تفسير المراغي - ج ٥

أحمد مصطفى المراغي

يدفعها إلى أهل المقتول ، وقد بينتها السنة وحددتها على الوجه الذي كان مقبولا عند العرب وهى مائة بعير مختلفة فى السن أو قيمتها إذا حصل التراضي بين الدافع والمستحق ، ودية المرأة نصف دية الرجل ، لأن المنفعة التي تفوت أهل الرجل بفقده أعظم من المنفعة التي تفوت بفقدها.

وقد روى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كتب إلى أهل اليمن كتابا جاء فيه «إن من اعتبط (قتل بغير سبب شرعى) مؤمنا قتلا عن بينة فإنه قود (أي قصاص يقتل به) إلا أن يرضى أولياء المقتول ـ وإن فى النفس الدية مائة من الإبل ـ ثم قال وعلى أهل الذهب ألف دينار» وفى هذا دليل على أن دية الإبل على أهلها إذا كانت هى رأس أموالهم ، وأن الذين يتعاملون بالذهب كأهل المدن تكون من الذهب أو الفضة ، وعلى أن هذا أصل لا قيمة للإبل.

(إِلَّا أَنْ يَصَّدَّقُوا) أي إن الدية تجب على القاتل قتلا خطأ لأهل المقتول إلا أن يعفوا عنها ويسقطوها باختيارهم ، لأنها إنما وجدت تطييبا لقلوبهم حتى لا تقع عداوة ولا بغضاء بينهم وبين القاتل ، وتعويضا عما يفوتهم من المنفعة بقتله ، فإذا هم عفوا فقد طابت نفوسهم وانتفى المحذور وكانوا هم ذوى الفضل على القاتل ، وقد سمى الله هذا العفو تصدقا ترغيبا فيه.

(فَإِنْ كانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ) أي فإن كان المقتول من أعدائكم وهو مؤمن كالحارث بن يزيد كان من قريش وهم أعداء النبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنون فى حرب معهم ولم يعلم المسلمون إيمانه لأنه لم يهاجر وقد قتله عياش حين خروجه مهاجرا وهو لم يعلم بذلك ، ومثله كل من آمن فى دار الحرب ولم يعلم المسلمون بإيمانه حين قتله ـ فالواجب على قاتله عتق رقبة من أهل الإيمان فقط ، ولا تجب الدية لأهله لأنهم أعداء يحاربون المسلمين فلا يعطون من أموالهم ما يستعينون به على قتالهم والتنكيل بهم.

١٢١

(وَإِنْ كانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثاقٌ) وهم الذين عاهدوكم على السلم لا يقاتلونكم ولا تقاتلونهم كما هو حال الدول فى العصر الحاضر يعقد بعضهم معاهدات ومواثيق مع بعض آخر ألا يقاتلوهم ولا يساعدوا عليهم عدوا.

(فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلى أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ) أي فالواجب فى قتل المعاهد كالواجب فى قتل المؤمن دية إلى أهله تكون عوضا عن حقهم ، وعتق رقبة مؤمنة تكون كفارة عن حق الله الذي حرم قتل المعاهد كما حرم قتل المؤمن ، ولم يعين هذه الدية للإشارة إلى أن للعرف العام والخاص حكمه ولا سيما إذا ذكر ذلك فى عقد الميثاق الذي بينهما ، لأن هذا النص يكون أقطع لعرق النزاع وأجدر بالتراضي.

وقد اختلف الفقهاء فى دية غير المسلمين لاختلاف الرواية فى ذلك ، روى أحمد والترمذي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال «عقل (دية) الكافر نصف دية المسلم» وروى عن أحمد «أن ديته كدية المسلم إن قتل عمدا وإلا فنصف ديته» وذهب الزهري وأبو حنيفة إلى أن ديته كدية المسلم لظاهر الآية فى أهل الميثاق وهم المعاهدون وأهل الذمة ؛ وعلى الجملة فالروايات متعارضة ومن ثم اختلف فيها الفقهاء.

وظاهر الآية يدل على أن الدية على القاتل ولكن السنة بينت أن العاقلة (العائلة) وهم عصبته الأقربون هم الذين يدفعون الدية.

وحكمة هذا تقرير التضامن بين الأقربين ، وإذا عجزت العاقلة عن دفعها جعلت فى بيت المال (وزارة المالية).

(فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ شَهْرَيْنِ مُتَتابِعَيْنِ) أي فمن لم يجد رقبة يعتقها بأن لم يجد مالا يشتريها به من مالكها ليحررها من الرق ، أو لم يجد رقيقا (وهذا مقصد من مقاصد الإسلام) فعليه صيام شهرين متتابعين قمريين لا يفصل بين يومين منهما إفطار فى النهار ، فإن أفطر يوما بغير عذر شرعى استأنفه وكان ما صامه قبل كأن لم يكن.

(تَوْبَةً مِنَ اللهِ) أي قد شرعها لكم ، ليتوب عليكم ويطهر نفوسكم من التهاون وقلة التحري التي تفضى إلى القتل الخطأ.

١٢٢

(وَكانَ اللهُ عَلِيماً حَكِيماً) أي وكان الله عليما بأحوال النفوس وما يطهرها ، حكيما فيما شرعه من الأحكام والآداب التي بها هدايتكم وإرشادكم إلى ما فيه سعادتكم فى الدنيا والآخرة.

(وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً فَجَزاؤُهُ جَهَنَّمُ خالِداً فِيها وَغَضِبَ اللهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذاباً عَظِيماً) خالدا فيها أي ماكثا إلى الأبد أو ما كثا مكثا طويلا ، غضب الله عليه أي انتقم منه ، لعنه : أبعده عن رحمته ، أعد له : أي هيأ له.

