مصابيح الظلام - ج ٤

محمّد باقر الوحيد البهبهاني

مصابيح الظلام - ج ٤

المؤلف:

محمّد باقر الوحيد البهبهاني


المحقق: مؤسسة العلامة المجدّد الوحيد البهبهاني
الموضوع : الفقه
الناشر: مؤسسة العلامة المجدّد الوحيد البهبهاني
الطبعة: ١
ISBN: 964-94422-4-3
ISBN الدورة:
964-94422-0-0

الصفحات: ٥٣٣

ولو صرّحوا بنفي الثانية ـ مع كونه أيضا مخالفا لما ذهب إليه معظمهم فلا يخلوا عن الضرر فيه ـ لكان مخالفا للواقع أيضا ، لفهم كون ماهيّة التيمّم كذلك ، فسكتوا كما سكتوا عن ذكر تقديم اليمنى وغيره من الواجبات المسلّمة ، وفي المقام لم يقتض التقيّة أزيد ممّا ذكر ، ولو اقتضى أزيد لذكروا ما يقتضيه ، ولذا في مقام التعرّض الثانية تعرّضوا لها مطلقا بعنوان الدخول في كيفيّة مطلق التيمّم.

ومع ذلك إمّا صرّحوا عليهم‌السلام بكون المسح على الوجه والذراعين ـ كما في صحيحة ابن مسلم (١) وقويّة ليث (٢) ـ أو ذكروا الوجه واليدين من دون إشارة إلى حدّ فيهما ، ومن دون تعرّض لكون الوجه بعضه واليدين إلى أيّ حدّ ، كما في صحيحة ابن مسلم (٣) وصحيحة زرارة (٤).

ومعلوم أنّ ابن مسلم هذا هو الذي روى المسح من المرفق إلى أطراف الأصابع ، رواه في مقام بيان كيفيّة التيمّم. ورواية الثانية أيضا في مقام بيان كيفيّته ، فالمظنون أنّ الثانية نقلها بعنوان الإجمال في اليد ، والأولى بالتفصيل فيهما.

وأمّا زرارة فهو الذي روى عن الباقر عليه‌السلام ـ في كيفيّة تيمّم عمّار الذي كان للغسل ـ أنّ الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وضع يديه على الصعيد ، ومسح جبينيه بأصابعه وكفّيه إحداهما على الاخرى ثمّ لم يعد ذلك (٥).

مع أنّه روى أيضا عن الباقر عليه‌السلام أنّه سأله عن التيمّم ، فضرب بيديه الأرض ثمّ رفعهما ونفضهما ، ثمّ مسح بهما جبهته وكفّيه مرّة واحدة (٦).

__________________

(١) وسائل الشيعة : ٣ / ٣٦٢ الحديث ٣٨٧٤.

(٢) وسائل الشيعة : ٣ / ٣٦١ الحديث ٣٨٧١.

(٣) وسائل الشيعة : ٣ / ٣٦١ الحديث ٣٨٧٠.

(٤) وسائل الشيعة : ٣ / ٣٦١ الحديث ٣٨٧٣.

(٥) من لا يحضره الفقيه : ١ / ٥٧ الحديث ٢١٢ ، وسائل الشيعة : ٣ / ٣٦٠ الحديث ٣٨٦٨.

(٦) تهذيب الأحكام : ١ / ٢٠٧ الحديث ٦٠١ ، الاستبصار : ١ / ١٧٠ الحديث ٥٩٠ ، وسائل الشيعة :

٣٤١

وروى أيضا عنه عليه‌السلام في تيمّم عمّار أنّه وضع كفّيه في الأرض ثمّ مسح وجهه وكفّيه ولم يمسح الذراعين بشي‌ء (١) ، فكيف يروي هو أيضا عن الباقر عليه‌السلام : أنّ كيفيّة التيمّم الضرب مرّتين (٢). إلى آخر الحديث.

وهذا ينادي بما ذكرنا من أنّ المقام في رواياته كان مقام مسامحة ، ولذا ذكر تارة «وضع» وتارة «ضرب» وتارة «وضع على الأرض» وتارة «في الأرض» وتارة «يديه» وتارة «كفّيه» وتارة «بأصابعه» وتارة «بيديه» وتارة «جبينيه» وتارة «جبهته» وتارة «وجهه» وتارة «مرّة» وتارة «لم يعد ذلك» وتارة «ولم يمسح الذراعين بشي‌ء».

فظهر على الفطن أنّ المراد واحد ، والتفاوت في المعتبر والنقل بالمعنى ، كما كان دأبهم ، فيكون الحال في الضربة أو الوضع أو الضربتين أيضا كذلك في هذه الرواية وغيرها من الروايات ، وأنّ الكلّ في التيمّم من الغسل ، أو أنّ المقام في الضربتين على الإطلاق كان مقام تقيّة ، لما ذكر ، ولذا لم يذكر الضربتان إلّا في مقام التصريح بالتقيّة ، أو الإجمال في الوجه واليد.

نعم ، رواية أبي همام وإن ذكر فيها «الكفّ» موضع «اليدين» إلّا أنّه ذكر «الوجه» موضع «الجبهة» (٣).

وقد عرفت وجه كونها تقيّة أيضا ، مع احتمال كون الصادر عن المعصوم عليه‌السلام

__________________

٣ / ٣٥٩ الحديث ٣٨٦٣.

(١) تهذيب الأحكام : ١ / ٢٠٨ الحديث ٦٠٣ ، وسائل الشيعة : ٣ / ٣٥٩ الحديث ٣٨٦٥.

(٢) تهذيب الأحكام : ١ / ٢١٠ الحديث ٦١١ ، الاستبصار : ١ / ١٧٢ الحديث ٥٩٩ ، وسائل الشيعة : ٣ / ٣٦١ الحديث ٣٨٧٣.

