تفسير المراغي - ج ٥

أحمد مصطفى المراغي

الذنب دون أن يوجد هذا التوجه بالقلب فلا يكون استغفارا معتدّا به عند الله ، إذ لا بد أن يشعر القلب أوّلا بألم المعصية وسوء مغبتها ، وبالحاجة إلى التزكى من دنسها ، مع العزم القوىّ على اجتناب هذا الدنس ، ومتى أخلص الداعي أجاب الله دعاءه بإعطائه ما طلب أو بغيره من الأجر والثواب.

(فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيما شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً) أقسم سبحانه بربوبيته لرسوله بأن أولئك الذين رغبوا عن التحاكم إليك هم ومن ماثلهم من المنافقين ، لا يؤمنون إيمانا حقا وهو إيمان الإذعان والانقياد إلا إذا كملت لهم ثلاث خصال :

(١) أن يحكموا الرسول فى القضايا التي يختصمون فيها ويشتجرون ولا يتبين لهم وجه الحق فيها

(٢) ألا يجدوا حرجا وضيقا فيما يحكم به : أي أن تذعن نفوسهم لقضائه وحكمه فيما شجر بينهم بلا امتعاض من قبوله والعمل به ، إذ المؤمن الكامل ينشرح صدره لحكم الرسول لأول وهلة ، لأنه الحق وأن الخير والسعادة فى الإذعان له.

(٣) الانقياد والتسليم لذلك الحكم ، فكثيرا ما يعرف الشخص أن الحكم حق ، لكنه يتمرد عن قبوله عنادا أو يتردد فى ذلك.

وفى هذه الآية إشارة إلى شيئين :

(١) عصمة النبي صلى الله عليه وسلم بمعنى أنه لا يحكم إلا بالحق المطابق لصورة الدعوى وظاهرها لا بحسب الواقع فى نفسه ، إذ الحكم فى شريعته على الظاهر ، والله يتولى السرائر ، وقد قال صلى الله عليه وسلم «إنما أنا بشر وإنكم تختصمون إلىّ فلعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض ، فمن قضيت له بحق مسلم فإنما هى قطعة من النار فليأخذها أو ليتركها» رواه البخاري ومسلم وأصحاب السنن ، ومن ثم كانوا يسألونه إذا أمر بأمر لم يظهر لهم أنه الرأى ، أعن وحي هو أم عن رأى؟ فإن كان عن وحي

٨١

أطاعوا وسلموا ، وإن كان عن رأى ذكروا ما عندهم ، وربما يرجع إليهم كما حدث يوم بدر.

(٢) أنهم لا يكونون مؤمنين إيمانا صحيحا مستحقا للفوز بالثواب والنجاة من العقاب إلا إذا كانوا موقنين بقلوبهم مذعنين فى بواطنهم بصدق الرسول فى كل ما جاء به الدين.

ومن أمارة ذلك أن يحكّموه فيما شجر بينهم من خلاف ، وألا يجدوا ضيقا وحرجا فى حكمه ، إذ الضيق إنما يلازم قلب من لم يخضع ، وأن ينقادوا انقيادا كاملا بلا تمرد ولا عناد فى قبوله.

(وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُوا مِنْ دِيارِكُمْ ما فَعَلُوهُ إِلاَّ قَلِيلٌ مِنْهُمْ وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا ما يُوعَظُونَ بِهِ لَكانَ خَيْراً لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتاً (٦٦) وَإِذاً لَآتَيْناهُمْ مِنْ لَدُنَّا أَجْراً عَظِيماً (٦٧) وَلَهَدَيْناهُمْ صِراطاً مُسْتَقِيماً (٦٨))

تفسير المفردات

كتبنا : أي فرضنا ، ما يوعظون به : أي من الأوامر والنواهي المقرونة بذكر حكمها وأحكامها ، والوعد لمن عمل بها ، والوعيد لمن صدّ عنها ، والتثبت : التقوية وجعل الشيء ثابتا راسخا.

المعنى الجملي

بعد أن بين عز اسمه فيما سلف أن الإيمان لا يتم إلا بتحكيم الرسول فيما شجر بينهم من خلاف مع التسليم والانقياد لحكمه ـ ذكر هنا قصور كثير من الناس فى ذلك ، لوهن إسلامهم وضعف إيمانهم.

٨٢

الإيضاح

(وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُوا مِنْ دِيارِكُمْ ما فَعَلُوهُ إِلَّا قَلِيلٌ مِنْهُمْ) أن اقتلوا أنفسكم : أي اقتلوها ببخع النفس (الانتحار) ـ كما أمر بنو إسرائيل بذلك ليتوبوا من عبادة العجل ، وقوله أو اخرجوا من دياركم بالهجرة إلى بلاد أخرى ، وقوله ما فعلوه : أي المأمور به من القتل والهجرة من الوطن.

بين الله لنا فى هذه الآية أن صادق الإيمان هو الذي يطيع الله فى كل ما يأمر به ، فى السهل والصعب ، والمحبوب والمكروه ، ولو كان ذلك بقتل النفس والخروج من الديار (الجسم دار الروح والوطن دار الجسم) أما المنافق فيعبد الله على ما يوافق هواه وشهواته ، فإن أصابه خير اطمأن به ورضى ، وإن ناله أذى انقلب على وجهه وارتد على عقبه وباء بالخسران فى الدنيا والآخرة.

(وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا ما يُوعَظُونَ بِهِ لَكانَ خَيْراً لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتاً) أي ولو أنهم فعلوا ما أمروا به وتركوا ما نهوا عنه لكان ذلك خيرا لهم فى مصالحهم ، وأشد تثبيتا لهم فى إيمانهم ، إذ الأعمال هى التي تطبع الأخلاق والفضائل فى نفس العامل ، وتبدد الأوهام والمخاوف من نفسه ؛ فبذل المال مثلا آية من آيات الإيمان وقربة من أعظم القرب ، فمن فعله كان مؤمنا إيمانا صادقا ، ومن آمن بذلك ولم يفعله كان علمه بمنافعه ومزاياه له وللأمة والدين علما ناقصا ، فكلما دعا الداعي إلى البذل طاف به طائف البخل والإمساك ، وعرض له شبح الفقر والإملاق ، أو نقصان المال عن مال بعض الأقران ، لكنه إذا اعتدل البذل صار السخاء خلقا له وسجية ، وقلما امتنع عن فعله حين تدعو الحاجة إليه ، إذ الطاعة تدعو إلى مثلها ، فالمرء يطلب الخير أوّلا حتى إذا حصّله طلب أن يكون الحاصل ثابتا قويا.

(وَإِذاً لَآتَيْناهُمْ مِنْ لَدُنَّا أَجْراً عَظِيماً ، وَلَهَدَيْناهُمْ صِراطاً مُسْتَقِيماً) أي ولو أنهم فعلوا هذا الخير العظيم وامتثلوا ما أمروا به وأخلصوا العمل لأعطيناهم الثواب العظيم من عندنا ، وكيف لا يكون عظيما وقد وصفه النبي صلى الله عليه وسلم بقوله «فيها ما لا عين رأت

٨٣

ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر» ولهديناهم إلى طريق العمل الصالح على الوجه المرضى الموصل إلى الفوز بالسعادة فى الدنيا والآخرة ، وهو صراط الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين كما ذكر ذلك سبحانه بقوله :

(وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَالرَّسُولَ فَأُولئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَداءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولئِكَ رَفِيقاً (٦٩) ذلِكَ الْفَضْلُ مِنَ اللهِ وَكَفى بِاللهِ عَلِيماً (٧٠))

تفسير المفردات

الصدّيق : من غلب عليه الصدق ، وقيل من صدق فى قوله واعتقاده كما قال (وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ إِدْرِيسَ إِنَّهُ كانَ صِدِّيقاً نَبِيًّا) والشهيد : هو الذي يشهد بصحة الدين تارة بالحجة والبرهان ، وأخرى بالسيف والسنان ، والصالح : من صلحت نفسه وصلح عمله وغلبت حسناته سيئاته.

المعنى الجملي

بعد أن أمر سبحانه بطاعته وطاعة الرسول ، ثم شنّع على الذين تحاكموا إلى الطاغوت وصدوا عن الرسول ، ثم رغب فى تلك الطاعة بقوله : لكان خيرا لهم وأشد تثبيتا ، حث على الطاعة وشوّق إليها بذكر مزاياها وبيان حسن عواقبها وأنها منتهى ما تصل إليه الهمم ، وأرفع ما تشرئبّ إليه الأعناق.

الإيضاح

(وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَالرَّسُولَ فَأُولئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَداءِ وَالصَّالِحِينَ) أي إن كل من يطيع الله ورسوله على الوجه المبين فى الآيات

٨٤

السالفة ويفعل الأوامر ويترك النواهي يكون يوم القيامة مرافقا لأقرب عباد الله وأرفعهم درجات عنه ، وهم الأصناف الأربعة الذين ذكروا فى الآية وهم صفوة الله من عباده ، وقد وجدوا فى كل أمة ، ومن أطاع الله ورسوله من هذه الأمة كان منهم وحشر يوم القيامة معهم.

(وَحَسُنَ أُولئِكَ رَفِيقاً) أي إن الأنبياء والصديقين والشهداء والصالحين يكونون كالرفقاء له من شدة محبتهم إياه وسرورهم برؤيته.

روى الطبراني وابن مردويه عن عائشة قالت «جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال يا رسول الله إنك لأحب إلىّ من نفسى ، وإنك لأحب إلىّ من ولدي ، وإنى لأكون فى البيت فأذكرك فما أصبر حتى آتى فانظر إليك ، وإذا ذكرت موتى وموتك عرفت أنك إذا دخلت الجنة رفعت مع النبيين ، وإنى إذا دخلت الجنة خشيت ألا أراك ، فلم يردّ النبي صلى الله عليه وسلم شيئا حتى نزل جبريل بهذه الآية (وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَالرَّسُولَ) الآية».

وأخرج ابن أبى حاتم عن مسروق أن سبب نزولها قول الصحابة : يا رسول الله ما ينبغى لنا أن نفارقك فى الدنيا فإنك إذا فارقتنا رفعت فوقنا ولم نرك. وقال الكلبي : إن ثوبان مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم كان شديد الحب له قليل الصبر عنه ، وقد نحل جسمه وتغير لونه خوف عدم رؤيته صلى الله عليه وسلم بعد الموت ، فذكر ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأنزل الله تعالى هذه الآية.

ويؤيد هذه الروايات ما رواه الطبراني مرفوعا «من أحب قوما حشره الله معهم» وما أخرجه الشيخان عن أنس «المرء مع من أحب» وآية المحبة الطاعة كما قال تعالى «قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللهُ».

(ذلِكَ الْفَضْلُ مِنَ اللهِ) أي إن هذا الذي ذكر من الجزاء لمن يطيع الله والرسول هو الفضل الذي لا يعلوه فضل ، فإن السموّ إلى إحدى تلك المنازل فى الدنيا ومرافقة أهلها فى الآخرة هو منتهى ما يأمله المرء من السعادة ، وبه يتفاضل الناس فيفضل بعضهم بعضا.

٨٥

(وَكَفى بِاللهِ عَلِيماً) أي كفى به سبحانه عليما بالعصاة والمطيعين ، والمنافقين والمخلصين ومن يصلح لمرافقة هؤلاء ومن لا يصلح ، فهو لا يعزب عن علمه مثقال ذرة فى الأرض ولا فى السماء.

وليحذر المنافقون المراءون لعلهم يتذكرون فيتوبوا ، وليطمئن المؤمنون الصادقون لعلهم ينشطون ويزدادون فى الطاعة ، ويبتعدون عن التقصير.

