تفسير المراغي - ج ٥

أحمد مصطفى المراغي

ويجب حينئذ أن يكون الباقون مستعدين للقيام مقامهم والصلاة مع النبي صلى الله عليه وسلم كما صلوا ، وهو قوله :

(وَلْتَأْتِ طائِفَةٌ أُخْرى لَمْ يُصَلُّوا فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ) أي ولتأت الطائفة الأخرى الذين لم يصلوا لاشتغالهم بالحراسة فليصلوا كما صلت الطائفة الأولى ، وليأخذوا حذرهم وأسلحتهم فى الصلاة كما فعل الذين من قبلهم.

وحكمة الأمر بالحذر للطائفة الثانية أن العدوّ قلّما يتنبه أول الصلاة لبدء المسلمين فيها ، إذ هو إذا رآهم صفا ظن أنهم قد اصطفوا للقتال واستعدوا للحرب والنزال ، فإذا رآهم سجدوا علم أنهم فى صلاة ، فيخشى أن يميل على الطائفة الأخرى عند قيامها فى الصلاة كما يتربص ذلك بهم عند كل غفلة.

وقد بين الله تعالى علة الأمر بأخذ الحذر والسلاح حتى فى الصلاة بقوله :

(وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَأَمْتِعَتِكُمْ فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُمْ مَيْلَةً واحِدَةً) أي تمنى أعداؤكم الذين كفروا بالله وبما أنزل عليكم لو تغفلون عن أسلحتكم وأمتعتكم التي بها بلاغكم فى سفركم بأن تشغلكم صلاتكم عنها فيميلون حينئذ عليكم ويحملون حملة واحدة وأنتم مشغولون بالصلاة واضعون السلاح تاركون حماية المتاع والزاد فيصيبون منكم غرّة فيقتلون من استطاعوا قتله وينتهبون ما استطاعوا نهبه فلا تغفلوا عنهم.

وقد يعرض لبعض المحاربين أعذار يشق فيها حمل السلاح ومن ثم رخص فى تركه لصاحب العذر فقال :

(وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ إِنْ كانَ بِكُمْ أَذىً مِنْ مَطَرٍ أَوْ كُنْتُمْ مَرْضى أَنْ تَضَعُوا أَسْلِحَتَكُمْ وَخُذُوا حِذْرَكُمْ) أي ولا إثم عليكم فى وضع أسلحتكم إذا أصابكم أذى من مطر تمطرونه فيشق عليكم حمل السلاح مع ثقله فى ثيابكم ، وربما أفسد الماء السلاح إذ يجعله يصدأ ، أو إذا كنتم مرضى بالجراح أو غير الجراح من العلل ، ولكن يجب عليكم فى جميع الأحوال أن تأخذوا حذركم ولا تغفلوا عن أنفسكم ولا عن أسلحتكم وأمتعتكم ، فإن عدوكم لا يغفل عنكم ولا يرحمكم ، والضرورات تقدر بقدرها.

١٤١

(إِنَّ اللهَ أَعَدَّ لِلْكافِرِينَ عَذاباً مُهِيناً) بما هداكم إليه من أسباب النصر بأخذ الأهبة والحذر والاعتصام بالصبر والصلاة رجاء ما عند الله من المثوبة والأجر.

فهذا العذاب المهين هو عذاب غلب المسلمين وانتصارهم عليهم إذا قاموا بما أمرهم الله تعالى به ، ويؤيده قوله تعالى «فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَما تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللهِ ما لا يَرْجُونَ» وقوله : «قاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ».

روى البخاري أن هذه الرخصة التي فى الآية نزلت فى عبد الرحمن بن عوف وكان جريحا ، وروى أحمد والحاكم والبيهقي عن ابن عياش الزرقي قال «كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فى عسفان فاستقبلنا المشركون وعليهم خالد بن الوليد وهم بيننا وبين القبلة فصلى بنا النبي صلى الله عليه وسلم الظهر فقالوا قد كانوا على حال لو أصبنا غرّتهم ثم قالوا يأتى عليهم الآن صلاة هى أحب إليهم من أبنائهم وأنفسهم فنزل جبريل بين الظهر والعصر بهذه الآيات (وَإِذا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاةَ)» الحديث ، وقد روى عن النبي صلى الله عليه وسلم يوم ذات الرقاع «أن طائفة صفت مع النبي صلى الله عليه وسلم وطائفة وجاه العدو (اتجاهه مراقبة له) فصلى بالتي معه ركعة ثم ثبت قائما فأتموا لأنفسهم ثم انصرفوا وجاه العدو ، وجاءت الطائفة الأخرى فصلى بهم الركعة الثانية التي بقيت من صلاته فأتموا فسلم بهم» وسميت هذه الغزوة ذات الرقاع ، لأنها نقبت أقدامهم فلفوا على أرجلهم الرقاع والخرق.

