مصابيح الظلام - ج ٤

محمّد باقر الوحيد البهبهاني

مصابيح الظلام - ج ٤

المؤلف:

محمّد باقر الوحيد البهبهاني


المحقق: مؤسسة العلامة المجدّد الوحيد البهبهاني
الموضوع : الفقه
الناشر: مؤسسة العلامة المجدّد الوحيد البهبهاني
الطبعة: ١
ISBN: 964-94422-4-3
ISBN الدورة:
964-94422-0-0

الصفحات: ٥٣٣

فإنّ المراد من ما يؤكل لحمه ما يحلّ أكله شرعا ، للإجماع على طهارة بول ما يحلّ أكله ، وإن لم يكن معتادا أو متعارفا.

مضافا إلى ظهور كون الوصف علّة للطهارة ، كظهور كون وصف «لا يؤكل» علّة للنجاسة.

وظاهر ذلك كون الإباحة شرعا وعدمها كذلك علّة للطهارة والنجاسة ، لا اتّفاق كثرة أكله وعدمها ، فتأمّل!

وموثّقة عمّار عنه عليه‌السلام : «كلّ ما اكل لحمه فلا بأس بما يخرج منه» (١). والتقريب كما تقدّم.

وقويّة زرارة ـ بالقاسم بن عروة ـ عن أحدهما عليهما‌السلام : في أبوال الدواب تصيب الثوب فكرهه ، فقلت : أليس لحومها حلالا؟ قال : «بلى ، ولكن ليس ممّا جعله الله للأكل» (٢). إذ على القول بثبوت الحقيقة الشرعيّة فظاهر ، وأمّا على القول بعدمه ، فإنّ الكراهة ظاهرة في الأعم من الحرمة ـ أي المرجوحيّة المطلقة ـ فتكون ظاهرة في الكراهة الشرعيّة بانضمام الاصول ، أو بانضمام ظهور أنّ الأمر الحرام ـ في مقام جواب السؤال عن حلّيته أو حرمته ـ لا يؤدّى بالعبارة القاصرة عن إفادة الحرمة الظاهرة في مطلق المرجوحيّة ، فإنّ أهل العرف يفهمون منه مجرّد المرجوحيّة المساوق (٣) للكراهة الاصطلاحية.

ويؤيّده سؤال الراوي أنّه ليس بحرام الأكل ، فلم تكرهه؟ والجواب بتصديقه في ذلك وأنّ علّة النجاسة حرمة الأكل ، وعلّة عدمها عدمها ، إلّا أنّه تعالى لم يخلقها للأكل ، بل لأمور اخر ، فلذا كان أكلها مرجوحا ، فيصير بولها أيضا

__________________

(١) تهذيب الأحكام : ١ / ٢٦٦ الحديث ٧٨١ ، وسائل الشيعة : ٣ / ٤٠٩ الحديث ٤٠٠٥.

(٢) تهذيب الأحكام : ١ / ٢٦٤ الحديث ٧٧٢ ، وسائل الشيعة : ٣ / ٤٠٨ الحديث ٤٠٠٠.

(٣) في (ز ٣) و (ك) : المساوي.

٤٢١

مرجوحا بتبع الأكل.

ولا يخفى أنّ لحومها مكروهة عندنا ، إلّا من شذّ منّا في خصوص البغل (١) ، من غير ظهور دليل له علينا مع ضعفه ، فناسب ذلك كراهة بولها ، فتأمّل جدّا!

مع أنّ الشهرة العظيمة جابرة للسند مؤيّدة للدلالة.

ويدلّ على عدم نجاستها ما رواه في «الفقيه» بطريق صحيح إلى صفوان وابن أبي عمير عن أبي الأغر النخّاس (٢) ، وفي «الكافي» بطريق صحيح أيضا عنه عن الصادق عليه‌السلام أنّه قال له : إنّي اعالج الدواب ربّما خرجت بالليل وقد بالت وراثت فتضرب إحداها برجلها أو يدها فينضح على ثيابي فاصبح فأرى أثره فيه؟ فقال : «ليس عليك شي‌ء» (٣).

والسند منجبر بما قال في أوّل «الكافي» (٤) ، وما قال في أوّل «الفقيه» (٥) ، والشهرة العظيمة لو لم نقل بالإجماع.

ويعضدها أيضا أن صفوان وابن أبي عمير يرويان عن هذا الراوي كثيرا.

ومنه رواية «الفقيه» في المقام بطريق صحيح إليهما ، ومع ذلك موافقة للأصول وقاعدة متابعة البول للّحم الظاهرة من ملاحظة الأخبار.

ويدلّ أيضا على الطهارة رواية معلّى بن خنيس وابن أبي يعفور قالا : كنّا في جنازة وقربنا حمار فبال فجاءت الريح ببوله حتّى صكّت وجوهنا وثيابنا ، فدخلنا على الصادق عليه‌السلام فأخبرناه ، فقال : «ليس عليكم شي‌ء» (٦).

__________________

(١) الكافي في الفقه : ٢٧٧.

(٢) من لا يحضره الفقيه : ١ / ٤١ الحديث ١٦٤ ، وسائل الشيعة : ٣ / ٤٠٧ الحديث ٣٩٩٥.

(٣) الكافي : ٣ / ٥٨ الحديث ١٠ ، وسائل الشيعة : ٣ / ٤٠٧ الحديث ٣٩٩٥ مع اختلاف يسير.

(٤) الكافي : ١ / ٨.

(٥) من لا يحضره الفقيه : ١ / ٣.

(٦) تهذيب الأحكام : ١ / ٤٢٥ الحديث ١٣٥١ ، الاستبصار : ١ / ١٨٠ الحديث ٦٢٨ ، وسائل الشيعة :

٤٢٢

ويدلّ عليه أيضا رواية الحلبي عنه عليه‌السلام أنّه قال : «لا بأس بروث الحمير واغسل أبوالها» (١) ، لأنّ ابن الجنيد قائل بالمنع في البول والروث جميعا من غير فرق (٢) ، فيحمل الأمر بالغسل على الاستحباب ، لعدم القول بالفصل.

