تفسير المراغي - ج ٥

أحمد مصطفى المراغي

ذاك أن المؤمن يحب أن يكون أعز الناس نفسا وأعظمهم كرامة ، فلا يرضى أن يستعبده سلطان ظالم ولا حاكم مستعبد ، إذ هو يعلم علم اليقين أن الكل عبيد مسخرون لله تعالى يخضعون لأمره ، وأن ذلك منتهى سعادتهم فى الدارين.

(وَمَنْ تَوَلَّى فَما أَرْسَلْناكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً) أي ومن أعرض عن طاعتك التي هى طاعة الله فليس لك أن تكرهه عليها ، لأنك ما أرسلت إلا مبشرا ونذيرا ولم ترسل مسيطرا أو رقيبا تحفظ على الناس أفعالهم وأقوالهم ، فالإيمان والطاعة إنما يكونان بالاختيار بعد الإقناع والاختبار.

(وَيَقُولُونَ طاعَةٌ) أي ويقول ذلك الفريق الذين أخبر الله عنهم أنهم يخشون الناس كخشية الله أو أشد خشية ، إذا أمرهم النبي صلى الله عليه وسلم بأمر : أمرك طاعة ـ أي أمرك مطاع ، إظهارا لكمال الانقياد والخضوع.

(فَإِذا بَرَزُوا مِنْ عِنْدِكَ بَيَّتَ طائِفَةٌ مِنْهُمْ غَيْرَ الَّذِي تَقُولُ) البراز ـ بفتح الباء ـ الأرض الفضاء ، والتبييت ما يدبر فى الليل من رأى ونية وعزم على عمل ، ومنه تبييت العدو للإيقاع به ليلا ، أي إذا خرجوا من المكان الذي يكونون معك فيه إلى البراز وهم منصرفون إلى بيوتهم ، دبر جماعة منهم ليلا غير الذي قالوا لك وأظهروه من الطاعة نهارا.

روى ابن جرير عن ابن عباس أنه قال : هم ناس يقولون عند رسول الله صلى الله عليه وسلم : آمنا بالله ورسوله ليأمنوا على دمائهم وأموالهم ، وإذا برزوا من عند رسول الله صلى الله عليه وسلم خالفوا إلى غير ما قالوا عنده فعاتبهم الله على ذلك.

(وَاللهُ يَكْتُبُ ما يُبَيِّتُونَ) أي يبينه لك فى كتابه ويفضحهم بمثل هذه الآيات ، وفى هذا من التهديد الشيء الكثير.

(فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ) ولا تهتمّ بما يبيتون ولا تؤاخذهم بما أسروا ولم يعلنوا.

(وَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ) أي فوّض الأمر إليه ، وثق به فى جميع أمورك ، فإن الله يكفيك شرهم وينتقم لك منهم.

١٠١

(وَكَفى بِاللهِ وَكِيلاً) لمن توكل عليه ، فهو قادر على إيقاع الجزاء بهم ، وعليم بمقدار ما يستحقون منه ، لا يعجزه منه شىء.

(أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ) أصل التدبر التأمل فى أدبار الأمور وعواقبها ، ثم استعمل فى كل تأمل سواء كان نظرا فى حقيقة الشيء وأجزائه ، أو سوابقه وأسبابه ، أو لواحقه وأعقابه ، وتدبر الكلام هو النظر والتفكر فى غاياته ومقاصده التي يرمى إليها ، وعاقبة من يعمل به ومن يخالفه.

أي أجهل هؤلاء القوم حقيقة الرسالة وكنه هذه الهداية فلا يتدبرون القرآن الذي يدل على حقيقتها؟ ولو تدبروه لعرفوا أنه الحق من ربهم وأن ما وعد به المتقين الصادقين وما أنذر به الكافرين والمنافقين واقع لا محالة ، فهو إذ صدق فى الإخبار عما يبيتون فى أنفسهم من القول يصدق كذلك فيما أخبر عن سوء مصيرهم والوبال والنكال فى عاقبتهم.

(وَلَوْ كانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً) أي ولو كان من عندك لا من عند الله الذي أرسله به لوجدوا فيه اختلافا كثيرا لأسباب كثيرة :

١) أن أي مخلوق لا يستطيع تصوير الحقائق كما صورها القرآن بلا اختلاف ولا تفاوت فى شىء منها.

٢) أنه حكى عن الماضي الذي لم يشاهده محمد صلى الله عليه وسلم ولم يقف على تاريخه ، وعن الآتي فوقع كما أنبأ به ، وعن الحاضر فأخبر عن خبايا الأنفس ومكنونات الضمائر كما أخبر عما بيتته هذه الطائفة مخالفا لما تقول للرسول أو ما يقوله لها فتقبله فى حضرته وترفضه فى غيبته.

٣) أن أحدا لا يستطيع أن يأتى بمثله فى بيان أصول العقائد وقواعد الشرائع وسياسة الشعوب والقبائل مع عدم الاختلاف والتفاوت فى شىء من ذلك.

٤) أن أحدا لا يستطيع أن يأتى بمثله فى سنن الاجتماع ونواميس العمران وطبائع الملل والأقوام مع إيراد الشواهد وضرب الأمثال وتكرار القصة الواحدة بالعبارات

١٠٢

لبليغة تنويعا للعبرة وتلوينا للموعظة ، واتفاق كل ذلك وتواطئه على الصدق ، وبراءته من الاختلاف والتناقض.

٥) أن أحدا لا يستطيع أن يأتى بمثله فيما جاء به من فنون القول وألوان العبر فى أنواع المخلوقات فى الأرض أو فى السموات ، فقد تكلم على الخلق والتكوين ووصف جميع الكائنات كالكواكب ونظامها والرياح والبحار والحيوان والنبات وما فيها من الحكم والآيات ، وكان فى كل ذلك يؤيد بعضه بعضا لا تفاوت فيه ، ولا اختلاف بين معانيه.

٦) أنه أخبر عن عالم الغيب والدار الآخرة وما فيها من الحساب على الأعمال والجزاء العادل ، وكان فى كل ذلك جاريا على سنة الله تعالى فى تأثير الأعمال الاختيارية فى الأرواح ، مع الالتئام بين الآيات الكثيرة ، وهو غاية الغايات فى ذلك عند من أوتى الحكمة وفصل الخطاب.

