تفسير المراغي - ج ٥

أحمد مصطفى المراغي

الإيضاح

(إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبائِرَ ما تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ) أي إن تتركوا جانبا كبائر ما ينهاكم الله عن ارتكابه من الذنوب والآثام نمح عنكم صغائرها فلا نؤاخذكم بها.

وقد اختلف فى عدد الكبائر فقيل هى سبع لما ورد فى الصحيحين عن أبى هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «اجتنبوا السبع الموبقات ، قالوا : وما هى يا رسول الله؟ قال : الشرك بالله ، وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق ، والسحر ، وأكل مال اليتيم ، وأكل الربا ، والتولّى يوم الزحف ، وقذف المحصنات المؤمنات الغافلات» وفى رواية لهما عن أبى بكرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «ألا أنبئكم بأكبر الكبائر؟ قلنا بلى يا رسول الله ، قال : الإشراك بالله ، وعقوق الوالدين ـ وكان متكئا فجلس وقال ـ ألا وقول الزور وشهادة الزور ، فما زال يكررها حتى قلنا ليته سكت».

وفيهما أيضا من حديث ابن عمر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «إن من أكبر الكبائر أن يلعن الرجل والديه ، قالوا وكيف يلعن الرجل والديه؟ قال يسب أبا الرجل فيسب أباه ، ويسب أمه فيسب أمه».

والأحاديث الصحيحة مختلفة فى عددها ، ومجموعها يزيد على سبع ، ومن ثم قال ابن عباس لما قال له رجل : الكبائر سبع : قال : هى إلى سبعين أقرب ، إذ لا صغيرة مع الإصرار ، ولا كبيرة مع الاستغفار ، ومراده أن كل ذنب يرتكب لعارض يعرض على النفس من استشاطة غضب أو ثورة شهوة ، وصاحبه متمكن من دينه ، يخاف الله ولا يستحل محارمه ، فهو من السيئات التي يكفرها الله تعالى ، إذ لولا ذلك العارض القاهر للنفس لم يكن ليجترحه تهاونا بالدين ، إذ هو بعد اجتراحه يندم ويتألم ويتوب ويرجع إلى الله تعالى ، ويعزم على عدم العودة إلى اقتراف مثله ، فهو إذ ذاك أهل لأن يتوب الله عليه ، ويكفر عنه.

٢١

وكل ذنب يرتكبه الإنسان مع التهاون بالأمر وعدم المبالاة بنظر الله إليه ، ورؤيته إياه حيث نهاه ، فهو مهما كان صغيرا فى صورته ، أو فى ضرره ، يعدّ كبيرا من حيث الإصرار والاستهتار ، فتطفيف الكيل والميزان ولو حبّة لمن اعتاده ، والهمز واللمز (عيب الناس والطعن فى أعراضهم) لمن تعوّده ـ كل ذلك كبيرة ولا شك.

وكان النبي صلى الله عليه وسلم يذكر فى كل مقام ما تمس إليه الحاجة ، ولم يرد الحصر والتحديد.

وقال بعض العلماء : الكبيرة كل ذنب رتّب عليه الشارع حدا أو صرح فيه بوعيد.

(وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلاً كَرِيماً) أي وندخلكم مكانا لكم فيه الكرامة عند ربكم وهى الجنات التي تجرى من تحتها الأنهار ، والعرب تقول : أرض كريمة ، وأرض مكرمة ، أي طيبة جيدة النبات ، قال تعالى : «فَأَخْرَجْناهُمْ مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ وَكُنُوزٍ وَمَقامٍ كَرِيمٍ».

(وَلا تَتَمَنَّوْا ما فَضَّلَ اللهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلى بَعْضٍ لِلرِّجالِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبُوا وَلِلنِّساءِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبْنَ وَسْئَلُوا اللهَ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّ اللهَ كانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً (٣٢))

تفسير المفردات

التمني : تشهى حصول الأمر المرغوب فيه ، وحديث النفس بما يكون وما لا يكون.

من فضله : أي إحسانه ونعمه المتكاثرة :

المعنى الجملي

بعد أن نهى سبحانه عن أكل أموال الناس بالباطل ، وعن القتل ، وتوعد فاعلهما بالويل والثبور ، وهما من أفعال الجوارح ، ليصير الظاهر طاهرا عن المعاصي الوخيمة

٢٢

العاقبة ـ نهى عن التمني ، وهو التعرض لها بالقلب حسدا ، لتطهر أعمالهم الباطنة ، فيكون الباطن موافقا للظاهر ، ولأن التمني قد يجرّ إلى الأكل ، والأكل قد يقود إلى القتل ، فإن من يرتع حول الحمى يوشك أن يقع فيه.

الإيضاح

(وَلا تَتَمَنَّوْا ما فَضَّلَ اللهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلى بَعْضٍ ، لِلرِّجالِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبُوا ، وَلِلنِّساءِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبْنَ) أي إن الله كلف كلا من الرجال والنساء أعمالا ، فما كان خاصا بالرجال لهم نصيب من أجره لا يشاركهم فيه النساء ، وما كان خاصا بالنساء لهن نصيب من أجره لا يشاركهن فيه الرجال ، وليس لأحدهما أن يتمنى ما هو مختص بالآخر وقد أراد الله أن يختص النساء بأعمال البيوت ، والرجال بالأعمال الشاقة التي فى خارجها ليتقن كل منهما عمله ، ويقوم بما يجب عليه مع الإخلاص.

وعلى كل منهما أن يسأل ربه الإعانة والقوّة على ما نيط به من عمل ، ولا يجوز أن يتمنى ما نيط بالآخر ، ويدخل فى هذا النهى تمنى كل ما هو من الأمور الخلقية كالعقل والجمال ، إذ لا فائدة فى تمنيها لمن لم يعطها ، ولا يدخل فيه ما يقع تحت قدرة الإنسان من الأمور الكسبية ، إذ يحمد من الناس أن ينظر بعضهم إلى ما نال الآخرون ويتمنّوا لأنفسهم مثله أو خيرا منه بالسعي والجدّ.

