مصباح الفقيه - ج ٧

الشيخ آقا رضا الهمداني

مصباح الفقيه - ج ٧

المؤلف:

الشيخ آقا رضا الهمداني


المحقق: المؤسّسة الجعفريّة لإحياء التراث ـ قم المقدّسة
الموضوع : الفقه
الناشر: منبع
الطبعة: ١
الصفحات: ٣٣٦

وفيه : بعد الغضّ عمّا عرفت أنّ الدليل أخصّ من المدّعى من وجوه :

أمّا أوّلا : فلأنّ إطلاق السؤال والجواب منزّل على إرادة الأفراد المتعارفة ، والذي كنّا نشاهد في طبخ العصير وإعماله دبسا وغيره إبقاءه مدّة كان يتغيّر في تلك المدّة ، ويقذف بالزبد ، فلعلّ كونه كذلك منشأ لحدوث وصف الإسكار فيه ، فلا يلزم من الحكم بخمريّته أن يكون مطلق العصير كذلك حتّى فيما لو طبخ بعد عصره بلا فاصلة ، بخلاف المتعارف ، فضلا عن أن يغلي حبّات العنب في القدر من غير أن تعصر.

وثانيا : فلأنّ غاية ما يفهم من الرواية كون العصير المطبوخ على النصف خمرا ، فلعلّ وصف الإسكار يحدث له بعد صيرورته كذلك ، فلا مقتضي للالتزام بكونه بمجرّد الغليان كذلك حتّى يثبت به المدّعى.

وثالثا : أنّ البختج بحسب الظاهر قسم خاصّ من العصير المطبوخ ، وقد حكي عن النهاية الأثيريّة ، أنّه فارسيّ معرّب ، وأصله بالفارسيّة «مى پخته» (١) فهي عبارة أخرى عن الخمر المطبوخة ، ومن البعيد إطلاق هذا الاسم على الدبس ، فإنّ للعصير المطبوخ أنحاء مختلفة منها الدبس ، ومنها ما نسمّيه في بلدنا بـ «الرب» ولعلّ هذا هو الذي كان يسمّى بالبختج.

وكيفيّة طبخه أن يبقى العصير أيّاما عديدة إلى أن يتغيّر تغيّرا فاحشا إلى أن يبلغ حدّه المعروف عند أهله ، ثمّ يطبخونه فيصير هو في حدّ ذاته حلوا حامضا ـ كالسكنجبين ـ من غير أن يوضع فيه الخلّ ، فيحتمل قويّا أن يكون هذا القسم من

__________________

(١) النهاية ـ لابن الأثير ـ ١ : ١٠١.

٢٠١

العصير قبل استكمال طبخه خمرا حقيقيّة ، وأن تكون الحموضة الحاصلة فيه ناشئة من انقلاب ما فيه من الطبيعة الخمريّة.

والحاصل : أنّ للعصير المطبوخ أنحاء مختلفة.

ويحتمل قويّا أن يكون بعض أصنافه مسبوقا بالمسكريّة دون بعض ، ولم يثبت أنّ البختج اسم لمطلقه حتّى يمكن الاستشهاد بالرواية ـ بواسطة ترك الاستفصال ـ لإثبات العموم.

وما عن بعض من تفسيره بالعصير المطبوخ (١) بحسب الظاهر تفسير بالأعمّ ، ولا نلتزم بحجّيّة ظواهر قول اللغويّين من باب التعبّد ما لم يحصل الوثوق بصدقه حتّى يكون إطلاقه حجّة علينا.

وملخّص الكلام أنّ غاية ما يمكن إثباته بهذه الرواية أنّ العصير المطبوخ ـ الذي كان يسمّى بختجا إذا طبخ على النصف ولم يذهب ثلثاه ـ هو خمر فهو نجس ، ولا ملازمة بينه وبين كون سائر أفراد العصير أيضا كذلك.

ودعوى عدم القول بالفصل بينه وبين سائر الأفراد فاسدة بعد فرض جواز كون المفروض في مورد الرواية خمرا حقيقيّة ، لأنّ القول بالتفصيل بين الخمر وغيرها محقّق ، فلا مقتضي لرفع اليد عمّا تقتضيه الأصول والقواعد بالنسبة إلى سائر الأفراد التي لم يثبت كونها خمرا وإن احتمل فيها ذلك ، كما ادّعاه المستدلّ.

نعم ، لو التزمنا بكون الحمل في الرواية مجازيّا ، وأريد به التشبيه التامّ ،

__________________

(١) النهاية ـ لابن الأثير ـ ١ : ١٠١.

٢٠٢

أمكن الاستدلال بها للمدّعى ، بدعوى : أنّ مقتضى إطلاقه عموم وجه الشبه ، ولا أقلّ من ظهوره في إرادة الأحكام الظاهرة التي منها النجاسة ، فيتمّ القول في غير مورد الرواية بعدم القول بالفصل.

لكن يتوجّه عليه ـ بعد الغضّ عمّا أشرنا إليه سابقا من كون النجاسة في زمان صدور الرواية من الأوصاف الخفيّة التي كانت الروايات ورواتها مختلفة فيها ، فلا ينسبق إلى الذهن إرادتها ـ أنّ سوق الرواية سؤالا وجوابا يشهد بأنّ الجهة الملحوظة في الرواية إنّما هي جهة الحرمة ، فهي التي يتبادر منها لا غير.

