مصباح الفقيه - ج ٧

الشيخ آقا رضا الهمداني

مصباح الفقيه - ج ٧

المؤلف:

الشيخ آقا رضا الهمداني


المحقق: المؤسّسة الجعفريّة لإحياء التراث ـ قم المقدّسة
الموضوع : الفقه
الناشر: منبع
الطبعة: ١
الصفحات: ٣٣٦

الميتة وإن كان من مأكول اللحم ، وعدم جواز الانتفاع بأجزاء الميتة ولا بألياتها إلّا للاستصباح أو نحو ذلك.

والمناقشة بأعمّيّة كلّ من هذه الآثار من النجاسة ، في غير محلّها بعد ما أشرنا إليه من أنّ الملحوظ في السؤال والجواب لم يكن إلّا حكمها من حيث النجاسة ، كيف! وليس في سائر أبواب النجاسات إلّا مثل هذه الأدلّة ، وقد سمعت أنّ عمدة المستند لعموم نجاسة البول من كلّ شي‌ء إنّما هي حسنة (١) ابن سنان ، الآمرة بغسل الثوب من أبوال ما لا يؤكل لحمه.

وبما ذكرنا ظهر لك تقريب الاستشهاد بأخبار البئر ، التي ورد فيها الأمر بالنزح لموت الحيوانات ولو لم نلتزم بنجاسة البئر بملاقاة النجس ، ضرورة أنّ المقصود بالسؤال عن البئر الواقع فيها شي‌ء من بول أو عذرة أو خمر أو ميّت ونحوها لم يكن إلّا معرفة حكمها من حيث وقوع النجس فيها ، فيكون وجوب النزح أو استحبابه من آثار نجاسة ما وقع فيها ، سواء قلنا بنجاسة ماء البئر أم لم نقل ، فهل يبقى مجال للتشكيك في استفادة نجاسة الميّت من مثل قوله عليه‌السلام :«الدم والخمر والميّت ولحم الخنزير في ذلك كلّه واحد ينزح منه عشرون دلوا ، فإن غلب الريح نزحت حتّى تطيب» (٢)؟

هذا ، مع أنّ ما في هذه الأخبار من الدلالة على فساد ماء البئر عند تغيّرها بالميتة كفانا دليلا لإثبات المدّعى.

__________________

(١) تقدّم تخريجها في ص ١٣ ، الهامش (١).

(٢) التهذيب ١ : ٢٤١ / ٦٩٧ ، الإستبصار ١ : ٣٥ / ٩٦ ، الوسائل ، الباب ١٥ من أبواب الماء المطلق ، ح ٣.

٤١

ثمّ إنّ أغلب الأخبار التي تقدّمت الإشارة إليها الإجماع أو غيره من الأدلّة لكنّ جملة منها مطلقات أو عمومات وافية بالمطلوب.

منها : رواية جابر عن أبي جعفر عليه‌السلام ، قال : أتاه رجل فقال له : وقعت فأرة في خابية فيها سمن أو زيت فما ترى في أكله؟ فقال له أبو جعفر عليه‌السلام : «لا تأكله» فقال له الرجل : الفأرة أهون عليّ من أن أترك طعامي من أجلها ، قال : فقال له أبو جعفر عليه‌السلام : «إنّك لم تستخفّ بالفأرة ، إنّما استخففت بدينك ، إنّ الله حرّم الميتة من كلّ شي‌ء» (١).

والمراد بالتحريم هنا هو التحريم الخاصّ الناشئ من النجاسة ، وإلّا لا يستقيم التعليل ، كما هو واضح.

ومنها : صحيحة محمّد بن مسلم عن أحدهما عليهما‌السلام ، قال : سألته عن آنية أهل الذمّة ، فقال : «لا تأكلوا في آنيتهم إذا كانوا فيه الميتة والدم ولحم الخنزير» (٢).

ومنها : صحيحة حريز عن أبي عبد الله عليه‌السلام أنّه قال : «كلّما غلب الماء على ريح الجيفة فتوضّأ من الماء واشرب ، فإذا تغيّر الماء وتغيّر (٣) الطعم فلا توضّأ منه

__________________

(١) التهذيب ١ : ٤٢٠ / ١٣٢٧ ، الإستبصار ١ : ٢٤ / ٦٠ ، الوسائل ، الباب ٥ من أبواب الماء المضاف ، ح ٢.

(٢) الفقيه ٣ : ٢١٩ ـ ٢٢٠ / ١٠١٧ ، التهذيب ٩ : ٨٨ / ٣٧١ ، الوسائل ، الباب ٥٤ من أبواب الأطعمة المحرّمة ، ح ٦.

(٣) في التهذيب : «أو تغيّر ..».

٤٢

ولا تشرب» (١).

ورواية أبي خالد عن أبي عبد الله عليه‌السلام في الماء يمرّ به الرجل وهو نقيع فيه الميتة والجيفة ، فقال أبو عبد الله عليه‌السلام : «إن كان الماء قد تغيّر ريحه أو طعمه فلا تشرب ولا تتوضّأ منه ، وإن لم يتغيّر ريحه وطعمه فاشرب وتوضّأ» (٢).

وعن الفقه الرضوي : «وإن مسست ميتة فاغسل يدك ، وليس عليك غسل ، إنّما يجب عليك ذلك في الإنسان» (٣).

وفي موثّقة حفص بن غياث : «لا يفسد الماء إلّا ما كانت له نفس سائلة» (٤).

وموثّقة عمّار عن أبي عبد الله عليه‌السلام ، قال : سئل عن الخنفساء والذباب والجراد والنملة وما أشبه ذلك يموت في البئر والزيت والسمن ، قال : «كلّ ما ليس له دم فلا بأس» (٥).