وقد قال بهذه الصلاة أفقه الصحابة عليهم الرضوان على وابن عباس وابن مسعود وابن عمرو وزيد بن ثابت وأبو هريرة وأبو موسى ، ومن فقهاء الأمصار مالك والشافعي وغيرهما.

(فَإِذا قَضَيْتُمُ الصَّلاةَ فَاذْكُرُوا اللهَ قِياماً وَقُعُوداً وَعَلى جُنُوبِكُمْ) أي فإذا أديتم الصلاة على هذه الصورة فاذكروا الله تعالى فى أنفسكم بتذكر وعده بنصر من ينصرونه

١٤٢

فى الدنيا ونيل الثواب فى الآخرة ، وبألسنتكم بالحمد والتكبير والدعاء وعلى كل حال تكونون عليها من قيام فى المسابقة والمقارعة ، وقعود للرمى أو المصارعة ، واضطجاع من الجراح أو المخادعة ، فذكر الله مما يقوّى القلوب ويعلى الهمم ، ويجعل متاعب الدنيا حقيرة ومشاقها سهلة ، والثبات والصبر يعقبهما الفلاح والنصر كما قال تعالى فى سورة الأنفال «إِذا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللهَ كَثِيراً لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ».

والخلاصة : إننا أمرنا بالذكر على كل حال نكون عليها فى الحرب كما يدل على ذلك السياق ، فأجدر بأن نؤمر به فى حال السلم ، إلى أن المؤالنين فى جهاد مستمر وحروب دائمة ، فهم تارة يجاهدون الأعداء ، وأخرى يجاهدون الأهواء ، ومن ثم أمرهم الله بالذكر فى كثير من الآي كقوله «الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللهَ قِياماً وَقُعُوداً وَعَلى جُنُوبِهِمْ» لما فى ذلك من تربية النفس وصفاء الروح وتذكر جلال الله وعظمته ، وأن كل شىء هيّن فى سبيله وابتغاء مرضاته.

وقد روى ابن جرير عن ابن عباس أنه قال : لا يفرض الله على عباده فريضة إلا جعل لها جزاء معلوما ، ثم عذر أهلها فى حال العذر ، غير الذكر فإن الله لم يجعل له حدا ينتهى إليه ولم يعذر أحدا فى تركه ، إلا مغلوبا على عقله فقال : فاذكروا الله قياما وقعودا وعلى جنوبكم : أي بالليل والنهار فى البر والبحر ، وفى السفر والحضر ، والغنى والفقر ، والسقم والصحة ، والسر والعلانية ، وعلى كل حال اه.

(فَإِذَا اطْمَأْنَنْتُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ) الاطمئنان : السكون بعد اضطراب وانزعاج : أي فإذا سكنت قلوبكم من الخوف وأمنتم بعد أن تضع الحرب أوزارها فأدوا الصلاة بتعديل أركانها ومراعاة شرائطها ولا تقصروا من هيئتها كما أذن لكم حال الخوف.

ثم علل وجوب المحافظة على الصلاة حتى فى وقت الخوف ولو مع القصر منها فقال (إِنَّ الصَّلاةَ كانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتاباً مَوْقُوتاً) يقال وقت العمل يقته ووقته توقيتا إذا جعل له وقتا يؤدّى فيه : أي إن الصلاة كانت فى حكم الله فرضا مؤكدا فى أوقات

١٤٣

محدودة لا بد من أدائها فيها بقدر الإمكان ، فأداؤها فى أوقاتها مع القصر بشرطه خير من تأخيرها لتؤدى تامة كاملة.

والحكمة فى توقيتها فى تلك الأوقات المعلومة أن الأشياء إن لم يكن لها وقت معين لا يحافظ عليها الجم الغفير من الناس.

إلى ما فى هذا النوع من الذكر المهذب للنفس من التربية العملية للأمة الإسلامية ، بأن تلتزم أداء أعمالها فى أوقات معينة مع عدم الهوادة فيها ، ومن قصر فيها فى تلك الأوقات الخمسة فى اليوم والليلة فهو جدير بأن ينسى ربه ويغرق فى بحار الغفلة.