والخلاصة ـ إنه تعالى طلب إلينا أن نوجه الأنظار إلى ما يقع تحت كسبنا ، ولا نوجهها إلى ما ليس فى استطاعتنا ، فإنما الفضل بالأعمال الكسبية ، فلا تتمنوا شيئا بغير كسبكم وعملكم ، قاله الأستاذ الإمام محمد عبده بتصرّف.

فعلى المسلم أن يعتمد على مواهبه وقواه فى كل مطالبه ، بالجد والاجتهاد مع رجاء فضل الله فيما لا يصل إليه كسبه ، إما للجهل به ، وإما للعجز عنه ، فالزارع يجتهد فى زراعته

٢٣

ويتبع السنن والأسباب التي سنها الله لعمله ، ويسأل الله أن يمنع الآفات والجوائح عنه ، ويرفع أثمان غلاته إلى نحو أولئك مما هو بيد الله.

روى عكرمة أن النساء سألن الجهاد فقلن : وددنا أن الله جعل لنا الغزو ، فنصيب من الأجر ما يصيب الرجال فنزلت.

(وَسْئَلُوا اللهَ مِنْ فَضْلِهِ) أي لا تتمنوا نصيب غيركم ، ولا تحسدوا من فضّل عليكم واسألوا الله من إحسانه وإنعامه ، فإن خزائنه مملوءة لا تنفد ، روى أنه صلى الله عليه وسلم قال : «سلوا الله من فضله ، فالله يحب أن يسأل ، وإن من أفضل العبادة انتظار الفرج».

(إِنَّ اللهَ كانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً) وبذا فضّل بعض الناس على بعض بحسب مراتب استعدادهم ، وتفاوت اجتهادهم فى معترك الحياة ، ولا يزال العاملون يستزيدونه ولا يزال ينزل عليهم من جوده وكرمه ما يفضلون به القاعدين الكسالى حتى بلغ التفاوت بين الناس فى الفضل حدا بعيدا ، وكاد التفاوت بين الشعوب يكون أبعد من التفاوت بين بعض الحيوان وبعض الإنسان.

(وَلِكُلٍّ جَعَلْنا مَوالِيَ مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ إِنَّ اللهَ كانَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيداً (٣٣))

تفسير المفردات

الموالي : من يحق لهم الاستيلاء على التركة ، مما ترك أي وارثين مما ترك ، والذين عقدت أيمانكم هم الأزواج ، فإن كلا من الزوجين له حق الإرث بالعقد ، والمتعارف عند الناس فى العقد أن يكون بالمصافحة باليدين ، قاله أبو مسلم الأصفهانى.

٢٤

المعنى الجملي

بعد أن نهى سبحانه عن أكل أموال الناس بالباطل ، وعن تمنّى أحد ما فضل الله به غيرة عليه من المال ، حتى لا يسوقه التمني إلى التعدي ، وهو وإن كان نهيا عاما فالسياق يعين المراد منه ، وهو المال ، لأن أكثر التمني يتعلق به ، ثم ذكر القاعدة العامة فى حيازة الثروة وهى الكسب ـ انتقل إلى نوع آخر تأتى به الحيازة ، وهو الإرث.

الإيضاح

(وَلِكُلٍّ جَعَلْنا مَوالِيَ مِمَّا تَرَكَ) أي إن لكل من الرجال الذين لهم نصيب مما اكتسبوا ، ومن النساء اللواتى لهن نصيب مما اكتسبن ، موالى لهم حق الولاية على ما يتركون من كسبهم.

ثم بين هؤلاء الموالي فقال :

(الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمانُكُمْ) أي إن هؤلاء الموالي هم جميع الورثة من الأصول والفروع والحواشي والأزواج.

(فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ) أي فأعطوا هؤلاء الموالي نصيبهم المقدّر لهم ولا تنقصوهم منه شيئا.

(إِنَّ اللهَ كانَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيداً))» أي إن الله رقيب شاهد على تصرفاتكم فى التركة وغيرها ، فلا يطمعنّ من بيده المال أن يأكل من نصيب أحد الورثة شيئا ، سواء أكان ذكرا أم أنثى ، كبيرا أم صغيرا.

وجاءت هذه الآية لمنع طمع بعض الوارثين فى بعض.

(الرِّجالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّساءِ بِما فَضَّلَ اللهُ بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ وَبِما أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوالِهِمْ فَالصَّالِحاتُ قانِتاتٌ حافِظاتٌ لِلْغَيْبِ بِما حَفِظَ

٢٥

اللهُ وَاللاَّتِي تَخافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلاً إِنَّ اللهَ كانَ عَلِيًّا كَبِيراً (٣٤) وَإِنْ خِفْتُمْ شِقاقَ بَيْنِهِما فَابْعَثُوا حَكَماً مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَماً مِنْ أَهْلِها إِنْ يُرِيدا إِصْلاحاً يُوَفِّقِ اللهُ بَيْنَهُما إِنَّ اللهَ كانَ عَلِيماً خَبِيراً (٣٥))

تفسير المفردات

يقال هذا قيّم المرأة وقوّامها إذا كان يقوم بأمرها ويهتم بحفظها ، وما به الفضل قسمان : فطرىّ وهو قوة مزاج الرجل وكماله فى الخلقة ، ويتبع ذلك قوة العقل وصحة النظر فى مبادئ الأمور وغاياتها ، وكسبىّ وهو قدرته على الكسب والتصرف فى الأمور ، ومن ثم كلف الرجال بالإنفاق على النساء والقيام برياسة المنزل ، والقنوت : السكون والطاعة لله وللأزواج ، والحافظات للغيب : أي اللاتي يحفظن ما يغيب عن الناس ، ولا يقال إلا فى الخلوة بالمرأة ، وتخافون : أي تظنون ، ونشزت الأرض : ارتفعت عما حواليها ، ويراد بها هنا معصية الزوج والترفع عليه ، والبغي : الظلم وتجاوز الحد ، والشقاق : الخلاف الذي يجعل كلّا من المختلفين فى شقّ : أي جانب ، وخوفه توقع حصوله بظهور أسبابه ، والحكم من له حق الحكم والفصل بين الخصمين ، وبعث الحكمين : إرسالهما إلى الزوجين لينظرا فى شكوى كل منهما ويتعرفا ما يرجى أن يصلح بينهما :

المعنى الجملي

لما نهى سبحانه كلّا من الرجال والنساء عن تمنى ما فضل الله به بعضهم على بعض ، وأرشدهم إلى الاعتماد فى أمر الرزق على كسبهم وأمرهم أن يؤتوا الوارثين

٢٦

أنصبتهم ، وفى هذه الأنصبة يستبين تفضيل الرجال على النساء ـ ذكر هنا أسباب التفضيل.