(٣) تهذيب الأحكام : ١ / ٢١٠ الحديث ٦٠٩ ، الاستبصار : ١ / ١٧١ الحديث ٥٩٧ ، وسائل الشيعة : ٣ / ٣٦١ الحديث ٣٨٧٢.

٣٤٢

بلفظ «اليدين» ، كسائر الأخبار الواردة في الضربتين ، إلّا أنّ الراوي ذكر موضع «اليدين» الكفّين لما عهد من مذهب الشيعة من أنّ اليد عندهم في التيمّم هو الكفّ ، ونقل الرواية بالمعنى كان دأبهم.

ومع احتمال كون ذكر الكف غير مضرّ في ذلك المقام من التقيّة ، لما عرفت مضافا إلى أنّ العامّة نسبوا مسح الوجه والكفّين إلى علي عليه‌السلام وعمّار وابن عبّاس ، وجماعة من التابعين (١) ، فلم يكن للرضا عليه‌السلام خوف في ذكر الكفّ ، وكان خوفه في ذكر التفصيل الذي لم يكن أحد من العامة راضيا به ، ولا نسبوه إلى أحد من القدماء والمتأخّرين ، وإن نسبوا إلى القائلين بالوجه والكفّين ـ سوى إمام الحنابلة والتابعين له ـ كفاية الضربة الواحدة مطلقا (٢).

فاحتمل أن يكون عدم التعرّض للتفصيل في روايات الضربة أيضا للتقيّة ، وإن ذكر في بعضها لفظ «الجبهة ، والجبين» ، لأنّ أبا حنيفة له قول بكفاية أكثر أجزاء الوجه واليد (٣).

مع أنّ هذين اللفظين وردا في بعض روايات زرارة عن الباقر عليه‌السلام فقط (٤) ، وقد عرفت الحال.

هذا ، مع احتمال كون المراد في الضربتين التيمّم من الغسل ، كما عرفت من روايات زرارة (٥) ، فتأمّل!

وممّا ذكر ظهر حجّة القائلين بالضربتين مطلقا وما يرد عليها ، والاحتياط ممّا

__________________

(١) الجامع لأحكام القرآن : ٥ / ١٥٥ ، المحلّى بالآثار : ١ / ٣٧٥ و ٣٧٦ ، نيل الأوطار : ١ / ٢٦٤.

(٢) المغني لابن قدامة : ١ / ١٥٩ و ١٦٠ ، المجموع للنووي : ٢ / ٢١١ مع اختلاف يسير.

(٣) المجموع للنووي : ٢ / ٢٣٩.

(٤) وسائل الشيعة : ٣ / ٣٥٩ الحديث ٣٨٦٣ ، ٣٦٠ الحديث ٣٨٦٧.

(٥) راجع! الصفحة : ٣٤١ و ٣٤٢ من هذا الكتاب.

٣٤٣

لا ينبغي أن يترك.

وعندي أنّ ما هو بدل الغسل يكون بضربتين : ضربة للجبينين وضربة للكفّين ، من دون حاجة إلى احتياط.

وأمّا ما هو بدل من الوضوء ، فالأحوط أن يضرب مرّة يمسح الجبين ، ثمّ يمسح ظهر الكفّين ، ويضرب ضربة اخرى ويمسح بها ظهر الكفّين مرّة اخرى احتياطا.

وأحوط من هذا أن يتيمّم بدل الوضوء بضربة للجبينين واليدين ويمسحان بها ، ثمّ يتيمّم مرّة اخرى بدل الوضوء بضربتين ، مثل بدل الغسل ، وأحوط من الكلّ الجمع بين التيمّمين في الكلّ.

وخالي رحمه‌الله رجّح أخبار (١) الضربة الواحدة مطلقا بسبب نسبة بعض العامّة ـ وهو الطيّبي في «شرح المشكاة» ـ هذا القول إلى علي عليه‌السلام (٢).

وفيه ، أنّه ما نسب إليه إلّا القول بالوجه والكفّين ، كما نسب إلى جماعة من الصحابة والتابعين (٣) ، لا الجبهة والجبينين (٤) ، ومراده كلّ الوجه على اليقين.

مع أنّه لو بني ذلك على المسامحة أو التقيّة أو كليهما ، يرد عليه ذلك بعينه في الضربة ، بل بطريق أولى ، كما عرفت.

مع أنّ أكثر روايات الضربة ورد عن زرارة عن الباقر عليه‌السلام (٥) ، وقد عرفت الحال فيها (٦) ، وإن لم يكن الأكثر فنصفها ، البتّة.

__________________

(١) في (ك) : اختار ، بدلا من : رجّح أخبار.

(٢) بحار الأنوار : ٧٨ / ١٥٠ و ١٥١.

(٣) لاحظ! الجامع لأحكام القرآن : ٥ / ١٥٥.

(٤) كذا في النسخ ، والظاهر الصحيح : لا ضربة والضربتين.

(٥) لاحظ! وسائل الشيعة : ٣ / ٣٥٨ الباب ١١ من أبواب التيمّم.

(٦) راجع! الصفحة : ٣٤١ و ٣٤٢ من هذا الكتاب.

٣٤٤

مع أنّ معرفة هذا البعض (١) لمذهبه ليس مثل معرفة الصدوق والشيخ والطبرسي وغيرهم من قدماء أصحابنا والمتأخّرين القائلين بالتفصيل أو الضربتين مطلقا.

هذا ، وغير ذلك ممّا يظهر بالتأمّل فيما ذكرنا يمنع عن الترجيح المذكور البتّة. مع أنّه ربّما عدّ روايات الضربة مجملة في جنب الضربتين ، مع أنّه لا شكّ في كونها أضعف دلالة بمراتب في جنب دلالتها ، وقد عرفت الوجه ، والله يعلم.