ومن قوى إيمانه وزكت نفسه لا يكتفى بهذا القدر القليل من ذكر الله ومناجاته بل يزيد عليه من النوافل ما شاء الله أن يزيد.

والخلاصة : إن الصلوات الخمس إنما كانت موقوتة لتكون مذكرة للمؤمن بربه فى الأوقات المختلفة ، لئلا تحمله الغفلة على الشر أو التقصير فى الخير ، ولمن يريد الكمال فى النوافل والأذكار أن يختار الأوقات التي يرى أنها أوفق بحاله.

(وَلا تَهِنُوا فِي ابْتِغاءِ الْقَوْمِ إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَما تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللهِ ما لا يَرْجُونَ وَكانَ اللهُ عَلِيماً حَكِيماً (١٠٤))

تفسير المفردات

الوهن : الضعف ، والابتغاء : الطلب.

المعنى الجملي

كان الكلام فيما سلف فى شأن الحرب وما يقع فيها ، وبيان كيفية الصلاة فى أثنائها ، وما يلاحظ فيها إذا كان العد ومتأهبا للحرب من اليقظة وأخذ الحذر وحمل

١٤٤

السلاح فى أثنائها ، وبين فى أثناء السياق شدة عداوة الكفار لهم وتربصهم غفلتهم وإهمالهم ليوقعوا بهم.

وهنا نهى عن الضعف فى لقائهم ، وأقام الحجة على كون المشركين أجدر بالخوف منهم ، لأن ما فى القتال من الألم والمشقة يستوى فيه المؤمن والكافر ، ويمتاز المؤمن بأن له من الرجاء فى ربه ما ليس عند الكافر ، فهو يرجو منه النصر والمعونة ، ويعتقد أنه قادر على إنجاز وعده ، كما يرجو منه المثوبة على حسن بلائه فى سبيله وقوة الرجاء تخفف الآلام ، وتنسيه التعب والنّصب.

الإيضاح

(وَلا تَهِنُوا فِي ابْتِغاءِ الْقَوْمِ) أي ولا تضعفوا فى طلب القوم الذين ناصبوكم العداوة بل عليكم أن تستعدوا لقتالهم بعد الفراغ من الصلاة مع أخذ الحذر وحمل السلاح عند أدائها ، وذلك فى معنى الأمر بالهجوم.

وسرّ هذا أن الذي يوجه همته إلى المهاجمة تشتد عزيمته وتعلو همته ، أما الذي يلتزم الدفاع فحسب فإنه يكون خائر العزيمة ضعيف القوة.

(إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَما تَأْلَمُونَ) أي إن ما ينالكم من الآلام ينالهم منه مثله ، فهم بشر مثلكم ، وهم مع هذا يصبرون ، فما لكم لا تصبرون وأنتم أولى منهم بالصبر؟ وبين سبب هذا بقوله :

(وَتَرْجُونَ مِنَ اللهِ ما لا يَرْجُونَ) من ظهور دينكم الحق على سائر الأديان الباطلة ومن الثواب الجزيل والنعيم المقيم فى الآخرة.

إلى أنه تعالى قد وعدكم إحدى الحسنيين النصر : أو الجنة بالشهادة إذا نصرتم دينه ودافعتم عن حماه ، وهذا الوعد من الرحمن مع خلوص الإيمان يدعوان إلى الرجاء والأمل ويضاعفان العزيمة ، ويحثان صاحبهما على العمل بصبر وثبات.

أما اليائس من هذا الوعد الكريم فإنه يكون ضعيف العزيمة ميت الهمة ،

١٤٥

يغلب عليه الجزع والفتور ، فإن تساويتم فى الآلام فقد فضلتموهم فى الثقة بحسن العاقبة ، فأنتم أجدر منهم بالإقدام والجرأة.

(وَكانَ اللهُ عَلِيماً حَكِيماً) وقد ثبت فى واسع علمه ومضت به سننه أن العاقبة للمتقين والنصرة لهم على الكافرين ، ماداموا عاملين بهديه سائرين على الطريق التي وضعها لنصرة الحق على الباطل من الأخذ بالأسباب وكثرة العدد والغدد ، فإذا هم فعلوا ذلك كانوا أشد منهم قتالا وأحسن منهم نظاما ، وبذا يفوزون بالمطلوب وبحسن العاقبة.

(إِنَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِما أَراكَ اللهُ وَلا تَكُنْ لِلْخائِنِينَ خَصِيماً (١٠٥) وَاسْتَغْفِرِ اللهَ إِنَّ اللهَ كانَ غَفُوراً رَحِيماً (١٠٦) وَلا تُجادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتانُونَ أَنْفُسَهُمْ إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ مَنْ كانَ خَوَّاناً أَثِيماً (١٠٧) يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللهِ وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ ما لا يَرْضى مِنَ الْقَوْلِ وَكانَ اللهُ بِما يَعْمَلُونَ مُحِيطاً (١٠٨) ها أَنْتُمْ هؤُلاءِ جادَلْتُمْ عَنْهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا فَمَنْ يُجادِلُ اللهَ عَنْهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ أَمْ مَنْ يَكُونُ عَلَيْهِمْ وَكِيلاً (١٠٩) وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءاً أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللهَ يَجِدِ اللهَ غَفُوراً رَحِيماً (١١٠) وَمَنْ يَكْسِبْ إِثْماً فَإِنَّما يَكْسِبُهُ عَلى نَفْسِهِ وَكانَ اللهُ عَلِيماً حَكِيماً (١١١) وَمَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْماً ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئاً فَقَدِ احْتَمَلَ بُهْتاناً وَإِثْماً مُبِيناً (١١٢) وَلَوْ لا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ لَهَمَّتْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ أَنْ يُضِلُّوكَ وَما يُضِلُّونَ إِلاَّ أَنْفُسَهُمْ وَما يَضُرُّونَكَ مِنْ شَيْءٍ وَأَنْزَلَ اللهُ عَلَيْكَ الْكِتابَ

١٤٦

وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ ما لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكانَ فَضْلُ اللهِ عَلَيْكَ عَظِيماً (١١٣))

تفسير المفردات

بما أراك الله : أي بما عرّفك وأوحى به إليك ، خصيما : أي تخاصم وتناضل عنهم ، يختانون أنفسهم : يخونونها ويتكلفون ما يخالف الفطرة مما يعود عليهم بالضرر ، والمجادلة أشد المخاصمة ، والوكيل : هو الذي يوكل إليه الأمر فى الحفظ والحماية ، والمراد بالسوء هنا : ما يسوء الإنسان به غيره ، وبالظلم : ما كان ضرره خاصا بالعامل كالحلف الكاذب ، والاستغفار : طلب المغفرة من الله مع الشعور بقبح الذنب والتوبة منه ، والكسب : ما يجرّ منفعة أو يدفع مضرة ، والإثم الذنب ، والخطيئة : الذنب غير المتعمد ، والإثم ما يصدر عنه مع ملاحظة أنه ذنب ، يرم به : أي يقذفه به ويسنده إليه ، احتمل : كلف نفسه أن تحمل ، والبهتان : الكذب على غيرك بما يبهت منه ويتحير عند سماعه.

المعنى الجملي

بعد أن حذر الله المؤمنين من المنافقين أعداء الحق وأمرهم أن يستعدوا لمجاهدتهم خوف أن يطمسوا معالم الحق ويهلكوا أهله ـ أمرهم هنا أن يقوموا بحفظ الحق وألا يحابوا فيه أحدا.

روى ابن جرير عن قتادة : أن هؤلاء الآيات أنزلت فى شأن طعمة بن أبيرق وكان رجلا من الأنصار ، ثم أحد بنى ظفر سرق درعا لعمه كان وديعة عنده ، ثم قذفها على يهودى كان يغشاهم يقال له زيد بن السمين ، فجاء اليهودي إلى نبى الله صلى الله عليه وسلم يهتف ، فلما رأى ذلك قومه بنو ظفر ، جاءوا إلى نبى الله صلى الله عليه وسلم ليعذروا صاحبهم وكان نبى الله عليه الصلاة السلام قد همّ بقبول عذره حتى أنزل

١٤٧

الله فى شأنه (وَلا تُجادِلْ) إلخ وكان طعمة قذف بها بريئا ، فلما بين الله شأن طعمة نافق ولحق بالمشركين بمكة فأنزل الله فيه (وَمَنْ يُشاقِقِ الرَّسُولَ) الآية».

الإيضاح

(إِنَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِما أَراكَ اللهُ) أي إنا أنزلنا إليك هذا القرآن بتحقيق الحق وبيانه ، لأجل أن تحكم بين الناس بما أعلمك الله به من الأحكام.

(وَلا تَكُنْ لِلْخائِنِينَ خَصِيماً) أي ولا تكن لمن خان خصما : أي مخاصما ومدافعا تدافع عنه من طالبه بحقه الذي خان فيه.