وصحيحة أبي بصير قال : سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عمّا يقع في الآبار ، فقال :«أمّا الفأرة وأشباحها فينزح منها سبع دلاء إلّا أن يتغيّر الماء فينزح حتّى يطيب ،

__________________

(١) التهذيب ١ : ٢١٦ ـ ٢١٧ / ٦٢٥ ، الإستبصار ١ : ١٢ / ١٩ ، الوسائل ، الباب ٣ من أبواب الماء المطلق ، ح ١.

(٢) التهذيب ١ : ٤٠ ـ ٢١ / ١١٢ ، الإستبصار ١ : ٩ / ١٠ ، الوسائل ، الباب ٣ من أبواب الماء المطلق ، ح ٤.

(٣) حكاه عنه البحراني في الحدائق الناضرة ٥ : ٥٩ ، وانظر : الفقه المنسوب للإمام الرضا عليه‌السلام :١٧٤.

(٤) التهذيب ١ : ٢٣١ / ٦٦٩ ، الإستبصار ١ : ٢٦ / ٦٧ ، الوسائل ، الباب ٣٥ من أبواب النجاسات ، ح ٢.

(٥) التهذيب ١ : ٢٣٠ / ٦٦٥ ، الإستبصار ١ : ٢٦ / ٦٦ ، الوسائل ، الباب ٣٥ من أبواب النجاسات ، ح ١.

٤٣

فإن سقط فيها كلب فقدرت أن تنزح ماءها فافعل ، وكلّ شي‌ء وقع في البئر ليس له دم مثل العقرب والخنافس وأشباه ذلك فلا بأس» (١).

ورواية يونس (٢) عن أبي عبد الله عليه‌السلام ، قال : سألته عن العقرب تخرج من الماء ميتة ، قال : «استق منها عشر دلاء» قلت : فغيرها من الجيف ، قال : «الجيف كلّها سواء إلّا جيفة قد أجيفت ، فإن كانت جيفة قد أجيفت فاستق مائة دلو ، فإن غلب عليه الريح بعد مائة دلو فانزحها كلّها» (٣).

إلى غير ذلك ممّا يدلّ عليه منطوقا ومفهوما.

هذا كلّه ، مضافا إلى إمكان استفادته من قوله تعالى (إِلّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَماً مَسْفُوحاً أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ) (٤) بناء على عقود الضمير إلى كلّ واحد من المذكورات.

وفي المرسل المحكي عن دعائم الإسلام عن الصادق عن آبائه عن النبيّ صلوات الله عليهم «الميتة نجسة وإن دبغت» (٥).

فالإنصاف أنّه ليس شي‌ء من أعيان النجاسات ـ بل قلّما يتّفق في غيرها أيضا ـ ما يكون أبين دليلا من نجاسة الميتة ، وكثرة أدلّتها مانعة من أن يتطرّق فيها الخدشة بضعف السند أو قصور الدلالة ، فلا ضير في عدم كون بعض إطلاقاتها

__________________

(١) الكافي ٣ : ٦ / ٦ ، الوسائل ، الباب ١٧ من أبواب الماء المطلق ، ح ١١.

(٢) في المصدر : «يونس عن منهال ..».

(٣) التهذيب ١ : ٢٣١ / ٦٦٧ ، الإستبصار ١ : ٢٧ / ٧٠ ، الوسائل ، الباب ٢٢ من أبواب الماء المطلق ، ح ٧.

(٤) الأنعام ٦ : ١٤٥.

(٥) دعائم الإسلام ١ : ١٢٦ ، مستدرك الوسائل ، الباب ٣٩ من أبواب النجاسات ، ح ٦.

٤٤

مسوقة لبيان هذا الحكم ، فإنّه يفهم من جميعها كون نجاستها من الأمور المسلّمة.

فما توهّمه صاحب المعالم على ما حكي (١) عنه ـ من انحصار الدليل للتعميم في الإجماع المنقول ، وقصور الأخبار الواردة في الميتة عن إثبات نجاستها إلّا في الموارد الجزئيّة ـ ضعيف.

والعجب من تشكيك صاحب المدارك في أصل الحكم ـ أعني نجاسة الميتة ـ بزعمه انحصار دليلها في الإجماع الذي خدشه باستظهاره المخالفة من الصدوق ، فإنّه ـ بعد نقله من المعتبر دعوى إجماع الناس عليها ، وعن المنتهى الاستدلال عليها : بأنّ تحريم ما ليس بمحرّم بالأصل ولا فيه ضرر كالسمّ يدلّ على نجاسته ، ومناقشته فيه بالمنع الظاهر ـ قال : نعم ، يمكن الاستدلال عليها بالروايات المتضمّنة للنهي عن أكل الزيت ونحوه إذا ماتت فيه الفأرة ، والأمر بالاستصباح به ، لكنّه غير صريح في النجاسة ، وبما رواه الشيخ ـ في الصحيح ـ عن حريز ، قال : قال أبو عبد الله عليه‌السلام لزرارة ومحمّد بن مسلم : «اللبن واللّبأ والبيضة والشعر والصوف والقرن والناب وكلّ شي‌ء ينفصل من الشاة والدابّة فهو ذكيّ ، وإن أخذته منه بعد أن يموت فاغسله وصلّ فيه» (٢).

وجه الدلالة : أنّ الظاهر أنّ الأمر بغسل ما يؤخذ من الدابّة بعد الموت إنّما هو لنجاسة الأجزاء المصاحبة له من الجلد.

ويتوجّه عليه : أنّ الأمر بالغسل لا يتعيّن كونه للنجاسة ، بل يحتمل أن يكون

__________________

(١) الحاكي عنه هو البحراني في الحدائق الناضرة ٥ : ٥٤ ، وانظر : معالم الدين (قسم الفقه) : ٤٨١.

(٢) التهذيب ٩ : ٧٥ ـ ٨٦ / ٣٢١ ، الإستبصار ٤ : ٨٨ ـ ٨٩ / ٣٣٨.

