مصباح الفقيه - ج ٧

الشيخ آقا رضا الهمداني

مصباح الفقيه - ج ٧

المؤلف:

الشيخ آقا رضا الهمداني


المحقق: المؤسّسة الجعفريّة لإحياء التراث ـ قم المقدّسة
الموضوع : الفقه
الناشر: منبع
الطبعة: ١
الصفحات: ٣٣٦

القول بالفصل ، كما ادّعاه بعض (١) ، بل يمكن الاستدلال له بجميع الأخبار الدالّة على نجاسة الخمر بدعوى كونها اسما للأعمّ ، كما استظهره في الحدائق (٢) عن جملة من اللغويّين.

ويشهد له جملة من الأخبار :

منها : رواية عطاء بن يسار عن أبي جعفر عليه‌السلام ، قال : «قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : كلّ مسكر حرام وكلّ مسكر خمر» (٣).

وصحيحة عبد الرحمن بن الحجّاج عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : «قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : الخمر من خمسة : العصير من الكرم ، والنقيع من الزبيب ، والبتع من العسل ، والمزر من الشعير ، والنبيذ من التمر» (٤).

وعن عليّ بن إسحاق الهاشمي عن أبي عبد الله عليه‌السلام (٥) نحوها.

ورواية الحضرمي عمّن أخبره عن عليّ بن الحسين عليه‌السلام : «الخمر من خمسة أشياء : من التمر والزبيب والحنطة والشعير والعسل» (٦).

وعن تفسير العيّاشي عن عامر مثله ، إلّا أنّه قال : «الخمر من ستّة أشياء» و

__________________

(١) انظر : جواهر الكلام ٦ : ٤.

(٢) الحدائق الناضرة ٥ : ١١٥.

(٣) الكافي ٦ : ٤٠٨ / ٣ ، التهذيب ٩ : ١١١ / ٤٨٢ ، الوسائل ، الباب ١٥ من أبواب الأشربة المحرّمة ، ح ٥.

(٤) الكافي ٦ : ٣٩٢ / ١ ، التهذيب ٩ : ١٠١ / ٤٤٢ ، الوسائل ، الباب ١ من أبواب الأشربة المحرّمة ، ح ١.

(٥) الكافي ٦ : ٣٩٢ / ٣ ، الوسائل ، الباب ١ من أبواب الأشربة المحرّمة ، ح ٣.

(٦) الكافي ٦ : ٣٩٢ / ٢ ، الوسائل ، الباب ١ من أبواب الأشربة المحرّمة ، ح ٢.

١٨١

زاد على الخمسة المذكورة «الذرّة» (١).

وعن مجمع البيان عن ابن عباس في تفسير قوله تعالى (إِنَّمَا الْخَمْرُ) (٢) الآية ، قال : «يريد بالخمر جميع الأشربة التي تسكر ، وقد قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : الخمر من تسع : من البتع ، وهو العسل» (٣) إلى آخره.

وعن القمّي في تفسيره عن أبي الجارود عن أبي جعفر عليه‌السلام في تفسير قوله تعالى (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصابُ وَالْأَزْلامُ) (٤) «أمّا الخمر فكلّ مسكر من الشراب إذا خمر فهو خمر ، وما أسكر كثيره فقليله حرام ، وذلك أنّ أبا بكر شرب قبل أن تحرّم الخمر فسكر فجعل يقول الشعر ويبكي على قتلي المشركين من أهل بدر ، فسمع النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فقال : اللهمّ أمسك على لسانه ، فأمسك على لسانه فلم يتكلّم حتّى ذهب عنه السكر ، فأنزل الله تحريمها بعد ذلك ، وإنّما كانت الخمر يوم حرّمت بالمدينة فضيخ البسر والتمر ، فلمّا نزل تحريمها خرج رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله فقعد بالمسجد ثمّ دعا بآنيتهم التي كانوا ينبذون فيها فكفأها كلّها ، وقال : هذه كلّها خمر وقد حرّمها الله ، فكان أكثر شي‌ء كفئ في ذلك اليوم يومئذ من الأشربة الفضيخ ، ولا أعلم أنّه كفئ يومئذ من خمر العنب شي‌ء إلّا إناء واحد كان فيه زبيب وتمر جميعا ، وأمّا عصير العنب فلم يكن يومئذ بالمدينة منه شي‌ء حرّم الله الخمر قليلها وكثيرها وبيعها وشراءها والانتفاع

__________________

(١) تفسير العيّاشي ١ : ١٠٦ / ٣١٣ ، الوسائل ، الباب ١ من أبواب الأشربة المحرّمة ، ح ٦.

(٢) المائدة ٥ : ٩.

(٣) مجمع البيان ٣ ـ ٤ : ٣٧٠ ، وعنه في الحدائق الناضرة ٥ : ١١٣ ـ ١١٤.

(٤) المائدة ٥ : ٩٠.

١٨٢

بها» (١) الحديث.

وهذه الأخبار كما تراها تدلّ على كون الخمر اسما للشراب المسكر ، وظاهرها كونه على سبيل الحقيقة ، فيفهم نجاسة سائر المسكرات أيضا من جميع ما دلّ على نجاسة الخمر.

وربما يستدلّ له أيضا بخبر عليّ بن يقطين عن أبي الحسن الماضي عليه‌السلام ، قال : «إنّ الله سبحانه لم يحرّم الخمر لاسمها ، ولكن حرّمها لعاقبتها ، فما كان عاقبته عاقبة الخمر فهو خمر» (٢).

