مصابيح الظلام - ج ٤

محمّد باقر الوحيد البهبهاني

مصابيح الظلام - ج ٤

المؤلف:

محمّد باقر الوحيد البهبهاني


المحقق: مؤسسة العلامة المجدّد الوحيد البهبهاني
الموضوع : الفقه
الناشر: مؤسسة العلامة المجدّد الوحيد البهبهاني
الطبعة: ١
ISBN: 964-94422-4-3
ISBN الدورة:
964-94422-0-0

الصفحات: ٥٣٣

وإن شئت زيادة الإيضاح ، فاعرض على أهل العرف الأخبار الواردة في الأمر بغسل الجنابة ، وغسل المسّ ، وغسل الحيض ، وأمثالها ، وكذا الأوامر الواردة بالأغسال المستحبة ، واسأل عنهم أنّ هذه الأغسال عندهم غسل واحد ، وأنّ المطلوب في هذه الأوامر الكثيرة في غاية الكثرة هل هو مطلوب واحد لا يزيد عن الواحد أصلا؟ أو أنّها أغسال متعدّدة وعبادات متكثّرة ومطلوبات متغايرة ، إذ لا شكّ في أنّهم يقولون بالثاني.

على أنّه على فرض صيرورة الكلّ واحدا ، فإمّا أن تصير واحدا معيّنا من تلك الأغسال ، مثل أن تصير غسل الجنابة بخصوصه (١) ، أو الحيض كذلك وهكذا ، فلا شكّ في كونه تحكّما وترجيحا من غير مرجّح ، وإمّا أن تصير غسلا آخر من غير تلك الأغسال ، فهو أظهر فسادا ، فإذا كانت الأغسال متعدّدة متكثّرة ، فالمطلوب كيف لا يكون متعدّدا؟ فإذا كان المطلوب متعدّدا ، فكيف يكون امتثالها بواحد غير متعدّد؟ لأنّ الامتثال هو الإتيان بما امر به وما هو المطلوب منه ، فإن كان واحدا يكون الامتثال بواحد ، وإن كان متعدّدا فبمتعدّد ، فكيف يكون الإتيان بذلك المتعدّد هو الإتيان بواحد شخصي؟

وممّا يؤيّد أنّ غسل الجنابة يرفع الحدث الأصغر والأكبر جميعا ، ولا يجوز معه الوضوء بخلاف سائر الأغسال ، منها ما لا يرفع حدثا أصلا ، ومنها ما لا يرفع الأصغر (٢) ، بل لا بدّ معه من الوضوء.

وأيضا قصد التعيين جزء النيّة المعتبرة في كلّ واحد واحد ، ويتفاوت في كلّ واحد واحد.

__________________

(١) في (د ٢) زيادة : لا غير.

(٢) في (ف) و (ز ١) و (ط) : أصلا.

١٠١

وأيضا سيجي‌ء أنّ الجنب إذا حاضت قبل الغسل فهي بالخيار إن شاءت اغتسلت للجنابة ، وإن شاءت أخّرت وتجعله مع غسل الحيض واحدا كما سيجي‌ء.

وأيضا المدار في أمثال ما ذكر عدم التداخل ، ولذا أنكر العلّامة رحمه‌الله التداخل في المقام أيضا (١) ، مع أن الأصل عنده البراءة من زيادة التكليف قطعا ، وخبر الواحد عنده حجّة أيضا (٢) ، فمنعه عن التداخل ليس إلا لقوّة هذا الأصل بحيث لا يقاومه خبر الواحد ، وإن كان الحق أنّه يقاومه هذا الخبر ، لانجباره بعمل الأصحاب واعتضاده بأخبار كثيرة وغيرها.

وممّا ذكر ظهر أنّ الأصل عدم التداخل إلّا أن يثبت ، وبالنحو الذي يثبت ، والمثبت هو الأخبار ، مثل صحيحة زرارة قال : «إذا اغتسلت بعد طلوع الفجر أجزأك غسلك ذلك للجنابة والجمعة وعرفة والنحر والحلق والذبح والزيارة ، وإذا اجتمعت لله عليك حقوق أجزأك عنها غسل واحد» ثمّ قال : «وكذلك المرأة» (٣) الحديث ، وصحيحته الاخرى عن أحدهما عليهما‌السلام بذلك المضمون (٤).

والرواية الاولى وإن كان في الطريق إبراهيم بن هاشم ، إلّا أنّه حسن كالصحيح وفاقا ، مع أنّها رويت عنه بطريق صحيح أيضا.

والثانية وإن كان في الطريق علي بن السندي ، إلّا أنّه ثقة على ما حقّقته في «الرجال» (٥).

__________________

(١) نهاية الإحكام : ١ / ١١٣.

(٢) لاحظ! نهاية الاصول : ١ / ٢٠٤.

(٣) الكافي : ٣ / ٤١ الحديث ١ ، تهذيب الأحكام : ١ / ١٠٧ الحديث ٢٧٩ ، وسائل الشيعة : ٢ / ٢٦١ الحديث ٢١٠٧ مع اختلاف يسير.

(٤) الكافي : ١ / ٤١ الحديث ٢ ، وسائل الشيعة : ٢ / ٢٦٣ الحديث ٢١٠٨.

(٥) تعليقات على منهج المقال : ٢٣٤.

١٠٢

هذا ، مع الانجبار بعمل الأصحاب ، والاعتضاد بصحاح ومعتبرة كثيرة.

ومنها : صحيحة زرارة عن الباقر عليه‌السلام أنّه قال له : ميّت مات وهو جنب كيف يغسل؟ قال : «يغسل غسلا واحدا يجزيه ذلك للجنابة ولغسل الميّت ، لأنّهما حرمتان اجتمعتا في حرمة واحدة» (١) ، والعلّة المنصوصة مقتضاها العموم.

ومنها : مرسلة جميل عن بعض أصحابنا عن أحدهما عليهما‌السلام : «إذا اغتسل الجنب بعد طلوع الفجر أجزأ عنه ذلك الغسل من كلّ غسل يلزمه في ذلك اليوم» (٢).