٤٥

لإزالة الأجزاء المعلّقة به من الجلد ، المانعة من الصلاة فيه ، كما يشعر به قوله :«اغسله وصلّ فيه».

وبالجملة ، فالروايات متظافرة بتحريم الصلاة في جلد الميتة ، بل الانتفاع به مطلقا ، وأمّا نجاسته فلم أقف فيها على نصّ يعتدّ به.

مع أنّ ابن بابويه رحمه‌الله روى في أوائل كتابه «من لا يحضره الفقيه» مرسلا عن الصادق عليه‌السلام أنّه سئل عن جلود الميتة يجعل فيها اللبن والسمن والماء ما ترى فيه؟ فقال : «لا بأس بأن تجعل فيها ما شئت من ماء أو لبن أو سمن ، وتتوضّأ منه وتشرب ولكن لا تصلّ فيها» (١).

وذكر قبل ذلك من غير فصل يعتدّ به أنّه لم يقصد في كتابه قصد المصنّفين في إيراد جميع ما رووه ، قال : إنّما قصدت إلى إيراد ما افتي به وأحكم بصحّته واعتقد فيه أنّه حجّة فيما بيني وبين ربّي تقدّس ذكره وتعالت قدرته (٢). والمسألة قويّة الإشكال (٣). انتهى.

ولا يخفى ما فيه بعد الإحاطة بما عرفت.

وأمّا استفادة المخالفة من ابن بابويه ـ لذكره رواية ظاهرة في الخلاف ـ في غير محلّها ، فإنّه لم يقصد بضمانه في أوّل كتابه صحّة جميع ما يورده فيه وكونه حجّة بينه وبين ربّه إلّا كون ما يورده من الأخبار الصحيحة التي يجب اتّباعها ، كظاهر الكتاب والسنّة القطعيّة ، لا بمعنى الأخذ به من دون رعاية ما يقتضيه الجمع

__________________

(١) الفقيه ١ : ٩ / ١٥.

(٢) الفقيه ١ : ٣.

(٣) مدارك الأحكام ٢ : ٢٦٨ ـ ٢٦٩ ، وانظر : المعتبر ١ : ٤٢٠ ، ومنتهى المطلب ١ : ١٦٤.

٤٦

بينه وبين غيره من القرائن المتّصلة أو المنفصلة ، فلعلّ الصدوق ينزّل هذه الرواية على إرادة الجلود من غير ذي النفس ، كما قد يدّعى معهوديّة وضع السمن والزيت في بعضها ، جمعا بينها وبين غيرها ممّا دلّ على عدم جواز الانتفاع بجلد الميتة ، أو أنّه يلتزم بطهارة الجلد بالدبغ ، كما حكي (١) عن ابن الجنيد.

هذا ، مع ما ادّعاه بعض من رجوع الصدوق عمّا التزم به في أوّل كتابه بشهادة التتبّع فيما أودعه فيه من الروايات (٢).

لكن ربّما يؤيّد التزامه بظاهر هذه الرواية ما حكي عن مقنعه من التصريح بنفي البأس عن أن يتوضّأ من الماء إذا كان في زقّ (٣) من جلد الميتة (٤) ، وإن احتمل بعض (٥) في هذه العبارة أيضا ما لا ينافي المشهور.

والذي يغلب على الظنّ التزامه بطهارة الجلد بالدبغ ، وحمل الرواية عليه ، كما يشهد لذلك وقوع التصريح به في الفقه الرضوي الذي تتّحد فتاوى الصدوق معه غالبا.

ففي الرضوي ـ على ما حكي عنه ـ : «وإن كان الصوف والوبر والشعر والريش من الميتة وغير الميتة بعد أن يكون ممّا أحلّ الله أكله فلا بأس به ، وكذلك

__________________

(١) الحاكي هو المحقّق الحلّي في المعتبر ١ : ٤٦٣ ، والعلّامة الحلّي في مختلف الشيعة ١ : ٣٤٢ ، المسألة ٢٦٢.

(٢) حكاه الأستاذ الأكبر في شرح المفاتيح عن جدّه ، كما في جواهر الكلام ٥ : ٣٠٠.

(٣) الزّقّ ـ بالكسر ـ : السقاء ، أو جلد يجزّ ولا ينتف للشراب أو غيره. مجمع البحرين ٥ : ١٧٧ «زقق».

(٤) حكاه عنه العاملي في مفتاح الكرامة ١ : ١٥٦ ، وانظر : المقنع : ١٨.

(٥) راجع : جواهر الكلام ٥ : ٣٠٠.

٤٧

الجلد ، فإنّ دباغه طهارته» وقال بعد هذا الكلام بأسطر قليلة : «وذكاة الحيوان ذبحه ، وذكاة الجلود الميتة دباغه» (١). انتهى.

وكيف كان فإن أراد بذلك ما لا يخالف المشهور أو أراد عدم انفعال الماء القليل بملاقاة الميتة أو غير ذلك ممّا هو أجنبيّ عمّا نحن فيه ، فلا يهمّنا تحقيقه. وإن أراد به عدم نجاسة جلد الميتة ، فهو ـ كمستنده ـ شاذّ محجوج بما عرفت.

ومثله في الضعف والشذوذ لو أراد به طهارة الجلد بالدباغ ، فإنّه لم ينقل القول به من أحد منّا عدا ما حكي عن ابن الجنيد (٢) وعن المحدّث الكاشاني (٣) في الميل إليه أو القول به ، وهو لا يخرجه من الشذوذ ، وقد استفيض نقل الإجماع على خلافه ، بل عن شرح المفاتيح أنّه من ضروريّات المذهب كحرمة القياس (٤) وعن التذكرة أنّ الأخبار به متواترة (٥).