هذا إلى أنه نزل منجما بحسب الوقائع والأحوال ، وكان النبي صلى الله عليه وسلم عند نزول الآية أو الآيات يأمر بأن توضع فى محلها من سورة كذا ، وهو يحفظه حفظا ، وقد جرت العادة بأن من يأتى بكلام من عنده فى مناسبات مختلفة لا يتذكر جميع ما سبق له فى السنين الطوال ولا يستحضره حتى يجعل الآخر موافقا للأول مع أن بعض الآيات كان ينزل فى أيام المحن والكروب ، وبعضها عند تنازع الأقوام حين الخصام.

إلى أنّ كر الغداة ومر العشى لا يزيده إلا جدّة ، ولا يزيد أحكامه إلا ثباتا ورسوخا ، وكلما اتسعت دائرة العلوم والمعارف ونمت أحوال العمران زاد إيمان الناس به ، إذ تتوثق روابط الصلة بين الدين والعلم وتتظاهر أحكامه مع نواميس الاجتماع وشؤون الكون.

والخلاصة ـ إن تدبر القرآن وتأمل ما امتاز به هو طريق الهداية القويم ، وصراط الحق المستقيم ، فإنه يرشد إلى كونه من عند الله ، وإلى وجوب الاهتداء به ،

١٠٣

وإلى أنه معقول فى نفسه موافق للفطرة ملائم للمصلحة ، وفيه سعادة الخلق فى الدنيا والآخرة.

ولو تدبر المسلمون القرآن واهتدوا به فى كل زمان لما فسدت أخلاقهم وآدابهم ، ولما ظلم واستبد حكامهم ، ولما زال ملكهم وسلطانهم ، ولما صاروا عالة فى معايشهم على سواهم.

وهذا التدبر لا يمنع أن يستنبط أولو الأمر الأحكام العامة فى السياسة والقضاء والإدارة ، وتتبعهم فيها سائر الأمة.

(وَإِذا جاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْ لا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطانَ إِلاَّ قَلِيلاً (٨٣))

تفسير المفردات

أذاع الشيء وأذاع به. نشره وأشاعه بين الناس ، وردّ الشيء : أرجعه وأعاده ، والاستنباط : استخراج ما كان مستترا عن الأبصار ، فضل الله : هو هدايتكم بطاعة الرسول ، إلا قليلا : أي قليلا منكم ممن أوتوا صفاء الفطرة وسلامتها.

المعنى الجملي

قال ابن جرير : إن هذه الآية نزلت فى الطائفة التي كانت تبيّت غير ما يقول لها الرسول أو تقول له اه. ولا يبعد أن تكون فى جمهور المسلمين بلا تعيين ، لأن المشاهد فى أحوال الناس أن الإذاعة بمثل أخبار الأمن والخوف لا تكون من دأب المنافقين خاصة ، بل هى مما يلهج به الناس فى مختلف البيئات بحسب المناسبات وإن كانت

١٠٤

تختلف نياتهم ، فالمنافق قد يذيع ما يذيعه لأجل الضرر ، وضعيف الإيمان قد يذيع استشفاء مما فى صدره من الإحن والبغضاء ، وغيرهما قد يذيع رغبة فى كشف الأسرار وابتلاء الأخبار ، وهذا أمر معتاد بين الناس وهو كثير الضرر إذا شغلوا به عن أعمالهم ، وضرره أكثر إذا أذاعوه وعلمه جواسيس العدوّ ، لما يكون لذلك من العواقب الوخيمة.

على الأمة ، ومثل ذلك سائر الأمور السياسية والشؤون العامة التي لا ينبغى أن تعدو الخاصة وتصل إلى العامة.

الإيضاح

(وَإِذا جاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذاعُوا بِهِ) أي إن هؤلاء الضعفة من المسلمين الذين لا خبرة لهم بالشئون العامة قد بلغ من طيشهم وخفة أحلامهم أن كل خير يصل إليهم يستفزهم ويطلق ألسنتهم بالكلام فيه وإذاعته بين الناس ، سواء أكان من ناحية الجيش الذي يغزو ويقاتل العدو ، أو من ناحية المركز العام للسلطة ، ولا ينبغى أن تشيع العامة أخبار الحرب وأسرارها ، ولا أن تخوض فى السياسة العامة للدولة ، لأن ذلك مضرّة لها ومفسدة لشؤونها ومرافقها العامة وعلاقاتها مع غيرها من الأمم إلى أن فى ذلك مشغلة لهم عن شؤونهم الخاصة وضياع زمن كانوا فيه أحوج إلى العمل بما يفيدهم ويفيد الأمة.

وهذا بيان لجناية ضعفاء الإيمان إثر بيان جناية المنافقين.

ثم بين ما ينبغى أن يفعل فى مثل هذه الحال فقال :

(وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ) أي ولو أن أولئك المذيعين فوضوا الكلام فى الأمور العامة إلى الرسول وهو الإمام الأعظم والقائد العام فى الحرب ، وإلى أولى الأمر من أهل الحل والعقد ورجال الشّورى ، لوجدوا علم ذلك عندهم ، لأنهم هم الذين يستنبطون مثله ، ويستخرجون خفاياه بدقة نظرهم ، إذ لكل طائفة منهم استعداد للإحاطة ببعض المسائل المتعلقة بسياسة الأمة دون بعض

١٠٥

فهذا أخصائي فى المسائل المالية ، وذاك فى الأمور القضائية ، وذاك فى بناء القناطر والجسور ورابع فى شؤون الحرب ، وكل هذه المسائل يدرسها رجال الشورى [مجلس الوزراء بالاصطلاح العصرى] ويستنبطون منها ما يكون فيه المصلحة للدولة وينفذونه ، ولا ينبغى أن تذيعه العامة لما فى ذلك من الضرر بها من سائر الوجوه والاعتبارات.

