مصباح الفقيه - ج ٧

الشيخ آقا رضا الهمداني

مصباح الفقيه - ج ٧

المؤلف:

الشيخ آقا رضا الهمداني


المحقق: المؤسّسة الجعفريّة لإحياء التراث ـ قم المقدّسة
الموضوع : الفقه
الناشر: منبع
الطبعة: ١
الصفحات: ٣٣٦

وصحيحة عليّ بن جعفر عن أخيه موسى عليه‌السلام ، قال : سألته عن النصرانيّ يغتسل مع المسلم في الحمّام ، فقال : «إذا علم أنّه نصرانيّ اغتسل بغير ماء الحمّام إلّا أن يغتسل وحده على الحوض فيغسله ثمّ يغتسل» وسألته عن اليهوديّ والنصرانيّ يدخل يده في الماء أيتوضّأ منه للصلاة؟ قال : «لا ، إلّا أن يضطرّ إليه» (١).

وعن الشيخ أنّه حمل الاضطرار على التقيّة (٢) حتّى لا ينافي نجاسته.

وصحيحته الأخرى عن أخيه موسى عليه‌السلام ، قال : سألته عن فراش اليهوديّ والنصرانيّ ينام عليه ، قال : «لا بأس ولا يصلّى في ثيابهما» وقال : «لا يأكل المسلم مع المجوس في قصعة واحدة ، ولا يقعده في فراشه ولا مسجده ، ولا يصافحه» قال : وسألته عن رجل اشترى ثوبا من السوق للّبس لا يدري لمن كان هو ، هل تصلح الصلاة فيه؟ قال : «إن اشتراه من مسلم فليصلّ فيه ، وإن اشتراه من نصرانيّ فلا يصلّي فيه حتّى يغسله» (٣).

وروايته الأخرى أيضا عن أخيه موسى عليه‌السلام ، قال : سألته عن مؤاكلة المجوسي في قصعة واحدة وأرقد معه على فراش واحد وأصافحه ، قال : «لا» (٤).

ورواية هارون بن خارجة ، قال : قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام : إنّي أخالط المجوس فآكل من طعامهم ، فقال : «لا» (٥).

__________________

(١) التهذيب ١ : ٢٢٣ / ٦٤٠ ، الوسائل ، الباب ١٤ من أبواب النجاسات ، ح ٩.

(٢) كما في كتاب الطهارة ـ للشيخ الأنصاري ـ : ٣٤٩ ، ولم نعثر عليه في التهذيب ، وحمله على التقيّة أيضا البحراني في الحدائق الناضرة ٥ : ١٦٧.

(٣) التهذيب ١ : ٢٦٣ / ٧٦٦ ، الوسائل ، الباب ١٤ من أبواب النجاسات ، ح ١٠.

(٤) الكافي ٦ : ٢٦٤ / ٧ ، الوسائل ، الباب ١٤ من أبواب النجاسات ، ح ٦.

(٥) الكافي ٦ : ٢٦٤ / ٨ ، الوسائل ، الباب ١٤ من أبواب النجاسات ، ح ٧.

٢٤١

ومفهوم رواية سماعة قال : سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن طعام أهل الكتاب ما يحلّ منه؟ قال : «الحبوب» (١).

وصحيحة محمّد بن مسلم ، قال : سألت أبا جعفر عليه‌السلام عن آنية أهل الذمّة والمجوس ، فقال : «لا تأكلوا (٢) من طعامهم الذي يطبخون ولا في آنيتهم التي يشربون فيها الخمر» (٣).

والإنصاف أنّه لا إشعار في أغلب هذه الأخبار بالنجاسة فضلا عن الدلالة عليها.

أمّا صحيحة محمّد بن مسلم ، الأخيرة : فهي على خلاف المطلوب أدلّ ، لأنّ ظاهرها انحصار المنع بالأكل في آنيتهم التي يشربون فيها الخمر ، دون ما يشربون فيها الماء ونحوه من الأشياء المحلّلة.

وأمّا المنع من أكل طعامهم الذي يطبخون : فيحتمل قويّا أن يكون لأجل عدم تجنّبهم عن مزجه بالأشياء المحرّمة من الميتة ولحم الخنزير وشحمه وغير ذلك ممّا لا يتحرّزون عنه ، ولا أقلّ من كون أوانيهم المعدّة للطبخ متنجّسة بمثل هذه الأمور ، فلا يدلّ على أنّ المنع منه ليس إلّا لأجل مباشرتهم برطوبة مسرية حتى يستفاد منه نجاستهم.

__________________

(١) الكافي ٦ : ٢٦٣ / ٢ ، التهذيب ٩ : ٨٨ ـ ٨٩ / ٣٧٥ ، الوسائل ، الباب ٥١ من أبواب الأطعمة المحرّمة ، ح ٢.

(٢) في المصدر زيادة «في آنيتهم ولا».

(٣) الكافي ٦ : ٢٦٤ / ٥ ، التهذيب ٩ : ٨٨ / ٣٧٢ ، الوسائل ، الباب ١٤ من أبواب النجاسات ، ح ١ ، وكذا الباب ٥٤ من أبواب الأطعمة المحرّمة ، ح ٣.

٢٤٢

كيف! ولو كان هذا هو العلّة للمنع ، لكان الأنسب المنع من أكل كلّ ما باشروه برطوبة مسرية ، لا خصوص طعامهم الذي يطبخونه.

وبهذا ظهر لك قصور سائر الأخبار الناهية عن أكل طعامهم عن إثبات المدّعى.