وفيه : أنّ المتبادر من السياق إرادة التشبيه بها من حيث الحرمة دون النجاسة.

وكيف كان ففيما عداه غنى وكفاية ، فإنّه بعد الإحاطة بما تقدّم لا يبقى مجال للتشكيك في اتّحاد حكم الخمر مع غيرها من المسكرات المائعة من حيث النجاسة والحرمة.

لكنّ الشأن إنّما هو في إثبات نجاسة الخمر ، فإنّه ربما يناقش في أدلّتها.

أمّا في الإجماعات المنقولة : فبعدم الحجّيّة خصوصا مع معروفيّة الخلاف من عظماء الأصحاب.

وأمّا الآية : فبمنع الدلالة ، فإنّ المشهور بين أهل اللغة ـ كما صرّح به في

__________________

(١) تفسير القمّي ١ : ١٨٠ ، وعنه في الحدائق الناضرة ٥ : ١١٣.

(٢) الكافي ٦ : ٤١٢ / ٢ ، التهذيب ٩ : ١١٢ / ٤٨٦ ، الوسائل ، الباب ١٩ من أبواب الأشربة المحرّمة ، ح ١.

١٨٣

المدارك (١) ـ أنّ الرجس هو الإثم ، ويؤيّد إرادته في خصوص المقام جعله من عمل الشيطان ، فلا يناسب حمله على أعيان المذكورات ، فالمراد بها استعمالها الذي هو من عمل الشيطان.

ولو سلّم كونه بمعنى النجس ، فالنجس يطلق لغة على كلّ مستقذر وإن لم يكن نجسا بالمعنى الشرعي ، ولم يثبت كونه لدى الشارع حين نزول الآية حقيقة في خصوص هذا المعنى.

وعلى تقدير تسليم كونه حقيقة فيه يشكل إرادته في المقام ، لأنّه يقتضي نجاسة الميسر وما بعده ، لوقوعه خبرا عن الجميع ، ولا قائل به.

ودعوى كونه خبرا عن خصوص الخمر وكون المقدّر لغيرها غيره ، مجازفة ، لشهادة السياق باتّحاد الجميع من حيث الحكم ، فالمراد بالاجتناب عن المذكورات ترك استعمالها بحسب ما هو المتعارف فيها.

وأمّا الأخبار : فهي معارضة بالأخبار الكثيرة المتقدّمة النافية للبأس عنه.

وما عن المشهور من حمل هذه الأخبار على التقيّة (٢) ـ جمعا بينها وبين أخبار النجاسة ـ ليس بأولى من حمل تلك الأخبار على الاستحباب ، بل هذا هو الأولى في مقام الجمع ، خصوصا مع ما في الحمل على التقيّة من الإشكال حيث إنّ المشهور بين العامّة ـ على ما حكي (٣) عنهم ـ هو النجاسة ، فيحتمل صدور أخبار النجاسة من باب التقيّة.

__________________

(١) مدارك الأحكام ٢ : ٢٩١.

(٢) حكاه الشيخ الأنصاري في كتاب الطهارة : ٣٦٠ نقلا عن شرح المفاتيح.

(٣) الحاكي هو العلّامة الحلّي في تذكرة الفقهاء ١ : ٦٤ ، المسألة ٢٠.

١٨٤

واشتمال بعضها على ما ينافي التقيّة من نجاسة النبيذ وحرمة الجرّي ونحوها لا ينفي احتمال صدورها تقيّة بالنسبة إلى الخمر وما يشاركها في الإسكار.

وما يقال ـ من احتمال صدور أخبار الطهارة رعاية لميل سلطان الجور أو لموافقتها لفتوى ربيعة الرأي (١) الذي كان معاصرا للصادق عليه‌السلام ـ ففيه : أنّ غاية الأمر قيام احتمال صدور هذه الأخبار تقيّة ، كاحتمال صدور أخبار النجاسة أيضا كذلك ، فحمل أخبار الطهارة على التقيّة مع موافقة أخبار النجاسة لأكثر العامّة تحكّم.

نعم ، لو ثبت ترجيح أخبار النجاسة بسائر المرجّحات بحيث تعيّن الأخذ بها ، اتّجه حينئذ حمل أخبار الطهارة على التقيّة فرارا من الطرح المرغوب عنه.

لكنّ الأوجه حينئذ ردّ علمها إلى أهله ، فإنّ صدور مثل هذه الأخبار الكثيرة رعاية لميل سلطان الوقت أو فتوى بعض فقهائهم في غاية البعد.

لكنّ الإنصاف أنّ حمل أخبار النجاسة على الاستحباب مشكل ، لإباء بعضها عن ذلك ، فإنّ جملة منها كادت تكون صريحة في عدم جواز الانتفاع بما وقع فيه الخمر حتّى بالاكتحال منه في غير الضرورة وإن استهلكت فيه بأن قطر منها ـ مثلا ـ قطرة في حبّ من الماء أو المرق الكثير ، وهذه الخاصّيّة من آثار النجس المصطلح ، فإن أمكن التفكيك بين الآثار بالالتزام بوجوب الاجتناب عمّا فيه الخمر ولو مع استهلاكه دون وجوب غسل ملاقيه والتجنّب عنه في الصلاة ووجوب إعادة الصلاة الواقعة فيه وغير ذلك من آثار النجس ، اتّجه الجمع بين

__________________

(١) المجموع ٢ : ٥٦٣.