وممّا ذكر ظهر عدم استقامة حمل ما دلّ على الضربتين على استحباب الضربة الثانية ، لأنّ الأضعف يؤوّل حتّى يرجع إلى الأقوى ، لا العكس.

وإن بنى على أنّ الأقوى محمول على التقيّة ، فلا بدّ من طرحه وعدم العمل به أصلا ، كما ورد في الأخبار واقتضاه الاعتبار ، فلا وجه للحمل على الاستحباب.

وممّا ذكر ظهر أيضا عدم استقامة حمله على التقيّة ، دون ما دلّ على الضربة ، لاشتراك علّة الحمل ، كما ستعرف. سيّما مع تضمّنها أيضا لفظ «الوجه» و «اليد» وغيره ممّا يناسب العامّة ، مضافا إلى ضعف الدلالة.

فظهر من جميع ما ذكرنا عدم استقامة القول بالضربة الواحدة مطلقا من وجوه كثيرة.

فإن قلت : معظم العامّة على الضربتين مطلقا ، بل جميع فقهائهم ، فيكون الضربة الواحدة مطلقا حقّا.

قلت : في زمان صدور الروايات لم يكن جميعهم على الضربتين ، كما عرفت ، بل غير معلوم كون معظمهم كذلك في ذلك الزمان ، سيّما بحيث يكون الضربة مطلقا خلاف التقيّة فيه.

__________________

(١) أي : الطيّبي.

٣٤٥

فإن قلت : القائل بالتفصيل ليس قوله وعمله مستندا إلى حديث أصلا ، بل يخالفان جميع الأحاديث الواردة في هذا الباب ، كما ظهر.

قلت : القائل باستحباب الضربة الثانية أيضا كذلك ، وكذا غيره من وجوه الجمع بالبديهة.

مع أنّ الإجماع المنقول حجّة وخبر عندنا ، مع أنّ وجوه الجمع إذا تساوت فالمرجّح كاف ، والإجماعات واحد منها يكفي ، بل الشهرة بين الأصحاب ، سيّما بين القدماء والمتأخّرين.

مع أنّهم الرواة للأحاديث ، ولا يخرجون عن مقتضى الأحاديث ما لم يكن مانع.

وكذا لا يخالفون العامة بغير مقتض شديد ، لما في المخالفة من الشدائد والمحن.

مع أنّك عرفت بطلان الحمل على الاستحباب ، مع كونه أقرب المحامل بعد الحمل المشهور ، فغيره أيضا باطل بطريق أولى. فتعيّن حمل المشهور من هذه الجهة أيضا ، بل ستعرف انحصار الحمل فيه.

مع أنّ القائل بالتفصيل قوله وعمله في التيمّم عن الوضوء مستندان إلى الأخبار المتضمّنة لضربة واحدة ، وفي التيمّم من الغسل إلى الأخبار المتضمّنة لضربتين ، وليس العمل في تيمّم الوضوء بحديث مشروطا بالعمل في تيمّم الغسل أيضا بذلك الحديث.

وكذا الحال في تيمّم الغسل ، فكلّ قول وعمل منه مأخوذ البتة من حديث المعصوم عليه‌السلام ، بل من الأحاديث الصحاح الكثيرة ، فجميع أعماله من الحديث ، بل الأحاديث ، وجميع الأحاديث معمول عليه عنده ، مضافا إلى الإجماعات الكثيرة والأخبار الدالّة على وجوب ترك ما وافق العامة ، والأخذ بما اشتهر بين

٣٤٦

الأصحاب (١) ، وغير ذلك ممّا عرفت ، فإنّه عمل بالكلّ ، بخلاف القائل بعدم التفصيل ، فإنّه ترك الكلّ ، سوى ما دلّ على مذهب نفسه ، مع ما عرفت ما فيه من الإيرادات.

فإن قلت : إنّك بنيت على أنّ ما دلّ على الضربتين ورد تقيّة ، بل وجوّزت كون ما دلّ على الضربة أيضا كذلك. وأيضا وإن كان عمل بكلّ حديث في الجملة ، إلّا أنّه ترك العمل به أيضا في الجملة.

قلت : ما ورد تقيّة لا يقتضي أن يكون جميع ما فيه باطلا ، إذا الحديث حجّة بجميع ما تضمّنه يجب العمل به كذلك.

فإذا ظهر أنّ شيئا ممّا تضمّنه موافق للتقيّة ، لا يقتضي ذلك أن يكون غيره أيضا موافقا لها فضلا عن الجميع ، وما هو موافق للتقيّة ليس باطلا مطلقا ، بل هو حجّة في مقام التقيّة يجب العمل به أيضا في ذلك المقام ، وأين هذا من ترك العمل؟

ومن هذا نرى أنّ فقهاءنا ذكروا أحاديث سهو النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (٢) وغيرها ممّا هو في مقام التقيّة عندهم (٣) ، ولا يرضون بها إلّا في ذلك المقام ، ويجعلون ما تضمّنه ممّا لم يكن تقيّة حكما شرعيّا واقعيّا يعملون به في غير التقيّة أيضا ، وما يكون تقيّة حكما شرعيّا في حال التقيّة خاصّة ، ولا يعدّون شيئا منه باطلا متروكا.

إذا عرفت هذا ، فنقول : ما تضمّن ضربتين حجّة مطلقا بحسب الأصل يجب التمسّك به البتة ، إلّا أن يظهر مانع منه من الخارج.

والذي ظهر كونه تقيّة هو إطلاق مفيد للعموم والشمول لتيمّم الوضوء أيضا.