اللهمّ إلّا أن يقال : إنّه إذا تعذّر إبقاء الحمل على ظاهره ، فالأقرب حمله على إرادة كونه خمرا شرعا بالالتزام بأنّ موضوع الخمر لدى الشارع في مقام إثبات أحكامه أعمّ من الخمر العرفيّة على وجه عمّ هذا الفرد ، فيكون التصرّف الشرعي متعلّقا بالموضوع بتعميم دائرة الخمر بلحاظ أحكامها ، ومقتضاه ثبوت جميع الأحكام الشرعيّة وإن كانت خفيّة للفرد الذي أوجب علينا التعبّد بكونه خمرا ، وهذا بخلاف ما لو أريد به التشبيه ، فإنّه ينصرف إلى الجهة الظاهرة.

لكنّك عرفت إمكان إبقاء الحمل على حقيقته بالنسبة إلى مورد السؤال ، فلا يتوجّه الاستدلال به إلّا في خصوص المورد.

هذا كلّه ، مع أنّ الرواية لم تثبت بهذا المتن ، فإنّ الكليني روى هذا الحديث مقتصرا في الجواب على قول : «لا تشربه» (١) من غير ذكر «هو خمر» والكليني أوثق في ضبط الروايات ، فاحتمال عدم الزيادة في حدّ ذاته وإن كان أقوى من

__________________

(١) مرّ تخريجه في ص ٢٠٠ ، الهامش (٦).

٢٠٣

احتمال عدم النقص إلّا أنّه معارض بأوثقيّة الكافي من حيث الضبط من التهذيب.

لكن مع ذلك قد يقال بأنّ الظاهر عدم الزيادة ، فيكون الظاهر معاضدا لأصالة عدم السهو في طرف الزيادة ، فيترجّح بذلك على معارضه.

وإن شئت قلت : إنّ أصالة عدم سهو الكليني في ضبط الحديث لا يصلح مانعا من العمل بما رواه الشيخ خصوصا مع احتمال أن يكون ترك الكليني لهذه الفقرة من باب الاختصار والنقل بالمعنى ، فرفع اليد عن الفقرة التي رواها الشيخ بمجرّد كونها متروكة في الكافي مشكل ، لكن هوّن الأمر قصورها من حيث الدلالة.

ولو سلّم ظهورها في المدّعى فليس على وجه يعتمد عليه مع ما في مستنده من الوهن في إثبات الحكم المخالف للأصل لو لا موافقته للاحتياط.

واستدلّ أيضا للقول بالنجاسة : بقول الصادق عليه‌السلام في مرسل ابن الهيثم بعد أن سئل عن العصير يطبخ في النار حتّى يغلي من ساعته فيشربه صاحبه : «إذا تغيّر عن حاله وغلى فلا خير فيه حتّى يذهب ثلثاه» (١).

وقوله عليه‌السلام في خبر أبي بصير وقد سئل عن الطلاء (٢) : «إن طبخ حتّى يذهب اثنان ويبقى واحد فهو حلال ، وما كان دون ذلك فليس فيه خير» (٣) بتقريب أنّه لو كان طاهرا لكان فيه خير ولو على تقدير حرمته.

__________________

(١) الكافي ٦ : ٤١٩ / ٢ ، التهذيب ٩ : ١٢٠ / ٥١٧ ، الوسائل ، الباب ٢ من أبواب الأشربة المحرّمة ، ح ٧.

(٢) الطلاء : ما طبخ من عصير العنب حتى يذهب ثلثاه. مجمع البحرين ١ : ٢٧٧ «طلا».

(٣) الكافي ٦ : ٤٢٠ / ١ ، الوسائل ، الباب ٢ من أبواب الأشربة المحرّمة ، ح ٦.

٢٠٤

وفيه ما لا يخفى ، إذ ليس الخير المتوقّع من العصير ، بل الطين وسقي الأشجار.

وربما يستشهد له : بالأخبار المبيّنة لبدء أمر الخمر من مقاسمة إبليس ـ عليه اللعنة ـ الكرم مع آدم ونوح عليهما‌السلام على الثلث والثلثين ، فكان حظّ إبليس منه ثلثين ، فلذا اعتبر ذهابهما إذا طبخ العصير.

ففي بعضها : «فما كان فوق الثلث من طبخها فلإبليس وهو حظّه ، وما كان من الثلث فما دونه فهو لنوح عليه‌السلام وهو حظّه ، وذلك الحلال الطيّب ليشرب» (١) إلى آخره ، ففي توصيف الحلال بالطيّب إشعار بكون حظّ إبليس الحرام الخبيث ، والخباثة المغايرة للحرمة ليست إلّا النجاسة.

ونحوه ما في بعض تلك الروايات : «فمن هنا طاب الطلاء على الثلث» (٢).

وفيها ما لا يخفى.

وربما يوجّه الاستدلال بهذه الأخبار : بأنّها تدلّ على أنّ حرمة العصير المشتمل على الثلثين حرمة خمريّة ، وحرمة الخمر المائعة تتبعها نجاستها.

وفيه : أنّ النجاسة تدور مدار اسم الخمر لا حرمتها ، فغاية ما يفهم من مثل هذه الأدلّة اشتراك العصير مع الخمر في الحرمة ، دون سائر الأحكام التعبّديّة الثابتة لعنوان الخمر من حيث هو.

__________________

(١) علل الشرائع : ٤٧٧ ـ ٤٧٨ (الباب ٢٢٦) ح ٣ ، الوسائل ، الباب ٢ من أبواب الأشربة المحرّمة ، ح ١١.

(٢) علل الشرائع ، ٤٧٧ (الباب ٢٢٦) ح ٢ ، الوسائل ، الباب ٢ من أبواب الأشربة المحرّمة ، ح ١٠.

٢٠٥

فتلخّص لك أنّ القول بالطهارة هو الأشبه.

وقد فصّل ابن حمزة في الوسيلة بين ما إذا غلى العصير بنفسه أو بالنار ، فخصّ النجاسة بالأوّل ، وصرّح بأنّه لو غلى بالنار ، حرم ولم ينجس (١).

