مصباح الفقيه - ج ٧

الشيخ آقا رضا الهمداني

مصباح الفقيه - ج ٧

المؤلف:

الشيخ آقا رضا الهمداني


المحقق: المؤسّسة الجعفريّة لإحياء التراث ـ قم المقدّسة
الموضوع : الفقه
الناشر: منبع
الطبعة: ١
الصفحات: ٣٣٦

أولاد المشركين يموتون قبل أن يبلغوا الحنث (١) ، قال : «كفّار والله أعلم بما كانوا عاملين يدخلون مداخل آبائهم» (٢).

وخبر وهب بن وهب عن جعفر بن محمّد [عن أبيه عليهما‌السلام قال :] (٣) «قال [عليّ عليه‌السلام :] (٤) أولاد المشركين مع آبائهم في النار ، وأولاد المسلمين مع آبائهم في الجنّة» (٥).

وفي حديث : «فأمّا أطفال المؤمنين فإنّهم يلحقون بآبائهم ، وأولاد المشركين يلحقون بآبائهم ، وهو قول الله عزوجل (وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمانٍ أَلْحَقْنا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ) (٦)» (٧).

وفي دلالة مثل هذه الأخبار على نجاستهم ما داموا في دار الدنيا تأمّل بل منع.

نعم ، لا بأس بذكرها في مقام التأييد.

واستدلّ أيضا لنجاسته : باستصحاب نجاسته حال كونه جنينا في بطن أمّه ، وبتنقيح المناط عند أهل الشرع حيث إنّهم يتعدّون من نجاسة الأبوين ذاتا إلى المتولّد منهما ، فهو شي‌ء مركوز في أذهانهم وإن لم نعلم وجهه تفصيلا ، فكم لهم من هذا القبيل.

__________________

(١) غلام لم يبلغ الحنث ، أي : لم يجر عليه القلم. مجمع البحرين ٢ : ٢٥٠ «حنث».

(٢) الفقيه ٣ : ٣١٧ / ١٥٤٤ ، وعنه في البحار ٥ : ٢٩٥ / ٢٢.

(٣) ما بين المعقوفين من المصدر.

(٤) ما بين المعقوفين من المصدر.

(٥) الفقيه ٣ : ٣١٧ / ١٥٤٣ ، وعنه في البحار ٥ : ٢٩٤ / ٢١.

(٦) الطور ٥٢ : ٢١.

(٧) الكافي ٣ : ٢٤٨ ، ذيل ح ٢ ، وعنه في البحار ٥ : ٢٩٢ / ٩.

٢٦١

وفيهما ما لا يخفى.

ولو كان أحد الأبوين مسلما ، تبعه الولد ، دون الآخر الكافر ، كما صرّح به غير واحد.

ولو أسلما بعد الولادة ، تبعهما في الحكم ، وكذا لو أسلم أحدهما ، إذ لا فرق بين سبق الإسلام أو لحوقه في أنّه يعلو ولا يعلى عليه.

وحيث إنّ عمدة دليل الحكم بالتبعيّة هو الإجماع والسيرة ، فليقتصر على القدر المتيقّن من موردهما ، وهو : ثبوت الحكم مع بقاء تبعيّته لهما عرفا ولو بنحو من المسامحة العرفيّة بكونه معدودا في عداد الكفّار تبعا لدارهم ، فلو استقلّ الولد وانفرد ولحق بدار الإسلام وخالط المسلمين ، خرج من حدّ التبعيّة العرفيّة ، خصوصا مع تديّنه في الظاهر بدين الإسلام ، ولا سيّما على القول بشرعيّة عبادة الصبيّ ، فلا ينبغي الاستشكال في طهارته.

اللهمّ إلّا أن ينعقد الإجماع على بقاء أثر التبعيّة ما لم يبلغ وإن خرج من حدّها عرفا.

وهو بعيد ، خصوصا مع عدم تعرّض الأصحاب لحكم هذا الفرع.

نعم ، صرّحوا فيمن سباه مسلم بأنّه يتبع السابي إذا كان منفردا عن أبويه ، بخلاف ما لو كان معهما ، معلّلا ذلك بالإجماع والسيرة القطعيّة على المعاملة مع السبايا معاملة المسلمين ، فيظهر من تخصيصهم لهذا الفرع بالذكر وتعليلهم بتبعيّته للسابي والاستدلال عليه بالإجماع والسيرة : أنّه لو لا تبعيّته للمسلم لكان مقتضى الأصل فيه النجاسة ، لكن إثبات الإجماع بالنسبة إلى الفرع المسكوت عنه

٢٦٢

بمثل هذه الاستظهارات لا يخلو عن إشكال.

وربما استشكل بعض (١) في طهارة المسبيّ أيضا مع ما سمعت من دعوى الإجماع والسيرة عليها ، نظرا إلى استصحاب حالته السابقة.

وفيه ما عرفت من تبدّل الموضوع ، فإنّه لم يثبت الحكم إلّا للكفّار ومن يعدّ منهم تبعا ، وقد خرج الولد عرفا من حدّ التبعيّة.

ودعوى بقاء الموضوع عرفا ، وهو المناط في جريان الاستصحاب ، مدفوعة : بأنّ وصف التبعيّة بنظر العرف أيضا من مقوّمات الموضوع في مثل هذه الأحكام التي يرون ثبوتها له بالتبع.

هذا ، مع أنّ الاستصحاب فيه من قبيل الشكّ في المقتضي ، ولا اعتداد به ، فليتأمّل.

ولا يخفى عليك أنّ ما ذكرناه ـ من لزوم الاقتصار على القدر المتيقّن ـ إنّما هو في الآثار المخالفة للأصل ، الثابتة له بالتبع ، كنجاسة البدن ، وجواز الاسترقاق ونحوه ، وأمّا الآثار الموافقة للأصل ـ كعدم وجوب تجهيزه والصلاة عليه بعد موته ـ فلا يرفع اليد عنها ما لم يثبت اندراجه في زمرة المسلمين حقيقة أو حكما.