١٨٥

الأخبار بالالتزام به ، وحمل الأخبار الآمرة بغسل الملاقي وإعادة الصلاة ونحوها على الاستحباب ، جمعا بينها وبين أخبار الطهارة ، التي هي بمنزلة النصّ الغير القابل للتأويل.

لكنّ التفكيك مشكل ، إذ لم يعرف القول به من أحد ، بل لا يبعد مخالفته للإجماع.

فالحقّ أنّ الأخبار متعارضة لا يمكن الجمع بينهما (١) من حيث المدلول ، فالمتعيّن هو الرجوع إلى المرجّحات الخارجيّة.

وقد عرفت أنّ احتمال صدور إحدى الطائفتين تقيّة لا يصلح مرجّحا لها ، لقيام هذا الاحتمال في كلتا الطائفتين ، فإن جعلنا شهرة العمل بالرواية من المرجّحات ، أو قلنا بأنّ إعراض المشهور عن أخبار الطهارة أوهنها ، لكان الترجيح مع أخبار النجاسة.

لكنّ الإنصاف أنّ إعراضهم عنها ليس على وجه يسقطها عن الحجّيّة ، فهي أخبار مستفيضة مشهورة عمل بها بعض الأصحاب ، لا يجوز طرحها إلّا بمعارض مكافئ ، وما يصلح لمعارضتها ليس إلّا بعض أخبار النجاسة ، الذي لا يقبل الحمل على الاستحباب ، وهذا البعض من حيث هو لا يكافئ أخبار الطهارة ، إلّا أن يدّعى انجباره بعمل الأصحاب ونقل إجماعهم ، واعتضاده بظواهر غيره من الأخبار الكثيرة ، وفيه تأمّل.

(و) لكن مع ذلك كلّه (الأظهر النجاسة) لصحيحة عليّ بن مهزيار ، قال :

__________________

(١) أي بين الطائفتين من الأخبار المتعارضة.

١٨٦

قرأت في كتاب عبد الله بن محمّد إلى أبي الحسن عليه‌السلام : جعلت فداك روى زرارة عن أبي جعفر عليه‌السلام وأبي عبد الله عليه‌السلام في الخمر تصيب ثوب الرجل أنّهما قالا : «لا بأس أن يصلّي فيه ، إنّما حرّم شربها» وروى غير زرارة عن أبي عبد الله عليه‌السلام أنّه قال : «إذا أصاب ثوبك خمر أو نبيذ ـ يعني المسكر ـ فاغسله إن عرفت موضعه ، وإن لم تعرف موضعه فاغسله كلّه ، فإن صلّيت فيه فأعد صلاتك» فأعلمني ما آخذ به؟ فوقّع بخطّه عليه‌السلام وقرأته : «خذ بقول أبي عبد الله عليه‌السلام» (١) فإنّ ظاهرها تعيّن الأخذ بقول أبي عبد الله عليه‌السلام ، المنفرد عن قول أبي جعفر عليه‌السلام ، الذي مضمونه التنجيس ، فهو المتّبع.

ولا يعارضها أخبار الطهارة ، لحكومتها عليها ، فإنّها بمنزلة الإخبار العلاجيّة الواردة في حكم المتعارضين ، الآمرة بالأخذ بما وافق الكتاب أو ما خالف العامّة أو غير ذلك ، فإنّها لا تعدّ في عرض المتعارضين.

نعم ، لو كان الأخذ بقول أبي عبد الله عليه‌السلام في المقام منافيا لما في الأخبار العلاجيّة ـ بان ان قول أبي عبد الله عليه‌السلام ـ مثلا ـ موافقا للعامّة ـ لتحقّقت المعارضة بين الصحيحة وبين تلك الأخبار الآمرة بالأخذ بالخبر المخالف ، كما أنّه لو كان قابلا للتأويل دون ما يعارضه ـ بأن كانت المعارضة بينهما من قبيل معارضة النصّ والظاهر ـ لكانت الصحيحة منافية لقاعدة الجمع.

لكنّك خبير بأنّ العمومات والقواعد لا تزاحم النصّ الخاصّ الصحيح ،

__________________

(١) الكافي ٣ : ٤٠٧ / ١٤ ، التهذيب ١ : ٢٨١ / ٨٢٦ ، الوسائل ، الباب ٣٨ من أبواب النجاسات ، ح ٢.

١٨٧

فالصحيحة سليمة عن المعارض يجب الأخذ بظاهرها.

فما في المدارك ـ من حملها على الاستحباب ، جمعا بينها وبين أخبار الطهارة (١) ـ في غير محلّه.

ونظيرها في الحكومة على سائر الأخبار خبر خيران الخادم ، قال : كتبت إلى الرجل أسأله عن الثوب يصيبه الخمر ولحم الخنزير أيصلّى فيه؟ فإنّ أصحابنا قد اختلفوا فيه ، فقال بعضهم : صلّ فيه ، فإنّ الله حرّم شربها ، وقال بعضهم : لا تصلّ فيه ، فوقّع عليه‌السلام «لا تصلّ فيه فإنّه رجس» (٢) الحديث ، إذا الظاهر أنّ اختلاف أصحابنا فيه لم يكن إلّا لاختلاف أخبارهم ، وكان هذا منشأ لتحيّر السائل ورجوعه إلى الإمام عليه‌السلام ، فما صدر عنه عليه‌السلام لبيان حكم ذلك الموضوع الذي اختلفت الروايات فيه لرفع تحيّره لا يعدّ في عرض تلك الأخبار الموجبة لتحيّره.

