مصباح الفقيه - ج ٧

الشيخ آقا رضا الهمداني

مصباح الفقيه - ج ٧

المؤلف:

الشيخ آقا رضا الهمداني


المحقق: المؤسّسة الجعفريّة لإحياء التراث ـ قم المقدّسة
الموضوع : الفقه
الناشر: منبع
الطبعة: ١
الصفحات: ٣٣٦

لكن ربما يستشعر منها ـ بل وكذا من غيرها من الأخبار التي تقدّم بعضها ـ كون النشيش والغليان ملازما للإسكار.

فمن هنا قد يتوهّم إمكان الجمع بين هذه الأخبار وبين رواية زيد بجعل الغليان معرّفا وطريقا تعبّديّا للمسكريّة التي هي المناط للحرمة.

ويدفعه ـ مضافا إلى ما عرفت في مبحث العصير العنبيّ من وهن احتمال دوران وصف الإسكار حدوثا وارتفاعا مدار الغليان وذهاب الثلثين مطلقا حتّى تنزّل الرواية على الطريقيّة التعبّديّة دون السببيّة ـ أنّ مقتضى إيكال تشخيص الموضوع إلى السائل ـ في جملة من الأخبار الدالّة على انحصار السبب في الإسكار ـ كون الأمر في معرفة كونه مسكرا موكولا إلى العرف لا إلى التعبّد الشرعي.

فالأظهر دوران الحرمة مدار صفة الإسكار ، والرجوع في موارد الشكّ في المسكريّة إلى ما تقتضيه الأصول العمليّة.

لكنّ الإنصاف أنّه لو لا الخدشة في رواية زيد بضعف السند وإعراض المشهور عنها ، لكان رفع اليد عنها بمثل هذه الروايات في غاية الإشكال ، فالحكم بالنظر إليها لا يخلو عن تردّد ، والاحتياط ممّا لا ينبغي تركه.

لكن قد أشرنا إلى أنّ غاية ما يمكن استفادته من تلك الرواية ـ كغيرها من أخبار الحرمة ـ لو سلّمت دلالتها إنّما هو سببيّة غليان ماء الزبيب لحرمته ، فلا يعمّ الزبيب المطبوخ في الطعام الذي لا يؤثّر طبخه في صيرورة مائه حلوا ، فضلا عن

٢٢١

الزبيب المحموص (١) في الدهن ، أو الموضوع على الطعام الذي يطبخ ببخاره ، أو المخلوط بغير المائع ، فإنّه لا ينبغي الاستشكال في حلّيّته في شي‌ء من هذه الصور ، بل وكذا لو اختلط ماء الزبيب بغيره على وجه استهلك فيه ولم يصدق معه غليان ماء الزبيب ، بل وكذلك الحكم في ماء العنب الممزوج بغيره المستهلك فيه.

وعليه ينزّل ما عن مستطرفات السرائر عن كتاب مسائل الرجال عن أبي الحسن عليه‌السلام أنّ محمّد بن [عليّ بن] (٢) عيسى كتب إليه : عندنا طبيخ (٣) يجعل فيه الحصرم ، وربما يجعل فيه العصير من العنب ، وإنّما هو لحم يطبخ به ، وقد روي عنهم في العصير أنّه إذا جعل على النار لم يشرب حتى يذهب ثلثاه ويبقى ثلثه ، وأنّ الذي يجعل في القدر من العصير بتلك المنزلة ، وقد اجتنبوا أكله إلى أن نستأذن مولانا في ذلك ، فكتب «لا بأس بذلك» (٤).

وأمّا العصير التمري فالمعروف أيضا طهارته وحلّيّته ما لم يسكر ، بل يظهر من غير واحد دعوى الإجماع عليه.

ويشهد له ـ مضافا إلى عمومات الحلّ والطهارة ـ جملة من الأخبار الدالّة على إناطة حرمته بالإسكار.

مثل : ما رواه في الكافي بسنده عن محمّد بن جعفر عن أبيه عليه‌السلام ، قال : «قدم على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله قوم من اليمن فسألوه عن معالم دينهم ، فأجابهم ، فخرج

__________________

(١) كذا ، وحبّ محمّص : مقلوّ. مجمع البحرين ٤ : ١٦٦ «حمص».

(٢) ما بين المعقوفين من المصدر.

(٣) في النسخ الخطّيّة والحجريّة : «طبخ». وما أثبتناه من المصدر.

(٤) السرائر ٣ : ٥٨٤ ، الوسائل ، الباب ٤ من أبواب الأشربة المحرّمة ، ح ١.