الإيضاح

(الرِّجالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّساءِ بِما فَضَّلَ اللهُ بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ وَبِما أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوالِهِمْ) أي إن من شأن الرجال أن يقوموا على النساء بالحماية والرعاية ، وتبع هذا فرض الجهاد عليهم دونهنّ ، لأن ذلك من أخص شئون الحماية ، والرعاية ، وتبع هذا فرض الجهاد عليهم دونهنّ ، لأن ذلك من أخص شئون الحماية ، وجعل حظهم من الميراث أكثر من حظهن ، لأن عليهم من النفقة ما ليس عليهن.

وسبب هذا أن الله فضّل الرجال على النساء فى الخلقة ، وأعطاهم ما لم يعطهن من الحول والقوة ، كما فضلهم بالقدرة على الإنفاق على النساء من أموالهم ، فإن فى المهور تعويضا للنساء ومكافأة لهن على الدخول تحت رياسة الرجال وقبول القيامة عليهن ، نظير عوض مالىّ يأخذونه كما قال تعالى : «وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ».

والمراد بالقيام الرياسة التي يتصرف فيها المرءوس بإرادة الرئيس واختياره ، إذ لا معنى للقيام إلا الإرشاد والمراقبة فى تنفيذ ما يرشد إليه ، وملاحظة أعماله ، ومن ذلك حفظ المنزل وعدم مفارقته إلا بإذنه ولو لزيارة القربى ، وتقدير النفقة فيه ، فهو الذي يقدرها بحسب ميسرته ، والمرأة هى التي تنفذ على الوجه الذي يرضيه ، ويناسب حاله سعة وضيقا.

ولقيام الرجل بحماية المرأة وكفايتها مختلف شئونها ، يمكنها أن تقوم بوظيفتها الفطرية ، وهى الحمل والولادة وتربية الأطفال ، وهى آمنة فى سربها ، مكفيّة ما يهمها من أمور أرزاقها.

ثم فصل حال النساء فى الحياة المنزلية التي تكون المرأة فيها تحت رياسة الرجل فذكر أنها قسمان ، وأشار إلى معاملتها فى كل حال منهما فقال :

٢٧

(فَالصَّالِحاتُ قانِتاتٌ حافِظاتٌ لِلْغَيْبِ بِما حَفِظَ اللهُ) أي فالنساء الصالحات مطيعات للأزواج حافظات لما يجرى بينهن وبينهم فى الخلوة من الرفث والشئون الخاصة بالزوجية ، لا يطلعن أحدا عليها ولو قريبا ، وبالأولى يحفظن العرض من يد تلمس ، أو عين تبصر ، أو أذن تسمع.

وقوله : بما حفظ الله ، أي بسبب أمر الله بحفظه ، فهن يطعنه ويعصين الهوى.

وفى الآية أكبر عظة وزجر لمن تتفكه من النساء بإفشاء الأسرار الزوجية ولا تحفظ الغيب فيها.

وكذلك عليهن أن يحفظن أموال الرجال وما يتصل بها من الضياع ، روى ابن جرير والبيهقي عن أبى هريرة قال «خير النساء التي إذا نظرت إليها سرّتك ، وإذا أمرتها أطاعتك ، وإذا غبت عنها حفظتك فى مالك ونفسها ، وقرأ الآية» وهذا القسم من النساء ليس للرجال عليهن سلطان التأديب ، إذ لا يوجد ما يدعو إليه وإنما سلطانهم على القسم الثاني الذي ذكره الله وذكر حكمه بقوله :

(وَاللَّاتِي تَخافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ) أي واللاتي تأنسون منهن الترفع وتخافون ألا يقمن بحقوق الزوجية على الوجه الذي ترضونه فعليكم أن تعاملوهن على النهج الآتي :

(١) أن تبدءوا بالوعظ الذي ترون أنه يؤثر فى نفوسهن ، فمن النساء من يكفيها التذكير بعقاب الله وغضبه ، ومنهن من يؤثر فى أنفسهن التهديد والتحذير من سوء العاقبة فى الدنيا كشماتة الأعداء ، ومنعها بعض رغباتها كالثياب والحلي ونحو ذلك ، وعلى الجملة فاللبيب لا تخفى عليه العظات التي لها المحل الأرفع فى قلب امرأته.

فإن لم يجد ذلك فله أن يجرّب :

(٢) الهجر والإعراض فى المضجع ، ويتحقق ذلك بهجرها فى الفراش مع الإعراض والصدّ (وقد جرت العادة بأن الاجتماع فى المضجع يهيج شعور الزوجية ،

٢٨

فتسكن نفس كل من الزوجين إلى الآخر ، ويزول ما كان فى نفوسهما من اضطراب أثارته الحوادث قبل ذلك).

فإذا هو فعل ذلك دعاها هذا إلى السؤال عن أسباب الهجر والهبوط بها من نشز المخالفة إلى مستوى الموافقة ، فإن لم يفد ذلك فله أن يجرب :

(٣) الضرب غير المبرّح : أي غير المؤذى إيذاء شديدا كالضرب باليد أو بعصا صغيرة.

