واللام.

فقالوا : عصر الشىء ، وقالوا : أزله ، إذا حبسه ، والعصر ضرب من الحبس. وذاك من (ع ص ر) وهذا من (أزل) والعين أخت الهمزة ، والصاد أخت الزاى ، والراء أخت اللام. وقالوا : الأزم : المنع ، والعصب : الشدّ ؛ فالمعنيان متقاربان ، والهمزة أخت العين ، والزاى أخت الصاد ، والميم أخت الباء. وذاك من (أزم) وهذا من (ع ص ب).

وقالوا : السلب والصرف ، وإذا سلب الشىء فقد صرف عن وجهه. فذاك من (س ل ب) وهذا من (ص ر ف) والسين أخت الصاد ، واللام أخت الراء ، والباء أخت الفاء.

وقالوا : الغدر ؛ كما قالوا الختل ، والمعنيان متقاربان ، واللفظان متراسلان ؛ فذاك من (غ د ر) وهذا من (خ ت ل) فالغين أخت الخاء ، والدال أخت التاء ، والراء أخت اللام.

وقالوا : زأر ؛ كما قالوا : سعل ؛ لتقارب اللفظ والمعنى.

وقالوا : عدن بالمكان ؛ كما قالوا تأطّر ، أى أقام وتلبّث.

وقالوا : شرب ؛ كما قالوا : جلف ؛ لأن شارب الماء مفن له ، كالجلف للشيء.

__________________

(١) البيت من الوافر ، وهو لزهير بن أبى سلمى فى ديوانه ص ٧٠ ، ولسان العرب (مأد) ، وتاج العروس (مأد) ، وبلا نسبة فى المخصص ٨ / ٤٩. سحيله : صوته. ويمئود : واد فى أرض غطفان. الأحساء : الرمال يكون فيها الماء.

٥٠٢

وقالوا : ألته حقّه ؛ كما قالوا : عانده. وقالوا : الأرفة للحدّ بين الشيئين ؛ كما قالوا : علامة. وقالوا : قفز ؛ كما قالوا : كبسا ، وذلك أن القافز إذا استقرّ على الأرض كبسها. وقالوا : صهل ؛ كما قالوا : زأر. وقالوا : الهتر ؛ كما قالوا : الإدل ، وكلاهما العجب. وقالوا : كلف به ؛ كما قالوا : تقرّب منه ، وقالوا : تجعّد ؛ كما قالوا : شحط ؛ وذلك أن الشىء إذا تجعّد وتقبّض عن غيره شحط وبعد عنه ، ومنه قول الأعشى :

إذا نزل الحىّ حلّ الجحيش

شقيّا غويا مبينا غيورا (١)

وذاك من تركيب (ج ع د) وهذا من تركيب (ش ح ط) فالجيم أخت الشين ، والعين أخت الحاء ، والدال أخت الطاء. وقالوا : السيف والصوب ، وذلك أن السيف يوصف بأنه يرسب فى الضريبة لحدّته ومضائه ، ولذلك قالوا : سيف رسوب ، وهذا هو معنى صاب يصوب إذا انحدر. فذاك من (س ى ف) وهذا من (ص وب) فالسين أخت الصاد ، والياء أخت الواو ، والفاء أخت الباء. وقالوا : جاع يجوع ، وشاء يشاء ، والجائع مريد للطعام لا محالة ، ولهذا يقول المدعوّ إلى الطعام إذا لم يجب : لا أريد ، ولست أشتهى ، ونحو ذلك ، والإرادة هى المشيئة.

فذاك من (ج وع) وهذا من (ش ى أ) والجيم أخت الشين ، والواو أخت الياء ، والعين أخت الهمزة. وقالوا : فلان حلس بيته إذا لازمه. وقالوا : أرز إلى الشىء إذا اجتمع نحوه ، وتقبّض إليه ؛ ومنه إن الإسلام ليأرز إلى المدينة ، وقال :

بآرزة الفقارة لم يخنها

قطاف فى الركاب ولا خلاء (٢)

__________________

(١) البيت من المتقارب ، وهو للأعشى فى ديوانه ص ١٤٣ ، ولسان العرب (حرد) ، (جحش) ، والتنبيه والإيضاح ٢ / ١٨ ، ٣١٤ ، وجمهرة اللغة ص ٤٣٨ ، ٥٠١ ، ومقاييس اللغة ١ / ٤٢٧ ، ومجمل اللغة ١ / ٤٠٣ ، وتاج العروس (حرد) ، (جحش). الجحيش : يروى بالنصب على الظرفية أى المكان المنفرد ، ويروى بالرفع أى زوجها المعتزل بها عن الناس.

(٢) البيت من الوافر ، وهو لزهير بن أبى سلمى فى ديوانه ص ٦٣ ، ولسان العرب (خلأ) ، (أرز) ، (قطف) ، ومقاييس اللغة ١ / ٧٩ ، وكتاب العين ٧ / ٣٨٣ ، وتاج العروس (خلأ) ، (أرز) ، (قطف) ، وجمهرة اللغة ص ١٠٥٦ ، وتهذيب اللغة ٧ / ٥٧٧ ، ١٣ / ٢٤٩ ، ومجمل اللغة ١ / ١٧٩ ، وبلا نسبة فى جمهرة اللغة ص ٦٤ ، ١٠٩٦ ، والمخصص ٧ / ١٦٢. آرزة الفقارة : أى قوية ، وهو من وصف الناقة. والقطاف : مقاربة الخطو.

٥٠٣

فذاك من (ح ل س) وهذا من (أرز) فالحاء أخت الهمزة ، واللام أخت الراء ، والسين أخت الزاى. وقالوا : أفل ؛ كما قالوا : غبر ؛ لأن أفل : غاب ، والغابر غائب أيضا. فذاك من (أف ل) وهذا من (غ ب ر) فالهمزة أخت الغين ، والفاء أخت الباء ، واللام أخت الراء.

وهذا النحو من الصنعة موجود فى أكثر الكلام وفرش اللغة ، وإنما بقى من يثيره ويبحث عن مكنونه ، بل من إذا أوضح له وكشفت عنده حقيقته طاع طبعه لها فوعاها وتقبّلها. وهيهات ذلك مطلبا ، وعزّ فيهم مذهبا! وقد قال أبو بكر : من عرف ألف ، ومن جهل استوحش. ونحن نتبع هذا الباب بابا أغرب منه ، وأدلّ على حكمة القديم سبحانه ، وتقدّست أسماؤه ، فتأمّله تحظ به بعون الله تعالى.