٢٢٢

القوم بأجمعهم فلمّا ساروا مرحلة ، قال بعضهم لبعض : نسينا أن نسأل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله عمّا هو أهمّ إلينا ، فنزل القوم وبعثوا وفدا لهم ، فأتى الوفد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله فقالوا : يا رسول الله إنّ القوم قد بعثونا إليك يسألونك عن النبيذ ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : وما النبيذ صفوه لي ، فقالوا (١) : يؤخذ التمر فينبذ في إناء ثمّ يصبّ عليه الماء حتّى يمتلئ ثمّ يوقد تحته حتّى ينطبخ ، فإذا انطبخ أخرجوه فألقوه في إناء آخر ثمّ صبّوا عليه ماء ثمّ يمرس ثمّ صفّوه بثوب ثمّ القي في إناء ثمّ صبّ عليه من عكر ما كان قبله ثمّ هدر وغلى ثمّ سكن على عكره ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : يا هذا قد أكثرت أفيسكر؟ قال : نعم ، فقال : كلّ مسكر حرام» قال : «فخرج الوفد حتى انتهوا إلى أصحابهم فأخبروهم بما قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فقال القوم : ارجعوا بنا إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله حتّى نسأله عنه شفاها ولا يكون بيننا وبينه سفير ، فرجع القوم جميعا ، فقالوا : يا رسول الله إنّ أرضنا أرض دويّة ونحن قوم نعمل الزرع ولا نقوى على (٢) العمل إلّا بالنبيذ ، فقال : صفوه لي ، فوصفوه كما وصفه أصحابهم ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : أفيسكر؟ قالوا : نعم ، قال : كلّ مسكر حرام ، وحقّ على الله أن يسقي كلّ شارب مسكر من طينة خبال ، أتدرون ما طينة خبال؟

قالوا : لا ، قال : صديد أهل النار» (٣).

إلى غير ذلك من الأخبار الكثيرة الدالّة عليه ، التي تقدّم جملة منها آنفا.

__________________

(١) في النسخ الخطّيّة والحجريّة : «قال» بدل «فقالوا». وما أثبتناه من المصدر.

(٢) في النسخ الخطّيّة والحجريّة : «ذلك» بدل «على». وما أثبتناه من المصدر.

(٣) الكافي ٦ : ٤١٧ ـ ٤١٨ / ٧ ، بتفاوت في بعض الألفاظ.

٢٢٣

فما حكي عن بعض ـ من القول بإلحاقه بالعصير العنبي (١) ـ ضعيف.

واستدلّ له : بعموم ما دلّ على حرمة كلّ عصير غلى ولم يذهب ثلثاه (٢).

وفيه : ما عرفته فيما سبق.

واستدلّ له أيضا : ببعض الأخبار المجملة القاصرة عن إفادة المدّعى ، كما لا يخفى على من تأمّل فيها ، فضلا عن صلاحيّتها لمعارضة ما عرفت وترجيحها عليه ، فلا يهمّنا الإطالة في إيرادها ، وإنّما تعرّضنا لحكم العصير من حيث الحلّيّة والحرمة مع خروجه ممّا يقتضيه المقام تبعا لغير واحد من الأعلام ، لكون المسألة من المهمّات ، والله العالم بحقائق أحكامه.

__________________

(١) حكاه البحراني في الحدائق الناضرة ٥ : ١٤١ عن شيخه أبي الحسن الشيخ سليمان بن عبد الله البحراني ، وظاهر المحدّث الشيخ محمّد بن الحسن الحرّ العاملي ، وانظر : الوسائل ، عنوان الباب ٢٤ من أبواب الأشربة المحرّمة.

(٢) الكافي ٦ : ٤١٩ (باب العصير الذي قد مسّته النار) ح ١ ، التهذيب ٩ : ١٢٠ / ٥١٦ ، الوسائل ، الباب ٢ من أبواب الأشربة المحرّمة ، ح ١.

٢٢٤

(التاسع) من النجاسات : (الفقّاع) إجماعا ، كما عن جماعة نقله ، لكنّ الظاهر إرادتهم بذلك عدم الخلاف فيه بين القائلين بنجاسة الخمر ، لا مطلقا.

ويدلّ عليه ـ مضافا إلى عدم القول بالفصل على الظاهر بينه وبين الخمر ـ الأخبار المستفيضة بل المتواترة التي حكم فيها بكونه خمرا.

مثل : ما رواه الكليني بسنده عن الوشّاء ، قال : كتبت إليه ـ يعني الرضا عليه‌السلام ـ أسأله عن الفقّاع ، قال : فكتب «حرام ، وهو خمر» (١) الحديث.

وما رواه عن ابن فضّال ، قال : كتبت إلى أبي الحسن عليه‌السلام أسأله عن الفقّاع ، فقال : «هو الخمر ، وفيه حدّ شارب الخمر» (٢).

وعن عمّار بن موسى ، قال : سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن الفقّاع ، فقال : «هو خمر» (٣).

__________________

(١) الكافي ٦ : ٤٢٣ / ٩ ، وعنه في الوسائل ، الباب ٢٨ من أبواب الأشربة المحرّمة ، ح ١.

(٢) الكافي ٦ : ٤٢٤ / ١٥ ، وعنه في الوسائل ، الباب ٢٧ من أبواب الأشربة المحرّمة ، ح ٢.

(٣) الكافي ٦ : ٤٢٢ / ٢ ، و ٤٢٤ / ١٣ ، التهذيب ٩ : ١٢٤ / ٥٣٥ ، الإستبصار ٤ : ٩٤ ـ ٩٥ / ٣٦٤ ، الوسائل ، الباب ٢٧ من أبواب الأشربة المحرّمة ، ح ٤.