ومثلها كصحيحة أبي مريم عنه عليه‌السلام (٣) ، وكصحيح عبد الأعلى بن أعين عنه عليه‌السلام (٤) ، إذ فيهما الأمر بغسل البول ، وأمّا الروث ، فقال : «هو أكثر من ذلك» أي : أكثر من أن يجتنب عنه ، لأدائه إلى الحرج ، كما فهمه الأصحاب.

وفي «قرب الإسناد» : في الصحيح عن ابن رئاب ، عن الصادق عليه‌السلام عن الروث يصيب ثوبي وهو رطب ، قال : «إن لم تقذره فصلّ فيه» (٥).

فبعد ملاحظة عدم القائل بالفرق بين البول والروث ثبت المطلوب ، مع أنّ مذهب ابن الجنيد ثبت بطلانه.

والقول بالفصل معدوم في الشيعة ، فما دلّ على نجاسة خصوصية البول شاذّ ، يجب ترك العمل به.

وأجابوا عمّا دلّ على النجاسة بالحمل على الكراهة جمعا ، ويشهد له قويّة

__________________

٣ / ٤١٠ الحديث ٤٠٠٧ مع اختلاف يسير.

(١) الكافي : ٣ / ٥٧ الحديث ٦ ، تهذيب الأحكام : ١ / ٢٦٥ الحديث ٧٧٣ ، وسائل الشيعة : ٣ / ٤٠٦ الحديث ٣٩٩٤.

(٢) نقل عنه في مختلف الشيعة : ١ / ٤٥٧.

(٣) الكافي : ٣ / ٥٧ الحديث ٥ ، تهذيب الأحكام : ١ / ٢٦٥ الحديث ٧٧٥ ، الاستبصار : ١ / ١٧٨ الحديث ٦٢٣ ، وسائل الشيعة : ٣ / ٤٠٨ الحديث ٤٠٠١.

(٤) تهذيب الأحكام : ١ / ٢٦٥ الحديث ٧٧٦ ، الاستبصار : ١ / ١٧٩ الحديث ٦٢٥ ، وسائل الشيعة : ٣ / ٤٠٩ الحديث ٤٠٠٦.

(٥) قرب الإسناد : ١٦٣ الحديث ٥٩٧ ، وسائل الشيعة : ٣ / ٤١٠ الحديث ٤٠٠٩.

٤٢٣

زرارة المذكورة ، أو التقيّة (١) ، للموافقة لمذهب العامّة الذين كانوا يقولون بحرمة أكل لحومها ونجاسة أبوالها (٢).

مع أنّ الخبر المنجبر بالشهرة وإن لم يكن صحيحا ، أقوى من الذي اشتهر خلافه بين الأصحاب ، على ما هو طريقة القدماء والمتأخّرين وهو الحق ، كما حقّق في محلّه ، فكيف إذا انضم مع الشهرة جوابر اخر؟ كما عرفت.

وممّا يعضد الطهارة ، بل ويدلّ عليها عموم البلوى بالبول والروث ، سيّما في الأسفار ، سيّما بالنسبة إلى المكاريين وأمثالهم ممّن هو مبتلى بالدواب المذكورة.

فلو كانا نجسين لاقتضى ذلك شيوع نجاستهما ووقوع الاحتراز عنهما في الأعصار والأمصار ، بل قلّ بيت يكون خاليا عن الكلّ غير مبتلى بشي‌ء منهما ، سيّما القرى والبوادي ، والدساكر والخانات.

مع أنّ أحدا من المسلمين لا يحترز عن شي‌ء منهما احترازه من نجس العين.

وممّا يدلّ على طهارة الروث ، ما ورد في المنع عن الاستنجاء به ، وعلّة المنع (٣) ، فلاحظ!

وممّا يعضد أنّ الذي قال بالنجاسة هو ابن الجنيد (٤) الذي كثيرا ما وافق العامة ، بل ربّما خالف الشيعة ، وأنّ الشيخ في «النهاية» وافقه على ما نقل (٥) وبعده رجع عن هذا القول إلى القول بالطهارة (٦) ، فلو لا ما ظهر عليه لم يرجع.

__________________

(١) لاحظ! معالم الدين في الفقه : ٢ / ٤٥١.

(٢) المغني لابن قدامة : ٩ / ٣٢٤ و ٣٢٥ ، المجموع للنووي : ٢ / ٥٥٠ ، لاحظ! الفقه على المذاهب الأربعة : ١ / ١٢ ، ٢ / ٢.

(٣) لاحظ! وسائل الشيعة : ١ / ٣٥٧ الباب ٣٥ من أبواب أحكام الخلوة.

(٤) نقل عنه في مختلف الشيعة : ١ / ٤٥٧.

(٥) نقل عنه في معالم الدين في الفقه : ٢ / ٤٤٧ ، لاحظ! النهاية للشيخ الطوسي : ٥١.

(٦) الاستبصار : ١ / ١٧٩ ذيل الحديث ٦٢٥.

٤٢٤

ويدلّ على الطهارة أيضا موثّقة ابن بكير كالصحيحة ـ بل الصحيحة ـ عن زرارة ، عن الصادق عليه‌السلام : «أنّ [الصلاة في وبر] كلّ شي‌ء حرام أكله فالصلاة في وبره وشعره وجلده وبوله وروثه وألبانه وكلّ شي‌ء منه فاسدة ، ـ [إلى أن قال] ـ : وإن كان ممّا يوكل لحمه فالصلاة في بوله وروثه وألبانه وكلّ شي‌ء منه جائزة» (١).

وسيجي‌ء في كتاب الصلاة أنّ هذه الرواية حجّة الشيعة ، وعاضدها أخبار كثيرة معتبرة ، إذ معلوم أنّ المراد ممّا يؤكل لحمه ما ليس بحرام أكله بقرينة المقابلة ، واتّفاق الأصحاب على عدم المنع من الصلاة في ألبان ما ليس بحرام وفي شعره ووبره وجلده ورطوباته وما خرج من منخره ، وغير ذلك.

وفي كالصحيح عن مالك الجهني عن الصادق عليه‌السلام أنّه سأله عمّا يخرج من منخر الدابة يصيبني ، قال : «لا بأس به» (٢) فيدلّ على أنّ الصلاة في بول الحمار وأخويه وأرواثها جائز.