ثم امتنّ سبحانه على صادقى الإيمان من عباده فقال :

(وَلَوْ لا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطانَ إِلَّا قَلِيلاً) أي ولولا فضل الله عليكم ورحمته بكم ، إذ هداكم لطاعته وطاعة رسوله ظاهرا وباطنا ، ورد الأمور العامة إلى الرسول وإلى أولى الأمر منكم ، لاتبعتم وسوسة الشيطان كما اتبعته تلك الطائفة التي تقول للرسول : طاعة لك وتبيت غير ذلك ، والتي تذيع أمر الأمن والخوف وتفسد على الأمة سياستها ، ولأخذتم بآراء المنافقين فيما تأتون وما تذرون ، ولم تهتدوا إلى الصواب ، إلا قليلا منكم ممن استنارت عقولهم بنور الإيمان وعرفوا الأحكام بالاقتباس من مشكاة النبوة كأبى بكر وعمر وعثمان وعلى ، فهى كقوله تعالى «وَلَوْ لا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ ما زَكى مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَداً».

(فَقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللهِ لا تُكَلَّفُ إِلاَّ نَفْسَكَ وَحَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَسَى اللهُ أَنْ يَكُفَّ بَأْسَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَاللهُ أَشَدُّ بَأْساً وَأَشَدُّ تَنْكِيلاً (٨٤))

تفسير المفردات

التحريض : الحث على الشيء بتزيينه وتسهيل الأمر فيه ، والبأس القوة ، وكان بأس الكافرين متجها إلى إذلال المؤمنين لإيمانهم ، والتنكيل : معاقبة المجرم بما يكون فيه عبرة ونكال لغيره بحيث يمنعه أن يفعل مثل فعله.

١٠٦

المعنى الجملي

بعد أن أمر سبحانه بالجهاد ورغب فيه أشد الترغيب ، وذكر قلة رغبة المنافقين فيه ، وسعيهم فى تثبيط المسلمين عنه ، عاد هنا إلى الأمر به مرة أخرى.

الإيضاح

(فَقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللهِ لا تُكَلَّفُ إِلَّا نَفْسَكَ وَحَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ) أي وإذا أردت الفوز والظفر على الأعداء فقاتل فى سبيل الله امتثالا لأمره ، وأنت لا تكلف إلا أفعال نفسك دون أفعال الذين قالوا : لم كتبت علينا القتال؟ والذين يقولون : لك طاعة ويبيتون غير ذلك ، فمن أطاع الله لا يضيره عصيان من عصاه ، وعليك أن تحث غيرك على القتال وتحرضه عليه ، لا أن تلزمه ذلك بالقهر والجبروت.

وفى الآية إيماء إلى أنه صلى الله عليه وسلم كلّف قتال الكافرين الذين قاوموا دعوته بقوتهم وبأسهم وإن كان وحده ، كما أنها تدل على أنه صلى الله عليه وسلم أعطى من الشجاعة ما لم يعط أحد من العالمين ، وفى سيرته الشريفة أصدق الأدلة على ذلك ، فقد تصدى لمقاومة الناس جميعا بدعوتهم إلى ترك ما هم عليه من الضلال ، وحين قاتلوه قاتلهم ، وقد انهزم عنه أصحابه فى أحد فبقى ثابتا كالجبل لا يتزلزل.

(عَسَى اللهُ أَنْ يَكُفَّ بَأْسَ الَّذِينَ كَفَرُوا) عسى هنا للتهيئة والإعداد فهى بمعنى الخبر والوعد ، وخبره تعالى حق فإنه لا يخلف الميعاد.

والمعنى ـ إن تحريض النبي للمؤمنين على القتال معه هو الذي يحملهم بباعث الإيمان والإذعان النفسي على الاستعداد له وتوطين النفس عليه ، بينما هو يعدّ الكافرين لترك الاعتداء على المؤمنين وكف بأسهم عنهم ، إذ لا شىء أدعى إلى ترك القتال من الاستعداد للقتال كما قال أبو تمام :

وأخافكم كى تغمدوا أسيافكم

إن الدم المغبرّ يحرسه الدم

١٠٧

وعلى هذا النحو جرى عمل الممالك الكبيرة فى هذا العصر ، فكل دولة منها تبذل منتهى ما فى وسعها من اتخاذ العدّة والعتاد فى البر والبحر وتنظيم الجيوش لتكون القوى بينها متوازنة ولا تطمع القوية فى الضعيفة ، إذ يغريها ضعفها بالإقدام على حربها (وَاللهُ أَشَدُّ بَأْساً وَأَشَدُّ تَنْكِيلاً) أي لا تخافوا بأس هؤلاء الكافرين وشدتهم ولا يصدنكم ذلك عن طاعة الرسول والعمل بتحريضه ، فإن الله الذي وعد الرسول بالنصر أشد منهم بأسا وأشد منهم تنكيلا ، وقد جرت سنته أن تكون العاقبة للمتقين ما استمسكوا بأوامره وتركوا نواهيه وأعدوا العدّة مع الصبر والثبات والتباعد عن أسباب الخذلان والفشل.

(مَنْ يَشْفَعْ شَفاعَةً حَسَنَةً يَكُنْ لَهُ نَصِيبٌ مِنْها وَمَنْ يَشْفَعْ شَفاعَةً سَيِّئَةً يَكُنْ لَهُ كِفْلٌ مِنْها وَكانَ اللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ مُقِيتاً (٨٥) وَإِذا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْها أَوْ رُدُّوها إِنَّ اللهَ كانَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ حَسِيباً (٨٦) اللهُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ لا رَيْبَ فِيهِ وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللهِ حَدِيثاً (٨٧))

تفسير المفردات

قال الراغب : الشفع ضم الشيء إلى مثله ، والشفاعة : الانضمام إلى آخر ناصرا له وسائلا عنه ، نصيب : حظ ، كفل : نصيب ، مقيتا : أي مقتدرا أو حافظا أو شاهدا.