٢٢٥

وعن حسين القلانسي ، قال : كتبت إلى أبي الحسن الماضي عليه‌السلام أسأله عن الفقّاع ، فقال : «لا تقربه فإنّه من الخمر» (١).

وعن محمّد بن سنان (عن أبي الحسن الرضا عليه‌السلام نحوه. وعنه أيضا) (٢) قال : سألت أبا الحسن الرضا عليه‌السلام عن الفقّاع ، فقال : «هي الخمر بعينها» (٣).

وعن الحسن بن جهم وابن فضّال جميعا قالا : سألنا أبا الحسن عليه‌السلام عن الفقّاع ، فقال : «هو خمر مجهول ، وفيه حدّ شارب الخمر» (٤).

إلى غير ذلك من الأخبار التي في بعضها : «هي خمرة استصغرها الناس» (٥) وفي بعضها : «هو خمر مجهول» (٦) وفي بعضها إطلاق لفظ «الخميرة» (٧) عليه.

والذي يظهر من هذه الأخبار كونه فردا حقيقيّا للخمر ، لكن من أفرادها الخفيّة التي لم تكن يعرفها الناس ، فيثبت له أحكامها التي منها النجاسة.

ولو أريد بها الحمل المجازيّ ، فظاهرها إرادة التشبيه التامّ ، أو التنزيل

__________________

(١) الكافي ٦ : ٤٢٢ ـ ٤٢٣ / ٣ ، التهذيب ٩ : ١٢٥ / ٥٤٣ ، الإستبصار ٤ : ٩٦ / ٣٧٢ ، الوسائل ، الباب ٢٧ من أبواب الأشربة المحرّمة ، ح ٦.

(٢) الظاهر زيادة ما بين القوسين حيث لم نعثر على نحو تلك الرواية له غير الرواية الأخيرة.

(٣) الكافي ٦ : ٤٢٣ / ٤ ، التهذيب ٩ : ١٢٥ / ٥٤٢ ، الوسائل ، الباب ٢٧ من أبواب الأشربة المحرّمة ، ح ٧.

(٤) الكافي ٦ : ٤٢٣ / ٨ ، التهذيب ٩ : ١٢٥ / ٥٤١ ، الإستبصار ٤ : ٩٥ / ٣٧٠ ، الوسائل ، الباب ٢٧ من أبواب الأشربة المحرّمة ، ح ١١.

(٥) الكافي ٦ : ٤٢٣ / ٩ ، التهذيب ٩ : ١٢٥ / ٥٤٠ ، الإستبصار ٤ : ٩٥ / ٣٦٩ ، الوسائل ، الباب ٢٨ من أبواب الأشربة المحرّمة ، ح ١ ، وفيما عدا الوسائل : «خميرة» بدل «خمرة».

(٦) الكافي ٣ : ٤٠٧ / ١٥ ، و ٦ : ٤٢٣ / ٧ ، التهذيب ٩ : ١٢٥ ـ ١٢٦ / ٥٤٤ ، الإستبصار ٤ : ٩٦ / ٣٧٣ ، الوسائل ، الباب ٢٧ من أبواب الأشربة المحرّمة ، ح ٨.

(٧) الكافي ٦ : ٤٢٣ / ٦ ، وفيه : «الخمرة» ، الوسائل ، الباب ٢٧ من أبواب الأشربة المحرّمة ، ح ٩.

٢٢٦

الموضوعي بإدراجه في موضوع الخمر تعبّدا بلحاظ أحكامه الشرعيّة على سبيل الإجماع ، المقتضي لثبوت جميع أحكامه ظاهرة كانت أم خفيّة ، كما لا يخفى على المتأمّل فيها.

ويشهد له أيضا خبر أبي جميلة البصري ، قال : كنت مع يونس ببغداد وأنا أمشي في السوق ، ففتح صاحب الفقّاع فقّاعه فقفز (١) فأصاب ثوب يونس ، فرأيته قد اغتمّ لذلك حتّى زالت الشمس ، فقلت له : يا أبا محمّد إلا تصلّي؟ فقال : ليس أريد أن أصلّي حتّى أرجع إلى البيت فأغسل هذا الخمر من ثوبي ، فقلت : هذا رأي رأيته أو شي‌ء ترويه؟ فقال : أخبرني هشام بن الحكم أنّه سأل الصادق عليه‌السلام عن الفقّاع ، فقال : «لا تشربه فإنّه خمر مجهول ، فإذا (٢) أصاب ثوبك فاغسله» (٣).

وضعف سنده مجبور بما عرفت.

وكيف كان فلا إشكال في الحكم ، بناء على نجاسة الخمر ، كما هو الظاهر.

وإنّما الإشكال في تشخيص موضوعه ، فقد اختلفت كلمات الأصحاب فيه.

__________________

(١) قفز ، أي : وثب. الصحاح ٣ : ٨٩١ «قفز».

(٢) حكي عن المحقّق الشيخ حسن في حاشية له ـ في المعالم ـ على الحديث ـ بعد نقله كما في المتن بلفظ الفاء ـ أنّه قال : في التهذيب ذكر الحديث كما هنا في بحث النجاسات ، وفي الأشربة : «وإذا أصاب ثوبك». وهو أقرب ، لاحتمال الفاء كون ما عقّب من كلام يونس قاله لصاحبه ، لا من حديث هشام ، تأمّل. انتهى ، وهو جيّد. (منه رحمه‌الله).