ولم يعلم مستنده ، اللهمّ إلّا أن يكون من القائلين بالطهارة ، ويكون حكمه بالنجاسة عند غليانه بنفسه بناء منه على اندراجه بذلك في المسكرات المائعة التي حكم بنجاستها (٢).

ويقوّي هذا الاحتمال عدم تعرّضه عند تعداد النجاسات لذكر العصير.

لكن يبعّده أنّه جعله ـ عند التعرّض لذكره في باب الأشربة ـ من قسم الشراب الغير المسكر (٣).

وكيف كان فإن أراد بذلك ادّعاء صيرورته مسكرا بمجرّد الغليان بنفسه ، فعهدته على مدّعيه ، والمرجع على تقدير الشكّ أصالة الطهارة.

وإن أراد التفصيل بين القسمين ، فهو ممّا لا وجه له.

ثمّ إنّه إن قلنا بنجاسته ، فهل ينجس بمجرّد الغليان أو لا ينجس إلّا إذا اشتدّ ، كما صرّح به غير واحد؟ وجهان.

والمراد بالاشتداد ـ على ما صرّح به بعض (٤) ـ اشتداد نفس العصير ، أي ثخونته وقوامه.

__________________

(١) الوسيلة : ٣٦٥.

(٢) الوسيلة : ٧٧ ـ ٧٨ ، و ٣٦٤.

(٣) الوسيلة : ٣٦٤ ـ ٣٦٥.

(٤) الشيخ الأنصاري في كتاب الطهارة : ٣٦١.

٢٠٦

وعن ظاهر الشهيد في الذكرى والمحقّق الثاني اعتبار مسمّى الثخونة الحاصلة بمجرّد الغليان ولو لم يحسّ بها (١).

وعن فخر الدين في حاشية الإرشاد أنّ المراد بالاشتداد عند الجمهور الشدّة المطربة. وعندنا أن يصير أسفله أعلاه بالغليان (٢). انتهى.

وأنت خبير بأنّه ليس في الأدلّة المتقدّمة ـ على تقدير تماميّتها ـ ما يشعر باعتبار الاشتداد في موضوع الحكم.

ومن هنا قد يغلب على الظنّ أنّ كلّ من حكم بطهارة العصير بعد غليانه ما لم يشتدّ ، ونجاسته بعده أنّ مراده بالشدّة هي الشدّة المطربة ، فيكون من القائلين بالطهارة ، وكلّ من قال بنجاسته فسّر الاشتداد بما يساوق الغليان ، فأراد به إمّا مطلق الثخونة الحاصلة بالغليان ، كما فسّره الشهيد (٣) ، أو أراد به صيرورة أسفله أعلاه بالغليان.

وهذه عبارة أخرى عن القلب المفسّر به الغليان الموجب للحرمة في صحيحة [حمّاد] (٤).

فعلى هذا يكون تقييد الموضوع به بعد اعتبار الغليان من باب التأكيد ،

__________________

(١) حكاه عنهما الشيخ الأنصاري في كتاب الطهارة : ٣٦١ ، وانظر : الذكرى ١ : ١١٥ ، وجامع المقاصد ١ : ١٦٢.

(٢) حكاه عنه العاملي في مفتاح الكرامة ١ : ١٤١.

(٣) الذكرى ١ : ١١٥.

(٤) بدل ما بين المعقوفين في النسخ الخطّيّة والحجريّة : «الحلبي». والصحيح ما أثبتناه من المصدر ، راجع : الكافي ٦ : ٤١٩ / ٣ ، والتهذيب ٩ : ١٢٠ / ٥١٤ ، وعنهما في الوسائل ، الباب ٣ من أبواب الأشربة المحرّمة ، ح ٣.

٢٠٧

فلا يبقى للقول بحدوث الحرمة قبل النجاسة مجال.

اللهمّ إلّا أن يلتزم بحدوث الحرمة بمجرّد الأخذ في الفوران ، واشتراط النجاسة باشتداده.

لكنّك عرفت أنّه ليس في أدلّة النجاسة ما يشعر باعتبار هذا الشرط.

نعم ، وقع التقييد به في معقد الإجماع المتقدّم (١) حكايته عن كنز العرفان ، فإن اعتمدنا عليه في إثبات النجاسة ، اتّجه القول بالاشتراط ، كما أنّه يتّجه ذلك إن استندنا فيه إلى موثّقة معاوية بن عمّار ، المتقدّمة (٢) ، فإنّ التخطّي عن موردها لا يكون إلّا بضميمة عدم القول بالفصل ، وهو لا يتمّ إلّا فيما إذا حصل بعد الغليان قوام وثخونة محسوسة بنظر العرف ، لأنّ هذا هو القدر المتيقّن من مورد عدم القول بالفصل.

هذا كلّه في العصير العنبي ، وأمّا العصير الزبيبي فممّا لا ينبغي الاستشكال في طهارته ولو على القول بنجاسة العصير العنبي.

بل في الحدائق : الظاهر أنّه لا خلاف في طهارته وعدم نجاسته بالغليان ، فإنّي لم أقف على قائل بالنجاسة هنا ، وبذلك صرّح في الذخيرة أيضا (٣). انتهى.

وعن شرح الوسائل لبعض (٤) معاصري صاحب الحدائق : أنّ الإجماع

__________________

(١) في ص ١٩٧.

(٢) في ص ٢٠٠.

(٣) الحدائق الناضرة ٥ : ١٢٥ ، وانظر : ذخيرة المعاد : ١٥٥.