وقد روى عن مقاتل فى سبب نزول الآية أن سعد بن الربيع ـ وكان من النقباء ـ نشزت عليه امرأته حبيبة بنت زيد بن أبى زهير ، فلطمها فانطلق أبوها معها إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : أفرشته كريمتى فلطمها ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم «لتقتصّ من زوجها ، فانصرفت مع أبيها لتقتص منه ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : ارجعوا هذا جبرائيل أتانى وأنزل الله هذه الآية فتلاها صلى الله عليه وسلم وقال : أردنا أمرا وأراد الله أمرا ، والذي أراده الله خير».

وقد يستعظم بعض من قلد الإفرنج من المسلمين مشروعية ضرب المرأة الناشز ، ولا يستعظمون أن تنشز وتترفع هى عليه ، فتجعله وهو الرئيس مرءوسا محتقرا وتصرّ على نشوزها ، فلا تلين لوعظه ونصحه ، ولا تبالي بإعراضه وهجره ، فإن كان قد ثقل ذلك عليهم فليعلموا أن الإفرنج أنفسهم يضربون نساءهم العالمات المهذبات ، بل فعل هذا حكماؤهم وعلماؤهم وماوكهم وأمراؤهم ، فهو ضرورة لا يستغنى عنها ولا سيما فى دين عام للبدو والحضر من جميع أصناف البشر ، وكيف يستنكر هذا والعقل والفطرة يدعوان إليه إذا فسدت البيئة ، وغلبت الأخلاق الفاسدة ، ولم ير الرجل مناصا منه ولا ترجع المرأة عن نشوزها إلا به.

لكن إذا صلحت البيئة وصارت النساء يستجبن للنصيحة ، أو يزدجرن بالهجر وجب الاستغناء عنه ، إذ نحن مأمورون بالرفق بالنساء واجتناب ظلمهن ، وإمساكهن بمعروف أو تسريحهن بمعروف.

والأخبار التي وردت فى الوصية بالنساء كثيرة ، فمن ذلك ما رواه البخاري ومسلم

٢٩

عن عبد الله بن زمعة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «أيضرب أحدكم امرأته كما يضرب العبد ثم يضاجعها فى آخر اليوم» يعنى أنه إذا لم يكن بدّ للرجل من هذا الاتصال الخاص بامرأته ، وهو أقوى وأحكم اجتماع يكون بين اثنين من البشر وقد قضت به الفطرة ، فكيف يليق به بعدئذ أن يجعل امرأته ، وهى كنفسه مهينة كمهانة عبده يضربها بسوطه أو بيده ، فالرجل الكريم يأبى عليه طبعه مثل هذا الجفاء.

والخلاصة ـ إن الضرب علاج مرّ قد يستغنى عنه الخيّر الكريم ، ولكنه لا يزول من البيوت إلا إذا عم التهذيب الرجال والنساء ، وعرف كلّ ماله من الحقوق وكان للدين سلطان على النفوس يجعلها تراقب الله فى السر والعلن وتخشى أمره ونهيه.

ثم رغب فى حسن المعاملة الزوجية فقال :

(فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلاً) أي فإن أطعنكم بواحدة من هذه الخصال التأديبية فلا تبغوا ولا تتجاوزوا ذلك إلى غيرها ، فابدءوا بما بدأ الله من الوعظ ، فإن لم يجد فبالهجر ، فإن لم يفد فبالضرب ، فإذا لم يغن فليلجأ إلى التحكيم ، ومتى استقام لكم الظاهر فلا تبحثوا عما فى السرائر.

ثم هدّد وتوعد من يظلم النساء ويبغى عليهن فقال :

(إِنَّ اللهَ كانَ عَلِيًّا كَبِيراً) يذكّر سبحانه عباده بقدرته وكبريائه عليهم ، ليتعظوا ويخشوه فى معاملتهن ، فكأنه يقول لهم : إن سلطانه عليكم فوق سلطانكم على نسائكم ، فإذا بغيتم عليهن عاقبكم ، وإن تجاوزتم عن هفواتهن كرما تجاوز عنكم وكفر عنكم سيئاتكم :

وليس بخاف أن الرجال الذين يستذلّون نساءهم إنما يلدون عبيدا لغيرهم ، إذ هم يتربون على الظلم ويستسيغونه ، ولا يكون فى نفوسهم شىء من الكرامة ولا من الشمم والإباء ، وأمة تخرج أبناء كهؤلاء إنما تربى عبيدا أذلاء لا يقومون بنصرتها ، ولا يغارون لكرامتها ، فما أحراهم بأن يكونوا قطعانا من الغنم تزدجر من كل راع وتستجيب لكل ناعق!.

٣٠

ثم بين الطريق السوىّ الذي يتبع عند حدوث النزاع وخوف الشقاق فقال :

(وَإِنْ خِفْتُمْ شِقاقَ بَيْنِهِما فَابْعَثُوا حَكَماً مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَماً مِنْ أَهْلِها إِنْ يُرِيدا إِصْلاحاً يُوَفِّقِ اللهُ بَيْنَهُما) هذا الخطاب عام يدخل فيه الزوجان وأقاربهما ، فإن قاموا بذلك فذاك ، وإلا وجب على من بلغه أمرهما من المسلمين أن يسعى فى إصلاح ذات بينهما ، والخلاف بينهما قد يكون بنشوز المرأة ، وقد يكون بظلم الرجل ، فإن كان بالأول فعلى الرجل أن يعالجه بأقرب أنواع التأديب التي ذكرت فى الآية التي سلفت ، وإن كان بالثاني وخيف من تمادى الرجل فى ظلمه أو عجز عن إنزالها عن نشوزها وخيف أن يحول الشقاق بينهما دون إقامتها لأركان الزوجية الثلاث : من السكون والمودة والرحمة ، وجب على الزوجين وذوى القربى أن يبعثوا الحكمين ، وعليهم أن يوجهوا إرادتهم إلى إصلاح ذات البين ، ومتى صدقت الإرادة وصحت العزيمة فالله كفيل بالتوفيق. بفضله وجوده.

