مصباح الفقيه - ج ٧

الشيخ آقا رضا الهمداني

مصباح الفقيه - ج ٧

المؤلف:

الشيخ آقا رضا الهمداني


المحقق: المؤسّسة الجعفريّة لإحياء التراث ـ قم المقدّسة
الموضوع : الفقه
الناشر: منبع
الطبعة: ١
الصفحات: ٣٣٦

نعم ، ربما يظهر من جملة من الأخبار اعتبار التعبّد ببعض الفروع الضروريّة في حقيقة الإسلام.

مثل : ما في رواية سفيان بن السمط عن أبي عبد الله عليه‌السلام في الفرق بين الإسلام والإيمان : «الإسلام هو الظاهر الذي عليه الناس : شهادة أن لا إله إلّا الله ، وأنّ محمّدا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة وحجّ البيت وصيام شهر رمضان ، فهذا الإسلام» وقال : «الإيمان معرفة هذا الأمر مع هذا ، فإن أقر بها ولم يعرف هذا الأمر كان مسلما وكان ضالّا» (١).

وفي الأخبار (٢) المستفيضة : «بني الإسلام على خمس : الصلاة والزكاة والحجّ والصوم والولاية».

وفي خبر العرزمي عن الصادق عليه‌السلام : «أثافيّ (٣) الإسلام ثلاثة : الصلاة والزكاة والولاية ، ولا تصحّ واحدة منهنّ إلّا بصاحبتيها» (٤).

لكنّك خبير بأنّ المراد بمثل هذه الأخبار المستفيضة هو التعبّد بنفس هذه الفروع ، أي فعلها ، لا مجرّد الاعتراف بوجوبها ، فالإسلام الذي أريد بهذه الروايات أخصّ من الإسلام الذي به حقنت الدماء وعليه جرت المناكح والمواريث.

وأمّا رواية سفيان : فلا يبعد أن يكون المراد به الاعتراف بوجوبها بقرينة

__________________

(١) الكافي ٢ : ٢٤ ـ ٢٥ (كتاب الإيمان والكفر ، باب أنّ الإسلام يحقن به الدم ..) ح ٤.

(٢) منها : ما في الكافي ٢ : ١٨ / ١ و ٣ و ٥ ، و ٤ : ٦٢ / ١ ، والفقيه ٢ : ٤٤ / ١٩٦ ، والوسائل ، الباب ١ من أبواب مقدّمة العبادات ، الأحاديث ١ و ٢ و ٥ و ١٠ و ١٨.

(٣) الأثافي ، واحدها الأثفيّة : ما يوضع عليه القدر. لسان العرب ١٤ : ١١٣ «ثفا».

(٤) الكافي ٢ : ١٨ / ٤ ، الوسائل ، الباب ١ من أبواب مقدّمة العبادات ، ح ٧.

٢٨١

قوله عليه‌السلام في ذيلها : «فإن أقرّ بها ولم يعرف هذا الأمر» إلى آخره ، إلّا أنّك عرفت أنّ الاعتراف بمثل هذه الأمور الضروريّة من لوازم التصديق بالرسالة ، فلا يستفاد من مثل هذه الرواية اعتبار الاعتراف بها من حيث هي ، كالإقرار بالتوحيد والرسالة في حقيقة الإسلام ، وإلّا لاقتضى كفر من لم يقرّ بها وإن لم يجحدها.

هذا ، مع أنّها أخصّ من المدّعى ، لعدم انحصار ضروريّات الدين فيما في هذه الروايات.

وكيف كان فلا يمكن إثبات كفر منكر الضروريّ من حيث هو بمثل هذه الروايات.

ومنها : تسالمهم على كفر النواصب والخوارج متمسّكين لذلك بإنكارهم الضروريّ ، فلو لا سببيّة الإنكار من حيث هو للكفر لم يكن لإطلاق حكمهم بكفر الطائفتين وجه ، ضرورة أنّ أغلبهم خصوصا المتأخّرين منهم المقلّدين لأسلافهم الذين نشأوا على عداوة أهل البيت ربما يتقرّبون بها إلى الله ورسوله ، بناء منهم على ارتداد أهل بيت العصمة والطهارة ، لجهالتهم بما أنزل الله تعالى في حقّهم على لسان رسوله ممّا ينافي ذلك ، فلا يكون إنكارهم منافيا للتصديق الإجماليّ بالرسالة.

وفيه : أنّه إن أريد بذلك استكشاف الإجماع على السببيّة حتّى يتمّ به الاستدلال ، يتوجّه عليه ـ بعد الغضّ عن تصريح غير واحد من المتأخّرين بالخلاف ـ أنّ إطلاق القول بكفر الطائفتين وإن ناسب القول بالسببيّة ، لكنّه مناف لما اشتهر بينهم من استثناء صورة الشبهة ، فإنّ جهّال الفرقتين خصوصا القاصرين

٢٨٢

منهم من نسائهم وصبيانهم الذين لم يبلغهم فضائل أهل البيت ، ويتقرّبون إلى الله ورسوله بعداوتهم من أوضح موارد الشبهة ، فهذا يكشف عن فساد استدلالهم بالإنكار لكفرهم على الإطلاق ، أو إرادتهم في غير مثل الفرض ، أو اختصاص الاستدلال به بمن يراه سببا على الإطلاق دون من استثنى منه صورة الشبهة ، أو أنّ اعتمادهم في كفرهم على الإجماع أو الأخبار الآتية الدالّة عليه ، فيكون استدلالهم بالإنكار إمّا من باب التأييد ، أو لكونه دليلا عليه في الجملة ، أو لبنائهم على منافاة ما صدر من الخوارج والنواصب ولو من جهّالهم للتصديق الإجماليّ بجميع ما جاء به الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله من مودّة ذي (١) القربى ، ووجوب احترامهم ، وحرمة الاستخفاف بهم ، واستحلال قتلهم ، فكأنّهم أرادوا بصورة الشبهة التي استثنوها بعض الصور المتقدّمة التي أشرنا إلى عدم منافاتها للتصديق الإجماليّ ، الملازمة لإذعان المنكر بخطئه على تقدير مخالفة قوله لما جاء به النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله.