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ فَانْفِرُوا ثُباتٍ أَوِ انْفِرُوا جَمِيعاً (٧١) وَإِنَّ مِنْكُمْ لَمَنْ لَيُبَطِّئَنَّ فَإِنْ أَصابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قالَ قَدْ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيَّ إِذْ لَمْ أَكُنْ مَعَهُمْ شَهِيداً (٧٢) وَلَئِنْ أَصابَكُمْ فَضْلٌ مِنَ اللهِ لَيَقُولَنَّ كَأَنْ لَمْ تَكُنْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ مَوَدَّةٌ يا لَيْتَنِي كُنْتُ مَعَهُمْ فَأَفُوزَ فَوْزاً عَظِيماً (٧٣))

تفسير المفردات

حذركم ، الحذر والحذر كالمثل والمثل : الاحتراس والاستعداد لاتقاء شر العدو ، النفر : الانزعاج عن الشيء وإلى الشيء كالنزوع عن الشيء وإلى الشيء ، ومن الأول «وَلَقَدْ صَرَّفْنا فِي هذَا الْقُرْآنِ لِيَذَّكَّرُوا وَما يَزِيدُهُمْ إِلَّا نُفُوراً» ومن الثاني النفر إلى الحرب ، والثبات : واحدها ثبة : وهى الجماعة المنفردة ، والتبطؤ : يطلق على الإبطاء وعلى الحمل على البطء ، والبطء : التأخر عن الانبعاث فى السير ، مصيبة كقتل وهزيمة شهيدا : أي حاضرا معهم ، فضل : كفتح وغنيمة.

٨٦

المعنى الجملي

بعد أن بين سبحانه فى هذه السورة كثيرا من الأمور الدينية من عبادته تعالى وعدم الشرك به ، والمدنية كمعاملة ذوى القربى والجيران واليتامى والمساكين ، والشخصية كأحكام الزواج والمصاهرة والمواريث ، بيّن فى هذه الآيات بعض الأحكام الحربية والسياسية ، ورسم لنا الطريق التي نسير عليها فى حفظ ملتنا وحكومتنا المبنية على تلك الأصول من الأعداء.

الإيضاح

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ) أي احترسوا واستعدوا لاتقاء شر العدوّ ، بأن تعرفوا حاله ومبلغ استعداده وقوته ، وإذا كان لكم أعداء كثيرون فاعرفوا ما بينهم من وفاق وخلاف ، واعرفوا الوسائل لمقاومتهم إذا هجموا ، واعملوا بتلك الوسائل ، ويدخل فى ذلك معرفة حال العدو ومعرفة أرضه وبلاده وأسلحته واستعمالها وما يتوقف على ذلك من معرفة الهندسة والكيمياء وجر الأثقال ، وعلى الجملة اتخاذ أهبة الحرب المستعملة فيها من طيارات وقنابل ودبابات وبوارج مدرّعة ومدافع مضادة للطائرات إلى نحو ذلك حتى لا يهاجمكم على غرّة أو يهددكم فى دياركم ، وحتى لا يعارضكم فى إقامة دينكم أو دعوتكم إليه.

وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم والصحابة على علم بأرض عدوهم ، كما كان لهم عيون وجواسيس يأتونهم بالأخبار (قلم مخابرات) ولما أخبروه بنقض قريش للعهد (إخلالهم بشروط المعاهدة فى صلح الحديبية) استعد لفتح مكة ولم يفلح أبو سفيان فى تجديد العهد مرة أخرى ، وقد كان يظن أن المسلمين لم يعلموا بنكثهم له.

وقد قال أبو بكر لخالد بن الوليد فى حرب اليمامة : حاربهم بمثل ما يحاربونك به ، السيف بالسيف والرمح بالرمح.

٨٧

وما رواه الحاكم عن عائشة «لا يغنى حدر من قدر» لا يناقض أخذ الحذر ، لأن الأمر بالحذر داخل فى القدر ، فالأمر به لندفع عنا شر الأعداء ، لا لندفع القدر ونبطله ، إذ القدر هو جريان الأمور بنظام تأتى فيه الأسباب على قدر المسببات ، والحذر من جملة الأسباب فهو عمل بمقتضى القدر لا بما يضاده.

(فَانْفِرُوا ثُباتٍ أَوِ انْفِرُوا جَمِيعاً) أي فانفروا جماعة إثر جماعة بأن تكونوا فصائل وفرقا ـ إذا كان الجيش كبيرا أو موقع العدو يستدعى ذلك ـ أو تنفر الأمة كلها جميعا إذا اقتضت الحال ذلك بحسب قوة العدو.

والخلاصة ـ إنكم إما أن تنفروا جماعات جماعات ، وإما أن ينفر جميع المؤمنين على الإطلاق بحسب حال العدو.

وامتثال هذا الأمر يقتضى أن تكون الأمة على استعداد دائم للجهاد بأن يتعلم كل فرد من أفرادها فنون الحرب ويتمرن عليها ، وأن تقتنى السلاح الذي تحتاج إليه فى هذا النضال ، وتعلم كيفية استعماله فى كل زمان بما يناسبه.

ومن هذا تعلم أن الحكومة الإسلامية يجب عليها أن تقيم هذا الواجب بنفسها لا أن تبقى عالة على غيرها ، وعلى الأمة أن تساعدها عليه ، بل تلزمها إياه إذا قصرت فيه ، بعكس ما نراه الآن من تراخى الأمم الإسلامية وضعفها وتوانيها فى ذلك ، حتى طمعت فيها كل الدول التي تجاورها واجتاحتها من أطرافها واجتثت كثيرا من كورها وأقاليمها.

وقد شدد الدين أيما تشديد فى هذا الأمر فجاء مثل هذا فى قوله تعالى «وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِباطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللهِ وَعَدُوَّكُمْ» وجاءت أحاديث كثيرة بهذا المعنى.