وممّا يشهد به لابن الجنيد ـ مضافا إلى المرسل والرضوي المتقدّمين (٦) ـ خبر الحسين بن زرارة عن أبي عبد الله عليه‌السلام في جلد شاة ميتة يدبغ فيصبّ فيه اللبن والماء فأشرب منه وأتوضّأ؟ قال : «نعم» وقال : «يدبغ فينتفع به ولا يصلّى

__________________

(١) حكاه عنه البحراني في الحدائق الناضرة ٥ : ٦١ ، وانظر : الفقه المنسوب للإمام الرضا عليه‌السلام :٣٠٢.

(٢) تقدّم تخريج قوله في ص ٤٧ ، الهامش (١).

(٣) الحاكي عنه هو صاحب الجواهر فيها ٥ : ٣٠٢ ، وانظر : مفاتيح الشرائع ١ : ٦٩.

(٤) حكاه عنه صاحب الجواهر فيها ٥ : ٣٠١.

(٥) حكاه عنها العاملي في مفتاح الكرامة ١ : ١٥٦ ، وانظر : تذكرة الفقهاء ٢ : ٢٣٥ ، ضمن المسألة ٣٢٨.

(٦) تقدّم المرسل في ص ٤٦ ، وتقدّم الرضوي آنفا.

٤٨

فيه» (١).

لكنّ المتعيّن طرح مثل هذه الروايات التي أعرض عنها الأصحاب ، مع موافقتها للعامّة ، ومعارضتها للأخبار المعتبرة المستفيضة التي وقع في بعضها التصريح بأنّ ما تضمّنته هذه الروايات من كون الدباغ ذكاة للجلد من مفتريات العامّة على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله (٢) ، وقد سمعت (٣) في المرسل المحكيّ عن دعائم الإسلام تصريح النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله بأنّ «الميتة نجسة وإن دبغت».

ومن جملة تلك الأخبار خبر عبد الرحمن بن الحجّاج ، قال : قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام : إنّي أدخل سوق المسلمين ، أعني هذا الخلق الذي يدّعون الإسلام فأشتري منهم الفراء للتجارة ، فأقول لصاحبها : أليس هي ذكيّة؟ فيقول :بلى ، فهل يصلح لي أن أبيعها على أنّها ذكيّة؟ فقال : «لا ، ولكن لا بأس أن تبيعها وتقول : قد شرط لي الذي اشتريتها منه أنّها ذكيّة» قلت : وما أفسد ذلك؟ قال :«استحلال أهل العراق للميتة ، وزعموا أنّ دباغ جلد الميتة ذكاته ، ثمّ لم يرضوا أن يكذبوا في ذلك إلّا على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله» (٤).

ومكاتبة الجرجاني عن أبي الحسن عليه‌السلام ، قال : كتبت إليه أسأله عن جلود الميتة التي يؤكل لحمها إن ذكيّ ، فكتب «لا ينتفع من الميتة بإهاب ولا عصب» (٥).

__________________

(١) التهذيب ٩ : ٧٨ / ٣٣٢ ، الإستبصار ٤ : ٩٠ / ٣٤٣ ، الوسائل ، الباب ٣٤ من أبواب الأطعمة المحرّمة ، ح ٧.

(٢) راجع الهامش (٤).

(٣) في ص ٤٤.

(٤) الكافي ٣ : ٣٩٨ / ٥ ، التهذيب ٢ : ٢٠٤ / ٧٩٨ ، الوسائل ، الباب ٦١ من أبواب النجاسات ، ح ٤.

(٥) الكافي ٦ : ٢٥٨ ـ ٢٥٩ / ٦ ، التهذيب ٩ : ٧٦ / ٣٢٣ ، الوسائل ، الباب ٣٣ من أبواب الأطعمة المحرّمة ، ح ٧.

٤٩

وموثّقة ابن المغيرة (١) ، قال : قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام : جعلت فداك ، الميتة ينتفع منها بشي‌ء؟ فقال : «لا» قلت : بلغنا أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله مرّ بشاة ميتة ، فقال : «ما كان على أهل هذه الشاة إذ لم ينتفعوا بلحمها أن ينتفعوا بإهابها؟» قال : «تلك الشاة لسودة بنت زمعة زوجة النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وكانت شاة مهزولة لا ينتفع بلحمها فتركوها حتّى ماتت ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : ما كان على أهلها إذ لم ينتفعوا بلحمها أن ينتفعوا بإهابها ، أي تذكّى» (٢).

وموثّقة أبي مريم قال : قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام : السخلة التي مرّ بها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وهي ميتة ، فقال : «ما ضرّ أهلها لو انتفعوا بإهابها؟» فقال أبو عبد الله عليه‌السلام :«لم تكن ميتة يا أبا مريم ، ولكنّها كانت مهزولة فذبحها أهلها فرموا بها ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : ما كان على أهلها لو انتفعوا بإهابها» (٣).

مقتضى ظاهر الخبرين اختلاف موردهما وتعدّد الواقعة ، والله العالم.

ورواية أبي بصير عن أبي عبد الله عليه‌السلام في حديث عن عليّ بن الحسين عليهما‌السلام «كان يبعث إلى العراق فيؤتى ممّا قبلكم بالفرو فيلبسه ، فإذا حضرت الصلاة ألقاه وألقى القميص الذي يليه ، فكان يسأل عن ذلك ، فقال : إنّ أهل العراق يستحلّون لباس الجلود الميتة ، ويزعمون أنّ دباغه ذكاته» (٤).

__________________

(١) في الموضع الثاني من الكافي : «عليّ بن أبي المغيرة».

(٢) الكافي ٣ : ٣٩٨ / ٦ ، و ٦ : ٢٥٩ / ٧ ، التهذيب ٢ : ٢٠٤ / ٧٩٩ ، الوسائل ، الباب ٦١ من أبواب النجاسات ، ح ٢.