وما صدر من الطائفتين ـ بحسب الظاهر ـ لم يكن من هذا القبيل ، بل كان عكس ذلك ، فإنّهم لمّا رأوا من الأمير والحسنين عليهم‌السلام ما زعموه فسقا أو ارتدادا استقلّت عقولهم القاصرة باستحقاقهم الاستخفاف والقتل ، فلم يمكنهم تصديق النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله فيما صدر منه في حقّهم إلّا بالحمل على الخطأ وغفلة النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله وجهله بما يؤول إليه أمرهم ، وإلّا لم يكن يأمر الناس بموالاتهم ، أو الحمل على كونه ناشئا من شدّة حبّه لهم ، أو غير ذلك من المحامل التي مآلها إلى طرح قول النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ، لا تخطئة أنفسهم على تقدير مخالفة ما زعموه لما أراده النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله.

__________________

(١) في «ض ١٠» : «ذوي».

٢٨٣

وقد عرفت فيما سبق أنّ هذا النحو من الإنكار كفر محض.

هذا حال علمائهم المستبدّين بآرائهم ، عصمنا الله من الاستبداد بالرأي ، الموجب لهذا النحو من الإنكار ، وأمّا عوامهم المقلّدين لهذه العلماء المغترّين بهم فحالهم حال علمائهم كعوام اليهود.

اللهمّ إلّا أن يكون المقلّد معترفا بخطإ من قلّده على تقدير مخالفة قوله لما صدر عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فلا يكون إنكاره حينئذ منافيا للتصديق الإجماليّ.

لكنّ الظاهر من حال العوام ـ الذين هم أضلّ من الأنعام ـ خلاف هذا البناء.

ألا ترى أنّه لو قال عالم للعوام : إنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله أخطأ في الواقعة الفلانيّة ، يغترّون بقوله ويعتقدونه صوابا.

فتلخّص من جميع ما ذكرنا أنّه لا دليل على سببيّة الإنكار من حيث هو للكفر ، لكنّ الأظهر كفر الطائفتين بواسطة منافاة ما أنكروه للتصديق الإجماليّ.

ولكن هذا فيما إذا تديّنوا بنصب أهل البيت وعداوتهم ، وأمّا لو اعترفوا بفضلهم وشرفهم في الإسلام وأنّهم سادات أهل الجنّة ، ولكن أضمروا عداوتهم ، أو أظهروها بواسطة الحسد ، أو لكونهم معاندين لأئمّتهم الذين هم أئمّة الضلال ، أو غير ذلك من الأسباب المورثة للعداوة ـ كما هو الشأن في كثير من المخالفين الموجودين في هذه الأعصار ـ فلا.

وكيف كان فمتى حكمنا بكفرهم هل تثبت بذلك نجاستهم أم لا؟ فيه تردّد ، نظرا إلى أنّ عمدة مستنده الإجماع ، وربما يتأمّل في تحقّقه على نجاسة كلّ كافر ، نظرا إلى انصراف معاقد الإجماعات المحكيّة وكلمات المجمعين إلى غير

٢٨٤

المرتدّ ، خصوصا مع وهن الكلّيّة ـ التي ادّعي عليها الإجماع ـ بما سمعته من الخلاف في نجاسة أهل الكتاب ، ولكن مع ذلك ظاهرهم التسالم عليه. فدعوى الانصراف لعلّها في غير محلّها ، خصوصا بالنسبة إلى الفرقتين الخبيثتين ، فإنّه قد استفيض فيهما بالخصوص نقل الإجماع على كفرهما ونجاستهما.

واستدلّ لهما أيضا ـ مضافا إلى الإجماع وما عرفته من إنكارهم للضروريّ ، المستلزم للكفر الموجب للنجاسة بدليل الإجماع الذي تقدّمت الإشارة إليه ـ بالأخبار المستفيضة التي بعضها يدلّ على الكفر ، فيدلّ على النجاسة أيضا بضميمة الإجماع ، وجملة منها تدلّ على نجاستهم ، فيستفاد منها كفرهم بالالتزام.

فممّا يدلّ على كفر خصوص الخوارج ما أرسل عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله أنّه قال في وصفهم : «إنّهم يمرقون (١) من الدين كما يمرق السهم من الرميّة (٢)» (٣).

ورواية الفضيل (٤) ، قال : دخل على أبي جعفر عليه‌السلام رجل محصور عظيم البطن ، فجلس معه على سريره ، فحيّاه ورحّب به ، فلمّا قام قال : «هذا من الخوارج

__________________

(١) أي : يجوزونه ويخرقونه ويتعدّونه كما يخرق السهم الشي‌ء المرميّ به ويخرج منه. النهاية ـ لابن الأثير ـ ٤ : ٣٢٠ «مرق».

(٢) في النسخ الخطّيّة والحجريّة : «الرامي». والصحيح ما أثبتناه ، كما في المصادر في الهامش التالي. والرميّة : الصيد الذي ترميه فتقصده وينفذ فيه سهمك. النهاية ـ لابن الأثير ـ ٢ : ٢٦٨ «رمى».

(٣) صحيح البخاري ٩ : ٢٢ ، صحيح مسلم ٢ : ٧٤٢ / ١٤٤ ، و ٧٤٦ ـ ٧٤٧ / ١٥٤ ، و ٧٥٠ / ١٥٩ ، سنن ابن ماجة ١ : ٦٠ / ١٦٩ و ١٧٠ ، سنن الترمذي ٤ : ٤٨١ / ٢١٨٨ ، سنن النسائي ٧ : ١١٩ ، سنن البيهقي ٣ : ٢٢٥ ، و ٧ : ١٨ ، المستدرك ـ للحاكم ـ ٢ : ١٤٦ ، مسند أحمد ١ : ١٣١.