قال الراغب : وحقيقته قائما عليه يحفظه ويعينه ، فهو مأخوذ من القوت وهو ما يمسك الرمق من الرزق وتحفظ به الحياة ، يقال قاته يقوته إذا أطعمه قوته ، وأقاته يقيته إذا جعل له ما يقوته ، والتحية : مصدر حيّاه إذا قال له حيّاك الله ، وهى فى الأصل الدعاء بالحياة ثم صار اسما لكل دعاء وثناء كقولهم : أنعم صباحا وأنعم مساء ، وعم صباحا

١٠٨

وعم مساء ، وجعل الشارع تحية المسلمين (السلام عليكم) إشارة إلى أن الدين دين سلام وأمان ، الحسيب : المحاسب على العمل ، كالجليس بمعنى المجالس وقد يراد به المكافئ والكافي ، من قولهم : حسبك كذا إذا كان يكفيك.

المعنى الجملي

بعد أن أمر الله تعالى نبيه أن يحرض المؤمنين على الجهاد وذكر أنه ليس عليه وزر من تمرد وعصى ـ بين فى هذه الآية أنهم حين أطاعوك ولبّوا دعوتك أصابهم من هذه الطاعة خير كثير ، وأن لك من هذا الخير نصيبا تستحق عليه الأجر ، لأنك قد بذلت الجهد فى ترغيبهم فيه بجعل نفسك شفيعا ونصيرا لهم فى الوصول إلى تحصيل هذه الأغراض الشريفة.

الإيضاح

(مَنْ يَشْفَعْ شَفاعَةً حَسَنَةً يَكُنْ لَهُ نَصِيبٌ مِنْها) أي من يجعل نفسه شفيعا لك ويناصرك فى القتال ـ وقد أمرت به وحدك ـ يكن له من شفاعته نصيب بما يناله من الفوز والشرف والغنيمة فى الدنيا عند ما ينتصر الحق على الباطل ، وبما يناله من الثواب فى الآخرة فى جميع الحالات ، سواء أدرك النصر فى الدنيا أم لم يدركه.

ووصف الشفاعة بالحسنة لأنها تأييد ونصر للحق ، ومثل هذا كل من يعاون فاعل الخير ويساعده.

(وَمَنْ يَشْفَعْ شَفاعَةً سَيِّئَةً يَكُنْ لَهُ كِفْلٌ مِنْها) أي ومن ينضم إلى عدوك فيقاتل معه أو يخذل المؤمنين عن قتاله يكن له نصيب من سوء العاقبة بما يناله من الخذلان فى الدنيا والعقاب فى الآخرة ، وهذه هى الشفاعة السيئة لأنها إعانة على السيئات ، وسمى هذا النصيب كفلا ، لأنه نصيب مكفول للشافع ، إذ هو أثر عمله ، أو محدود لأنه على قدره.

١٠٩

والخلاصة ـ إن من ينضم إلى غيره معينا له فى فعل حسن يكن له منه نصيب ، ومن ينضم إلى غيره معينا له فى فعل سيىء ينله منه سوء وشدة.

ويدخل فى الآية شفاعة الناس بعضهم لبعض ، وهى قسمان : حسنة ، وسيئة ؛ فالحسنة أن يشفع الشافع لإزالة ضرر ورفع مظلمة عن مظلوم أو جر منفعة إلى مستحق ليس فى جرها إليه ضرر ولا ضرار ؛ والسيئة أن يشفع فى إسقاط حد ، أو هضم حق ، أو إعطائه لغير مستحق ، أو محاباة فى عمل بما يوصل إلى الخلل والزلل ، ولأجل هذا قال العلماء : الشفاعة الحسنة ما كانت فيما استحسنه الشرع ، والسيئة : فيما كرهه أو حرّمه.

وفى الآية من العبرة لنا أن نتذكر أن الحاكم العادل لا تنفع الشفاعة عنده إلا بإخباره بما لم يكن يعلم من مظلمة المشفوع له أو استحقاقه لما يطلب له ، ولا يقبل الشفاعة لإرضاء الشافع فيما يخالف الحق والعدل ويخالف المصلحة العامة.

أما الحاكم الظالم فتروج عنده الشفاعات ، لأنه يحابى أعوانه المقربين منه ليكونوا شركاء له فى استبداده ليثبتوا على خدمته وإخلاصهم له ، والحكومات التي تروج فيها الشفاعات وتعتمد عليها الرعية فى كل ما تطلب تضيع فيها الحقوق ، ويحل الظلم محل العدل ، ويسرى من الدولة إلى الأمة ، فيعم فيها الفساد ويختل نظام الأعمال.

(وَكانَ اللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ مُقِيتاً) أي وكان الله مقتدرا على كل شىء فلا يعجزه أن يعطى الشافع نصيبا وكفلا من شفاعته على قدرها فى النفع والضر ، ويجازى كلّا بما يستحق ، لأن سننه قد قضت بأن يربط الجزاء بالعمل.

وبعد أن علّم سبحانه المؤمنين طريق الشفاعة الحسنة والسيئة وهى من أسباب التواصل بين الناس ، علّمهم سنة التحية بينهم وبين إخوانهم ليؤدبهم بأدب دينه ويزكيهم ويطهر نفوسهم من الغل والحسد فقال :

(وَإِذا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْها أَوْ رُدُّوها) أي وإذا حياكم أحد بتحية فردوها بتحية مثلها ، أو بتحية أحسن منها ، فقولوا لمن قال : السلام عليكم ـ وعليكم السلام ، أو وعليكم السلام ورحمة الله ، وإذا قال هذا فى تحيته فالأحسن أن تقولوا : وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته ، وهكذا يزيد المجيب على المبتدئ كلمة أو أكثر.

١١٠

وقد يكون حسن الجواب بمعناه أو كيفية أدائه وإن كان بمثل لفظ المبتدئ بالتحية أو مساويه فى الألفاظ أو أخصر منه ، فمن قال لك : السلام عليكم بصوت خافت يشعر بقلة العناية ، فقلت له : وعليكم السلام بصوت أرفع وبإقبال يشعر بالعناية وزيادة الإقبال والتكريم كنت قد حييته بتحية أحسن من تحيته فى صفتها ، وإن كانت مثلها فى لفظها.