وبالجملة ، بعد ملاحظة ما ذكرنا لا يبقى تأمّل للمتأمّل ، وفي الموثّق توكيد في الدلالة على الطهارة ، وسنذكر في كتاب المطاعم دليلا آخر عليها ، فلاحظ!

قوله : (واستثناء الطير). إلى آخره.

نقل عن الصدوق رحمه‌الله طهارة رجيع الطيور (٣) ، وكذا نقل عن ابن أبي عقيل والجعفي (٤).

__________________

(١) الكافي : ٣ / ٣٩٧ الحديث ١ ، تهذيب الأحكام : ٢ / ٢٠٩ الحديث ٨١٨ ، الاستبصار : ١ / ٣٨٣ الحديث ١٤٥٤ ، وسائل الشيعة : ٤ / ٣٤٥ الحديث ٥٣٤٤ مع اختلاف يسير.

(٢) الكافي : ٣ / ٥٨ الحديث ٧ ، تهذيب الأحكام : ١ / ٤٢٠ الحديث ١٣٢٨ ، وسائل الشيعة : ٣ / ٤١٣ الحديث ٤٠٢١.

(٣) نقل عنه في مختلف الشيعة : ١ / ٤٥٦ ، لاحظ! من لا يحضره الفقيه : ١ / ٤١ ذيل الحديث ١٦٤.

(٤) نقل عنهما في ذكرى الشيعة : ١ / ١١٠ ، مدارك الأحكام : ٢ / ٢٥٩.

٤٢٥

وعن الشيخ في «المبسوط» : طهارة بولها أيضا إلّا الخشّاف (١) ، وفي «الخلاف» وغيره وافق المشهور ، وصرّح بأنّه قول الأكثر (٢).

واحتجّ عليه في «المعتبر» : بأنّ الخرء العذرة ، فيشمله ما دلّ على نجاسة العذرة (٣).

واعترض عليه بأنّ الظاهر اختصاص العذرة بفضلة الإنسان لغة وعرفا (٤).

قال الهروي : العذرة : فناء الدار ، سمّيت عذرة الإنسان بهذا ، لأنّها كانت تلقى في الأفنية (٥).

واستدلّ في «المختلف» (٦) على نجاسة بول الطيور وخرئه بحسنة عبد الله بن سنان المتقدّمة (٧) ، إذ عرفت أنّ الإمامية لم تفرق بين البول والروث.

وذكر الصدوق رحمه‌الله وغيره خصوص الرجيع ، بناء على عدم البول في الطيور غالبا ، إذ لا تأمّل في أنّ مستندهم حسنة أبي بصير الآتية.

بل في «الفقيه» صرّح بعدم البأس بخرء الطير وبوله (٨) ، ولعلّ من وافقه أيضا كذلك ، وأنّ الناقل سامح كما سامح في كلام الصدوق رحمه‌الله ، مع احتمال ما ذكرنا.

__________________

(١) نقل عنه في ذخيرة المعاد : ١٤٥ ، لاحظ! المبسوط : ١ / ٣٩.

(٢) الخلاف : ١ / ٤٨٥ المسألة ٢٣٠ ، النهاية للشيخ الطوسي : ٥١ ، لم نعثر على تصريح الشيخ رحمه‌الله.

(٣) المعتبر : ١ / ٤١١.

(٤) مدارك الأحكام : ٢ / ٢٦٠.

(٥) غريب الحديث : ٢ / ١٣٧.

(٦) مختلف الشيعة : ١ / ٤٥٨.

(٧) وسائل الشيعة : ٣ / ٤٠٥ الحديث ٣٩٨٨ راجع! الصفحة : ٣٧٧ من هذا الكتاب.

(٨) من لا يحضره الفقيه : ١ / ٤١ ذيل الحديث ١٦٤.

٤٢٦

ويعضده حسنة ابن سنان ، كصحيحة زرارة (١) وموثّقة عمّار (٢) وغيرهما ، وسنذكر أدلّة اخر على النجاسة.

وبالجملة ، لو لم يكن دليل على استثناء الطير ، يكون داخلا في النجاسات باتّفاقهم وبمقتضى الأدلّة ، من دون فرق بين روث غير الطير وخرء الطير ، ولذا قال المصنّف : واستثناء الطير. إلى آخره. ويظهر من غيره من المناقشين أيضا.

وممّا يدلّ على المشهور ما ورد في كتاب المطاعم والمشارب من النصّ على طهارة ذرق الخطّاف ، معلّلا بأنّه ممّا يؤكل لحمه (٣) ، فلو كان مطلق الطير ذرقه طاهرا ، لكان هذا التعليل فاسدا ، وكان المناسب التعليل بطيرانه.

وهذا كما يدلّ بمفهوم العلّة على نجاسة ذرق ما لا يؤكل لحمه ، كذلك يدلّ بمنطوقها على طهارة أبوال الخيل والبغال والحمير. ويعضده ما عرفت من أنّ الظاهر من الأخبار دوران نجاسة البول والروث مع حرمة الأكل ، وطهارتهما مع الحليّة.

وممّا يدلّ على المشهور أيضا الإجماعات المنقولة في نجاسة أبوال وأرواث ما لا يؤكل لحمه ممّا له نفس سائلة ، لعدم استثناء الطيور فيها أصلا (٤) ، ومخالفة قليل فيها لا يضرّ الإجماعات ، لعدم ضرر خروج معلوم النسب إجماعات من الشيعة ، وحقق في الاصول.

وعادة فقهائنا في الفقه أنّهم يدّعون الإجماع مع وجود المخالف البتّة.

__________________

(١) الكافي : ٣ / ٥٧ الحديث ٤ ، تهذيب الأحكام : ١ / ٢٦٤ الحديث ٧٧٢ ، الاستبصار : ١ / ١٧٩ الحديث ٦٢٦ ، وسائل الشيعة : ٣ / ٤٠٨ الحديث ٤٠٠٠.

(٢) تهذيب الأحكام : ١ / ٢٦٦ الحديث ٧٨١ ، وسائل الشيعة : ٣ / ٤٠٩ الحديث ٤٠٠٥.