* * *

٥٠٤

باب فى إمساس الألفاظ أشباه المعانى

اعلم أن هذا موضع شريف لطيف. وقد نبّه عليه الخليل وسيبويه ، وتلقّته الجماعة بالقبول له ، والاعتراف بصحّته.

قال الخليل : كأنهم توهّموا فى صوت الجندب استطالة ومدّا فقالوا : صرّ ، وتوهّموا فى صوت البازى تقطيعا فقالوا : صرصر.

وقال سيبويه فى المصادر التى جاءت على الفعلان : إنها تأتى للاضطراب والحركة ؛ نحو النّقزان ، والغليان ، والغثيان. فقابلوا بتوالى حركات المثال توالى حركات الأفعال.

ووجدت أنا من هذا الحديث أشياء كثيرة على سمت ما حدّاه ، ومنهاج ما مثّلاه. وذلك أنك تجد المصادر الرباعية المضعّفة تأتى للتكرير ؛ نحو الزعزعة ، والقلقلة ، والصلصلة ، والقعقعة ، [والصعصعة] ، والجرجرة ، والقرقرة. ووجدت أيضا (الفعلى) فى المصادر و، الصفات إنما تأتى للسرعة ؛ نحو البشكى ، والجمزى ، والولقى ؛ قال رؤبة :

* أو بشكى وخد الظليم النزّ (١) *

وقال الهذلىّ :

كأنّى ورحلى إذا هجّرت

على جمزى جازئ بالرّمال

أو اصحم حام جراميزه

زابية حيدى بالدحال (٢)

__________________

(١) الرجز لرؤبة فى ديوانه ص ٦٥ ، وبلا نسبة فى لسان العرب (نزر) ، والمخصص ٣ / ٢٤ ، وتاج العروس (نزر). يقال ظليم نز : لا يستقرّ فى مكان.

(٢) البيتان من المتقارب ، وهو لأمية بن أبى عائذ الهذلى فى شرح أشعار الهذليين ص ٤٩٩ ، ولسان العرب (حزب) ، (حيد) ، (جرمز) ، (جمز) ، والتنبيه والإيضاح ١ / ٦١ ، وتهذيب اللغة ٤ / ٣٧٤ ، ٤١٩ ، ٥ / ١٩٠ ، وتاج العروس (حزب) ، (جرمز) ، (جمز) ، (دحل) ، (صحم) ، وللهذلى فى مقاييس اللغة ٢ / ١٢٣ ، وبلا نسبة فى لسان العرب (صحم) ، وتاج العروس ـ

٥٠٥

فجعلوا المثال المكرر للمعنى المكرر ـ أعنى باب القلقلة ـ والمثال الذى توالت حركاته للأفعال التى توالت الحركات فيها.

ومن ذلك ـ وهو أصنع منه ـ أنهم جعلوا (استفعل) فى أكثر الأمر للطلب ؛ نحو استسقى ، واستطعم ، واستوهب ، واستمنح ، واستقدم عمرا ، واستصرخ جعفرا. فرتّبت فى هذا الباب الحروف على ترتيب الأفعال. وتفسير ذلك أن الأفعال المحدّث عنها أنها وقعت عن غير طلب إنما تفجأ حروفها الأصول ، أو ما ضارع بالصنعة الأصول.

فالأصول نحو قولهم : طعم ووهب ، ودخل وخرج ، وصعد ونزل. فهذا إخبار بأصول فاجأت عن أفعال وقعت ، ولم يكن معها دلالة تدلّ على طلب لها ولا إعمال فيها. وكذلك ما تقدّمت الزيادة فيه على سمت الأصل ؛ نحو أحسن ، وأكرم ، وأعطى وأولى. فهذا من طريق الصنعة بوزن الأصل فى نحو دحرج ؛ وسرهف ، وقوقى وزوزى. وذلك أنهم جعلوا هذا الكلام عبارات عن هذه المعانى ، فكلّما ازدادت العبارة شبها بالمعنى كانت أدلّ عليه ، وأشهد بالغرض فيه.

فلمّا كانت إذا فاجأت الأفعال فاجأت أصول المثل (١) الدالّة عليها أو ما جرى مجرى أصولها ؛ نحو وهب ، ومنح ، وأكرم ، وأحسن ، كذلك إذا أخبرت بأنك سعيت فيها وتسبّبت لها ، وجب أن تقدّم أمام حروفها الأصول فى مثلها الدالّة عليها أحرفا زائدة على تلك الأصول تكون كالمقدّمة لها ، والمؤدّية إليها.

وذلك نحو استفعل ؛ فجاءت الهمزة والسين والتاء زوائد ، ثم وردت بعدها الأصول : الفاء ، والعين ، واللام. فهذا من اللفظ وفق المعنى الموجود هناك.

وذلك أن الطلب للفعل والتماسه والسعى فيه والتأتى لوقوعه تقدّمه ، ثم وقعت الإجابة إليه ، فتبع الفعل السؤال فيه والتسبّب لوقوعه. فكما تبعت أفعال الإجابة

__________________

(حيد) ، والمخصص ١٥ / ٦٩ ، وديوان الأدب ٣ / ٤١٢ ، وكتاب العين ٦ / ٢٠٣. جمزى : حمار وحشى ، جازئ : يستغنى بالرطب عن الماء. الأصحم : سواد إلى صفرة ، وجراميزه : جسده ونفسه. حزابية : غليظ. والدحال : جمع الدحل ، وهو هوة ضيقة الأعلى واسعة الأسفل.

(١) يقصد بالمثل هنا : الصيغ ، وقد مرّ التنبيه على مثل ذلك فى الجزء الأول فى الكلام عن علل النحاة.

٥٠٦

أفعال الطلب ، كذلك تبعت حروف الأصل الحروف الزائدة التى وضعت للالتماس والمسألة. وذلك نحو استخرج ، واستقدم ، واستوهب ، واستمنح ، واستعطى ، واستدنى. فهذا على سمت الصنعة التى تقدّمت فى رأى الخليل وسيبويه ؛ إلا أن هذه أغمض من تلك. غير أنها وإن كانت كذلك فإنها منقولة عنها ، ومعقودة عليها. ومن وجد مقالا قال به وإن لم يسبق إليه غيره. فكيف به إذا تبع العلماء فيه ، وتلاهم على تمثيل معانيه.