ثمّ إنّك قد عرفت آنفا أنّ المسكرات المائعة ملحقة بالخمر ، بل مندرجة فيها موضوعا ، لكنّ القدر المتيقّن منها هو المسكرات المائعة بالأصالة ، وأمّا المسكرات الجامدة كالحشيشة ونحوها فمقتضى الأصل طهارتها وإن عرض لها وصف الميعان بأن امتزجت في ماء ونحوه ، بل عن غير واحد دعوى الإجماع عليها.

واستشكله بعض (٣) لو لم يكن إجماعيّا ، نظرا إلى إطلاق بعض الأدلّة

__________________

(١) مدارك الأحكام ٢ : ٢٩٢.

(٢) الكافي ٣ : ٤٠٥ / ٥ ، التهذيب ٢ : ٣٥٨ ـ ٣٥٩ / ١٤٨٥ ، الوسائل ، الباب ٣٨ من أبواب النجاسات ، ح ٤.

(٣) المحقّق الخوانساري في مشارق الشموس : ٣٣٥ ـ ٣٣٦ ، وانظر أيضا : جواهر الكلام ٦ : ١١.

١٨٨

المتقدّمة ، فكأنّ نظره إلى إطلاق قوله عليه‌السلام : «فما كان عاقبته عاقبة الخمر فهو خمر» (١) وقوله عليه‌السلام : «كلّ مسكر خمر» (٢).

وفيه : أمّا الرواية الأولى : فقد عرفت ظهورها في إرادة التشبيه من حيث الحرمة.

وأمّا الرواية الثانية : فإن أريد بها الحمل الحقيقي ، فلا بدّ من صرفها إلى المسكرات المائعة بالأصالة التي ينصرف إليها إطلاق قول اللغويّين المفسرين لها بالشراب المسكر ، ضرورة عدم كون الحشيشة ولو مع امتزاجها بالماء وعروض وصف الميعان لها من المصاديق الحقيقيّة للخمر ، فلو فرض ظهور كلمات اللغويّين أيضا في أرادتها ، لتعيّن صرفها إلى غيرها ، إذ لا يرفع اليد عن المحكمات العرفيّة بمتشابهات أهل اللغة.

وإن أريد بها الحمل الحكمي ، فهي منصرفة إلى إرادة التشبيه من حيث الحرمة التي هي أظهر أوصافها ، دون نجاستها التي كانت في عصر الصادقين عليهما‌السلام من أوصافها الخفيّة التي اختلفت فيها الروايات ورواتها.

وكيف كان فلا إشكال في الحكم ، كما أنّه لا خلاف فيه.

نعم ، لو كان لميعانها دخل في مسكريّتها ، اندرج في القسم الأوّل الذي حكمنا بنجاسته ، كما لا يخفى.

ولو عرض للخمر ونحوها وصف الجمود ، بقي على نجاستها ، لعدم

__________________

(١) تقدّم تخريجه في ص ١٨٣ ، الهامش (٢).

(٢) تقدّم تخريجه في ص ١٨١ ، الهامش (٣).

١٨٩

خروجها بذلك من مسمّى اسمها ، لكونها لدى العرف كالبول المنجمد.

ولو منع بقاء الاسم ، أو شكّ فيه ، أو قيل بانصراف ما دلّ على نجاستها عن مثل الفرض ، حكم بنجاسته لأجل الاستصحاب ، لكونه من أظهر مجاريه لدى العرف.

ولا ينافيه الشكّ في بقاء الموضوع بعنوانه المعلّق عليه الحكم في الأدلّة الشرعيّة ، لما تقرّر في محلّه من أنّ المرجع في تشخيص موضوع المستصحب هو العرف.

بقي الكلام في حقيقة السكر الذي هو مناط الحرمة وعروض النجاسة.

فقيل : هو ما يحصل معه اختلال الكلام المنظوم وظهور السرّ المكتوم (١).

وقيل : هو ما يغيّر العقل ويحصل معه نشو النفس (٢).

وقيل في الفرق بينه وبين الإغماء : إنّ السكر حالة توجب اختلالا في العقل بالاستقلال ، والإغماء يوجبه بالتبع ، لضعف القلب والبدن (٣) (٤).

وقيل : إنّ السكر حالة توجب ضعف العقل وقوّة القلب ، والإغماء حالة توجب ضعفهما معا (٥).

أقول : والذي يظهر من مجموع ما قيل أنّ السكر يشبه الجنون ، والإغماء

__________________

(١) كما في رياض المسائل ٢ : ٤٨٣ (الطبعة الحجريّة).

(٢) كما في رياض المسائل ٢ : ٤٨٣ (الطبعة الحجريّة).

(٣) في النسخ الخطّيّة والحجريّة : «اليد» بدل «البدن». والظاهر ما أثبتناه كما في كشف الغطاء وجواهر الكلام.

(٤) كما في جواهر الكلام ٦ : ١٣ ، وقال به الشيخ جعفر النجفي في كشف الغطاء : ١٧٢.

(٥) كما في كشف الغطاء : ١٧٢ ، وجواهر الكلام ٦ : ١٣.

١٩٠

يشبه النوم ، والإيكال إلى العرف أولى وإن كان الظاهر مساعدته على ما قيل (١) ، والله العالم.