وبهذا تعلم شدة عناية الله بأحكام نظام الاسر والبيوت ، وكيف لم يذكر مقابل التوفيق وهو التفريق ، لأنه يبغضه ولأنه يود أن يشعر المسلمين بأنه لا ينبغى أن يقع.

ولكن وأسفا لم يعمل المسلمون بهذه الوصية الجليلة إلا قليلا حتى دبّ الفساد فى البيوت ، ونخر فيها سوس العداوة والبغضاء ، ففتك بالأخلاق والآداب ، وسرى من الوالدين إلى الأولاد.

ثم ذكر أن ما شرع من الأحكام جاء وفق الحكمة والمصلحة لأنه من حكيم خبير بأحوال عباده فقال :

(إِنَّ اللهَ كانَ عَلِيماً خَبِيراً) أي إن هذه الأحكام التي شرعت لكم كانت من لدن عليم بأحوال العباد وأخلاقهم ، خبير بما يقع بينهم وبأسبابه ما ظهر منها وما بطن ، ولا يخفى عليه شىء من وسائل الإصلاح بينهما.

وفى الآية إرشاد إلى أن ما يقع بين الزوجين من خلاف وإن ظنّ أنه مستعص

٣١

يتعذر علاجه فقد يكون فى الواقع على غير ذلك من أسباب عارضة يسهل على الحكمين الخبيرين بدخائل الزوجين لقربهما منهما أن يمحّصا ما علق من أسبابه بقلوبهما ، فيزيلاها متى حسنت النية وصحت العزيمة ، ولتعلم أيها المؤمن أن رابطة الزوجية أقوى الروابط التي تربط بين اثنين من البشر ، فبها يشعر كل من الزوجين بشركة مادّية ومعنوية ، بها يؤاخذ كل منهما شريكه على أدق الأمور وأصغرها ، فيحاسبه على فلتات اللسان ، وبالظّنّة والوهم ، وخفايا خلجات القلب ، فيغريهما ذلك بالتنازع فى كل ما يقصر فيه أحدهما من الأمور المشتركة بينهما ، وما أكثرها وأعسر التوقي منها! وكثيرا ما يفضى التنازع إلى التقاطع ، والعتاب إلى الكره والبغضاء ، فعليك أن تكون حكيما فى معاملة الزوجة ، خبيرا بطباعها ، وبذا تحسن العشرة بينكما.

وقد صرح علماء الاجتماع بأن السعادة الزوجية قلما تمتع بها زوجان ، وإن كانت أمنية كل الأزواج ، ومن ثم اكتفوا بالمودة العملية ، واجتهدوا فى تربية رجالهم ونسائهم على الاحترام المتبادل جهد المستطاع.

(وَاعْبُدُوا اللهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً وَبِذِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَالْجارِ ذِي الْقُرْبى وَالْجارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ مَنْ كانَ مُخْتالاً فَخُوراً (٣٦) الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ وَيَكْتُمُونَ ما آتاهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ وَأَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ عَذاباً مُهِيناً (٣٧) وَالَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ رِئاءَ النَّاسِ وَلا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَنْ يَكُنِ الشَّيْطانُ لَهُ قَرِيناً فَساءَ قَرِيناً (٣٨) وَما ذا عَلَيْهِمْ لَوْ آمَنُوا بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقَهُمُ اللهُ وَكانَ اللهُ بِهِمْ عَلِيماً (٣٩))

٣٢

تفسير المفردات

عبادة الله : الخضوع له والاستشعار بتعظيمه فى السر والعلن بالقلب والجوارح ، والإخلاص له بالاعتراف بوحدانيته إذ لا يقبل عملا بدونها ، والإحسان إلى الوالدين : قصد البر بهما بالقيام بخدمتهما ، والسعى فى تحصيل مطالبهما ، والإنفاق عليهما بقدر الاستطاعة ، وعدم الخشونة فى الكلام معهما ، وذى القربى : صاحب القرابة من أخ وعمّ وخال وأولاد هؤلاء ، والجار ذى القربى هو الجار القريب الجوار ، والجار الجنب : هو البعيد القرابة ، والصاحب بالجنب : الرفيق فى السفر أو المنقطع إليك الراجي نفعك ورفدك ، وابن السبيل هو المسافر أو الضيف ، ما ملكت أيمانكم : عبيدكم وإماؤكم ، والمختال : ذو الخيلاء والكبر ، والفخور : الذي يعدد محاسنه تعاظما وتكبرا ، أعتدنا : هيأنا وأعددنا ، والمهين : ذو الإهانة والذلة ، ورئاء الناس : أي للمراءاة والفخر بما فعل ، والقرين : الصاحب والخليل ، وماذا عليهم : أي أىّ ضرر يحيق بهم لو آمنوا وأنفقوا؟

المعنى الجملي

كان الكلام من أول السورة فى وصايا ونصائح ، كابتلاء اليتامى قبل تسليمهم أموالهم ، والنهى عن إيتاء الأموال للسفهاء ، وعن قتل النفس ، والإرشاد إلى كيفية معاملة النساء ، وطرق تأديبهن تارة بالموعظة الحسنة وأخرى بالقسوة والشدة مع مراقبة الله عز وجل فى كل ذلك.

فناسب بعدئذ التذكير بحسن معاملة الخالق بالإخلاص له فى الطاعة ، وحسن معاملة الطوائف المختلفة من الناس ، وعدم الضن عليهم بالمال فى أوقات الشدة ، مع قصد التقرب إلى الله لا لقصد الفخر والخيلاء ، لأن ذاك عمل من لا يرجو ثواب الله ، ولا يخشى عقابه.

الإيضاح

(وَاعْبُدُوا اللهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً) عبادة الله هى الخضوع له وتمكين هيبته وعظمته من النفس ، والخشوع لسلطانه فى السر والجهر ، وأمارة ذلك العمل بما به أمر ، وترك ما عنه نهى ، وبذا تصلح جميع الأعمال من أقوال وأفعال.