(٣) الفقيه ٣ : ٢١٦ / ١٠٠٤ ، الوسائل ، الباب ٦١ من أبواب النجاسات ، ح ٥.

(٤) الكافي ٣ : ٣٩٧ / ٢ ، التهذيب ٢ : ٢٠٣ / ٧٩٦ ، الوسائل ، الباب ٦١ من أبواب النجاسات ، ح ٣.

٥٠

وصحيحة محمّد بن مسلم ، قال : سألته عن جلد الميتة أيلبس في الصلاة إذا دبغ؟ قال : «لا وإن دبغ سبعين مرّة» (١).

وموثّقة سماعة قال : سألته عن جلود السباع ينتفع بها؟ قال : «إذا رميت وسمّيت فانتفع بجلده ، وأمّا الميتة فلا» (٢).

وخبر القاسم الصيقل ، قال : كتبت إلى الرضا عليه‌السلام : إنّي أعمل أغماد السيوف من جلود الحمر الميتة ، فيصيب ثيابي أفأصلّي فيها؟ فكتب إليّ «اتّخذ ثوبا لصلاتك» فكتبت إلى أبي جعفر الثاني : كنت كتبت إلى أبيك بكذا وكذا ، فصعب عليّ ذلك ، فصرت أعملها من جلود الحمر الوحشيّة الذكيّة ، فكتب إليّ «كلّ أعمال البرّ بالصبر يرحمك الله ، فإن كان ما تعمل وحشيّا ذكيّا فلا بأس» (٣).

فظهر لك من جميع ما ذكرنا أنّه لا مجال للارتياب في صحّة ما عليه المشهور ، وبطلان القول بطهارة الجلد بالدباغ ، وكون التشكيك فيه كالتشكيك في أصل نجاسة الميتة تشكيكا في الضروريّات.

نعم ، ربما يتأمّل في نجاستها من الحيوان البحري ، نظرا إلى انصراف الأدلّة عنه ، وخروجه ممّا انعقد عليه الإجماع حيث حكي عن الشيخ في الخلاف أنّه قال : إذا مات في الماء القليل ضفدع أو ما لا يؤكل لحمه ممّا يعيش في الماء ،

__________________

(١) الفقيه ١ : ١٦٠ / ٧٥٠ ، التهذيب ٢ : ٢٠٣ / ٧٩٤ ، الوسائل ، الباب ١ من أبواب لباس المصلّي ، ح ١.

(٢) التهذيب ٩ : ٧٩ / ٣٣٩ ، الوسائل ، الباب ٣٤ من أبواب الأطعمة المحرّمة ، ح ٤.

(٣) الكافي ٣ : ٤٠٧ ـ ٤٠٨ / ١٦ ، التهذيب ٢ : ٣٥٨ / ١٤٨٣ ، الوسائل ، الباب ٣٤ من أبواب النجاسات ، ح ٤.

٥١

لا ينجس الماء ، وبه قال أبو حنيفة وقال الشافعي : إن قلنا : إنّه لا يؤكل ، فإنّه ينجّسه. دليلنا : أنّ الماء على أصل الطهارة ، والحكم بنجاسته يحتاج إلى دليل. وروي عنهم عليهم‌السلام «أنّه إذا مات فيه ما فيه (١) حياته لا ينجّسه» وهو يتناول هذا الموضع (٢). انتهى.

ولكنّ الأظهر النجاسة ، لعموم بعض الأدلّة المتقدّمة ، المعتضد بالشهرة والإجماعات المحكيّة ، فيخرج بذلك من حكم الأصل.

وأمّا ما نقله الشيخ عنهم عليهم‌السلام من الرواية : فقد اعترضه بعض (٣) بعدم وجدانه في كتب الأخبار.

أقول : ولعلّه أراد بذلك صحيحة ابن الحجّاج ـ المرويّة عن الكافي في باب لبس الخزّ ـ قال : سأل أبا عبد الله عليه‌السلام رجل ـ وأنا عنده ـ عن جلود الخزّ ، فقال : «ليس بها بأس» فقال الرجل : جعلت فداك إنّها في بلادي وإنّما هي كلاب تخرج من الماء ، فقال أبو عبد الله عليه‌السلام : «إذا خرجت من الماء تعيش خارجة من الماء؟» فقال الرجل : لا ، فقال : «لا بأس» (٤) حيث يفهم من التعليل نفي البأس عن كلّ ما لا يعيش إلّا في الماء ، فكأنّه فهم من ذلك طهارة ميتته ، لعدم معهوديّة ذبحه أو عدم إشعار في الرواية باشتراطه.

ويحتمل أن يكون مراده بما روي عنهم ما فهمه من الرواية التي هي من

__________________

(١) في المصدر : «إذا مات فيما فيه».

(٢) حكاه عنه البحراني في الحدائق الناضرة ٥ : ٧٠ ، وراجع : الخلاف ١ : ١٨٩ ، المسألة ١٤٦.

(٣) البحراني في الحدائق الناضرة ٥ : ٧٢.

(٤) الكافي ٦ : ٤٥١ / ٣ ، الوسائل ، الباب ١٠ من أبواب لباس المصلّي ، ح ١.

٥٢

مستندات العامّة من قوله عليه‌السلام في البحر : «هو الطهور ماؤه الحلّ ميتته» (١).

ولذا أجاب المصنّف في محكيّ المعتبر ـ عند تضعيف كلام الشيخ ـ عن هذه الرواية : بقوله : ولا حجّة لهم في قوله عليه‌السلام في البحر : «هو الطهور ماؤه الحلّ ميتته» لأنّ التحليل مختصّ بالسموك (٢) ، فكأنّه لم يفهم من عبارة الشيخ رحمه‌الله إلّا إرادته هذه الرواية ، وإلّا لكان التعرّض لتضعيف ما رواه أولى ، فكأنّ الشيخ رحمه‌الله فهم من حلّيّة ميتته حلّيّة الانتفاع بها ، التي هي مساوقة لطهارتها ، لا حلّيّة خصوص الأكل حتّى تختصّ بالسموك.