(٤) في النسخ الخطّيّة والحجريّة : «الفضل». وما أثبتناه من المصدر.

٢٨٥

كما هو» قال : قلت : مشرك؟ فقال : «مشرك والله مشرك» (١).

وفي الزيارة الجامعة : «ومن حاربكم مشرك» (٢).

ويدلّ على نجاسة النواصب ـ الذين هم أعمّ من الخوارج ـ : ما عن الكافي بسنده عن ابن أبي يعفور عن أبي عبد الله عليه‌السلام ، قال : «لا تغتسل من البئر التي تجتمع فيها غسالة الحمّام ، فإنّ فيها غسالة ولد الزنا ، وهو لا يطهر إلى سبعة آباء ، وفيها غسالة الناصب ، وهو شرّهما ، إنّ الله لم يخلق خلقا شرّا من الكلب وإنّ الناصب أهون على الله من الكلب» (٣).

ورواية القلانسي ، قال : قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام : ألقى الذمّي فيصافحني ، قال : «امسحها بالتراب و (٤) بالحائط» قلت : فالناصب ، قال : «اغسلها» (٥).

ومرسلة الوشّاء عن أبي عبد الله عليه‌السلام أنّه كره سؤر ولد الزنا واليهودي والنصراني والمشرك وكلّ ما (٦) خالف الإسلام ، وكان أشدّ ذلك عنده سؤر الناصب (٧).

ورواية عليّ بن الحكم عن رجل عن أبي الحسن عليه‌السلام في حديث أنّه قال :

__________________

(١) الكافي ٢ : ٣٨٧ / ١٤ ، الوسائل ، الباب ١٠ من أبواب حدّ المرتدّ ، ح ٥٥ نحوه ، وأورد نصّه صاحب كشف اللثام فيه ١ : ٤٠٣.

(٢) عيون أخبار الرضا عليه‌السلام ٢ : ٢٧٢ ـ ٢٧٥ / ١ ، الفقيه ٢ : ٣٧٠ ـ ٣٧٢ / ١٦٢٥.

(٣) الكافي ٣ : ١٤ / ١ ، الوسائل ، الباب ١١ من أبواب الماء المضاف ، ح ٤.

(٤) في النسخ الخطّيّة والحجريّة : «أو» بدل «و». وما أثبتناه من المصدر.

(٥) الكافي ٢ : ٦٥٠ / ١١ ، الوسائل ، الباب ١٤ من أبواب النجاسات ، ح ٤.

(٦) في الطبعة الحجريّة والاستبصار : «من» بدل «ما». وكذا في ص ٢٩٩.

(٧) الكافي ٣ : ١١ / ٦ ، التهذيب ١ : ٢٢٣ / ٦٣٩ ، الإستبصار ١ : ١٨ / ٣٧ ، الوسائل ، الباب ٣ من أبواب الأسئار ، ح ٢.

٢٨٦

«لا تغتسل من غسالة ماء الحمّام فإنّه يغتسل فيه من الزنا ، ويغتسل فيه ولد الزنا والناصب لنا أهل البيت ، وهو شرّهم» (١).

وموثّقة عبد الله بن أبي يعفور عن أبي عبد الله عليه‌السلام في حديث قال : «وإيّاك أن تغتسل من غسالة الحمّام ففيها تجتمع غسالة اليهودي والنصراني والمجوسي والناصب لنا أهل البيت ، وهو شرّهم ، فإنّ الله تبارك وتعالى لم يخلق خلقا أنجس من الكلب ، وإنّ الناصب لنا أهل البيت لأنجس منه» (٢).

ويؤيّده : المنع من أكل ذبيحة الناصب في جملة من الأخبار (٣).

وقد يناقش في دلالة هذه الروايات :

أوّلا : بأنّ المراد بالنجاسة فيها الخباثة المعنويّة القابلة للاتّصاف بالشدّة والضعف ، المقتضية لكراهة السؤر ، دون النجاسة المصطلحة الغير القابلة له.

كما يؤيّد ذلك ـ مضافا إلى ذلك ـ اشتمال أكثر الأخبار على ولد الزنا والجنب من حيث هو جنب ، كما هو ظاهر المقام ، لا باعتبار نجاسة بدنه ، بل قد سمعت (٤) في خبر ابن أبي يعفور أنّ «ولد الزنا لا يطهر إلى سبعة آباء» فالمراد به ـ على الظاهر ـ ليس إلّا عدم ارتفاع القذارة المعنويّة ، لا نجاسته مع أولاده إلى سبعة بطون.

__________________

(١) الكافي ٦ : ٤٩٨ ـ ٤٩٩ / ١٠ ، الوسائل ، الباب ١١ من أبواب الماء المضاف ، ح ٣.

(٢) علل الشرائع : ٢٩٢ (الباب ٢٢٠) ح ١ ، الوسائل ، الباب ١١ من أبواب الماء المضاف ، ح ٥.

(٣) منها : ما في التهذيب ٩ : ٧٢ / ٣٠٤ ، والاستبصار ٤ : ٨٧ ـ ٨٨ / ٣٣٥ ، والوسائل ، الباب ٢٨ من أبواب الذبائح ، ح ٧.

(٤) في ص ٢٨٦.

٢٨٧

وثانيا : بأنّ المراد بالناصب في الروايات ـ على الظاهر ـ مطلق المخالفين ، لا خصوص من أظهر عداوة أهل البيت وتديّن بنصبهم.