(٣) لاحظ! وسائل الشيعة : ٢٣ / ٣٩٣ و ٣٩٤ الحديث ٢٩٨٢٩ و ٢٩٨٣٠.

(٤) الناصريات : ٨٦ و ٨٧ المسألة ١٢ ، المعتبر : ١ / ٤١٠ ، منتهى المطلب : ٣ / ١٧٣.

٤٢٧

واستدلّ للقول بالطهارة بالأصل ، و (١) قوله عليه‌السلام : «كلّ شي‌ء نظيف حتّى تعلم أنّه قذر» (٢) ، وصحيحة علي بن جعفر ، عن أخيه موسى عليه‌السلام : عن الرجل يرى في ثوبه خرء الطير أو غيره هل يحكّه وهو في الصلاة؟ قال : «لا بأس به» (٣) حيث حكم بعدم البأس من دون استفصال.

وحسنة أبي بصير عن الصادق عليه‌السلام قال : «كلّ شي‌ء يطير فلا بأس بخرئه وبوله» (٤).

والجواب عن الأصل والعموم ، الخروج والتخصيص بما دلّ على النجاسة ، وقد عرفت.

مع أنّ الأصل لا يجري في العبادات التوقيفيّة ، بل الأصل وجوب الاجتناب ، كما ستعرف.

وعن الصحيحة بأنّ قول السائل : «أو غيره» ، بعد قوله : «خرء الطير» ، يمنع عن التقريب ، ويفسد استدلالك بترك الاستفصال ، إذ لا شكّ في أنّ غير الخرء ربّما يكون نجسا ، وهو عليه‌السلام لم يستفصل في غير الخرء ، كما لم يستفصل في الخرء ، فما هو جوابك فهو بعينه جواب الخصم.

مع أنّ سؤال السائل (٥) لم يكن إلّا عن حال الحكّ في الصلاة خاصّة ، وأنّ ذكر الخرء وغيره على سبيل المثل ، لا أنّه كان يعتقد طهارة كلّ شي‌ء الخرء وغيره مطلقا ، والمعصوم عليه‌السلام أقرّه عليه ، إذ لا شكّ في فساده.

__________________

(١) في (ك) : وعموم.

(٢) تهذيب الأحكام : ١ / ٢٨٥ الحديث ٨٣٢ ، وسائل الشيعة : ٣ / ٤٦٧ الحديث ٤١٩٥.

(٣) من لا يحضره الفقيه : ١ / ١٦٤ الحديث ٧٧٥ ، وسائل الشيعة : ٧ / ٢٨٤ الحديث ٩٣٥٣ مع اختلاف يسير.

(٤) الكافي : ٣ / ٥٨ الحديث ٩ ، تهذيب الأحكام : ١ / ٢٦٦ الحديث ٧٧٩ ، وسائل الشيعة : ٣ / ٤١٢ الحديث ٤٠١٥.

(٥) في (ك) : الراوي.

٤٢٨

وأمّا رواية أبي بصير ، فمن لا يقول بحجّية مثلها ـ مثل صاحب «المدارك» وغيره (١) ـ من جهة حسنها ، لا يجوز له التمسّك بها. وكذا من اشتراك أبي بصير ، إذ الحسن خال عن عدالة جميع الطبقة التي شرط في العمل بخبر الواحد عنده ، وكذلك اشتراك أبي بصير.

وأمّا من يقول بحجيّة مثلها ، فيرد عليه : أنّ قوله عليه‌السلام : «لا بأس بخرئه وبوله». أنّ المراد لا بأس بالصلاة في خرئه وبوله ، فلا شكّ في فساد دعوى شمولها لما لا يؤكل لحمه ، لما سيجي‌ء في كتاب الصلاة ، من منع الشيعة عن الصلاة في كلّ شي‌ء حرام أكله في بوله وروثه وغيره ، كما تضمّنت الموثّقة السابقة.

وإن كان المراد غير الصلاة معها ، فمع كونه خلاف ظاهر الرواية ، لتضمّنها نفي البأس بالمرّة ، ومعظمه الصلاة معها ، نمنع دلالتها على الطهارة ، لأنّ الاستدلال بالطهارة بناء على الانصراف إلى الصلاة خاصّة أو الصلاة ونحوها.

فعلى هذا تكون هذه الرواية موافقة لمذهب العامّة ، ومحمولة على التقيّة ، لما ورد من الأخبار الكثيرة التي لا تحصى ، من الأمر بترك ما وافق العامّة.

وبالجملة ، التعارض بين هذه الرواية ورواية عبد الله بن سنان ، تعارض عموم من وجه لا المطلق ، وإن كان هذا العموم أقوى.

فعلى هذا نقول : يجوز أن يصير كلّ منهما مخصّصا للآخر ، موجبا لحمله على خلاف ظاهره.

لكن رواية ابن سنان عمل بها كلّ الفقهاء ، ومطابقة لمذهب الشيعة ، ومعتضدة بما عرفت من المرجّحات والمؤيّدات ، سيّما الإجماعات ، وموثّقة ابن بكير ، وما نقلنا عن كتاب المطاعم مع معتضداته.

__________________

(١) مدارك الأحكام : ١ / ٤٩ ، ٢ / ٢٦١ ، مجمع الفائدة والبرهان : ١ / ٢٧٥.

٤٢٩

وأمّا هذه الرواية ، فبعد ما عرفت ما في السند ، لم يظهر عامل بها ، إلّا قليل من الفقهاء.

ومع ذلك ظاهرها موافق للتقيّة وخلاف مذهب الشيعة ، ومخالف للأخبار المعتبرة الكثيرة الدالّة على عدم جواز الصلاة في شي‌ء ممّا لا يؤكل لحمه ، كما سيجي‌ء في كتاب الصلاة.

ومع ذلك معظم الشيعة وجلّهم على نجاسة بول الطيور ورجيعه ممّا لا يؤكل لحمه ، والمخالف قليل.

ومع ذلك لعلّهم استثنوا بول الخشّاف ، كما سنذكر ، وهذا يضعّف استنادهم بهذه الرواية.