ولعلّ ما أشرنا إليه هو الوجه لما في الأخبار (١) المستفيضة الواردة في تفسير قوله تعالى (وَطَعامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ حِلٌّ لَكُمْ) (٢) من تخصيصه بالحبوب ، بل في بعض (٣) تلك الأخبار إشعار بذلك.

وأمّا صحيحة عليّ بن جعفر عليه‌السلام ، الاولى : فمفادها جواز الوضوء بالماء الذي يدخل اليهوديّ والنصرانيّ يده فيه لدى الضرورة ، وهو ينافي نجاسته ، كما أشرنا إليه.

وما عن الشيخ ـ من حمل الاضطرار على التقيّة (٤) ـ بعيد ، فإنّ ظاهرها الاضطرار إلى الوضوء منه بانحصار الماء فيه ، لا الاضطرار إلى أن يتوضّأ بالماء النجس لصلاته تقيّة.

وما في صدر هذه الصحيحة ـ من حكم الاغتسال في الحمّام الذي اغتسل فيه النصراني ـ فلا يخلو وجهه عن إجمال لا يكاد يستفاد منها نجاسة النصرانيّ

__________________

(١) منها ما في الكافي ٦ : ٢٦٤ / ٦ ، وتفسير العياشي ١ : ٢٩٦ / ٣٧ ، وعنهما في الوسائل ، الباب ٥١ من أبواب الأطعمة المحرّمة ، ح ٣ و ٨.

(٢) المائدة ٥ : ٥.

(٣) الكافي ٦ : ٢٤٠ / ١٠ ، و ٢٤١ / ١٧ ، التهذيب ٩ : ٦٤ / ٢٧٠ ، الوسائل ، الباب ٢٦ من أبواب الذبائح ، ح ١ و ٦.

(٤) راجع الهامش (٢) من ص ٢٤١.

٢٤٣

من حيث هو ، كما لا يخفى على المتأمّل.

وأمّا صحيحته الثانية ـ المشتملة على المنع من الصلاة في ثيابهما والأكل مع المجوس في قصعة واحدة وتمكينه من الجلوس في فراشه ومسجده والمصافحة معه والنهي عن الصلاة في الثوب الذي اشتراه من النصرانيّ إلّا أن يغسله ـ فلا بدّ من تأويلها أو حملها على الاستحباب ، لعدم إمكان العمل بظاهرها على الإطلاق.

نعم ، يمكن ذلك في خصوص المنع من الصلاة في ثيابهما على تقدير نجاستهما ، نظرا إلى غلبة ملاقاتهما لثيابهما مع الرطوبة المسرية ، فيكون إطلاق المنع منزّلا على الغالب ، فعلى هذا يتمّ الاستشهاد بهذه الفقرة للمدّعى.

لكن لقائل أن يقول : كما أنّ الغالب ملاقاتهما لثوبهما برطوبة مسرية ، كذلك الغالب عدم خلوّ ثوبهما وجسدهما الملاقي للثوب مع الرطوبة عن النجاسة العرضيّة ، فلا ينحصر وجه المنع بكون الثوب ملاقيا لجسدهما من حيث هو حتّى يتمّ به الاستدلال.

وأمّا روايته الثالثة : فلا يبعد أن يكون ما فيها من المنع من الأشياء المذكورة في السؤال بلحاظ كونها نحوا من الموادّة المنهيّ (١) عنها ، وإلّا فمجرّد نجاستهم لا تقتضي إلّا المنع من بعض تلك الأشياء في الجملة لا مطلقا.

والحاصل : أنّه لا يمكن استفادة نجاسة أهل الكتاب من الأحكام المذكورة في هذه الروايات ، لعدم الملازمة بينها وبين النجاسة لا عقلا ولا عرفا ولا شرعا.

__________________

(١) المجادلة ٥٨ : ٢٢.

٢٤٤

وما يمكن الاستشهاد به للمدّعى من الأخبار المتقدّمة إنّما هو موثّقة سعيد وصحيحة محمّد بن مسلم ، الاولى ، ورواية أبي بصير ، فإنّ المتبادر من النهي عن أكل سؤرهم وشربه ـ كما في الموثّقة ـ بواسطة القرائن المغروسة في أذهان المتشرّعة : المنع منه ، لقذارته شرعا ، لا الحرمة تعبّدا.

وحمله على الكراهة ـ كالنواهي المتعلّقة بالأسآر المكروهة ، كسؤر الفأرة ونحوها ـ خلاف الظاهر.

وكذا المتبادر من الأمر بغسل اليد الملاقية للكتابي بالمصافحة ـ كما في الخبرين الأخيرين (١) ـ نجاستها ، وكون الأمر بغسلها ناشئا منها ، فحمله على إرادة الوجوب التعبّدي بعيد ، مع مخالفته لفتوى الأصحاب.

وحمله على الاستحباب ـ كما في غسل الثوب من بول الحمار ونحوه ـ غير بعيد ، لكنّه خلاف ظاهر الأمر.

لكن بناء على إرادة ظاهره من الوجوب الشرطي يجب تقييده بما إذا كانت الملاقاة برطوبة مسرية ، جمعا بينه وبين ما دلّ على أنّ «كلّ يابس ذكيّ» (٢) فيدور الأمر بين التقييد بقرينة منفصلة ، وبين حمل الأمر على الاستحباب.

ولا يبعد أن يكون الأوّل أولى خصوصا مع اعتضاده بفهم الأصحاب وفتواهم ، فيتمّ به الاستدلال.

__________________

(١) أي : صحيحة محمّد بن مسلم ورواية أبي بصير ، المتقدّمتان في ص ٢٤٠.