كما يشهد لذلك : خبر المعلّى بن خنيس ، قال : سمعت أبا عبد الله عليه‌السلام يقول : «ليس الناصب من نصب لنا أهل البيت ، لأنّك لا تجد أحدا يقول : أنا أبغض محمّدا وآل محمّد ، ولكنّ الناصب من نصب لكم وهو يعلم أنّكم تتولّوننا وتتبرّؤون من أعدائنا» (١).

وهذه الرواية ـ مع ما فيها من تفسير النصب بما لا ينفكّ عنه عامّة المخالفين ـ تشهد بندرة وجود الناصب بالمعنى الأخصّ في عصر الصادق عليه‌السلام ، فيبعد حمل الأخبار المستفيضة المتقدّمة على إرادته بالخصوص.

ويدلّ أيضا على تحقّق النصب بمجرّد إزالة الأئمّة عليهم‌السلام عن مراتبهم ومعاداة من يعرف حقّهم من شيعتهم : ما رواه ابن إدريس في مستطرفات السرائر عن محمّد بن عليّ بن عيسى ، قال : كتبت إليه ـ يعني الهادي عليه‌السلام ـ أسأله عن الناصب هل احتاج في امتحانه إلى أكثر من تقديمه الجبت والطاغوت واعتقاده بإمامتهما؟ فرجع الجواب : «من كان على هذا فهو ناصب» (٢).

ورواية عبد الله بن المغيرة ـ المحكيّة عن الروضة ـ قال : قلت لأبي الحسن عليه‌السلام : إنّي ابتليت برجلين أحدهما ناصب والآخر زيديّ ولا بدّ من

__________________

(١) معاني الأخبار : ٣٦٥ (باب معنى الناصب) ، الوسائل ، الباب ٦٨ من أبواب القصاص في النفس ، ح ٢.

(٢) السرائر ٣ : ٥٨٣ ، الوسائل ، الباب ٦٨ من أبواب القصاص في النفس ، ح ٤ ، وفيها : «يحتاج» بدل «احتاج». وأيضا فيهما : «واعتقاد إمامتهما» بدل «واعتقاده بإمامتهما».

٢٨٨

معاشرتهما ، فمن أعاشر؟ فقال عليه‌السلام : «هما سيّان ، من كذّب بآية من كتاب (١) الله تعالى فقد نبذ الإسلام وراء ظهره ، وهو المكذّب لجميع القرآن والأنبياء والمرسلين» ثمّ قال : «هذا نصب لك ، وهذا الزيديّ نصب لنا» (٢).

فيكون حال الأخبار الدالّة على نجاسة الناصب وكفره حال غيرها من الأخبار الدالّة على كفر المخالفين على الإطلاق في أنّ المتعيّن حملها على ما لا ينافي إسلامهم الظاهري ، كما عرفت فيما سبق.

وقد يجاب عن هذه المناقشة ـ بعد تسليم صدق الناصب في عرف الشارع والمتشرّعة على المعنى الأعمّ ـ أنّ المتبادر ممّا في بعض تلك الأخبار ـ من قوله عليه‌السلام : «والناصب لنا أهل البيت» (٣) ـ إرادته بالمعنى الأخصّ.

هذا ، مع اعتضاده بفتوى الأصحاب وإجماعهم ، بل ربما يكتفى بذلك جابرا لما في الروايات من قصور الدلالة ، فلا يلتفت معه إلى شي‌ء من الخدشات المتقدّمة.

لكنّ الإنصاف أنّ الاعتماد إنّما هو على الجابر لا المجبور ، فعمدة المستند هي الإجماعات المحكيّة المعتضدة بعدم نقل الخلاف.

لكن قد يشكل الحكم بكفرهم بشيوع النصب في دولة بني أميّة لعنهم الله ، واختلاط أصحاب الأئمّة عليهم‌السلام مع النّصّاب والخوارج ، وعدم معروفيّة تجنّب الأئمّة عليهم‌السلام وأصحابهم عنهم ، بل الظاهر أنّهم كانوا يعاملون معهم معاملة

__________________

(١) في النسخ الخطّيّة والحجريّة : «آيات» بدل «كتاب». وما أثبتناه من المصدر.

(٢) الكافي ٨ : ٢٣٥ / ٣١٤ ، الوسائل ، الباب ٣٧ من أبواب الأمر والنهي ، ح ٢.

(٣) تقدّم تخريجه في ص ٢٨٧ ، الهامش (١ و ٢).

٢٨٩

المسلمين من حيث المعاشرة. وتنزيل مثل هذه المعاشرة في الأعصار الطويلة على التقيّة في غاية البعد.

وقد يجاب عن ذلك : بأنّ أغلب الناس كانوا يظهرون النصب والتبرّي من الأئمّة عليهم‌السلام خوفا من سلطان الجور ، وإلّا فلم يكونوا في الواقع نواصب.

وفيه : أنّ ظاهر القول والفعل حجّة معتبرة لا يجوز رفع اليد عنه إلّا في الموارد التي علم خلافه.

ودعوى : اختصاص معاشرتهم بخصوص هذه الموارد بعيدة.

والأولى في الجواب ما نبّه عليه شيخنا المرتضى (١) رحمه‌الله من أنّ أغلب الأحكام الشرعيّة انتشرت في عصر الصادقين عليهما‌السلام ، فلا مانع من أن يكون كفر النواصب منها ، فأصحاب الأئمّة عليهم‌السلام الذين كانوا يخالطون النواصب في دولة بني أميّة ـ لعنهم الله ـ لم يكونوا يعلمون هذا الحكم. وأمّا الأئمّة عليهم‌السلام فلم يعلم معاشرتهم مع النواصب والخوارج في غير مقام التقيّة ، والله العالم.

(و) قد ظهر بما تقدّمت الإشارة إليه في مطاوي كلماتنا السابقة أنّ عمدة المستند للحكم بنجاسة سائر أصناف المرتدّين إنّما هو الإجماع.