(وفي حكمها) حرمة ونجاسة على ما صرّح به غير واحد (٢) (العصير) العنبي (إذا غلى واشتدّ) ولم يذهب ثلثاه.

أمّا حرمته : فممّا لا إشكال فيه ، بل تتحقّق الحرمة بمجرّد الغليان وإن لم يشتدّ ، بلا خلاف فيه على الظاهر ، بل عن المصنّف وغيره دعوى الإجماع عليه.

قال في محكيّ المعتبر : وفي نجاسة العصير بغليانه قبل اشتداده تردّد. وأمّا التحريم فعليه إجماع فقهائنا. ثمّ منهم من أتبع التحريم بالنجاسة. والوجه : الحكم بالتحريم مع الغليان حتّى يذهب الثلثان ، ووقوف النجاسة على الاشتداد (٣). انتهى.

ويدلّ عليه أخبار كثيرة سيأتي نقل بعضها إن شاء الله ، وتفصيل الكلام فيه موكول إلى محلّه.

وأمّا نجاسته فقد اختلفوا فيها.

وقد نسب (٤) القول بها إلى الأكثر ، بل نسبه غير واحد (٥) إلى المشهور بين

__________________

(١) انظر : جواهر الكلام ٦ : ١٣.

(٢) كابن حمزة في الوسيلة : ٣٦٥ ، والعلّامة الحلّي في إرشاد الأذهان ١ : ٢٣٩ ، وتحرير الأحكام ١ : ٢٤ ، وقواعد الأحكام ١ : ٧ ، ومختلف الشيعة ١ : ٣١٠ ، المسألة ٢٣٠ ، ومنتهى المطلب ١ : ١٦٧.

(٣) حكاه عنه البحراني في الحدائق الناضرة ٥ : ١٢١ ـ ١٢٢ ، وانظر : المعتبر ١ : ٤٢٤.

(٤) الناسب هو العلّامة الحلّي في مختلف الشيعة ١ : ٣١٠ ، المسألة ٢٣٠.

(٥) كالشهيد الثاني في مسالك الأفهام ١ : ١٢٣ ، والعاملي في مدارك الأحكام ٢ : ٢٩٢ ، والفيض الكاشاني في مفاتيح الشرائع ١ : ٧٣.

١٩١

المتأخّرين ، وادّعى بعض (١) الشهرة عليها على الإطلاق ، بل عن بعض دعوى الإجماع عليها (٢).

وحكي عن بعض القدماء وجملة من المتأخّرين القول بطهارته (٣) ، بل يظهر من محكيّ الذكرى شذوذ القول بالنجاسة بين القدماء ، وكون المعروف عندهم خلافها ، حيث قال : إنّ في حكم المسكرات العصير إذا غلى واشتدّ عند ابن حمزة. وفي المعتبر : يحرم مع الغليان حتّى يذهب ثلثاه ، ولا ينجس إلّا مع الاشتداد ، كأنّه يريد الشدّة المطربة ، إذا الثخانة حاصلة بمجرّد الغليان. وتوقّف الفاضل في نهايته ، ولم نقف لغيرهم على قول بالنجاسة ، ولا دليل على نجاسة غير المسكر (٤). انتهى.

وقال في المستند : والذي يظهر لي أنّ المشهور بين الطبقة الثالثة ـ يعني طبقة متأخّري المتأخّرين ـ الطهارة ـ ومراده بهم من الشهيد ومن بعده ـ وبين الثانية ـ أي المتأخّرين ـ النجاسة.

وأمّا الأولى فالمصرّح منهم بالنجاسة أمّا قليل أو معدوم.

__________________

(١) كالشهيد الثاني في روض الجنان : ١٦٤ ، والطباطبائي في رياض المسائل ٢ : ٨٦ ، وبحر العلوم في الدرّة النجفيّة : ٥٠.

(٢) حكاه صاحب الجواهر فيها ٦ : ١٤ عن الطريحي في مجمع البحرين ٣ : ٤٠٧ «عصر».

(٣) حكاه العلّامة الحلّي في مختلف الشيعة ١ : ٣١٠ ، المسألة ٢٣٠ ، وكذا العاملي في مدارك الأحكام ٢ : ٢٩٣ ، والفيض الكاشاني في مفاتيح الشرائع ١ : ٧٣ ، والشيخ الأنصاري في كتاب الطهارة : ٣٦١ عن ابن أبي عقيل والشهيد الثاني في حواشيه على القواعد وابنيه في المعالم (قسم الفقه) : ٥١٣ ـ ٥١٤ ، ومدارك الأحكام ٢ : ٢٩٣.

(٤) حكاه عنه الشيخ الأنصاري في كتاب الطهارة : ٣٦١ ، وانظر : الذكرى ١ : ١١٥.

١٩٢

نعم ، ذكر الحلّي في بحث المياه في رفع استبعاد تطهّر الماءين النجسين المتفرّقين بعد جمعهما إذا بلغا كرّا : ألا ترى أنّ عصير العنب قبل أن يشتدّ حلال طاهر ، فإذا حدثت الشدّة حرمت العين ونجست ، والعين ـ التي هي جواهر ـ على ما كانت عليه ، وإنّما حدث معنى لم يكن كذلك. وكذلك إذا انقلب خلّا ، زالت الشدّة عن العين وطهرت ، وهي على ما كانت عليه. وأمّا في بحث النجاسات فمع ذكر الخمر وإلحاقه الفقّاع بها لم يذكر العصير أصلا.