__________________

(١) انظر! وسائل الشيعة : ٢٧ / ١٠٦ الباب ٩ من أبواب صفات القاضي.

(٢) لاحظ! تهذيب الأحكام : ٢ / ٣٥١ ذيل الحديث ١٤٥٤ ، وسائل الشيعة : ٨ / ٢٠٢ ذيل الحديث ١٠٤٢٦.

(٣) في (ف) و (ز ١) و (ط) زيادة : البتّة.

٣٤٧

وأمّا الضربتان في الجملة وبعنوان الإطلاق الغير المفيد للشمول ، فليس في ذلك تقيّة أصلا.

كيف؟ وكون خصوص تيمّم الغسل على ضربتين ممّا لم يذهب إليه أحد من العامّة ، ولم يرض به شخص منهم ، مضافا إلى كونه مشهورا في الشيعة ، فهو حجّة وحقّ لوجود المقتضي ، وهو كون حديث الأئمّة عليهم‌السلام حجّة ، والمانع مفقود ، لعدم تقيّة فيه أصلا ، وهم عليهم‌السلام ما اتّقوا في هذا أصلا.

نعم ، من الخوف والتقيّة لم يتعرّضوا للقيد ، وهو كون ذلك لخصوص الغسل ، ومن ترك هذا القيد تتراءى في النظر كون هذا الإطلاق مفيدا للعموم وكون المراد بيان كيفيّة مطلق التيمّم.

وكذا الحال فيما دلّ على الضربة الواحدة ، فإنّ كون تيمّم الوضوء بضربة لا يقتضي لكونه تقيّة ، كيف؟ ومعظم العامّة والمعروف بينهم كون التيمّم مطلقا بضربتين ، كما عرفت.

وأمّا كون بدل الوضوء خاصة بضربة دون الغسل ، فممّا لم يقل به أحد من العامة لا متقدّميهم ولا متأخّريهم ، ولم يرض به شخص منهم البتة.

فكيف يمكنهم التعرّض له؟ فمن قال بالضربة الواحدة في الكلّ يلزمه المفاسد التي عرفت ، مضافا إلى طرح الصحاح المتضمّنة لضربتين بالمرّة. مع ما عرفت من حجّية قدر منها ، لوجود المقتضي وعدم المانع. وجعل المانع إطلاق أخبار الضربة فاسد ، لجواز كون الأمر بالعكس ، بل هو أولى ، لما في الإطلاق المذكور من الوهن بل الفساد من جهات كثيرة ظهرت عليك.

فإن قلت : يمكن جعل المراد ممّا تضمّن الضربتين خصوص الوضوء ، لأنّ العامة لا يقولون به أيضا ، فلم قلت : إنّ المراد هو الغسل خاصّة؟ وكذا الكلام فيما تضمّن الضربة.

٣٤٨

قلت : معنى كون الوضوء خاصة بضربتين : أنّ بدل الغسل بخصوص ضربة واحدة. وهذا خلاف المجمع عليه بين أمّة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، بل خلاف ضروري الدين.

وكذا كون الغسل خاصة بضربة واحدة ، فتعيّن ما ذكرنا في كلّ خبر من أخبار الطرفين.

فإن قلت : إنّك بنيت الأمر على المسامحة في ذكر الضربة وترك الضربة الثانية ، وأشرت إلى قرائن تشير إليها ، وهنا بنيت على التقيّة.

قلت : مرادي من المسامحة أنّهم تركوا ذكر الضربة الثانية ، لعدم داع إلى التعرّض له ، أو لوجود مانع عنه أو لكليهما ، لكن هذا أيضا على قسمين :

الأوّل : كون اللازم الضربة الثانية أيضا مطلقا ، وأنّهم تركوا ذكرها ، كتقديم اليمين على اليسار ، والابتداء من الأعلى ، ونحوهما.

وقد ظهر لك فساد هذا القسم ، لأنّ هذه الأخبار لو كانت صريحة في الضربتين ، لكنّا نحملها على التقيّة البتة ، على حسب ما حملنا الصحاح المتضمّنة للضربتين ، فكيف نقدّر الضربة الثانية مطلقا في أخبار الضربة لتصحيحها والعمل بها؟

والثاني : أن يكون ترك ذكر كون الضربة الواحدة لخصوص الوضوء ، أو ترك ذكر كون بدل الغسل ليس كذلك ، أو ترك ذكر تعيين كون الضربة بعنوان الواحدة بخصوصها لأجل الوضوء بخصوصه ، وأمثال هذه الفروض ، فهو عين المطلوب.

وظهر عليك عدم استقامة الجمع بين الأخبار إلّا بما ذكر ، بل وعدم احتمال أخبار الضربة إلّا له ، فتأمّل جدّا!

وما مرّ من مفاسد الحمل على الاستحباب ، وارد في الحمل على التخيير أيضا ، مضافا إلى عدم قائل بهما ، كما عرفت الأقوال.

٣٤٩

مع أنّ التخيير بين الزائد والناقص بديهي الفساد ، لرجوعه إلى التخيير بين الفعل والترك ، وهو الإباحة بعينها ، والتوجيه بأنّ التخيير إنّما هو في القصد خاصّة ، خلاف ما نطقت به الأخبار.

مع أنّ السؤال في الأخبار كان عن كيفيّة التيمّم من حيث هي هي ، والجواب بالمستحب الخارج أو المباح كيف يجوز؟ سيّما بعبارة واحدة بعضها داخل في الكيفيّة جزما ، مضافا إلى عدم انحصار المستحب فيما ذكر جزما ، فتدبّر!

وما قيل ، من أنّ ظاهر الآية يؤيّد الضربة مطلقا (١) فاسد ، لما عرفت من كونها مجملة ، ولذا كان الرواة يسألون عن الكيفيّة ، والأئمّة عليهم‌السلام يجيبون بتعليمها بنحو لا يظهر من الآية.