والخلاصة ـ إن الجواب عن التحية له مرتبتان : أدناهما ردها بعينها ، وأعلاهما الجواب عنها بأحسن منها ، والمجيب مخير بينهما ، وقد روى ابن جرير عن ابن عباس عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال «من سلم عليك من خلق الله فاردد عليه وإن كان مجوسيا فإن الله يقول (وَإِذا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْها أَوْ رُدُّوها) ومن قال لخصمه السلام عليكم فقد أمنه على نفسه ، وكانت العرب تقصد هذا المعنى والوفاء من شيمتها ، وبعض المسلمين الآن يكره أن يحييهم غيرهم بلفظ السلام ، كما يكرهون رد السلام على غير المسلم ، وكأنهم غفلوا عن أن الآداب الإسلامية إذا ألفت عرفوا فضل الإسلام وجذبهم ذلك إليه.

والسنة أن يسلم القادم على من يقدم عليه ، وإذا تلاقى الرجلان يبدأ الكبير فى السن أو القدر بالسلام ، وقد جاء فى الصحيحين أنه «يسلم الراكب على الماشي والماشي على القاعد والقليل على الكثير» وروى «أن النبي صلى الله عليه وسلم مر بصبيان فسلم عليهم» وروى الترمذي «أنه مر بنسوة فأومأ بيده بالتسليم» وقد ورد فى الصحيحين قوله صلى الله عليه وسلم «إن أفضل الإسلام وخيره إطعام الطعام وأن تقرأ السلام على من عرفت ومن لم تعرف» وروى الحاكم قوله صلى الله عليه وسلم «أفشوا السلام تسلموا» :

(إِنَّ اللهَ كانَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ حَسِيباً) أي إنه تعالى رقيب عليكم فى مراعاة هذه الصلة بينكم بالتحية ويحاسبكم على ذلك.

وفى هذا إشارة إلى تأكيد أمر هذه الصلة بين الناس ، ووجوب رد التحية على من بسلم علينا ويحيينا.

١١١

وبعد أن حث رسوله صلى الله عليه وسلم على الجهاد وأمر المسلمين بمشاركته فيه ، وأمرهم بإظهار المودة وقت السلم ، بين أنهم مجزيون على كل هذا فى يوم لا ريب فيه فقال :

(اللهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ لا رَيْبَ فِيهِ) جمعت هذه الآية التوحيد والإيمان بالبعث والجزاء فى الدار الآخرة ، وهما الركنان الأساسيان للدين ، وقد أرسل الرسل جميعا لتبليغ الناس ما يجب عليهم من إقامتهما وتأييدهما بصالح الأعمال ، والقرآن قد يصرح بهما تارة معا ، وبالأول منهما تارة أخرى أثناء ذكر الأحكام ، إذ هما العون الأكبر والباعث الأقوى على العمل بها ولا سيما أحكام القتال الذي يبذل المرء فيه نفسه ونفيسه للدفاع عن حرية الدين ونشر هدايته وتأمين دعاته وأهله.

والمعنى ـ الله لا إله إلا هو ، فلا تقصّروا فى عبادته والخضوع لأمره ونهيه ، فإن فى ذلك سعادتكم وارتقاء أرواحكم وعقولكم وتحريركم من رق العبودية لأمثالكم من البشر ، بل من دونهم من المعبودات التي ذل لها المشركون ، وهو سبحانه سيجمعكم ويحشركم إلى يوم القيامة ، وهو يوم لا ريب فيه ولا فيما يكون فيه من الجزاء على الأعمال.

(وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللهِ حَدِيثاً؟) أي لا أحد أصدق منه عز وجل ، إذ كلامه تعالى عن علم محيط بسائر الكائنات كما قال تعالى «لا يَضِلُّ رَبِّي وَلا يَنْسى» فلا يمكن أن يكون خبره غير صادق بسبب النقص فى العلم أو الغرض أو الحاجة ، لأنه تعالى غنىّ عن العالمين.

أما كلام غيره فهو محتمل للصدق والكذب عن عمد وعلم أو عن سهو وجهل ، وقد دل الدليل على أن القرآن كلام الله ، فلم يبق عذر لمن قام عليه الدليل إذا آثر على قوله أقوال المخلوقين كما هو دأب الضالين.

(فَما لَكُمْ فِي الْمُنافِقِينَ فِئَتَيْنِ وَاللهُ أَرْكَسَهُمْ بِما كَسَبُوا أَتُرِيدُونَ أَنْ تَهْدُوا مَنْ أَضَلَّ اللهُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلاً (٨٨)

١١٢

وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَما كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَواءً فَلا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ أَوْلِياءَ حَتَّى يُهاجِرُوا فِي سَبِيلِ اللهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَلا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً (٨٩) إِلاَّ الَّذِينَ يَصِلُونَ إِلى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثاقٌ أَوْ جاؤُكُمْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ أَنْ يُقاتِلُوكُمْ أَوْ يُقاتِلُوا قَوْمَهُمْ وَلَوْ شاءَ اللهُ لَسَلَّطَهُمْ عَلَيْكُمْ فَلَقاتَلُوكُمْ فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ فَلَمْ يُقاتِلُوكُمْ وَأَلْقَوْا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ فَما جَعَلَ اللهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلاً (٩٠) سَتَجِدُونَ آخَرِينَ يُرِيدُونَ أَنْ يَأْمَنُوكُمْ وَيَأْمَنُوا قَوْمَهُمْ كُلَّما رُدُّوا إِلَى الْفِتْنَةِ أُرْكِسُوا فِيها فَإِنْ لَمْ يَعْتَزِلُوكُمْ وَيُلْقُوا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ وَيَكُفُّوا أَيْدِيَهُمْ فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأُولئِكُمْ جَعَلْنا لَكُمْ عَلَيْهِمْ سُلْطاناً مُبِيناً (٩١))

تفسير المفردات

الفئة : الجماعة ، والركس بوزن النصر : إرجاع الشيء منكوسا على رأسه إن كان له رأس ، أو متحولا عن حال إلى أردأ منها كتحول الطعام والعلف إلى الرجيع والروث ؛ والمراد به هنا تحولهم إلى الغدر والقتال بعد أن أظهروا الولاء والتحيز إلى المسلمين ، والسبيل : الطريق ، والولي : النصير والمعين ، يصلون : أي يتصلون بهم ، الميثاق : العهد ، حصرت : ضاقت ، السلم : الاستسلام والانقياد ، الفتنة : الشرك ، ثقفتموهم : وجدتموهم ، السلطان المبين : الحجة الواضحة.