والخدشة فيه بعدم الثبوت كأنّها في غير محلّها.

بقي الكلام في بعض الفرق المحكوم بكفرهم.

منهم (الغلاة) ولا شبهة في كفرهم بناء على تفسير هم بمن يعتقد ربوبيّة أمير المؤمنين عليه‌السلام أو غيره من الخلق ، فإنّه إن اعتقد أنّ الشخص الخارجي

__________________

(١) كتاب الطهارة : ٣٥٨.

٢٩٠

بعوارضه المشخّصة هو الربّ القديم الواجب وجوده ، الممتنع زواله ، وأنكر وجود صانع غيره ، فهو كافر بالله تعالى إن كان عاقلا ، وإلّا فقد رفع القلم عنه.

وإن اعترف بوجود صانع مثله واجب الوجود ، فهو مشرك.

وإن زعم حدوث عوارضه المشخّصة ولكنّه اعتقد حلول الله ـ جلّت عظمته ـ فيه ، واتّحاده معه ، وتصوّره بهذه الصورة ، كما قد يتصوّر الملائكة والجنّ بصورة البشر ، فهو منكر لما قد ثبت بالضرورة من الشرع من أنّ الله تبارك وتعالى أجلّ وأعظم من أن يصير بشرا يأكل وينام ويمشي في الأسواق.

وأمّا بناء على تفسير الغالي بما تجاوز الحدّ في الأنبياء أو الأئمّة عليهم‌السلام ـ كما حكي (١) عن القمّيّين من الطعن في الرجال برميهم بالغلوّ بمجرّد ذلك حتّى أنّه حكى الصدوق عن شيخه ابن الوليد أنّه قال : إنّ أوّل درجة في الغلوّ نفي السهو عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله (٢) ـ فليس بكافر قطعا ، فلا وجه لتكفير من يقول بأنّ النبيّ والأئمّة عليهم‌السلام مظاهر أوصاف البارئ ـ جلّت عظمته ـ على سبيل الإطلاق ، وأنّ أزمّة أمر الخلائق ـ تكوينا وتشريعا ـ بأيديهم ، فهم خالقو الخلق ورازقوهم ، وأنّ علمهم بالأشياء حضوريّ بحيث لا يشغلهم شأن عن شأن ، إلى غير ذلك ممّا يقوله بعض من يدّعي المعرفة بمثل هذه الأمور ، فإنّ غاية الأمر كون مثل هذه الدعاوي كذبا ، كما لو ادّعى ثبوت شي‌ء من هذه الأوصاف لزيد المعلوم بالضرورة عدم اتّصافه به فضلا عمّا لو ادّعاها في حقّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله أو الإمام عليه‌السلام ، الذي قد يساعده

__________________

(١) الحاكي هو الشيخ الأنصاري في كتاب الطهارة : ٣٥٨.

(٢) الفقيه ١ : ٢٣٥.

٢٩١

على مدّعاه بعض الشواهد النقليّة بل بعض القواعد العقليّة أيضا بعد البناء على كونه أشرف الموجودات ، كما لعلّه المتسالم عليه لدى الشيعة خصوصا بالنسبة إلى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فإنّه لا يبعد أن يكون بالنسبة إليه من ضروريّات المذهب وإن لم نتحقّق حال شي‌ء من الشواهد النقليّة والعقليّة ، بل ليس لنا ذلك ، لأنّ النقليّات متعارضة ، ولا يمكننا الوصول إلى حقائقها والجمع بين متنافياتها على وجه يحصل القطع بإصابة الواقع.

والقاعدة العقليّة ـ التي تقدّمت الإشارة إليها ـ بعد تسليمها إنّما يتمّ الاستدلال بها بعد إحراز إمكان اتّصاف البشر بمثل هذه الأوصاف ، وخلوصه عن جهة موجبة لاستحالته ، ولا سبيل لنا إلى ذلك.

فالأولى ردّ علم مثل هذه الأمور إلى أهل بيت الوحي الذين هم حفظة سرّ الله وخزنة علمه ، وتصديقهم إجمالا في جميع ما يدّعون ، فإنّه مع كونه أحوط أوفق بحفظ مراتبهم ومرتبتنا وأولى برعاية الأدب.

وكيف كان فلا يوجب إثبات شي‌ء من أوصاف الربّ ـ جلّت عظمته ـ لشي‌ء من مخلوقاته الخروج من حدّ الإسلام بعد الاعتراف بكون الموصوف بتلك الصفة من مخلوقاته.

نعم ، لو سلبها عن الربّ مع كونها ضروريّة الثبوت ، كالخالقيّة والرازقيّة ونحوهما ، كفر لذلك ما لم يكن عن شبهة ، أو مطلقا على الخلاف فيه ، لكن مجرّد إثباتها لشخص لا يوجب سلبها عن الله تعالى.

ألا ترى أنّه تصحّ نسبة الإماتة إلى ملك الموت ، وقسمة الأرزاق ـ مثلا ـ إلى

٢٩٢

ميكائيل ، ونسبة الإعطاء والرزق إلى من ينفق عليك ، مع أنّ الله تعالى هو المحيي والمميت والخالق والرازق ، فلا تنافي بين النسبتين.

نعم ، ربما يتوهّم أنّ إثبات صفة العالميّة بالغيب ونحوها ـ من الأوصاف التي دلّت الكتاب والسنّة على اختصاصها بالله تعالى ـ إنكار للضروريّ.

ويدفعه : عدم كون إرادة ظواهر ما دلّ عليه من الكتاب والسنّة على سبيل العموم والإطلاق ضروريّة ، بل ربما تكون ضروريّة الخلاف ، فليس ادّعاء استثناء فرد منها إنكارا للضروريّ.

ومنهم : المجسّمة ، فقد حكي عن الشيخ وجماعة ممّن تأخّر عنه الحكم بكفرهم مطلقا (١).