وهل يندرج في زمرتهم حكما من سباه المسلم منفردا عن أبويه ، كما يظهر ممّا حكي عن المشهور من حكمهم بتبعيّته للسابي مطلقا (٢) ، أم لا ، كما

__________________

(١) الشهيد الثاني في مسالك الأفهام ٣ : ٤٤.

(٢) حكاه العلّامة الحلّي في مختلف الشيعة ١ : ٤٣٤ ، المسألة ٤٩ عن ابن الجنيد ، وكذا عن الشيخ الطوسي في المبسوط ٢ : ٢٣ ، وابن البرّاج في المهذّب ١ : ٣١٨.

٢٦٣

حكي عن جماعة (١) من تصريحهم بعدم تبعيّته له إلّا في الطهارة التي أشرنا إلى عدم احتياجه فيها إلى التبعيّة ، وكفاية استقلاله وخروجه من حدّ تبعيّة أبويه عرفا في حصولها؟ فيه تردّد ، لأنّ مستند الحكم السيرة القطعيّة على المعاملة مع السبايا معاملة المسلمين ، وفي استقرارها على نحو يستكشف بها رأي المعصوم بالنسبة إلى الآثار المخالفة للأصل ، الثابتة للمسلمين بواسطة إسلامهم تأمّل.

وهكذا الكلام في اللقيط الذي لم يعرف كونه من أولاد المسلمين أو الكفّار ، فقد حكي عن الشيخ رحمه‌الله الحكم بإسلام لقيط دار الإسلام إذا كان فيها مسلم صالح لتولّده منه ، سواء بنيت في الإسلام ولم يقربها الكفّار ، أم كانت دار حرب غلب عليها المسلمون فأخذوها صلحا أو قهرا ، أو كانت دار الإسلام فغلب عليها أهل الحرب. وكذا لقيط دار الحرب إذا استوطنها مسلم ولو أسيرا ، كلّ ذلك للنبويّ المشهور : «الإسلام يعلو ولا يعلى عليه» (٢). وأمّا إذا دخلها التجّار ، فذكر فيه وجهين : الإسلام ، لغلبة جانبه ، والعدم ، لأنّ الدار دار كفر (٣).

قال شيخنا المرتضى رحمه‌الله ـ بعد نقل ما حكي عن الشيخ ـ : والتحقيق في ذلك كلّه الحكم بالطهارة ، لأنّها الأصل ، وأمّا أحكام الإسلام فكلّما كان الإسلام

__________________

(١) منهم : العلّامة الحلّي في قواعد الأحكام ١ : ١٠٥ ، وفخر المحقّقين في إيضاح الفوائد ١ : ٣٦٤ ، وابن إدريس كما حكاه عنه الشهيد الثاني في مسالك الأفهام ٣ : ٤٣ ، ولم نعثر عليه في السرائر. وكذا المحقّق الكركي ـ على ما في المسالك ٣ : ٤٣ ـ ٤٤ ـ في حاشيته على الشرائع ، وهي مخطوطة.

(٢) الفقيه ٤ : ٢٤٣ / ٧٧٨ ، الوسائل ، الباب ١ من أبواب موانع الإرث ، ح ١١.

(٣) كما في كتاب الطهارة ـ للشيخ الأنصاري ـ : ٣٥١ ، وانظر : المبسوط ٣ : ٣٤٣.

٢٦٤

شرطا فلا يحكم به ، وكلّما كان الكفر مانعا فيحكم به (١). انتهى.

وهو جيّد فيما إذا لم يكن الغالب فيها المسلمين ، وإلّا فلا يبعد الحكم بإسلامه ، فإنّ اعتبار الغلبة في مثل المقام لا يخلو عن وجه.

وقد تقدّم في مبحث غسل الميّت ما له ربط بالمقام ، وأشرنا في ذلك المبحث إلى ضعف الاستدلال في نظائر المقام بالنبويّ المتقدّم (٢) ، وبقوله عليه‌السلام : «كلّ مولود يولد على الفطرة» (٣) إلى آخره ، فراجع (٤).

بقي الكلام في شرح مفهوم «الكافر».

فنقول ـ وبالله الاستعانة ـ : الكفر لغة هو : الجحد والإنكار ، ضدّ الإيمان ، فالشاكّ في الله تعالى أو في وحدانيّته أو في رسالة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله ما لم يجحد شيئا منها لا يكون كافرا لغة ، ولكنّ الظاهر صدقه عليه في عرف الشارع والمتشرّعة ، كما يظهر ذلك بالتدبّر في النصوص والفتاوى.

وما يظهر من بعض الروايات من إناطة الكفر بالجحود ـ مثل : رواية محمّد ابن مسلم ، قال : سأل أبو بصير أبا عبد الله عليه‌السلام ، قال : ما تقول في من شكّ في الله تعالى؟ قال : «كافر يا أبا محمّد» قال : فشكّ في رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، قال : «كافر» ثمّ التفت إلى زرارة ، فقال : «إنّما يكفر إذا جحد» (٥) وفي رواية أخرى : «لو أنّ العباد (٦)

__________________

(١) كتاب الطهارة : ٣٥١.

(٢) في ص ٢٦٤.

(٣) صحيح البخاري ٢ : ١٢٥ ، سنن أبي داود ٤ : ٢٢٩ / ٤٧١٤ ، سنن البيهقي ٦ : ٢٠٢ ، مسند أحمد ٢ : ٢٣٣ ، المعجم الكبير ـ للطبراني ـ ١ : ٢٨٤ / ٨٣٠.