(٢) التهذيب ١ : ٤٩ / ١٤١ ، الإستبصار ١ : ٥٧ / ١٦٧ ، الوسائل ، الباب ٣٢ من أبواب أحكام الخلوة ، ح ٥.

٢٤٥

واحتمال كون الأمر بالغسل في الروايتين (١) ، وكذا النهي عن سؤرهم في الرواية الأولى (٢) ناشئا من نجاستهم العرضيّة ، فإنّ الغالب نجاسة ظاهر بدنهم ، لأنّهم لا يغتسلون ولا يتطهّرون ، مدفوع : بأنّ الغلبة لا توجب القطع بالنجاسة في خصوصيّات الموارد حتّى يجب الاجتناب عنهم مطلقا ، كما يقتضيه ظاهر الروايات ، مع أنّ مقتضى ظاهرها سببيّة نفس العنوان المذكور فيها للحكم ، فليتأمّل.

لكن ربما يؤيّد إرادة الاستحباب التفكيك بين المصافحة من وراء الثوب وبدونه ، كما في رواية (٣) أبي بصير ، فإنّ ظاهرها نفي البأس عن المصافحة من وراء الثياب ، مع أنّه لو كانت المصافحة برطوبة مسرية ، وجب غسل الثوب الملاقي لليهوديّ أو النصرانيّ ، بناء على نجاستهما ، وإلّا لم يجب غسل اليد أيضا لو لم تكن من وراء الثياب.

ويؤيّده أيضا رواية القلانسي ، قال : قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام : ألقى الذمّي فيصافحني ، قال : «امسحها بالتراب أو بالحائط» قلت : فالناصب ، قال : «اغسلها» (٤) فإنّ مقتضى الاجتزاء بمسح اليد عدم نجاستها.

وحملها على عدم الرطوبة فيكون المسح مستحبّا تعبّدا ينافيه الأمر بغسلها في الفقرة الأخيرة ، فإنّ سوق الرواية يشهد باتّحاد المراد بالفقرتين.

__________________

(١) أي روايتا محمّد بن مسلم وأبي بصير ، المتقدّمتان في ص ٢٤٠.

(٢) أي موثّقة سعيد الأعرج ، المتقدّمة في ص ٢٤٠.

(٣) المتقدّمة في ص ٢٤٠.

(٤) الكافي ٢ : ٦٥٠ / ١١ ، الوسائل ، الباب ١٤ من أبواب النجاسات ، ح ٤.

٢٤٦

اللهمّ إلّا أن يراد بالغسل أيضا الاستحباب.

ويؤيّده أيضا مرسلة الوشّاء عن أبي عبد الله عليه‌السلام أنّه كره سؤر ولد الزنا وسؤر اليهوديّ والنصرانيّ والمشرك وكلّ ما (١) خالف الإسلام ، وكان أشدّ ذلك عنده سؤر الناصب (٢).

لكن يحتمل قويّا إرادة الحرمة من الكراهة ، فإنّ إرادتها منها بلحاظ معناها اللغوي غير عزيز في الأخبار.

واستدلّ القائلون بالطهارة : بالأصل ، وعموم قوله تعالى (وَطَعامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ حِلٌّ لَكُمْ) (٣) وبالأخبار المستفيضة :

منها : صحيحة إسماعيل بن جابر قال : قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام : ما تقول في طعام أهل الكتاب؟ فقال : «لا تأكله» ثمّ سكت هنيئة ، ثمّ قال : «لا تأكله» [ثمّ سكت هنيئة ، ثمّ قال : «لا تأكله] (٤) ولا تتركه تقول : إنّه حرام ، ولكن تتركه تنزّها عنه ، إنّ في آنيتهم الخمر ولحم الخنزير» (٥).

وهذه الرواية مع صراحتها في عدم الحرمة تصلح قرينة بمدلولها اللفظي على صرف الأخبار الظاهرة في الحرمة أو النجاسة عن ظاهرها ، كصحيحة عليّ بن

__________________

(١) في الاستبصار : «من» بدل «ما».

(٢) الكافي ٣ : ١١ / ٦ ، التهذيب ١ : ٢٢٣ / ٦٣٩ ، الإستبصار ١ : ١٨ / ٣٧ ، الوسائل ، الباب ٣ من أبواب الأسئار ، ح ٢.

(٣) المائدة ٥ : ٥.

(٤) ما بين المعقوفين من المصدر.

(٥) الكافي ٦ : ٢٦٤ / ٩ ، التهذيب ٩ : ٨٧ / ٣٦٨ ، الوسائل ، الباب ٥٤ من أبواب الأطعمة المحرّمة ، ح ٤.

٢٤٧

جعفر ، المتقدّمة (١) الدالّة على جواز الوضوء للصلاة بالماء الذي باشره اليهوديّ أو النصرانيّ لدى الضرورة.

ومنها : صحيحة العيص بن القاسم ، أنّه سأل أبا عبد الله عليه‌السلام عن مؤاكلة اليهوديّ والنصرانيّ ، فقال : «لا بأس إذا كان من طعامك» وسألته عن مؤاكلة المجوسيّ ، فقال : «إذا توضّأ فلا بأس» (٢).

وصحيحة إبراهيم بن أبي محمود ، قال : قلت للرضا عليه‌السلام : الجارية النصرانيّة تخدمك وأنت تعلم أنّها نصرانيّة لا تتوضّأ ولا تغتسل من جنابة ، قال : «لا بأس تغسل يديها» (٣).