وممّا يضعّف ترجيحها على رواية ابن سنان ويقوّي العكس نجاسة بول الخشّاف بإجماع العلماء ، كما في «المختلف» ، بل قال فيه : وتختصّ هذه الرواية بما شارك الخشّاف في علّة الخروج ، وهو حرمة الأكل (١) ، بملاحظة ما عرفت من العلّة المنصوصة في طهارة بول الخطاف (٢) ، وما يظهر من تتبّع الأخبار ، في تعليق الأمر بالغسل ، بعدم أكل اللحم ، وتعليق عدم الغسل بأكل اللحم ، وقد عرفت الأخبار.

وممّا ذكر ظهر اندفاع ما اعترض عليه من منع الإجماع ، مع حكايته في صدر المسألة عن ابن بابويه وابن أبي عقيل بالمنع مطلقا ، واستثناء الخشّاف عن الشيخ في «المبسوط» خاصة (٣). ونمنع كون العلّة في استثناء الخشّاف (٤) حرمة الأكل ، وهل هو إلّا القياس الممنوع؟ إذ عرفت مكررا أنّ خروج معلوم النسب غير مضرّ

__________________

(١) مختلف الشيعة : ١ / ٤٥٧.

(٢) راجع! الصفحة : ٤٢٦ و ٤٢٧ من هذا الكتاب.

(٣) المبسوط : ١ / ٣٩.

(٤) في (ف) و (ز ١) و (ط) : الخطاف.

٤٣٠

بإجماع الشيعة ، وإن علم مخالفته.

مع أنّه لم يعلم مخالفتهما ، غاية الأمر عدم تعرّضهما للاستثناء في القدر الذي نقله من كلامهما ، وهذا لا يقتضي مخالفتهما.

مع أنّه ـ على ما ذكره ـ يصلح ردّا على الشيخ وتضعيفا لقوله ، كيف وهو في مقام تصديق الشيخ وإثبات حقّية قوله ، مع أنّ القياس ليس بحجّة شرعيّة (١) ، وهو رحمه‌الله لم يتمسّك بالقياس ، بل تمسّك برواية ابن سنان جزما ، وبأنّ شغل الذمّة اليقيني بالعبادة التوقيفيّة تتوقّف براءته على اليقين ، وأين هذا من التمسّك بالقياس؟

نعم ، جعل القياس على فرض أنّه كان من جملة المرجّحات للعمل برواية ابن سنان الراجحة عنده ، بل جعله من متمّمات المرجّح ومؤيّدات المؤيّد ، وكونه من هذا القبيل لعلّه لا مانع عنه عنده ، بل عند غيره أيضا ، كما لا يخفى على المطّلع.

مع أنّك عرفت ظهور العلّة من العلّة المنصوصة وتضاعيف الأخبار ، مع أنّ الطيور أغلبها مأكول اللحم وفاقا ، وكثير منها وقع الخلاف في حرمة أكله ، وقلّما يكون طير وقع الاتّفاق على حرمته.

وممّا يؤيّد ما ذكرناه ما سيجي‌ء في ذرق الدجاج الإجماع على نجاسة ذرق الجلّال منه ، معللا بأنّه غير مأكول اللحم ، وحمل رواية فارس عليه.

وممّا يؤيّد أيضا أنّ رواية ابن سنان أعلى سندا ، وتكرر الطريق إليه.

قوله : (وأمّا القول بنجاسة). إلى آخره.

أكثر الأصحاب على طهارة ذرق الدجاج غير الجلّال ، وربّما تردّد فيه ،

__________________

(١) في (د ١ ، ٢) : بنهج شرعي.

٤٣١

ونسب إلى المفيد القول بالنجاسة (١).

واحتجّ عليه الشيخ برواية فارس ، قال : كتب اليه رجل يسأله عن ذرق الدجاج تجوز الصلاة فيه؟ فكتب : «لا» (٢).

والجواب : الطعن في السند ، بأنّ فارسا غال ملعون ، إلى غير ذلك من المطاعن ، مع أنّ روايته مخالفة لما اشتهر بين الأصحاب والاصول والعمومات.

ورواية وهب بن وهب ، عن جعفر ، عن أبيه عليهما‌السلام قال : «لا بأس بخرء الدجاج والحمام يصيب الثوب» (٣) ، وحمل الشيخ والعلّامة رواية فارس على كون الدجاج جلّالا (٤) ، إذ الجلّال منه نجس ذرقه إجماعا ، كما قاله في «المختلف» (٥) ، وعلله في «المدارك» بأنّه غير مأكول اللحم (٦).

وأمّا الخشّاف ، فبوله وذرقه نجسان عند علمائنا إلّا من شذّ ممّن لم يتعرّض لذكر الاستثناء في كلامه ، كما عرفت. وعرفت أيضا الإجماع المنقول في نجاستهما.

ويدلّ على نجاسة بوله ـ بل وخرئه أيضا ـ حسنة ابن سنان وما وافقها من الأخبار (٧) ، مضافا إلى رواية داود الرقي أنّه سأل الصادق عليه‌السلام عن بول الخشّاف

__________________

(١) نسب إليه في مختلف الشيعة : ١ / ٤٥٥ ، لاحظ! المقنعة : ٧١.

(٢) تهذيب الأحكام : ١ / ٢٦٦ الحديث ٧٨٢ ، الاستبصار : ١ / ١٧٨ الحديث ٦١٩ ، وسائل الشيعة : ٣ / ٤١٢ الحديث ٤٠١٧.

(٣) تهذيب الأحكام : ١ / ٢٨٤ الحديث ٨٣١ ، الاستبصار : ١ / ١٧٧ الحديث ٦١٨ ، وسائل الشيعة : ٣ / ٤١٢ الحديث ٤٠١٦.

(٤) الاستبصار : ١ / ١٧٨ ذيل الحديث ٦١٩ ، مختلف الشيعة : ١ / ٤٥٥.

(٥) مختلف الشيعة : ١ / ٤٥٥.

(٦) مدارك الأحكام : ٢ / ٢٦٥.

(٧) الكافي : ٣ / ٥٧ الحديث ٣ ، تهذيب الأحكام : ١ / ٢٦٤ الحديث ٧٧٠ ، وسائل الشيعة : ٣ / ٤٠٥ الحديث ٣٩٨٩ ، لاحظ! وسائل الشيعة : ٣ / ٤٠٤ الباب ٨ من أبواب النجاسات.