ولم نعثر على الحاشية في نسختنا الحجريّة من المعالم ولا في الطبعة المحقّقة منها ، فلاحظ.

(٣) الكافي ٣ : ٤٠٧ / ١٥ ، و ٦ : ٤٢٣ / ٧ ، التهذيب ١ : ٢٨٢ / ٨٢٨ ، و ٩ : ١٢٥ ـ ١٢٦ / ٥٤٤ ، الاستبصار ٤ : ٩٦ / ٣٧٣ ، الوافي ٦ : ٢١٦ ـ ٢١٧ / ٤١٤٤ ـ ٥.

٢٢٧

فربّما يظهر من غير واحد منهم كونه اسما لشراب كان يتّخذ من ماء الشعير فقط.

قال في مجمع البحرين : الفقّاع كرمّان : شي‌ء يشرب يتّخذ من ماء الشعير فقط ، وليس بمسكر ، ولكن ورد النهي عنه (١). انتهى.

وعن المدنيّات : أنّه شراب معمول من الشعير (٢).

وعن السيّد المرتضى رحمه‌الله أنّه نقل عن أبي هاشم الواسطي أنّ الفقّاع نبيذ الشعير ، فإذا نشّ فهو خمر (٣).

ويظهر من جملة منهم عدم الاختصاص بكونه من الشعير.

فعن السيّد في الانتصار والرازيّات أنّه كان يعمل منه ومن القمح (٤).

وربّما يستشعر من هذه العبارة أنّه اسم لقسم معهود من الشراب ، وأنّ اتّخاذه من الشعير أو الحنطة لحصوله بهما من غير أن يكون لخصوصيّتهما دخل في التسمية ، كما أنّه يفهم هذا المعنى من عبارة غيره أيضا.

مثل ما عن الشهيد أنّه قال : كان قديما يتّخذ من الشعير غالبا ، ويوضع (٥) حتّى يحصل له نشيش ، وكأنّه الآن يتّخذ من الزبيب (٦).

__________________

(١) مجمع البحرين ٤ : ٣٧٦ «فقع».

(٢) حكاه عنها صاحب كشف اللثام فيه ١ : ٣٩٨.

(٣) كما في كتاب الطهارة ـ للشيخ الأنصاري ـ : ٣٦٧ ، وانظر : الانتصار : ١٩٩.

(٤) حكاه عنه صاحب كشف اللثام فيه ١ : ٣٩٨ ، وانظر : الانتصار : ١٩٨ ، والمسائل الرازيّة (ضمن رسائل الشريف المرتضى) ١ : ١٠١.

(٥) في المصدر : «ويصنع» بدل «ويوضع».

(٦) حكاه عنه صاحب كشف اللثام فيه ١ : ٣٩٨ ، وانظر : مسائل الفاضل المقداد وأجوبة الشهيد (ضمن نشرة تراثنا ، العددان الثاني والثالث ، السنة الثانية) : ٣٧٢ ، المسألة التاسعة.

٢٢٨

وعن الشهيد الثاني في الروض أنّه قال : الأصل في الفقّاع أن يتّخذ من ماء الشعير ، كما ذكره في الانتصار ، لكن لمّا ورد النهي معلّقا على التسمية ثبت له ذلك ، سواء عمل منه أم من غيره إذا حصل فيه خاصّته ، وهو النشيش (١).

وقال في الروضة : والأصل فيه أن يتّخذ من ماء الشعير ، لكن لمّا ورد الحكم فيه معلّقا على التسمية ثبت لما أطلق عليه اسمه مع حصول خاصّته أو اشتباه حاله (٢). انتهى.

وهذا مبنيّ على كونه من أصله موضوعا للقدر المشترك بينه وبين جميع ما يشاركه في وصف النشيش ـ الذي عبّر عنه بالخاصّة ـ ممّا أطلق عليه الاسم ، بمعنى أنّه اسم لكلّ ما يطلق عليه الفقّاع في العرف بشرط أن يكون له صفة النشيش ، وإلّا فالإطلاق مبنيّ على المسامحة والتجوّز ، فعند اشتباه حال الفرد الذي أطلق عليه الاسم حكم بكونه مصداقا حقيقيّا له بمقتضى أصالة الحقيقة.

وإلى هذا المعني أشار في القاموس حيث قال : الفقّاع كرمّان : هذا الذي يشرب ، سمي بذلك ، لما يرتفع في رأسه من الزبد (٣). انتهى.

ولكن إثبات كونه من أصله اسما للأعمّ ولو بعد تسليم كونه عرفا كذلك لا يخلو عن إشكال ، فإنّه وإن اقتضت أصالة عدم الاشتراك والنقل كونه كذلك ، وعدم الالتفات إلى تفسير من فسّره بنبيذ الشعير ، الظاهر في الاختصاص بعد

__________________

(١) حكاه عنه الشيخ الأنصاري في كتاب الطهارة : ٣٦٧ ، وانظر : روض الجنان : ١٦٤.