وخلاصة ذلك ـ إن عليك ألا تتهاون فى تحرى الحق اغترارا بلحن الخائنين وقوة جدلهم فى الخصومة ، لئلا تكون خصيما لهم وتقع فى ورطة الدفاع عنهم ، ويؤيد هذا

حديث أم سلمة «إنما أنا بشر وإنكم تختصمون إلىّ ولعل بعضكم يكون ألحن بحجته من بعض فأقضى بنحو ما أسمع ، فمن قضيت له من حق أخيه شيئا فلا يأخذه ، فإنما أقطع له قطعة من النار».

(وَاسْتَغْفِرِ اللهَ) مما يعرض لك من شؤون البشر وأحوالهم بالميل إلى من تراه ألحن بحجته ، أو الركون إلى مسلم لأجل إسلامه تحسينا للظن به ، فهذا ونحوه صورته صورة من أتى ذنبا يوجب الاستغفار وإن لم يكن متعمدا للزيغ عن العدل ، والتحيز للخصم.

وفى هذا من زيادة الحرص على الحق والتشديد فيه ما لا يخفى ، حتى كأن مجرد الالتفات إلى قول المخادع يجب الاحتراس منه.

كما أن فيه إيماء إلى أن الاعتقاد الشخصي والميل الفطري والديني لا ينبغى أن يظهر لهما أثر فى مجلس القضاء ، وإلى أن القاضي لا يساعد من يظن أنه صاحب الحق ، بل عليه أن يساوى بين المتخاصمين فى كل شىء.

والنبي صلى الله عليه وسلم لم يحكم فى هذه القضية قبل نزول الآيات ولم يعمل بغير ما يعتقد أنه تأييد للحق ، لكنه أحسن الظن فى أمر بيّن له علام الغيوب حقيقة الواقع فيه ، وما ينبغى له أن يعامل به ذويه.

١٤٨

ثم رغبهم فى المغفرة فقال :

(إِنَّ اللهَ كانَ غَفُوراً رَحِيماً) أي إنه تعالى مبالغ فى المغفرة والرحمة لمن استغفره.

(وَلا تُجادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتانُونَ أَنْفُسَهُمْ) هذا الخطاب وجه إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهو أعدل الناس وأكملهم مبالغة فى التحذير من هذه الخلة المعهودة فى كثير من الحكام ، وسمى خيانة غيرهم خيانة لأنفسهم ، لأن ضررها عائد إليهم ، والذين يختانون هم هذا السارق ومن عاونه ، لأنه شريك له فى الإثم والخيانة ، ولهم نظراء فى كل زمان ومكان.

وخلاصة المعنى ـ لا تدافع عن هؤلاء الخونة ولا تساعدهم عند التخاصم.

(إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ مَنْ كانَ خَوَّاناً أَثِيماً) المراد بعدم الحب البغض والسخط : أي إن الله يبغض من اعتاد الخيانة وألفت نفسه اجتراح السيئات وضريت عليها ولم يعدّ للعقاب الإلهىّ الرهبة والخشية التي ينبغى أن يفكّر مثله فيها ، وإنما يحب الله أهل الأمانة والاستقامة.

ثم بين أحوال الخائنين ، ونعى عليهم أفعالهم فقال :

(يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللهِ وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ ما لا يَرْضى مِنَ الْقَوْلِ) أي إن شأن هؤلاء الخوانين أنهم يستترون من الناس عند اجتراحهم الآثام إما حياء وإما خوفا من ضررهم ، ولا يستترون من الله ولا يستحيون منه بتركها لضعف إيمانهم ، إذ الإيمان يمنع من الإصرار وتكرار الذنب ولا تقع الخيانة من صاحبه إلا عن غفلة أو جهالة عارضة لا تدوم ، فمن يعلم أن الله يراه فى حنادس الظلمات لا بد أن يترك الذنب والخيانة حياء منه تعالى وخوفا من عقابه ، وهو تعالى شاهدهم حين يدبرون ليلا ما لا يرضى من القول ، تبرئة لأنفسهم ورمى غيرهم بجريمتهم.

ثم توعدهم على عظيم جرمهم فقال :

(وَكانَ اللهُ بِما يَعْمَلُونَ مُحِيطاً) أي حافظا لأعمالهم ، لا يعزب عنه مثقال ذرة فى السموات ولا فى الأرض ، فلا سبيل إلى نجاتهم من عقابه.