وعن بعضهم التفصيل بين المجسّمة حقيقة وبين القائل بأنّه جسم لا كالأجسام (٢) ، فيسلب عنه كلّ ما هو من لوازم الجسميّة من الحاجة والحدوث.

واستدلّ لكفرهم : بإنكار الضروريّ ، لأنّ من لوازم الجسميّة الحدوث.

ونوقش فيه : بعدم التزام القائل بهذا اللازم ، والمدار في التكفير على التزامه به ، لا على الملازمة الواقعيّة.

وقد يقال بأنّ إثبات وصف الجسميّة لله تعالى في حدّ ذاته مخالف

__________________

(١) الحاكي عنهم هو البحراني في الحدائق الناضرة ٥ : ٢٠٢ ، وانظر : المبسوط ١ : ١٤ ، وتحرير الأحكام ١ : ٢٤ ، وقواعد الأحكام ١ : ٧ ، ومنتهى المطلب ١ : ١٦٨ ، وجامع المقاصد ١ : ١٦٤ ، والمقاصد العليّة : ١٤٢.

(٢) حكاه صاحب الجواهر فيها ٦ : ٥٣ ، والشيخ الأنصاري في كتاب الطهارة : ٣٥٨ عن الشهيد في البيان : ٣٩ ، والشهيد الثاني في مسالك الأفهام ١ : ٢٤.

٢٩٣

للضرورة.

وفيه : منع ظاهر ، خصوصا مع مساعدة بعض ظواهر الكتاب والسنّة عليه.

مثل : قوله تعالى (الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى) (١) وقوله تعالى :(فَكانَ قابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنى) (٢) وغيرهما ممّا يظهر منه إمكان التقرّب إليه تعالى وتعلّق الرؤية به ممّا لا يحصى.

وقد يستدلّ لكفرهم : بما روي عن الرضا عليه‌السلام «من قال بالتشبيه والجبر فهو كافر» (٣) بناء على أنّ المجسّمة من المشبّهة ، لأنّهم ـ على ما عن قواعد (٤) العقائد وشرحه (٥) ـ الذين يقولون : إنّ الله تعالى في جهة الفوق ، ويمكن أن يرى كما ترى الأجسام ، فالتجسيم غير خارج من التشبيه.

ولا يبعد أن يكون المراد بالتشبيه مطلق تنظيره بالأجسام في تحديده بمكان أو زمان ، فيكون مساوقا للتجسيم ، فعلى هذا أظهر في المدّعى.

لكن يتوجّه عليه : عدم صلاحيّة مثل هذه الرواية الضعيفة ـ التي لم يستند إليها الأصحاب في فتواهم ـ لتقييد الأخبار الكثيرة الواردة في تحديد الإسلام والإيمان ، الخالية عن اعتبار نفي التجسيم.

__________________

(١) سورة طه ٢٠ : ٥.

(٢) النجم : ٥٣ : ٩.

(٣) عيون أخبار الرضا عليه‌السلام ١ : ١٤٢ ـ ١٤٣ / ٤٥ ، الوسائل ، الباب ١٠ من أبواب حدّ المرتدّ ، ح ٥.

(٤) في النسخ الخطّيّة والحجريّة : «فوائد» بدل «قواعد». وما أثبتناه هو الموافق لما في جواهر الكلام والذريعة. وكتاب «قواعد العقائد» للخواجه نصير الطوسي ، وعليها حواش وشروح. انظر : الذريعة إلى تصانيف الشيعة ١٧ : ١٨٦ / ٩٨٥.

(٥) الحاكي عنهما هو صاحب الجواهر فيها ٦ : ٥٣.

٢٩٤

وربما يوجّه الرواية : بحملها على ما إذا كان القائل عالما بالملازمة بين الجسميّة والحدوث. وفيه بعد.

والأولى حملها على بعض مراتب الكفر الذي لا ينافي الإسلام الظاهري بل الإيمان الناقص ، كيف! وكثير من العوام بل أكثرهم لا يمكنهم تنزيه الربّ عن العلائق الجسمانيّة حيث لا يتعقّلون ـ بواسطة قصورهم ـ مؤثّرا في العالم لا يكون جسما.

ألا ترى أنّك إذا أردت أن تعرّف الأطفال في مبادئ بلوغهم أو قبلها أنّ الله تعالى منزّه عن تلك العلائق مهما سلبت عنه تعالى شيئا منها يتصوّرون ضدّها ، فإذا قلت : إنّه تعالى ليس له لسان ، يتخيّلون أنّه يتكلّم بالإشارة. وإذا قلت : إنّه ليس له بصر ، يتصوّرون في أذهانهم شخصا أعمى ، وهكذا. فإذا قلت : إنّه يسمع بلا سمع ويبصر بلا بصر ويتكلّم بلا لسان ، يرونه متناقضا.

فالأقوى أنّ شيئا من مثل هذه العقائد ما لم يكن منافيا للشهادتين وتصديق النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله إجمالا في جميع ماأتى به لا يوجب الكفر خصوصا إذا كان منشؤه القصور.

ومنهم : المجبرة ، حكي عن المبسوط القول بنجاستهم (١) ، وقوّاه كاشف اللثام (٢).

واستدلّ له بالرواية المتقدّمة (٣) ، وبإنكارهم لجملة من الضروريّات ،

__________________

(١) حكاه عنه صاحب كشف اللثام فيه ١ : ٤٠٣ ، وانظر : المبسوط ١ : ١٤.

(٢) كشف اللثام ١ : ٤٠٤.

(٣) أي الرواية المرويّة عن الإمام الرضا عليه‌السلام ، المتقدّمة في ص ٢٩٤.

٢٩٥

واستلزام مذهبهم إبطال النبوّات والتكاليف.