وللعلماء فى توبة قاتل المؤمن عمدا آراء ثلاثة :

١) يرى ابن عباس وفريق من السلف أن قاتل المؤمن عمدا لا تقبل له توبة وهو خالد فى النار أبدا ، ويدل على ذلك ما أخرجه أحمد والنسائي عن معاوية قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول «كل ذنب عسى الله أن يغفره إلا الرجل يموت كافرا أو الرجل يقتل مؤمنا متعمدا» وأخرج البيهقي عن ابن عمر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «من أعان على دم امرئ مسلم بشطر كلمة كتب بين عينيه يوم القيامة آيس من رحمة الله تعالى» وروى عن البراء بن عازب أن النبي صلى الله عليه وسلم قال «لزوال الدنيا وما فيها أهون عند الله من قتل مؤمن ، ولو أن أهل سمواته وأهل أرضه اشتركوا فى دم مؤمن لأدخلهم الله تعالى النار» وعن ابن عمر أنه عليه الصلاة والسلام قال «لو أن الثقلين اجتمعوا على قتل مؤمن لأكبّهم الله تعالى على مناخرهم فى النار وإن الله تعالى حرم الجنة على القاتل والآمر به».

وهؤلاء يرون أن التائب من الشرك وقد كان قاتلا زانيا تقبل توبته ولا تقبل توبة المؤمن الذي ارتكب القتل وحده ، إذ الأول لم يؤمن بالشريعة التي تحرم هذه الأمور فله شبه عذر إذا هو كان متبعا لهواه بالكفر وما يتبعه ولم يكن ظهر له صدق النبوة فلما ظهر له الدليل على أن ما كان عليه كفر وضلال وتاب وأناب وعمل صالحا كان جديرا بالعفو.

١٢٣

وأما المؤمن الموقن بصحة النبوة وحرمة القتل فلا عذر له ، إذ هو يعلم أن المؤمن أخ له ونصير ، فكيف يعمد بعد هذا إلى الاستهانة بأمر الله وحكمه وتوهين أمر دينه بهدم أركان قوته ، ومن ثم يهن المسلمون ويضعفون ويكون بأسهم بينهم شديدا.

وإنك لترى أنه ما انحلت الرابطة بين المسلمين وانفصمت عروة الوفاق بينهم إلا بعد أن أقدم بعضهم على سفك دماء بعض ورجحوا شهوة الغضب والانتقام على أمر الله تعالى ، ومن رجح شهوات نفسه الضارة على أمر الله وعلى مصلحة المؤمنين بغير شبهة فهو جدير بالخلود فى النار والغضب واللعنة ، إذ هؤلاء قد تجرءوا على حدود دينه ولم يبق للشرع حرمة فى قلوبهم.

قال فى الكشاف : هذه الآية فيها من التهديد والإيعاد ، والإبراق والإرعاد ، أمر عظيم ، وخطب جليل ، ومن ثم روى عن ابن عباس أن توبة قاتل المؤمن عمدا غير مقبولة ... والعجب من قوم يقرءون هذه الآية ويرون ما فيها ويسمعون هذه الأحاديث (الأحاديث التي تقدم ذكرها) وقول ابن عباس بمنع التوبة ثم لا تدعهم أشعبيتهم وطماعيتهم الفارغة واتباعهم هواهم وما يخيل إليهم منالهم أن يطمعوا فى العفو عن قاتل المؤمن بغير توبة «أفلا يتدبرون القرآن أم على قلوب أقفالها؟» اه.

٢) يرى فريق آخر أن المراد بالخلود المكث الطويل لا الدوام لتظاهر النصوص القاطعة بأن عصاة المؤمنين لا يدوم عذابهم ، وما فى الآية إخبار من الله بأن جزاءه ذلك لا بأنه يجزيه ذلك كما جاء فى قوله عز اسمه «وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها» فإنه لو كان المراد منها أنه سبحانه يجزى كل سيئة بمثلها لعارضه قوله جل شأنه «وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ» ومن ثم روى عن النبي صلى الله عليه وسلم مرفوعا أنه قال هو جزاؤه إن جازاه ، وبهذا قال جمع من العلماء وقالوا هو كما يقول الإنسان لمن يزجره عن أمر : إن فعلت فجزاؤك القتل والضرب ، وهو إن لم يجازه لم يكن كذابا ، وقد روى عن ابن عباس جواز المغفرة بلا توبة أيضا ، وقال فى الآية هى جزاؤه ، فإن شاء عذبه وإن شاء غفر له.

١٢٤

٣) ويرى فريق ثالث أن حكم الآية إنما هو للقاتل المستحل ، وحكمه مما لا شك فيه ، وعكرمة وابن جريج فسرا متعمدا مستحلا فى الآية.

أي : ومن يقتل مؤمنا متعمدا لقتله مستحلا له ، فجزاؤه جهنم خالدا فيها أبدا.

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ فَتَبَيَّنُوا وَلا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقى إِلَيْكُمُ السَّلامَ لَسْتَ مُؤْمِناً تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَياةِ الدُّنْيا فَعِنْدَ اللهِ مَغانِمُ كَثِيرَةٌ كَذلِكَ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلُ فَمَنَّ اللهُ عَلَيْكُمْ فَتَبَيَّنُوا إِنَّ اللهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً (٩٤))

تفسير المفردات

الضرب فى الأرض : السير فيها بالسفر للتجارة أو الجهاد ، لأن المسافر يضرب الأرض برجليه وعصاه أو بقوائم راحلته ، فى سبيل الله : أي لجهاد أعدائكم ، فتبينوا أي تثبتوا وتأنّوا ، ألقى إليكم السلام : أي انقاد واستسلم لكم فلم يقاتلكم ، عرض الحياة الدنيا : أي متاعها الحاضر الذي يأخذ منه البر والفاجر ، مغانم كثيرة : أي رزق وفضل كثير.

المعنى الجملي

بعد أن بين عز اسمه فى الآيات السابقة أنه ليس من شأن المؤمن أن يقتل مؤمنا إلا على سبيل الخطأ ، وأن من قتل مؤمنا متعمدا فلا جزاء له إلا جهنم خالدا فيها أبدا.