٤٣٢

يصيب ثوبي فأطلبه ولا أجده ، قال : «اغسل ثوبك» (١).

والسند ينجبر بالشهرة العظيمة ـ لو لم نقل بالإجماع ـ وبما مرّ من الروايات.

بل عرفت الإجماعات المنقولة على نجاسة أبوال وأرواث ما لا يؤكل لحمه عموما ، والإجماع في خصوص المقام.

وأمّا احتمال القول بطهارتها ـ على حسب ما يظهر من كلام الصدوق وابن أبي عقيل المنقول (٢) ـ فلرواية غياث ، عن جعفر ، عن أبيه عليهما‌السلام قال : «لا بأس بدم البراغيث والبق وبول الخشّاف» (٣).

والرواية ضعيفة ، وغياث بتري على المشهور (٤) ، فربّما يظهر مناسبة مضمون الرواية لقول العامة ، ولذا حملها الشيخ على التقيّة ، بعد ما نسبها إلى الشذوذ (٥).

ويشيّد شذوذها فتاوى الفقهاء ، بل وعدم ظهور عامل بها ، سيّما بملاحظة اختصاص المنع فيها ببوله ، ولذا ادّعى الإجماع العلّامة على نجاسة بوله وذرقه (٦). والشيخ نسب إلى الشذوذ (٧) ، إذ الشاذّ لا عمل عليه عندهم.

والاعتضاد بحسنة أبي بصير قد ظهر لك الحال ، مع أنّ الاحتياط في التنزّه. بل الخروج عن العهدة في العبادة التوقيفيّة يتوقّف على التنزّه.

__________________

(١) تهذيب الأحكام : ١ / ٢٦٥ الحديث ٧٧٧ ، الاستبصار : ١ / ١٨٨ الحديث ٦٥٨ ، وسائل الشيعة : ٣ / ٤١٢ الحديث ٤٠١٨ مع اختلاف يسير.

(٢) نقل عنهما العلّامة في مختلف الشيعة : ١ / ٤٥٦.

(٣) تهذيب الأحكام : ١ / ٢٦٦ الحديث ٧٧٨ ، الاستبصار : ١ / ١٨٨ الحديث ٦٥٩ ، وسائل الشيعة : ٣ / ٤١٣ الحديث ٤٠١٩ مع اختلاف يسير.

(٤) لاحظ! خلاصة الرجال للحلّي : ٢٤٥ ، جامع الرواة : ١ / ٦٥٨.

(٥) تهذيب الأحكام : ١ / ٢٦٦ ذيل الحديث ٧٧٨.

(٦) مختلف الشيعة : ١ / ٤٥٦.

(٧) تهذيب الأحكام : ١ / ٢٦٦ ذيل الحديث ٧٧٨.

٤٣٣

لكن لا يحكم بالنجاسة ، حتّى يحصل اليقين بكونه بوله ، لاحتمال أن يكون ما وقع منه من الرطوبة لعاب فمه عند افتتاحه لصيد أو غيره.

وكذا الحال في الذرق ، إذا احتمل كونه من غيره ممّا لا يعلم وجوب الاجتناب من ذرقه.

ومع ذلك لا شكّ في أنّ الأحوط الاجتناب مع الاحتمال البتة ، والله يعلم.

ثمّ اعلم! أنّ حسنة ابن سنان بعمومه يشمل ما لا نفس له ، والمشهور طهارة بوله ورجيعه ، وتردّد في «الشرائع» في ذلك (١).

حجّة المشهور أصالة الطهارة ، وكون المتعارف من مأكول اللحم وغيره ما كان ذا نفس سائلة ، فينصرف إليه الإطلاق.

وهذا بناء على أنّ العام اللغوي أيضا يرجع إلى الأفراد الشائعة ، مثل كلّ إنسان ، فإنّ المتبادر منه ذو الرأس الواحد دون ذي الرأسين ، بل لم نجد بول غير ذي النفس أصلا.

نعم ، يوجد رجيعه ، ونجاسة الرجيع فرع نجاسة البول ، فإذا كان لم يوجد بحيث يدخل في العموم المذكور ، لم يظهر نجاسته.

مع أنّ المسلمين في الأعصار لا يتنزّهون عن رجيع الذباب وأمثاله ممّا لا يؤكل لحمه.

بل الظاهر عدم اللحم أصلا في مثل الذباب والبق والخنافس والعقارب.

فلا يدخل في الحسنة من هذه الجهة أيضا ، بل مثل الوزغة والحيّة وإن كان له لحم ، إلّا أنّه غير متبادر من الإطلاق ، واللحم في الحسنة وغيرها مطلق لا عموم فيه لغة ، فلا يدخل ما لا نفس له من هذه الجهة أيضا.

__________________

(١) شرائع الإسلام : ١ / ٥١.

٤٣٤

٧٥ ـ مفتاح

[نجاسة المني والدم والميتة]

المني والدم والميتة من ذي النفس نجسة إجماعا ، سوى الدم المتخلّف في المذبوح بعد القذف المعتاد ، فإنّه طاهر حلال ، كما قاله أصحابنا (١) ، لقوله تعالى (أَوْ دَماً مَسْفُوحاً) (٢) والصحاح في الأوّلين مستفيضة (٣) ، وخلاف الإسكافي والصدوق (٤) في قليل الثاني شاذّ.

واستدلّ للثالث بالحسن : عن الرجل يصيب ثوبه جسد الميت ، قال : «يغسل ما أصاب الثوب» (٥) (٦). ولا دلالة فيه ، لإمكان أن يكون المراد منه إزالة ما أصاب الثوب ممّا على الميّت من رطوبة أو قذر تعدّيا إليه.

يدلّ على ذلك ما في الرواية الاخرى : «إن كان غسل فلا تغسل ما أصاب ثوبك منه ، وإن كان لم يغسل فاغسل ما أصاب ثوبك منه» (٧) ، فإنّه إن

__________________

(١) الناصريّات : ٩٤ و ٩٥ المسألة ١٥ ، مختلف الشيعة : ١ / ٤٧٤ ، لاحظ! الحدائق الناضرة : ٥ / ٤٥.