(٤) هو الشيخ محمّد ابن الشيخ عليّ ابن الشيخ عبد النبي ابن الشيخ محمّد بن سليمان المقابي المعاصر للشيخ يوسف البحراني صاحب الحدائق ، له من المصنّفات «شرح الوسائل» للشيخ الحرّ العامليّ. راجع أنوار البدرين : ١٨٩ ـ ١٩٠ / ٨٧ ، وطبقات أعلام الشيعة (القرن الثاني عشر) : ٧٠٤ ، والذريعة ٤ : ٣٥٣ ، ولؤلؤة البحرين : ٨٩ ، ضمن الرقم ٣٣.

٢٠٨

منعقد على عدم نجاسة غير عصير العنب (١).

لكن قد يلوح ممّا حكي عن المقاصد العليّة وقوع الخلاف فيه أيضا حيث قال ـ بعد حكمه بحرمة العصير العنبي وتوقيف نجاسته على الاشتداد ـ : ولا يلحق به عصير التمر وغيره إجماعا ، ولا الزبيب على أصحّ القولين (٢).

وكيف كان فالذي يمكن أن يستدلّ به لنجاسته على القول بنجاسة العصير العنبي إنّما هو استصحاب حكمه الثابت له حال العنبيّة.

والخدشة فيه : بأنّ المستصحب وهو نجاسة ماء العنب على تقدير غليانه تعليقيّ ، فلا اعتداد به ، لأنّه يعتبر في الاستصحاب كون المستصحب موجودا قبل زمان الشكّ ، مدفوعة : برجوعه إلى استصحاب أمر محقّق ، وهو سببيّة غليانه للنجاسة.

وتمام الكلام فيه في محلّه.

وأضعف من ذلك : المناقشة فيه بمعارضته باستصحاب الطهارة قبل الغليان مع ترجيح الثاني بالشهرة وغيرها ، لحكومة الاستصحاب الأوّل على الثاني ، كما لا يخفى.

لكن يتوجّه عليه الخدشة فيه بتغيّر الموضوع ، لأنّ الزبيب بنظر العرف كالحصرم موضوع مغاير للعنب.

هذا ، مع أنّه ليس للزبيب ماء حتّى يستصحب سببيّة غليانه للنجاسة ، و

__________________

(١) حكاه عنه الشيخ الأنصاري في كتاب الطهارة : ٣٦٢.

(٢) حكاه عنه البحراني في الحدائق الناضرة ٥ : ١٢٥ ، وانظر : المقاصد العليّة : ١٤٣ ـ ١٤٤.

٢٠٩

الماء الخارجيّ الممزوج بالأجزاء اللطيفة منه لم يكن ينجس بالغليان ، والذي كان ينجس بالغليان إنّما هو ماء العنب الذي لم يبق بعد جفافه.

ودعوى كون غليانه حال العنبيّة سببا لنجاسة الماء الخارجيّ الممزوج به أيضا مغالطة ، فإنّ نجاسة الماء الخارجيّ الممزوج بماء العنب عند غليانه مسبّبة عن الملاقاة للنجس والمزج أو الاستهلاك فيه ، لا عن الغليان.

وكيف كان فلاخفاء في مغايرة عصير الزبيب لعصير العنب ذاتا ووصفا ، لغة وعرفا ، ومقتضى الأصل فيه : الطهارة ما لم يعرض له صفة الإسكار ، بل مقتضى الاستصحاب التعليقي ـ الذي تقدّمت الإشارة إليه ـ أيضا ذلك ، اللهمّ إلّا أن يناقش فيه بتغيّر الموضوع ، فليتأمّل.

وهل يحرم بالغليان كعصير العنب ، أمّ لا؟ فيه قولان ، أشهر هما بل المشهور ـ كما ادّعاه غير واحد ـ : عدم الحرمة.

وعن غير واحد من المتأخّرين ـ وفاقا لبعض فضلائنا المتقدّمين ـ القول بالحرمة.

واستدلّ للقول بالحرمة : برواية زيد النرسي عن الصادق عليه‌السلام في الزبيب يدقّ ويلقى في القدر ويصبّ عليه الماء ، فقال : «حرام حتّى يذهب ثلثاه» قلت : الزبيب كما هو يلقى في القدر ، قال : «هو كذلك سواء ، إذا أدّت الحلاوة إلى الماء فقد فسد ، كلّما غلى بنفسه أو بالنار فقد حرم حتّى يذهب ثلثاه» (١).

__________________

(١) أورده كما في المتن البحراني في الحدائق الناضرة ٥ : ١٥٨ عن زيد النرسي وزيد الزرّاد. وفي بحار الأنوار ٦٦ : ٥٠٦ / ٨ ، ومستدرك الوسائل ، الباب ٢ من أبواب الأشربة المحرّمة ، ح ١ بتفاوت.

٢١٠

ويفهم من الشرطيّة المذكورة في الرواية انتفاء الفساد ما لم تتأدّ الحلاوة إلى الماء وإن غلى الماء وانقلب فيه الزبيب.

والمراد بتأدية الحلاوة إليه ـ بحسب الظاهر ـ ليس مطلق تغيّر طعمه ولو مع بقائه بصفة الإطلاق ، بل صيرورته حلوا على وجه صدق عليه عرفا ماء الزبيب حتّى تتحقّق التسوية بينه وبين الماء المنصبّ على الزبيب المدقوق الملقى في القدر ، الذي يحرم بالغليان ، ويحلّ بذهاب ثلثيه.

ولو فرض ظهوره في الإطلاق ، لتعيّن صرفه إلى ذلك ، فإنّ الماء المطلق لا يفسد ولا يحرم بالغليان.