وهذه الصحيحة تدلّ على المدّعى قولا وتقريرا.

ونحوها صحيحته الأخرى ، قال : قلت للرضا عليه‌السلام : الخيّاط أو القصّار يكون يهوديّا أو نصرانيّا وأنت تعلم أنّه يبول ولا يتوضّأ ما تقول في عمله؟ قال : «لا بأس» (٤).

ورواية زكريّا بن إبراهيم ، قال : دخلت على أبي عبد الله عليه‌السلام ، فقلت : إنّي رجل من أهل الكتاب وإنّي أسلمت وبقي أهلي كلّهم على النصرانيّة وأنا معهم في بيت واحد لم أفارقهم فآكل من طعامهم؟ فقال : «يأكلون لحم الخنزير؟» قلت :

__________________

(١) في ص ٢٤١.

(٢) الفقيه ٣ : ٢١٩ / ١٠١٦ ، التهذيب ٩ : ٨٨ / ٣٧٣ ، الوسائل ، الباب ٥٣ من أبواب الأطعمة المحرّمة ، ح ٤.

(٣) التهذيب ١ : ٣٩٩ / ١٢٤٥ ، الوسائل ، الباب ١٤ من أبواب النجاسات ، ح ١١.

(٤) التهذيب ٦ : ٣٨٥ / ١١٤٢ ، وعنه في الوافي ٦ : ٢٠٩ / ٤١٢٨ ـ ٢٥.

٢٤٨

لا ، ولكنّهم يشربون الخمر ، فقال لي : «كل معهم واشرب» (١).

وموثّقة عمّار عن أبي عبد الله عليه‌السلام : قال : سألته عن الرجل هل يتوضّأ من كوز أو إناء غيره إذا شرب على أنّه يهوديّ؟ قال : «نعم» قلت : فمن ذلك الماء الذي يشرب منه؟ قال : «نعم» (٢).

ورواية أبي جميلة عن أبي عبد الله عليه‌السلام أنّه سأله عن ثوب المجوسيّ ألبسه وأصلّي فيه؟ قال : «نعم» قلت : يشربون الخمر ، قال : «نعم ، نحن نشتري الثياب السابريّة فنلبسها ولا نغسلها» (٣).

ورواية الاحتجاج عن محمّد بن عبد الله بن جعفر الحميري أنّه كتب إلى صاحب الزمان عليه‌السلام : عندنا حاكة مجوس يأكلون الميتة ولا يغتسلون من الجنابة وينسجون لنا ثيابا فهل تجوز الصلاة فيها من قبل أن تغسل؟ فكتب إليه في الجواب «لا بأس بالصلاة فيها» (٤).

ورواية أبي على البزّاز عن أبيه قال : سألت جعفر بن محمّد عليه‌السلام عن الثوب يعمله أهل الكتاب أصلّي فيه قبل أن يغسل؟ قال : «لا بأس وإن يغسل أحبّ إليّ» (٥).

وعن معاوية بن عمّار ، قال : سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن الثياب السابريّة

__________________

(١) التهذيب ٩ : ٨٧ / ٣٦٩ ، الوسائل ، الباب ٥٤ من أبواب الأطعمة المحرّمة ، ح ٥.

(٢) التهذيب ١ : ٢٢٣ ـ ٢٢٤ / ٦٤١ ، الإستبصار ١ : ١٨ / ٣٨ ، الوسائل ، الباب ٣ من أبواب الأسئار ، ح ٣.

(٣) الفقيه ١ : ١٦٨ / ٧٩٤ ، الوسائل ، الباب ٧٣ من أبواب النجاسات ، ح ٧.

(٤) الاحتجاج : ٤٨٤ ، الوسائل ، الباب ٧٣ من أبواب النجاسات ، ح ٩.

(٥) التهذيب ٢ : ٢١٩ / ٨٦٢ ، الوسائل ، الباب ٧٣ من أبواب النجاسات ، ح ٥.

٢٤٩

يعملها المجوس وهم أخباث وهم يشربون الخمر ونساؤهم على تلك الحال ، ألبسها ولا أغسلها وأصلّي فيها؟ قال : «نعم» قال معاوية : فقطعت له قميصا وخطته وفتلت له أزرارا ورداء من السابري ثمّ بعثت بها إليه في يوم الجمعة حين ارتفع النهار ، فكأنّه عرف ما أريد ، فخرج بها إلى الجمعة (١).

إلى غير ذلك من الأخبار الدالّة على جواز استعمال الثياب التي يعملها أهل الكتاب.

وحملها على إرادة الثياب التي لم يعلم ملاقاتهم لها برطوبة مسرية أسوأ من طرحها.

ويؤيّده بل يدلّ عليه أيضا : الأخبار الكثيرة الدالّة على جواز مخالطة الكتابي.

مثل ما دلّ على جواز تزويج الكتابيّة (٢) واتّخاذها ظئرا (٣) ، وجواز إعارة الثوب للكتابي ولبسه بعد استرداده من غير أن يغسله (٤) ، وتغسيل الكتابي للميّت المسلم عند فقد المماثل والمحرم (٥) ، ونحو ذلك من غير إشعار في شي‌ء منها بالتجنّب عمّا يلاقيه برطوبة مسرية مع قضاء العادة بعدم التحفّظ عنه ما لم يكن متعمّدا في ذلك ، بل في بعض تلك الأخبار تقرير للسائل فيما زعمه من طهارة

__________________

(١) التهذيب ٢ : ٣١٦ / ١٤٩٧ ، الوسائل ، الباب ٧٣ من أبواب النجاسات ، ح ١.