والذي أراه أنّ مراده بشدّته ليس غلظته وثخانته ، بل المراد هو القوّة الحاصلة للمسكر ، فيكون المراد منه الخمر ، ولذا لم يذكر الغليان ولا قبل ذهاب الثلثين ، ورتّب زوال الشدّة على الانقلاب خلّا (١). انتهى.

ويحتمل إرادة هذا المعنى من الشدّة في عبارة جملة من القائلين بنجاسته ، كالعبارة المتقدّمة (٢) عن المعتبر ، كما فهمه الشهيد.

بل في المستند : ولو لا أنّ المتأخّرين ـ الذين ذكروا العصير ـ ذكروه بعد الخمر وفسّروا الاشتداد بالثخانة لقلت : إنّ مراد جميعهم ما ذكرنا.

ثمّ قال : والذي يختلج ببالي أن يكون جماعة من القدماء عبّروا عن الخمر بمثل ذلك ، ولأجله وقع في العصير الخلاف (٣). انتهى.

ويشهد لما استظهره من شهرة القول بطهارته بين متأخّري المتأخّرين : مراجعة كتبهم حيث يعرف بها كون طهارته لديهم أشهر وإن زعم كلّ من القائلين

__________________

(١) مستند الشيعة ١ : ٢١٤ ـ ٢١٥ ، وانظر : السرائر ١ : ٦٦ ، و ١٧٨ ـ ١٧٩.

(٢) في ص ١٩١.

(٣) مستند الشيعة ١ : ٢١٥.

١٩٣

بها مخالفة قوله للشهرة ، حتّى أنّ بعضهم صرّح بأنّ القول بنجاسته من المشهورات التي لا أصل لها (١).

لكنّ المتصفّح في كلماتهم يرى أنّ أغلب هذه الطبقة قائلون بالطهارة ، ويظهر من اعترافهم بشهرة القول بالنجاسة كونه مشهورا في الأعصار المتقدّمة على عصرهم ، وهي الطبقة الثانية.

وأمّا ما ذكره من عدم تعرّض القدماء له : فإنّي وإن لم أتحقّقه ـ حيث لم يحضرني من كتبهم إلّا عدّة كتب وجدتها ـ كما وصف ـ خالية عن التعرّض لذكر العصير عند تعداد النجاسات ـ لكن ربما يشهد له ما سمعته من الشهيد (٢) ـ من عدم وقوفه على القول بنجاسته ـ بضميمة ما صرّح به بعض (٣) من أنّ كلّ من تعرّض له فقد حكم بنجاسته ، وظاهر من لم يتعرّض له القول بطهارته ، فإنّ عدم تعرّض الفقيه له عند تعداد النجاسات وعدم التعرّض لبيان ما يطهّره عند ذكر المطهّرات مع أنّ له مطهّرا مخصوصا به في قوّة التصريح بطهارته.

وما احتمله بعض (٤) من كونه لدى غير المتعرّضين له من مصاديق الخمر التي حكموا بنجاستها ممّا لا ينبغي الالتفات إليه بعد عدم كونه عرفا من مصاديقها ، فضلا عن انصراف إطلاقها عنه.

ولا يصحّ استفادة قولهم بالنجاسة ممّا حكي عنهم في باب الأطعمة و

__________________

(١) الشهيد الثاني في مسالك الأفهام ١٢ : ٧٥.

(٢) في ص ١٩٢.

(٣) البحراني في الحدائق الناضرة ٥ : ١٢٣.

(٤) جواهر الكلام ٦ : ١٣.

١٩٤

نحوها من التصريح بكون العصير بعد غليانه بحكم الخمر ، إذ لا ظهور له إلّا في إرادته من حيث الحرمة ، بل لا يفهم الحكم بالنجاسة في مورد الخلاف من التصريح بكون ذهاب ثلثيه مطهّرا له ما لم يصرّح بكون غليانه سببا لنجاسته.

ألا ترى أنّ الشهيد صرّح في العبارة المتقدّمة (١) عن الذكرى بأنّه لا دليل على نجاسة غير المسكر ، وعن بيانه (٢) أيضا التصريح بذلك ، تعريضا على من ألحق العصير بالمسكرات ، ولم يذكره في الدروس واللمعة في عداد الأعيان النجسة ، لكن عدّ في الدروس (٣) نقص العصير وانقلابه ، وفي اللمعة (٤) ذهاب ثلثيه من جملة المطهّرات ، فيستفاد من مجموع كلماته أنّه لا يقول بنجاسته بعد غليانه إلّا على تقدير صيرورته مسكرا ، وبعد صيرورته كذلك يطهّره ذهاب الثلثين ، والانقلاب.

وكيف كان ففي المسألة في هذه الأعصار قولان مشهوران. وأمّا الأعصار المتقدّمة فلم يتّضح لنا حالها.

حجّة القائلين بالطهارة : الأصل.

ويؤيّده خلوّ الأخبار الكثيرة ـ الواردة في العصير ـ عن الأمر بغسل ملاقيه ، والاجتناب عنه مع عموم الابتلاء به.

ويزيده تأييدا عدم التعرّض في شي‌ء من الأخبار لبيان حكم الآلات التي

__________________

(١) في ص ١٩٢.

(٢) الحاكي عنه هو العاملي في مدارك الأحكام ٢ : ٢٩٣ ، وانظر : البيان : ٣٩.