وكيف كان فالأقوى نجاسة الميتة من كلّ حيوان ذي نفس برّيّا كان أو بحريّا ، فلا يحلّ استعمالها في شي‌ء ممّا هو مشروط بالطهارة.

وهل يجوز استعمالها في غيره كالاستقاء بجلدها للبساتين ، أو إعمالها في أغماد السيوف ، كما يدلّ عليه بعض (٣) الأخبار المتقدّمة ، أو لا يجوز الانتفاع بها مطلقا ، كما هو ظاهر بعض النصوص وأغلب الفتاوى؟ فيه وجهان ، بل قولان لا يخلو أوّلهما عن قوّة.

وما ادّعاه بعض (٤) من مخالفته للإجماع ، اغترارا بظواهر الفتاوى المنصرفة عن مثل الفرض ، غير مسموع ، مع أنّ في كلمات جملة منهم تلويحات

__________________

(١) سنن ابن ماجة ١ : ١٣٦ ـ ١٣٧ / ٣٨٦ ـ ٣٨٨ ، سنن أبي داود ١ : ٢١ / ٨٣ ، سنن الترمذي ١ : ١٠٠ ـ ١٠١ / ٦٩ ، سنن النسائي ١ : ١٧٦ ، سنن الدار قطني ١ : ٣٦ ـ ٣٧ / ١٣ ـ ١٥ ، سنن البيهقي ١ : ٣.

(٢) حكاه عنه البحراني في الحدائق الناضرة ٥ : ٧٠ ، وراجع : المعتبر ١ : ١٠٢.

(٣) هو خبر القاسم الصيقل ، المتقدّم في ص ٥١.

(٤) انظر : السرائر ٣ : ٥٧٤.

٥٣

وتصريحات بجواز الانتفاع بها في مثل الفرض. وتحقيقه موكول إلى محلّه ، والله العالم.

هذا كلّه في ميتة ذي النفس غير الآدمي ، وأمّا الميّت من الإنسان : فيدلّ على نجاسته قبل غسله ـ مضافا إلى استفاضة نقل الإجماع عليه بالخصوص ، وإطلاق أو عموم بعض ما تقدّم ـ صحيحة الحلبي عن أبي عبد الله عليه‌السلام ، قال : سألته عن الرجل يصيب ثوبه جسد الميّت ، فقال : «يغسل ما أصاب الثوب» (١).

ورواية إبراهيم بن ميمون ، قال : سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن الرجل يقع ثوبه على جسد الميّت ، قال : «إن كان غسّل الميّت فلا تغسل ما أصاب ثوبك منه ، وإن كان لم يغسّل فاغسل ما أصاب ثوبك منه» (٢).

قال في الوسائل : يعني إذا برد الميّت (٣). انتهى.

والظاهر كونه تفسيرا من الراوي.

والتوقيع الخارج من الناحية المقدّسة في أجوبة مسائل محمّد بن عبد الله الحميري ـ المرويّ عن احتجاج الطبرسي وكتاب الغيبة للشيخ ـ حيث كتب إليه : روي لنا عن العالم عليه‌السلام أنّه سئل عن إمام قوم صلّى بهم بعض صلاتهم (٤) وحدثت

__________________

(١) الكافي ٣ : ١٦١ / ٤ ، التهذيب ١ : ٢٧٦ / ٨١٢ ، الإستبصار ١ : ١٩٢ / ٦٧١ ، الوسائل ، الباب ٣٤ من أبواب النجاسات ، ح ٢.

(٢) الكافي ٣ : ٦١ / ٥ ، التهذيب ١ : ٢٧٦ / ٨١١ ، الوسائل ، الباب ٣٤ من أبواب النجاسات ، ح ١.

(٣) الوسائل ، ذيل ح ١ من الباب ٣٤ من أبواب النجاسات. ولا يخفى أنّ قوله : «يعني إذا برد الميّت» موجود في الكافي ٣ : ٦١ ، ذيل ح ٥. وتأتي هذه الجملة أيضا في ص ٦٢ منسوبة إلى ذيل هذه الرواية ، بعنوان التفسير ، فلا حظ.

(٤) في النسخ الخطّيّة والحجريّة : «صلاته» بدل «صلاتهم». وما أثبتناه من المصدر.

٥٤

عليه حادثة كيف يعمل من خلفه؟ قال : «يؤخّر ويتقدّم بعضهم ويتمّ صلاتهم ويغتسل من مسّه».

التوقيع : «ليس على من نحّاه إلّا غسل اليد».

وعنه أيضا أنّه كتب إليه : وروي عن العالم عليه‌السلام أنّ من مسّ ميّتا بحرارته غسل يده ، ومن مسّه وقد برد فعليه الغسل ، وهذا الميّت في هذه الحالة لا يكون إلّا بحرارته ، فالعمل في ذلك على ما هو؟ ولعلّه ينحّيه بثيابه ولا يمسّه فكيف يجب عليه الغسل؟ التوقيع : «إذا مسّه على هذه الحال لم يكن عليه إلّا غسل يده» (١).

وعن الفقيه الرضوي «وإن مسّ ثوبك ميّتا فاغسل ما أصاب» (٢).

ويدلّ عليه أيضا : موثّقة عمّار ـ الواردة في باب البئر ـ قال : سئل أبو عبد الله عليه‌السلام عن رجل ذبح طيرا فوقع بدمه في البئر ، فقال : «ينزح منها دلاء هذا إذا كان ذكيّا فهو هكذا ، وما سوى ذلك ممّا يقع في بئر الماء فيموت فيه فأكثره الإنسان ينزح منها سبعون دلوا ، وأقلّه العصفور ينزح منها دلوا واحد ، وما سوى ذلك فيما بين هذين» (٣).