(٢) راجع : الوسائل ، الباب ٢ من أبواب ما يحرم بالكفر ونحوه.

(٣) راجع : الوسائل ، الباب ٧٦ من أبواب أحكام الأولاد.

(٤) التهذيب ٢ : ٣٦١ / ١٤٩٥ ، الإستبصار ١ : ٣٩٢ ـ ٣٩٣ / ١٤٩٧ ، الوسائل ، الباب ٧٤ من أبواب النجاسات ، ح ١.

(٥) التهذيب ١ : ٣٤٠ ـ ٣٤١ / ٩٩٧ ، الوسائل ، الباب ١٩ من أبواب غسل الميّت ، ح ١.

٢٥٠

الكتابي.

كصحيحة عبد الله بن سنان ، قال : سأل أبي أبا عبد الله عليه‌السلام ـ وأنا حاضر ـ إنّي أعير الذمّيّ ثوبا وأنا أعلم أنّه يشرب الخمر ويأكل لحم الخنزير ثمّ يردّه عليّ فأغسله قبل أن أصلّي فيه؟ فقال أبو عبد الله عليه‌السلام : «صلّ فيه ولا تغسله من أجل ذلك ، فإنّك أعرته إيّاه وهو طاهر ولم تستيقن أنّه نجّسه ، فلا بأس» (١).

إلى غير ذلك من الأخبار التي يقف عليها المتتبّع.

ويدلّ عليه أيضا مخالطة الأئمّة عليهم‌السلام وخواصّهم مع عامّة الناس من الخاصّة والعامّة الذين لا يتحرّزون عن مساورة أهل الكتاب مع قضاء العادة باستحالة بقاء ما في أيديهم من المأكول والمشروب والملبوس وما يتعلّق بهم من أثاث بيتهم على طهارته على تقدير نجاسة اليهود والنصارى.

ويرد على هذا الدليل : النقض بسائر النجاسات ، فإنّ عامّة الناس لا يتحرّزون عنها ولا أقلّ من ابتلاء بعضهم بها في الجملة ولو في حال الجهل ، فتسري النجاسة منها إلى جميع ما في أيدي الناس بواسطة الاختلاط ، فهذه شبهة سارية متعلّقها مسألة كون المتنجّس منجّسا ، لا خصوص المقام ، وسيأتي الكلام في حلّها إن شاء الله.

وأجيب عن الأصل : بانقطاعه بالدليل.

وعن الآية : بأنّها مفسّرة في الأخبار المستفيضة بالحبوب (٢) ، فلا يصحّ

__________________

(١) التهذيب ٢ : ٣٦١ / ١٤٩٥ ، الإستبصار ١ : ٣٩٢ ـ ٣٩٣ / ١٤٩٧ ، الوسائل ، الباب ٧٤ من أبواب النجاسات ، ح ١.

(٢) راجع : الوسائل ، الباب ٥١ من أبواب الأطعمة المحرّمة.

٢٥١

التمسّك بإطلاقها للمدّعى.

وعن الأخبار الدالّة على الطهارة ، الغير القابلة للحمل على صورة عدم العلم وغيره من المحامل : بأنّها جارية مجرى التقيّة ، لموافقتها لمذهب العامّة.

واستشهد لذلك ببعض تلك الرويات.

مثل : رواية (١) زكريّا بن إبراهيم ، التي يظهر منها الفرق بين الخمر ولحم الخنزير ، فلو لا صدورها تقيّة ، لم يكن وجه لذلك.

وأوضح من ذلك رواية الكاهلي ، قال : سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن قوم مسلمين يأكلون ، فحضرهم رجل مجوسيّ أيدعونه إلى الطعام؟ فقال : «أمّا أنا فلا أؤاكل المجوسيّ ، وأكره أن أحرّم عليكم شيئا تصنعونه في بلادكم» (٢) فإنّ الظاهر من الرواية أنّ مؤاكلة المجوسي محرّمة من الله سبحانه ، لكنّي لا أحرّم من جهة شيوع ذلك في بلادكم ، فإنّها لو لا التقيّة ، لم يكن شيوع الارتكاب علّة لكراهة التحريم ، ولو لم يكن الحكم من الله التحريم ، لم يكن وجه لتعليل كراهة التحريم بشيوع الارتكاب في تلك البلاد.

ولا يخفى ما في هذا التقريب ، فإنّ التقيّة ليست مقتضية لأن يكره الإمام عليه‌السلام تحريم ما حرّمه الله تعالى ، فالظاهر أنّ مؤاكلة المجوسيّ من حيث هي ـ ولو بالنسبة إلى الخبز وغيره من الأطعمة الجامدة على ما يقتضيه إطلاق أدلّتها ـ من الأمور المكروهة التي يمقتها الله وأولياؤه عليهم‌السلام.

__________________

(١) تقدّمت الإشارة إلى مصدرها في ص ٢٤٩ ، الهامش (١).

(٢) الكافي ٦ : ٢٦٣ / ٤ ، الوسائل ، الباب ٥٣ من أبواب الأطعمة المحرّمة ، ح ٢.

٢٥٢

ولعلّ حكمته كونها نحوا من الموادّة الممقوتة ، لكنّ الإمام عليه‌السلام كره أن يكلّفهم بالمنع إرفاقا بهم وتوسعة عليهم.

فمراده بقوله عليه‌السلام : «أن أحرّم عليكم» إمّا مطلق المنع لا التحريم المصطلح.