ومنها : الأخبار التي بعضها صحيح ، وبعضها موثّق ، وهي في غاية الكثرة تدلّ على أنّ المرأة إذا اغتسلت يكفيها عن غسل الجنابة والحيض (٣).

ومنها : الأخبار الدالّة على أنّ الميّت الجنب يغسل غسلا واحدا (٤).

لا يقال : الرواية الاولى مضمرة ، والثانية في سندها علي بن السندي وفيه كلام ، والثالثة لا تخلو عن كلام من جهة العلّة المنصوصة ، والمرسلة ضعيفة والبواقي لا عموم فيها.

لأنّا نقول : إضمار زرارة في حكم المسند ، لكونه ممّن أجمعت العصابة (٥) ، ولأنّه ممّن لا يروي عن غير المعصوم عليه‌السلام ، ولأنّها مسندة في «التهذيب» إلى أحدهما عليهما‌السلام (٦) ، والإضمار إنّما هو في «الكافي» ، مع أنّه صرّح في أوّله بأنّ جميع ما

__________________

(١) الكافي : ٣ / ١٥٤ الحديث ١ ، تهذيب الأحكام : ١ / ٤٣٢ الحديث ١٣٨٤ ، الاستبصار : ١ / ١٩٤ الحديث ٦٨٠ ، وسائل الشيعة : ٢ / ٥٣٩ الحديث ٢٨٥٠.

(٢) الكافي : ٣ / ٤١ الحديث ٢ ، وسائل الشيعة : ٢ / ٢٦٣ الحديث ٢١٠٨.

(٣) لاحظ! وسائل الشيعة : ٢ / ٢٥٩ ـ ٢٦١ الباب ٤١ من ابواب الجنابة.

(٤) راجع! وسائل الشيعة : ٢ / ٥٣٩ الباب ٣١ من أبواب غسل الميّت.

(٥) رجال الكشي : ٢ / ٥٠٧ الحديث ٤٣١.

(٦) تهذيب الأحكام : ١ / ١٠٧ الحديث ٢٧٩.

١٠٣

فيه من الروايات الصادرة عن الصادقين عليهم‌السلام على سبيل العلم واليقين (١).

مضافا إلى أنّ هذه منقولة عن كتاب حريز ، عن زرارة ، عن الباقر عليه‌السلام على ما صرّح به ابن إدريس في آخر «السرائر» ، وصرّح بأنّ كتاب حريز هذا أصل معتبر معوّل عليه (٢).

وأمّا علي بن السندي ، فقد حقّقت في التعليقة كونه ثقة (٣) ، فمجرّد الكلام فيه لا يضرّ ، سيّما مع اعتضادها بالرواية الاولى ، واعتضادهما بما ذكرنا.

والمرسلة مرويّة في «الكافي» ، وقد عرفت حاله ، سيّما مع اعتضادها بجميع ما ذكر ، والمناقشة في الثالثة ـ وهي العلّة المنصوصة ـ لا وجه لها ، لأنّه حجّة ، كما حقّق في محلّه. وأمّا البواقي وإن كانت لا عموم فيها ، إلّا أنّه لا قائل بالفصل.

هذا كلّه ، مع الانجبار بالشهرة العظيمة ، بل ربّما ادّعي الاتّفاق في بعض الصور ، كما ستعرف ، فدليل التداخل ظهر أنّه في أعلى مرتبة من القوّة ، ولا يبقى وجه للتأمّل فيه.

إذا عرفت هذا ، فاعلم! أنّ الأغسال المجتمعة إمّا كلّها واجبة أو كلّها مستحبة ، أو بعضها واجب وبعضها مستحب ، فالأقسام ثلاثة :

أمّا الأوّل : فإن قصد الجميع في النيّة ، فالظاهر إجزاؤه عن الجميع ، بل لا تأمّل فيه بناء على التداخل ، ولا شبهة في دخوله في الأخبار ، وإن قصد البعض على سبيل التعيين ، فإن كان الجنابة فالمشهور إجزاؤه عن غيره ، بل قيل : إنّه متّفق عليه (٤).

__________________

(١) الكافي : ١ / ٨.

(٢) السرائر : ٣ / ٥٨٩.

(٣) تعليقات على منهج المقال : ٢٣٤.

(٤) السرائر : ١ / ١٢٣ ، جامع المقاصد ١ / ٨٧.

١٠٤

لكن يبقى الإشكال لو كان المقصود عدم رفع غيرها ، إذ لم يظهر بعد كون مثل هذا الغسل صحيحا شرعيّا ، إذ لو كان الأحداث واحدة أو متلازمة يلزم التناقض ، وإلّا يلزم الانفكاك في عدم رفع البواقي في الصورة الاولى أيضا.

بل لعلّه لا يرتفع الإشكال من الصورة الاولى مطلقا ، لعدم تحقّق إجماع ولا ظهور من الأخبار ، سيّما مع ما عرفت من صحّة غسل الجنابة في حال الحيض ، إذ هو صريح في التعدّد وعدم التلازم.

والمرسلة (١) وإن كان لها ظهور ، إلّا أنّها ليست مستندهم بحيث يرتفع الإشكال ، لما ستعرف.

وغير المرسلة لا خصوصيّة له بقصد خصوص الجنابة ، إذ سائر الحقوق مثل الجنابة وإن كانت الأغسال المستحبة ، وهم لا يرضون بكفاية الغسل المستحب عن الواجب ، وكفاية غير الجنابة معركة لآرائهم ، كما ستعرف.

فلو كان ظهور من الأخبار لما يتأتّى النزاع المزبور والوفاق في عدم كفاية المستحب ، مضافا إلى ما ستعرف ، وإن قصد غير الجنابة ففيه قولان.