(٤) ج ٥ ص ١١١ ـ ١١٥.

(٥) الكافي ٢ : ٣٩٩ (كتاب الإيمان والكفر ، باب الشكّ) ح ٣.

(٦) في لنسخ الخطّيّة والحجريّة : «الناس» بدل «العباد». وما أثبتناه من المصدر.

٢٦٥

إذا جهلوا وقفوا ولم يجحدوا لم يكفروا» (١) ـ فلا يبعد أن يكون المراد به أنّ الناس المعروفين بالإسلام المعترفين بالشهادتين ، الملتزمين بشرائع الإسلام في الظاهر إذا طرأ في قلوبهم الشكوك والشبهات الناشئة من جهالتهم لا يخرجون بذلك من زمرة المسلمين ما لم يجحدوا ذلك الشي‌ء الذي شكّوا فيه ولو بترتيب آثار عدمه في مقام العمل ، كترك الصلاة والصوم ونحوهما ، فليس المراد بمثل هذه الروايات أنّ من لم يتديّن بدين الإسلام ولم يلتزم بشي‌ء من شرائعه معتذرا (٢) بجهله بالحال ليس بكافر ، بل لا ينبغي الارتياب في أنّ الملاحدة وغيرهم من صنوف الكفّار لا يخرجون من حدّ الكفر إلّا بالإقرار بالشهادتين والتديّن بشرائع الإسلام على سبيل الإجمال.

وهل يكفي الإقرار والتديّن الصوري في ترتيب أثر الإسلام من جواز المخالطة والمناكحة والتوارث ، أم تعتبر مطابقته للاعتقاد ، فلو علم نفاقه وعدم اعتقاده ، حكم بكفره ، وأمّا لو لم يعلم بذلك ، حكم بإسلامه ، نظرا إلى ظاهر القول؟ وجهان لا يخلو أوّلهما عن قوّة ، كما يشهد بذلك معاشرة النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله مع المنافقين المظهرين للإسلام مع علمه بنفاقهم.

مضافا إلى شهادة جملة من الأخبار (٣) بكفاية إظهار الشهادتين في الإسلام

__________________

(١) الكافي ٢ : ٣٨٨ (كتاب الإيمان والكفر ، باب الكفر) ح ١٩ ، الوسائل ، الباب ٢ من أبواب مقدّمة العبادات ، ح ٨.

(٢) في الطبعة الحجريّة : «متعذّرا».

(٣) منها : ما في الكافي ٢ : ٢٤ (كتاب الإيمان والكفر ، باب أنّ الإسلام يحقن به الدم ..) ح ٤ ، و ٢٥ ـ ٢٦ (باب أنّ الإيمان يشرك الإسلام ..) ح ١ و ٥.

٢٦٦

الذي به يحقن الدماء ويجري عليه المواريث من غير إناطته بكونه ناشئا من القلب ، وإنّما يعتبر ذلك في الإيمان الذي به يفوز الفائزون ، وهو أخصّ من الإسلام الذي عليه عامّة الأمّة ، كما نطق بذلك الأخبار (١) الكثيرة ، وشهد له قول الله عزوجل (قالَتِ الْأَعْرابُ آمَنّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنا وَلَمّا يَدْخُلِ الْإِيمانُ فِي قُلُوبِكُمْ) (٢).

ويستفاد من تلك الأخبار الكثيرة إسلام المخالفين المنكرين للولاية ، بل جملة منها مصرّحة بذلك ، وسيأتي التعرّض لبعضها إن شاء الله.

ويشهد له أيضا السيرة المستمرّة من زمان حدوث الخلاف إلى يومنا هذا على المعاملة معهم معاملة المسلمين ، بل المتأمّل في الأخبار المسوقة لبيان الآثار العمليّة المتفرّعة على الإسلام ـ مثل : حلّ ذبيحة المسلم ، وطهارة ما في أيدي المسلمين وأسواقهم من الجلود وغيرها ـ لا يكاد يشكّ في أنّ المراد بالمسلم ما يعمّهم ، فلا ينبغي الارتياب في أنّهم مسلمون ، لكن لا كرامة لهم بذلك ، فإنّه ليس لهم منه في الآخرة من نصيب.

فما في الأخبار (٣) المستفيضة بل المتواترة ممّا يدلّ على كفر جاحد الولاية محمول على ما لا ينافي إسلامهم الظاهري المترتّب عليه الآثار العمليّة.

__________________

(١) راجع : الكافي ٢ : ٢٥ ـ ٢٦ (باب أنّ الإيمان يشرك الإسلام ..) الأحاديث ١ ـ ٥.

(٢) الحجرات ٤٩ : ١٤.

(٣) منها : ما في الكافي ١ : ١٨٧ (كتاب الحجّة ، باب فرض طاعة الأئمّة) ح ١١ ، و ٤٣٧ (باب فيه نتف وجوامع من الرواية في الولاية) ح ٧ ، و ٢ : ٣٨٨ (كتاب الإيمان والكفر ، باب الكفر) ح ١٦ ، وثواب الأعمال وعقاب الأعمال : ٢٤٩ / ١١ ، وإكمال الدين : ٤١٢ / ٩.

٢٦٧

فما عن بعض الأصحاب ـ من الحكم بكفرهم في الظاهر (١) ـ ضعيف.