(٢) الأنعام (٦) : ١٤٥.

(٣) انظر! وسائل الشيعة : ٣ / ٤٢٣ الباب ١٦ ، ٤٦١ الباب ٣٤ ، ٥٢٧ الباب ٨٢ من أبواب النجاسات.

(٤) نقل عن الاسكافي في المعتبر : ١ / ٤٢٠ ، من لا يحضره الفقيه : ١ / ٤٢ ذيل الحديث ١٦٥.

(٥) وسائل الشيعة : ٣ / ٤٦٢ الحديث ٤١٧٩.

(٦) مدارك الأحكام : ٢ / ٢٧٠ ، ذخيرة المعاد : ١٤٧.

(٧) وسائل الشيعة : ٣ / ٤٦١ الحديث ٤١٧٨.

٤٣٥

كان نجس العين لم يطهر بالتغسيل.

ثمّ إنّ الأصحاب لم يفرّقوا بين ميّت الآدمي قبل غسله وغيره ، وهو كذلك.

والمستفاد من بعض الأخبار عدم تعدّي نجاسة الميتة مطلقا (١). ولا بعد فيه ، لأنّ معنى النجاسة لا ينحصر في وجوب غسل الملاقي ، كما يأتي بيانه في حكم نجاسة الكافر إن شاء الله تعالى.

وفهم العلّامة ـ طاب ثراه ـ من إطلاق الحسن السابق تعدّي نجاستها مع اليبوسة أيضا ، فحكم بأنّها مع اليبوسة حكميّة ، فلو لاقى الملاقي لها رطبا لم ينجس (٢). وليس بشي‌ء لمعارضتها الصحاح.

منها : وقع ثوبه على كلب ميّت قال : «ينضحه ويصلّي فيه ولا بأس» (٣).

ومنها : على حمار ميّت ، قال : «ليس عليه غسله وليصلّ فيه ولا بأس» (٤).

وفي الموثّق : «كلّ يابس ذكّي» (٥) ، فالأولى أن يحمل الأوّلين على الرطب القذر ، والأخيرين على اليابس جمعا.

مع أنّ ما لا ينجس عينه من الحيوان لا فرق بين رطبه ويابسه إذا اصيب ما لا تحلّه الحياة منه ، كما يأتي.

__________________

(١) وسائل الشيعة : ٣ / ٤٦٣ الحديث ٤١٨٢.

(٢) منتهى المطلب : ٢ / ٤٥٩.

(٣) وسائل الشيعة : ٣ / ٤٤٢ الحديث ٤١١٣.

(٤) وسائل الشيعة : ٣ / ٢٤٢ الحديث ٤١١١.

(٥) وسائل الشيعة : ١ / ٣٥١ الحديث ٩٣٠.

٤٣٦

قوله : (والمني).

أجمع علماؤنا على نجاسة مني ذي النفس ، مأكول اللحم أو غيره ، ذكرا كان أو انثى ، ادّعى الإجماع على ذلك في «التذكرة» (١) ، ويظهر من «المنتهى» أيضا (٢) ، والأخبار بنجاسة مني الإنسان مستفيضة (٣) ، بل الظاهر أنّها ضروري مذهب الشيعة ، بل واقعا.

وحكى العلّامة رحمه‌الله الإجماع على أنّ حكم مني غير الآدمي من ذي النفس حكم مني الآدمي (٤) ، وكذلك ابن زهرة ادّعى الإجماع على ذلك (٥) ، مضافا إلى موافقة الفتاوى في ذلك.

وربّما أيّد في «المعالم» الإجماع بما ورد في صحيحة ابن مسلم ، بأنّ المني أشدّ من البول (٦) بأنّ القرينة الحاليّة وإن شهد بإرادة مني الإنسان ، إلّا أنّ فيه إشعارا بكونه أولى بالتنجّس من البول ، فكلّ ما نجس بوله ينبغي أن يكون لمنيّه هذه الحالة (٧) ، انتهى.

وفيه ، أنّه يقتضي كون مني الإنسان أشدّ من البول ، لا أيّ مني يكون.

وممّا ذكر ظهر عدم نجاسة مني غير ذي النفس ، لأصالة الطهارة السالمة عن

__________________

(١) تذكرة الفقهاء : ١ / ٥٣ المسألة ١٦.

(٢) منتهى المطلب : ٣ / ١٨٣.

(٣) لاحظ! وسائل الشيعة : ٣ / ٤٢٣ الباب ١٦ من أبواب النجاسات.

(٤) منتهى المطلب : ٣ / ١٨٣.

(٥) غنية النزوع : ٤٢.

(٦) تهذيب الأحكام : ١ / ٢٥٢ الحديث ٧٣٠ ، وسائل الشيعة : ٣ / ٤٢٤ الحديث ٤٠٥٥.

(٧) معالم الدين في الفقه : ٢ / ٤٦٠.

٤٣٧

المعارض ، فلا وجه لتردّد المحقّق وغيره في طهارتها (١).

قوله : (والدم).

ادّعى في «التذكرة» الإجماع على نجاسة دم ذي النفس السائلة (٢) ، وكذلك المحقّق (٣) إلّا أنّه استثنى ابن الجنيد من علمائنا في قدر الدرهم من الدم (٤) ، وسيجي‌ء تحقيقه.

والأخبار في نجاسة الدم المطلق مستفيضة ، منها حسنة ابن سنان عن الصادق عليه‌السلام : عن رجل أصاب ثوبه جنابة أو دم؟ قال : «إن علم أنّه أصابه قبل أن يصلّي ثمّ صلّى فيه ولم يغسله فعليه أن يعيد ما صلّى» (٥) ، الحديث.

وورد في خصوص الرعاف أيضا ، والقروح والجروح ، وغير ذلك (٦) وستعرف.

واعلم! أنّ الدم إمّا أن يكون من غير ذي النفس ، أو من ذي النفس ، أو غيرهما.

والأوّل : إمّا أن يكون دم السمك ، أو غيره.