أراد هنا أن ينبه المؤمنين إلى ضرب من ضروب قتل الخطأ كان يحصل فى ذلك العهد عند السفر إلى أرض المشركين حين انتشر الإسلام ولم يبق مكان فى بلاد العرب وقبائلهم يخلو من المسلمين أو ممن يميل إلى الإسلام ويتحينون الفرص للاتصال

١٢٥

بأهله ، فأعلمهم ألا يحسبوا كل من يجدونه فى دار الكفر كافرا ، وأن يتبينوا من تظهر عليهم علامات الإسلام كالشهادة والسلام الذي هو تحية المؤمنين ، وألا يحملوا مثل هذا على الخداع ، إذ ربما يكون الإيمان قد طاف على هذه القلوب وألمّ بها إن لم يكن قد تمكن فيها ، ومن ثم أمر بالتثبت ونهى عن إنكار إسلام من يدعى الإسلام ولو بإلقاء تحيته ، فما بالك بمن ينطق بالشهادتين ، وأبان أن الذي يدعوه إلى ظن هذا الظن إنما هو ابتغاء عرض الحياة الدنيا؟ وبهذا أرشد المؤمن إلى أن يتهم نفسه ويفتش عن قلبه ولا يبنى الظن على ميله وهواه ، بل عليه أن يتقبل الظاهر حتى يستبين له خلافه.

وفى سبب نزول هذه الآية روايات كثيرة : منها ما أخرجه البخاري والترمذي والحاكم وغيرهم عن ابن عباس قال «مر رجل من بنى سليم بنفر من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وهو يسوق غنما له فسلم عليهم ، فقالوا ما سلم علينا إلا ليتعوّذ منا ، فعمدوا إليه فقتلوه وأتوا بغنمه النبي صلى الله عليه وسلم فنزلت الآية».

وأخرج أحمد والطبراني وغيرهما عن عبد الله بن أبى حدرد الأسلمى قال : «بعثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فى نفر من المسلمين فيهم أبو قتادة ومحلّم بن جثامة ، فمر بنا عامر بن الأضبط الأشجعى فسلم علينا فحمل عليه محلم فقتله ، فلما قدمنا على النبي صلى الله عليه وسلم وأخبرناه الخبر نزل فينا القرآن (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ) الآية». وأخرج البزار من وجه آخر عن ابن عباس قال : «بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم سريّة فيها المقداد ، فلما أتوا القوم وجدوهم قد تفرّقوا وبقي رجل له مال كثير فقال أشهد أن لا إله إلا الله ، فقتله المقداد فقال له النبي صلى الله عليه وسلم كيف لك بلا إله إلا الله غدا؟ وأنزل الله هذه الآية».

ولا مانع من تعدد الوقائع قبل نزول الآية وأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقروها على أصحاب كل واقعة فيرون أنهم سبب نزولها.

١٢٦

الإيضاح

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ فَتَبَيَّنُوا) أي يا أيها الذين صدقوا الله وصدقوا رسوله واتبعوا الأوامر وتركوا النواهي ، إذا سرتم للغزو وجهاد الأعداء رفعة لدينه وإعلاء لكلمته ، تأنوا فى قتل من اشتبه عليكم أمره فلم تعلموا أمسلم هو أم كافر؟ ولا تعجلوا فى قتل أحد إلا إذا علمتم يقينا أنه حرب لكم ولله والرسول (وَلا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقى إِلَيْكُمُ السَّلامَ لَسْتَ مُؤْمِناً تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَياةِ الدُّنْيا) أي ولا تقولوا لمن انقاد لكم واستسلم ولم يقاتلكم وأظهر أنه من أهل ملتكم ـ إنك لست بمؤمن حقا فتقتلوه ابتغاء متاع الدنيا وحطامها الزائل السريع التحول والانتقال ، فعند الله أرزاق كثيرة ونعم لا تحصى ولا تعد ، يغنّمكموها فيغنيكم إذا شاء.

(كَذلِكَ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلُ فَمَنَّ اللهُ عَلَيْكُمْ) أي إنكم أول ما دخلتم فى الإسلام حقنت دماؤكم وأموالكم بالنطق بكلمة الشهادة من غير انتظار لمعرفة أن ما فى القلب موافق لما فى اللسان ، ومنّ الله عليكم بذلك ، فعليكم أن تعملوا مع الداخلين فى الإسلام كما عمل معكم وأن تعتبروا بظاهر القول ولا تقولوا إن إقدامهم على التكلم بهذه الكلمة إنما كان لأجل الخوف من السيف.

(فَتَبَيَّنُوا) أي فكونوا على بينة من الأمر الذي تقدمون عليه ولا تأخذوا بالظن ، بل تدبروا ليظهر لكم أن الإيمان العاصم من حقن الدماء يكفى فيه ظاهر الحال كما كفى معكم من قبل.

وفى إعادة التبيين مرة أخرى المبالغة فى التحذير من ذلك الفعل والوعيد عليه.

(إِنَّ اللهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً) أي إنه تعالى خبير بأعمالكم لا يخفى عليه شىء من البواعث التي حفزتكم على الفعل ، فإن كانت ابتغاء حظ الحياة الدنيا فهو يجازيكم على ذلك فلا تفعلوا بل تثبتوا وتبينوا ، وإن كان محض الدفاع عن الحق فهو مثيبكم على ذلك.

وفى هذا وعيد وتحذير شديد من الوقوع فى مثل هذا الخطأ.

١٢٧

وكذلك فيه إرشاد إلى ألا نحكم بتكفير من يخالفنا من أهل القبلة والعلم الصحيح والدعوة إلى كتاب الله وسنة رسوله بمجرد المخالفة لنا فى رأى أو عقيدة ، فإن مثل هذا لا يقدم عليه المسلم جزافا.

وعلينا أن ننظر بعد هذا كله إلى أن الإسلام منع قتل من يلقى السلم ومن بينه وبين المسلمين عهد وميثاق إما على النصر وإما على ترك القتال ، ورغب عن ابتغاء عرض الدنيا بالقتال ، ليكون لمحض رفع العدوان والبغي وتقرير الحق والإصلاح.