ثمّ اعلم! أنّ ظاهر كلام المشهور ربّما يقتضي تساوي الأغسال في كيفيّة التيمّم ، والمفيد في «المقنعة» بعد ذكر تيمّم الجنب قال : وكذلك تصنع الحائض والنفساء والمستحاضة بدلا من الغسل (٢) ، ولم يذكر تيمّما آخر لهنّ بدلا من وضوء غسلهنّ.

واستدلّ له في «التهذيب» برواية أبي بصير ، قال : سألته عن تيمّم الحائض والجنب سواء إذا لم يجدا ماء؟ قال : «نعم» (٣). وبموثّقة عمّار السابقة (٤) ، وهذا يشير إلى كون الوضوء لغسلهنّ من تتمّة الغسل.

وقال في «الذكرى» : وخرّج بعض الأصحاب وجوب تيمّمين على غير الجنب ، بناء على وجوب الوضوء هناك ، والخبران غير مانعين منه ، لجواز كون

__________________

(١) ذخيرة المعاد : ١٠٥.

(٢) المقنعة : ٦٢.

(٣) تهذيب الأحكام : ١ / ٢١٢ الحديث ٦١٦ ، وسائل الشيعة : ٣ / ٣٦٣ الحديث ٣٨٧٦.

(٤) وسائل الشيعة : ٣ / ٣٦٢ الحديث ٣٨٧٥.

٣٥٠

المراد التسوية في الكيفيّة لا الكميّة (١).

وفيه ، أنّه رحمه‌الله موافق للمشهور من اختلاف كيفيّة التيمّم في الوضوء والغسل ، فكيف يقول كذلك؟ إلّا أن يكون مراده من الكيفيّة غير تعدد الضرب ووحدته ، بناء على ثبوت الاختلاف فيه من الخارج ، واكتفى فيه بالقرينة ، أو يكون مراده من الخبرين خصوص رواية أبي بصير ، وذكر الآخر معه مسامحة في العبارة. وفيه ما فيه.

وكيف كان ، الأمر كما ذكره ، لما ذكره ، بناء على العجز عن الوضوء أيضا ، وإلّا فيتوضّأ ثمّ يتيمّم بدلا من الغسل.

وهذا بناء على المشهور وما هو الأظهر من عدم إجزاء الغسل عن الوضوء ، وعدم اتّحاد كيفيّة التيمّم في الوضوء والغسل ، إذ مع اتّحاد الكيفيّة يحتمل التداخل. لكن الأظهر عدم التداخل ، لكونه الأصل على ما عرفت في بحث تداخل الأغسال ، ولم يثبت من الشرع التداخل في المقام.

واعلم! أيضا أنّ الأصحاب متّفقون على وجوب استيعاب مواضع المسح ، وأنّه لو أخلّ بشي‌ء منها لم يصحّ ، سواء كان عمدا أو نسيانا ، ومن العامّة من فرّق بين العمد والنسيان ، ومنهم من جوّز إبقاء أقلّ الدرهم (٢) ، وفسادهما ظاهر.

قوله : (ويشترط علوق شي‌ء من (٣) التراب). إلى آخره.

أقول : نسب إلى المشهور عدم اشتراط العلوق ، لأنّهم يحكمون باستحباب النفض (٤).

__________________

(١) ذكرى الشيعة : ٣ / ٢٦٣.

(٢) المجموع للنووي : ٢ / ٢٣٩ ، لاحظ! كشف اللثام : ٢ / ٤٧١ و ٤٧٢.

(٣) لم ترد في المصدر : شي‌ء من.

(٤) كفاية الأحكام : ٨ ، ذخيرة المعاد : ١٠٢ ، لاحظ! الحدائق الناضرة : ٤ / ٣٣٢.

٣٥١

ولا يخفى فساده ، لعدم الدلالة أصلا ، إذ مقتضى ما ذكره أنّ العلوق مرجوح في التيمّم يستحب تركه مطلقا وبالمرّة ، مع أنّ كلّ الفقهاء قالوا : باستحباب النفض ، سواء قالوا باشتراط العلوق صريحا أولا ، بل ربّما أمروا بالنفض موافقا لما ورد في الأخبار (١) ، فلازم ذلك كون ترك العلوق مأمورا به.

ولا يخفى فساده بملاحظة الأخبار وكلام الفقهاء ، إذ الظاهر من الكلّ عدم المرجوحيّة ، سيّما أن يكون تركه مأمورا به ، بل ظاهرهما اعتبار العلوق ، كما ستعرف ، بل الأمر بالنفض مطلقا.

والحكم باستحبابه كذلك يقتضي إيجاد العلوق في التيمّم مطلقا ، إذ ما (٢) لم يوجد لم يتحقّق النفض البتة.

وطلب النفض مطلقا مشروط بوجود العلوق ، فدل ذلك على اشتراط العلوق وكونه مأخوذا في التيمّم ومعتبرا في تحقّقه ، كما صرّح به بعض المتأخّرين (٣) ، لحكمهم باستحبابه مطلقا ، لا فيما إذا اتّفق العلوق ، والنفض في غاية الظهور في بقاء تتمّة العلوق ، لا إزالة العلوق بالمرّة ، ولم يذكر أحد استحباب إزالته بالمرّة ، واستحباب النفض لتقليل ما يوجب التشويه ، أو لطرح ما يمنع عن مسح الجبهة وظهر الكف بباطن الكف ، أو لما لا نعلمه ويكون تعبديّا.

وممّا ذكر ظهر دلالة الأخبار الدالّة على النفض على اشتراط العلوق واعتباره ، مثل صحيحة زرارة عن الباقر عليه‌السلام : «تضرب بيديك مرّتين ثمّ تنفضهما» (٤).