ومن ذلك أنهم جعلوا تكرير العين فى المثال دليلا على تكرير الفعل ، فقالوا : كسّر ، وقطّع ، وفتّح ، وغلّق. وذلك أنهم لمّا جعلوا الألفاظ دليلة المعانى فأقوى اللفظ ينبغى أن يقابل به قوّة الفعل ، والعين أقوى من الفاء واللام ، وذلك لأنها واسطة لهما ، ومكنوفة بهما ؛ فصارا كأنهما سياج لها ، ومبذولان للعوارض دونها.

ولذلك تجد الإعلال بالحذف فيهما دونها. فأمّا حذف الفاء ففى المصادر من باب وعد ؛ نحو العدة ، والزنة ، والطدة ، والتدة ، والهبة ، والإبة. وأما اللام فنحو اليد ، والدم ، والفم ، والأب ، والأخ ، والسنة ، والمائة ، والفئة. وقلّما تجد الحذف فى العين.

فلمّا كانت الأفعال دليلة المعانى كرروا أقواها ، وجعلوه دليلا على قوّة المعنى المحدّث به ، وهو تكرير الفعل ؛ كما جعلوا تقطيعه فى نحو صرصر وحقحق دليلا على تقطيعه. ولم يكونوا ليضعّفوا الفاء ولا اللام لكراهية التضعيف فى أول الكلمة ، والإشفاق على الحرف المضعّف أن يجيء فى آخرها ، وهو مكان الحذف وموضع الإعلال ، وهم قد أرادوا تحصين الحرف الدالّ على قوة الفعل. فهذا أيضا من مساوقة الصيغة للمعانى.

وقد أتبعوا اللام فى باب المبالغة العين ؛ وذلك إذا كررت العين معها فى نحو دمكمك وصمحمح وعركرك (١) وعصبصب وغشمشم ؛ والموضع فى ذلك للعين وإنما ضامّتها اللام هنا تبعا لها ولاحقة بها ؛ ألا ترى إلى ما جاء عنهم للمبالغة من نحو اخلولق ، واعشوشب ، واغدودن ، واحمومى ، واذلولى ، واقطوطى ، وكذلك

__________________

(١) يقال بعير عركرك : قوى غليظ.

٥٠٧

فى الاسم ؛ نحو عثوثل ، وغدودن ، وخفيدد ، وعقنقل ، وعبنبل (١) ، وهجنجل ، قال :

ظلّت وظلّ يومها حوب حل

وظلّ يوم لأبى الهجنجل (٢)

فدخول لام التعريف فيه مع العلميّة يدلّ على أنه فى الأصل صفة كالحرث ، والعبّاس ؛ وكل واحد من هذه المثل قد فصل بين عينيه بالزائد لا باللام.

فعلمت أن تكرير المعنى فى باب صمحمح (إنما هو للعين) وإن كانت اللام فيه أقوى من الزائد فى باب افعوعل وفعوعل وفعيعل ، (وفعنعل) لأن اللام بالعين أشبه من الزائد بها. ولهذا أيضا ضاعفوها كما ضاعفوا العين للمبالغة ؛ نحو عتلّ ، وصملّ ، وقمدّ ، وحزقّ ؛ إلا أن العين أقعد فى ذلك من اللام ؛ ألا ترى أن الفعل الذى هو موضع للمعانى لا يضعّف ولا يؤكّد تكريره إلا بالعين. هذا هو الباب.

فأما اقعنسس ، واسحنكك فليس الغرض فيه التوكيد والتكرير ؛ لأن ذا إنما ضعّف للإلحاق ، فهذه طريق صناعية ، وباب تكرير العين هو طريق معنوية ؛ ألا ترى أنهم لمّا اعتزموا إفادة المعنى توفّروا عليه ، وتحاموا طريق الصنعة والإلحاق فيه ، فقالوا : قطّع وكسّر ، تقطيعا وتكسيرا ، ولم يجيئوا بمصدره على مثال (فعللة) فيقولوا : قطّعة ، وكسّرة ؛ كما قالوا فى الملحق : بيطر بيطرة ، وحوقل حوقلة ، وجهور جهورة.

ويدلّك على أن افعوعل لمّا ضعّفت عينه للمعنى انصرف به عن طريق الإلحاق ـ تغليبا للمعنى على اللفظ ، وإعلاما أنّ قدر المعنى عندهم أعلى وأشرف من قدر اللفظ ـ أنهم قالوا فى افعوعل من رددت : (اردودّ) ولم يقولوا : اردودد ، فيظهروا التضعيف للإلحاق ؛ كما أظهروه فى باب اسحنكك ، واكلندد (٣) ، لمّا كان للإلحاق باحرنجم ، واخرنطم ؛ ولا تجد فى بنات الأربعة نحو احروجم ، فيظهروا (افعوعل) من رددت فيقال (اردودد) لأنه لا مثال له رباعيّا فيلحق هذا به.

__________________

(١) عبنبل : ضخم شديد.

(٢) الرجز بلا نسبة فى لسان العرب (هجل) ، وتاج العروس (هجل). حوب : زجر لذكور الإبل. حل : زجر لإناثها.

(٣) الكلندد : اشتدّ.

٥٠٨

فهذا طريق المثل واحتياطاتهم فيها بالصنعة ، ودلالاتهم [منها] على الإرادة والبغيّة.

فأمّا مقابلة الألفاظ بما يشاكل أصواتها من الأحداث فباب عظيم واسع ، ونهج متلئبّ عند عارفيه مأموم. وذلك أنهم كثيرا ما يجعلون أصوات الحروف على سمت الأحداث المعبّر بها عنها ، فيعدّلونها بها ويحتذونها عليها. وذلك أكثر ممّا نقدّره ، وأضعاف ما نستشعره.

من ذلك قولهم : خضم ، وقضم. فالخضم لأكل الرّطب ؛ كالبطّيخ والقثّاء وما كان نحوهما من المأكول الرّطب. والقضم للصّلب اليابس ؛ نحو قضمت الدابّة شعيرها ، ونحو ذلك. وفى الخبر «قد يدرك الخضم بالقضم» أى قد يدرك الرخاء بالشدّة ، واللين بالشّظف. وعليه قول أبى الدرداء : (يخضمون ونقضم والموعد الله) فاختاروا الخاء لرخاوتها للرّطب ، والقاف لصلابتها لليابس ؛ حذوا لمسموع الأصوات على محسوس الأحداث.