وأين هذا مما تفعله الدول الآن من القتال للربح وجمع الأموال وهم ينقضون العهد والميثاق مع الضعفاء ولا يلتزمون حفظ المعاهدات إلا مع الأقوياء؟.

(لا يَسْتَوِي الْقاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فَضَّلَ اللهُ الْمُجاهِدِينَ بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُلاًّ وَعَدَ اللهُ الْحُسْنى وَفَضَّلَ اللهُ الْمُجاهِدِينَ عَلَى الْقاعِدِينَ أَجْراً عَظِيماً (٩٥) دَرَجاتٍ مِنْهُ وَمَغْفِرَةً وَرَحْمَةً وَكانَ اللهُ غَفُوراً رَحِيماً (٩٦))

تفسير المفردات

الضرر : المرض والعلل التي يعجز صاحبها معها عن الجهاد كالعمى والعرج ، المثوبة الحسنى : هى الجنة.

المعنى الجملي

بعد أن عاتب الله المؤمنين على ما صدر منهم من قتل من تكلم بالشهادة ـ ذكر فضيلة الجهاد وأن من نصب نفسه له فقد فاز فوزا عظيما ، فعليه أن يحترز من الوقوع فى الهفوات التي تخلّ بهذا المنصب العظيم.

١٢٨

روى أن الآية نزلت فى كعب بن مالك من بنى سلمة ومرارة بن الربيع من بنى عمرو بن عوف والربيع وهلال بن أمية من بنى واقف حين تخلفوا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فى غزوة بدر.

الإيضاح

(لا يَسْتَوِي الْقاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ) أي لا يكون القاعدون عن الجهاد بأموالهم بخلا بها وحرصا عليها ، وبأنفسهم إيثارا للراحة والنعيم على التعب وركوب الأخطار ـ مساوين للمجاهدين الذين يبذلون أموالهم فى الاستعداد للجهاد بالسلاح والخيل والمئونة ، ويبذلون أنفسهم بتعريضها للقتل فى سبيل الحق ومنع تعدى حزب الطاغوت ، لأن المجاهدين هم الذين يحمون الأمة والبلاد ، والقاعدين لا يأخذون حذرهم ولا يعدّون عدّتهم للدفاع ويكونون عرضة لتعدى غيرهم عليهم كما قال تعالى «وَلَوْ لا دَفْعُ اللهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ» أي بغلبة أهل الطاغوت عليها ، ولكن النكوص عن الجهاد لا يكون مذمة وبخلا إلا مع القدرة ، أما مع العجز والضرر كالعمى والزمانة والمرض فلا تبعة فيه حينئذ.

ثم بين ما أجمله أولا من التفاضل الذي بين الفريقين وعدم تساويهما فقال :

(فَضَّلَ اللهُ الْمُجاهِدِينَ بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقاعِدِينَ دَرَجَةً) أي إن الله تعالى رفع المجاهدين على القاعدين درجة لا يقدر قدرها ولا يدرك كنهها ، وهى ما خوّلهم الله عاجلا فى الدنيا من الغنيمة والظفر والذكر الجميل ودفع شر الأعداء عن الأمة والبلاد.

(وَكُلًّا وَعَدَ اللهُ الْحُسْنى) أي ووعد الله كلا ممن جاهد وقعد عن الجهاد عجزا منه مع تمنى القدرة عليه المثوبة الحسنى وهى الجنة ، فكل منهما كامل الإيمان مخلص لله فى العمل.

١٢٩

(وَفَضَّلَ اللهُ الْمُجاهِدِينَ عَلَى الْقاعِدِينَ أَجْراً عَظِيماً) أي وفضل الله المجاهدين بأموالهم وأنفسهم على القاعدين من غير أولى الضرر أجرا عظيما.

ثم بين هذا الأجر العظيم فقال :

(دَرَجاتٍ مِنْهُ وَمَغْفِرَةً وَرَحْمَةً) هذه الدرجات هى ما ادخره الله لعباده من المنازل الرفيعة التي يقصر الحصر عن عدها كما قال تعالى «انْظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ ، وَلَلْآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلاً» ودرجات الآخرة مبنية على درجات الدنيا من قوة الإيمان بالله ، وإيثار رضاه على الراحة والنعيم ، وترجيح المصلحا العامة على الشهوات الخاصة.

والمغفرة المقرونة بهذه الدرجات هى المغفرة لما يفرط منهم من الذنوب التي لا تكفّرها سائر الحسنات التي يأتى بها القاعدون.

والرحمة هى ما يخصهم به الرحمن زيادة على ذلك من فضله وإحسانه ، وقد صح من حديث أنس رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما رجع من غزوة تبوك ودنا من المدينة قال «إن فى المدينة لأقواما ما سرتم من مسير ولا قطعتم من واد إلا كانوا معكم فيه ، قالوا يا رسول الله وهم بالمدينة؟ قال نعم وهم بالمدينة حبسهم العذر».

(وَكانَ اللهُ غَفُوراً رَحِيماً) أي وكان شأن الله وصفته الغفران لمن يستحق المغفرة ، والرحمة لمن يؤتميه ذلك تفضلا منه وإحسانا.

(إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظالِمِي أَنْفُسِهِمْ قالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللهِ واسِعَةً فَتُهاجِرُوا فِيها فَأُولئِكَ مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَساءَتْ مَصِيراً (٩٧) إِلاَّ الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجالِ وَالنِّساءِ وَالْوِلْدانِ لا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلا يَهْتَدُونَ سَبِيلاً (٩٨) فَأُولئِكَ عَسَى اللهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكانَ اللهُ عَفُوًّا غَفُوراً (٩٩)

١٣٠

وَمَنْ يُهاجِرْ فِي سَبِيلِ اللهِ يَجِدْ فِي الْأَرْضِ مُراغَماً كَثِيراً وَسَعَةً وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهاجِراً إِلَى اللهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللهِ وَكانَ اللهُ غَفُوراً رَحِيماً (١٠٠))

تفسير المفردات

توفى الشيء : أخذه وافيا تاما ، وتوفى الملائكة للناس : قبض أرواحهم حين الموت والمأوى : المسكن ، مراغما : مكانا للهجرة ومأوى يصيب فيه الخير والسعة فيرغم بذلك أنوف من كانوا مستضعفين له ، وقع أجره على الله : أي وجب ، والوقوع والوجوب يتواردان على معنى واحد.