__________________

(١) وسائل الشيعة : ٣ / ٣٥٩ الحديث ٣٨٦٣ ، ٣٦٠ الحديث ٣٨٦٦ و ٣٨٦٧.

(٢) في (ز ٣) و (ك) : لما.

(٣) الحدائق الناضرة : ٤ / ٣٣٤.

(٤) تهذيب الأحكام : ١ / ٢١٠ الحديث ٦١١ ، الاستبصار : ١ / ١٧٢ الحديث ٥٩٩ ، وسائل الشيعة :

٣٥٢

ورواية عمرو بن أبي المقدام : «فضرب بيديه [على] الأرض ، ثمّ رفعهما ونفضهما» (١) ، وغيرهما من الأخبار ، لإطلاق تلك الأخبار في الأمر بالنفض ، لا أنّه إن اتّفق العلوق نفض وإلّا فلا.

وبالجملة ، لا شكّ في توهّم النسبة المذكورة إلى المشهور ، بل ربّما يظهر من التأمّل في عباراتهم أنّهم يعتبرون العلوق من الجهة التي اشير إليها ومن غيرها ، مثل ما قالوا في كيفيّة التيمّم بالطين ، مع عدم القول بالفصل ، وغير ذلك.

وأمّا الأدلّة عليه ففي غاية الكثرة ، مثل قاعدة البدليّة وعموم المنزلة ، وكون العبادات توقيفيّة ، ولا يخرج عن عهدتها إلّا بما علم ، لا بما احتمله ، سيّما إذا كان الاحتمال مرجوحا.

ويدلّ عليه ظاهر الآية ، لأنّ الظاهر كون «من» للتبعيض ، لأنّ المتبادر من قول : «مسحت رأسي من الدهن» ، وأمثال هذه العبارات التبعيض ، وأنّه مسح شيئا من الدهن وأمثاله برأسه. ولذا اختاره في «الكشّاف» (٢) ، وخالف الحنفية القائلين بعدم اشتراط العلوق ، مع توغّله في متابعتهم وتهالكه في نصرتهم. وجعله بمعنى الابتداء أو البدل خلاف الظاهر ، كما عرفت.

ويدلّ عليه أيضا صحيحة زرارة في تفسيرها ، وكون الباء فيها للتبعيض ، لأنّه عليه‌السلام قال : «فلمّا [أن] وضع الوضوء عمّن لم يجد الماء أثبت بعض الغسل مسحا ، لأنّه قال (بِوُجُوهِكُمْ) ثمّ وصل بها (وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ) أي من ذلك التيمّم ، لأنّه علم أنّ ذلك أجمع لم يجر على الوجه ، لأنّه يعلق من ذلك الصعيد ببعض

__________________

٣ / ٣٦٢ الحديث ٣٨٧٣.

(١) تهذيب الأحكام : ١ / ٢١٢ الحديث ٦١٤ ، الاستبصار : ١ / ١٧١ الحديث ٥٩٤ ، وسائل الشيعة : ٣ / ٣٦٠ الحديث ٣٨٦٦.

(٢) تفسير الكشّاف : ١ / ٥١٥.

٣٥٣

الكفّ ولا يعلق ببعضها» (١).

وهذا في غاية الوضوح في اعتبار العلوق ، وأنّه صار سببا للاكتفاء ببعض الوجه واليد ، وإن ارجع الضمير إلى التيمّم ، فإنّ الظاهر أنّ مراده منه المتيمّم كالخلق بمعنى المخلوق ، بقرينة ما ذكر بعده من قوله : «لأنّه». إلى آخره.

فظهر : أنّ المراد المقصود لا القصد ، مع أنّ القصد لا يمكن أن يمسح منه شي‌ء ، بل وإن أبقينا التيمّم على ظاهره يدلّ أيضا ، كما لا يخفى. ويدلّ أيضا على دلالة الآية.

ويدلّ على ذلك أيضا ما مرّ من الأخبار المتضمّنة لقوله عليه‌السلام : «فليمسح من الأرض» مثل صحيحة ابن سنان (٢) ، وصحيحة الحلبي (٣).

وجه الدلالة ظاهر ، وهو كون «من» للتبعيض ، كما عرفت ، من قبيل قولهم : «فليمسح من الدهن» ، وأمثاله.

ويؤيّده قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «تمسّحوا بالأرض فإنّها امّكم وهي بكم برّة» (٤) وقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «وترابها طهورا» (٥). وقوله عليه‌السلام : «جعل التراب طهورا كما جعل الماء طهورا» (٦) ، و «إذا فاتك الماء لم تفتك الأرض» (٧) وأمثال ذلك ، وأنّ الطهورية

__________________

(١) من لا يحضره الفقيه : ١ / ٥٦ الحديث ٢١٢ ، وسائل الشيعة : ٣ / ٣٦٤ الحديث ٣٨٧٨.

(٢) تهذيب الأحكام : ١ / ١٩٣ الحديث ٥٥٦ ، وسائل الشيعة : ٣ / ٣٦٨ الحديث ٣٨٨٧.

(٣) الكافي : ٣ / ٦٣ الحديث ٣ ، وسائل الشيعة : ٣ / ٣٦٧ الحديث ٣٨٨٤.

(٤) بحار الأنوار : ٧٨ / ١٦٢ الحديث ٢٤ ، مستدرك الوسائل : ٢ / ٥٢٨ الحديث ٢٦٣٢.

(٥) عوالي اللآلي : ٢ / ٢٠٨ الحديث ١٣٠ ، مستدرك الوسائل : ٢ / ٥٣٠ الحديث ٢٦٣٩.