١١٣

المعنى الجملي

بعد أن ذكر سبحانه أحكام القتال وختمها ببيان أنه لا إله غيره يخشى ضره ، أو يرجى خيره فتترك هذه الأحكام لأجله ـ ذكر هنا أنه لا ينبغي التردد فى أمر المنافقين وتقسيمهم فئتين ، مع أن دلائل كفرهم ظاهرة جلية ، فيجب أن تقطعوا بكفرهم وتقاتلوهم حيثما وجدوا.

روى ابن جرير عن ابن عباس أنها نزلت فى قوم أظهروا الإسلام بمكة وكانوا يعينون المشركين على المسلمين ، فاختلف المسلمون فى شأنهم وتشاجروا فنزلت الآية.

الإيضاح

(فَما لَكُمْ فِي الْمُنافِقِينَ فِئَتَيْنِ) أي فما لكم صرتم فى المنافقين فئتين واختلفتم فى كفرهم مع تظاهر الأدلة عليه ، فليس لكم أن تختلفوا فى شأنهم ، بل عليكم أن تقطعوا بثبوته.

وهؤلاء فريق من المشركين كانوا يظهرون المودة للمسلمين والولاء لهم وهم كاذبون فيما يظهرون فضلهم ، مع أمثالهم من المشركين ، لكنهم يحتاطون ويظهرون الولاء للمسلمين إذا رأوا منهم القوة ، فإذا ما ظهر لهم منهم ضعف انقلبوا عليهم وأظهروا لهم العداوة.

وكان المؤمنون فى أمرهم فرقتين ، فرقة ترى أنهم يعدّون من الأولياء ويستعان بهم على سائر المشركين المجاهرين لهم بالعداوة ، وفرقة ترى أن يعاملوا كما يعامل غيرهم من المشركين المعلنين العداوة.

(وَاللهُ أَرْكَسَهُمْ بِما كَسَبُوا) أي كيف تفترقون فى شأنهم والله قد صرفهم عن الحق الذي أنتم عليه بما كسبوا من أعمال الشرك واجترحوا من المعاصي ، حتى إنهم لا ينظرون إليكم نظرة المودة والإخاء ، بل نظرة العداوة والبغضاء ، ويتربصون بكم الدوائر.

١١٤

وقد جعلهم الله مركسين كأنهم قد نكسوا على رءوسهم وصاروا يمشون على وجوههم كما قال تعالى «أَفَمَنْ يَمْشِي مُكِبًّا عَلى وَجْهِهِ أَهْدى أَمَّنْ يَمْشِي سَوِيًّا عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ؟» لأنهم قد فسدت فطرتهم وأحاطت بهم خطيئاتهم ، فأوغلوا فى الضلال ، وبعدوا عن الحق ، حتى لم يعد يجول فى أذهانهم إلا الثبات على ما هم فيه ومقاومة ما عداه.

وقد نسبه الله تعالى إليه لأنه ما كان سببا إلا بسنته فى تأثير الأعمال الاختيارية فى نفوس العالمين.

(أَتُرِيدُونَ أَنْ تَهْدُوا مَنْ أَضَلَّ اللهُ؟) أي إنه ليس فى استطاعتكم أن تبدلوا سنن الله فى نفوس الناس فتريدوا أن تحصلوا على مقاصد وغايات ضد ما انطبع فيها من الأخلاق والصفات ، بتأثير ما كسبته طوال عمرها من الأعمال.

(وَمَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلاً) أي ومن تقضى سننه فى خلقه أن يكون ضالا عن طريق الحق فلن تجد له سبيلا يصل بسلوكها إليه ، فإن للحق سبيلا واحدة هى صراط الفطرة المستقيم ، وللباطل سبلا كثيرة عن يمين سبيل الحق وعن شمالها ، كل من سلك منها سبيلا بعد عن سبيل الحق بقدر إيغاله فى السبيل التي سلكها كما قال تعالى «وَأَنَّ هذا صِراطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ» وقد أوضح النبي صلى الله عليه وسلم معنى الآية بالخطوط الحسية ، فخط فى الأرض خطا وجعله مثالا لسبيل الله ، وخط على جانبيه خطوطا لسبل الشيطان ، وهذه الخطوط المستقيمة لا تلتقى مع الخط الأول بحال.

وسبيل الفطرة تقتضى أن يعرض الإنسان جميع أعماله على سنن العقل ويتّبع ما يظهر له أنه الحق الذي فيه منفعته عاجلا وآجلا ، وفيه كماله الإنسانى.

وأكثر ما يصده عن هذه السبيل التقليد والغرور وظنه أنه ليس هناك ما هو أكمل مما هو فيه ، وبهذا يقطع على نفسه طريق العقل والنظر فى النفع والضر والحق والباطل.

وشبهته فى ترك صراط الفطرة أن عقله قاصر عن التمييز بين الحق والباطل والخير

١١٥

والشر ، فعليه أن يتبع ما وجد عليه الآباء والأجداد من زعماء عصره ولو كانوا لا يعقلون شيئا ولا يهتدون.

ثم ذكر سبحانه ما يجول فى صدور أولئك المنافقين من أمانىّ فقال :

(وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَما كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَواءً) أي إن هؤلاء لا يقنعون بما هم عليه من الضلال والغواية ، بل يطمعون أن تكونوا أمثالهم وتحذوا حذوهم حتى يقضى على الإسلام الذي أنتم عليه ، وهذا منتهى ما يكون من الغلوّ والتمادي فى الكفر ، حيث لا يكتفون بضلالهم بل يرجون إضلال غيرهم.