والحاصل : أنّه ـ بعد أن علم أنّ الأئمّة عليهم‌السلام وأصحابهم لم يزالوا يعاملون معهم معاملة المسلمين ، ودلّت الأخبار المتكاثرة على إسلامهم ، ووضوح إرادة الأعمّ منهم في كثير من الأخبار المسوقة لبيان الآثار العمليّة المتفرّعة على الإسلام ـ لا مجال للارتياب في كونهم محكومين بالإسلام في مقام العمل ، فمقتضى الجمع بين هذه الأدلّة وبين ما دلّ على كفرهم إمّا الالتزام بكفرهم حقيقة وإسلامهم حكما ، وبه يتمّ المدّعى ، إذ لم يقصد إثبات صفة الإسلام لهم إلّا بلحاظ الآثار المترتّبة عليه في مقام العمل ، أو الالتزام بأنّ لهم مرتبة من الكفر لا تترتّب عليه (٢) الآثار العمليّة ، فإنّ للكفر مراتب أدناها إنكار حكم من الأحكام الشرعيّة إثباتا أو نفيا ، فإنّ من أنكر حكما شرعيّا تصحّ نسبة الكفر إليه بلحاظ ذلك الحكم ، بل يصحّ أن يسند إليه الخروج من الدين ، والكفر بشريعة خاتم النبيّين صلى‌الله‌عليه‌وآله باعتبار أنّ الشريعة اسم للمجموع من حيث المجموع.

ويشهد على صحّة إطلاق الكفر أو الشرك بإنكار حكم شرعيّ غير واحد من الأخبار :ففي الصحيح عن أبي جعفر عليه‌السلام : عن أدنى ما يكون به العبد مشركا ، قال :«من قال للنواة : حصاة ، وللحصاة نواة ودان به» (٣).

__________________

(١) كما في جواهر الكلام ٦ : ٦٢ ـ ٦٣ عن الفاضل محمّد صالح في شرحه على أصول الكافي ٥ : ١٥٦ ـ ١٥٧ ، و ١٧٢ ـ ١٧٣ ، والقاضي نور الله في إحقاق الحقّ ٢ : ٣٠٧.

(٢) في «ض ١٠ ، ١١» : «عليها».

(٣) الكافي ٢ : ٣٩٧ (كتاب الإيمان والكفر ، باب الشرك) ح ١ ، والراوي هو بريد العجلي.

٢٦٨

وفي مكاتبة عبد الرحيم القصير : «لا يخرجه ـ أي المسلم ـ إلى الكفر إلّا الجحود ، والاستحلال أن يقول للحلال : هذا حرام ، وللحرام : هذا حلال ، ودان بذلك ، فعندها يكون خارجا من الإسلام والإيمان ، داخلا في الكفر» (١).

ويحتمل أن يكون المراد بهذه المكاتبة الكفر المطلق الذي تترتّب عليه آثاره ، كما ستعرف توجيهه.

وفي خبر آخر : «أدنى ما يكون العبد به كافرا من زعم أنّ شيئا نهى الله عنه أنّ الله أمر به ونصبه دينا» (٢) إلى غير ذلك من الأخبار.

وأنت خبير بأنّ هذه المرتبة من الكفر ، المتحقّقة بتحريف الشريعة زيادة أو نقصا لا تؤثّر في ترتيب آثار الكفر ، ولا في إطلاق الكافر عليه عرفا وشرعا ما لم يكن المحرّف متعهّدا في ذلك بحيث يوجب تحريفه تكذيب النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله وإنكار رسالته ولو في الجملة.

وكيف كان فالمعتبر في الإسلام ـ الذي به يخرج من حدّ الكفر ، وتترتّب عليه الآثار العمليّة على ما يستفاد من النصوص والفتاوى بعد التأمّل والتدبّر ـ إنّما هو الشهادة بالتوحيد والرسالة وتصديق الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله في جميع أحكامه على سبيل الإجمال ، المستلزم للتديّن بالأحكام الضروريّة الثابتة في الشريعة من وجوب الصلاة والزكاة والصوم والحجّ ونحوها من الضروريّات التي لا تكاد

__________________

(١) الكافي ٢ : ٢٧ ـ ٢٨ (كتاب الإيمان والكفر ، باب آخر منه وفيه أنّ الإسلام قبل الإيمان) ذيل ح ١.

(٢) الكافي ٢ : ٤١٤ ـ ٤١٥ (كتاب الإيمان والكفر ، باب أدنى ما يكون العبد به مؤمنا أو كافرا أو ضالّا) ضمن ح ١.

٢٦٩

تختفي شرعيّتها على من تديّن بهذا الدين ، فمثل هذه الأشياء وإن لم يكن الاعتراف بحقّيّتها تفصيلا من مقوّمات الدين لكنّ التديّن بها وعدم إنكارها شرط في تحقّق الإسلام ، فإنّ إنكار مثل هذه الأمور المعروف ثبوتها في الشريعة يناقض الاعتراف الإجمالي بصدق النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله وحقّيّة شريعته.

(و) قد أشرنا آنفا إلى أنّ من لم يتديّن بدين الإسلام فهو كافر في عرف الشارع والمتشرّعة ، سواء جحد أم لم يجحد ، فالكافر (ضابطه : كلّ من خرج من) حدّ المسلم ، سواء باين (الإسلام) بأن لم يشهد بالتوحيد أو الرسالة كسائر فرق الكفّار (أو انتحله) بإظهار الشهادتين (و) لكن (جحد ما يعلم من الدين ضرورة) ممّا ينافي إنكاره الاعتراف الإجمالي (كالخوارج) الذين استحلّوا قتل الأمير والحسنين عليهم‌السلام ، بل مطلق النواصب الذين أظهروا عداوة أهل البيت الذين أوجب الله مودّتهم وولايتهم ، وأذهب عنهم الرجس وطهّرهم تطهيرا ، مع علمهم بعظمة شأنهم في الإسلام ووجوب الصلاة عليهم في كلّ صلاة ، واهتمام النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله في الأمر بولايتهم ومودّتهم ، وإخباره بأنّهم سادات أهل الجنّة (١) ، وأنّ عليّا مع الحقّ والحقّ مع عليّ (٢) ، وغير ذلك من الأخبار التي لا يجتمع الإذعان بصدقها مع النصب واستحلال القتل والاستخفافات التي أظهروها قولا وفعلا ،