(٦) من لا يحضره الفقيه : ١ / ٦٠ الحديث ٢٢٣ ، تهذيب الأحكام : ١ / ٤٠٤ الحديث ١٢٦٤ ، وسائل الشيعة : ٣ / ٣٨٥ الحديث ٣٩٣٤.

(٧) الكافي : ٣ / ٦٣ الحديث ١ ، تهذيب الأحكام : ١ / ٢٠٣ الحديث ٥٨٨ ، الاستبصار : ١ / ١٦٥ الحديث ٥٧٣ ، وسائل الشيعة : ٣ / ٣٨٤ الحديث ٣٩٢٩ مع اختلاف يسير.

٣٥٤

تتحقّق بخصوص التراب ، لا بخصوص جلد باطن الكف الخالي عن التراب بسبب ملاقاته ترابا ، وإن كان خاليا من التراب بالمرّة.

ويمكن أيضا أن يؤيّده ما في صحيحة زرارة من قوله عليه‌السلام : «ثمّ مسح وجهه وكفّيه ، ولم يمسح الذراعين بشي‌ء» (١) ، فتأمّل!

قوله : (ونمنع). إلى آخره.

أقول : حجج القائل بعدم اشتراط العلوق امور :

الأوّل : الأصل.

والثاني : الإجماع على استحباب النفض ، ولو كان شرطا لما امر بإزالته.

الثالث : أنّ الصعيد وجه الأرض ، فيشمل الحجر الصلد.

الرابع : ثبت كفاية الضربة الواحدة ، والظاهر عدم بقاء العالق بعدها.

والجواب عن الكلّ ظاهر.

أمّا عن الأصل ، فلما عرفت من عدم جريانه في ماهيّة العبادات ، مع أنّه ثبت خلافه بما عرفت.

وعن الإجماع على استحباب النفض ، فقد عرفت الكلام فيه ، وأنّه بالدلالة على اشتراطه أشبه وأولى ، فظهر أنّ هذا الإجماع دليل آخر على الاشتراط ، مع أنّ من جملة المجمعين من قال باشتراط العلوق البتّة ، فظهر أنّ النفض غير عدم العلوق وإزالته بالمرّة ، ولذا قال به من اشترط العلوق ، ولم ينكر أحد عليه.

وأمّا كون الصعيد وجه الأرض ، فقد عرفت ما فيه ، سيّما وأن يجعل شاملا لمثل الحجر الصلد.

__________________

(١) تهذيب الأحكام : ١ / ٢٠٨ الحديث ٦٠٣ ، وسائل الشيعة : ٣ / ٣٥٩ الحديث ٣٨٦٥.

٣٥٥

وأمّا الجواب عن الرابع ، فبأنّ العلوق الابتدائي كاف لو استلزم المسح عدم العلوق ، لانحصاره فيه حينئذ ، لكن ذلك باطل أيضا ، لأنّ الظاهر بقاء أثر منه البتّة ، يظهر ذلك على من مسح كفّه بعد المسحة الاولى على ثوب أبيض شديد البياض وأمثاله ، مثل الجبن الأبيض واللبن وغيرها.

مع أنّه لو اشترط أحد العلوق للثانية أيضا ، وعلم عدم بقائه بالمسحة الاولى البتة ، لكان يعتبر الضربة الثانية جزما ، لاقتضاء الدليل بقاء العلوق ، وعدم بقائه بالمسحة الاولى عنده ، ولا ينهض ما ذكرتم من الأخبار المتضمّنة للمرّة حجّة عليه ، لما عرفت من الإيرادات على التمسّك بها.

قوله : (بل لذلك استحب). إلى آخره.

قد عرفت فساد حمل ما دلّ على الضربة الثانية على الاستحباب ، سيّما وصيغة «افعل» واحدة ، ولا يمكن حملها على الوجوب مرّة والاستحباب مرّة ، ولا يحسن حملها على مجرّد الطلب ، لأنّها حقيقة في الوجوب ، ويجب إرادته للضربة الاولى البتّة ، والبناء على عدم الدلالة على الوجوب للضربة الاولى أيضا ، فيه ما فيه ، فتأمّل جدّا!

قوله : (وهو جمع رابع). إلى آخره.

لا يخفى فساده من وجوه كثيرة ، سيّما مع مخالفته ، لما عليه الأصحاب ، وظواهر جميع الأخبار.

٣٥٦

٦٩ ـ مفتاح

[وجوب الترتيب في التيمّم]

يجب الترتيب ، فيبدأ بالضرب ، ثمّ مسح الوجه ، ثمّ اليد اليمنى ، ثمّ اليسرى إجماعا ، كما ورد في المستفيضة في مقام البيان (١) ، والموالاة ، كما وردت فيها فعلا وبيانا (٢) ، وطهارة التراب ، لقوله سبحانه (طَيِّباً) (٣) وهو الطاهر ، والمباشرة بالنفس ، كما مرّ في المائيّتين (٤).

قيل : ويستحبّ التسمية ، وتفريج الأصابع (٥) ، ليتمكّن اليد من الصعيد ، وترك المستطرق ، للخبر (٦) ، والرمل للشهرة (٧).

__________________

(١) وسائل الشيعة : ٣ / ٣٥٨ الحديث ٣٨٦٢ ، ٣٦٠ الحديث ٣٨٦٩.

(٢) لاحظ! وسائل الشيعة : ٣ / ٣٥٨ الباب ١١ من أبواب التيمّم.

(٣) النساء (٤) : ٤٣ ، المائدة (٥) : ٦.

(٤) لاحظ! مفاتيح الشرائع : ١ / ٤٧ و ٥٦.

(٥) ذكرى الشيعة : ٢ / ٢٧٠ ، الدروس الشرعيّة : ١ / ١٣٣ ، مدارك الأحكام : ٢ / ٢٣٦.

