الخصائص - ج ١

أبي الفتح عثمان بن جنّي

الخصائص - ج ١

المؤلف:

أبي الفتح عثمان بن جنّي


المحقق: الدكتور عبد الحميد الهنداوي
الموضوع : اللغة والبلاغة
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ٣
ISBN: 978-2-7451-3245-1
الصفحات: ٥٤٤

١
٢

بسم الله الرّحمن الرّحيم

مقدمة المحقق

الحمد لله على ما خصّ به أهل الإيمان من الخصائص ، وأصلى وأسلم على أكمل الخلق المنزه عن العيوب والنقائص.

وبعد ؛ فقد عهد إلى قيم دار الكتب العلمية حفظه الله بأن أتولى العناية بكتاب الخصائص لابن جنى لرغبة الدار فى طبعه ونشره.

وكنت أقدم فى هذا الأمر رجلا وأؤخر أخرى لأمرين :

أولهما : صعوبة العمل فى مثل هذا الكتاب الذى يعد بحق موسوعة لغوية متكاملة.

ثانيهما : جودة النشرة السابقة للأستاذ / محمد على النجار ، جزاه الله على عمله خير الجزاء.

ولكن هذا العمل الجليل قد سال له لعاب فكرى لا لشيء إلا لرغبتى فى مصاحبة ابن جنى فى هذا الكتاب والتتلمذ على يديه.

والحق أن هذه المرة لم تكن هى الأولى فى جلوسى بين يدى هذا الجهبذ الفذ ؛ بل تتلمذت على يديه من قبل وأطلت الوقوف أمام كتابه هذا خاصة ، بل لا أبعد إذا قلت إننى قد نخلته نخلا ، وذلك فى دراستى للدكتوراة فى موضوع يعد جدّ لصيق بمادة كتاب الخصائص ، ألا وهو (التوظيف البلاغى لصيغة الكلمة).

وقد تصفحت ما جاء عن الأقدمين فى هذا الباب فوجدت أن ابن جنّى هو صاحبه ، والعلم فيه بلا منافس.

ولو لا ما أشار إليه ابن جنى من إشارات السابقين قبله فى هذا الباب كالخليل وسيبويه لكان جهد هؤلاء نسيا منسيا ، وذلك لكونه مجرد إشارات سريعة ، قلما يتفطن إليها إلا من كان هذا الأمر همّه.

ثم كان جلوسى بين يدى ابن جنى بعد ذلك فى بحث قدمته بعد الدكتوراة استوحيت فكرته من كلام ابن جنى فى باب فى إمساس الألفاظ أشباه المعانى فى هذا

٣

السفر العظيم كذلك أعنى كتاب الخصائص هذا.

وقد رأيت ـ إبرازا لجهود ابن جنى فى هذا المجال ـ أن أعرض هنا فى صدر هذا الكتاب هذا البحث الذى كنت قد نشرته فى صحيفة كلية دار العلوم فى عدد ديسمبر سنة ١٩٩٩ ، عن الدلالة الفنية للأصوات نظرا لأنى أعد ابن جنى رائد هذا البحث وصاحب الفضل الأول فى نتائجه ، فضلا عن أن جلّ مادته قد أفدناها عن كتابه هذا الذى نحن بصدد الترجمة له.

* * *

٤

منهج التحقيق

أما عن منهجنا فى تحقيق الكتاب فيتلخص فى :

١ ـ ضبط متن الكتاب على أدق نسخه المتداولة واعتماد نشرة الأستاذ النجار كأصل مقدم ، والإفادة من فروق النسخ الأخرى والترجيح بينها حسبما يقتضى السياق.

٢ ـ تخريج ما وسعنا الوقوف على مصادره من شواهد هذا الكتاب من حيث القراءات والروايات الحديثية والشواهد الشعرية والأمثال والأقوال وغير ذلك.

٣ ـ شرح أغرب الغريب باختصار وإيجاز.

٤ ـ الترجمة لأهم الأعلام لا سيما اللغويون.

٥ ـ الترجمة للمصنف ابن جنى.

٦ ـ الفهارس العلمية المفصلة الشاملة للغة بجميع علومها من نحو وصرف ولغة واشتقاق وغير ذلك.

٧ ـ فهرسة جميع شواهد الكتاب القرآنية والحديثية والشعرية والنثرية ... إلخ.

هذا ، ولم نأل جهدا فى ضبط هذا الكتاب ، وشرح وتخريج شواهده ، وشرح غريبه ، والكلام على أهم مسائله العلمية بما فتح علينا به ، مع ما قدمنا به من بحث عن جهود ابن جنى فى الدلالة الفنية للأصوات وإن لم يكن البحث قاصرا على جهود ابن جنى وحده ، ولكن أردنا إيراده بكماله محافظة على سياقه.

وفى نهاية هذا التقديم أدعو الله تعالى أن يجزل لنا المثوبة فى هذا الكتاب ، وأن يجزى عنا خير الجزاء ، كل من شارك فيه معنا بجهد مشكور.