(٣) الدروس ١ : ١٢٢.

(٤) اللمعة الدمشقيّة : ١٧.

١٩٥

يزاولها العامل عند طبخ العصير ، مع أنّه ربما يفارقها عند ذهاب الثلثين ، وكذا ثياب العامل ويده التي يصل إليها العصير غالبا قبل أن يذهب ثلثاه.

ويؤكّده عدم تعرّض السائلين للسؤال عنها ، فلم يكن ذلك إلّا لخلوّ ذهن السامعين وعدم معهوديّة نجاسته عندهم ، لا معهوديّتها لديهم واستفادتهم طهارة مثل هذه الأشياء بالتبع من إطلاق ما دلّ على حلّيّة العصير وطهارته بعد ذهاب ثلثيه بدلالة التزاميّة عرفيّة ، كما التزم به القائلون بالنجاسة ، فإنّ دعوى كون تلك المطلقات كاشفة عن عدم تنجّس الآلات بملاقاة العصير ، المستلزم لطهارته أولى من دعوى استفادة تبعيّتها له في الطهارة مع بعدها عن الذهن ، فإنّه لا يكاد يتصوّر أحد فرقا بين ما لو لاقى جسم خارجي ثوب العامل الذي أصابه العصير قبل أن يذهب ثلثا ما يطبخه من العصير أو بعده حتّى يفهمه من إطلاق طهارة العصير وحلّيّته بعد ذهاب ثلثي العصير من غير تقييده بعدم ملاقاته بشي‌ء لما أصابه قبل الحلّيّة ، فاستفادة استتباع جسم لجسم آخر منفصل عنه في الطهارة والنجاسة لبعده عن الذهن ممّا لا يمكن أن يتحقّق إلّا بنصّ صريح ، فكلّ شي‌ء يستدلّ به القائل بالنجاسة لتبعيّة الآلات ونحوها للعصير في الطهارة من إطلاق أو إجماع أو سيرة يمكن أن يستشهد به لعدم انفعاله من أصله ، ولا أقلّ من أن يجعل مؤيّدا لذلك.

ومن أقوى المؤيّدات لهذا القول عدم تعرّض القدماء للعصير إن ثبت ذلك ، كما تقدّمت (١) دعواه من المستند.

__________________

(١) في ص ١٩٢.

١٩٦

واستدلّ للقول بالنجاسة بأمور :

منها : الإجماع الذي ادّعاه السيوري في كنز العرفان.

قال ـ على ما حكي عنه ـ : العصير من العنب قبل غليانه طاهر حلال ، وبعد غليانه واشتداده نجس حرام ، وذلك إجماع من فقهائنا. أمّا بعد غليانه وقبل اشتداده فحرام إجماعا منّا. وأمّا النجاسة فعند بعضنا أنّه نجس ، وعند آخرين أنّه طاهر (١). انتهى.

وأجيب : بعدم الحجّيّة خصوصا مع معروفيّة الخلاف.

هذا ، مع قوّة احتمال أن يكون مراده بالاشتداد الشدّة المطربة ، كما يشهد لذلك ما ادّعاه من الإجماع ، إذ الظاهر أنّ مراده بفقهائنا أعمّ من فقهاء العامّة بقرينة مقابله ، وستسمع (٢) من فخر الدين دعوى أنّ المراد بالاشتداد لدى الجمهور الشدّة المطربة ، فحمل العبارة على إرادة هذا المعنى أولى وأقرب إلى الصدق.

اللهمّ إلّا أن يكون في كلماته ما يشهد بخلافه ، والله العالم.

ومنها : دعوى صدق اسم الخمر عليه حقيقة ، فيعمّه حكمها ، لإطلاق أدلّته.

أمّا صدق الاسم : فلظهور كلمات جماعة من الخاصّة والعامّة في ذلك ، بل عن المهذّب البارع أنّ اسم الخمر حقيقة في عصير العنب إجماعا (٣).

وفي محكيّ الفقيه من رسالة والده : اعلم يا بنيّ أنّ أصل الخمر من الكرم إذا أصابته النار أو غلى من غير أن تمسّه فيصير أعلاه أسفله فهو خمر فلا يحلّ

__________________

(١) كنز العرفان ١ : ٥٣ ، ولم نعثر على الحاكي عنه فيما بين أيدينا من المصادر.

(٢) في ص ٢٠٧.

(٣) حكاه عنه العاملي في مفتاح الكرامة ١ : ١٤٢ ، وانظر : المهذّب البارع ٥ : ٧٩.

١٩٧

شربه حتّى يذهب ثلثاه (١). انتهى.

وربما يستشهد له أيضا بالأخبار الآتية.

وفيه : منع صدق الاسم عليه حقيقة ، بل يصحّ سلبه عنه عرفا ولغة ، لأنّ الخمر إمّا اسم للطبيعة المعهودة المتّخذة من العصير ، المعروفة عند أهلها ، فلا يندرج العصير تحت تلك الطبيعة بمجرّد الغليان ما لم يطرأ عليه الفساد والاختمار ، وإمّا اسم لمطلق الشراب المسكر ، والعصير ليس بمسكر ما لم يطرأ عليه التغيّر والنشيش ، وإلّا لم يجعلوه قسيما للمسكر المائع.