المعنى الجملي

بعد أن ذكر سبحانه فى الآية السالفة فضل المجاهدين فى سبيل الله على القاعدين بغير عجز ـ ذكر حال قوم أخلدوا إلى السكون وقعدوا عن نصرة الدين ، وعذروا أنفسهم بأنهم فى أرض الكفر حيث اضطهدهم الكافرون ومنعوهم من إقامة الحق وهم عاجزون عن مقاومتهم ، ولكنهم فى الحقيقة غير معذورين ، لأنه كان يجب عليهم الهجرة إلى المؤمنين الذين يعتزون بهم ، إذ هم بحبهم لبلادهم وإخلادهم إلى أرضهم وسكونهم إلى أهليهم ومعارفهم ضعفاء فى الحق لا مستضعفون ، وهم بضعفهم هذا قد حرموا أنفسهم بترك الهجرة من خير الدنيا مما أفاء الله به على المؤمنين ، ومن خير الآخرة بإقامة الحق وإعلاء كلمة الدين.

وظلمهم لأنفسهم : هو تركهم العمل بالحق خوفا من الأذى وفقد الكرامة عند ذوى قرابتهم من المبطلين.

وهذا الاعتذار وما أشبهه مما يعتذر به الذين سايروا أهل البدع على بدعهم فى عصرنا الحاضر بحجة دفع الأذى عن أنفسهم بمداراة المبطلين ، وذلك عذر لا يعتد به ، إذا الواجب

١٣١

عليهم إقامة الحق مع احتمال الأذى فى سبيل الله ، أو الهجرة إلى حيث يتمكنون من إقامة دينهم.

أخرج ابن المنذر وابن جرير عن ابن عباس قال «إن سبب نزول الآية أن قوما من أهل مكة قد أسلموا وكانوا يخفون الإسلام فأخرجهم المشركون معهم يوم بدر فأصيب بعضهم فقال المسلمون هؤلاء كانوا مسلمين فأكرهوا فاستغفروا لهم ، فنزلت الآية فكتبوا بها إلى من بقي بمكة منهم وأنه لا عذر لهم فخرجوا فلحق بهم المشركون ففتنوهم فرجعوا فنزلت «وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللهِ فَإِذا أُوذِيَ فِي اللهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذابِ اللهِ» فكتب إليهم المسلمون بذلك فتحزنوا فنزلت «ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هاجَرُوا مِنْ بَعْدِ ما فُتِنُوا» الآية فكتبوا إليهم بذلك فخرجوا فلحقوهم فنجا من نجا وقتل من قتل».

الإيضاح

(إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظالِمِي أَنْفُسِهِمْ) أي إن الذين تتوفاهم الملائكة وتقبض أرواحهم حين انتهاء آجالهم حالة كونهم ظالمى أنفسهم برضاهم بالإقامة فى دار الذل والظلم حيث لا حرية لهم فى أعمالهم الدينية ، ولا يتمكنون من إقامة دينهم ونصره وتأييده.

(قالُوا فِيمَ كُنْتُمْ؟) أي تقول لهم الملائكة بعد توفيها لهم فى أىّ شىء كنتم من أمر دينكم؟ أي إنهم لم يكونوا فى شىء منه ، إذ هم قدروا على الهجرة ولم يهاجروا.

(قالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ) هذا اعتذار عن تقصيرهم الذي وبخوا عليه : أي إننا لم نستطع أن نكون فى شىء يعتد به من أمر ديننا لاستضعاف الكفار لنا فعجزنا عن القيام بواجبات الدين بين أهل مكة ، وهذه حجة لم تتقبلها الملائكة ، ومن ثم ردوا عليهم المعذرة فقالوا لهم :

(أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللهِ واسِعَةً فَتُهاجِرُوا فِيها؟) وترحلوا إلى قطر آخر من الأرض ،

١٣٢

تقدرون فيه على إقامة الدين وتحرروا أنفسكم من رق الذل الذي لا يليق بالمؤمن ، ولا هو من خصاله.

(فَأُولئِكَ مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ) أي إن أولئك الذين فصّلت حالهم الفظيعة نسكنهم فى الآخرة جهنم لتركهم ما كان مفروضا عليهم ، إذ كانت الهجرة واجبة فى صدر الإسلام.

(وَساءَتْ مَصِيراً) أي وقبحت جهنم مصيرا لهم ، لأن كل ما فيها يسوءهم ، وفى هذا إيماء إلى أن الرجل إذا كان فى بلد لا يتمكن فيه من إقامة دينه كما يجب لبعض الأسباب ، أو علم أنه فى غير بلده أقوم بحق الله وأدوم على العبادة وجبت عليه الهجرة.

أما المقيم فى دار الكفر ولا يمنع ولا يؤذى إذ هو عمل بدينه وأقام أحكامه بلا نكير فلا يجب عليه أن يهاجر ، كما هو مشاهد من المسلمين المقيمين فى بلاد الإنكليز الآن ، إلى أن الإقامة فيها ربما كانت سببا من أسباب ظهور محاسن الإسلام وإقبال الناس عليه.

(إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجالِ وَالنِّساءِ وَالْوِلْدانِ) أي إن أولئك الذين اعتذروا عن عدم إقامة دينهم وعدم الفرار به هجرة إلى الله ورسوله غير صادقين فى اعتذارهم. أما الاستضعاف الحقيقي فهو عذر مقبول كأولئك الشيوخ الضعفاء والعجزة كعياش بن أبى ربيعة وسلمة بن هشام ، والنساء كأم الفضل أم عبد الله بن عباس ، والولدان كعبد الله المذكور وغيره.