ثم حذر المؤمنين من غوائل نفاقهم فقال :

(فَلا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ أَوْلِياءَ حَتَّى يُهاجِرُوا فِي سَبِيلِ اللهِ) أي وإذا كانت هذه حالهم فلا تتخذوا منهم أنصارا يساعدونكم على المشركين حتى يؤمنوا ويهاجروا ويشاركوكم فى سائر شئونكم ، فإن الصادقين فى إيمانهم لا يدعون النبي صلى الله عليه وسلم ومن معه عرضة للخطر ، ولا يتركون الهجرة إلا إذا عجزوا عنها ، وإذا فتركهم لها علامة على نفاقهم الذي اختلفتم فيه.

(فَإِنْ تَوَلَّوْا فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَلا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً) أي فإن أعرضوا عن الهجرة فى سبيل الله ولزموا مواضعهم فى خارج المدينة فخذوهم إذا قدرتم عليهم واقتلوهم أينما وجدتموهم فى الحلّ أو فى الحرم ، ولا تتخذوا منهم وليا يتولى شيئا من مهامّ أموركم ولا نصيرا ينصركم على أعدائكم.

وقد استثنى منهم من تؤمن غائلتهم بأحد أمرين :

(١) (إِلَّا الَّذِينَ يَصِلُونَ إِلى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثاقٌ) أي إلا الذين يتصلون بقوم معاهدين للمسلمين فيدخلون فى عهدهم ويرضون بحكمهم فيمتنع قتالهم مثلهم.

(أَوْ جاؤُكُمْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ أَنْ يُقاتِلُوكُمْ أَوْ يُقاتِلُوا قَوْمَهُمْ) أي أو جاءوكم قد ضاقت صدورهم عن قتالكم وعن قتال قومهم فلا تنشرح لأحد الأمرين.

وخلاصة ذلك ـ أن يجيئوا المسلمين مسالمين لا يقاتلونهم ولا يقاتلون قومهم معهم

١١٦

بل يكونون على الحياد ، فهم لا يقاتلون المسلمين حفظا للعهد ولا يقاتلون قومهم ، لأنهم قومهم ، وقبول معذرة الفريقين موافق لما بنى عليه الإسلام من التسامح والسماحة وعدم الاعتداء كما قال «وَقاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ الَّذِينَ يُقاتِلُونَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا».

(وَلَوْ شاءَ اللهُ لَسَلَّطَهُمْ عَلَيْكُمْ فَلَقاتَلُوكُمْ) أي إن الله تعالى رحمكم بأن كف بأس هاتين الفئتين وصرفهم عن قتالكم وقذف الرعب فى قلوبهم ، ولو شاء لسلطهم عليكم بأن يلهمهم من الآراء ويسوق إليهم من الأخبار ما به يرجحون ذلك فيقاتلوكم ، ولكنه بتوفيقه ونظامه فى الأسباب والمسببات ، وسننه فى الأفراد والجماعات ، جعل الناس فى ذلك العصر أصنافا ثلاثة :

١) سليمو الفطرة الذين حصفت آراؤهم فسارعوا إلى الإيمان واستناروا بنور الإسلام.

٢) المسالمون الذين رجحوا أن يكونوا على الحياد لا مع المشركين ولا مع المؤمنين.

٣) الموغلون فى الضلال والشرك والمحافظون على القديم وهم المحاربون.

(فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ فَلَمْ يُقاتِلُوكُمْ وَأَلْقَوْا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ فَما جَعَلَ اللهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلاً) أي فإن اعتزلتكم إحدى هاتين الفئتين ولم تقاتلكم بل ألقت إليكم السلم وأعطتكم زمام أمرها ، فما جعل الله لكم من سبيل تسلكونها للاعتداء عليها ، إذ من قواعد ديننا ألا نعتدى إلا على من يعتدى علينا ولا نقاتل إلا من قاتلنا.

روى ابن أبى حاتم وابن مردويه عن الحسن أن سراقة بن مالك المدلجي حدثهم قال «لما ظهر رسول الله صلى الله عليه وسلم على أهل بدر وأحد وأسلم من حولهم قال سراقة بلغني أنه عليه الصلاة والسلام يريد أن يبعث خالد بن الوليد إلى قومى من بنى مدلج فأتيته فقلت أنشدك النعمة ، فقالوا مه ، فقال دعوه ، ما تريد؟ قلت بلغني أنك تريد أن تبعث إلى قومى وأنا أريد أن توادعهم ، فإن أسلم قومك أسلموا ، وإن لم يسلموا لم تخش بقلوب قومك عليهم ، فأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم بيد خالد فقال (اذهب معه فافعل ما يريد) فصالحهم خالد على ألا يعينوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وإن أسلمت قريش أسلموا معهم ، ومن وصل إليهم من الناس كان له مثل عهدهم ، فأنزل الله تعالى (وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ ـ حتى بلغ ـ إِلَّا الَّذِينَ يَصِلُونَ) فكان من وصل إليهم كانوا معهم على عهدهم».

١١٧

وقال الرازي : إن النبي صلى الله عليه وسلم وادع وقت خروجه إلى مكة هلال بن عويمر الأسلمى على ألا يعينه ولا يعين عليه ، وعلى أن كل من وصل إلى هلال ولجأ إليه فله من الجوار مثل ما لهلال.

ثم بين سبحانه حال جماعة آخرين وبالغ فى ذمهم فقال :

(سَتَجِدُونَ آخَرِينَ يُرِيدُونَ أَنْ يَأْمَنُوكُمْ وَيَأْمَنُوا قَوْمَهُمْ) هؤلاء فريق ممن لم يهتدوا بالإسلام ولم يتصدوا إلى مجالدة أهله وقتالهم فكانوا مذبذبين بين المؤمنين والكافرين ، فهم قد غلت عليهم أرواحهم ، ورخصت عليهم عقولهم ، يظهرون لكل من الفئتين أنهم منهم أو معهم ؛ وقد روى عن مجاهد أن ناسا كانوا يأتون النبي صلى الله عليه وسلم فيسلمون رياء ، ثم يرجعون إلى قريش فيرتكسون فى الأوثان ، يبتغون بذلك أن يأمنوا هاهنا وهاهنا فأمر بقتالهم إن لم يعتزلوا ويصلحوا.