وقوله عليه‌السلام : «كلّما غلى» إلى آخره ، كأنّه مسوق لبيان وجه الفساد ، فكأنّه قال : لا فرق بين أن يدقّ الزبيب ويلقى في القدر ، أو يلقى كما هو في القدر ويصبّ عليه الماء بعد تأدية حلاوته إليه في كون غليان الماء المتغيّر به بنفسه أو بالنار موجبا لحرمته إلى أن يذهب ثلثاه.

وكيف كان فالرواية صريحة في كون غليان نقيع الزبيب موجبا لحرمته ، لكنّها غير نقيّة السند يشكل الاعتماد عليها مع مخالفتها للمشهور.

واستدلّ له أيضا : برواية عليّ بن جعفر عن أخيه موسى عليه‌السلام ، قال : سألته عن الزبيب هل يصلح أن يطبخ حتّى يخرج طعمه ثمّ يؤخذ (١) الماء فيطبخ حتّى يذهب ثلثاه ويبقى ثلثه ثمّ يرفع فيشرب منه السنّة؟ فقال : «لا بأس به» (٢).

__________________

(١) في المصدر ـ ما عدا الوسائل ـ زيادة : «ذلك».

(٢) الكافي ٦ : ٤٢١ / ١٠ ، التهذيب ٩ : ١٢١ / ٥٢٢ ، الوسائل ، الباب ٨ من أبواب الأشربة المحرّمة ، ح ٢.

٢١١

وموثّقة عمّار الساباطي ، قال : وصف لي أبو عبد الله عليه‌السلام المطبوخ كيف يطبخ حتّى يصير حلالا ، فقال : «تأخذ ربعا من زبيب وتنقيه ثمّ تصبّ عليه اثني عشر رطلا من ماء ثمّ تنقعه ليلة ، فإذا كان أيّام الصيف وخشيت أن ينشّ جعلته في تنّور سخن (١) قليلا حتّى لا ينشّ ثمّ تنزع الماء منه كلّه إذا أصبحت ثمّ تصبّ عليه من الماء بقدر ما يغمره ثمّ تغليه حتّى تذهب حلاوته ثمّ تنزع ماءه الآخر فتصبّه على الماء الأوّل ثمّ تكيله كلّه فتنظر كم الماء ثمّ تكيل ثلثه فتطرحه في الإناء الذي تريد أن تغليه وتقدّره وتجعل قدره قصبة أو عودا فتحدّها على قدر منتهى الماء ثمّ تغلي الثلث الآخر حتّى يذهب الماء الباقي ثمّ تغليه بالنار فلا تزال تغليه حتّى يذهب الثلثان ويبقى الثلث ثمّ تأخذ لكلّ ربع رطلا من عسل فتغليه حتّى تذهب رغوة العسل وتذهب غشاوة العسل في المطبوخ ثمّ تضربه بعود ضربا شديدا حتّى يختلط ، وإن شئت أن تطيّبه بشي‌ء من زعفران أو شي‌ء من زنجبيل فافعل ، ثمّ اشربه ، فإن أحببت أن يطول مكثه عندك فروّقه (٢)» (٣).

وموثّقته الأخرى عن أبي عبد الله عليه‌السلام أيضا ، قال : سئل عن الزبيب كيف يحلّ طبخه حتّى يشرب حلالا؟ قال : «تأخذ ربعا من زبيب فتنقيه ثمّ تطرح عليه اثنى عشر رطلا من ماء ثمّ تنقعه ليلة فإذا كان من غد نزعت سلافته ثمّ تصبّ عليه

__________________

(١) في الكافي : «مسجور» بدل «سخن» كما يأتي في ص ٢١٥ أيضا ، وما في المتن كما في الوسائل.

(٢) روّقه : الترويق : التصفية. القاموس المحيط ٣ : ٢٣٩ «روق».

(٣) الكافي ٦ : ٤٢٤ ـ ٤٢٥ / ١ بتفاوت في بعض الألفاظ ، الوسائل ، الباب ٥ من أبواب الأشربة المحرّمة ، ح ٢.

٢١٢

من الماء بقدر ما يغمره ثمّ تغليه بالنار غلية ثمّ تنزع ماءه فتصبّه على الأوّل ثمّ تطرحه في إناء واحد ثمّ توقد تحته النار حتّى يذهب ثلثاه ويبقى ثلثه وتحته النار ثمّ تأخذ رطل عسل فتغليه بالنار غلية وتنزع رغوته ثمّ تطرحه على المطبوخ ثمّ اضربه حتّى يختلط به ، واطرح فيه إن شئت زعفرانا ، وطيّبه إن شئت بزنجبيل قليل» قال : «فإنّ أردت أن تقسمه أثلاثا لتطبخه فكله بشي‌ء واحد حتّى تعلم كم هو ثمّ اطرح عليه الأوّل في الإناء الذي تغليه فيه ثمّ تضع فيه مقدارا ، وحدّه حيث يبلغ الماء ، ثمّ اطرح الثلث الآخر ، وحدّه حيث يبلغ الماء (١) ، ثمّ توقد تحته بنار ليّنة حتّى يذهب ثلثاه ويبقى ثلثه» (٢).