(لا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلا يَهْتَدُونَ سَبِيلاً) أي إنهم قد ضاقت بهم الحيل فلم يستطيعوا ركوب واحدة منها ، وعمّيت عليهم الطرق فلم يهتدوا طريقا منها ، إما للعجز كمرض وزمانة ، وإما للفقر ، وإما للجهل بمسالك الأرض ومضايقها بحيث لو خرجوا لهلكوا كما قالوا فى أمثالهم «قتلت أرض جاهلها» وقد أثر عن ابن عباس رضى الله عنهما أنه قال : كنت أنا وأمي من المستضعفين الذين لا يستطيعون حيلة ولا يهتدون إلى الهجرة سبيلا ، والمراد بالولدان هنا المراهقون الذين قربوا من البلوغ وعقلوا ما يعقل

١٣٣

الرجال والنساء فيلحقون بهم فى التكليف بوجوب الهجرة معهم ، أو أن تكليفهم هو تكليف أوليائهم بإخراجهم من ديار الكفر.

(فَأُولئِكَ عَسَى اللهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ) أي إن أولئك المستضعفين الذين لم يهاجروا للعجز وتقطع الأسباب يرجى أن يعفو الله عنهم ولا يؤاخذهم بالإقامة فى دار الكفر.

وفى هذا إيماء إلى أن العفو مطموع فيه غير مجزوم به ، وإلى أن أمر الهجرة مشدّد فيه ولو باستعمال الحيل والبحث عن مضايق السبل ، وبذا لا يخدع أحد ممن يحب وطنه نفسه ، فيعدّ ما ليس بمانع مانعا.

وهذا الرجاء الذي تفيده (عسى) بالنسبة إلى المخاطب ، أو إنها هنا للتهيئة والإعداد : أي إنه تعالى يعدّهم ويهيئهم لعفوه ، وفى هذا رمز إلى تعظيم أمر الهجرة ، وإلى أن تركها جرم عظيم ، وإلى أنه ينبغى أن يترصد لها الفرصة السانحة ويعلّق قلبه بها.

(وَكانَ اللهُ عَفُوًّا غَفُوراً) أي وكان شأن الله تعالى العفو عن الذنوب التي لها أعذار صحيحة بعدم المؤاخذة عليها ، ومغفرتها بسترها وعدم فضيحة صاحبها فى الآخرة.

ثم رغب سبحانه فى أمر الهجرة ونشط المستضعفين لما جرت به العادة من أن الإنسان يتهيب الأمر المخالف لما اعتاده وأنس به ، ويتخيل مصاعب ومشقات لا توجد إلا فى خياله ، وأن ما يتصوره بعض الناس من عسر الهجرة لا محل له وأن عسرها إلى يسر فقال :

(وَمَنْ يُهاجِرْ فِي سَبِيلِ اللهِ يَجِدْ فِي الْأَرْضِ مُراغَماً كَثِيراً وَسَعَةً) أي إن من يهاجر فى سبيل الله : أي لقصد رضاه وإقامة دينه كما يجب وكما يحب الله تعالى ، يجد فى الأرض سبيلا يرغم به أنوف من كانوا مستضعفين له ، ومأوى يصيب فيه الخير والسعة فوق النجاة من الاضطهاد والذل.

وفى هذا وعد للمهاجرين فى سبيله بتسهيل سبل العيش لهم وإرغامهم أعداءهم والظفر بهم.

١٣٤

وبعد أن وعد سبحانه من يهاجر بالظفر بما يحب ، ومن وجدان السبل ميسورة أمامه ، ومن سعة العيش ـ وعد من يموت فى الطريق قبل وصوله دار الهجرة بالأجر العظيم الذي ضمنه له عز وجل إذا كان يقصد بهجرته رضا الله ونصرة رسوله فى حياته ، وإقامة سننه بعد وفاته ، وكان مستحقا لهذا الأجر ولو مات بعد أن تجاوز عتبة الباب ولو لم يصب تعبا ولا مشقة ، فإن نية الهجرة مع الإخلاص كافية لاستحقاقه له كما فى الحديث «إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى» فقال :

(وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهاجِراً إِلَى اللهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللهِ) وفى إبهام هذا الأجر وجعله حقا واجبا عليه تعالى إيذان بعظم قدره وتأكيد ثبوته ووجوبه ، ولله تعالى أن يوجب على نفسه ما يشاء ، وليس لغيره أن يوجب عليه شيئا ، إذ لا سلطان فوق سلطانه.

وما أعظم الفارق بين هذا الوعد المؤكد وبين وعد تاركي الهجرة لضعف أو عجز بأنهم محل رجاء وطمع عند الله.

(وَكانَ اللهُ غَفُوراً رَحِيماً) أي وكان شأن الله الغفران أزلا وأبدا لأمثال هؤلاء المهاجرين الذين دعاهم إيمانهم لترك أوطانهم لإقامة دينه واتباع سبيله ، والرحمة الشاملة لهم بعطفه وإحسانه.

روى ابن جرير عن ابن جبير «أنها نزلت فى جندب بن ضمرة وكان بلغه قوله تعالى ـ إن الذين توفاهم الملائكة ظالمى أنفسهم ـ الآية وهو بمكة حين بعث بها رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى مسلميها فقال لبنيه : احملوني فإنى لست من المستضعفين وإنى لأهتدى إلى الطريق ، وإنى لا أبيت الليلة بمكة فحملوه على سرير وتوجهوا به إلى المدينة ، وكان شيخا كبيرا فمات بالتنعيم (موضع قرب المدينة) ولما أدركه الموت أخذ يصفق بيمينه على شماله ويقول : اللهم هذه لك وهذه لرسولك صلى الله عليه وسلم ، أبايعك على ما بايع عليه رسولك ، ولما بلغ خبر موته الصحابة رضي الله عنهم قالوا لبنيه مات بالمدينة فنزلت» وروى غير ذلك.