وكتبه

عبد الحميد هنداوى

 غفر الله له ولوالديه وللمسلمين

 الجيزة فى غرة ربيع الأول ١٤٢١ ه

٥

ترجمة ابن جنى

اسمه ونسبه :

هو عثمان بن جنّى ـ بكسر الجيم وتشديد النون وسكون الياء معرب كنّى ـ الأديب الموصلى ، أبو الفتح. كان أبوه ـ جنى ـ مملوكا روميا لسليمان بن فهد بن أحمد الأزدى الموصلى. ولا يعرف عن أبيه أين كان قبل مجيئه الموصل.

ولما كان ابن جنى من أصل غير عربى ؛ فقد كان يشعر بضعة عند الناس ، فكان ينتصف لنفسه ومن ذلك قوله فى قصيدة له :

فإن أصبح بلا نسب

فعلمى فى الورى نسبى

على أنى أئول إلى

قروم سادة نجب

قياصرة إذا نطقوا

أرم الدهر ذو الخطب

أولاك دعا النبى لهم

كفى شرفا دعاء نبى (١)

مولده ووفاته :

ولد فى الموصل قبل سنة ثلاثمائة ، وقيل قبل سنة ثلاثين وثلاثمائة ، على اختلاف فى تعيين سنة الميلاد ؛ فقيل سنة ٣٠٠ ه‍ ، وقيل سنة ٣٢٢ ه‍ وتوفى فى بغداد سنة ٣٩٢ ه‍ فى خلافة القادر بالله.

نشأته :

نشأ ابن جنى بالموصل ، وأخذ النحو عن الأخفش أحمد بن محمد الموصلى الشافعى ، وقرأ الأدب فى صباه على أبى على الفارسى وسمع جماعة من المواصلة والبغداديين.

صفاته :

كان ابن جنى أعور ، يقول المترجمون له : إنه كان ممتعا بإحدى عينيه ، كناية عن العور.

ومما ينبئ عن عوره قوله هو فى التشوق لصديق له :

__________________

(١) يقصد بدعاء النبى ؛ دعاءه صلى‌الله‌عليه‌وسلم لقيصر الروم بتثبيت ملكه عند إعظامه لكتاب النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

٦

صدودك عنى ولا ذنب لى

دليل على نية فاسده

فقد وحياتك مما بكيت

خشيت على عينى الواحدة

ولو لا مخافة ألا أراك

لما كان فى تركها فائده

وفى هذه الأبيات شك فى نسبتها إليه ولكن الشك فى نسبتها إليه لا يشكك فى عوره.

وكان من عادته فى الحديث الإشارة بيديه وشفتيه لأنه يعتقد أن الإشارة أبلغ فى إيضاح المعنى وتبسيطه للسامع. فيقول هو فى كتابه هذا : «وعلى هذا قالوا : رب إشارة أبلغ من عبارة» وقال الأستاذ محمد على النجار فى ترجمته لابن جنى : «وقد يجوز أن ابن جنى كان فى لسانه لكنة لمكانه من العجمة من جهة أبيه ، فكان يستعين على إيضاح ما يريد بالإشارة».

وكان ابن جنى رجل جد وامرأ صدق فى فعله وقوله فلم يعرف عنه اللهو والشرب والمجون ، وكان عف اللسان والقلم يتجنب البذيء من الألفاظ. ولم يكن همه رضاء الملوك ومنادمتهم كأدباء عصره.

شيوخه :

أخذ ابن جنى النحو عن الأخفش وبعده عن أبى على الفارسى ، وأخذ عن كثير من رواة اللغة والأدب منهم أبو بكر محمد بن الحسن المعروف بابن مقسم وهو من القراء ، ويروى عنه ابن جنى أخبار ثعلب وعلمه ، ويروى أيضا عن محمد بن سلمة عن المبرد ، وغير هؤلاء كثير.

كما يروى ابن جنى عن الأعراب الذين لم تفسد لغتهم «وكان يتثبت فى أمرهم وصدقهم قبل الرواية عنهم ، وممن أخذ عنهم وكان يثق بلغتهم أبو عبد الله محمد بن العساف العقيلى التميمى وقد يذكره باسم أبى عبد الله الشجرى. ويتضح من روايات ابن جنى خلال هذا الكتاب الرواة الذين نقل عنهم والعلماء الذين استشهد بكلامهم وآرائهم.

صحبته لأستاذه أبى على الفارسى :

يقول صاحب نزهة الألباء ص ٣٣٣ :

«وكان سبب صحبته إياه أن أبا على الفارسى كان قد سافر إلى الموصل فدخل إلى

٧

الجامع ، فوجد أبا الفتح عثمان بن جنى يقرأ النحو وهو شاب ، وكان بين يديه متعلم وهو يكلمه فى قلب الواو ألفا نحو (قام) و (قال) ، فاعترض عليه أبو على ، فوجده مقصرا ، فقال له أبو على : «زبّبت قبل تحصرم .. ثم قام أبو على ولم يعرفه ابن جنى ، فسأل عنه ، فقيل له : هذا أبو على الفارسى النحوى. فأخذ فى طلبه فوجده ينزل إلى السّميريّة ، يقصد بغداد ، فنزل معه فى الحال ولزمه وصحبه من حينئذ إلى أن مات أبو على ، وخلفه ابن جنى ، ودرس النحو ببغداد بعده وأخذ عنه. وكان تبحر ابن جنى فى علم التصريف ، لأن السبب فى صحبته أبا على وتغربه عن وطنه ومفارقة أهله مسألة تصريفية ، فحمله ذلك على التبحر والتدقيق فيه».