(٢) الروضة البهيّة ١ : ٢٨٧.

(٣) القاموس المحيط ٣ : ٦٤.

٢٢٩

معارضته بقول من فسّره بالأعمّ ومساعدة العرف عليه ، لكن من المعلوم أنّ إطلاقه على مصاديقه ليس بلحاظ معناه الوصفي ، وإلّا لم يكن محتاجا إلى مراجعة العرف في تشخيص المسمّى ، بل بلحاظ معناه الاسمي.

والذي يظهر من كلماتهم كون المتعارف في القديم اتّخاذه من الشعير ، فمن المستبعد صيرورة اللفظ حقيقة في الأعمّ منه وممّا يشاركه في الخواصّ من جنس المشروبات وإن لم يكن متعارفا نوعه.

فمن هنا قد يغلب على الظنّ صحّة ما سمعته (١) من أبي هاشم وغيره من تفسيره بنبيذ الشعير.

ولا يعارضه تفسير من تأخّر عنه بما هو أعمّ من ذلك ، لاحتمال تجدّد النقل ، وأصالة عدم النقل لا تصلح دليلا لطرح قول من صرّح بكونه اسما للمعنى الخاصّ.

ثمّ لو سلّم كونه حقيقة في الأعمّ ، فهو غير مجد في حمل الأخبار الناهية عنه عليه بعد فرض كون الغالب المتعارف فيه هو خصوص المتّخذ من الشعير ، كما هو مقتضى كلماتهم ، فإنّ إطلاقات الأخبار تنصرف إلى أفراده الشائعة المتعارفة.

وكيف كان فالحكم في غير المتّخذ من الشعير محلّ تردّد.

ثمّ إنّ مقتضى إطلاق الفتاوى وأغلب النصوص : حرمة الفقّاع ونجاسته مطلقا ، سواء حصل له النشيش والغليان أم لا ، فالمدار على تحقّق الاسم.

لكن حكي عن ابن الجنيد أنّه قال : إنّ تحريمه من جهة نشيشه ومن

__________________

(١) في ص ٢٢٨.

٢٣٠

ضراوة (١) إنائه إذا كرّر فيه العمل (٢).

وظاهره انتفاء الحرمة عند انتفاء النشيش والغليان ، سواء صدق عليه اسم الفقّاع أم لا ، ولذا عدّه جملة من الأصحاب مخالفا للمشهور (٣).

لكن يظهر من غير واحد منهم ـ كالشهيدين وأبي هاشم في عبائرهم المتقدّمة (٤) ، وكذا من غيرهم أيضا ـ اعتبار النشيش والغليان في تحقّق مفهومه ، فلا يكون الفقّاع فقّاعا حقيقة إلّا إذا نشّ وارتفع في رأسه الزيد ، وإطلاق الفقّاع عليه قبل أن يصير كذلك تجوّز ، فحكم الأصحاب بحرمته على الإطلاق لعلّه بهذه الملاحظة ، وإلّا فالأقوى ما ذهب إليه ابن الجنيد ، كما صرّح به في الحدائق (٥) وغيره.

لصحيحة ابن أبي عمير عن مرازم قال : كان يعمل لأبي الحسن عليه‌السلام الفقّاع في منزله ، قال ابن أبي عمير : ولم يعمل فقّاع يغلي (٦).

ورواية عثمان بن عيسى ، قال : كتب عبد الله (٧) بن محمّد الرازي إلى أبي جعفر الثاني عليه‌السلام : إن رأيت أن تفسّر لي الفقّاع ، فإنّه قد اشتبه علينا أمكروه هو

__________________

(١) الإناء الضاري : هو الذي ضرّي بالخمر وعوّد بها فإذا وضع فيها الخمر صار مسكرا. النهاية ـ لابن الأثير ـ ٣ : ٨٧ «ضرا».

(٢) حكاه عنه المحقّق في المعتبر ١ : ٤٢٥.

(٣) انظر : الحدائق الناضرة ٥ : ١٢٠.

(٤) في ص ٢٢٨ و ٢٢٩.

(٥) الحدائق الناضرة ٥ : ١٢٠.

(٦) التهذيب ٩ : ١٢٦ / ٥٤٥ ، الإستبصار ٤ : ٩٦ / ٣٧٤ ، الوسائل ، الباب ٣٩ من أبواب الأشربة المحرّمة ، ح ١.

(٧) في التهذيب : «عبيد الله».

٢٣١

بعد غليانه أم قبله؟ فكتب «لا تقرب الفقّاع إلّا ما لم تضر آنيته أو كان جديدا» فأعاد الكتاب إليه أنّي كتبت أسأل عن الفقّاع ما لم يغل ، فأتاني أن اشربه ما كان في إناء جديد أو غير ضار. ولم أعرف حدّ الضراوة والجديد ، وسأل أن يفسّر ذلك له ، وهل يجوز شرب ما يعمل في الغضارة والزجاج والخشب ونحوه من الأواني؟

فكتب «يجعل (١) الفقّاع في الزجاج وفي الفخار الجديد إلى قدر ثلاث عملات ثمّ لا يعد منه بعد ثلاث عملات إلّا في إناء جديد ، والخشب مثل ذلك» (٢).