(كُلَّما رُدُّوا إِلَى الْفِتْنَةِ أُرْكِسُوا فِيها) أي كلما دعوا إلى الشرك (كما روى عن السدى) أركسوا فيه وتحولوا إليه أقبح تحول ، فهم يريدون أن يأمنوا جانب المسلمين.

إما بإظهار الإسلام ، وإما بالعهد على السلم وترك القتال ثم يفتنهم المشركون أي : يحملونهم على الشرك أو على مساعدتهم على قتال المسلمين ، فيرتكسون ويتحولون شر التحول معهم ، وهكذا يفعلون ذلك المرة بعد المرة ، فهم قد مردوا على النفاق.

وقد بين الله حكمهم بقوله :

(فَإِنْ لَمْ يَعْتَزِلُوكُمْ وَيُلْقُوا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ وَيَكُفُّوا أَيْدِيَهُمْ فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ) أي فإن لم يعتزلوكم ويتركوكم وشأنكم ويلتزموا الحياد ويلقوا إليكم السلم : أي زمام المسالمة على الطريق التي ترونها نافعة لكم ، ويكفوا أيديهم عن القتال مع المشركين أو عن الدسائس ـ فخذوهم واقتلوهم حيث وجدتموهم فلا علاج لهم غير ذلك كما ثبت بالتجارب والاختبار.

(وَأُولئِكُمْ جَعَلْنا لَكُمْ عَلَيْهِمْ سُلْطاناً مُبِيناً) أي وأولئكم جعلنا لكم عليهم حجة واضحة ، وبرهانا ظاهرا على قتالهم.

١١٨

قال الرازي : قال الأكثرون وهذا يدل على أنهم إذا اعتزلوا قتالنا وطلبوا الصلح منا وكفوا أيديهم عن قتالنا لم يجز لنا قتالهم ولا قتلهم.

ونظيره قوله «وَقاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ الَّذِينَ يُقاتِلُونَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا» إذ خص فيها الأمر بقتال من يقاتلنا دون من لم يقاتلنا.

(وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِناً إِلاَّ خَطَأً وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِناً خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلى أَهْلِهِ إِلاَّ أَنْ يَصَّدَّقُوا فَإِنْ كانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَإِنْ كانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثاقٌ فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلى أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ شَهْرَيْنِ مُتَتابِعَيْنِ تَوْبَةً مِنَ اللهِ وَكانَ اللهُ عَلِيماً حَكِيماً (٩٢) وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً فَجَزاؤُهُ جَهَنَّمُ خالِداً فِيها وَغَضِبَ اللهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذاباً عَظِيماً (٩٣))

المعنى الجملي

بعد أن بين سبحانه أحكام قتال المنافقين الذين يظهرون الإسلام خداعا ويسرّون الكفر ويساعدون أهله على قتال المؤمنين ، والذين يعاهدون المسلمين على السلم ويحالفونهم على الولاء والنصر ، ثم يغدرون ويكونون عونا لأعدائهم عليهم ـ ذكر هنا قتل من لا يحل قتله من المؤمنين والمعاهدين والذميين وما يقع منهم من ذلك عمدا أو خطأ.

روى ابن جرير فى سبب نزول الآية عن عكرمة قال : كان الحارث بن يزيد من بنى عامر بن لؤى يعذب عيّاش بن أبى ربيعة مع أبى جهل. ثم خرج الحارث مهاجرا إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، فلقيه عياش بالحرّة من أرباض المدينة ، فعلاه بالسيف وهو يحسب أنه كافر ثم جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره فنزلت الآية فقرأها النبي صلى الله عليه وسلم ثم قال له قم فحرّر.

١١٩

الإيضاح

(وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِناً إِلَّا خَطَأً) أي ليس من شأن المؤمن ولا من خلقه أن يقتل أحدا من المؤمنين ، إذ الإيمان وهو صاحب السلطان على النفس والحاكم على الإرادة والمصرّف لها يمنعه أن يجترح هذه الكبيرة عمدا ، لكنه قد يفعل ذلك خطأ (والخطأ ما لا يقارنه قصد إلى الفعل أو الشخص أو لا يقصد به زهوق الروح غالبا).

ذلك أنه لا يكمل إيمان المؤمن إلا إذا شعر بحقوق الإيمان عليه وهى حقوق لله وحقوق للعباد ؛ ومن الثانية القصاص لما فى ذلك من الزجر عن القتل ، ولما فى تركه من الاستهزاء بحقوق الدماء ، ومن استهزأ بها كان قد انتهك أكبر حق من حقوق الأمة ، وهدّ ركنا من أركان الإيمان ، يرشد إلى ذلك قوله «مَنْ قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّما قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً».

وسبب العقوبة على الفعل الخطأ كالقتل أن الخطأ لا يخلو من التهاون وعدم العناية ومثله النسيان ، إذ من شأنهما أن يعاقب الله عليهما ، ومن ثم أمرنا الله تعالى أن ندعوه ألا يؤاخذنا عليهما بقوله «رَبَّنا لا تُؤاخِذْنا إِنْ نَسِينا أَوْ أَخْطَأْنا» كما ثبت بنص القرآن أن آدم نسى وسمى مخالفته معصية وعوقب عليها لكن

ورد فى السنة قوله صلى الله عليه وسلم «وضع الله عن هذه الأمة ثلاثا : الخطأ والنسيان والأمر يكرهون عليه» رواه ابن ماجه.

(وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِناً خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ) تحرير الرقبة عتقها من الرقّ : أي ومن قتل مؤمنا خطأ بأن أراد رمى صيد أو غرض فأصاب مؤمنا ، أو ضربه بما لا يقتل عادة كأن صفعه باليد أو ضربه بعصا فمات وهو لم يكن يقصد قتله ، فعليه عتق رقبة من أهل الإيمان ، لأنه لما أعدم نفسا مؤمنة كان كفارته أن يوجد نفسا (والعتق كالإيجاد من العدم).

(وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلى أَهْلِهِ) الدية : هى المال الواجب بالجناية على الحر فى النفس أو فيما دونها ويعطى إلى ورثة المقتول عوضا عن دمه : أي وعليه من الجزاء مع عتق الرقبة دية

١٢٠