وفي «الذخيرة» : الأظهر أنّه كالأوّل (٢) ، والظاهر أنّ بناء ظهوره على كون الأصل التداخل ، من جهة أصل البراءة وصدق الامتثال عندهم ، وقد عرفت ما فيه ، إلّا أن يقال بظهور شمول الأخبار للغسل الواحد بقصد رفع حدث واحد مطلقا ، أيّ حدث كان ، والظهور لا يخلو عن غبار وخفاء.

وقيل بأنّ الجنابة أقوى من غيرها ، وقصد رفع الأقوى يستلزم رفع الأدون بطريق أولى (٣).

__________________

(١) وسائل الشيعة : ٢ / ٢٦٣ الحديث ٢١٠٨.

(٢) ذخيرة المعاد : ٨.

(٣) نهاية الإحكام : ١ / ١١٢.

١٠٥

وقيل : إنّ الحيض أقوى (١) ، لما ورد في الأخبار من قوله عليه‌السلام : «قد جاءها أعظم من ذلك» (٢) ، أي : الحيض أعظم من الجنابة.

وقيل : غسل الحيض مع الوضوء يساوي الجنابة (٣).

وقيل : الحدث الذي رفعه يحتاج إلى الوضوء والغسل جميعا أقوى ممّا يتوقّف على خصوص الغسل (٤).

وكلّ ذلك لم نجد له وجها ينفع في المقام ، فظهر كون جميع الصور مورد الإشكال سوى صورة قصد الكلّ.

نعم ، يظهر من المرسلة أنّ قصد خصوص غسل الجنابة يجزي عن غيرها.

ويظهر منها أيضا أنّ مع غسل الجنابة لا يتوضّأ لغيرها من الأغسال ، كما قاله الأصحاب ، إلّا أنّها ضعيفة ، إلّا أن يقال بانجبارها بالشهرة وغيرها.

وكيف كان قصد الكلّ أحوط ، وإذا نوى قصد رفع مطلق الحدث ، فالظاهر أنّه مثل قصد الكلّ ، وإذا قصد الوجوب والقربة فقط أو القربة فقط ، فيحتمل كونهما مثل صورة قصد الكلّ ، ودخولهما في مطلقات الأخبار ، والأحوط قصد الكلّ والاقتصار عليه ، أو قصد رفع مطلق الحدث.

القسم الثاني : أن يكون كلّها مستحبة ، والأظهر التداخل مع قصد الكلّ تفصيلا أو إجمالا ، والأحوط الاقتصار عليهما.

وأمّا لو قصد مستحبّا معيّنا خاصّة ، ففيه الإشكال السابق بالنسبة إلى ما لم يقصده ، وأشكل منه قصد عدمه وعدم إرادته متذكّرا له.

وهذه المستحبات أيضا مختلفة في مراتب الرجحان متضادة لذلك ، إذ ليس

__________________

(١) نهاية الإحكام : ١ / ١١٢.

(٢) الكافي : ٣ / ٨٣ الحديث ٣ ، وسائل الشيعة : ٢ / ٣١٤ الحديث ٢٢٢٦ مع اختلاف يسير.

(٣) نهاية الإحكام : ١ / ١١٢.

(٤) نهاية الإحكام : ١ / ١١٢.

١٠٦

غسل الجمعة مثل غسل الاستخارة ، وغسل ليلة القدر مثل ليالي الفرادى ، وقس على هذا.

وأيضا بعضها للزمان لا غيره ، وبعضها للمكان لا غيره وبعضها للفعل لا غيره ، فبين هذه الأغسال أيضا تضادّ أو تناقض ، ولا يجوز اجتماعهما في شخص واحد ، كما ستعرف ، فكيف يكون الكلّ شخصا واحدا حتّى يكون قصد واحد منها قصد الكلّ وكافيا في الامتثال بالنسبة إلى الجميع؟

وما قال في «المدارك» و «الذخيرة» : أنّ القول بالإجزاء غير بعيد (١) فيه ما فيه لأنّ المكلّف إذا لم يرد أمرا كيف يستحقّه ويعطى مع عدم إرادته وطلبه؟ «إنّما لكلّ امرء ما نوى» (٢).

والإجزاء لا يكون إلّا بالامتثال ، والامتثال لا يكون إلّا بقصده وقصد الإطاعة ، بل مرّ أنّ قصد التعيين شرط لتحقّق الإطاعة ، إلّا أن يثبت من الشرع عدم الحاجة إليه في موضع.

فان قلت : إنّ الأئمّة عليهم‌السلام لم يتوجّهوا في الأخبار الدالّة على التداخل إلى قصد التعيين في الإطاعة والإجزاء.

قلت : إنّهم عليهم‌السلام لم يتعرّضوا في غير موضع التداخل أيضا من المواضع التي لا تأمّل في اشتراطه واعتباره من الجهة التي مرّ ذكرها ، بل لم يتعرّضوا لذكر قصد الامتثال أصلا في عبادة من العبادات ، وما دلّ على اعتبارهما يشمل المقام أيضا.

فإن قلت : يمكن أن يكون حال تحقّق الاستحباب وترتّب الثواب في الأغسال المستحبّة حال المصلّين جماعة ، فإنّ ثوابهم يزيد ويتضاعف بتلاحق المأمومين ، مع أنّه غير مترتّب على قصدهم ، ولا يتوقّف على إرادتهم.

__________________

(١) مدارك الأحكام : ١ / ١٩٦ ، ذخيرة المعاد : ٩.

(٢) عوالي اللآلي : ٢ / ١١ الحديث ٢٠ ، ١٩١ الحديث ٨١.

١٠٧

قلت : المصلّون جماعة مرادهم به إدراك كلّ ثواب يتحقّق فيه ونيل كلّ ثمرة يترتّب عليه وإن لم يعلموا تفصيلا أنّها ما هي؟ مع أنّ ثواب الفعل ربّما يزيد وربّما ينقص بالوجوه والاعتبارات ، ولذا من جاء بالحسنة ربّما يكون له عشر أمثالها ، وربّما يزيد عن ذلك ، حتّى أنّه ربّما يكون له سبع مائة ، وربّما يضاعف الله تعالى أضعاف ذلك ، هذا بخلاف الثواب المترتّب على فعل مع عدم إرادته أصلا بل وإرادة عدمه ، على أنّ تحقّق خلاف القاعدة في مادّة لا يقتضي تحقّقه كلّيا ، فتأمّل!