وتجمع الروايات على أن أبا الفتح صحب أبا على بعد سنة ٣٣٧ ه‍ ولازمه فى السفر والحضر ، وأخذ عنه ، وصنف كتبه فى حياة أستاذه ، فاستجادها ووقعت عنده موضع القبول.

يقول ابن جنى عن أستاذه أبى على الفارسى فى كتابه هذا :

«ولله هو ، وعليه رحمته! فما كان أقوى قياسه ، وأشد بهذا العلم اللطيف الشريف أنسه ، فكأنه إنما كان مخلوقا له ، وكيف لا يكون كذلك وقد أقام على هذه الطريقة مع جلة أصحابها وأعيان شيوخها سبعين سنة ، زائحة علله ، ساقطة عنه كلفه وجعله همه وسدمه. لا يعتافه عنه ولد ، ولا يعارضه فيه متجر ، ولا يسوم به مطلبا ، ولا يخدم به رئيسا إلا بأخرة ، وقد حط عنه أثاله ، وألقى عصا ترحاله».

ويظهر إجلال أبى على لأبى الفتح من قول أبى الفتح فى الخصائص ، فى باب فيما يرد عن العربى مخالفا لما عليه الجمهور ، قال : «دخلت يوما على أبى على رحمه‌الله خاليا آخر النهار فحين رآنى قال لى : أين كنت؟ أنا أطلبك. قلت : وما ذلك؟ قال : ما تقول فيما جاء عنهم من حوريت؟ فخضنا معا فيه ، فلم نحل بطائل منه. فقال : هو من لغة اليمن ومخالف للغة ابنى نزار ، فلا ينكر أن يجيء مخالفا لأمثلتهم».

صحبته للمتنبى :

اجتمع ابن جنى بالمتنبى فى حلب عند سيف الدولة بن حمدان ، وفى شيراز عند عضد الدولة البويهى ، وكان المتنبى يجله ويقول فيه : هذا رجل لا يعرف قدره كثير من الناس ، وكان المتنبى إذا سئل عن شيء من دقائق النحو والتصريف فى شعره ، يقول :

٨

سلوا صاحبنا أبا الفتح.

وكان ابن جنى يعجب بالمتنبى ويستشهد بشعره فى المعانى ، وهو أول من شرح ديوانه ، وله فى ذلك شرحان : شرح كبير وآخر صغير.

ويذكر الأستاذ محمد على النجار فى ترجمته لابن جنى نقلا عن «البديعى فى الصبح المنبى» قصة تنبئ عن إعجاب ابن جنى بالمتنبى ـ وعن وجوده بشيراز حين كان المتنبى هناك ، وذلك فى آخر حياة المتنبى ، فقد قتل بدير العاقول عند منصرفه من شيراز ؛ ذلك أن أبا على كان إذ ذاك بشيراز «وكان إذا مر به أبو الطيب يستثقله على قبح زيه وما يأخذ به نفسه من الكبرياء. وكان لابن جنى هوى فى أبى الطيب كثير الإعجاب بشعره لا يبالى بأحد يذمه أو يحط منه وكان يسوؤه إطناب أبى على فى ذمه ، واتفق أن قال أبو على يوما : اذكروا لنا بيتا من الشعر نبحث فيه ، فبدأ ابن جنى وأنشد :

حلت دون المزار فاليوم لو زر

ت لحال النحول دون العناق

فاستحسنه أبو على واستعاده. وقال : لمن هذا البيت فإنه غريب المعنى؟ فقال ابن جنى : للذى يقول :

أزورهم وسواد الليل يشفع لى

وأنثنى وبياض الصبح يغرى بى

فقال : والله هذا أحسن ، بديع جدا ، فلمن هما؟ قال للذى يقول :

أمضى إرادته فسوف له قد

واستقرب الأقصى فثمّ له هنا

فكثر إعجاب أبى على ، واستغرب معناه ، وقال : لمن هذا؟ فقال ابن جنى للذى يقول :

ووضع الندى فى موضع السيف بالعلا

مضر كوضع السيف فى موضع الندى

فقال : هذا والله أحسن! والله لقد أطلت يا أبا الفتح ، فأخبرنا من القائل؟ فقال : هو الذى لا يزال الشيخ يستثقله ، ويستقبح زيه وفعله. وما علينا من القشور إذا استقام اللب! قال أبو على أظنك تعنى المتنبى. قلت نعم».

ولابن جنى مرثية فى المتنبى مطلعها :

غاض القريض وأورت نضرة الأدب

وصوّحت بعد ريّ دوحة الكتب

٩

أثر ابن جنى فيمن بعده :

«فتح ابن جنى فى العربية أبوابا لم يتسن فتحها لسواه. ووضع أصولا فى الاشتقاق ومناسبة الألفاظ للمعانى ، وإهمال ما أهمل من الألفاظ وغير ذلك ، وكان بذلك إماما يحتاج إلى أتباع يمضون فى سبيله ، ويبنون على بحوثه ، وإذا لنضجت أصوله وبلغت إناها ، ولكنه لم يرزق هؤلاء الأتباع. على أنه أتيح له لغوى كبير أغار على فوائده وبحوثه اللغوية. ذلك هو ابن سيده على بن أحمد المتوفى ٤٥٨ ه‍ وهو كثير ما يغفل العزو إليه فى كتابه المحكم ، ويأتى صاحب اللسان فينقل ما فى ابن سيده وينسبه إليه وهو لابن جنى» (١).