__________________

(١) المناقب ـ لابن شهرآشوب ـ ٣ : ٣٩٤ ، المستدرك ـ للحاكم ـ ٣ : ١٦٦ ـ ١٦٧ ، سنن ابن ماجة ١ : ٤٤ / ١١٨ ، سنن الترمذي ٥ : ٦٥٦ / ٣٧٦٨ ، مسند أحمد ٣ : ٣ و ٦٢ ، المعجم الكبير ـ للطبراني ـ ٣ : ٣٥ ـ ٣٦ / ٢٥٩٨ ـ ٢٦٠٢ ، و ٣٧ / ٢٦٠٥ ، تاريخ بغداد ١ : ١٤٠ ، حلية الأولياء ٤ : ١٣٩ و ١٤٠ ، و ٥ : ٥٨ و ٧١ ، وما ورد فيها بشأن الحسنين عليهما‌السلام.

(٢) تاريخ بغداد ١٤ : ٣٢١ ، المناقب ـ لابن شهرآشوب ـ ٣ : ٦٢ ، مجمع الزوائد ٧ : ٢٣٥.

٢٧٠

فلم يكونوا مذعنين بصدق النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله فيما أوصاهم في أهل بيته.

لكن ليعلم أنّ إنكار الضروريّ أو غيره من الأحكام المعلومة الصدور عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ليس ضروريّ التنافي للتصديق الإجماليّ ، بل قد يجتمعان بواسطة بعض الشكوك والشبهات الطارئة على النفس ، فليس الإنكار في مثل الفرض منافيا للإيمان بالله ورسوله ، فلا يكون موجبا للكفر ، إلّا أن نقول بكونه من حيث هو ـ كالكفر بالله ورسوله ـ سببا مستقلّا له ، كما هو صريح بعض ، وظاهر آخرين.

بل ربما استظهر ذلك من المشهور حيث جعلوه قسيما للأوّلين.

وفيه تأمّل ، نظرا إلى ما صرّح به غير واحد ـ بل قد يقال : إنّه هو المشهور عندهم ـ من استثناء صورة الشبهة ، وهو لا يناسب سببيّته المستقلّة.

فالمهمّ في المقام إنّما هو تشخيص موارد التنافي ، التي نحكم فيها بكفر المنكر وإن لم نقل بسببيّته المستقلّة.

فنقول : أمّا مع التفات المنكر إلى التنافي بين إنكاره وتصديقه الإجماليّ فالأمر واضح ، فإنّه من أوضح مصاديق الكفّار.

اللهمّ إلّا أن يقال بعدم اشتراط الإسلام بتصديق النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله في جميع الأحكام ، وكفاية تصديقه في البعض.

لكنّه خلاف ما يفهم من النصوص والفتاوى ، بل لا يبعد اندراجه في الموضوع الذي أخبر الله تعالى عنهم بقوله تعالى (وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذلِكَ سَبِيلاً. أُولئِكَ هُمُ

٢٧١

الْكافِرُونَ حَقًّا) (١) وإن كانت الآية بظاهرها منصرفة عنه.

هذا إذا كان ملتفتا ، وأمّا إن كان غافلا عن التنافي أو معتقدا عدمه ، فإمّا أن يكون منشؤ غفلته المسامحة وعدم المبالاة بالدين ، كغفلة المنهمكين في شرب الخمر ـ مثلا ـ عن حرمتها من باب عدم المبالاة بالحرمة ، أو منشؤها الاغترار بقول من يحسنون به الظنّ ، كالهمج الرعاء ، الذين قلّدوا رؤساءهم ومشايخهم في قتل الحسين عليه‌السلام والخروج على الأمير عليه‌السلام ، فأخذوا بقولهم ونبذوا ما بلغهم عن الله ورسوله في فضلهما وراء ظهورهم ، فحالهم حال عوام اليهود الذين قلّدوا علماءهم في تكذيب النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وعلماؤهم كعلمائهم ، فلا ينبغي الاستشكال في كفرهم بعد فرض علمهم بقول النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وعدم اعتنائهم به ، سواء كان مبناه المسامحة أو التقليد.

اللهمّ إلّا أن يكون حسن الظنّ بمقلّده موجبا للتشكيك في ما أراده النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله بقوله ، لا في صحّة القول وعدم الإيمان به على الإطلاق ، فيكون معترفا بما إرادة النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله بمقتضى تصديقه الإجماليّ ، لا بظاهر قوله. وسيأتي الكلام في حكم هذه الصورة.

وإمّا أن يكون منشؤ الغفلة غفلته عن مقام النبوّة وتوهّم كون الحكم الخاصّ الصادر عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ناشئا من اجتهاده أو ميلة النفسانيّ ، فخطّأه في ذلك غفلة عن كونه ردّا على النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله بل تكذيبا لله تعالى في قوله (وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى) (٢) فهذا النحو من الإنكار قد يكون بدويّا يرتدع المنكر عنه بمجرّد

__________________

(١) النساء ٤ : ١٥٠ و ١٥١.

(٢) النجم ٥٣ : ٣.

٢٧٢

الالتفات إلى نبوّته وما يقتضيه تصديقه الإجماليّ. وقد يكون مستقرّا ناشئا ممّا بنى عليه من اجتهاد النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله في بعض الأحكام ، كما أنّ العامّة ـ بحسب الظاهر ـ لا يستنكرون ذلك ، بل ربما يدّعون صدور الخطأ عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله في مواطن عثر عليه رئيسهم ، فأرشده إلى الصواب ، واهتدى به النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله.