القسم الثالث : أن يكون بعضها واجبا وبعضها مستحبا ، والكلام فيه يظهر ممّا تقدّم ، إلّا أن يزيد هنا أنّ الواجب والمستحب متضادّان بالبديهة ، فمع الاجتماع ـ كما هو المفروض ـ كيف يصير أحدهما عين الآخر وهو هو بعينه؟ سيّما وأن يدعى كون ذلك مقتضى الأصل وتحقّق الامتثال العرفي ، مع أنّ الشيعة متّفقون على عدم جواز اجتماعهما في فرد واحد وإن اختلف جهتهما ، كاجتماع الحرام والواجب في مثل الصلاة في الدار المغصوبة. والأشعري وإن جوّز الاجتماع ، لكن يقول بأنّ المكلّف جمعهما لا الشارع (١) ، ولا يرضون بالاجتماع من قبل الشارع.

وبالجملة ، الأحكام الخمسة بأسرها متضادّة ، كما هو مسلّم ومحقّق في محلّه ، وأين هذا من كون الأصل هو التداخل ، للأصل وصدق الامتثال؟

وأيضا بعضها رافع للحدث وبعضها غير رافع له أصلا ، فكيف يكون الأصل في مثله التداخل؟ سيّما من الجهة التي ذكر.

مع أنّ الرافع للحدث هنا ليس مثل الوضوء ، لما ظهر في الوضوء من اتّحاد الحدث فيه وكونه معنى واحدا ، لكون المعنى عدم تأتّي الصلاة ـ مثلا ـ ممّن لم يتوضّأ بعد الحدث الأصغر ، وحصولها ممّن توضّأ أيّ وضوء يكون ، لقوله تعالى (إِذا قُمْتُمْ

__________________

(١) الملل والنحل : ١ / ٨٨.

١٠٨

إِلَى الصَّلاةِ) (١) الآية ، وقوله عليه‌السلام : «لا صلاة إلّا بطهور» (٢) وأمثالهما ممّا دلّ على كفاية غسل الوجه واليدين ، ومسح الرأس والرجلين ، مع قصد القربة والترتيب والموالاة المعتبرة.

وأمّا المقام ، فلم يظهر بعد اتّحاد الحدث في الكلّ ، لما عرفت من أنّ بعضه يرتفع بمجرّد الغسل ، وبعضه لا يرتفع إلّا بالوضوء أيضا ، وبعضه يرتفع مع عدم ارتفاع الحدث الآخر. إلى غير ذلك من مثل كون بعضها بحكم الطهارة في كثير من الامور كالاستحاضة ، وكون بعضها يمنع ممّا لا يمنع منه بعضها. إلى غير ذلك.

وبالجملة ، أحكام هذه الأحداث ليست على حدّ سواء بل مختلفة ، وربّما كانت متضادّة أو متناقضة ، فكيف يكون الواحد الشخصي حكمه مختلفا ومتضادّا أو متناقضا؟

مع أنّ الفقهاء أيضا وقع بينهم النزاع في الاتّحاد وعدمه لما عرفت ، على أنّه على تقدير الاتّحاد أيضا يتحقّق الإشكال فيما إذا قصد رفع حدث الجنابة مثلا ، دون حدث الحيض مثلا ، لأنّه يؤدّي إلى التناقض ، وهو أنّه يرتفع الحدث ولا يرتفع الحدث ، وكون لا يرتفع بخصوصه لغوا يحتاج إلى دليل متين.

وبالجملة ، كون التداخل أصلا فاسد بالبديهة.

نعم ، يجوز أن يجوّز الشارع تحقّق الآثار والثمرات والثواب الواقعة في الكلّ بفعل واحد شخصي ، كما ظهر من الأخبار (٣) ، لكن بالنحو الذي ظهر لا مطلقا ، فلا بدّ من عدم الخروج عن مقتضى ما يظهر من الأخبار المذكورة ، بشرط تحقّق

__________________

(١) المائدة (٥) : ٦.

(٢) من لا يحضره الفقيه : ١ / ٢٢ الحديث ٦٧ ، وسائل الشيعة : ١ / ٣٦٥ و ٣٦٦ الحديث ٩٦٠ و ٩٦٥ ، ٣٦٨ الحديث ٩٧١.

(٣) لاحظ! وسائل الشيعة : ٢ / ٢٦١ الباب ٤٣ من أبواب الجنابة.

١٠٩

ظهور معتدّ به ، وهو فيما إذ نوى الكلّ مفصّلا ظاهر ، وكذا لو نوى الجميع مجملا.

ويمكن تحقّقه أيضا فيما إذا نوى البعض مع الغفلة عن قصد الآخر ، وأنّه لو كان لم يغفل عنه لكان يقصده ويريده البتة ، سيّما إذا كان جميع الثمرات الشرعيّة مطلوبا له ـ ولو بعنوان الإجمال ـ ومشتهاه إليه وإن كان غفل من الإخطار بالبال ، ومع ذلك لا أمنع إعطاء ثواب غير المقصود أصلا ورأسا من باب التفضل ، بل الغالب فيما يعطيه من الثواب تفضّل منه تعالى لو لم نقل في الكلّ ، وأمّا ما ذكر عن الفقهاء ، فهو أنّه لو نوى الجميع أجزأه غسل واحد.

وكذا لو نوى الواجب أجزأ عن المستحب عند الشيخ ومن وافقه (١) ، ومنعه العلّامة (٢) ، واستشكله المحقّق أيضا (٣) من جهة أنّه يشترط نيّة السبب عندهما ، وقد عرفت وجهه.

ولعلّ الشيخ تمسّك بإطلاق الأخبار وهو تمام إن ظهر كون الإطلاق ظاهرا في شموله للمقام.