وفيه : ما عرفته آنفا من عدم إمكان تقييد الأخبار الكثيرة بمثل هذه الرواية ، وعدم التزام المنكر باللوازم.

واستدلّ له أيضا بما روي عن الصادق عليه‌السلام : «أنّ الناس في القدر على ثلاثة أوجه : رجل يزعم أنّ الله عزوجل أجبر الناس على المعاصي ، فهذا قد ظلم الله في حكمه ، فهو كافر ، ورجل يزعم أنّ الأمر مفوّض إليهم ، فهذا قد أوهن الله في سلطانه ، فهو كافر ..» (١).

وفيه أيضا ما في الرواية السابقة من عدم صلاحيّتها لإثبات مثل هذا الحكم خصوصا مع مخالفتها للمشهور ، بل عن بعض أنّه قال : لم أجد موافقا صريحا للشيخ (٢) ، فلا يبعد أن يكون المراد بالرواية استلزام قولهم للكفر ببعض مراتبه ، وكونهم كفّارا في المآل ، لا أنّهم محكومون بذلك في الظاهر.

ويحتمل أن يكون المراد بكونه كافرا ما إذا علم بالملازمة واعترف بها.

وكيف كان فالأظهر هو القول بطهارتهم ، كما يؤيّده ـ مضافا إلى إطلاق الأخبار الواردة في تحديد الإسلام ـ أنّ أكثر المخالفين من المجبرة ، بل قيل : إنّ غيرهم قد انقرض في بعض الأزمنة ، لميل السلاطين إلى هذا المذهب وإعراضهم

__________________

(١) التوحيد : ٣٦٠ ـ ٣٦١ / ٥ ، الخصال : ١٩٥ / ٢٧١ ، الوسائل ، الباب ١٠ من أبواب حدّ المرتدّ ، ح ١٠.

(٢) حكاه الشيخ الأنصاري في كتاب الطهارة : ٣٥٩ بعنوان «قيل». والقائل هو صاحب الجواهر فيها ٦ : ٥٥.

٢٩٦

عن مذهب المعتزلة (١).

وأظهر من ذلك القول بطهارة المفوّضة ، بل عن شرح المفاتيح أنّ ظاهر الفقهاء طهارتهم (٢) ، يعني إسلامهم.

فما عن كاشف الغطاء ـ من أنّه عدّ من إنكار الضروريّ القول بالجبر والتفويض (٣) ـ في غاية الضعف ، كيف! وعامّة الناس لا يمكنهم تصوّر أمر بين الأمرين ـ كما هو المرويّ عن أئمّتنا (٤) ـ حتّى يعتقدوا به ، فإنّه من غوامض العلوم بل من الأسرار التي لا يصل إلى حقيقتها إلّا الأوحديّ من الناس الذي هداه الله إلى ذلك.

ألا ترى أنّك إذا أمعنت النظر لوجدت أكثر من تصدّى من أصحابنا لإبطال المذهبين لم يقدر على التخطّي عن مرتبة التفويض وإن أنكره باللّسان حيث زعم أنّ منشأ عدم استقلال العبد في أفعاله كونها صادرة منه بواسطة أنّ الله تعالى أقدره عليها وهيّأ له أسبابها ، مع أنّه لا يظنّ بأحد ممّن يقول بالتفويض إنكار ذلك.

والحاصل : أنّ هذا المعنى ـ بحسب الظاهر ـ عين القول بالتفويض ، مع أنّ عامّة الناس تقصر إفهامهم عن أن تتعقّل (٥) مرتبة فوق هذه المرتبة لا تنتهي إلى مرتبة الجبر.

__________________

(١) كما في كتاب الطهارة ـ للشيخ الأنصاري ـ : ٣٥٩ ، وانظر : جواهر الكلام ٦ : ٥٥.

(٢) كما في جواهر الكلام ٦ : ٥٥ ، وكتاب الطهارة ـ للشيخ الأنصاري ـ : ٣٥٩.

(٣) حكاه عنه الشيخ الأنصاري في كتاب الطهارة : ٣٥٩ ، وانظر : كشف الغطاء : ١٧٣.

(٤) الكافي ١ : ١٦٠ / ١٣ ، التوحيد : ٣٦٢ / ٨ ، عيون أخبار الرضا عليه‌السلام ١ : ١٢٤ / ١٧ ، بحار الأنوار ٥ : ١١ ـ ١٢ / ١٨ ، و ١٧ / ٢٧.

(٥) في النسخ الخطّيّة والحجريّة : «تتعقّلوا». والظاهر ما أثبتناه.

٢٩٧

لكنّ هذا في مقام التصوّر التفصيلي ، وإلّا فلا يبعد أن يكون ما هو المغروس في أذهان عامّة أصحابنا خواصّهم وعوامهم مرتبة فوق هذه المرتبة ، فإنّهم لم يزالوا يربطون المكوّنات بأسرها من أفعال العباد وغيرها في حدوثها وبقائها بمشيئة الله تعالى وقدرته من غير أن يعزلوا عللها عن التأثير حتّى يلزم منه بالنسبة إلى أفعال العباد الجبر ، أو يلتزموا بكون المشيئة من أجزاء عللها حتّى يلزمه الإشراك والوهن في سلطان الله تعالى.

وهذا المعنى وإن صعب تصوّره والإذعان به لدى الالتفات التفصيلي ، لما فيه من المناقضة الظاهرة لدى العقول القاصرة ، لكنّه إجمالا مغروس في الأذهان ، ومآله ـ على الظاهر ـ إلى الالتزام بالأمر بين الأمرين بالنسبة إلى معلولات جميع العلل من أفعال العباد وغيرها.

وكيف كان فلا ينبغي الارتياب في أنّه ليس شي‌ء من مثل هذه العقائد ـ التي ربما يعجز الفحول عن إبطالها مع مساعدة بعض ظواهر الكتاب والسنّة عليها ـ إنكارا للضروريّ ، والله العالم.