٣٣

والعبادة هى الخضوع لسلطة غيبية وراء الأسباب المعروفة يرجى خيرها ويخشى شرها ، وهذه السلطة لا تكون لغير الله ، فلا يرجى غيره ولا يخشى سواه ، فمن اعتقد أن غيره يشركه فيها كان مشركا ، وإذا نهى الله عن إشراك غيره معه ، فلأن ينهى عن إنكار وجوده وجحد ألوهيته أولى.

والإشراك ضروب مختلفة :

منها ما ذكره سبحانه عن مشركى العرب من عبادة الأصنام باتخاذهم أولياء وشفعاء عند الله يقربون المتوسل بهم إليه ويقضون الحاجات عنده ، وقد جاء ذكر هذا فى آيات كثيرة كقوله : «وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ ما لا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هؤُلاءِ شُفَعاؤُنا عِنْدَ اللهِ قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللهَ بِما لا يَعْلَمُ فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ».

ومنها ما ذكره عن النصارى من أنهم عبدوا المسيح عليه السلام ، قال تعالى : «اتَّخَذُوا أَحْبارَهُمْ وَرُهْبانَهُمْ أَرْباباً مِنْ دُونِ اللهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَما أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلهاً واحِداً لا إِلهَ إِلَّا هُوَ سُبْحانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ».

وأقوى أنواعه ما سماه الله دعاء واستشفاعا ، وهو التوسل بغيره له وتوسيطه بينه وبين الله ، ولا ينفع مع هذا صلاة ولا صوم ولا أي عبادة أخرى ، وقد فشا هذا النوع بين المسلمين فتراهم يستشفعون ويقولون (يا شيخ العرب ـ يا سيد يا بدوي ، يا سيدى إبراهيم الدسوقى) إلى غير ذلك.

ويعتذر بعض الناس لمثل هؤلاء ، وغاية ما تصل إليه المعذرة أن يحولوهم من شرك جلىّ واضح إلى شرك أقل منه وضوحا ، ولكنه شرك على كل حال.

وبعد أن أمر الله بعبادته وحده لا شريك له أعقبه بالوصية بالوالدين فقال :

(وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً) أي أحسنوا بهما ولا تقصّروا فى شىء مما يطلبانه ، لأنهما السبب الظاهر فى وجودكم وتربيتكم بالرحمة والإخلاص ، وقد فصّلت هذه الوصية فى سورة الإسراء بقوله تعالى : «(وَقَضى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوالِدَيْنِ

٣٤

إِحْساناً إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُما أَوْ كِلاهُما فَلا تَقُلْ لَهُما أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُما وَقُلْ لَهُما قَوْلاً كَرِيماً ، وَاخْفِضْ لَهُما جَناحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُما كَما رَبَّيانِي صَغِيراً ، رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِما فِي نُفُوسِكُمْ إِنْ تَكُونُوا صالِحِينَ فَإِنَّهُ كانَ لِلْأَوَّابِينَ غَفُوراً)».

والخلاصة ـ إن العبرة بما فى نفس الولد من قصد البر والإحسان والإخلاص فيه ، بشرط ألا يحدّ الوالدان من حرية الولد واستقلاله فى شئونه الشخصية أو المنزلية ولا فى الأعمال الخاصة بدينه ووطنه ، فإذا أراد أحدهما الاستبداد فى شىء من ذلك ، فليس من البر العمل برأيهما اتباعا لهواهما.

(وَبِذِي الْقُرْبى) أي وأحسنوا معاملة أقرب الناس إليكم بعد الوالدين ، وإذا أدى المرء حقوق الله فصحت عقيدته وصلحت أعماله ، وقام بحقوق الوالدين ، صلح البيت وحسن حال الأسرة ، وإذا صلح البيت كان قوة كبيرة ، فإذا عاون أهله ذوى القربى الذين ينسبون إليهم كان لكل منهم قوة أخرى تتعاون مع هذه الأسرة ، وبذا تتعاون الأمة جمعاء ، وتمدّ يد المعونة لمن هو فى حاجة إليها ممن ذكروا بعد فى قوله :

(وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ) لأن اليتيم قد فقد الناصر والمعين وهو الأب ، وقلّما تستطيع الأم مهما اتسعت معارفها أن تقوم بتربيته تربية كاملة ، فعلى القادرين أن يعاونوا فى تربيته ، وإلا كان وجوده جناية على الأمة لجهله وفساد أخلاقه وكان خطرا على من يعاشرهم من لداته وجرثومة فساد بينهم.

وكذلك المساكين لا ينتظم حال المجتمع إلا بالعناية بهم وصلاح حالهم ، وإلا كانوا وبالا عليه.

وهم ضربان : مسكين معذور تجب مواساته ، وهو من كان سبب عدمه الضعف والعجز أو نزول آفات سماوية ذهبت بماله ، ومثل هذا يجب عونه بمساعدته بالمال الذي يسدّ عوزه ويستعين به على الكسب.

٣٥

ومسكين غير معذور فى تقصيره ، وهو من عدم المال بإسرافه وتبذيره ، ومثل هذا يبذل له النصح ويدل على طرق الكسب ، فإن اتعظ وقبل النصح فبها ، وإلا ترك أمره إلى أولى الأمر فهم أولى بتقويم معوجّه ، وإصلاح ما فسد من أخلاقه.

(وَالْجارِ ذِي الْقُرْبى وَالْجارِ الْجُنُبِ) الجوار ضرب من ضروب القرابة فهو قرب بالمكان والسكن ، وقد يأنس الإنسان بجاره القريب أكثر مما يأنس بالنسيب ، فيحسن أن يتعاون الجاران ، ويكون بينهما الرحمة والإحسان ، فإذا لم يحسن أحدهما إلى الآخر فلا خير فيهما لسائر الناس ، وقد حث الدين على الإحسان فى معاملة الجار ولو غير مسلم فقد عاد النبي صلى الله عليه وسلم ابن جاره اليهودي ، وذبح ابن عمر شاة فجعل يقول لغلامه : أهديت لجارنا اليهودي ، أهديت لجارنا اليهودي ، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول «ما زال جبريل يوصينى بالجار حتى ظننت أنه سيورّثه» وروى الشيخان أنه صلى الله عليه وسلم قال «من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليحسن إلى جاره».