ورواية إسماعيل بن الفضل الهاشمي ، قال : شكوت إلى أبي عبد الله عليه‌السلام قراقر تصيبني في معدتي وقلّة استمرائي الطعام ، فقال لي : «لم لا تتّخذ نبيذا نشربه نحن؟ وهو يمرئ الطعام ، ويذهب بالقراقر والرياح من البطن» قال : فقلت له : صفه لي جعلت فداك ، قال عليه‌السلام «تأخذ صاعا من زبيب فتنقيه من حبّه وما فيه ثمّ تغسله بالماء غسلا جيّدا ثمّ تنقعه في مثله من الماء أو ما يغمره ثمّ تتركه في الشتاء ثلاثة أيّام بلياليها ، وفي الصيف يوما وليلة ، فإذا أتى عليه ذلك القدر صفّيته وأخذت صفوته وجعلته في إناء وأخذت مقداره بعود ثمّ طبخته طبخا رفيقا حتّى يذهب ثلثاه ويبقى ثلثه ثمّ تجعل عليه نصف رطل عسل وتأخذ مقدار العسل ثمّ

__________________

(١) في الكافي زيادة : «ثمّ تطرح الثلث الأخير ثمّ حدّه حيث يبلغ الآخر» وكذا في الوسائل ، إلّا أنّ فيه : «يبلغ الماء» بدل «يبلغ الآخر».

(٢) الكافي ٦ : ٤٢٥ ـ ٤٢٦ / ٢ بتفاوت في بعض الألفاظ ، الوسائل ، الباب ٥ من أبواب الأشربة المحرّمة ، ح ٣.

٢١٣

تطبخه حتّى تذهب الزيادة ثمّ تأخذ زنجبيلا وخولنجان ودارصيني وزعفران وقرنفلا ومصطكى وتدقّه وتجعله في خرقة رقيقة وتطرحه فيه وتغليه معه غلية ثمّ تنزله ، فإذا برد صفّيته وأخذت منه على غدائك وعشائك» قال : ففعلت فذهب عنّي ما كنت أجده ، وهو شراب طيّب لا يتغيّر إذا بقي إن شاء الله (١).

والجواب : أمّا عن رواية عليّ بن جعفر : فبعدم دلالتها على المدّعى لا قولا ولا تقريرا ، عدا ما يستشعر منها من معروفيّة اعتبار ذهاب الثلثين لديهم في طبخ الزبيب ، فلعلّه كان ذلك لاعتصامه عن الفساد ، وصيرورته فقّاعا أو مسكرا بطول المدّة ، لا لصيرورته حلالا بعد أن حرم ، بل في سؤاله إشعار بذلك.

وأمّا الموثّقتان : فالظاهر كونهما حكايتين عن واقعة واحدة ، وقوله في الموثّقة الأولى : «كيف يطبخ حتى يصير حلالا» من كلام السائل ، كما كشف عن ذلك موثّقته الثانية ، فلا عبرة بظهور هذه الفقرة في الحرمة إلّا بلحاظ استفادة تقريرها من الجواب.

لكن كفى في حسن تقريره عروض وصف الحرمة له في الجملة لو لم يطبخ بالكيفيّة التي وصفها الإمام عليه‌السلام ، لصيرورته فقّاعا أو مسكرا بعد مضيّ مدّة ، بل ربما يستشعر من قوله في ذيل رواية الهاشمي : «وهو شراب طيّب لا يتغيّر إذا بقي» كون هذه الجهة ملحوظة لديهم في أسئلتهم ، فيكون التقرير بلحاظ كون الكيفيّة المذكورة في الجواب دافعا للحرمة لا رافعا لها.

وبهذا ظهر عدم جواز الاستشهاد للمدّعى بما في هذه الروايات من اعتبار

__________________

(١) الكافي ٦ : ٤٢٦ / ٣ ، الوسائل ، الباب ٥ من أبواب الأشربة المحرّمة ، ح ٤.

٢١٤

ذهاب الثلثين ، لجواز كونه للحفظ عن الفساد وصيرورته مسكرا.

وما يقال من أنّه لو كان المقصود به مجرّد الحفظ عن الفساد لم يكن ذلك مقتضيا لشدّة الاهتمام بمراعاة التحقيق بتقديره بالكيل أو تحديده بقصبة أو عود أو غير ذلك كما في أخبار الباب ، ضرورة كفاية التقريب في حصول هذا الغرض ، مدفوع :

أوّلا : بالنقض بما في رواية الهاشمي من التدقيق في أمر العسل المطروح على ماء الزبيب بعد ذهاب ثلثيه.

وثانيا : بأنّ من الجائز أن تكون شدّة الاهتمام في أمره لشدّة الاهتمام بالتجنّب عن المسكر.

وأمّا ما في الموثّقة الاولى من قوله عليه‌السلام : «فإذا كان أيّام الصيف وخشيت أن ينشّ جعلته في تنّور مسجور (١)» فليس لخوف تحريمه بالنشيش ، لأنّ الحرمة الحاصلة بالنشيش أو الغليان بالنار تزول بذهاب ثلثيه ، فالخوف من نشيشه إمّا لكونه موجبا لفساده وتغيّر طعمه ، أو لكونه سببا لصيرورته مسكرا بحيث لا يجديه ذهاب الثلثين.

وكيف كان فلا يمكن إثبات الحرمة بمثل هذه الإشعارات.

واستدلّ للحرمة أيضا : بالاستصحاب التعليقي الذي عرفت حاله آنفا.

وبأخبار منازعة إبليس في شجرة الكرم (٢) ، حيث يفهم منها أنّ له نصيبا في

__________________

(١) تقدّم في ص ٢١٢ بلفظ «سخن» بدل «مسجور».

(٢) الكافي ٦ : ٣٩٣ ـ ٣٩٥ / ١ و ٤ ، علل الشرائع : ٤٧٧ (الباب ٢٢٦) ح ٢ ، وعنهما في الوسائل ، الباب ٢ من أبواب الأشربة المحرّمة ، الأحاديث ٢ و ٥ و ١٠.

٢١٥

ثمرة هذه الشجرة مطلقا.

وفيه ما لا يخفى من كون تلك الأخبار مسوقة لبيان حكمة حرمة الخمر ، وعدم إمكان استفادة الأحكام التعبّديّة منها في غير ما ورد التصريح به بالخصوص.