وكيف كان فإن كان هذا في الأحكام الشرعيّة أو غيرها من الأمور المتعلّقة بمنصب النبوّة ، أي : ما كان الإخبار فيها إخبارا عن حكم الواقعة بلحاظ كونه نبيّا ، فلا ينبغي الاستشكال في كونه موجبا للكفر بناء على وجوب تصديقه في جميع ما جاء به ، كما هو الظاهر من النصوص والفتاوى ، إذ لا اعتبار بالاعتراف الإجماليّ بصدقه في ما جاء به مع الردّ عليه في الموارد الخاصّة ، كما هو ظاهر.

لكن هذا في الإنكار المستقرّ المبنيّ على تخطئة النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وأمّا الإنكار البدويّ الناشئ من الغفلة عن نبوّته فهو ـ على الظاهر ـ بمنزلة ما لو أنكر على شخصه حكما شرعيّا وهو لا يعرفه ، فهو غير مناف لتصديقه الإجماليّ ، كما أنّه لا ينافي ذلك لو أنكر شيئا ضروريّا بناء منه على أنّ ما هو المعروف عند الناس مغاير لما أراده النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ، كما لو زعم أنّ مراده صلى‌الله‌عليه‌وآله ، من الصلاة التي أوجبها مطلق الدعاء ، ولكنّ الناس اشتبهوا فزعموا أنّ مراده الأركان المخصوصة ، فهو معترف إجمالا بحقّيّة ما زعمه الناس صلاة على تقدير كونه مرادا للنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ، لكنّه يزعم أنّه صلى‌الله‌عليه‌وآله لم يرده ، كما هو الشأن في جميع الأحكام الواقعيّة التي ينفيها المجتهد بالأدلّة الاجتهاديّة ، فإنّ إنكاره لها لا يقدح في إيمانه بالرسول في جميع ما أتى به ، لا لما توهّمه بعض من أنّ التعبّد بالأحكام الظاهريّة أيضا ممّا أتى به الرسول ،

٢٧٣

فيكون مصدّقا له في هذه الأحكام ، بل لما أشرنا إليه من عدم التنافي إذا التزم بخطئه على تقدير مخالفة قوله لقول الرسول ، غاية الأمر أنّه اعتقد عدم المخالفة ، ولا ضير فيه ، ولذا لو أنكرها العوام أيضا أو المجتهد بظنون غير معتبرة لا يوجب كفره.

وهذا النحو من الإنكار الغير المنافي للتصديق الإجماليّ يتصوّر على أنحاء ، فإنّه تارة يؤوّل كلام النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله متشبّثا بقواعد لفظيّة أو قرائن عقليّة أو نقليّة ، حاليّة أو مقاليّة يزعم صلاحيّتها للقرينيّة لصرف الكلام عرفا ، فيحمل الكلام الصادر عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله على المعنى الذي أراده بواسطة تلك القرائن ، كما لو ادّعى في المثال السابق أنّ الصلاة لغة هي الدعاء ، ولم يثبت عندي إرادة غير معناها اللغوي ، والأصل عدم النقل.

وهذا النحو من الإنكار لا يوجب الكفر بلا شبهة بناء على عدم كونه سببا مستقلّا ، كما هو المفروض.

وتارة يؤوّله بواسطة بعض الأمور الغير الصالحة للقرينيّة عرفا ، مثل ما حكي عن بعض الجهّال من المتصوّفة من إنكار وجوب الصلاة ونحوها على مشايخهم الذين أكملوا نفوسهم بالرياضات بزعمهم ، مدّعيا أنّ المقصود بالعبادات تكميل النفوس ، فيسقط التكليف عنها بعد الكمال (١).

ونظير ذلك ما لو اعترف بظهور الكلام في المعنى المعروف ، ولكن ادّعى صدوره من باب التورية ونحوها من الأمور المقتضية لإظهار خلاف الواقع.

__________________

(١) راجع : الأنوار النعمانيّة ٢ : ٢٨٢.

٢٧٤

وحكم هاتين الصورتين كحكم الصورة السابقة إن قلنا بأنّ إرادة خلاف الظاهر ممّا له ظاهر من غير نصب قرينة ليس بكذب ، وإلّا ففيه إشكال ، وإن كان الأظهر فيه أيضا عدم الكفر ، لانصراف ما دلّ على سببيّة التكذيب للكفر عن مثل ذلك ، كما أنّه ينصرف عمّا لو أسند إليه صريحا الكذب المجوّز بأن قيل : إنّه كذب في المورد الكذائي حفظا لنفسه عن القتل.

وبهذا ظهر أنّه لو لم يدّع التورية والتأويل أيضا ، بل حمل كلامه على كونه كذبا صادرا عن تقيّة ، لا يكون ذلك أيضا موجبا للكفر.

وتارة يؤوّل كلامه بما ينافي الإذعان برسالته على كافّة العباد ، كما لو قيل ـ مثلا ـ بأنّ المقصود ببعث الرسول اللطف وإهداء القاصرين إلى ما يقرّبهم إلى الله تعالى ، فرسالته مقصورة على غير الحكماء الذين يرشدهم عقولهم إلى ما يصلحهم ويفسدهم ، فالمقصود بالعمومات الصادرة عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله من قوله :«أقيموا الصلاة» ونحوه يراد بها غير مثل هذه الأشخاص.

وقد حكي عن بعض الفلاسفة محاجّته مع عيسى عليه‌السلام بمثل هذا القول.

ونظير ذلك ما لو قيل بأنّه كان رسولا على الأعراب لا على عامّة العباد.