ومن ذلك قولهم : النضح للماء ونحوه ، والنضخ أقوى من النضح ؛ قال الله سبحانه : (فِيهِما عَيْنانِ نَضَّاخَتانِ) [الرحمن : ٦٦] فجعلوا الحاء ـ لرقّتها ـ للماء الضعيف ، والخاء ـ لغلظها ـ لما هو أقوى منه.

ومن ذلك القدّ طولا ، والقطّ عرضا. وذلك أن الطاء أحصر للصوت وأسرع قطعا له من الدال. فجعلوا الطاء المناجزة لقطع العرض ؛ لقربه وسرعته ، والدال المماطلة لما طال من الأثر ، وهو قطعه طولا.

ومن ذلك قولهم : قرت الدم ، وقرد الشىء ، وتقرّد ، وقرط يقرط. فالتاء أخفت الثلاثة ، فاستعملوها فى الدم إذا جفّ ؛ لأنه قصد ومستخفّ فى الحسّ عن القردد الذى هو النّباك فى الأرض ونحوها. وجعلوا الطاء ـ وهى أعلى الثلاثة صوتا ـ (للقرط) (١) الذى يسمع. وقرد من القرد ؛ وذلك لأنه موصوف بالقلّة والذلّة ؛ قال الله تعالى : (فَقُلْنا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خاسِئِينَ) [البقرة : ٦٥].

ينبغى أن يكون (خاسئين) خبرا آخر لـ (كونوا) والأوّل (قردة) فهو كقولك :

__________________

(١) يقال : قرط الكراث : قطعه فى القدر ، والقرط يسمع له صوت إذ كان قطعا وشقا.

٥٠٩

هذا حلو حامض ، وإن جعلته وصفا لـ (قردة) صغّر معناه ؛ ألا ترى أنّ القرد لذلّه وصغاره خاسئ أبدا ، فيكون إذا صفة غير مفيدة. وإذا جعلت (خاسئين) خبرا ثانيا حسن وأفاد ، حتى كأنه قال : كونوا قردة [و] كونوا خاسئين ؛ ألا ترى أن ليس لأحد الاسمين من الاختصاص بالخبرية إلا ما لصاحبه ، وليس كذلك الصفة بعد الموصوف ؛ إنما اختصاص العامل بالموصوف ، ثم الصفة من بعد تابعة له.

ولست أعنى بقولى : إنه كأنه قال تعالى : كونوا قردة ، كونوا خاسئين ، أن العامل فى (خاسئين) عامل ثان غير الأوّل ؛ معاذ الله أن أريد ذلك ، إنما هذا شيء يقدّر مع البدل. فأما فى الخبرين فإن العامل فيهما جميعا واحد ، ولو كان هناك عامل آخر لما كانا خبرين لمخبر عنه واحد ، وإنما مفاد الخبر من مجموعهما. ولهذا كان عند أبى علىّ أن العائد على المبتدأ من مجموعهما ، لا من أحدهما ، لأنه ليس الخبر بأحدهما ، بل بمجموعهما. وإنما أريد أنك متى شئت باشرت بـ (كونوا) أىّ الاسمين آثرت ، وليست كذلك الصفة.

ويؤنّس بذلك أنه لو كانت (خاسئين) صفة لـ (قردة) لكان الأخلق أن يكون (قردة خاسئة) ، (وفى أن) لم يقرأ بذلك ألبتّة دلالة على أنه ليس بوصف. وإن كان قد يجوز أن يكون (خاسئين) صفة (لقردة على المعنى إذ كان المعنى) أنها هى هم فى المعنى ؛ إلا أن هذا إنما هو جائز وليس بالوجه ؛ بل الوجه أن يكون وصفا لو كان على اللفظ. فكيف وقد سبق ضعف الصفة هاهنا. فهذا شيء عرض قلنا فيه ثم لنعد.

أفلا ترى إلى تشبيههم الحروف بالأفعال وتنزيلهم إياها على احتذائها.

ومن ذلك قولهم : الوسيلة ، والوصيلة ، والصاد ـ كما ترى ـ أقوى صوتا من السين ؛ لما فيها من الاستعلاء ، والوصيلة أقوى معنى من الوسيلة. وذلك أن التوسّل ليست له عصمة الوصل والصلة ؛ بل الصلة أصلها من اتصال الشىء بالشىء ، ومماسّته له ، وكونه فى أكثر الأحوال بعضا له ، كاتّصال الأعضاء بالإنسان ، وهى أبعاضه ، ونحو ذلك ، والتوسّل معنى يضعف ويصغر أن يكون المتوسّل جزءا أو كالجزء من المتوسّل إليه. وهذا واضح. فجعلوا الصاد لقوّتها ، للمعنى الأقوى ، والسين لضعفها ، للمعنى الأضعف.

٥١٠

ومن ذلك قولهم : (الخذا) فى الأذن ، (والخذأ : الاستخذاء) فجعلوا الواو فى خذواء ـ لأنها دون الهمزة صوتا ـ للمعنى الأضعف. وذلك أن استرخاء الأذن [ليس] من العيوب التى يسبّ بها ، ولا يتناهى فى استقباحها. وأما الذلّ فهو من أقبح العيوب ، وأذهبها فى المزراة والسبّ ، فعبّروا عنه بالهمزة لقوّتها ، وعن عيب الأذن المحتمل بالواو ، لضعفها. فجعلوا أقوى الحرفين لأقوى العيبين ، وأضعفهما لأضعفهما.

ومن ذلك قولهم : قد جفا الشىء يجفو ، وقالوا : جفأ الوادى بغثائه ، ففيهما كليهما معنى الجفاء ؛ لارتفاعهما ؛ إلا أنهم استعملوا الهمزة فى الوادى لما هناك من حفزه ، وقوّة دفعه.

ومن ذلك قولهم : صعد وسعد. فجعلوا الصاد ـ لأنها أقوى ـ لما فيه أثر مشاهد يرى ، وهو الصعود فى الجبل والحائط ، ونحو ذلك. وجعلوا السين ـ لضعفها ـ لما لا يظهر ولا يشاهد حسّا ، إلا أنه مع ذلك فيه صعود الجدّ ، لا صعود الجسم ؛ ألا تراهم يقولون : هو سعيد الجدّ ، وهو عالى الجدّ ، وقد ارتفع أمره ، وعلا قدره. فجعلوا الصاد لقوتها ، مع ما يشاهد من الأفعال المعالجة المتجشّمة ، وجعلوا السين لضعفها ، فيما تعرفه النفس وإن لم تره العين ، والدلالة اللفظية أقوى من الدلالة المعنوية.