أو التحريم الحقيقي ، لكن بلحاظ تعلّق أمر الإمام عليه‌السلام بتركه ، كما لو أمر الوالد ولده بترك بعض الأشياء المحلّلة لغرض صحيح ، وقد صرّح غير واحد بوجوب إطاعة الإمام عليه‌السلام في كلّ ما يأمر به وينهى عنه وإن لم يكن متعلّقه واجبا أو حراما شرعيّا بالذات ، فلا مقتضي لصرف الرواية عن ظاهرها ولو بناء على نجاسة المجوسيّ ، إذ لا مقتضي لحملها على إرادة خصوص المائعات التي تنفعل بملاقاة النجس ، فالمقصود بها بيان حكم المؤاكلة من حيث هي ، محرّمة كانت أو مكروهة.

وكيف كان فلا شهادة في هذه الرواية على كون الحكم بطهارة الكتابي في سائر الأخبار لأجل التقيّة.

وأضعف من ذلك الاستشهاد له برواية (١) زكريّا بن إبراهيم ، فإنّهم إن أكلوا لحم الخنزير يكون اللّحم أيضا من جملة طعامهم ، وربما يمزجونه في سائر أطعمتهم ، ولذا استفصل عنه الإمام عليه‌السلام عند إرادة بيان حكم طعامهم ، وأمّا الخمر فهو شراب مستقلّ لا يكون مانعا من حلّ طعامهم.

ألا ترى أنّه يصحّ أن نقول : يحلّ طعام شارب الخمر ، ولا يصحّ أن نقول : يحلّ طعام من يأكل لحم الخنزير إلّا بعد التقييد بخلوّ طعامه عنه ، فلعلّ الإمام عليه‌السلام استفصل عنه لإرادة تقييد الرخصة بصورة العلم بخلوّ طعامهم عنه أو عدم العلم

__________________

(١) تقدّمت الرواية في ص ٢٤٨.

٢٥٣

بوجوده فيه.

هذا ، مع أنّه يظهر بالتدبّر فيما أسلفناه في مبحث نجاسة الخمر أنّ احتمال صدور الأخبار الدالّة على طهارتها تقيّة ليس بأقوى من احتمال كون ما دلّ على نجاستها كذلك.

فالإنصاف أنّه ليس في شي‌ء من أخبار الطهارة ما يشعر بصدورها تقيّة فضلا عن أن يدلّ على ذلك دلالة معتبرة مصحّحة لطرح هذه الأخبار الكثيرة ، فلا يجوز رفع اليد عن مثل هذه الروايات إلّا بدليل معتبر.

والذي يقتضيه الجمع بينها وبين أخبار النجاسة إنّما هو ارتكاب التأويل في تلك الأخبار ، فإنّ أخبار الطهارة لو لم تكن نصّا فلا أقلّ من كونها أظهر دلالة من تلك الروايات.

مع ما أشرنا إليه من أن جملة من هذه الروايات تصلح أن تكون بمدلولها اللفظي قرينة لصرف تلك الروايات عن ظاهرها ، خصوصا مع ما عرفت من وهن دلالة تلك الأخبار على النجاسة ، بل إمكان منع ظهورها فيها.

اللهمّ إلّا أن يدّعى انجبار ضعف دلالتها ـ كسندها ـ بفهم الأصحاب وعملهم ، لكن لا يكفي ذلك في ترجيحها على أخبار الطهارة بعد عدم التنافي وإمكان الجمع عرفا مع وجود الشاهد عليه.

إلّا أن يقال : إنّ إعراض المشهور عن أخبار الطهارة أسقطها عن الاعتبار ، فأخبار النجاسة على هذا التقدير حجّة سليمة من المعارض يجب الأخذ بظاهرها.

لكنّ الاقتناع بهذا القول في طرح مثل هذه الأخبار أراه مجرّد التقليد

٢٥٤

والتصديق من غير تصوّر ، فلا بدّ من تحقيق هذا القول.

فنقول : لا شبهة في أنّ إعراض أصحابنا ـ رضوان الله عليهم ـ عن رواية واصلة إلينا بواسطتهم مع شدّة اهتمامهم بالتعبّد بما وصل إليهم من الأئمّة عليهم‌السلام مانع من حصول الوثوق بكون ما تضمّنته تلك الرواية بظاهرها حكما شرعيّا واقعيّا ، وكلّما ازدادت الرواية قوّة من حيث السند والدلالة والسلامة من المعارض المكافئ ـ كما فيما نحن فيه ـ ازدادت وهنا ، فيكون إعراضهم عن الرواية أمارة إجماليّة كاشفة عن خلل فيها من حيث الصدور أو جهة الصدور أو الدلالة ، أو من حيث ابتلائها بمعارض أقوى.

لكنّك خبير بعدم كونه موجبا للقطع بالخلل غالبا ، وعلى تقدير حصول القطع بذلك فلا بحث فيه ، لأنّ القاطع مجبول على اتّباع قطعه ، ولا يعقل أن يكلّف بالعمل برواية يقطع بعدم كون مضمونها حكم الله في حقّه.

ولكنّ الكلام إنّما هو بالنسبة إلى من لم يقطع بذلك بحيث يصحّ عقلا أن يتعبّد بالعمل بالخبر الذي أعرض عنه الأصحاب ، فإعراض الأصحاب عنه بالنسبة إليه أمارة ظنّيّة لا دليل على اعتبارها ، فإن أثّرت وهنا في الرواية من حيث السند بأن منعتها من إفادة الوثوق بصدورها ، سقطت الرواية عن الحجّيّة ، بناء على اعتبار الوثوق بالصدور في حجّيّة الخبر أو عدم وهنه بأمارة الخلاف ، وأمّا بناء على كفاية مجرّد وثاقة الراوي أو عدالته وعدم اشتراط الوثوق الشخصي في خصوصيّات الموارد فلا وجه لرفع اليد عنه بواسطة أمارة غير معتبرة ، كما أنّه لا وجه لرفع اليد عن دلالته أو ظهوره في كونه مسوقا لبيان الحكم الواقعي لذلك.