وأمّا مستند من وافقه من متأخّري المتأخّرين ، فهو أصالة التداخل (٤) على ما ذكر ، وقد ظهر فساده.

وأمّا إذا قصد المستحب خاصّة ، فالمشهور أنّه لا يجزي عن الواجب ، لأنّه لم ينو الواجب ، فيكون حدثا باقيا ، ولا عن المستحب أيضا ، لأنّه لا يحصل مع بقاء الحدث.

وقال في «الذخيرة» بالإجزاء عن الواجب والمستحب جميعا ، لدلالة بعض الأخبار السابقة وصدق الامتثال عرفا ، يعني أنّه يصدق أنّه اغتسل عقيب الجنابة

__________________

(١) المبسوط : ١ / ٤٠ ، ذخيرة المعاد : ٩.

(٢) نهاية الإحكام : ١ / ١١٣.

(٣) المعتبر : ١ / ٣٦١.

(٤) ذخيرة المعاد : ٩.

١١٠

مثلا ، وأنّه اغتسل في يوم الجمعة أيضا مثلا (١). والكلام في صدق الامتثال وقد مرّ ، وأنّه هو الاتيان بما طلب من جهة أنّه طلب منه ، وهذا لا يتحقّق إلّا بقصد ما طلب وإخطاره بالبال ، أو كونه الداعي على الفعل ، كما مرّ في مبحث النيّة.

وأمّا مراده من دلالة بعض الأخبار ، إن كان دلالة مرسلة جميل (٢) ، ففيه ، أنّها تدلّ على أنّ غسل الجنابة يجزي عن غيره ممّا يلزم في ذلك اليوم لا العكس ، سيّما إذا لم يكن الغسل لازما عليه.

وإن كان مراده إطلاق لفظ «غسل واحد» في قوله عليه‌السلام : «إذا اجتمعت عليك حقوق أجزأك غسل واحد» (٣) وأنّه يشمل مثل غسل الجمعة أيضا في أنّه يجزي عن الجنابة وغيرهما ممّا عدّ فيها ، ففيه ، أنّه في مرتبة الإجمال ، ولم يظهر عموم يشمل المقام بحيث تطمئن إليه النفس.

كيف؟ والمشهور لم يفهموا كذلك ، ولم يبنوا على ذلك ، وهم أرباب القوى القدسيّة في فهم الأخبار ، والأئمّة في هذا الفن فتأمّل!

وكيف يجوّز عاقل شموله لصورة قصد خصوص مستحب من تلك الأغسال ، وعدم قصد غير ذلك وإن كان واجبا وفرضا ، بل وقصد عدم الغير وأنّه لا يريد الامتثال بالنسبة إلى ذلك الغير ، بل ويريد العصيان أنّه مع ذلك مطيع ممتثل لذلك الذي لم يرده ، بل مراده عدمه والعصيان فيه؟

بل الظاهر عدم الامتثال عرفا بالنسبة إلى ما لم يقصده متذكّرا له ، أو غير متذكّر لكن لا يريده لو كان متذكّرا له.

بل غير ظاهر شموله لما لم يقصده مطلقا ، إذ المتبادر ليس إلّا من يريد وفاء

__________________

(١) ذخيرة المعاد : ٩.

(٢) الكافي : ٣ / ٤١ الحديث ٢ ، وسائل الشيعة : ٢ / ٢٦٣ الحديث ٢١٠٨.

(٣) وسائل الشيعة : ٢ / ٢٦١ الحديث ٢١٠٧.

١١١

الحق من تلك الحقوق ، بل وفاء تلك الحقوق يجزيه فعل واحد لوفاء تلك الحقوق ويكفيه. فإذا لم يرد أمرا ، فأيّ معنى للإجزاء والكفاية؟

هذا ، مضافا إلى ما عرفت ممّا سبق ـ فتأمّل ـ وخصوصا مع كون شغل الذمّة اليقيني يستدعي البراءة اليقينيّة ، وأنّ الحدث اليقيني مستصحب حتّى يثبت خلافه ، وأنّ الشكّ في الشرط يقتضي الشكّ في المشروط. إلى غير ذلك ، وخصوصا بعد ملاحظة مجموع ما ذكرناه سابقا.

واستدلّ أيضا بما رواه في «الفقيه» : «أنّ من جامع في أوّل شهر رمضان ثمّ نسي الغسل حتّى خرج شهر رمضان عليه أن يغتسل ويقضي صلاته وصومه إلّا أن يكون قد اغتسل للجمعة فإنّه يقضي صلاته وصومه إلى ذلك اليوم ولا يقضي ما بعد ذلك اليوم» (١) ، مع أنّه رحمه‌الله قال في أوّل كتابه ما قال (٢).

وفيه ، أنّه رحمه‌الله ومن وافقه لا يعتبرون ما ذكره الصدوق في أوّل «الفقيه» لأجل حجيّة الحديث.

مع أنّه في كثير من المقامات ربّما كان روايته أقوى من هذه ، مع أنّها تتضمّن فساد الصوم بنسيان الغسل والبقاء على الجنابة إلى الصبح ناسيا أيضا ، مع أنّ فتواهم أنّ البقاء عمدا يفسد الصوم ، مع أنّه استشكل في هذا أيضا في مبحث الصوم (٣).

هذا ، مع أنّه رحمه‌الله أورد في «الفقيه» أخبارا كثيرة لا يفتي بمضمونها ، بل يفتي بخلافها.

حتّى أنّه قال جدّي ، في شرحه عليه : أنّه ، بدا له عمّا ذكره في أوّل الكتاب ،

__________________

(١) من لا يحضره الفقيه : ٢ / ٧٤ الحديث ٣٢١ ، وسائل الشيعة : ١٠ / ٢٣٨ الحديث ١٣٣١٢ مع اختلاف يسير.

(٢) من لا يحضره الفقيه : ١ / ٣.

(٣) من لا يحضره الفقيه : ٢ / ٧٥ ذيل الحديث ٣٢٨.