فإن قلت : فكان يجب على هذا أن يكون الخذا فى الأذن مهموزا ، وفى الذلّ غير مهموز ؛ لأن عيب الأذن مشاهد ، وعيب النفس غير مشاهد ، قيل : عيب الأذن وإن كان مشاهدا ، فإنه لا علاج فيه على الأذن ، وإنما هو خمول وذبول ، ومشقّة الصاعد ظاهرة مباشرة معتدّة متجشّمة ، فالأثر فيها أقوى ، فكانت بالحرف الأقوى ـ وهو الصاد ـ أحرى.

ومن ذلك أيضا سدّ وصدّ. فالسّدّ دون الصّدّ ؛ لأن السدّ للباب يسدّ ، والمنظرة ونحوها ، والصّدّ جانب الجبل والوادى والشّعب ، وهذا أقوى من السدّ ، الذى قد يكون لثقب الكوز ورأس القارورة ونحو ذلك [فجعلوا الصاد لقوّتها ، للأقوى ، والسين لضعفها ، للأضعف].

ومن ذلك القسم والقصم. فالقصم أقوى فعلا من القسم ؛ لأن القصم يكون

٥١١

معه الدقّ ، وقد يقسم بين الشيئين فلا ينكأ أحدهما ، فلذلك خصّت بالأقوى الصاد ، وبالأضعف السين.

ومن ذلك تركيب (ق ط ر) و (ق د ر) و (ق ت ر) فالتاء خافية متسفّلة ، والطاء سامية متصعّدة ، فاستعملتا ـ لتعاديهما ـ فى الطّرفين ؛ كقولهم : قتر الشىء وقطره. والدال بينهما ، ليس لها صعود الطاء ولا نزول التاء ، فكانت لذلك واسطة بينهما ، فعبّر بها عن معظم الأمر ومقابلته ، فقيل لقدر الشىء لجماعه ومحرنجمه (١).

وينبغى أن يكون قولهم : قطر الإناء الماء ونحوه إنما هو (فعل) من لفظ القطر ومعناه. وذلك أنه إنما ينقط الماء عن صفحته الخارجة وهى قطره. فاعرف ذلك.

فهذا ونحوه أمر إذا أنت أتيته من بابه ، وأصلحت فكرك لتناوله وتأمّله ، أعطاك مقادته ، وأركبك ذروته ، وجلا عليك بهجاته ومحاسنه. وإن أنت تناكرته ، وقلت : هذا أمر منتشر ، ومذهب صعب موعر ؛ حرمت نفسك لذّته ، وسددت عليها باب الحظوة به.

نعم ، ومن وراء هذا ما اللطف فيه أظهر ، والحكمة أعلى وأصنع. وذلك أنهم قد يضيفون إلى اختيار الحروف وتشبيه أصواتها بالأحداث المعبّر عنها بها ترتيبها ، وتقديم ما يضاهى أوّل الحدث ، وتأخير ما يضاهى آخره ، وتوسيط ما يضاهى أوسطه ؛ سوقا للحروف على سمت المعنى المقصود ، والغرض المطلوب.

وذلك قولهم : بحث. فالباء لغلظها تشبه بصوتها خفقة الكفّ على الأرض ، والحاء لصحلها (٢) تشبه مخالب الأسد وبراثن الذئب ونحوهما إذا غارت فى الأرض ، والثاء للنفث ، والبث للتراب. وهذا أمر تراه محسوسا محصّلا ، فأىّ شبهة تبقى بعده ، أم أىّ شك يعرض على مثله. وقد ذكرت هذا فى موضع آخر من كتبى لأمر دعا إليه هناك. فأمّا هذا الموضع فإنه أهله وحقيق به ؛ لأنه موضوع له ولأمثاله.

ومن ذلك قولهم : شدّ الحبل ونحوه. فالشين بما فيها من التفشّى تشبّه بالصوت أوّل انجذاب الحبل قبل استحكام العقد ، ثم يليه إحكام الشدّ والجذب ، وتأريب

__________________

(١) محرنجمه : حيث يجتمع ، من قولهم : احرنجمت الإبل : اجتمعت.

(٢) الصحل : البحة فى الصوت.

٥١٢

العقد ، فيعبر عنه بالدال التى هى أقوى من الشين ، لا سيما وهى مدغمة ، فهو أقوى لصنعتها وأدلّ على المعنى الذى أريد بها. ويقال شدّ وهو يشدّ.

فأما الشدّة فى الأمر فإنها مستعارة من شدّ الحبل ونحوه ، لضرب من الاتّساع والمبالغة ؛ على حدّ ما نقول فيما يشبه بغيره لتقوية أمره المراد به.

ومن ذلك أيضا جرّ الشىء يجره ؛ قدّموا الجيم لأنها حرف شديد ، وأوّل الجرّ بمشقّة على الجارّ والمجرور جميعا ، ثم عقّبوا ذلك بالراء ، وهو حرف مكرر ، وكرّروها مع ذلك فى نفسها. وذلك لأن الشىء إذا جرّ على الأرض فى غالب الأمر اهتزّ عليها ، واضطرب صاعدا عنها ، ونازلا إليها ، وتكرر ذلك منه على ما فيه من التعتعة والقلق. فكانت الراء ـ لما فيها من التكرير ، ولأنها أيضا قد كررت فى نفسها فى (جرّ) و (جررت) ـ أوفق لهذا المعنى من جميع الحروف غيرها. هذا هو محجّة هذا ومذهبه.

فإن أنت رأيت شيئا من هذا النحو لا ينقاد لك فيما رسمناه ، ولا يتابعك على ما أوردناه ، فأحد أمرين : إما أن تكون لم تنعم النظر فيه فيقعد بك فكرك عنه ، أو لأن لهذه اللغة أصولا وأوائل قد تخفى عنا وتقصر أسبابها دوننا [كما قال سيبويه :] أو لأن الأوّل وصل إليه علم لم يصل إلى الآخر.