١٣٥

وقد ذكر غير واحد من العلماء أن من سار لأمر فيه ثواب كطلب علم وحج وكسب حلال ومات قبل الوصول إلى المقصد فله هذا الحكم.

أخرج البيهقي عن أبى هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «من خرج حاجّا فمات كتب له أجر الحاج إلى يوم القيامة ، ومن خرج معتمرا فمات كتب له أجر المعتمر إلى يوم القيامة ، ومن خرج غازيا فى سبيل الله فمات كتب له أجر الغازي إلى يوم القيامة».

السبب فى شرع الهجرة فى صدر الإسلام

شرعت الهجرة فى صدر الإسلام لأسباب ثلاثة تتعلق بحال الفرد وحال الجماعة :

١) البعد عن الاضطهاد فى أمور الدين بإقامة شعائره بحيث يكون المسلم حرا فى تصرفه كما يعتقد ، فكل شخص يظن أنه ربما يفتن عن دينه أو يكون ممنوعا من إقامته ، يجب عليه أن يهاجر منه إلى مكان لا خطر فيه على نفسه ولا على دينه ، فإن لم يفعل ذلك فقد ارتكب إثما كبيرا ، وحمل وزرا عظيما.

٢) تلقى الدين والنفقة فيه ، وقد كان ذلك فى عصر النبي صلى الله عليه وسلم حين كان إرسال الدعاة والمرشدين من قبله متعذرا لتصدى المشركين لهم وحرمانهم من أداء وظائفهم لما لهم من القوة والبطش ، وهذا الحكم فى كل من يقيم ببلد ليس فيه علماء يقيمون أحكام الدين ، عليه أن يهاجر إلى بلد يتلقى فيه أمور دينه وأحكام شريعته.

٣) أنه يجب على جماعة المسلمين أن تكون لهم دولة قوية تنشر دعوة الإسلام وتقيم أحكامه وحدوده وتحمى دعاته وأهله من عدوان العادين ، فإذا خيف على هذه الدولة من غارة الأعداء وجب على المسلمين أينما كانوا أن يشدوا أزرها حتى تقوى وتقوم بما يجب عليها ، مهما بعدت دارهم وشط مزارهم ، وإلا كانوا راضين بضعفها ومعينين لأعداء الإسلام على إبطال الدعوة وتشريد الدعاة.

وقد كانت هذه الأسباب موفورة قبل فتح مكة ، فلما يسرّ الله فتحها وقوى

١٣٦

الإسلام على الشرك فى جزيرة العرب كلها ودخل الناس فى دين الله أفواجا وأرسل النبي صلى الله عليه وسلم إلى أطراف الجزيرة وغيرها من يعلّم الناس شرائع الإسلام زالت هذه الأسباب ، وقد روى ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال «لا هجرة بعد الفتح ، ولكن جهاد ونية ، وإذا استنفرتم فانفروا» رواه أحمد والشيخان ، وإذا وجد أحد الأسباب الثلاثة المتقدمة فى أي عصر وجبت الهجرة وأهمها اعتداء الكفار على بلاد المسلمين وخوف استيلائهم عليها.

(وَإِذا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنَّ الْكافِرِينَ كانُوا لَكُمْ عَدُوًّا مُبِيناً (١٠١) وَإِذا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاةَ فَلْتَقُمْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ فَإِذا سَجَدُوا فَلْيَكُونُوا مِنْ وَرائِكُمْ وَلْتَأْتِ طائِفَةٌ أُخْرى لَمْ يُصَلُّوا فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَأَمْتِعَتِكُمْ فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُمْ مَيْلَةً واحِدَةً وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ إِنْ كانَ بِكُمْ أَذىً مِنْ مَطَرٍ أَوْ كُنْتُمْ مَرْضى أَنْ تَضَعُوا أَسْلِحَتَكُمْ وَخُذُوا حِذْرَكُمْ إِنَّ اللهَ أَعَدَّ لِلْكافِرِينَ عَذاباً مُهِيناً (١٠٢) فَإِذا قَضَيْتُمُ الصَّلاةَ فَاذْكُرُوا اللهَ قِياماً وَقُعُوداً وَعَلى جُنُوبِكُمْ فَإِذَا اطْمَأْنَنْتُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلاةَ كانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتاباً مَوْقُوتاً (١٠٣))

تفسير المفردات

ضربتم فى الأرض : أي سافرتم فيها ، لأن المسافر يضرب الأرض برجليه وعصاه أو بقوائم راحلته ، والقصر بالفتح من القصر (كعنب) ضد الطول ، وقصرت الشيء :

١٣٧

جعلته قصيرا ، والجناح : التضييق من جنح البعير إذا انكسرت جوانحه (أضلاعه) لثقل حمله ، يفتنكم : يؤذوكم بقتل أو غيره ، إقامة الصلاة : الذكر الذي يدعى به للدخول فيها ، والأسلحة : واحدها سلاح ، وهو كل ما يقاتل به كالسيف والخنجر والمسدس والبندقية من أسلحة العصر الحاضر ، قضيتم الصلاة : أي أديتموها ، فأقيموا الصلاة : أي ائتوا بها مقوّمة تامة الأركان والشروط ، كتابا موقوتا : فرضا منجما فى أوقات محدودة لا بد من أدائها فيها.

المعنى الجملي

كان الكلام فى سابق الآيات فى الجهاد والحثّ عليه لإقامة الدين وحفظه وإيجاب الهجرة لأجل ذلك ، وتوبيخ من لم يهاجر من أرض لا يقدر على إقامة دينه فيها ، والجهاد يستلزم السفر ، وذكر هنا أحكام من سافر للجهاد أو هاجر فى سبيل الله إذا أراد الصلاة وخاف أن يفتن عنها ، فبين أنه يجوز له أن يقصر منها وأن يصلى جماعتها بالطريقة التي ذكرت فى الآية الثانية من هذه الآيات.