وقد عرفت تقريب الاستشهاد بها فيما سبق ، فلا ينبغي الارتياب في

__________________

(١) الاحتجاج : ٤٨٢ ، الغيبة : ٢٣٠ ، الوسائل ، الباب ٣ من أبواب غسل المسّ ، ح ٤ و ٥.

(٢) حكاه عنه البحراني في الحدائق الناضرة ٥ : ٦٦ ، وانظر : الفقه المنسوب للإمام الرضا عليه‌السلام :١٦٩.

(٣) التهذيب ١ : ٢٣٤ ـ ٢٣٥ / ٦٧٨ ، الوسائل ، الباب ٢١ من أبواب الماء المطلق ، ح ٢.

٥٥

الحكم ، ولا الالتفات إلى ما حكي (١) عن المحدّث الكاشاني من منع نجاسته تارة ، وحمل ما في الأخبار على إرادة الخباثة المعنويّة ، كنجاسة الجنب ، مستأنسا لذلك من الأخبار (٢) الدالّة على أنّ الميّت يجنب بموته ، ومنع سرايتها إلى الغير اخرى ، فيكون نجسا غير منجّس ، فإنّ ضعفهما ـ بعد مخالفتهما للفتاوى وظواهر الأخبار المتقدّمة خصوصا الأوّلين منها الآمرين بغسل الملاقي ـ واضح.

ويزيده وضوحا : الأدلّة المتقدّمة الدالّة على نجاسة الميتة من ذي النفس من سائر الحيوانات أيضا إن عمّم موضوع كلامه على وجه عمّ مطلق الميتة ، كما هو ظاهر ما نسب (٣) إليه في بعض العبائر.

وقد حكي القول بكون الميّت من الآدمي نجسا غير منجّس عن الحلّي أيضا.

لكنّ العبارة المحكيّة عن الحلّي ظاهرها الالتزام بذلك في ملاقيه ، لا فيه بنفسه ، بمعنى أنّه ملتزم بتأثير الملاقاة في تنجيس ملاقيه نجاسة حكميّة لا عينيّة ، فإنّه قال ـ على ما نقله في المدارك ـ : إذا لاقى جسد الميّت إناء ، وجب غسله ، ولو لاقى ذلك الإناء مائعا ، لم ينجس المائع ، لأنّه لم يلاق جسد الميّت ، وحمله على ذلك قياس ، والأصل في الأشياء الطهارة إلى أن يقوم دليل (٤). انتهى.

__________________

(١) الحاكي هو صاحب الجواهر فيها ٥ : ٣٠٦ ، وراجع : مفاتيح الشرائع ١ : ٦٧ و ٧١ و ٧٦.

(٢) منها : ما في الكافي ٣ : ١٦١ ـ ١٦٣ / ١ ، وعلل الشرائع : ٣٠٠ ـ ٣٠١ (الباب ٢٣٨) ح ٥ ، الوسائل ، الباب ٣ من أبواب غسل الميّت ، ح ٢ و ٨.

(٣) الناسب هو صاحب الجواهر فيها ٥ : ٣٠٦.

(٤) مدارك الأحكام ٢ : ٢٧١ ، وانظر : السرائر ١ : ١٦٣.

٥٦

وقد حكي عنه أيضا أنّه قال في مقام الاستدلال عليه : ولا خلاف بين الأمّة كافّة أنّ المساجد يجب أن تجنّب النجاسات العينيّة ، وأجمعنا بغير خلاف أنّ من غسّل ميّتا له أن يدخل المسجد ويجلس فيه ، فلو كان نجس العين ، لما جاز ذلك ، ولأنّ الماء المستعمل في الطهارة الكبرى طاهر بغير خلاف ، ومن جملة الأغسال غسل من مسّ ميّتا ، ولو كان ما لاقى الميّت نجسا ، لما كان الماء الذي يغتسل به طاهرا (١). انتهى.

ولا يخفى عليك أنّ هذا المعنى أيضا مآله إلى منع السراية بالمعنى المعهود ، وكون وجوب غسل الملاقي حكما تعبّديّا ، فما نسب إليه من القول بكونه نجسا غير منجّس في محلّه.

وأمّا ما استدلّ به لمدّعاه فلا يخفى ما فيه بعد ما عرفت في محلّه من أنّ المغسل للميّت يتبعه في الطهارة ، مع أنّ الالتزام بمنع دخول المسجد قبل التطهير بناء على عدم التبعيّة هيّن.

وأهون منه الالتزام بوجوب غسل يديه وغيرهما ممّا باشر الميّت قبل الغسل ، وقد ورد الأمر بغسل يديه قبل التكفين في الأخبار ، كما سمعته في محلّه (٢).

وأضعف منه الاستدلال على عدم نجاسة الميّت : بأنّه لو كان نجسا ، لم يطهر بالتغسيل ، فإنّه مجرّد استبعاد لغير البعيد ، مع ورود نظيره في الشرعيّات ،

__________________

(١) حكاه عنه المحقّق الحلّي في المعتبر ١ : ٣٤٩ ـ ٣٥٠ ، وانظر : السرائر ١ : ١٦٣.

(٢) راجع ج ٥ ، ص ٢٧٦.

٥٧

كطهارة الكافر بالإسلام والعصير بالنقص.