وبعموم ما دلّ على حرمة كلّ عصير غلى حتّى يذهب ثلثاه (١).

وفيه : أنّ المتبادر من العصير وضعا ـ كما ادّعاه في الحدائق (٢) ـ أو انصرافا هو (٣) العصير العنبي ، كما يفصح عن ذلك التدبّر في الأخبار ، خصوصا مثل قوله عليه‌السلام : «الخمر من خمسة : العصير من الكرم ، والنقيع من الزبيب» (٤) الحديث.

ولو سلّم ظهوره في إرادة كلّ ماء معتصر من جسم على وجه عمّ الماء النافذ في الزبيب المستخرج بالعصر ، لتعيّن صرفه إلى العصير المعهود ، وإلّا للزم تخصيص الأكثر المستهجن ، وكون العصير الزبيبي أو التمري من القسم المعهود الذي يراد بإطلاق العصير غير معلوم ، بل لم يعهد إرادة الماء المستخرج بالعصر من الزبيب أو التمر من إطلاق العصير في شي‌ء من موارد استعمالاته.

نعم ، قد شاع استعمال العصير المضاف إلى الزبيب أو (٥) التمر لدى فقهائنا المتأخّرين في ماء الزبيب والتمر مطلقا وإن لم يتّخذ منهما بالعصر ، بل بالغليان أو

__________________

(١) الكافي ٦ : ٤١٩ (باب العصير الذي قد مسّته النار) ح ١ ، التهذيب ٩ : ١٢٠ / ٥١٦ ، الوسائل ، الباب ٢ من أبواب الأشربة المحرّمة ، ح ١.

(٢) راجع : الحدائق الناضرة ٥ : ١٢٥ ـ ١٢٧.

(٣) في «ض ١١» : «إنّما هو».

(٤) الكافي ٦ : ٣٩٢ / ١ ، التهذيب ٩ : ١٠١ / ٤٤٢ ، الوسائل ، الباب ١ من أبواب الأشربة المحرّمة ، ح ١.

(٥) في الطبعة الحجريّة : «و» بدل «أو».

٢١٦

المرس (١) وهو إطلاق مسامحيّ لا يعمّه إطلاق الأخبار.

والذي يقتضيه الإنصاف : أنّ الأدلّة المذكورة للحرمة وإن لم يسلم شي‌ء منها عن الخدشة لكن ربما يحصل بملاحظة المجموع ـ بعد الالتفات إلى كون الزبيب من أصله عنبا ، ومشاركة عصيريهما في معظم الفوائد ـ الظنّ القويّ بمشاركتهما من حيث الحكم ، وعدم كون اعتبار ذهاب الثلثين في كيفيّة طبخ الزبيب ـ الذي عرفت بالأخبار المتقدّمة معروفيّته لدى الأئمّة عليهم‌السلام والسائلين ـ إلّا لذلك.

لكن يشكل الاعتماد على هذا الظنّ ـ مع مخالفته للمشهور ـ في رفع اليد عن عمومات الحلّ ـ الواردة في الكتاب والسنّة ـ المعتضدة بالمستفيضة الحاصرة للشراب المحرّم في المسكر : كرواية الفضيل بن يسار عن أبي جعفر عليه‌السلام ، قال : سألته عن النبيذ ، فقال : «حرّم الله الخمر بعينها ، وحرّم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله من الأشربة كلّ مسكر» (٢).

ورواية يونس بن عبد الرحمن عن مولى حرّ بن يزيد (٣) ، قال : سألت أبا عبد الله عليه‌السلام ، فقلت له : إنّي أصنع الأشربة من العسل وغيره ، وإنّهم يكلّفوني صنعتها فأصنعها لهم ، فقال : «اصنعها وادفعها إليهم ، وهي حلال قبل أن تصير مسكرا» (٤).

__________________

(١) مرست التمر وغيره في الماء ، إذا أنقعته ومرثته بيدك. الصحاح ٣ : ٩٧٧ «مرس».

(٢) الكافي ٦ : ٤٠٨ / ٥ ، الوسائل ، الباب ١٥ من أبواب الأشربة المحرّمة ، ح ٦.

(٣) في النسخ الخطّيّة والحجريّة والوسائل : «مولى جرير بن يزيد». وما أثبتناه كما في التهذيب.

(٤) التهذيب ٩ : ١٢٧ / ٥٤٨ ، الوسائل ، الباب ٣٨ من أبواب الأشربة المحرّمة ، ح ٣.

٢١٧

والأخبار الخاصّة الدالّة على دوران حرمة النبيذ مدار وصف الإسكار مع كون المراد بالنبيذ في بعضها خصوص الشراب المتّخذ من الزبيب.

منها : رواية حنّان بن سدير ، قال : سمعت رجلا يقول لأبي عبد الله عليه‌السلام : ما تقول في النبيذ؟ فإنّ أبا مريم يشربه ويزعم أنّك أمرته بشربه ، فقال : «صدق أبو مريم ، سألني عن النبيذ ، فأخبرته أنّه حلال ، ولم يسألني عن المسكر» ثمّ قال : «إنّ المسكر ما اتّقيت فيه أحدا سلطانا ولا غيره ، قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : كلّ مسكر حرام ، وما أسكر كثيره فقليله حرام» فقال له الرجل : هذا النبيذ الذي أذنت لأبي مريم في شربه أيّ شي‌ء هو؟ فقال : «أمّا أبي فكان يأمر الخادم فيجي‌ء بقدح فيجعل فيه زبيبا ويغسله غسلا نقيّا ويجعله في إناء ثمّ يصبّ عليه ثلاثة مثله أو أربعة ماء ثمّ يجعله بالليل ويشربه بالنهار ويجعله بالغداة ويشربه بالعشيّ ، وكان يأمر الخادم بغسل الإناء في كلّ ثلاثة أيّام لئلّا يغتلم ، فإن كنتم تريدون النبيذ فهذا النبيذ» (١).