١١٢

وصار عادة المصنّفين (١) ، مع أنّ صحّة الغسل للجمعة واعتباره للصوم والصلاة ، لعلّه لمكان الضرورة ودفع الحرج وتحصيل اليسر والسهولة في الدين ، فتأمّل!

هذا ، والاحتياط واضح بحمد الله تعالى.

ثمّ اعلم! أنّه إذا كان أحد الأغسال غسل الجنابة ، فالغسل بغير وضوء عند الفقهاء ـ وإن كان منها غسل الحيض وأمثاله ، ممّا يجب كونه مع الوضوء ـ لأنّ غسل الجنابة يجزي عن الوضوء بالإجماع منّا ، والحدث الأصغر أيضا يرتفع به ، فلم يبق حتّى يحتاج رفعه إلى الوضوء.

نعم ، إذا لم يكن من جملتها غسل الجنابة ، فالمتعيّن كون الغسل مع الوضوء إذا اريد الصلاة به ، أو مطلقا ، كما مرّ في مبحثه.

واعلم! أيضا أنّ التداخل ليس على سبيل القهر والعزيمة ، كما توهّمه صاحب «الذخيرة» وموافقوه من كون الأغسال عند الاجتماع غسلا واحدا شخصيّا (٢) ، هو بعينه غسل الجنابة ، وهو بعينه غسل الجمعة وهكذا ، لأصالة البراءة وعدم الزيادة وصدق الامتثال بواحد عرفا ، إذ قد عرفت فساد الكلّ.

وممّا ينادي بفساده الأخبار الدالّة على التداخل (٣) إذ هي صريحة في كون التداخل على سبيل الجواز والرخصة ، بل وظاهرة في المرجوحيّة أيضا ، لأنّه ورد : أنّ الغسل الواحد يجزي عن المتعدّد (٤) ، والإجزاء يطلق على أقلّ مراتب الواجب ، ودليل على استحباب غيره ، كما مرّ في مبحث الاستنجاء (٥) ، وأنّه مسلّم عند

__________________

(١) روضة المتّقين : ١ / ١٧.

(٢) ذخيرة المعاد : ٩ ، مدارك الأحكام : ١ / ١٩٤ ، الحدائق الناضرة : ٢ / ٢٠٣ و ٢٠٤ ، للتوسع لاحظ! مفتاح الكرامة : ١ / ١١٢.

(٣) راجع! وسائل الشيعة : ٢ / ٢٦١ الباب ٤٣ من أبواب الجنابة.

(٤) وسائل الشيعة : ٢ / ٢٦١ الباب ٤٣ من أبواب الجنابة.

(٥) راجع! الصفحة : ١٧٤ ـ ١٧٦ (المجلّد الثالث) من هذا الكتاب.

١١٣

صاحب «الذخيرة» وموافقيه ، فاستدلالهم بهذه الأخبار على مطلوبهم في غاية الغرابة ، وهم الأعرفون.

على أنّه لو كان الأمر على ما قالوا من كون الأغسال المجتمعة غسلا واحدا عند أهل العرف ، لكان ما ذكره الأئمّة عليهم‌السلام في الأخبار إظهارا للمعلوم وتحصيلا للحاصل ، مثل أن يقولوا : من لم يكن نائما فهو يقظان ، وفيه ما فيه.

هذا على اعتقادهم من كون الأخبار دالّة على مطلوبهم ، وإلّا فمقتضى الأخبار إبطال التداخل القهري وإظهار كونه على سبيل الرخصة ، بل المرجوحيّة أيضا وأنّ تركه أولى ، مضافا إلى كون «أفضل الأعمال أحمزها» (١).

مع أنّه ربّما تفوت الفضيلة بالتداخل ، مثل كون غسل الجمعة قريبا من الزوال بالنسبة إلى من يغتسل للجنابة بعد طلوع الفجر. إلى غير ذلك ، بل عدم التداخل أحوط أيضا ، للخروج عن خلاف جماعة من الأصحاب منهم العلّامة رحمه‌الله (٢) ، وعن مقتضى دليل عدم التداخل ، لما عرفت من أنّه قوي ، ولذا لم يجوز جماعة من أصحابنا تداخل الأغسال (٣). مع ورود أخبار كثيرة صحيحة ومعتبرة (٤) ظاهرة الدلالة على جواز التداخل بالمعنى الذي ذكر ، لا التداخل الحقيقي ، لغاية ظهور استحالة صيرورة شيئين أو أشياء شيئا واحدا.

مضافا إلى اقتضاء اجتماع المتضادّة والمتناقضة في موضع واحد وإن كان من جهتين أو جهات مختلفة أو متضادّة أو متناقضة ، وكون شخص واحد مختلف الأحكام.

__________________

(١) بحار الأنوار : ٦٧ / ٢٣٧ و ٢٩٨.

(٢) نهاية الإحكام : ١ / ١١٣.

(٣) منهم العلّامة في مختلف الشيعة : ١ / ٣٢٠ ، والشهيد الثاني في روض الجنان : ١٨.

(٤) لاحظ! وسائل الشيعة ٢ / ٢٦١ الباب ٤٣ من أبواب الجنابة.

١١٤

٦١ ـ مفتاح

[أفعال الغسل]

الغسل هو غسل البشرة جميعا مع النيّة ، كما مرّت ، ولو بالقيام في المطر ، كما في الخبرين (١) ، والأحوط غسل الشعر أيضا ، لظاهر الصحيحين (٢) ، وإن كان المشهور ، بل الأصحّ عدم وجوبه إلّا من باب المقدّمة ، للأصل ، وخروجه عن مسمّى الجسد.

ويجب تقديم الرأس على البدن للصحاح المستفيضة (٣) ، والأحوط تقديم الجانب الأيمن على الأيسر أيضا ، كما هو المشهور (٤) ، لنقل الشيخ على وجوبه الإجماع (٥) ، وإن لم يوجبه الصدوقان والإسكافي (٦) ، لعدم دليل عليه وهو الأصح.