وكيف كان فمثل هذا الإنكار كفر محض ، فإنّه وإن لم يكن منافيا للتصديق الإجماليّ ، لأنّه يعترف بصدقه على تقدير ادّعائه العموم ، لكنّه يزعم أنّه لم يدّع ذلك إلّا أنّه إنكار لرسالته في الجملة ، وهو ـ كإنكار أصل الرسالة ـ سبب للكفر بالضرورة فضلا عن شهادة النصّ والإجماع عليه.

وقد يكون الإنكار ناشئا من الجهل بصدور الحكم عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله رأسا ،

٢٧٥

لقرب عهده بالإسلام ، وعدم مخالطته مع المسلمين.

وهذا لا ينافي الإقرار بالرسالة المطلقة والتصديق الإجماليّ ، فلا يكون موجبا للكفر بلا شبهة.

فتلخّص من جميع ما ذكرنا أنّ إنكار الضروريّ يوجب الكفر إن كان منافيا للاعتراف الإجماليّ أو كان موجبا لإنكار الرسالة في الجملة ، وإلّا فلا.

هذا إذا لم نقل بكون إنكار الضروريّ من حيث هو سببا مستقلّا للكفر ، كما صرّح به غير واحد من المتأخّرين ، واستظهر من عبائر غيرهم ممّن قيّده بما إذا لم يكن عن شبهة ، بل هذا ظاهر كلّ من قيّده بعدم احتمال الشبهة ، لأنّ إقحام كلمة الاحتمال دليل على إرادة كون الإنكار طريقا لتشخيص الموضوع ما لم يكن احتمال الجهل والاشتباه قائما في حقّه.

ويؤكّد هذا الظاهر تمثيلهم لمورد احتمال الشبهة بالفرض الأخير الذي نشأ إنكاره من الجهل الذي لا يطلق عليه الشبهة عرفا ، كما لا يخفى وجهه على المتأمّل.

وأمّا على القول بالسببيّة ـ كما هو صريح بعض وظاهر آخرين ، بل ربما استظهر من المشهور ـ فلا بدّ في معرفة حكم جميع صور الإنكار بعد الفراغ من إثبات أصل السببيّة من النظر إلى ما تقتضيه أدلّتها من حيث الإطلاق والتقييد.

فنقول : ما يمكن أن يستدلّ به للقول بالسببيّة أمور :

منها : أنّ الإسلام عرفا وشرعا عبارة عن التديّن بهذا الدين الخاصّ الذي يراد منه مجموع حدود شرعيّة منجّزة على العباد ، فمن خرج من ذلك ولم يتديّن

٢٧٦

به كان كافرا غير مسلم ، سواء لم يتديّن به أصلا أو تديّن ببعضه دون بعض أيّ بعض كان.

وفيه : ما عرفت فيما سبق من أنّ المعتبر في الإسلام إنّما هو التديّن بجميع ما جاء به النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله إجمالا بمعنى الاعتراف بصحّتها وصدق النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله في جميع ما جاء به على سبيل الإجمال ، وأمّا التديّن بها تفصيلا فلا يعتبر في الإسلام قطعا ، فالإنكار التفصيلي ما لم يكن منافيا للتصديق الإجماليّ ـ بأن كان المنكر معترفا بخطئه على تقدير مخالفة قوله لما جاء به النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ لا يوجب الخروج ممّا يعتبر في الإسلام.

ومنها : الأخبار الدالّة على سببيّة إنكار حكم من الأحكام الشرعيّة للكفر.

مثل : صحيحة أبي الصباح الكناني عن أبي جعفر عليه‌السلام ، قال : «قيل لأمير المؤمنين عليه‌السلام : من شهد أن لا إله إلّا الله ، وأنّ محمّدا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله كان مؤمنا ، قال عليه‌السلام : فأين فرائض الله؟» قال : وسمعته يقول : «كان عليّ عليه‌السلام يقول : لو كان الإيمان كلاما لم ينزل فيه صوم ولا صلاة ولا حلال ولا حرام» قال : وقلت لأبي جعفر عليه‌السلام : إنّ عندنا قوما يقولون : إذا شهد أن لا إله إلّا الله ، وأنّ محمّدا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فهو مؤمن ، قال : «فلم يضربون الحدّ ولم تقطع أيديهم؟ وما خلق الله عزوجل خلقا أكرم على الله عزوجل من مؤمن ، لأنّ الملائكة خدّام المؤمنين ، وأنّ جوار الله للمؤمنين ، وأنّ الجنّة للمؤمنين ، وأنّ الحور العين للمؤمنين» ثمّ قال : «فما بال من جحد الفرائض كان كافرا» (١).

__________________

(١) الكافي ٢ : ٣٣ (كتاب الإيمان والكفر ، باب ـ بدون عنوان ـ) ح ٢.

٢٧٧

وفي مكاتبة عبد الرحيم القصير مع عبد الملك إلى أبي عبد الله عليه‌السلام : «فإذا أتى العبد كبيرة من كبائر المعاصي أو صغيرة من صغائر المعاصي التي نهى الله عزوجل عنها كان خارجا من الإيمان ساقطا عنه اسم الإيمان ، ثابتا عليه اسم الإسلام ، فإن تاب واستغفر عاد إلى دار الإيمان ، ولا يخرجه إلى الكفر إلّا الجحود والاستحلال بأن يقول للحلال : هذا حرام ، وللحرام : هذا حلال ، ودان بذلك ، فعندها يكون خارجا من الإسلام والإيمان ، داخلا في الكفر» (١).

وفي صحيحة عبد الله بن سنان ، قال : سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن الرجل يرتكب الكبيرة من الكبائر فيموت هل يخرجه ذلك من الإسلام؟ وإن عذّب كان عذابه كعذاب المشركين ، أم له مدّة وانقطاع؟ فقال : «من ارتكب كبيرة من الكبائر فزعم أنّها حلال أخرجه ذلك من الإسلام ، وعذّب أشدّ العذاب ، وإن كان معترفا أنّه أذنب ومات عليه أخرجه من الإيمان ولم يخرجه من الإسلام ، وكان عذابه أهون من عذاب الأوّل» (٢).