(وَإِنَّ مِنْكُمْ لَمَنْ لَيُبَطِّئَنَّ) أي ليتثاقلن ويتأخرنّ عن الجهاد ، والخطاب لجماعة المؤمنين بحسب الظاهر ، ومنهم المنافقون وضعفة الإيمان والجبناء ؛ فالمنافقون يرغبون عن الحرب ، لأنهم لا يحبون أن يبقى الإسلام وأهله ولا أن يدافعوا عنه ، ويحموا بيضته

٨٨

فهم يبطّئون عن القتال ويبطئون غيرهم عن النفر إليه ، والجبناء وضعفة الإيمان يبطئون بأنفسهم عن القتال خورا وخوفا من صليل السيوف ومن الكرّ والفر ومقابلة العدو وهو شاكى السلاح.

ثم فصل أحوال هؤلاء الضعفاء فقال :

(فَإِنْ أَصابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قالَ قَدْ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيَّ إِذْ لَمْ أَكُنْ مَعَهُمْ شَهِيداً) أي قال ذلك المبطّئ فرحا بما فعل حامدا رأيه شاكرا ربه ، إذا أصابتكم المصيبة من قتل أو هزيمة ـ إن الله قد أنعم علىّ بالقعود فلم أكن حاضرا معهم فيصيبنى مثل ما أصابهم من البلاء والشدة.

(وَلَئِنْ أَصابَكُمْ فَضْلٌ مِنَ اللهِ لَيَقُولَنَّ كَأَنْ لَمْ تَكُنْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ مَوَدَّةٌ يا لَيْتَنِي كُنْتُ مَعَهُمْ فَأَفُوزَ فَوْزاً عَظِيماً) أي ولئن منّ الله عليكم بالظفر وفتح البلاد فغنمتم وأخذتم السبايا والأسرى ليقولن قول من ليس منكم ومن لم تجمعه مودة بكم ـ ليتنى كنت معهم فأفوز كما فازوا ، فهو قد نسى ما يجب عليه من مدّ يد المعونة إليكم وبذل كل ما يمكنه من نفس أو مال ليتمّ ذلك الظفر.

ولكن ضعف إيمانه أو جبنه منعه عن هذا ، إذ هذا التمني بعد فوات الفرصة دليل على ضعف العقل وكونه ممن يشرى الحياة الدنيا بالآخرة ، وفى قوله : كأن لم تكن بينكم وبينه مودة تقريع وتوبيخ بألطف القول وأرقّ العبارة ، إذ أن قليلا من المودة كان ينبغى أن يمنع مثل هذا التمني وأن يعد هذا الإحجام نعمة ، فهذا يشعر بأن صاحبه لا يرى نعمة الله على المؤمنين نعمة وفضلا عليه ، ولا ما يصيبهم من جهد وبلاء كأنه يصيبه هو ، مع أن القرآن يصرح بأن المؤمنين إخوة ، والحديث يدل على أنهم كأعضاء الجسم الواحد وكالبنيان يشد بعضه بعضا.

ومن فوائد هذا الأسلوب أنه يؤثر فى نفس سامعه تأثيرا لا يدنو من مثله الطعن بهجر القول ، إذ يدعو صاحبه إلى التأمل والتفكر فى حقيقة حاله ومعاتبة نفسه ، والتوبة إلى ربه ، والرجوع إلى أوامر دينه.

٨٩

(فَلْيُقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللهِ الَّذِينَ يَشْرُونَ الْحَياةَ الدُّنْيا بِالْآخِرَةِ وَمَنْ يُقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللهِ فَيُقْتَلْ أَوْ يَغْلِبْ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً (٧٤) وَما لَكُمْ لا تُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجالِ وَالنِّساءِ وَالْوِلْدانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنا أَخْرِجْنا مِنْ هذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُها وَاجْعَلْ لَنا مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا وَاجْعَلْ لَنا مِنْ لَدُنْكَ نَصِيراً (٧٥) الَّذِينَ آمَنُوا يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ فَقاتِلُوا أَوْلِياءَ الشَّيْطانِ إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطانِ كانَ ضَعِيفاً (٧٦))

تفسير المفردات

سبيل الله : هى تأييد الحق والانتصار له ، بإعلاء كلمة الدين ونشر دعوته ، ودفاع الأعداء إذا هددوا أمتنا ، أو أغاروا على أرضنا ، أو نهبوا أموالنا ، أو صدونا عن استعمال حقوقنا مع الناس ، ويشرون : يبيعون كما جاء فى قوله «وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ» وقوله «وَلَبِئْسَ ما شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ» وقوله «وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللهِ». والطاغوت : من الطغيان ، وهو مجاوزة الحق والعدل والخير إلى الباطل والظلم والشر ، والكيد : السعى فى الفساد على وجه الحيلة.

المعنى الجملي

بعد أن بين عز اسمه حال ضعفاء الإيمان الذين يبطئون عن القتال فى سبيله دلهم بهذه الآية على طريق تطهير نفوسهم من ذلك الذنب العظيم ذنب القعود عن القتال ، وأمر به إيثارا لما عند الله من الأجر والثواب على ما فى الدنيا من نعيم زائل ، وعرضي يفنى.

٩٠

الإيضاح

(فَلْيُقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللهِ الَّذِينَ يَشْرُونَ الْحَياةَ الدُّنْيا بِالْآخِرَةِ) أي فليقاتل فى سبيل الله من أراد أن يبيع الحياة الدنيا ويبذلها ويجعل الآخرة ثمنا لها وعوضا منها ، لأنه يكون قد أعز دين الله وجعل كلمته هى العليا ، وكلمة الذين كفروا هى السفلى ، والله عزيز ذو انتقام.

ثم رغّب فى القتال بعد الأمر به بذكر الثواب عليه فقال :

(وَمَنْ يُقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللهِ فَيُقْتَلْ أَوْ يَغْلِبْ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً) أي ومن يقاتل فى سبيله فيظفر به عدوه أو يظفر هو بعدوه ، فإن الله سيؤتيه أجرا عظيما من عنده خالدا أبدا فى دار الجزاء.