الإيضاح

(وَإِذا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا) أي وإذا سافرتم أىّ سفر فليس عليكم تضييق ولا ميل عن محجة الدين إذا قصرتم الصلاة : أي تركتم شيئا منها فتكون قصيرة ، بشرط أن تخافوا فتنة الكافرين لكم بالقتل أو الأسر أو غيرهما ، وليس هذا خاصا بزمن الحرب بل إذا خاف المصلى قطاع الطريق كان له أن يقصر هذا القصر ، وليس هذا هو قصر الصلاة الرباعية فى السفر المبين فى كتب الفقه ، إذ هذا مأخوذ من السنة المتواترة بل المراد هنا القصر فى صلاة الخوف المذكور فى الآية الأولى والمبين في الآية التي بعدها وفى سورة البقرة بقوله تعالى «فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجالاً أَوْ رُكْباناً».

فالآية التي هنا بصدد القصر من عدد الركعات بأن تصلى طائفة مع الإمام ركعة

١٣٨

واحدة فإذا أتمتها تأتى الطائفة الأخرى وهى التي كانت تحرس الأولى فتصلى معه الركعة الثانية ، وآية البقرة فى القصر من هيئة الصلاة بالترخيص فى عدم إقامة صورتها ، بأن يكتفى المشاة والركبان بالإيماء عن الركوع والسجود.

صلاة القصر فى السفر وشرطها

كان النبي صلى الله عليه وسلم يصلى الظهر والعصر والعشاء فى السفر ركعتين ركعتين وكذلك فعل أبو بكر وعمر وسائر الصحابة ، ففى صحيح البخاري عن ابن عمر رضى الله عنهما قال : صحبت رسول الله صلى الله عليه وسلم فكان فى السفر لا يزيد على ركعتين ، وأبا بكر وعمر وعثمان ـ يعنى فى صدر خلافته ، وإلا فعثمان قد أتم فى آخر خلافته وكان ذلك أحد الأسباب التي أنكرت عليه ، وقد خرّج لفعله تأويلات اه.

قال ابن القيم وأحسن ما اعتذر به عن عثمان أنه قد تزوج بمنى ، والمسافر إذا أقام فى موضع وتزوج فيه أتم صلاته فيه وهو قول الحنفية والمالكية.

وقد روى الشيخان عن عائشة قالت «فرضت الصلاة ركعتين ركعتين ، فلما هاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة زيد فى صلاة الحضر وأقرّت صلاة السفر».

وقال عمر بن الخطاب : صلاة السفر ركعتان ، والجمعة ركعتان ، والعيد ركعتان ، تمام غير قصر على لسان محمد صلى الله عليه وسلم وقد خاب من افترى ، وكان قد سأل النبي صلى الله عليه وسلم ما بالنا نقصر؟ فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم «صدقة تصدق الله بها عليكم فاقبلوا صدقته».

وقال أمية بن خالد لعبد الله بن عمر : إنا نجد صلاة الحضر وصلاة الخوف فى القرآن ولا نجد صلاة السفر فى القرآن (يعنى صلاة الرباعية ركعتين) فقال له ابن عمر : يا أخى إن الله بعث محمدا صلى الله عليه وسلم ولا نعلم شيئا فإنما نفعل كما رأينا محمدا صلى الله عليه وسلم يفعل.

فالحق ما عليه الحنفية وغيرهم من وجوب القصر فى السفر خلافا للشافعية الذين أجازوا الإتمام.

١٣٩

وشرط القصر فى الصلاة والإفطار فى رمضان أن يكون السفر مسيرة ثلاثة أيام ولياليها بسير الإبل ومشى الأقدام بالاقتصاد فى البر وجرى السفينة والريح معتدلة فى البحر ، لحديث أنس أنه قال حين سئل عن قصر الصلاة «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا خرج مسيرة ثلاثة أيام أو ثلاثة فراسخ صلى ركعتين» رواه أحمد ومسلم وأبو داود ، وقدره الشافعي بمسيرة يومين ، وحقق المرحوم أحمد الحسيني بك فى كتابه [دليل المسافر] أن هذه المسافة تقدر بنحو ٨١ ك م عند الحنفية ، وبنحو ٨٩ ك م لدى الشافعية والمالكية والحنابلة ، وعلى هذا فالمسافر من القاهرة إلى طنطا فما فوقها يقصر الصلاة عند الحنفية لأن المسافة بينهما ٨٧ ك م وإلى المحطة التي تليها (شبر النملة) لدى المذاهب الثلاثة لأن المسافة بينهما ٩٣ ك م.

كيفية صلاة الخوف

ثم بين سبحانه ما قبله من النص المجمل الوارد فى مشروعية القصر وبيان كيفيته عند الضرورة ، وذكر هذا البيان فى القرآن واكتفى فيما عداه بالبيان بطريق السنة لمزيد الحاجة إليه ، لما فيه من كثرة التغيير عن الهيئة الأصلية فقال :

(وَإِذا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاةَ فَلْتَقُمْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ) أي وإذا كنت أيها الرسول فى جماعتك من المؤمنين وأردت أن تقيم بهم الصلاة فلتقم طائفة منهم معك بعد أن تجعلهم طائفتين ، ولتقف الطائفة الأخرى بإزاء العدوّ يحرسون المصلين خوفا من الاعتداء ، وليحمل الذين يقومون معك فى الصلاة أسلحتهم ولا يدعوها وقت الصلاة ، لئلا يضطروا إلى المكافحة عقبها مباشرة أو قبل إتمامها فيكونوا مستعدين لها.

(فَإِذا سَجَدُوا فَلْيَكُونُوا مِنْ وَرائِكُمْ) أي فإذا سجد الذين يقومون معك فى الصلاة فليكن الذين يحرسونكم من خلفكم ، إذ أحوج ما يكون المصلّى للحراسة حين السجود لأنه لا يرى من يهمّ به.

١٤٠