٢٥٥

اللهمّ إلّا أن يقال باشتراط حجّيّة الظواهر بالظنّ الشخصيّ ، أو عدم الظنّ بخلافها. ولكنّه خلاف التحقيق.

وكيف كان فأخبار الباب الدالّة على الطهارة ـ لتكاثرها أو تظافرها وصحّة أسانيدها واعتضاد بعضها ببعض ـ أجلّ من أن يطرأ عليها وهن في سندها أو دلالتها ، لإمكان دعوى القطع بصدور أغلبها لو لم نقل بذلك في كلّها ، كما ذهب إليه بعض ، فلا يتطرّق إليها الوهن من حيث السند.

وأمّا دلالتها فهي من القوّة بمكان كاد يكون بعضها نصّا في المدّعى ، فلا نجد في نفوسنا ريبة في دلالتها ، وإنّما الريبة التي تتطرّق إليها إنّما هي في جهة صدورها ، فيتقوّى بإعراض المشهور عنها احتمال كونها صادرة عن تقيّة ونحوها من الأمور المقتضية لإظهار خلاف الواقع.

لكن احتمال صدورها من الإمام عليه‌السلام تقيّة منه في القول ـ بمعنى كونه عليه‌السلام متّقيا في مقام بيان الحكم ـ بعيد عن مصبّ الروايات ، كما لا يخفى على المتأمّل.

فالذي يحتمل قويّا كونها صادرة لأجل التقيّة في مقام العمل ، بمعنى أنّه قصد بها أن يعمل السائلون على ما يوافق مذهب العامّة كيلا يصيبهم منهم سوء.

ولا مبعّد لهذا الاحتمال عدا الآثار الوضعيّة الثابتة للنجاسات ، فإنّه لو لم يكن لها إلّا الأحكام التكليفيّة التي يرفعها دليل نفي الحرج ونحوه ، لكان الأمر فيها هيّنا.

لكن على تقدير نجاسة الكتابي وتنجّس من خالطه واستلزام تنجّسه بطلان وضوئه وغسله المتوقّف عليهما صلاته وصومه وسائر عباداته المتوقّفة

٢٥٦

على الطهور لدى قدرته من تطهير بدنه واستعمال الماء الطاهر أو التيمّم بدلا منهما لدى العجز عن التطهير ، فمن المستبعد جدّا أن يأمر الإمام عليه‌السلام بمخالطتهم ومساورتهم من غير أن يبيّن لهم نجاستهم حتّى يتحفّظوا عنها في طهورهم وصلاتهم ولو بالتيمّم بدلا من الوضوء والغسل ، مع أنّ العادة قاضية بقدرتهم على التيمّم غالبا من غير أن يترتّب عليه مفسدة.

هذا ، مع إمكان دعوى القطع بأنّه لم يكن تكليفهم في زمان مخالطتهم مع اليهود التيمّم وترك الوضوء والغسل ، مع أنّه لو كان بدنهم نجسا ، لكان تكليفهم التيمّم عند عدم قدرتهم على التطهير.

اللهمّ إلّا أن يلتزم بالعفو عن النجاسة مع عموم الابتلاء بها ، وكون التجنّب عنها موجبا للحرج ، وعلى هذا التقدير لا حاجة لحمل الأخبار على التقيّة ، بل تحمل على صورة الضرورة وتعسّر التجنّب عن مساورتهم ولو بالوسائط ، كما هو الغالب بالنسبة إلى مواردها ، فليتأمّل.

وكيف كان فحمل الأخبار على التقيّة لا يخلو عن بعد ، وعلى تقدير قرب احتماله لا يكفي ذلك في الحمل ، مع مخالفته للأصل ما لم يدلّ عليه دليل معتبر ، وقد أشرنا إلى أنّ مجرّد الإعراض لا يصلح دليلا عليه.

اللهمّ إلّا أن يدّعى إفادته للقطع بعدم كونها مسوقة لبيان الحكم الواقعي.

وعهدتها على مدّعيها ، فهي لا تنهض حجّة على من لم يقطع بذلك حتّى يجوز له طرح الأخبار المعتبرة ، كما أنّ الشهرة ونقل الإجماع على الفتوى بل الإجماع المحقّق أيضا كذلك ما لم يوجب القطع بموافقة الإمام عليه‌السلام.

٢٥٧

ودعوى أنّه سبب عادي للقطع بالموافقة غير مجدية بعد أن لم يجد الإنسان من نفسه القطع الذي هو أمر وجدانيّ لا تجوز مخالفته عقلا ، والطبع مجبول على اتّباعه قهرا.

وبهذا ظهر لك ضعف الاستدلال للنجاسة : بالشهرة ونقل الإجماع وغيرهما من المؤيّدات التي تقدّمت الإشارة إليها.

لكن لقائل أن يقول : إنّ ما ذكر من أدلّة النجاسة وإن لا يصلح شي‌ء منها في حدّ ذاته لإثبات المدّعى في مقابلة هذه الأخبار الكثيرة ، لكن ربما يحصل ـ بملاحظة المجموع من نقل الإجماع والشهرة وشذوذ المخالف ومغروسيّته في أذهان المتشرّعة على وجه صار لديهم نظير الضروريّات الثابتة في الشريعة ، التي يعرفها العوام والنساء والصبيان ، وغيرها من المؤيّدات المعاضدة لظواهر أخبار النجاسة ـ الجزم بنجاستهم وكون أخبار الطهارة مؤوّلة أو معلولة.