ويؤيّده صحيحة عليّ بن يقطين عن أبي الحسن الماضي عليه‌السلام ، قال : سألته عن شرب الفقّاع الذي يعمل في السوق ويباع ولا أدري كيف عمل ولا متى عمل أيحلّ أن أشربه؟ قال : «لا أحبّه» (٣) فإنّ ظاهر قوله : «ولا متى عمل» : أنّ الحرام منه ما يبقى حتّى يحصل له النشيش.

ثمّ إنّ ظاهر الأصحاب حيث جعلوا الفقّاع قسيما للخمر وغيرها من المسكرات : عدم اعتبار الإسكار فيه ، بل سمعت (٤) من مجمع البحرين ـ كما صرّح به غيره (٥) أيضا ـ أنّه شراب غير مسكر.

لكن يفهم من الأخبار أنّ حرمته حرمة خمريّة ، فيستشعر منها أنّه من

__________________

(١) في المصدر : «يفعل» بدل «يجعل».

(٢) التهذيب ٩ : ١٢٦ / ٥٤٦ ، الإستبصار ٤ : ٩٦ ـ ٩٧ / ٣٧٥ ، الوسائل ، الباب ٣٩ من أبواب الأشربة المحرّمة ، ح ٢.

(٣) التهذيب ٩ : ١٢٦ ـ ١٢٧ / ٥٤٧ ، الإستبصار ٤ : ٩٧ / ٣٧٦ ، الوسائل ، الباب ٣٩ من أبواب الأشربة المحرّمة ، ح ٣.

(٤) في ص ٢٢٨.

(٥) كالشيخ جعفر النجفي في كشف الغطاء : ١٧٢.

٢٣٢

الأشربة المسكرة.

كما يؤيّده ما حكي عن زيد بن أسلم أنّه قال : الغبيراء التي نهى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله عنها هي الأسكركة خمر الحبشة (١). انتهى.

وقد فسّر الأسكركة بالفقّاع ، فلا يبعد أن يكون له مرتبة خفيّة من الإسكار لا توجب زوال العقل ، فلعلّه لذا سمّي في الأخبار بالخمر المجهول (٢) حيث لم يعرف مسكريّته.

وكيف كان فالظاهر أنّ ماء الشعير الذي يستعمله الأطبّاء ليس منه ، كما استظهره غير واحد ، والله العالم.

__________________

(١) الموطّأ ٢ : ٨٤٥ ، ذيل ح ١٠ ، وحكاه أيضا السيّد المرتضى في الانتصار : ١٩٩.

ولا يخفى أنّ قوله : «خمر الحبشة» من كلام أبي موسى ، كما في الانتصار ، وكذا في الاستذكار ـ لابن عبد البر ـ ٢٤ : ٢٩٦ / ٣٦٤٢٧.

(٢) الكافي ٣ : ٤٠٧ / ١٥ ، و ٦ : ٤٢٣ / ٧ و ٨ ، التهذيب ١ : ٢٨٢ / ٨٢٨ ، و ٩ : ١٢٥ ـ ١٢٦ / ٥٤٤ ، الاستبصار ٤ : ٩٦ / ٣٧٣ ، الوسائل ، الباب ٢٧ من أبواب الأشربة المحرّمة ، ح ٨ و ١١.

٢٣٣
٢٣٤

(العاشر : الكافر) بجميع أصنافه على المشهور ، بل لم يعرف الخلاف في غير الكتابي منه من أحد ، وقد استفيض بل تواتر نقل الإجماع عليه.

وأمّا الكتابي : فعن جماعة أيضا دعوى الإجماع على نجاسته.

لكن حكي عن ابن الجنيد وظاهر العماني ونهاية الشيخ القول بطهارته (١) ، وتبعهم جماعة من متأخّري المتأخّرين.

واستدلّ للنجاسة مطلقا : بقوله تعالى (إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ) (٢) بناء على شمول المشرك لجميع أصناف الكفّار ، كما ادّعاه بعض (٣) من أنّه يطلق على كلّ كافر من عابد صنم ويهوديّ ونصرانيّ ومجوسيّ وزنديق وغيرهم.

__________________

(١) النهاية : ٥٨٩ ـ ٥٩٠ ، وانظر : مختلف الشيعة ٨ : ٣١٦ ، ضمن المسألة ٢٨ من كتاب الصيد وتوابعه ، ومدارك الأحكام ٢ : ٢٩٥.

(٢) التوبة ٩ : ٢٨.

(٣) هو النووي في التحرير على ما حكاه الشيخ الأنصاري في كتاب الطهارة : ٣٤٨ نقلا عن شارح الروضة.

٢٣٥

والمناقشة فيه : بمنع الإطلاق على سبيل الحقيقة غير ضائر بالنسبة إلى غير أهل الكتاب ، لعدم القول بالفصل.

وأمّا أهل الكتاب : فالمجوس ـ بناء على كونهم من الكتابي على ما قيل (١) ـ قائلون بإلهيّة يزدان والنور والظلمة ، فهم من أظهر أصناف المشرك.