فإن قلت : فهلا أجزت أيضا أن يكون ما أوردته فى هذا الموضع شيئا اتّفق ، وأمرا وقع فى صورة المقصود ، من غير أن يعتقد [وما الفرق]؟.

قيل : فى هذا حكم بإبطال ما دلّت الدلالة عليه من حكمة العرب التى تشهد بها العقول ، وتتناصر إليها أغراض ذوى التحصيل. فما ورد على وجه يقبله القياس ، وتقتاد إليه دواعى النظر والإنصاف ، حمل عليها ، ونسبت الصنعة فيه إليها. وما تجاوز ذلك فخفى لم توأس النفس منه ، ووكل إلى [مصادقة النظر فيه] ، وكان الأحرى به أن يتّهم الإنسان نظره ، ولا يخفّ إلى ادّعاء النقض فيما قد ثبّت الله أطنابه ، وأحصف بالحكمة أسبابه. ولو لم يتنبّه (على ذلك) إلا بما جاء عنهم من تسميتهم الأشياء بأصواتها ؛ كالخازباز لصوته ، والبطّ لصوته ، والخاقباق لصوت الفرج عند الجماع. والواق للصرد (١) لصوته ، وغاق للغراب لصوته ،

__________________

(١) الصرد : طائر فوق العصفور. والواق (بكسر القاف حكاية لصوته).

٥١٣

(وقوله) (تداعين باسم الشيب) لصوت مشافرها ، وقوله :

بينما نحن مرتعون بفلج

قالت الدّلّح الرواء إنيه (١)

فهذا حكاية لرزمة السحاب وحنين الرعد ، وقوله :

* كالبحر يدعو هيقما وهيقما (٢) *

وذلك لصوته. ونحو منه قولهم : حاحيت ، وعاعيت ، وهاهيت ؛ إذا قلت : حاء ، وعاء ، وهاء. وقولهم : بسملت ، وهيللت ، وحولقت ؛ كل ذلك (وأشباهه) إنما يرجع فى اشتقاقه إلى الأصوات. والأمر أوسع.

[ومن طريف ما مرّ بى فى هذه اللغة التى لا يكاد يعلم بعدها ، ولا يحاط بقصيها ، ازدحام الدال ، والتاء ، والطاء ، والراء ، واللام ، والنون ، إذا مازجتهن الفاء على التقديم والتأخير ، فأكثر أحوالها ومجموع معانيها أنها للوهن والضعف ونحوهما].

من ذلك (الدالف) للشيخ الضعيف ، والشىء التالف ، والطليف ، (والظليف) (٣) المجّان وليست له عصمة الثمين ، والطنف ، لما أشرف خارجا عن البناء وهو إلى الضعف ، لأنه ليست له قوّة الراكب الأساس والأصل ، والنطف : العيب ، (وهو إلى الضعف) ، والدنف : المريض. ومنه (التنوفة) وذلك لأن الفلاة إلى الهلاك ؛ ألا تراهم يقولون لها : مهلكة ، وكذلك قالوا لها : بيداء ، فهى فعلاء من باد يبيد.

ومنه الترفة ، لأنها إلى اللين والضعف ، وعليه قالوا : الطرف ؛ لأن طرف الشىء أضعف من قلبه وأوسطه ، قال الله سبحانه (أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُها مِنْ أَطْرافِها) [الرعد : ٤١]. وقال الطائىّ الكبير :

__________________

(١) البيت من الخفيف ، وهو بلا نسبة فى لسان العرب (قول) ، وكتاب العين ٣ / ١٣٧ ، ومقاييس اللغة ٢ / ٢٩٥ ، ومجمل اللغة ٢ / ٢٨٦ ، وأساس البلاغة (دلج) ، وتاج العروس (قول) ، (أنه). الهيقم : حكاية صوت اضطراب البحر.

(٢) الرجز لرؤبة فى ملحق ديوانه ص ١٨٤ ، ولسان العرب (هقم) ، وتاج العروس (هقم) ، وتهذيب اللغة ٦ / ٣ ، ٧ / ٤١ ، وجمهرة اللغة ص ٩٧٨ ، ١١٧٠ ، وكتاب العين ٣ / ٣٧٢ ، ومجمل اللغة ٤ / ٤٧٣ ، ومقاييس اللغة ٦ / ٥٨ ، وتاج العروس (خيقم).

(٣) الظليف لغة فى الطليف. ويقال : ذهب به مجانا وظليفا وطليفا إذا أخذه بغير ثمن.

٥١٤

كانت هى الوسط الممنوع فاستلبت

ما حولها الخيل حتى أصبحت طرفا

ومنه (الفرد) لأن المنفرد إلى الضعف والهلاك ما هو ؛ قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «المرء كثير بأخيه» (١). والفارط المتقدّم ، وإذا تقدّم انفرد ، وإذا انفرد (أعرض للهلاك) ولذلك ما يوصف بالتقدّم ويمدح به لهول مقامه وتعرّض راكبه.

وقال محمد بن حبيب فى الفرتنى الفاجرة : إنها من الفرات ، وحكم بزيادة النون والألف. فهى على هذا كقولهم لها (هلوك). قال الهذلىّ :

السالك الثغرة اليقظان كالئها

مشى الهلوك عليها الخيعل الفضل (٢)

وقياس مذهب سيبويه أن تكون (فرتنى) فعللى رباعية كجحجبى. ومنه الفرات لأنه الماء العذب ، وإذا عذب الشىء ميل عليه ونيل منه ؛ ألا ترى إلى قوله :

ممقر مرّ على أعدائه

وعلى الأدنين حلو كالعسل (٣)

وقال الآخر :

تراهم يغمزون من استركّوا

ويجتنبون من صدق المصاعا (٤)

ومنه الفتور للضعف ، والرفت للكسر ، والرديف ، لأنه ليس له تمكّن الأوّل.

__________________

(١) «ضعيف» أخرجه ابن أبى الدنيا فى «الإخوان» من حديث سهل بن سعد ، وانظر الضعيفة (١٨٩٥).