ثمّ لا يخفى عليك أنّ القول بكونه نجسا غير منجّس أوضح فسادا من إنكار نجاسته رأسا ، فإنّه إن استند في إثبات نجاسته إلى الإجماع ، فلم يفرّق القائلون بنجاسته عينا ـ على ما يظهر منهم ـ بين الميّت وبين غيره من النجاسات العينيّة في تنجيس ملاقيه. وإن كان مستنده الأخبار الآمرة بغسل ملاقيه ، فكيف يفهم منها نجاسة الميّت بعد فرض قصورها عن إثبات نجاسة الملاقي وإرادة غسله تعبّدا!؟

اللهمّ إلّا أن يدّعى أنّ وجوب غسل الملاقي من حيث هو من آثار نجاسة الشي‌ء ، كاستحباب نزح البئر بملاقاته على القول بعدم الانفعال ، وأمّا نجاسة الملاقي بالمعنى المعهود فهي حكم آخر تابع لدليله ، فيكشف الأمر بالغسل ـ كالأمر بالنزح ـ عن نجاسة الميّت دون ملاقيه.

ولكنّك خبير بما فيه ، فإنّه بعد الغضّ عن انتقاضه بملاقيات سائر النجاسات التي لم يرد فيها تصريح من الشارع بنجاستها ، إنّ المتبادر من الأمر بغسل الثوب من البول أو نحوه إنّما هو إرادة تطهيره ، فاستفادة النجاسة منه إنّما هي لذلك.

والحاصل : أنّه لا فرق بين قوله عليه‌السلام : «اغسل ثوبك من أبوال ما لا يؤكل لحمه» (١) وبين قوله عليه‌السلام : «فاغسل ما أصاب ثوبك منه» (٢) أي : من جسد الميّت ،

__________________

(١) تقدّم تخريجه في ص ١٣ ، الهامش (١).

(٢) تقدّم تخريجه في ص ٥٤ ، الهامش (٢).

٥٨

فيفهم من كلّ منهما ـ ولو بواسطة القرائن المغروسة في أذهان المتشرّعة ـ نجاسة الملاقي وتنجّس الثوب الملاقي له.

نعم ، لا يفهم من مثل هذه الأدلّة كون المتنجّس عند خلوّه من عين النجاسة منجّسا لما يلاقيه ، كعين النجس ، بل لا بدّ في إثبات ذلك من دليل آخر سيأتي التعرّض له إن شاء الله.

ويمكن تنزيل كلام الحلّي على إرادة هذا المعنى لو لا استدلاله عليه ببعض ما تقدّم عنه.

وكيف كان فالقول بكون الميّت نجسا غير منجّس ضعيف في الغاية ، بل الإشكال في المقام إنّما هو في كونه كغيره من النجاسات في عدم تنجيس ملاقيه إلّا برطوبة مسرية ، أو أنّه ينجّسه بمجرّد الملاقاة ولو من غير رطوبة ، كما حكي القول به عن غير واحد (١) ، بل عن ظاهر بعض الالتزام بذلك في مطلق الميتة (٢).

لكنّه ضعيف لا يساعد عليه دليل ، بل الأدلّة مصرّحة بخلافه.

ففي خبر عليّ بن جعفر عن أخيه موسى عليه‌السلام ، قال : سألته عن الرجل يقع ثوبه على حمار ميّت هل تصلح له الصلاة فيه قبل أن يغسله؟ قال : «ليس عليه غسله ، ويصلّي فيه ولا بأس» (٣).

__________________

(١) قواعد الأحكام ١ : ٢٢ ، منتهى المطلب ١ : ١٢٨ ، البيان : ٣٣ ، روض الجنان : ١١٤ ، وانظر :مدارك الأحكام ٢ : ٢٦٩ ، وجواهر الكلام ٥ : ٣٤٨.

(٢) حكاه صاحب الجواهر فيها ٥ : ٣٤٨ عن محتمل عبارتي القواعد ١ : ٢٢ ، والموجز الحاوي (ضمن الرسائل العشر) : ٦١.

(٣) التهذيب ١ : ٢٧٦ / ٨١٣ ، الإستبصار ١ : ١٩٢ / ٦٧٢ ، الوسائل ، الباب ٢٦ من أبواب النجاسات ، ح ٥.

٥٩

وأمّا في ميّت الإنسان فيستدلّ عليه بإطلاقات الأخبار المتقدّمة (١) الدالّة على وجوب غسل ما أصاب ثوبك منه ، ووجوب غسل اليد الماسّة له.

لكن يتوجّه عليه : أنّ الروايتين (٢) الآمرتين بغسل ما أصاب الثوب منه ظاهرهما ـ خصوصا بملاحظة ما فيهما من اختلاف التعبير الواقع بين السؤال والجواب ـ إنّما هو وجوب غسل ما أصاب الثوب من جسد الميّت ، لا غسل ما وقع من الثوب عليه مطلقا ، والمتبادر منه إنّما هو إرادة غسل ما أصابه من الرطوبات الواصلة إليه من الميّت.

ولذا نزّله المحدّث الكاشاني ـ القائل بعدم نجاسة الميّت ـ على إرادة الرطوبات النجسة الخارجة منه من بول ودم ونحوهما (٣).

وهذا التنزيل وإن كان تأويلا بلا مقتض لكن غاية ما يستفاد من إطلاق العبارة وجوب غسل ما لاقاه برطوبة متعدّية خصوصا بضميمة ما هو المركوز في الأذهان من اعتبار الرطوبة في السراية ، فإنّه بنفسه قرينة صارفة للإطلاق.

وبهذا قد يجاب عن إطلاق الأمر بغسل اليد في التوقيعين (٤).

والأولى في الجواب منع إطلاقهما من هذه الجهة ، فإنّ المتبادر من قوله عليه‌السلام : «ليس على من نحّاه إلّا غسل اليد» (٥) وقوله عليه‌السلام : «إذا مسّه على هذه

__________________

(١) في ص ٥٤ وما بعدها.

(٢) أي : روايتا الحلبي وإبراهيم بن ميمون ، المتقدّمتان في ص ٥٤.

(٣) مفاتيح الشرائع ١ : ٦٦.

(٤) تقدّما في ص ٥٥.

(٥) تقدّم تخريجه في ص ٥٥ ، الهامش (١).

٦٠