__________________

(١) وسائل الشيعة : ٢ / ٢٣٢ الحديث ٢٠٢٣ و ٢٠٢٦.

(٢) وسائل الشيعة : ٢ / ٢٤١ الحديث ٢٠٤٦ ، ٢٥٧ الحديث ٢٠٩٨.

(٣) الكافي : ٣ / ٤٣ الحديث ١ ، وسائل الشيعة : ٢ / ٢٢٩ الحديث ٢٠١٣.

(٤) لاحظ! مدارك الأحكام : ١ / ٢٩٣.

(٥) الخلاف : ١ / ١٣٢ المسألة ٧٥.

(٦) نقل عن والد الصدوق في من لا يحضره الفقيه : ١ / ٤٦ ، الهداية : ٩٣ ، نقل عن الاسكافي في مدارك الأحكام : ١ / ٢٩٣.

١١٥

ويسقط الترتيب مطلقا بارتماسة واحدة ، للإجماع والصحيحين (١) ، والمرجع في الوحدة إلى العرف ، فلا ينافيها توقّف إيصال الماء على تخليل ما يعتبر تخليله من الشعر ونحوه ، والترتيب الحكمي ـ الذي يقال فيه ـ لم يثبت.

والكلام في المباشرة بالنفس وطهارة الماء وإطلاقه ، كما مرّ في الوضوء.

__________________

(١) وسائل الشيعة : ٢ / ٢٣٠ الحديث ٢١٠٧ ، ٢٣٢ الحديث ٢٠٢٤.

١١٦

قوله : (هو غسل البشرة جميعا مع النيّة). إلى آخره.

الغسل من جملة العبادات كالوضوء والتيمم وغيرهما ممّا هو من مستحدثات الشرع ، ولذا يكون توقيفيّا ووظيفة الشرع ، كنفس الأحكام الشرعيّة في العبادات أو المعاملات ، لعدم طريق إليه من غير جهته ، وإن كانت الأحكام ممّا يستقلّ العقل بدرك حسنه أو قبحه ، لأنّ استقلاله لهما كاشف عن حكم الشرع بهما ، لا أنّه هو هو.

وأمّا ماهيّة العبادات ، فلا طريق للعقل ولا غيره إليها أصلا ، سوى بيان الشرع بالبديهة.

فلا بدّ من ثبوت كون الغسل ما هو بحسب الشرع ، والثابت منه قسمان :

ترتيبي : وهو الأصل في الغسل.

وارتماسي : وهو يجزي عن الترتيبي ، ولذا يعرفون الفقهاء إيّاه بالقسم الترتيبي ، ثمّ يقولون : ويسقط الترتيب بارتماسة واحدة (١).

وحكم بعضهم بأنّ الارتماسي ترتيبي حكما (٢) ، كما ستعرف ، ويظهر من النص أنّ الارتماسي يجزي عن الغسل (٣).

إذا عرفت هذا فنقول : يجب في الغسل النيّة على نحو ما مرّ في الوضوء ، لأنّ الحال واحد بلا شبهة على ما هو مقتضى النصوص والفتاوي ، فلا يحتاج المقام إلى البسط والتطويل ، غير أنّه ذكر جماعة أنّ المستحاضة لا تنوي رفع الحدث في

__________________

(١) المبسوط : ١ / ٢٩ ، شرائع الإسلام : ١ / ٢٧ ، كشف اللثام : ١ / ١٩ ، مدارك الأحكام : ١ / ٢٩٥.

(٢) الاستبصار : ١ / ٢٥ ذيل الحديث ٤٢٤.

(٣) وسائل الشيعة : ٢ / ٢٣٠ الحديث ٢٠١٧ ، ٢٣٢ الحديث ٢٠٢٤ و ٢٠٢٥.

١١٧

غسلها لدوام حدثها ، فتنوي الاستباحة ، كما هو الحال في سلس البول وأمثاله (١).

واعترض عليهم : بأنّ الحدث الذي يمكن رفعه ليس إلّا الحالة المانعة عن الصلاة مثلا ، فما لم ترتفع تلك الحالة لم تصح الصلاة ، غاية ما في الباب أنّ زوالها ربّما يكون إلى حدّ مخصوص (٢).

أقول : هذا الاعتراض لعلّه ليس بمكانه ، كما سيجي‌ء التحقيق في الفرق بين رفع الحدث والاستباحة في مبحث التيمم.

ومرّ أيضا أنّ النيّة ليست منحصرة في المخطر بالبال ، حتّى يقال : إنّ وقتها ابتداء مستحبات الغسل أو ابتداء واجباته ، وهو غسل الرأس ، بل هي الداعية إلى الفعل العلّة الغائية له ، فيستحيل انفكاكها عنه مطلقا.

ويجب أيضا في الغسل غسل بشرة جميع الجسد بما يسمّى غسلا عرفا ، فلا بدّ من جريان ما ولو بمعاون حتّى يمتاز عن المسح ، للإجماع المرادف للضرورة من الدين من أنّ الغسل هو الغسل لا المسح ، وللأخبار المتواترة في كونه غسل الجسد بالتفصيل أو الإجمال (٣) ، والغسل حقيقة فيما ذكرنا.

ويدلّ عليه أيضا صحيحة زرارة عن الباقر عليه‌السلام : «الجنب ما جرى عليه الماء من جسده قليله وكثيره فقد أجزأه» (٤).

وصحيحة ابن مسلم عن أحدهما عليهما‌السلام أنّه قال في اغتسال الجنب : «فما

__________________

(١) مختلف الشيعة : ١ / ٣٧٤ و ٣٧٥ ، روض الجنان : ٨٧ ، مجمع الفائدة والبرهان : ١ / ١٦٨ ، ذخيرة المعاد : ٧٦.

(٢) الحدائق الناضرة : ٣ / ٣٠٣ و ٣٠٤.