(٢) البيت من البسيط ، وهو للمتنخل الهذلى فى تذكرة النحاة ص ٣٤٦ ، وخزانة الأدب ٥ / ١١ ، وشرح أشعار الهذليين ٣ / ١٢٨١ ، والشعر والشعراء ٢ / ٦٦٥ ، ولسان العرب (خعل) ، (فضل) ، والمعانى الكبير ص ٥٤٣ ، والمقاصد النحوية ٣ / ٥١٦ ، وللهذلى فى سر صناعة الإعراب ٢ / ٦١١ ، وبلا نسبة فى خزانة الأدب ٥ / ١٠١ ، والدرر ٣ / ٦٠ ، ٦ / ١٨٩ ، وشرح الأشمونى ٢ / ٣٣٧ ، وشرح عمدة الحافظ ص ٧٠١ ، وهمع الهوامع ١ / ١٨٧ ، ٢ / ١٤١. الثغرة موضع المخافة ، وكالئها : حافظها. والخيعل : ثوب يخاط أحد شقيه ويترك الآخر.

(٣) البيت من الرمل ، وهو للبيد فى ديوانه ص ١٩٧ ، ولسان العرب (مقر) ، وتهذيب اللغة ٩ / ١٤٩ ، وديوان الأدب ٢ / ٣٠٠ ، وأساس البلاغة (مقر) ، وتاج العروس (مقر).

(٤) البيت من الوافر ، وهو للقطامى فى ديوانه ص ٣٥ ، ولسان العرب (مصع) ، (ركك) ، وتهذيب اللغة ٢ / ٦٣ ، ٩ / ٤٤٥ ، وأساس البلاغة (ركك) ، (مصع) ، وتاج العروس (مصع) ، (ركك).

٥١٥

ومنه الطّفل للصبىّ لضعفه ، والطّفل للرّخص ، وهو ضدّ الشّثن ، والتفل للريح المكروهة ، فهى منبوذة مطروحة. وينبغى أن تكون (الدّفلى) (١) من ذلك لضعفه عن صلابة النّبع والسّراء والتنضب ، والشّوحط. وقالوا : الدفر للنتن ، وقالوا للدنيا (أمّ دفر) سبّ لها وتوضيع منها. ومنه (الفلتة) لضعفة الرأى ، وفتن المغزل ، لأنه تثنّ واستدارة ، وذاك إلى وهى وضعفة ، والفطر : الشقّ ، وهو إلى الوهن.

الآن قد أنّستك بمذهب القوم فيما هذه حاله ، ووقفتك على طريقه ، وأبديت لك عن مكنونه ، وبقى عليك أنت التنبّه لأمثاله ، وإنعام الفحص عمّا هذه حاله ؛ فإننى إن زدت على هذا مللت وأمللت. ولو شئت لكتبت من مثله أوراقا مئين ، فأبه له ولا طفه ، ولا تجف عليه فيعرض عنك ولا يبهأ بك.

* * *

__________________

(١) الدفلى : شجر مرّ أخضر يكون فى الأودية.

٥١٦

باب فى مشابهة معانى الإعراب معانى الشعر

نبّهنا أبو على رحمه‌الله من هذا الموضع على أغراض حسنة. من ذلك قولهم فى (لا) النافية للنكرة : إنها تبنى معها ، فتصير كجزء من الاسم ؛ نحو لا رجل فى الدار ، ولا بأس عليك ، وأنشدنا فى هذا المعنى [قوله] :

خيط على زفرة فتمّ ولم

يرجع إلى دقّة ولا هضم (١)

وتأويل ذلك أن هذا الفرس لسعة جوفه وإجفار محزمه (٢) كأنه زفر فلمّا اغترق نفسه بنى على ذلك ، فلزمته تلك الزفرة فصيغ عليها لا يفارقها [كما أن الاسم بنى مع لا حتى خلط بها لا تفارقه ولا يفارقها] وهذا موضع متناه فى حسنه ، آخذ بغاية الصنعة من مستخرجه.

ومثله أيضا من وصف الفرس :

* بنيت معاقمها على مطوائها (٣) *

أى كأنها تمطّت فلمّا تناءت أطرافها ، ورحبت شحوتها (٤) ، صيغت على ذلك.

ومن ذلك قولهم : ما أدرى أأذن أو أقام ، إذا قالها بأو ، لا بأم. فهو أنه لم يعتدّ أذانه أذانا ولا إقامته إقامة ؛ لأنه لم يوفّ ذلك حقّه ، فلمّا ونى فيه لم يثبت له شيئا منه.

قال : فمثل ذلك قول عبيد :

__________________

(١) البيت من المنسرح ، وهو للنابغة الجعدى فى ديوانه ص ١٥٦ ، ولسان العرب (زفر) ، (هضم) ، وتهذيب اللغة ١٣ / ١٩٣ ، وأساس البلاغة (زفر) ، وتاج العروس (هضم) ، والمعانى الكبير ص ١٣٩ ، وبلا نسبة فى جمهرة اللغة ص ٧٠٦ ، والمخصص ١٤ / ١٤٦.

(٢) إجفار محزمه : سعة وسطه.

(٣) عجز بيت من الكامل ، وهو للمسيب بن علس فى ديوان بنى بكر ص ٥٩٩ ، وأساس البلاغة ص ٤٣٢ (مطو) ، وبلا نسبة فى لسان العرب (هضم).

(٤) الشحوة : الخطوة.

٥١٧

أعاقر كذات رحم

أم غانم كن يخيب (١)

فكان ينبغى أن يعادل بقوله : «ذات رحم» نقيضتها فيقول : أغير ذات رحم كذات رحم ، وهكذا أراد لا محالة ، ولكنه جاء بالبيت على المسألة. وذلك أنه لمّا لم تكن العاقر ولودا صارت وإن كانت ذات رحم كأنها لا رحم لها ؛ فكأنه قال : أغير ذات رحم كذات رحم ؛ كما أنه لمّا لم يوفّ أذانه ولا إقامته حقّهما لم يثبت له واحدا منهما ؛ لأنه قاله بأو ، ولو قال : ما أدرى أأذن أم أقام [بأم] لأثبت له أحدهما لا محالة.

ومن ذلك قول النحويين : إنهم لا يبنون من ضرب وعلم ، وما كانت عينه لاما ، أو راء مثل عنسل. قالوا : لأنا نصير به إلى ضنرب وعنلم ، فإن أدغمنا ألبس بفعّل ، وإن أظهرنا النون قبل الراء واللام ثقلت ؛ فتركنا بناءه أصلا. وكان ينشد فى هذا المعنى قوله :

فقال : ثكل وغدر أنت بينهما

فاختر وما فيهما حظّ لمختار (٢)

وقول الآخر :

رأى الأمر يفضى إلى آخر

فصيّر آخره أوّلا

ووجدت أنا من هذا الضرب أشياء صالحة.