وحدد الحسن البصري الجوار بأربعين جارا من كل جانب من الجوانب الأربعة ، والأولى عدم التحديد بالدور وجعل الجار من تجاوره ويتراءى وجهك ووجهه فى غدوك أو رواحك إلى دارك.

وإكرام الجار من شيم العرب قبل الإسلام وزاده الإسلام توكيدا بما جاء فى الكتاب والسنة ، ومن إكرامه إرسال الهدايا إليه ، ودعوته إلى الطعام ، وتعاهده بالزيارة والعيادة إلى نحو ذلك.

(وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ) روى عن ابن عباس أنه الرفيق فى السفر والمنقطع إليك يرجو نفعك ورفدك ، وقيل من صاحبته وعرفته ولو وقتا قصيرا ، فيشمل صاحب الحاجة الذي يمشى بجانبك ، يستشيرك أو يستعين بك.

(وَابْنِ السَّبِيلِ) هو السائح الرّحالة فى غرض صحيح غير محرم ، والأمر بالإحسان إليه يتضمن الترغيب فى السياحة والإعانة عليها ، ويشمل اللقيط أيضا وهو أجدر بالعناية من

٣٦

اليتيم وأحق بالإحسان إليه ، وقد عنى الأوروبيون بجمع اللقطاء وتربيتهم وتعليمهم ، ولو لا ذلك لاستطار شرهم ، وعمّ ضرّهم ، وقد كنا أحق بهذا الإحسان منهم ، لأن الله قد جعل فى أموالنا حقا معلوما للسائل والمحروم.

(وَما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ) أي وأحسنوا إلى ما ملكت أيمانكم من عبيدكم وإمائكم ويشمل هذا تحريرهم وعتقهم وهو أتم الإحسان وأكمله ، ومساعدتهم على شراء أنفسهم دفعة واحدة أو نجوما وأقساطا ، وحسن معاملتهم فى الخدمة بألا يكلفوا ما لا يطيقون ولا يؤذون بقول ولا بفعل ، وقد روى الشيخان قوله صلى الله عليه وسلم «هم إخوانكم وخولكم ، جعلهم الله تحت أيديكم ، فمن كان أخوه تحت يده فليطعمه مما يأكل وليلبسه مما يلبس ، ولا تكلفوهم من العمل ما يغلبهم ، فإن كلفتموهم فأعينوهم عليه».

وقد أكد النبي صلى الله عليه وسلم الوصية بهم فى مرض موته ، وكان ذلك من آخر وصاياه ، فقد روى أحمد والبيهقي من حديث أنس قال : كانت عامة وصية رسول الله صلى الله عليه وسلم حين حضره الموت «الصلاة وما ملكت أيمانكم».

وقد أوصانا سبحانه بهؤلاء حتى لا يظن أن استرقاقهم يجيز امتهانهم ويجعلهم كالحيوانات المسخرة.

ثم ذكر ما هو علة للأمر السابق فقال :

(إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ مَنْ كانَ مُخْتالاً فَخُوراً) المختال : المتكبر الذي تظهر آثار الكبر فى حركاته وأعماله ، والفخور : المتكبر الذي تظهر آثار الكبر فى أقواله ، فتجده يذكر ما يرى أنه ممتاز به عن الناس زهوا بنفسه ، واحتقارا لغيره.

والمختال الفخور مبغوض عند الله ، لأنه احتقر جميع الحقوق التي أوجبها للناس وأوجبها لنفسه من الشعور بعظمته وكبريائه ، فهو كالجاحد لصفات الألوهية التي لا تليق إلا لها.

فالمختال لا يقوم بعبادة ربه حق القيام ، لأن العبادة لا تكون إلا عن خشوع للقلب ، ومن خشع قلبه خشعت جوارحه ، ولا يقوم بحقوق الوالدين ولا ذوى القربى ،

٣٧

لأنه لا يشعر بحق لغيره عليه ، وبالأولى لا يشعر بحق لليتيم أو المسكين أو لجار قريب أو بعيد ، فهو لا يرجى منه برّ ولا إحسان ، وإنما يتوقع منه إساءة وكفران ، ومن الكبر والخيلاء إطالة الثوب وجر الذيل بطرا ومرحا ، قال تعالى : «وَلا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحاً إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الْأَرْضَ وَلَنْ تَبْلُغَ الْجِبالَ طُولاً».

وليس من الكبر والخيلاء أن يكون المرء وقورا فى غير غلظة ، عزيز النفس مع الأدب والرقة.

روى أبو داود والترمذي عن ابن مسعود قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «لا يدخل الجنة من كان فى قلبه مثقال ذرة من كبر» فقال رجل : إن الرجل يحب أن يكون ثوبه حسنا ونعله حسنة ، فقال صلى الله عليه وسلم «إن الله جميل يحب الجمال الكبر بطر الحق وغمص الناس» بطر الحق : رده استخفافا وترفعا ، وغمص الناس احتقارهم والازدراء بهم.

ثم بين المختال الفخور فقال :

(الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ وَيَكْتُمُونَ ما آتاهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ) روى ابن اسحق وابن جرير عن ابن عباس ـ كان جماعة من اليهود يأتون رجالا من الأنصار يتنصحون لهم ، فيقولون : لا تنفقوا أموالكم ، فإنا نخشى عليكم الفقر فى ذهابها ولا تسارعوا فى النفقة ، فإنكم لا تدرون ما يكون ، فأنزل الله تعالى : (الَّذِينَ يَبْخَلُونَ) إلى قوله ـ (وَكانَ اللهُ بِهِمْ عَلِيماً) :

والمراد بالبخل فى الآية البخل بالإحسان الذي أمر به فيما تقدم ، فيشمل البخل بلين الكلام وإلقاء السلام والنصح فى التعليم وإنقاذ المشرف على التهلكة ، وكتمان ما آتاهم الله من فضله يشمل كتمان المال وكتمان العلم.