وكذلك نجد ابن سنان الخفاجى عبد الله بن محمد المتوفى ٤٦٦ ه‍. صحاب سر الفصاحة ينقل كثيرا عن ابن جنى ويستشهد بكلامه ، وفى نفس الوقت قد يتجه إلى نقده عند اختلافه معه.

ومن القرن السابع الهجرى نجد ابن الأثير نصر الله بن محمد المتوفى سنة ٦٣٣ ه‍ صاحب المثل السائر وقد يعترض على ابن جنى وينتقده ، ومع ذلك ينقل عنه ولا يعزو إليه.

اللغة عند ابن جنى :

كان ابن جنى واسع الرواية والدراية فى اللغة يتضح ذلك من أبواب بوبها فى كتابه هذا الخصائص ، قال : «باب فى الشىء يسمع من الفصيح ولا يسمع من غيره»

ويتضح ذلك أيضا من مطالعة اللسان وكثرة العزو فيه إلى ابن جنى وقد يقول صاحب اللسان : «ولا أعلم هذا القول من غير ابن جنى».

عقيدة ابن جنى :

لم يعرف عن ابن جنى أنه كان شيعيا ، وإن كان الظاهر من أمره ذلك ، والأظهر أنه إنما كان يصانعهم ، وكان من دواعى مصانعته لهم أن كان ذوو السلطان من آل بويه منهم ، وهو كان متصلا بهم صلة قوية وكان البويهيون يحرصون على إظهار شعائر الشيعة.

__________________

(١) انظر ترجمة الأستاذ محمد على النجار لابن جنى فى تحقيقه لهذا الكتاب ص ٢٩.

١٠

وإنما كان التقريب فى عصره لمن تشيع أو انتسب إلى الفرس وذلك لأن الأمراء منهم وهنا طرفة ذكرها الأستاذ / محمد على النجار نقلا عن نزهة الألباء فى ترجمة الربعى على بن عيسى ، قال : «إن على بن عيسى الربعى كان على شاطئ دجلة فى يوم شديد الحر فاجتاز عليه الشريف المرتضى فى سفينة ومعه ابن جنى ، وعليهما مظلة تظلهما من الشمس ، فهتف الربعى بالمرتضى وقال له : ما أحسن هذا التشيع! علىّ تتقلى كبده فى الشمس من شدة الحر ، وعثمان عندك فى الظل تحت المظلة لئلا تصيبه الشمس! فقال المرتضى للملاح : جد وأسرع قبل أن يسبنا».

مذهبه الفقهى :

يبدو أن ابن جنى كان حنفى المذهب ، ويتضح ذلك من إشاراته فى هذا الكتاب إلى هذا المذهب وقوله فى الرواية عنه أصحابنا ، ولا غرو فى ذلك فهو عراقى يأخذ مذهب أهل العراق ، وقد جاء ذكر أبى حنيفة فى مبحث الدّور ، فقال : «هذا موضع كان أبو حنيفة رحمه‌الله يراه ويأخذ به ...»

كل ذلك يشير إلى ميله إلى هذا المذهب.

مذهبه الكلامى :

ذكر السيوطى فى المزهر أن ابن جنى كان معتزليا كشيخه أبى على. ويتضح ذلك من كلامه فى «باب فى أن المجاز إذا كثر لحق بالحقيقة» يقول : «وكذلك أفعال القديم سبحانه ، نحو خلق الله السماء والأرض وما كان مثله. ألا ترى أنه عز اسمه لم يكن منه بذلك خلق أفعالنا ، ولو كان حقيقة لا مجازا لكان خالقا للكفر والعدوان وغيرهما من أفعالنا عز وعلا» فهو هنا ينسب خلق الفعل للعبد ، وهذا مذهب المعتزلة.

ومما يؤنس به فى القول باعتزاله أنه فى باب : «فى الحكم يقف بين الحكمين» من هذا الكتاب يكرر عبارة «المنزلة بين المنزلتين» ويلمح الأستاذ محمد على النجار فى ترجمته لابن جنى إلى أنه قد لا يتقيد بمذهب المعتزلة ويذهب إلى ما يراه الحق وما هو أدنى إلى النصفة ، ثم قال : ومن ذلك ما نراه من كلامه على اللغة وهل هى اصطلاح أو توقيف ، فقد ذكر رأى التوقيف ثم قال ابن جنى فى الخصائص «وإذا كان الخبر الصحيح قد ورد بهذا وجب تلقيه والانطواء على القول به» وهذا هو مذهب أهل السنة.

١١

مذهبه النحوى :

كان ابن جنى بصرى المذهب كشيخه أبى على ، ويجرى فى كتبه ومباحثه على أصول هذا المذهب ويدافع عنه ، على أن ابن جنى لشدة حبه للعلم فكان يأخذه من أهله ، بصريا كان أو غيره ، فنراه يكثر النقل عن ثعلب والكسائى ويمدحهما على اختلافه معهما فى المذهب.