وأمّا اليهود والنصارى : فيدلّ على كونهم من المشركين : قوله تبارك وتعالى (وَقالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللهِ وَقالَتِ النَّصارى الْمَسِيحُ ابْنُ اللهِ) ـ إلى قوله تعالى ـ (سُبْحانَهُ عَمّا يُشْرِكُونَ) (٢).

وما يقال ـ من أنّ النجس مصدر ، فلا يصحّ وصف الجثّة به إلّا مع تقدير كلمة «ذو» ونحوها ، فلا تدلّ على المدّعى ، لجواز أن تكون نسبتهم إلى النجس عدم انفكاك ظاهر جسدهم من النجاسات العرضيّة ، لأنّهم لا يتطهّرون ولا يغتسلون ـ ففيه : أنّ حمله على المبالغة ـ كـ «زيد عدل» ـ أولى وأظهر.

ويتوجّه على الاستدلال : منع كون النجس في زمان صدور الآية حقيقة في المعنى المصطلح ، بل المتبادر من حمل النجس على المشركين ـ كحمل الرجس على الميسر والأنصاب والأزلام في قوله تعالى (إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصابُ وَالْأَزْلامُ رِجْسٌ) (٣) ـ معناه اللغوي الذي هو أعمّ من المعنى المصطلح.

والعجب من صاحب الحدائق حيث حاول إثبات إرادة المعنى الأخصّ من

__________________

(١) انظر : تذكرة الفقهاء ٩ : ٢٧٦ ، المسألة ١٦١ ، والروضة البهيّة ٥ : ٢٢٨.

(٢) التوبة ٩ : ٣٠ و ٣١.

(٣) المائدة ٥ : ٩٠.

٢٣٦

الآية بكون النجس في عرف الأئمّة عليهم‌السلام حقيقة في المعنى الأخصّ ، كما لا يخفى على المتتبّع ، ودفع احتمال تأخّر ثبوت الحقيقة العرفيّة الخاصّة بقوله : إنّ عرفهم في الأحكام الشرعيّة وفتاويهم وأمرهم ونهيهم في ذلك راجع في الحقيقة إليه صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فإنّهم نقلة عنه وحفظة لشريعته وتراجمة لوحيه ، كما استفاضت به أخبارهم (١). انتهى.

وفيه ما لا يخفى من عدم ارتباط كونهم حفظة للشريعة وتراجمة للوحي بالمدّعى.

نعم ، ربّما يظنّ من صيرورة اللفظ حقيقة لدى المتشرّعة في معنى كون هذا المعنى هو المراد بهذه الكلمة في استعمالات الشارع ، وأنّ صيرورتها حقيقة فيه نشأ من ذلك.

لكن لا يعتنى بمثل هذه الظنون ما لم تتحقّق.

وقد يجاب عن المناقشة :

أوّلا : بتسليم كون النجس مستعملا في معناه العرفي ، وهو القذارة ، لكنّ القذارة التي يراها الشارع قذارة هي القذارات التي أمر بالتجنّب عنها ، أي النجاسات ، دون الأجسام الطاهرة شرعا.

وثانيا : بأنّ تفريع حرمة قربهم من المسجد الحرام قرينة على إرادة القذارة الخاصّة الموجبة لحرمة الدخول في المسجد ، وهي النجاسة الشرعيّة ، إذ لا يجب تجنّب المساجد عن غير النجس الشرعي إجماعا.

__________________

(١) الحدائق الناضرة ٥ : ١٦٥ ـ ١٦٦.

٢٣٧

وفيه : أنّ غاية ما يمكن ادّعاؤه كون كلّ ما أوجب الشارع التجنّب عنه قذرا عنده ، لا انحصار القذر لديه فيما أوجب التجنّب عنه ، كيف! وبعض الأشياء يستحبّ التنزّه عنه ، فهو قذر لدى الشارع ، لكن لم يوجب الاجتناب عنه وعن ملاقيه إمّا لقصور المقتضي عن سببيّته للإيجاب ، أو لوجود المانع.

وأمّا ما ذكروه من أن التفريع قرينة على إرادة النجس الشرعي ، للإجماع على عدم وجوب تجنّب المساجد عن غير النجس الشرعيّ ففيه :

أوّلا : النقض بالقذارات المعنويّة الحاصلة بالجنابة والحيض ونحوهما ، فإنّ إطلاق النجس عليها ـ كإطلاق القذر والرجز والرجس ـ بلحاظ معناه اللغوي غير مستنكر ، بل شائع ، فلا مانع من أن يكون المراد بالنجس في الآية الخباثة الباطنيّة والقذارة المعنويّة الحاصلة بالشرك الذي هو أشدّ قذارة من الأحداث المانعة من دخول المساجد.