وفى الآية إيماء إلى شرف الجهاد ، لأنه إنما كان فى سبيل الحق والعدل والخير لا فى سبيل الهوى والطمع ، كما أن فيها إيماء إلى أنه ينبغى للمقاتل أن يوطن نفسه على أحد الأمرين : إما أن يقتله العدو ويكرم نفسه بالشهادة ، وإما أن يظفر به فيعزّ كلمة الحق والدين ، ولا يحدّث نفسه بالهرب بحال ، لأنه إن فعل ذلك فما أسرع ما يقع فى ذلك الفخّ الذي نصبه لنفسه.

ثم زاد ترغيبا فيه فقال :

(وَما لَكُمْ لا تُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ) أي وأىّ عذر لكم يمنعكم أن تقاتلوا فى سبيل الله لتقيموا التوحيد مقام الشرك ، وتحلّوا الخير محل الشر ، وتضعوا العدل والرحمة موضع الظلم والقسوة.

(وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجالِ وَالنِّساءِ وَالْوِلْدانِ) أي وفى سبيل المستضعفين إخوانكم فى الدين الذين استذلهم أهل مكة الأقوياء الجبابرة وآذوهم أشد الإيذاء ، ليمنعوهم من الهجرة ويفتنوهم عن دينهم ويردوهم فى ملتهم.

وقد جعل الله هؤلاء سبيلا لإثارة النخوة وهزّ الأريحية ، وإيقاظ شعور الرحمة والأنفة ، فوصفهم بما يجعل نفس الحر تشتعل حماسة وغيرة على إنقاذهم والسعى فى رفع الظلم عنهم فقال :

٩١

(الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنا أَخْرِجْنا مِنْ هذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُها وَاجْعَلْ لَنا مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا وَاجْعَلْ لَنا مِنْ لَدُنْكَ نَصِيراً) أي إن هؤلاء المستضعفين فقدوا النصير والمعين ، وتقطعت بهم أسباب الرجاء ، فاستغاثوا بربهم ودعوه ليفرّج كربهم ويخرجهم من تلك القرية (مكة) لظلم أهلها لهم ويسخّر لهم بعنايته من يتولى أمرهم وينصرهم على من ظلمهم فيتمكنوا بذلك من الهجرة إليكم ويرتبطوا بكم بأقوى الروابط وهى رابطة الإيمان فهى أقوى من رابطة الأنساب والأوطان ، وما كل أحد من المسلمين قدر على الهجرة ، فقد كانوا يصدونهم عنها ويعذبون مريديها عذابا شديدا ، وما شرع القتال إلا لعدم حرية الدين ، وظلم المشركين للمسلمين ، فالقتال قبيح ولا يجيزه العقل السليم إلا لإزالة قبيح أشد منه ضررا ، والأمور بمقاصدها وغاياتها كما قال :

(الَّذِينَ آمَنُوا يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ ، وَالَّذِينَ كَفَرُوا يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ) أي إن المؤمنين إنما يقاتلون لأجل إعلاء كلمة الحق ، والكافرين إنما يقاتلون اتباعا لوسوسة الشيطان وتزيينا للكفر ، فلو ترك المؤمنون القتال لغلب الطغيان وعم الفساد «وَلَوْ لا دَفْعُ اللهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ».

ثم حث مرة أخرى على القتال وبين لهم ضعف عدوهم فقال :

(فَقاتِلُوا أَوْلِياءَ الشَّيْطانِ إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطانِ كانَ ضَعِيفاً) أي فقاتلوا أيها المؤمنون أولياء الرحمن ـ أولياء الشيطان الذين زين لهم الشيطان بوسوسته وخداعه أن فى الظلم وإهلاك الحرث والنسل شرفا لهم أيّما شرف.

وقد جرت سنة الله أن الحق يعلو والباطل يسفل ، وأن الذي يبقى هو الأصلح والأمثل ؛ فالذين يقاتلون فى سبيل الله يطلبون ما تقتضيه سنة العمران ، والذين يقاتلون فى سبيل الشيطان يطلبون الانتقام والاستعلاء فى الأرض بغير الحق ، وتسخير الناس لأغراضهم وشهواتهم ، وسنن العمران تأبى ذلك فلا يكون لذلك قوة ولا بقاء ، إلا لنومة أهل الحق عن حقهم ، فإذا هم أفاقوا من غفوتهم تغلب الحق على الباطل ورده خاسئا محسورا.

٩٢

إلى أن الذين يقاتلون فى تأييد الحق تتوجه هممهم إلى إتمام الاستعداد ويكونون أجدر بالثبات والصبر ، وفى ذلك من القوة ما ليس فى كثرة العدد والعدد.

وهذا فى الحروب الدينية التي قد تركها المسلمون منذ أزمان طويلة ، ولو وجدت فى الأرض حكومة إسلامية تقيم القرآن وتحوط الدين وأهله بما أوجبه من إعداد العدّة للحرب لاتخذها أهل المدنية قدوة لهم وإماما فى أعمالهم.

(أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتالُ إِذا فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً وَقالُوا رَبَّنا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتالَ لَوْ لا أَخَّرْتَنا إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ قُلْ مَتاعُ الدُّنْيا قَلِيلٌ وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقى وَلا تُظْلَمُونَ فَتِيلاً (٧٧) أَيْنَما تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ وَإِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُوا هذِهِ مِنْ عِنْدِ اللهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُوا هذِهِ مِنْ عِنْدِكَ قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللهِ فَما لِهؤُلاءِ الْقَوْمِ لا يَكادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثاً (٧٨) ما أَصابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللهِ وَما أَصابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ وَأَرْسَلْناكَ لِلنَّاسِ رَسُولاً وَكَفى بِاللهِ شَهِيداً (٧٩))

تفسير المفردات

كفوا أيديكم : أي عن القتال ، كتب عليهم : أي أمروا به ، يخشون الناس : أي يخافون أن يقتلهم المشركون ، كخشية الله : أي كما يخافون أن ينزل الله عليهم بأسه

٩٣

وعذابه ، لو لا أخرتنا إلى أجل قريب : أي هلا تركتنا حتى نموت حتف أنوفنا بآجالنا القريبة ، متاع الدنيا : ما يستمتعون به من لذاتها ، قليل : أي سريع الزوال ، أينما تكونوا يدرككم الموت : أي فى أي مكان كنتم يلحقكم الموت ، البروج المشيدة : القصور العالية المطلية بالشيّد ، وهو الجص ، أو الحصون والقلاع المتينة التي تعتصم فيها حامية الجند ، حسنة : أي شىء يحسن عند صاحبه كالرضاء والخصب والظفر بالغنيمة ، سيئة : هى ما تسوء صاحبها كالشدة والبأساء والضراء والهزيمة والجرح والقتل ، يفقهون حديثا : يفهمون كلاما يوعظون به.

المعنى الجملي

بعد أن أمر سبحانه بأخذ الحذر والاستعداد للقتال والنفر له ، وذكر حال المبطئين الذين ضعفت قلوبهم ، وأمرهم بالقتال فى سبيله وفى سبيل إنقاذ المستضعفين.

ذكر هنا أن الإسلام كلفهم ترك ما كانوا عليه فى الجاهلية من تخاصم وتلاحم وحروب مستمرة ولا سيما بين قبيلتى الأوس والخزرج ، فإن الحروب بينهم لم تنقطع إلا بمجىء الإسلام ، وأمرهم بكف أيديهم عن القتال والعدوان على غيرهم ، وطلب إليهم إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة لما فيهما من تهذيب النفوس والعطف والرحمة حتى خمدت من نفوس كثير منهم حمية الجاهلية وحل محلها شريف العواطف الإنسانية ، إلى أن اشتدت الحاجة إلى القتال للذود عن بيضة الإسلام ودفع العدوان من أولئك المشركين الذين آذوا المسلمين وأحبوا فتنتهم فى دينهم وردهم إلى ما كانوا عليه ، ففرضه عليهم فكرهه المنافقون والضعفاء فنعى ذلك عليهم ووبخهم أشد التوبيخ.

الإيضاح

(أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتالُ إِذا فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً) الخطاب لجماعة المسلمين وفيهم المنافقون والضعفاء ، أي ألم تر إلى أولئك الذين أمرهم الله بحقن الدماء

٩٤

وكف الأيدى من الاعتداء ، وإقامة الصلاة والخشوع لله ، وإيتاء الزكاة التي تمكّن الإيمان فى القلوب ، وتشد أواصر التراحم بين الخلق ، وقد كانوا من قبل ذوى إحن وأحقاد وتخاصم وتلاحم وحروب مستمرة ، فلما جاء الإسلام أحبوا أن يكتب عليهم القتال ليسيروا على ما تعودوه ، ولكن حين كتب عليهم كرهه الضعفاء منهم وخافوا أن يقاتلهم الكفار وينزلوا بهم النكال والوبال ، كما خافوا أن ينزل الله بهم بأسه وعقابه بل رجح خوفهم من الناس على خوفهم من الله.

ثم بين شدة هلعهم من القتال فقال حكاية عنهم :

(وَقالُوا رَبَّنا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتالَ لَوْ لا أَخَّرْتَنا إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ) أي وقالوا ربنا لما ذا كتبت علينا القتال فى هذا الوقت؟ هلا أخرتنا حينا من الدهر نموت حتف أنوفنا موتا طبيعيا ، وربما لا يكونون قد قصدوا وقتا معينا بل قصدوا من ذلك الهرب والتفصى عن القتال كما تقول لمن يرهقك عسرا فى أمره : أمهلنى قليلا ، أنظرنى إلى أجل.

وقد أمر الله رسوله أن يردّ عليهم شبهتهم فقال :

(قُلْ مَتاعُ الدُّنْيا قَلِيلٌ وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقى) أي إن طلبكم للإنظار إنما هو خشية الموت والرغبة فى متاع الدنيا ولذاتها ، مع أن كل ما يتمتع به فى الدنيا فهو قليل بالنسبة إلى متاع الآخرة ، لأنه محدود فان ، ومتاع الآخرة كثير باق ولا يناله إلا من اتقى الله وابتعد عن الأسباب التي تدنس النفس بالشرك والأخلاق الذميمة ، فحاسبوا أنفسكم واعلموا أنكم ستجزون بأعمالكم إن خيرا فخير وإن شرا فشر.

(وَلا تُظْلَمُونَ فَتِيلاً) أي ولا تنقصون من الجزاء على أعمالكم مقدار فتيل ـ والفتيل ما يكون فى شق نواة التمر مثل الخيط ، وبه يضرب المثل فى القلة والحقارة ـ.

ثم رغهم فى القتال وبين لهم أن الموت مصير كل شىء فقال :

(أَيْنَما تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ) أي إن الموت أمر محتم لا مهرب منه ، فهو لا بد أن يدرككم فى أي مكان ولو تحصنتم فى شواهق القصور التي يسكنها ذوو الثراء والنعمة أو فى القلاع والحصون التي تقطنها حامية الجند ، وإذا كان الموت لا مفر منه ، وكان المرء قد يقتحم غمار الوغى ، ولا يصاب بالأذى ، وقد يموت

٩٥

المعتصم فى البروج والحصون وهو فى غضارة العيش فلا عذر لكم أيها المثبطون المبطئون ولما ذا تختارون لأنفسكم الحقير على العظيم؟ ولما ذا لا تدافعون عن الحق وتمنعون الشر أن يفشو حتى تستحقوا مرضاة الله وسعادة الآخرة؟ ولما ذا تكرهون القتال وتجبنون وتخافون الناس وتتمنون البقاء ، أليس هذا بضعف فى الدين وركّة فى العقل وخور فى العزيمة تؤاخذون بها وتقوم عليكم بها الحجة.