وصحيحة بريد العجلي عن أبي جعفر عليه‌السلام ، قال : سألته عن أدنى ما يكون به العبد مشركا ، قال : «من قال للنواة : حصاة ، وللحصاة : إنّها نواة ، ودان به» (٣).

وفي رواية سليم بن قيس عن أمير المؤمنين عليه‌السلام : «أدنى ما يكون به العبد كافرا من زعم أنّ شيئا نهى الله عنه أنّ الله أمر به ونصبه دينا يتولّى عليه ، و [يزعم

__________________

(١) الكافي ٢ : ٢٧ ـ ٢٨ (كتاب الإيمان والكفر ، باب آخر منه ، وفيه أنّ الإسلام قبل الإيمان) ح ١.

(٢) الكافي ٢ : ٢٨٥ (كتاب الإيمان والكفر ، باب الكبائر) ح ٢٣.

(٣) الكافي ٢ : ٣٩٧ (كتاب الإيمان والكفر ، باب الشرك) ح ١.

٢٧٨

أنّه] يعبد الذي أمره ، وإنّما يعبد الشيطان» (١).

إلى غير ذلك من الأخبار الدالّة عليه.

مثل : قوله عليه‌السلام : «من شرب النبيذ على أنّه حلال خلّد في النار ، ومن شربه على أنّه حرام عذّب في النار» (٢).

ومثل ما دلّ على وجوب قتل من أفطر شهر رمضان (٣) أو شرب الخمر (٤) ، أو ترك الصلاة (٥) إذا نفوا الإثم عن أنفسهم.

ويتوجّه على الاستدلال بمثل الروايات ـ بعد الغضّ عمّا في بعضها من الخدشة من حيث الدلالة ـ أنّ استحلال الحرام أو عكسه موجب للكفر من غير فرق بين كونه ضروريّا أو غيره ، بل بعضها كالصريح في الإطلاق ، وحيث لا يمكن الالتزام بإطلاقها يتعيّن حملها على إرادة ما إذا كان عالما بكون ما استحلّه حراما في الشريعة ، فيكون نفي الإثم عن نفسه واستحلاله منافيا للتديّن بهذا الدين ، ومناقضا للتصديق بما جاء به سيّد المرسلين ، فيكون كافرا ، سواء كان الحكم في حدّ ذاته ضروريّا أم لم يكن.

__________________

(١) الكافي ٢ : ٤١٤ ـ ٤١٥ (كتاب الإيمان والكفر ، باب أدنى ما يكون به العبد مؤمنا ..) ح ١ ، وما بين المعقوفين من المصدر.

(٢) الكافي ٦ : ٣٩٨ / ١١ ، التهذيب ٩ : ١٠٤ / ٤٥٢ ، الوسائل ، الباب ١٣ من أبواب الأشربة المحرّمة ، ح ١.

(٣) الكافي ٤ : ١٠٣ / ٥ ، التهذيب ٤ : ٢١٥ / ٦٢٤ ، و ١٠ : ١٤١ / ٥٥٨ ، الوسائل ، الباب ٢ من أبواب أحكام شهر رمضان ، ح ١.

(٤) الإرشاد ـ للمفيد ـ ١ : ١٠٢ ـ ١٠٣ ، الوسائل ، الباب ٢ من أبواب حدّ المسكر ، ح ١.

(٥) انظر : الوسائل ، الباب ١١ من أبواب أعداد الفرائض.

٢٧٩

وأمّا ما في ذيل صحيحة (١) الكناني من إطلاق قوله عليه‌السلام : «فما بال من جحد الفرائض كان كافرا» فلا يمكن الاستدلال به لإثبات سببيّة إنكار الفرائض ـ التي هي من الضروريّات على الإطلاق ـ للكفر ، لجريه مجرى العادة من عدم اختفاء شرعيّتها على أحد من المسلمين ، بل يعرفها كلّ من قارب المسلمين فضلا عمّن تديّن بهذا الدين ، ففرض كون إنكار الصلاة ـ التي هي عمود الدين ـ ناشئا من شبهة مجامعة للاعتراف بحقّيّة الشريعة وصدق النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله في جميع ما جاء به مجرّد فرض لا يكاد يتحقّق له مصداق في الخارج.

والحاصل : أنّه لا يفهم من مثل هذه الأخبار اعتبار عدم إنكار شي‌ء من الأحكام الضروريّة من حيث هو وإن لم يكن منافيا لتصديق النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله في جميع ما جاء به إجمالا في مفهوم الإسلام المقابل للكفر حتّى يتقيّد به الأخبار الواردة في تفسير الإسلام ، الخالية عن ذكر هذا الشرط.

مثل : ما رواه في الكافي عن سماعة ، قال : قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام : أخبرني عن الإسلام والإيمان أهما مختلفان؟ فقال : «إنّ الإيمان يشارك الإسلام ، والإسلام لا يشارك الإيمان» فقلت : فصفهما لي ، فقال : «الإسلام شهادة أن لا إله إلّا الله ، والتصديق برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، به حقنت الدماء ، وعليه جرت المناكح والمواريث ، وعلى ظاهره جماعة الناس ، والإيمان الهدى ، وما يثبت في القلوب من صفة الإسلام» (٢) الحديث ، إلى غير ذلك من الأخبار الدالّة عليه.

__________________

(١) تقدّمت الصحيحة في ص ٢٧٧.

(٢) الكافي ٢ : ٢٥ (كتاب الإيمان والكفر ، باب أنّ الإيمان يشرك الإسلام ..) ح ١.

٢٨٠