وثانيا : أنّ ما ادّعوه من الإجماع مرجعه إلى دعوى الإجماع على انحصار سبب منع المشركين من دخول المسجد الحرام في نجاستهم الظاهريّة ، وهي ممنوعة على مدّعيها أشدّ المنع ، بل المشركون يحرم دخولهم في المسجد الحرام وإن لم نقل بنجاستهم بنصّ الكتاب وإجماع المسلمين ، بل الضرورة من الدين ، المستكشفة من استقرار سيرة العامّة والخاصّة على منعهم من دخول المسجد الحرام ، بل وكذا غيره من المساجد والمناسك المخصوصة بالمسلمين من المشاهد المشرّفة وما يتعلّق بها ، لا لأجل نجاستهم من حيث هي ، بل لكفرهم الذي هو قذارة باطنيّة ونجاسة معنويّة موجبة لهتك حرمة المسجد ونحوه.

٢٣٨

كيف! ولو كان المانع منحصرا في نجاستهم الظاهريّة من حيث هي ، لاتّجه اختصاص المنع بما إذا كانت مسرية ، لما ستعرف من أنّ الأظهر جواز إدخال النجاسة الغير المتعدّية ، مع أنّه لا يظنّ بأحد أن يلتزم بذلك ، فليتأمّل.

ثمّ لو سلّمنا دلالة الآية على النجاسة المصطلحة ، فهي أخصّ من المدّعى ، لعدم شمول المشركين لأغلب أصناف الكفّار من أهل الكتاب والمرتدّين والمنتحلين للإسلام.

وما قيل ـ من إطلاق المشرك على كلّ كافر ـ ففيه : أنّه مبنيّ على التجوّز.

وأمّا نسبة الإشراك إلى أهل الكتاب ببعض الاعتبارات ـ كما في الكتاب (١) العزيز ـ فلا تصحّح إرادتهم من إطلاق المشرك الذي لا يتبادر منه إلّا إرادة الثنويّ والوثنيّ ونحوهم ، لا مطلق من صحّ توصيفه بالإشراك ببعض الاعتبارات ، وإلّا فصدق المشرك على المرائي أوضح من صدقه على اليهود بواسطة قولهم (عُزَيْرٌ ابْنُ اللهِ) (٢) وقد أطلق عليه المشرك في جملة من الأخبار ، مع أنّه لا يعمّه الإطلاق قطعا.

هذا ، مع أنّ المتبادر من الآية ـ بشهادة سياقها ـ إرادة مشركي أهل مكّة التي أنزلت البراءة من الله ورسوله منهم ، ومنعوا من قرب المسجد الحرام ، فلا يجوز التعدّي عنهم إلّا بتنقيح المناط ، أو عدم القول بالفصل ، ولا يتمّ شي‌ء منهما بالنسبة إلى أهل الكتاب.

__________________

(١) التوبة ٩ : ٣١.

(٢) التوبة ٩ : ٣٠.

٢٣٩

واستدلّ أيضا : بالأخبار الآتية الدالّة على نجاسة أهل الكتاب ، فإنّها تدلّ على نجاسة سائر أصناف الكفّار بالأولويّة القطعيّة.

وفيه : منع الأولويّة بالنسبة إلى المنتحلين للإسلام ، المحكوم بكفرهم ، وكذا بالنسبة إلى بعض أصناف المرتدّين.

واستدلّ لنجاسة أهل الكتاب ـ مضافا إلى ما عن صريح السيّد وظاهر غيره من دعوى الإجماع عليها (١) ، المعتضدة بالشهرة المحقّقة ، وشذوذ المخالف ، بل بمعروفيّة الحكم بالنجاسة لدى الخاصّة على وجه صار شعارا لهم يعرفه منهم علماء العامّة وعوامّهم ونساؤهم وصبيانهم بل وأهل الكتاب فضلا عن الخاصّة ـ بموثّقة سعيد الأعرج أنّه سأل أبا عبد الله عليه‌السلام عن سؤر اليهودي والنصراني أيؤكل أو يشرب؟ قال : «لا» (٢).

وصحيحة محمّد بن مسلم عن أحدهما عليهما‌السلام ، قال : سألته عن رجل صافح مجوسيّا ، قال : «يغسل يده ولا يتوضّأ» (٣).

ورواية أبي بصير عن أبي جعفر عليه‌السلام في مصافحة المسلم لليهوديّ والنصرانيّ ، قال : «من وراء الثياب ، فإن صافحك بيده فاغسل يدك» (٤).

__________________

(١) الحاكي هو صاحب الجواهر فيها ٦ : ٤١ ، وانظر : الانتصار : ١٠ ، وتذكرة الفقهاء ١ : ٦٧ ، المسألة ٢٢.

(٢) الفقيه ٣ : ٢١٩ / ١٠١٤ ، الوسائل ، الباب ٥٤ من أبواب الأطعمة المحرّمة ، ح ١.

(٣) الكافي ٢ : ٦٥٠ / ١٢ ، وفيه عن أبي جعفر عليه‌السلام ، التهذيب ١ : ٢٦٣ / ٧٦٥ ، الوسائل ، الباب ١١ من أبواب نواقض الوضوء ، ح ٢.

(٤) الكافي ٢ : ٦٥٠ / ١٠ ، وفيه عن أحدهما عليهما‌السلام ، التهذيب ١ : ٢٦٢ ـ ٢٦٣ / ٧٦٤ ، الوسائل ، الباب ١٤ من أبواب النجاسات ، ح ٥.

٢٤٠