منها أن الشعر المجزوء إذا لحق ضربه قطع لم تتداركه العرب بالردف. وذلك أنه لا يبلغ من قدره أن يفى بما حذفه الجزء ؛ فيكون هذا أيضا [كقولهم للمغنّى غير المحسن : تتعب ولا أطرب]. ومنهم من يلحق الردف على كل حال. فنظير معنى هذا معنى قول الآخر :

* ومبلغ نفس عذرها مثل منجح (٣) *

__________________

(١) البيت من مجزوء البسيط ، وهو لعبيد بن الأبرص فى ديوانه ص ١٣ ، ولسان العرب (رحم) ، وتاج العروس (رحم).

(٢) البيت من البسيط وهو للأعشى فى ديوانه ص ٢٢٩ ، ولسان العرب (عبد).

(٣) عجز بيت من الطويل ، وهو لعروة بن الورد فى ديوانه ص ٢٣ ، وزهر الأكم ١ / ١٥١ ، وبلا نسبة فى أساس البلاغة ص ٤٤٦ (نجح).

٥١٨

وقول الآخر :

فإن لم تنل مطلبا رمته

فليس عليك سوى الاجتهاد

ومن ذلك قول من اختار إعمال الفعل الثانى لأنه العامل الأقرب ؛ نحو ضربت وضربنى زيد ، وضربنى وضربت زيدا. فنظير معنى هذا معنى قول الهذلىّ :

بلى إنها تعفو الكلوم وإنما

نوكّل بالأدنى وإن جلّ ما يمضى (١)

وعليه قول أبى نواس :

أمر غد أنت منه فى لبس

وأمس قد فات فاله عن أمس

فإنما العيش عيش يومك ذا

فباكر الشمس بابنة الشمس

ومنه قول تأبّط شرّا : وما قدم نسى ، ومن كان ذا شرّ خشى ، فى كلام له ، وقوله :

* وإذا مضى شيء كأن لم يفعل (٢) *

وقول الآخر ، أنشدناه أبو على عن أبى بكر عن أبى العباس عن أبى عثمان عن الأصمعىّ عن أبى عمرو أن رجلا من أهل نجد أنشده :

حتى كأن لم يكن إلا تذكّره

والدهر أيّتما حال دهارير (٣)

ومن ذلك أيضا قول شاعرنا :

__________________

(١) البيت من الطويل ، وهو لأبى خراش الهذلى فى أمالى المرتضى ١ / ١٩٨ ، وخزانة الأدب ٥ / ٤٠٥ ، ٤١٥ ، وسمط اللآلى ص ٦٠١ ، وشرح أشعار الهذليين ٣ / ١٢٣٠ ، وشرح ديوان الحماسة للمرزوقى ص ٧٨٦ ، وشرح شواهد المغنى ١ / ٤٢١ ، وشرح المفصل ٣ / ١١٧ ، والشعر والشعراء ٢ / ٦٦٨ ، وبلا نسبة فى أمالى ابن الحاجب ص ٤٥٣ ، والمحتسب ٢ / ٢٠٩ ، ومغنى اللبيب ١ / ١٤٥.

(٢) عجز بيت من الكامل ، وهو لأبى كبير الهذلى فى شرح أشعار الهذليين ص ١٠٨٠ ، ولسان العرب (وا) ، وتهذيب اللغة ١٥ / ٦٧٥ ، والجنى الدانى ص ١٦٦ ، ومجالس ثعلب ص ١٢٦.

(٣) البيت من البسيط ، وهو لحريث بن جبلة العذرى فى شرح أبيات سيبويه ١ / ٣٦٠ ، وله أو لعثير بن لبيد العذرى فى لسان العرب (دهر) ، وبلا نسبة فى الأشباه والنظائر ٢ / ١٣٩ ، وجمهرة اللغة ص ٦٤١ ، وسمط اللآلى ص ٨٠٠ ، والكتاب ١ / ٢٤٠ ، ومجالس ثعلب ١ / ٢٦٦ ، والمخصص ٩ / ٦٢.

٥١٩

خذ ما تراه ودع شيئا سمعت به

فى طلعة الشمس ما يغنيك عن زحل

ومما جاء فى معنى إعمال الأول قول الطائىّ الكبير :

نقّل فؤادك حيث شئت من الهوى

ما الحبّ إلا للحبيب الأول

وقول كثيّر :

ولقد أردت الصبر عنك فعاقنى

علق بقلبى من هواك قديم (١)

وقول الآخر :

تمرّ به الأيام تسحب ذيلها

فتبلى به الأيام وهو جديد

ومن ذلك ما جاء عنهم من الجوار فى قولهم : هذا جحر ضبّ خرب ، وما يحكى أن أعرابيا أراد امرأة له ، فقالت له : إنى حائض ، فقال : فأين الهنة الأخرى ، فقالت له : اتّق الله ، فقال :

كلا وربّ البيت ذى الأستار

لأهتكنّ حلق الحتار

قد يؤخذ الجار بجرم الجار (٢)

ومنه قول العرب : أعطيتك إذ سألتنى ، وزدتك إذ شكرتنى. فـ «إذ» معمولة العطيّة والزيادة ، وإذا عمل الفعل فى ظرف ، زمانيّا كان أو مكانيّا ، فإنه لا بدّ أن يكون واقعا فيه ، وليست العطيّة واقعة فى وقت المسألة ، وإنما هى عقيبه ؛ لأن المسألة سبب العطيّة ، والسبب جار مجرى العلّة ، فيجب أن يتقدم المعلول والمسبّب ؛ لكنه لمّا كانت العطية مسبّبة عن المسألة وواقعة على أثرها ، وتقارب وقتاهما ، صارا لذلك كأنهما فى وقت واحد. فهذا تجاور فى الزمان ؛ كما أن ذاك تجاور فى الإعراب.

__________________

(١) البيت من الكامل ، وهو لكثير فى ديوانه ص ٢٠٦ ، ولسان العرب (علق) ، ولابن الدثئية فى تاج العروس (علق).

(٢) الرجز بلا نسبة فى لسان العرب (حنز) ، وتاج العروس (حنز) ، وكتاب العين ٣ / ١٩٠. الحتار : حلقة الدبر.

٥٢٠