وابن جنى إمام فى النحو والصرف ، لكنه أبرع فى الصرف منه فى النحو ، وسبب براعته فى الصرف أن عجزه أمام أبى على كان فى مسألة صرفية ، فلذلك كان جدّه فى الصرف أكثر.

شعر ابن جنى :

كان ابن جنى يقول الشعر ، يقول ابن ماكولا فى الإكمال ٢ / ٥٨٥ : «وله شعر بارد» أى غير جيد ، وربما ذلك لأن ابن جنى كان يستعمل الغريب فى شعره ولم يكن الشعر صنعته فيعنى به.

ومن شعره ما سبق أن أشرنا إليه من مرثية المتنبى قال :

غاض القريض وأودت نضرة الأدب

وصوحت بعد رى دوحة الكتب

سلبت ثوب بهاء كنت تلبسه

كما تخطّف بالخطّية السّلب

ما زلت تصحب فى الجلّى إذا انشعبت

قلبا جميعا وعزما غير منشعب

وقد حلبت لعمرى الدهر أشطره

تمطو بهمة لا وان ولا وصب

من للهواجل يحيى ميت أرسمها

بكل جائلة التصدير والحقب

قبّاء خوصاء محمود علالتها

تنبو عريكتها بالحلس والقتب

١٢

وله فى الغزل قوله :

تحبب أو تدرع أو تقبا

فلا والله لا أزداد حبا

ملكت ببعض حبك كل قلبى

فإن رمت المزيد فهات قلبا

وله فى الفخر بنسبه ما سبق أن ذكرناه سابقا.

أسرته :

لا يعرف من أسرة ابن جنى غير أبيه ، ولابن جنى ثلاثة من الولد : علىّ وعال وعلاء ، يقول فيهم ياقوت الحموى : «كلهم أدباء فضلاء ، قد خرجهم والدهم ، وحسن خطوطهم فهم معدودون فى الصحيحى الضبط ، وحسنى الخط».

قال الأستاذ محمد على النجار فى ترجمته لابن جنى : «ولم أر ذكرا فى كتب الطبقات والأدب لغير عال ، فهو له ترجمة فى معجم الأدباء».

قال ابن ماكولا :

«وابنه أبو سعد عالى بن عثمان بن جنى أدركته بصيرا وسمعت منه ، وكان قد سمع مسند أبى يعلى الموصلى من المرجى ، وسمع ببغداد من عيسى بن على».

مصنفاته :

وقد عددها صاحب كتاب هدية العارفين فقال ، وله من الكتب :

١ ـ الخصائص وهو كتابنا هذا.

٢ ـ اسم المفعول.

٣ ـ التبصرة فى العروض.

٤ ـ تذكرة الأصبهانية.

٥ ـ تفسير المراثى الثقة والقصيدة الرائية للشريف الرضى.

٦ ـ التمام فى شرح شعر الهذليين.

٧ ـ التلقين فى النحو.

٨ ـ التنبيه فى الفروع.

٩ ـ سر الصناعة وشرحه

١٠ ـ التصريف الملوكى.

١٣

١١ ـ شرح مستغلق أبيات الحماسة.

١٢ ـ شرح الفصيح لثعلب فى اللغة.

١٣ ـ شرح كتاب المقصور والممدود لأبى على الفارسى.

١٤ ـ كتاب الصبر فى شرح ديوان المتنبى.

١٥ ـ الكافى فى شرح القوافى للأخفش.

١٦ ـ كتاب الألفاظ فى المهموز.

١٧ ـ كتاب التعاقب.

١٨ ـ كتاب العروض.

١٩ ـ كتاب الفرق بين كلام العام والخاص.

٢٠ ـ كتاب المذكر والمؤنث.

٢١ ـ كتاب المقصور والممدود.

٢٢ ـ كتاب الوقف والابتداء.

٢٣ ـ اللمع فى النحو.

٢٤ ـ محاسن العربية.

٢٥ ـ المحتسب فى شرح الشواذ لابن مجاهد فى القراءات.

٢٦ ـ مختار تذكرة أبى على الفارسى.

٢٧ ـ المسائل الخاطريات.

٢٨ ـ المصنف فى شرح التصريف للمازنى.

٢٩ ـ معانى أبيات المتنبى.

٣٠ ـ المفيدة فى النحو.

٣١ ـ المقتضب فى كلام العرب.

٣٢ ـ المقتطف فى معتل العين.

٣٣ ـ المنتصف فى النحو.

٣٤ ـ المنهج فى اشتقاق أسماء شعراء الحماسة.

٣٥ ـ معانى المحررة.

١٤

٣٦ ـ مقدمات أبواب التصريف.

٣٧ ـ تفسير علويات الرضى.

٣٨ ـ تفسير ديوان المتنبى.

٣٩ ـ تفسير أرجوزة أبى نواس.

٤٠ ـ رسالة فى مدد الأصوات.

٤١ ـ كتاب البشرى والظفر.

٤٢ ـ كتاب الخطيب.

٤٣ ـ كتاب الفائق.