ورواية عبد الرحمن بن الحجّاج قال : استأذنت لبعض أصحابنا على أبي عبد الله عليه‌السلام ، فسأله عن النبيذ ، فقال : «حلال» فقال : أصلحك الله إنّما سألتك عن النبيذ الذي يجعل فيه العكر (٢) فيغلي حتّى يسكر ، فقال أبو عبد الله عليه‌السلام : «قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : كلّ مسكر حرام» (٣) إلى آخره.

ورواية الكلبي النسّابة ، قال : سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن النبيذ ، فقال : «حلال»

__________________

(١) الكافي ٦ : ٤١٥ / ١ ، الوسائل ، الباب ٢٢ من أبواب الأشربة المحرّمة ، ح ٥.

(٢) العكر : درديّ الزيت وغيره. الصحاح ٢ : ٧٥٦ «عكر».

(٣) الكافي ٦ : ٤١٧ / ٦ ، الوسائل ، الباب ٢٤ من أبواب الأشربة المحرّمة ، ح ٥.

٢١٨

فقلت : إنّا ننبذه فنطرح فيه العكر وما سوى ذلك ، قال : «شه شه (١) ، تلك الخمرة المنتنة» (٢) إلى آخره.

وصحيحة صفوان الجمّال ، قال : كنت مبتلى بالنبيذ معجبا به ، فقلت لأبي عبد الله عليه‌السلام : أصف لك النبيذ؟ فقال : «بل أنا أصفه لك ، قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : كلّ مسكر حرام ، وما أسكر كثيره فقليله حرام» فقلت له : هذا نبيذ السقاية بفناء الكعبة ، فقال : «ليس هكذا كانت السقاية ، إنّما السقاية زمزم ، أفتدري أوّل من غيّرها؟» فقلت : لا ، قال : «العبّاس بن عبد المطّلب كانت له حبلة ، أفتدري ما الحبلة؟» قلت : لا ، قال : «الكرم ، فكان ينقع الزبيب غدوة ويشربونه بالعشيّ ، وينقعه بالعشيّ ويشربونه من الغد يريد أن يكسر غلظ الماء عن الناس وأنّ هؤلاء قد تعدّوا ، فلا تشربه ولا تقربه» (٣).

وصحيحة معاوية بن وهب ، قال : قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام : إنّ رجلا من بني عمّي وهو رجل من صلحاء مواليك يأمرني أن أسألك عن النبيذ وأصفه لك ، فقال : «أنا أصف لك ، قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : كلّ مسكر حرام ، وما أسكر كثيره فقليله حرام» (٤).

__________________

(١) شه شه : كلمة استقذار واستقباح. مجمع البحرين ٦ : ٣٥١ «شوه».

(٢) الكافي ٦ : ٤١٦ / ٣ ، التهذيب ١ : ٢٢٠ / ٦٢٩ ، الإستبصار ١ : ١٦ / ٢٩ ، الوسائل ، الباب ٢ من أبواب الماء المضاف والمستعمل ، ح ٢.

(٣) الكافي ٦ : ٤٠٨ ـ ٤٠٩ / ٧ ، التهذيب ٩ : ١١١ ـ ١١٢ / ٤٨٤ ، الوسائل ، الباب ١٧ من أبواب الأشربة المحرّمة ، ح ٣.

(٤) الكافي ٦ : ٤٠٨ / ٤ ، التهذيب ٩ : ١١١ / ٤٨١ ، الوسائل ، الباب ١٧ من أبواب الأشربة المحرّمة ، ح ١.

٢١٩

إلى غير ذلك من الأخبار التي يستفاد منها دوران الحرمة مدار وصف الإسكار ، وبعضها كالصريح في عدم الفرق بين أنحاء النبيذ من المطبوخ وغيره في إناطة حرمته بالمسكريّة ، فلو سلّم ظهور الأخبار المتقدّمة في الحرمة ، فالمتعيّن تأويلها بما لا ينافي هذه الأخبار.

نعم ، رواية زيد (١) كادت تكون صريحة في سببيّة الغليان من حيث هو للحرمة.

لكنّك عرفت قصورها من حيث السند ، فضلا عن صلاحيّتها لمعارضة هذه الأخبار.

وأمّا ما في غير واحد من الأخبار من إطلاق النهي عن شرب النبيذ فالمراد به هو النبيذ المسكر الذي كان متعارفا شربه في تلك الأزمنة ، كما أنّ ما في موثّقة سماعة من المنع من طبخ التمر والزبيب للنبيذ مطلقا لم يكن إلّا بلحاظ صيرورته مسكرا ، كما يشهد لذلك ذيلها :

قال : سألته عن التمر والزبيب يطبخان للنبيذ ، فقال : «لا» وقال : «كلّ مسكر حرام» وقال : «قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : كلّ ما أسكر كثيره فقليله حرام ، وقال : لا يصلح في النبيذ الخميرة ، وهي العكر» (٢).

فهذه الموثّقة أيضا ـ كغيرها من الأخبار المتقدّمة ـ تدلّ على انحصار سبب الحرمة في الإسكار.

__________________

(١) أي رواية زيد النرسي ، المتقدّمة في ص ٢١٠.

(٢) الكافي ٦ : ٤٠٩ / ٨ ، الوسائل ، الباب ١٧ من أبواب الأشربة المحرّمة ، ح ٥.

٢٢٠