(٦) وسائل الشيعة : ٣ / ٣٤٩ الحديث ٣٨٣٧.

(٧) النهاية للشيخ الطوسي : ٤٩ ، مدارك الأحكام : ٢ / ٢٠٥.

٣٥٧
٣٥٨

قوله : (يجب الترتيب). إلى آخره.

لا يخفى أنّه إجماعي بين جميع فقهائنا ، ومرّ كلام الصدوق رحمه‌الله في «الأمالي» في أنّه من دين الإماميّة (١) ، ونقل الإجماع عليه في «المنتهى» و «التذكرة» أيضا (٢).

ويدلّ عليه أيضا ظاهر الآية من ترتيب الوجه على اليد ، لما ورد في الأخبار من وجوب تقديم ما قدّمه الله في القرآن (٣) ، مثل قوله تعالى (إِنَّ الصَّفا وَالْمَرْوَةَ) (٤).

والأخبار معتبرة عند الفقهاء ، ولم يقل أحد بالتفصيل بين الترتيب المذكور في الآية وغيره ممّا ذكر في عبارة المصنّف ، مضافا إلى أنّ العبادات التوقيفيّة لا بدّ من ثبوت كيفيّتها من الشرع ، وقد عرفت أنّ الآية مجملة غير وافية بتمام التيمّم.

وكذا لم يرد قول من الشارع فتعيّن فعله ، وظهر في التيمّمات البيانيّة ، وتمام التقريب مرّ في بحث وجوب البدأة بالأعلى في الوجه وبحث عدد الضربات (٥).

ويدلّ عليه أيضا أنّ كلّ من أوجب الترتيب في الوضوء أوجب في التيمّم أيضا بالنحو الذي ذكره المصنّف ، والتفرقة منفيّة بالإجماع ، كما ذكره المرتضى (٦) ، بل الانتفاء معلوم لكلّ فقيه.

ويدلّ عليه أيضا عموم المنزلة وقاعدة البدليّة ، فإنّ أهل العرف إذا سمعوا

__________________

(١) أمالي الصدوق رحمه‌الله : ٥١٥ ، راجع! الصفحة : ٢٨٢ من هذا الكتاب.

(٢) منتهى المطلب : ٣ / ٩٧ ، تذكرة الفقهاء : ٢ / ١٩٦ المسألة ٣٠٨.

(٣) وسائل الشيعة : ١٣ / ٤٨٣ الحديث ١٨٢٦١.

(٤) البقرة (٢) : ١٥٨.

(٥) راجع! الصفحة : ٢٩١ و ٢٩٢ و ٣٣٠ و ٣٣١ من هذا الكتاب.

(٦) الانتصار : ٣١.

٣٥٩

وجوب الوضوء والغسل للصلاة وغيرها أو مطلقا وعلموا الكيفيّة فيهما ، ثمّ سمعوا أو علموا وجوب التيمّم بالتراب عند فقد الماء ، تبادر إلى أذهانهم كون التيمّم بالكيفيّة التي عرفوها في الوضوء في التيمّم عن الوضوء ، والغسل في التيمّم عن الغسل ، إلّا أن تثبت المخالفة في الخارج ، ألا ترى أنّهم إذا سمعوا : إذا فقد الماء فالجمد والثلج ، وإذا فقدا فالتراب. وإذا فقد فالغبار ، وإذا فقد فالطين ـ على حسب ما ورد في الأخبار (١) وكلام الأخيار (٢) ـ تبادر إلى أذهانهم أنّ الكلّ بكيفيّة واحدة.

وكذا إذا علموا أنّ الثلج والجمد المذابين مثل الماء وبمنزلته والتراب كذلك مثله وبمنزلته بعد فقده ، والغبار مثل التراب بعد فقده ، والطين مثل الغبار بعد فقده ، أو علموا أنّ كلّ واحد ممّا ذكر بدل الآخر إن لم يوجد الآخر ـ وأمثال هذه العبارات ـ يتبادر اتّحاد الكيفيّة بالنحو الذي ذكر ، إلى أن يثبت من الخارج أنّ الجمد والثلج المذابين مثل الماء بكيفيّة الوضوء والغسل وكذا غير المذابين إذا حصل بدلكهما أقلّ جريان ، وإلّا فليس واحد منهما بكيفيّة الوضوء والغسل ، بل بكيفيّة التيمّم على حسب ما عرفوا كيفيّة من الخارج.

وإذا علموا من الخارج أنّ التراب ليس بكيفيّة الماء مطلقا ، فلا بدّ أن يظهر عليهم حينئذ كيفيّته ، وإن لم يعلموا من الخارج المخالفة في الكيفيّة ، يتبادر الموافقة (٣) بلا شبهة ، كما هو الحال في الجمد والثلج ، وفي الغبار والطين ، ولذا صدر من عمّار في مقام إطاعة الله تعالى ما صدر ، مع أنّه كان من أهل الفهم واللسان جزما ، ولم يشنّع عليه أنّ هذا الخيال العجيب الغريب من أيّ جهة تخيّل بخاطرك؟ وإذا علم أنّ التراب خالف كيفيّته وعلم الكيفيّة ، يتبادر إلى أذهانهم أنّ الغبار بعد فقده بتلك

__________________

(١) وسائل الشيعة : ٣ / ٣٥٤ الحديث ٣٨٤٩ ، ٣٥٦ الباب ١٠ من أبواب التيمّم.

(٢) النهاية للشيخ الطوسي : ٤٨ و ٤٩ ، مدارك الأحكام : ٢ / ٢٠٦ و ٢٠٧ ، الحدائق الناضرة : ٤ / ٣٠٢ ـ ٣٠٥.

(٣) في (د ٢) و (ك) : المخالفة.

٣٦٠