٤٤ ـ كتاب الفصل بين كلام العام والخاص.

٤٥ ـ كتاب المغرب فى شرح القوافى.

٤٦ ـ كتاب المنتصف.

٤٧ ـ كتاب النقض عن ابن وكيع.

٤٨ ـ ما خرج منى من تأييد التذكرة.

٤٩ ـ مختصر التصريف على إجماعه.

٥٠ ـ المهذب فى النحو.

٥١ ـ النوادر الممتعة فى العربية.

مصادر الترجمة :

١ ـ الإكمال فى رفع الأثياب لابن ماكولا.

٢ ـ بغية الوعاة للسيوطى.

٣ ـ كشف الظنون لحاجى خليفة.

٤ ـ الأعلام للزركلى.

٥ ـ دائرة المعارف الإسلامية.

٦ ـ هدية العارفين لإسماعيل باشا البغدادى.

٧ ـ ترجمة ابن جنى للأستاذ / محمد على النجار.

* * *

١٥

جهود ابن جنى فى الكشف عن الدلالة الفنية للأصوات (١)

(دراسة نظرية تطبيقية)

على الرغم من كون الأصوات هى اللبنات الأولى والأساس فى تشكيل البناء اللغوى ، فإنها لم تلق من الباحثين إلى الآن العناية الكافية لاستثمار طاقاتها الدّلالية ، وابتعاث إيحاءاتها الثّرّة فى فاعليتها الدائبة مع السياقات الأدبية.

ولعل ذلك يرجع ـ فى رأيى ـ إلى أمرين : صعوبة البحث فى هذا المجال الموغل فى الرمزية ، مع تأبّيه على التقعيد والتقنين ، حيث يستطيع الناظر إلى دلالات الأصوات أن يتكهّن ببعض تلك الدلالات التى يضفيها عليها السياق ، دون أن يجزم فى كثير من الأحيان أن هذه الدلالات هى فعلا دلالات تلك الأصوات ، وليست مجرد معان فرضتها الدلالة المعجمية أو الصرفية أو التركيبية ، ثم قام ذهن القارئ بتحميلها على الأصوات.

والأمر الآخر وهو تأبّى تلك الدلالات على التقعيد والتقنين يرجع إلى أنّ كثيرا من تلك الدلالات لا ترجع إلى قيمة للصوت فى ذاته بقدر ما تكون وليدة السياق وخليقته ؛ فالسياق هو الذى حمّل الصوت هذا المعنى ، وهو الذى استخدم الحرف أو الكلمة صوتا ليكسبها دلالة سياقية حينيّة مؤقتة ، وليست دلالة دائمة تستصحب فى غيره من السياقات ، فكل سياق له دلالاته التى يخلعها على أصواته ، وكل قارئ أو سامع له ذوقه الخاص فى استكناه دلالات تلك الأصوات وتأثره بها ، وإن كان هذا لا ينفى وجود حسّ أو ذوق عام يكاد يشترك فى فهم دلالات كثير من تلك الأصوات فى السياقات والمواقف المختلفة ، وإن كان ذلك يختلف ـ لا محالة ـ باختلاف البيئات اللغوية.

لعل هذه ـ فى نظرى ـ أهم أسباب ندرة البحث فى هذا المجال على مستوييه النظرى والتطبيقى.

ونستطيع أن نقول : إن هناك تفاعلا دائبا بين السياق والتشكيل الصوتى ؛ فالمبدع يختار بوعى أو بلا وعى التشكيل الصوتىّ المناسب للسياق الذى يخوض فيه ، كما أن

__________________

* نشر هذا البحث فى صحيفة دار العلوم عدد ديسمبر ١٩٩٩ م ، للدكتور عبد الحميد هنداوى بعنوان : الدلالة الفنية للأصوات (دراسة نظرية تطبيقية).

١٦

السياق هو الذى يخلع على التشكيل الصوتى إيحاءاته المناسبة له.

ونستطيع أن نزعم أن اختيار المبدع يدل على أن هناك علاقة خفيّة بين السمات الصوتيّة والمعانى الدالة عليها.

غير أننا نقرر أن معانى تلك الأصوات إنما هى معان تركيبية سياقية وليست معانى إفرادية ، وأنها مستقرة فى الحسّ اللغوى للمبدع ، وتعمل على توجيه اختياراته الصوتية بطريقة لا شعورية.

ويقوم هذا البحث بدراسة الدلالة الصوتية للكلمة من حيث النظر فى صفات الأصوات ، من حيث : الجهر والهمس ، والرخاوة والشدة ، والانطباق والانفتاح ، والاستعلاء والانخفاض ، والصفير ، والاستطالة ، والتفشى ، والمد ، واللين ، والانحراف ، والتكرير ، والهوى وغير ذلك.

ومن حيث ما يصاحب الكلمة عند النطق بها من ظواهر صوتية : كالنبر والتنغيم ، ثم من حيث النظر فى مخارجها المختلفة ، وبحث العلاقة بين تلك السمات الصوتية للتشكيل الصوتى للكلمة ومناسبتها لسياقها ونسقها الدلالى.