ثم ذكر سبحانه شأنا آخر من شئونهم أشد دلالة على الحمق وضعف العقل ومرض القلب فقال (وَإِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُوا هذِهِ مِنْ عِنْدِ اللهِ ، وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُوا هذِهِ مِنْ عِنْدِكَ ، قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللهِ) أي إن أصابهم رخاء ونعمة قالوا إن الله أكرمهم بها عناية بهم وليس لهداية الرسول أثر فى ذلك ، وإن أصابهم شدة وجهد قالوا هذا من شؤم محمد علينا ، وهذه مقالة اليهود والمنافقين حين قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة وأصابهم القحط والجدب ، وهذا زعم باطل منهم ، فكل من النعمة والبلية من عند الله خلقا وإيجادا يقع فى ملكه بحسب السنن التي وضعها والأسباب والمسببات التي أوجدها (فَما لِهؤُلاءِ الْقَوْمِ لا يَكادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثاً) أي ماذا أصاب هؤلاء القوم وماذا دهاهم فى عقولهم؟ فهم لا يعقلون حقيقة ما يلقونه من الحديث ولا ما يلقى إليهم ، وإنما يأخذون بما يطفو من المعنى بادىء الرأى دون تمحيص ولا تحقيق ، وإذا كانوا قد حرموا هذا الفقه من كل حديث ، فما أحراهم أن يحرموه من حديث يبلغه الرسول عن ربه فى الإخبار عن نظم الاجتماع وارتباط الأسباب بالمسببات ، وعما أحاط الله به المصطفين الأخيار من وافر الفضل وخصهم به من جميل الرعاية ، فتلك الحكم العالية لا تنال إلا بفضل الروية وطول الأناة والتدبير ، ومن وصل إلى هذا القدر من الفهم لا يقول إن السيئة لا تقع بشؤم أحد ، بل ينسب كل شىء إلى سببه.

وفى الآية إيماء إلى أن حصيف الرأى يجب أن يطلب فقه القول دون الأخذ بالجمل والظواهر ، إذ من قنع بذلك بقي فى عماية ويظل طوال دهره غرّا جاهلا بما يحيط به من نظم هذا العالم.

٩٦

(ما أَصابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللهِ وَما أَصابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ) هذا خطاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، والمقصود منه من أرسل إليهم.

أي إن كل حسنة تصيبك أيها المؤمن فهى من فضل الله وجوده ، فهو الذي سخر لك المنافع التي تتمتع بها وتحسن لديك ، فقد سخر لك الهواء الذي يحفظ الحياة ، والماء العذب الذي يمد كل الأحياء ، وأزواج النبات والحيوان وغيرهما من موادّ الغذاء وأنعم عليك بوسائل الراحة والهناء ، وكل سيئة تصيبك فهى من نفسك فإنك بما أوتيت من قدرة على العمل ، واختيار فى درء المفاسد وجلب المنافع ، وترجيح لبعض المقاصد على بعض ، قد تخطىء فى معرفة ما يسوء وما ينفع ، لأنك لا تضبط إرادتك وهواك ، ولا تحيط علما بالسنن والأسباب ، فأنت ترجح بعضا على بعض إما بالهوى أو قبل أن تحيط خبرا بمعرفة النافع والضار فتقع فيما يسوء.

والخلاصة ـ إن هاهنا شيئين لا بد من معرفتهما :

١) إن كل شىء من عند الله على معنى أنه خالق الأشياء وواضع النظم والسنن للوصول إلى هذه الأشياء بسعى الإنسان وكسبه ، وكل شىء حسن بهذا الاعتبار لأنه مظهر الإبداع والنظام.

٢) إن الإنسان لا يقع فيما يسوءه إلا بتقصير منه فى معرفة السنن والأسباب ، فالسوء إنما ينسب إلى الأشياء بتصرف الإنسان باعتبار أنها تسوءه وليس بذاتىّ لها ، ومن ثم ينسب ذلك إلى الإنسان ، فالمرض مثلا يسوءه ، وهو إنما يكون بتقصيره فى السير على نهج الفطرة فى التغذية ، فقد يكون من تخمة قادته إليها شهوته أو من إفراط فى تعب أو راحة أو من تعرض للبرد القارس أو للحر الشديد أو نحو أولئك من لأسباب التي ترجع كلها إلى سوء الاختيار ، كما أن الأمراض الموروثة هى من جناية الإنسان على الإنسان فهى من نفسه أيضا ، لا من أصل الفطرة والطبيعة التي هى محض خلق الله دون اختيار الإنسان لنفسه ، فالوالدان قد يجنيان على المرء بتعريض أنفسهما

٩٧

للمرض الذي ينتقل إلى نسلهما بالوراثة ، كما يجنيان عليه فى صغره بعدم وقايته من أسبابه حين يكون اختيارهما له تاما قائما مقام اختياره لنفسه.

وأحيانا تسند الأشياء جميعها إلى الله ويقال إنها من عنده بمعنى أنه هو الخالق لها والواضع لسنن الأسباب والمسببات فيها.

ويسند إلى الإنسان منها كل ماله فيه كسب وعمل اختياري سواء كان من الحسنات والسيئات ، وقد مضى بهذا كلام الناس وأيدته نصوص الكتاب والسنة كقوله تعالى «مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثالِها وَمَنْ جاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلا يُجْزى إِلَّا مِثْلَها وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ».

وبهذا الاعتبار يقال إصابة الحسنة من فضل الله تعالى مطلقا ، وإصابة السيئة من نفس الإنسان مطلقا ، ولكل من الإطلاقين مقام يقال فيه ، والمقام الذي سيقت له الآية فى بيان نفى الشؤم والتطير وإبطالهما ، ليعلم الناس أن ما يصيبهم من السيئات لا يكون بشؤم أحد ، وكانوا يتشاءمون ويتطيرون فى الجاهلية ، وقد أبطل ذلك الإسلام لكنه لا يزال فاشيا إلى الآن.