ثم بين عاقبة أمرهم وعظيم نكالهم فقال :

(وَأَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ عَذاباً مُهِيناً) أي وهيأنا لهؤلاء بكبرهم وبخلهم وعدم شكرهم عذابا يهيهم ويذلهم ، فهو عذاب جامع بين الألم والذلة جزاء لهم على ما اقترفوا ،

٣٨

وسماهم الله كفارا للإيذان بأن هذه أخلاق وأعمال لا تصدر إلا من الكفور ، لا من المؤمن الشكور.

(وَالَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ رِئاءَ النَّاسِ) الرئاء والرياء والمراءاة سواء ، أي إن مانعى الإحسان من أهل الفخر والخيلاء فريقان : فريق يبخلون ويكتمون فضل الله عليهم ، وفريق يبذل المال لا شكرا لله على نعمه ولا اعترافا لعباده بحق ، بل ينفقونها مرائين الناس : أي يقصدون أن يروهم فيعظموا قدرهم ويحمدوا فعلهم.

والكبرياء كما تكون من شىء فى نفس الشخص ، تكون أيضا بما يكون له من المال والنسب ، والمرائى أقل شرا من البخيل ، إذ هو يحمل الناس على قبول فخره واختياله فى مقابلة ما يبذله لهم من مال ، فكأنه رأى لهم عليه حقا عوضا من التعظيم والثناء الذي يطلبه بريائه ، وأما البخيل فقد بلغ من احتقاره للناس أنه لا يرى لهم عليه شيئا من الحقوق ، فهو يكلفهم تعظيمه ، وأمواله مدّخرة فى الصناديق.

والمرائى بخيل فى الحقيقة إذ هو إنما يبذل المال لمن لا حق لهم عنده ، ويبخل على أرباب الحقوق كالزوجة والولد والخادم والأقربين كالوالدين ، ولا يتحرى فى إنفاقه النفع العام ولا الخاص ، وإنما يتحرى مواطن التعظيم والمدح ، وإن كان الإنفاق ضارا كالمساعدة على فسق أو فتنة ، فهو تاجر يشترى تعظيم الناس له وتسخيرهم للقيام بخدمته.

(وَلا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ) أي إن المؤمنين المرائين فى إنفاقهم يثقون بما عند الناس من المدح والثناء والتعظيم والإطراء ، ولا يثقون بما أعد الله لعباده من الثواب والجزاء ، ويفضلون التقرب إليهم على التقرب إليه ، فالله فى نظرهم أهون من الناس ، فمثل هؤلاء لا يعدّون مؤمنين إيمانا حقيقيا بالله ولا باليوم الآخر ، بل إيمانهم ضرب من التخيل ليس له ما يؤيده من أثر فى القلب ولا إذعان للنفس ، فهم لا يعرفون الله ، وإنما يسمعون الناس يقولون قولا فيقلدونهم فيما يحفظونه منهم ، فهم لا يعرفون أنه موجد الكائنات النافذ علمه وقدرته فيما فى الأرض والسموات ، ولو كانوا مؤمنين باليوم الآخر وأن هناك حياة أبدية لما فضلوا عليها عرض هذه الحياة القصيرة.

٣٩

ومن أمارات التفرقة بين المخلص والمرائى ، أن الأول قلما يتذكر عمله أو يذكره إلا لمصلحة كترغيب بعض الناس في البذل كأن يقول إنى على ما بي من فقر قد أعطيت كذا درهما فى مصلحة كذا فاللائق بمثلك أن يبذل كذا وكذا درهما.

أما الثاني فهو يلتمس الفرص والمناسبات للفخر والتبجح بما أعطى وما فعل ، كما لا يبذل المال ولا يعمل العمل الصالح إلا بقصد الرياء والسمعة ، إذ ليس له وراء حظوظ الدنيا أمل ولا مطلب.

(وَمَنْ يَكُنِ الشَّيْطانُ ، لَهُ قَرِيناً فَساءَ قَرِيناً) أي إن هؤلاء المتكبرين ما حملهم على ما فعلوا إلا وسوسة الشيطان وهو بئس الصاحب والخليل ـ والمقصد من هذا أن حالهم فى الشر كحال الشيطان.

وفى الآية إيماء إلى تأثير قرناء المرء فى سيرته وأن الواجب اختيار القرين الصالح على قرين السوء ، وتعريض بتنفير الأنصار من معاشرة اليهود الذين كانوا ينهونهم عن الإنفاق فى سبيل الله ، وبيان أنهم شياطين يعدون الفقر وينهون عن العرف.

أما القرين الصالح فهو عون على الخير مرغّب فيه ، منفر بسيرته ونصحه عن الشر مبعد عنه ، مذكر بالتقصير مبصر بالعيوب ، وكم أصلح القرين الصالح فاسدا ، وكم أفسد قرين السوء صالحا.

(وَما ذا عَلَيْهِمْ لَوْ آمَنُوا بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقَهُمُ اللهُ؟) أي وما الذي كان يصيبهم من الضرر لو آمنوا بالله إيمانا صحيحا يظهر أثره فى العمل؟ وفى هذا الأسلوب إثارة تعجيب الناس من حالهم ، إذ هم لو أخلصوا لما فاتتهم منفعة الدنيا ، ولفازوا مع ذلك بسعادة العقبى.

فكثيرا ما يفوت المرائى ما يرمى إليه من التقرّب إلى الناس وامتلاك قلوبهم ، ويظفر بذلك المخلص الذي لم يكن من همه أن أحدا يعرف ما عمل ، فيكون الأول قد رجع بخفّى حنين ، بينما الثاني فاز بسعادة الدارين فجهله جدير بأن يتعجب منه ، لأنه جهل بالله وجهل بأحوال الناس ، ولو آمن وأخلص ووثق بوعد الله ووعيده لكان فى هذا سعادته ، فالإيمان سلوى من كل

٤٠