ويبقى جانب آخر من دراسة التشكيل الصوتى وهو الأوزان الشعرية ، أو موسيقى الكلام ؛ لنشمل ضروب الموسيقى النثرية. وقد رأينا إفراد هذا الجانب ببحث مستقل ؛ فقصرنا بحثنا هذا على دراسة الدلالة الصوتية للكلمة من حيث ما ذكرنا ، دون التعرض للدلالة الموسيقية للكلام.

ومع حداثة البحث فى هذا المجال وطرافته فإننا لا نزعم أننا نبدأ فيه من فراغ ؛ بل إن ثمة محاولات عديدة قديمة وحديثة قد حاولت ولوج هذا الميدان ، غير أن كثيرا من تلك المحاولات قد وقفت على شاطئ هذا البحث دون الولوج إلى أعماقه. وثمة دراسات قد ضلّت الطريق فى هذا المجال وتنكبت عن سواء السبيل.

أما الدراسات القديمة فإننا نستطيع أن نقف فيها على معالم هادية ومحاولات جادة يمكننا عن طريقها الوقوف على التفات هؤلاء القدماء إلى دلالة الصوت ومناسبته لمعناه.

وهذه المحاولات الجادة فى هذا السبيل نجد بعضها عند الخليل بن أحمد ، وكثيرا منها لدى سيبويه فى كتابه ، كما نجدها أكثر نضجا عند ابن جنى فى خصائصه ، وفى كتابات ابن الأثير من بعده.

١٧

فما جاء عن الخليل فى ذلك قوله :

«كأنهم توهموا فى صوت الجندب استطالة ومدا فقالوا : (صر) ، وتوهموا فى صوت البازى تقطيعا فقالوا : (صرصر)» (١).

نلمح هنا إشارة الخليل إلى ما بين الفعل الثلاثى المضعف العين صر وبين معناه من التناسب من حيث بنية الصيغة ودلالتها على المعنى الإفرادى لتلك الكلمة ، فنحن نلاحظ أن تضعيف الراء الناشئ عن التشديد فيها ينتج عنه نوع من المط والاستطالة ينشأ عن سمة التكرارية التى تتسم بها الراء ، وهذا فى نهاية الكلمة يناسب ما فى صوت الجندب من مد واستطالة ؛ فالمناسبة هنا ظاهرة بين أصوات هذه الكلمة ومعناها الذى تدل عليه.

فإذا انتقلنا إلى كلام سيبويه فى هذا الموضع فإننا نجد أن سيبويه قد أصل سبق الخليل إلى هذا الباب ، فهو يقول :

«هذا باب «افعوعل» وما هو على مثاله مما لم نذكره. قالوا «خشن» ، وقالوا :

«اخشوشن» ، وسألت الخليل ، فقال : كأنهم أرادوا المبالغة والتوكيد ، كما أنه إذا قال «اعشوشبت الأرض» فإنما يريد أن يجعل ذلك كثيرا عاما قد بالغ» (٢).

لقد التفت الخليل وسيبويه هنا إلى أثر زيادة المبنى فى زيادة المعنى ، كما قد التفتا كذلك إلى الغرض من تلك الزيادة ، وهو هنا المبالغة والتوكيد ، وقد عقد سيبويه لذلك بابا فى كتابه وسماه «ما جاء على مثال واحد حين تقاربت المعانى» (٣).

ونحتاج أن نقف أمام بعض هذه المواضع لتأملها وبيان مدى وقوف سيبويه على هذه الظاهرة ، فلنتأمل على سبيل المثال قوله :

«ومن المصادر التى جاءت على مثال واحد حين تقاربت المعانى ، قولك «النزوان» ، و «النقذان» و «القفزان» ، وإنما هذه الأشياء فى زعزعة البدن واهتزازه فى ارتفاع ، ومثله

__________________

(١) ابن جنى الخصائص ، ٢ / ١٥٢ تحقيق د / محمد على النجار ، ط دار الهدى للطباعة والنشر بيروت لبنان س ١٩٥٨.

(٢) سيبويه / الكتاب ، ٢ / ٢٤١ / ط المطبعة الكبرى الأميرية ببولاق مصر المحمية ص ١٣١٧.

(٣) المرجع السابق ٢ / ٢١٩. وثمة مواضع أخر كثيرة فى كتابه انظر على سبيل المثال الكتاب ٢ / ٢١٤ ـ ٢١٦.

١٨

«العسلان» و «الرتكان» .. ومثل هذا «الغليان» ؛ لأنه زعزعة وتحرك ، ومثله «الغثيان» لأنه تجيش نفسه وتثور ، ومثله الخطران واللمعان ، لأن هذا اضطراب وتحرّك ، ومثل ذلك اللهبان والصخدان والوهجان لأنه تحرك الحر وثؤوره فإنما هو بمنزلة الغليان ..» (١).

نلمح فى هذا النص التفات سيبويه إلى الدلالة المركزية المشتركة التى توحى بها البنية الصوتية لتلك المصادر (النزوان ، والنقزان ، والقفزان ، والعسلان ، والرتكان ، والغليان ، والغثيان ، والخطران ، واللمعان ، واللهبان ، والوهجان ... إلخ).

فهذه المصادر قد اشتركت جميعا فى بنية صوتية واحدة هى صيغة فعلان بما لها من سمات صوتية خاصة.