واعلم أنّ المشهور بين أصحابنا ـ رضوان الله عليهم ـ كما صرّح به شيخنا المرتضى (١) رحمه‌الله وغيره (٢) : طهارة ولد الزنا وإسلامه ، لأصالة الطهارة ، وأصالة الإسلام ، لحديث الفطرة (٣) ، السالم عن دليل حاكم عليه في المقام.

__________________

(١) كتاب الطهارة : ٣٥٩.

(٢) جواهر الكلام ٦ : ٦٨.

(٣) الفقيه ٢ : ٢٦ ـ ٢٧ / ٩٦ ، علل الشرائع : ٣٧٦ (الباب ١٠٤) ح ٢ ، الوسائل ، الباب ٤٨ من أبواب جهاد العدوّ وما يناسبه ، ح ٣ عن الإمام الصادق عليه‌السلام. وتقدّم أيضا في ص ٢٦٥ ، الهامش (٣) عن المصادر الحديثيّة لأبناء العامّة عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله.

٢٩٨

ولما دلّ من الأخبار (١) الكثيرة على صيرورة المكلّف بإقراره بالشهادتين وتديّنه بهما مسلما ، فإنّ أغلب تلك الأخبار وإن لم تكن مسوقة لبيان الإطلاق أو العموم لكن يفهم منها ما هو مناط الحكم على وجه لا يبقى مجال للتشكيك في اطّراده.

وعن الصدوق والسيّد والحلّي القول بكفر ولد الزنا ونجاسته (٢) ، بل عن الحلّي نفي الخلاف في ذلك (٣).

لكنّ العبارة المحكيّة عن الصدوق لا تدلّ إلّا على نجاسته ، فإنّه منع من الوضوء بسؤره (٤) ، وهو أعمّ من الكفر.

وكيف كان فقد استدلّ لهم : بمرسلة الوشّاء عمّن ذكره عن أبي عبد الله عليه‌السلام أنّه كره سؤر ولد الزنا واليهودي والنصراني والمشرك وكلّ من خالف الإسلام ، وكان أشدّ ذلك عنده سؤر الناصب (٥).

ورواية ابن أبي يعفور عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : «لا تغتسل من البئر التي تجتمع فيها غسالة الحمّام ، فإنّ فيها غسالة ولد الزنا ، وهو لا يطهر إلى سبعة آباء ، و

__________________

(١) منها : ما في الكافي ٢ : ٢٥ / ١.

(٢) حكاه عنهم العاملي في مفتاح الكرامة ١ : ١٤٣ ، وانظر : الفقيه ١ : ٨ ، ذيل ح ١١ ، والانتصار :٢٧٣ ، والسرائر ١ : ٣٥٧ ، و ٢ : ١٢٢ ، ٥٢٦ ، و ٣ : ١٠.

(٣) حكاه عنه العاملي في مفتاح الكرامة ١ : ١٤٣ ، وانظر : السرائر ١ : ٣٥٧ ، و ٢ : ١٢٢ ، ٥٢٦ ، و ٣ : ١٠.

(٤) الفقيه ١ : ٨ ، ذيل ح ١١.

(٥) تقدّم تخريجه في ص ٢٨٦ ، الهامش (٧).

٢٩٩

فيها غسالة الناصب» (١) الحديث.

ورواية حمزة بن أحمد عن أبي الحسن الأوّل عليه‌السلام في حديث قال فيه : «ولا تغتسل من البئر التي يجتمع فيها ماء الحمّام فإنّه يسيل فيها ما يغتسل به الجنب وولد الزنا والناصب لنا أهل البيت ، وهو شرّهم» (٢).

ومرفوعة سليمان الديلمي إلى الصادق عليه‌السلام ، قال : «يقول ولد الزنا : يا ربّ فما ذنبي؟ فما كان لي في أمري صنع ، فيناديه مناد ويقول له : أنت شرّ الثلاثة أذنب والداك ، فتبت عليهما وأنت رجس ، ولن يدخل الجنّة إلّا طاهر» (٣).

ويؤكّده ما ورد من أنّ نوحا ـ على نبيّنا وآله وعليه‌السلام ـ لم يحمل في السفينة ولد الزنا وقد كان حمل الكلب والخنزير (٤).

وما ورد من أنّ حبّ عليّ عليه‌السلام علامة طيب الولادة ، وبغضه علامة خبثها (٥).

وما ورد من أنّ ديته كدية اليهودي ثمانمائة درهم (٦).

وموثّقة زرارة عن الباقر عليه‌السلام «لا خير في ولد الزنا ، ولا في بشره ، ولا في

__________________

(١) تقدّم تخريجه في ص ٢٨٦ ، الهامش (٣).

(٢) التهذيب ١ : ٣٧٣ / ١١٤٣ ، الوسائل ، الباب ١١ من أبواب الماء المضاف ، ح ١.

(٣) علل الشرائع : ٥٦٤ (الباب ٣٦٣) ح ٢ ، وعنه في بحار الأنوار ٥ : ٢٨٥ / ٥ ، وفي النسخ الخطّيّة والحجريّة : «فنشأت» بدل «فتبت». وما أثبتناه كما في المصدر.

(٤) تفسير العيّاشي ٢ : ١٤٨ / ٢٨ ، وعنه في بحار الأنوار ١١ : ٣٣٦ / ٦٣ ، والوسائل ، الباب ٣١ من أبواب كتاب الشهادات ، ح ٩.

(٥) المناقب ـ لابن شهرآشوب ـ ٣ : ٢٠٧ ، وعنه في بحار الأنوار ٣٩ : ٢٦٣.

(٦) التهذيب ١٠ : ٣١٥ / ١١٧١ ، الوسائل ، الباب ١٥ من أبواب ديات النفس ، ح ١.

٣٠٠