وينبغى للإنسان حينما تصيبه سيئة أن يبحث عن سببها من نفسه ، لأنها إنما تصيبه لجهله بالسنن التي وضعها الله من التماس المنافع من أسبابها ، واتقاء المضار بالبعد عن أسبابها ، بترجيحه فعل ما ينفع على فعل ما يضر.

وقد تضافرت الآثار على أن طاعة الله من أسباب النعم ، وأن عصيانه مما يجلب النقم وطاعته إنما تكون باتباع سنته وصرف ما وهب من الوسائل فيما وهب لأجله ، وهذه الآية أصل من أصول الاجتماع وعلم النفس ، وفيها شفاء للناس من خرافات الوثنية ، وارتفاع وتكريم للنفس الإنسانية.

(وَأَرْسَلْناكَ لِلنَّاسِ رَسُولاً) والرسول ليس عليه إلا البلاغ ، وليس له دخل فيما يصيب الناس من الحسنات والسيئات ، لأنه لم يرسل إلا للتبليغ والهداية ، لا للتصرف فى نظم الكون وتحويل سنن الاجتماع أو تبديلها ، فما زعمه أولئك الجاهلون من أن السيئة

٩٨

تصيبهم بشؤمه ، محض خرافة لا مستند لها من عقل أو نقل ومخالف لما بينه الله تعالى من وظيفة الرسل.

(وَكَفى بِاللهِ شَهِيداً) أنك أرسلت للناس كافة بشيرا ونذيرا لا مسيطرا ولا جبارا ولا مغيّرا لنظم الكون وتحويل سنن الاجتماع أو تبديلها «فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللهِ تَبْدِيلاً وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللهِ تَحْوِيلاً».

(مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطاعَ اللهَ وَمَنْ تَوَلَّى فَما أَرْسَلْناكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً (٨٠) وَيَقُولُونَ طاعَةٌ فَإِذا بَرَزُوا مِنْ عِنْدِكَ بَيَّتَ طائِفَةٌ مِنْهُمْ غَيْرَ الَّذِي تَقُولُ وَاللهُ يَكْتُبُ ما يُبَيِّتُونَ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ وَكَفى بِاللهِ وَكِيلاً (٨١) أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً (٨٢))

المعنى الجملي

بعد أن أمر سبحانه فيما تقدم بطاعة الله وطاعة الرسول وبين جزاء المطيع وأحوال الناس فى هذه الطاعة بحسب قوة الإيمان وضعفه ، ثم أمر بالقتال وبين مراتب الناس فى الامتثال له ، أعاد هنا الأمر بالطاعة وبين أنها أولا وبالذات لله ، ولغيره بالتبع ، وبين ضروب مراوغة الضعفاء والمنافقين.

الإيضاح

(مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطاعَ اللهَ) أي إن من أطاع الرسول فقد أطاع الله لأنه الآمر والناهي فى الحقيقة ، والرسول إنما هو مبلّغ للأمر والنهى فليست الطاعة له

٩٩

بالذات وإنما هى لمن بلغ عنه ، إذ قد جرت سنته سبحانه ألا يأمر الناس ولا ينهاهم إلا بواسطة رسل منهم يفهمون عنهم ما يوحيه إليهم ليبلغوه عنه.

أما ما يقوله الرسول من تلقاء نفسه وما يأمر به مما يستحسنه باجتهاده ورأيه من أمور المعيشة كتأبير النخل (تلقيحه بطلع الذكر) ونحوه مما يسميه العلماء أمر إرشاد ، فطاعته فيه ليست من الفرائض التي فرضها الله ، لأنه ليس دينا ولا شرعا عنه تعالى ، فقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم بكيل الطعام كالقمح وغيره من الحبوب عند طحنه وعند عجنه وهو من التدبير والاقتصاد فى البيوت ، وأكثر المسلمين أهملوه إلا من تعوّد منهم التدبير وحسن التقدير فى المنازل ، وكذلك أمر بأكل الزيت والادّهان به.

وقد كان الصحابة رضوان الله عليهم إذا شكّوا فى الأمر أمن عند الله هو أم من رأى الرسول واجتهاده؟ وكان لهم فى ذلك رأى آخر سألوه ، فإن أجابهم بأنه من الله أطاعوه بلا تردّد ، وإن قال إنه من رأيه ذكروا رأيهم ، وربما رجع النبي صلى الله عليه وسلم عن رأيه إلى رأيهم كما فعل فى بدر وأحد.

روى مقاتل أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول «من أحبنى فقد أحب الله ومن أطاعنى فقد أطاع الله ، فقال المنافقون : ألا تسمعون إلى ما يقول هذا الرجل؟ لقد قارف الشرك ، قد نهى أن نعبد غير الله ويريد أن نتخذه ربا كما اتخذت النصارى عيسى ، فأنزل الله هذه الآية».

فالمؤمن حقا لا يكون خاضعا إلا لخالقه وحده دون أحد من خلقه ، والخروج عن ذلك شرك ، وهو نوعان :

١) أن ترى لبعض المخلوقات سلطة غيبية وراء الأسباب العادية ، ومن ثم ترجو نفعها وتخاف ضرها وتدعوها وتذل لها ، وذلك هو الشرك فى الألوهية.

٢) أن ترى لبعض المخلوقين حق التشريع والتحليل والتحريم ، كما فسر النبىّ صلى الله عليه وسلم قوله تعالى «اتَّخَذُوا أَحْبارَهُمْ وَرُهْبانَهُمْ أَرْباباً مِنْ دُونِ اللهِ» بطاعتهم فيما يحللون ويحرمون ، وذلك هو الشرك فى الربوبية.

١٠٠