وإذا تأملنا الدلالة المعجمية لتلك المصادر وجدناها تشترك جميعها فى معنى مشترك بينها ، هو الحركة والاهتزاز والاضطراب ، وهى تعبر عن الشىء الذى تزداد حركته واهتزازه واضطرابه شيئا فشيئا ، ثم تطول حركته ويستمر اضطرابه حينا ، ولا يكون هدوؤه فجأة ، بل يستمر زمنا حتى يهدأ.

وإذا تأملنا البنية الصوتية لتلك المصادر التى جاءت على صيغة (فعلان) وجدنا أن توالى الحركتين القصيرتين ـ الفتحتين ـ إتباع هاتين الفتحتين بفتحة طويلة هى ألف المدّ ، ثم انتهاء الكلمة بالنون ذات الغنة المجهورة التى يمتد زمن النطق بها حينا بما يشبه الزّنّة الطويلة ... إذا تأملنا ذلك كله وجدنا تمام المناسبة بين السمات الصوتية لتلك المصادر والمعنى الذى تدل عليه وهو الحركة والاهتزاز والاضطراب الذى يزداد شيئا فشيئا وهذا ما تعبر عنه الحركتان القصيرتان ـ الفتحتان المتواليتان ـ ، ثم تأتى الحركة الطويلة ـ ألف المد ـ لتعبر عن طول تلك الحركة ، ثم يأتى حرف النون ليعبر عن معنى آخر وهو أن هدوء تلك الحركة لا يكون فجأة بل يحتاج إلى زمن يسير تخفت فيه الحركة شيئا فشيئا حتى تهدأ ، وهو ما تعبر عنه غنّة النون ذات الصوت المجهور.

وإذا كان سيبويه قد التفت إلى العلاقة بين الأصوات والمعانى التى تدل عليها فى مثل تلك المصادر ، دون محاولة منه فى الكشف عن وجه المناسبة بين أصوات تلك المصادر ومعانيها ـ فإن ابن جنى قد تلقف إشارات كل من الخليل وسيبويه فى هذا المجال ثم أولى هذا الباب عناية فائقة ، ولم يكتف فيه بالوقوف على الظاهرة كهؤلاء القدماء ، بل

__________________

(١) سيبويه الكتاب ٢ / ٢١٨.

١٩

أخذ يعلل أو يبين وجه التناسب بين تلك الأصوات وتلك المعانى ، وقد علّل لمناسبة تلك المصادر لمعانيها تعليلا جيّدا بقوله : «فقابلوا بتوالى حركات المثال (أى الصيغة) أو البنية توالى حركات الأفعال» (١).

وقد اتجه البحث فى دلالة الأصوات عند ابن جنى إلى جهتين متكاملتين :

الأولى : [النظر إلى صفة الحرف ومخرجه] وحاله من حيث التفخيم والترقيق ، والشدّة والرخاوة والجهر والهمس والإطباق والانفتاح والاستعلاء والاستطالة والتفشى وغير ذلك ، ثمّ بحث العلاقة بين هذه الأحوال والصفات وبين الدلالة الوضعية للكلمة.

الثانية : النظر إلى دلالة الكلمة باعتبارها تركيبا صوتيا له بنية وهيئة بعينها ، بحيث يبحث العلاقة بين طريقة تركيب أحرف تلك الكلمة ، ومناسبة ذلك التركيب وتلك الهيئة للمعنى الذى وضعت له الكلمة.

وقد اهتم ابن جنّى (ت ٣٩٢ ه‍) بدراسة الدلالة الصوتية على هذين المستويين فى «باب فى إمساس الألفاظ أشباه المعانى» حيث يقول : «فأما مقابلة الألفاظ بما يشاكل أصواتها من الأحداث فباب عظيم واسع ، ونهج متلئب (أى : ثابت) عند عارفيه مأموم ، وذلك أنهم كثيرا ما يجعلون أصوات الحروف على سمت الأحداث المعبّر بها عنها ، فيعدلونها ويحتذونها عليها ، وذلك أكثر مما نقدّره وأضعاف ما نستشعره» (٢).

وهو يشير إلى كثرة هذا النوع من دلالة الأصوات على المعانى فى اللغة ، ثم يعرض أمثلة له ، فمما مثّل به للنوع الأول : تفريقهم بين الخضم والقضم والنّضح والنّضخ ، يقول : من ذلك قولهم : «خضم وقضم ، فالخضم لأكل الرّطب ، كالبطيخ والقثّاء ، وما كان نحوهما من المأكول الرطب. والقضم للصلب اليابس ، نحو قضمت الدابة شعيرها ، ونحو ذلك ، وفى الخبر «قد يدرك الخضم بالقضم» أى قد يدرك الرخاء بالشدة ، واللين بالشظف. وعليه قول أبى الدرداء : «يخضمون ونقضم والموعد الله» (٣).

ويوضح سرّ اختلاف الدلالة بين صوتى الخاء والقاف ، ويجعل ذلك راجعا إلى

__________________

(١) الخصائص ٢ / ١٥٢.

(٢) الخصائص ج ٢ ، ص ١٥٧.

(٣) السابق والصفحة نفسها.

٢٠