والإنصاف أنّ هذه الدعوى قريبة جدّا ، فإنّه ربما يحصل بملاحظة معروفيّته في الشريعة لدى العوام والخواصّ وتجنّبهم عن مساورة أهل الكتاب الجزم بالحكم ، لكونها ـ كالسيرة القطعيّة ـ كاشفة عن رأي المعصوم.

لكنّ الذي يوهنها في خصوص المقام السير في أخبار الباب ، فإنّها تشهد بحدوث هذه السيرة وتأخّرها عن عصر الأئمّة عليهم‌السلام ، لشهادة جلّها بخلوّ أذهان السائلين ـ الذين هم من عظماء الشيعة ورواة الأحاديث ـ عن احتمال نجاستهم الذاتيّة ، وأنّ الذي أوقعهم في الريبة الموجبة للسؤال عدم تجنّبهم عن النجاسات ، حتّى أنّ محمّد بن عبد الله بن جعفر الحميري ـ الذي كتب إلى صاحب

٢٥٨

الزمان ـ عجّل الله تعالى فرجه ـ في زمان الغيبة ـ استشكل في الصلاة في الثياب المتّخذة من المجوس بواسطة أنّهم يأكلون الميتة ولا يغتسلون من الجنابة (١) ، فيستفاد من مثل هذا السؤال : أنّ احتمال نجاسة المجوس ذاتا لم يكن طارقا بذهنه ، وإلّا لكان الفحص عن حكم الثياب بملاحظتها أولى ، فيظنّ بمثل هذه الأسئلة أنّ معروفيّتها لدى العوام ومغروسيّتها في أذهانهم نشأت من شهرة القول بها بين العلماء الذين هم مرجع تقليد العوام ، وهي في حدّ ذاتها لا تفيد الجزم بالحكم خصوصا مع قوّة احتمال كون مستند المشهور في الحكم بالنجاسة ـ كما يساعد عليه مراجعة كتبهم ـ استظهارها من الآية الشريفة ببعض التقريبات المتقدّمة ، فلم يجوّزوا رفع اليد عن ظاهر الكتاب بأخبار الطهارة إمّا بناء منهم على أنّها أخبار آحاد ، ولا يجوز تخصيص الكتاب بها ، أو لزعمهم ابتلاء المخصّص بالمعارض ، أو غير ذلك من جهات الترجيح ، فلا وثوق بوصول الحكم إليهم يدا بيد عن معصوم عليه‌السلام ، أو عثورهم على دليل معتبر غير ما بأيدينا من الأدلّة.

والحاصل : أنّه لا يجوز طرح الأخبار الدالّة على الطهارة أو المؤيّدة لها ـ التي لا تتناهى كثرة ـ بمثل هذه التلفيقات التي تشبّث بها القائلون بالنجاسة حتّى ألحق المسألة بعضهم بالبديهيّات التي رأى التكلّم فيها تضييعا للعمر ، مع أنّه لا يرجع شي‌ء منها إلى دليل يعتدّ به ، عدا ظواهر أخبار النجاسة التي عرفت حالها.

فالحقّ أنّ المسألة في غاية الإشكال ولو قيل بنجاستهم بالذات والعفو عنها لدى عموم الابتلاء أو شدّة الحاجة إلى معاشرتهم ومساورتهم أو معاشرة من

__________________

(١) تقدّمت الإشارة إلى مصدره في ص ٢٤٩ ، الهامش (٤).

٢٥٩

يعاشرهم ، لمكان الحرج والضرورة ، كما يؤيّده أدلّة نفي الحرج.

ويشهد له صحيحة عليّ بن جعفر ، المتقدّمة (١) الدالّة على جواز الوضوء بما باشره اليهودي والنصراني لدى الضرورة.

والمنع منه في غيرها لم يكن بعيدا عمّا يقتضيه الجمع بين الأدلّة لو لم يكن مخالفا للإجماع ، إذ لا يكاد يستفاد من أغلب أخبار الطهارة أزيد من نفي البأس عن استعمال ما باشروه لدى الضرورة العرفيّة ، لورود جلّها في هذا الفرض ، ولا بعد فيه.

وقد التزم صاحب الحدائق بنحو ذلك في العامّة حيث قال بنجاستهم والعفو عنها لدى عموم الابتلاء بهم ، لمكان الحرج (٢). والله العالم بحقائق أحكامه.

تنبيه : ولد الكافرين يتبعهما في الحكم من النجاسة وجواز الأسر والتملّك على ما صرّح به غير واحد ، وظاهرهم كونه من المسلّمات التي لا يشوبها شائبة خلاف.

وعن عدّة من الكتب دعوى الإجماع عليه (٣).

ويشهد له ـ مضافا إلى الإجماع ـ السيرة المستمرّة على ترتيب آثار الكفر عليه من الأسر والتملّك.

وقد يسدل له أيضا بصحيحة ابن سنان ، قال : سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن

__________________

(١) في ص ٢٤١.

(٢) الحدائق الناضرة ٥ : ١٨٨.

(٣) لم نعثر على من حكاه عن عدّة كتب ، وفي الجواهر ٦ : ٤٤ حكى عن شرح الأستاذ نسبته للأصحاب مشعرا بدعوى الإجماع عليه.

٢٦٠