(٣) لاحظ! وسائل الشيعة : ٢ / ٢٢٩ الباب ٢٦ من أبواب الجنابة.

(٤) الكافي : ٣ / ٢١ الحديث ٤ ، تهذيب الأحكام : ١ / ١٣٧ الحديث ٣٨٠ ، الاستبصار : ١ / ١٢٣ الحديث ٤١٦ ، وسائل الشيعة : ٢ / ٢٤٠ الحديث ٢٠٤٥.

١١٨

جرى عليه الماء فقد طهر» (١). إلى غير ذلك.

ولأنّ المسح لا يسمّى غسلا ، ولا وجه لتسميته به واشتقاقه منه.

فما ورد من أنّه يكفيه مثل الدهن (٢) ، محمول المبالغة في كفاية أقلّ الجريان ، وأنّ المراد ما يشبه الدهن في قلّة الماء ، لا ما هو الدهن حقيقة ، لأنّ الظاهر لا يعارض القطع ، فكيف يقاوم القطعيّات ويغلب عليها؟

قوله : (كما في الخبرين).

أقول : هما صحيحة علي بن جعفر ، عن أخيه موسى عليه‌السلام أنّه سأله عن الرجل يجنب هل يجزيه [عن غسل الجنابة] أن يقوم في المطر حتّى يغسل رأسه وجسده ، وهو يقدر على ما سوى ذلك؟ قال : «إن كان يغسله اغتساله بالماء أجزأه ذلك» (٣).

وصحيحة محمّد بن أبي حمزة ، عن رجل ، عن الصادق عليه‌السلام في رجل أصابته جنابة فقام في المطر حتّى سال على جسده ، أيجزيه ذلك من الغسل؟ قال : «نعم» (٤).

وعرفت أنّ الأوّل صحيح ، فلم يظهر وجه تعبير المصنّف عنهما بالخبرين.

والظاهر من المصنّف أنّ الغسل المذكور فيها هو الترتيبي ، ولعلّه لأنّه الأصل مع عدم ظهور ما يعدل به عنه ، بل ربّما كان في الصحيحة إشعار بذلك ، لقول الراوي : حتّى يغسل رأسه وجسده ، والمعصوم عليه‌السلام قرّره على ذلك بقوله : «إن كان

__________________

(١) الكافي : ٣ / ٤٣ الحديث ١ ، تهذيب الأحكام : ١ / ١٣٢ الحديث ٣٦٥ ، الاستبصار : ١ / ١٢٣ الحديث ٤٢٠ ، وسائل الشيعة : ٢ / ٢٢٩ الحديث ٢٠١٣.

(٢) تهذيب الأحكام : ١ / ١٣٧ الحديث ٣٨٤ ، وسائل الشيعة : ٢ / ٢٤١ الحديث ٢٠٤٨.

(٣) من لا يحضره الفقيه : ١ / ١٤ الحديث ٢٧ ، تهذيب الأحكام : ١ / ١٤٩ الحديث ٤٢٤ ، الاستبصار :

١ / ١٢٥ الحديث ٤٢٥ ، وسائل الشيعة : ٢ / ٢٣١ الحديث ٢٠٢٢.

(٤) الكافي : ٣ / ٤٤ الحديث ٧ ، وسائل الشيعة : ٢ / ٢٣٢ الحديث ٢٠٢٦.

١١٩

يغسله». إلى آخره ، وألحقه بعض الأصحاب بالارتماسي (١) ، كما سيجي‌ء.

قوله : (والأحوط غسل الشعر أيضا ، لظاهر الصحيحين). إلى آخره.

المراد من الصحيحين : صحيحة حجر بن زائدة عن الصادق عليه‌السلام أنّه قال : «من ترك شعرة من الجنابة متعمّدا فهو في النار» (٢).

وصحيحة ابن مسلم عن الباقر عليه‌السلام : «الحائض ما بلغ بلل الماء من شعرها أجزأها» (٣).

وفيما ادّعاه من الظهور تأمّل ، فإنّ الشعرة من الجنابة تركها غير نفس الشعرة ، إذ الظاهر منها ترك مقدار شعرة من الموضع الذي صار جنبا بأن لا يغسله عمدا ، وكذا الصحيح الآخر.

لعلّ المراد ما بلغ من شعرها إلى جسدها ، أي الذي يشربه الشعر ويبلغ الرأس والجسد من جانب شعرها يكفي ولا يحتاج إلى حلّ شعرها ، كما يظهر من الأخبار (٤) ، ولا ندري أنّ المصنف أيّ شي‌ء فهم منها؟ مع أنّ بلوغ الماء الشعر لو كان كافيا لزم عدم لزوم بلوغه الجسد ، إذ لم يبق بعد بلوغ الشعر والجسد جميعا شي‌ء لا يجب بلوغه حتّى يقال : أجزأه ، وفيه ما فيه.

وفي «الفقه الرضوي» : «وميّز شعرك بأناملك عند غسل الجنابة ، فإنّه روي عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : إنّ تحت كلّ شعرة جنابة ، فبلّغ الماء تحتها في اصول الشعر كلّها وانظر أن لا تبقى شعرة من رأسك ولحيتك إلّا وتدخل تحتها الماء» (٥).

__________________

(١) المبسوط : ١ / ٢٩ ، مختلف الشيعة : ١ / ٣٣٦ و ٣٣٧.

(٢) تهذيب الأحكام : ١ / ١٣٥ الحديث ٣٧٣ ، وسائل الشيعة : ٢ / ٢٥٧ الحديث ٢٠٩٨.

(٣) الكافي : ٣ / ٨٢ الحديث ٤ ، وسائل الشيعة : ٢ / ٢٤١ الحديث ٢٠٤٦.

(٤) لاحظ! وسائل الشيعة : ٢ / ٢٥٥ الباب ٣٨ من أبواب الجنابة.

(٥) الفقه المنسوب للإمام الرضا عليه‌السلام : ٨٣ ، مستدرك الوسائل : ١ / ٤٧٩ الحديث ١٢١٣.

١٢٠