والثاني : إمّا أن يكون مسفوحا ، أو غير مسفوح ، والمسفوح : المصبوب ، وغير المسفوح ، إمّا أن يكون متخلفا في مأكول اللحم ، أو في غير مأكول اللحم ، أو

__________________

(١) شرائع الإسلام : ١ / ٥١ ، المعتبر : ١ / ٤١٥ ، منتهى المطلب : ٣ / ١٨٤ ، لاحظ! معالم الدين في الفقه : ٢ / ٤٦٠.

(٢) تذكرة الفقهاء : ١ / ٥٦ المسألة ١٨.

(٣) المعتبر : ١ / ٤٢٠.

(٤) نقل عنه في المعتبر : ١ / ٤٢٠.

(٥) الكافي : ٣ / ٤٠٦ الحديث ٩ ، تهذيب الأحكام : ٢ / ٣٥٩ الحديث ١٤٨٨ ، الاستبصار : ١ / ١٨٢ الحديث ٦٣٦ ، وسائل الشيعة : ٣ / ٤٨٢ الحديث ٤٢٣٤ مع اختلاف يسير.

(٦) وسائل الشيعة : ٣ / ٤٣٣ الباب ٢٢ من أبواب النجاسات ، ٧ / ٢٣٨ الباب ٢ من أبواب قواطع الصلاة.

٤٣٨

غيرهما ، فالأقسام ستّة :

الأوّل والثاني : دم السمك وغيره ممّا لا نفس له.

أجمع العلماء على طهارة دم ما لا نفس له ، حكى الإجماع على ذلك الشيخ في «الخلاف» ، وابن زهرة ، والمحقّق في «المعتبر» ، والعلّامة في «المنتهى» و «التذكرة» ، والشهيد في «الذكرى» (١).

ونسب إلى الشيخ في «المبسوط» وسلّار القول بنجاسته ، وعدم وجوب إزالة كثيره ولا قليله (٢) ، كدم القروح السائلة التي لا تقف سيلانها ، ووجّه في «المعالم» كلامه إلى ما يرجع إلى النزاع اللفظي (٣) ، وكذلك في «المدارك» (٤).

والحقّ الطهارة ، للإجماعات ، وعدم عموم في الأخبار يشمل هذا النوع خصوصا دم البراغيث ، إذ ورد عدم البأس به في الأخبار الصحيحة وغيرها (٥).

بل طهارته بديهي الدين ، مضافا إلى لزوم الحرج لو لم يكن طاهرا ، ومثله دم البقّ ، إذ سأل محمّد بن الريان في مكاتبته إلى الرجل عليه‌السلام : هل يجري دم البق مجرى دم البراغيث؟ وهل يجوز لأحد أن يقيس بدم البق على البراغيث فيصلّي [فيه] وأن يقيس على نحو هذا فيعمل به؟ فوقّع عليه‌السلام : «يجوز الصلاة ، والطهر منه أفضل» (٦).

__________________

(١) الخلاف : ١ / ٤٧٦ ، غنية النزوع : ٤١ ، المعتبر : ١ / ٤٢١ ، منتهى المطلب : ٣ / ١٩١ ، تذكرة الفقهاء : ١ / ٥٦ المسألة ١٨ ، ذكرى الشيعة : ١ / ١١٢.

(٢) نسب إليهما في مختلف الشيعة : ١ / ٤٧٣ ، لاحظ! المبسوط : ١ / ٣٥ ، المراسم : ٥٥.

(٣) معالم الدين في الفقه : ٢ / ٤٧٠ و ٤٧١.

(٤) مدارك الأحكام : ٢ / ٢٨٢.

(٥) وسائل الشيعة : ٣ / ٤٣٥ الباب ٢٣ من أبواب النجاسات.

(٦) الكافي : ٣ / ٦٠ الحديث ٩ ، تهذيب الأحكام : ١ / ٢٦٠ الحديث ٧٥٤ ، وسائل الشيعة : ٣ / ٤٣٦ الحديث ٤٠٩١.

٤٣٩

بل في رواية السكوني عنهم عليهم‌السلام : «أنّ عليا عليه‌السلام كان لا يرى البأس بدم ما لم يذكّ يكون في الثوب فيصلّي فيه ، يعني دم السمك» (١) فتأمّل جدّا!

وإنّما قلنا بعدم العموم فيما دلّ على النجاسة ، لما عرفت من أنّ المطلق ينصرف إلى الأفراد الشائعة والمتبادرة ، ومثل دم البراغيث وإن كان شائعا ، إلّا أنّ طهارته من الضروريات.

الثالث : الدم المسفوح ، وهو نجس عند علماء الإسلام ، كما ذكره في «المنتهى» (٢) ، وإطلاق الأخبار (٣) يشمله ، لعدم كونه من الفرد النادر.

الرابع : الدم المتخلف بعد الذبح والقذف المعتاد في الذبيحة من حيوان مأكول اللحم ، وهو طاهر بلا خلاف.

ويدلّ عليه قوله تعالى (أَوْ دَماً مَسْفُوحاً) (٤) ، وتمام التحقيق في ذلك في كتاب المطاعم.

الخامس : الدم المتخلف في غير المأكول (٥) ممّا يقع عليه الذكاة بعد الذبح ، وظاهر الأصحاب نجاسته ، لحصرهم الدم الطاهر من ذي النفس فيما يبقى في الذبيحة بعد الذبح ، والمتبادر ذبيحة حيوان مأكول اللحم ، وأنّ حلّية المتخلف تابع للحمه ، فما لم يحل لحمه كيف يكون الدم المتخلف فيه حلالا حتّى يكون طاهرا ، لأنّ الطهارة تثبت من حلية الأكل ، لحرمة أكل نجس العين إجماعا ، بل كلّ نجس.

__________________

(١) الكافي : ٣ / ٥٩ الحديث ٤ ، تهذيب الأحكام : ١ / ٢٦٠ الحديث ٧٥٥ ، وسائل الشيعة : ٣ / ٤٣٦ الحديث ٤٠٩٠ مع اختلاف يسير.

(٢) منتهى المطلب : ٣ / ١٨٨.

(٣) وسائل الشيعة : ٣ / ٤٢٩ الباب ٢٠ من أبواب النجاسات.

(٤) الأنعام (٥) : ١٤٥.

(٥) في (ف) و (ز ١) و (ط) : مأكول اللحم.

٤٤٠