وما يقال ـ من احتمال كونه في الواقع مسكرا ، إذ لم نعثر على من جرّبه وأخبر بأنّه ليس بمسكر ، فلا مقتضي لرفع اليد عن ظاهر الرواية الآتية وغيرها ممّا تقدّمت الإشارة إليه ـ مدفوع : بأنّه لو كان مسكرا لم يكن يبقى على إجماله ، ولعرفه المتعمّدون إلى قصد المسكر ، ولم يكونوا يتكلّفون في تخميره ولا أقلّ من أن يستغنوا به عن الخمر لدى عدم قدرتهم على تحصيلها ، بل كيف يحتمل دوران وصف الإسكار ـ الذي هو تدريجيّ الحصول والارتفاع ـ مدار الغليان وعدم ذهاب الثلثين حدوثا وارتفاعا في جميع المصاديق مع شدّة اختلاف طبائعها من حيث التأثير والتأثّر!؟

ولو فرض حصول هذا الاحتمال بالنسبة إلى جميع المصاديق ، فليس على وجه يوجب الحكم بثبوت المحتمل بمجرّد ظهور لفظ فيه بمقتضى أصالة

__________________

(١) حكاه عنه الوحيد البهبهاني في الحاشية على مدارك الأحكام ٢ : ١٩٣ ـ ١٩٤ ، وانظر : الفقيه ٤ : ٤٠.

١٩٨

الحقيقة ، إذ ليس كلّ احتمال يعتنى به في مباحث الألفاظ.

ألا ترى أنّ قول القائل : «رأيت أسدا في الحمّام» لا يحمل على حقيقته بمجرّد الاحتمال المستبعد في العادة ، فكذا فيما نحن فيه.

هذا ، مع أنّه لا مقتضي للالتزام بذلك ، عدا ما حكي عن ظاهر بعض من كون العصير بعد غليانه خمرا ، كوالد الصدوق في محكيّ الرسالة (١).

وفيه : أنّه إن أريد بذلك بيان مفهوم الخمر عرفا ولغة ، فيتوجّه عليه ما أشرنا إليه من صحّة السلب عنه ما لم يتحقّق له وصف الإسكار.

ولا يصحّ إثبات هذه الصفة لمطلقه بإطلاق هذا الكلام ، لا لمجرّد كونه إخبارا عن موضوع خارجيّ عن حدس واجتهاد من غير أهل خبرته ، بل لمعارضته بظاهر من جعله قسيما للمسكر المائع ، بل صريح بعضهم حيث قسّم الأشربة المحظورة على قسمين : مسكر وغير مسكر ، وجعل العصير من أقسام غير المسكر.

وكيف كان فالظاهر أنّ والد الصدوق ونظراءه لم يقصدوا بمثل هذه العبائر بيان مفهومها العرفي ، بل غرضهم بيان ما تعلّق به الأحكام الشرعيّة من الحرمة ونحوها بحسب اجتهادهم ، فلا يكون حجّة على غير مقلّديهم ، خصوصا مع أنّ والد الصدوق كولده ممّن لا يرى النجاسة من أحكام الخمر.

وأمّا ما حكي عن المهذّب من دعوى الإجماع على كون الخمر حقيقة في

__________________

(١) راجع الهامش (١) من ص ١٩٨.

١٩٩

عصير العنب (١) ، فغرضه على الظاهر بيان كونها موضوعة للطبيعة المعهودة المتّخذة من العنب ، دون سائر المسكرات المائعة ، كالنبيذ والنقيع وغيرهما ، لا أنّ مطلق العصير خمر ولو قبل غليانه ، فإنّه معلوم الفساد.

وأمّا الأخبار التي يستشهد بها للمدّعى : فعمدتها موثّقة معاوية بن عمّار ـ التي هي أقوى مستند القائلين بالنجاسة ـ المرويّة عن التهذيب ، قال : سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن الرجل من أهل المعرفة [بالحقّ] (٢) يأتيني بالبختج ويقول : قد طبخ على الثلث ، وأنا أعلم أنّه يشربه على النصف ، أفأشربه بقوله وهو يشربه على النصف؟ فقال : «هو خمر (٣) لا تشربه» قلت : فرجل من غير أهل المعرفة ممّن لا نعرفه يشربه على الثلث ، ولا (٤) يستحلّه على النصف ، يخبرنا أنّ عنده بختجا قد ذهب ثلثاه وبقي ثلثه يشرب (٥) منه؟ قال : «نعم» (٦).

وتقريب الاستشهاد بها أنّ إبقاء الحمل على حقيقته يقتضي الالتزام بكون العصير قبل ذهاب ثلثيه مسكرا ، لما عرفت من اعتبار وصف الإسكار في مفهوم الخمر عرفا ولغة ، وحيث لم يعلم انتفاؤه في الفرض وجب التعبّد بثبوته إبقاء للرواية على ظاهرها.

__________________

(١) تقدّم تخريج قوله في ص ١٩٧ ، الهامش (٣).

(٢) ما بين المعقوفين من المصدر.

(٣) جملة «هو خمر» لم ترد في الكافي.

(٤) في النسخ الخطّيّة والحجريّة : «فلا» بدل «ولا». والمثبت من المصدر.

(٥) في النسخ الخطّيّة والحجريّة : «نشرب». والمثبت من المصدر.

(٦) الكافي ٦ : ٤٢١ / ٧ ، التهذيب ٩ : ١٢٢ / ٥٢٦ ، الوسائل ، الباب ٧ من أبواب الأشربة المحرّمة ، ح ٤.

٢٠٠