ثم حذر المؤمنين من مساعدة هؤلاء الخوانين والحدب عليهم فقال :

١٤٩

(ها أَنْتُمْ هؤُلاءِ جادَلْتُمْ عَنْهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا فَمَنْ يُجادِلُ اللهَ عَنْهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ أَمْ مَنْ يَكُونُ عَلَيْهِمْ وَكِيلاً) أي يا هؤلاء أنتم جادلتم عنهم وحاولتم تبرئتهم فى الحياة الدنيا ، فمن يجادل الله عنهم يوم القيامة ، يوم يكون الخصم والحاكم هو الله تعالى المحيط بأعمالهم وأحوالهم وأحوال الخلق كافة؟ أي فلا يمكن أن يجادل هناك أحد عنهم ولا أن يكون وكيلا بالخصومة لهم ، فعلى المؤمنين أن يراقبوا الله تعالى فى مثل ذلك ولا يظنوا أن من أمكنه أن ينال الفوز والحكم له وأخذه من قضاة الدنيا بغير حق ، يمكنه أن يظفر به فى الآخرة «يَوْمَ لا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئاً وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ».

فى الآية إيماء إلى أن حكم الحاكم فى الدنيا لا يجيز للمحكوم له أن يأخذ به إذا علم أنه حكم له بغير حقه ، كما أن فيها توبيخا وتقريعا لأولئك الذين أرادوا مساعدة بنى أبيرق على اليهودي.

ثم رغب فى التوبة من الذنوب وحث عليها فقال :

(وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءاً أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللهَ يَجِدِ اللهَ غَفُوراً رَحِيماً) أي ومن يعمل قبيحا يسوء به غيره ، أو يظلم نفسه بفعل معصية تختص به كالحلف الكاذب يجد الله غفارا لذنوبه ، رحيما متفضلا عليه بالعفو والمغفرة.

وفى ذلك حث وترغيب لطعمة وقومه فى التوبة والاستغفار ، كما أن فيها بيانا للمخرج من الذنب بعد وقوعه ، وفيها تحذير من أعداء الحق والعدل الذين يحاولون هدمهما ، وهما أسس الشرائع.

والمراد بوجدان الله غفورا رحيما : هو أن التائب المستغفر يجد أثر المغفرة فى نفسه بكراهة الذنب وذهاب داعيته ويجد أثر الرحمة بالرغبة فى الأعمال الصالحة التي تطهر النفس وتزيل الدّرن منها.

ثم حذر من فعل الذنوب والآثام وذكر عظيم ضرها فقال :

(وَمَنْ يَكْسِبْ إِثْماً فَإِنَّما يَكْسِبُهُ عَلى نَفْسِهِ) أي ومن يعمل الإثم وير أنه قد كسبه وانتفع به فإنما كسبه وبال على نفسه وضرر لا نفع له فيه ، كما يخطر على بال من يجهل عواقب الآثام فى الدنيا والآخرة ، من فضيحة للآثم ومهانة له بين الناس وعند الحاكم

١٥٠

العادل كما وقع لأصحاب هذه القصة الذين نزلت فى شأنهم هذه الآيات ، ومن خزى فى الآخرة يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم.

(وَكانَ اللهُ عَلِيماً حَكِيماً) أي إنه تعالى بعلمه الواسع حدد للناس شرائع يضرهم تجاوزها ، وبحكمته جعل لها عقابا يضر المتجاوز لها ، فهو إذا يضر نفسه ولا يضر الله شيئا.

(وَمَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْماً ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئاً فَقَدِ احْتَمَلَ بُهْتاناً وَإِثْماً مُبِيناً) أي ومن يكسب ذنبا خطأ بلا تعمد أو إثما يصدر عنه مع ملاحظة أنه ذنب ثم يبرئ نفسه وينسبه إلى برىء ويزعم أنه هو الذي كسبه فقد كلف نفسه وزر البهتان بافترائه على البريء واتهامه إياه.

وقد فشا هذا بين المسلمين فى هذا الزمان ، ولم يكن لهذا من سبب إلا ترك هداية الدين وقلة الوازع النفسي والغفلة عن الأوامر والنواهي التي جاءت بها الشريعة.

وبعد أن ذكر المختانين أنفسهم ومحاولتهم زحزحة الرسول صلوات الله عليه عن الحق ، بين فضله ونعمته عليه فقال :

(وَلَوْ لا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ لَهَمَّتْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ أَنْ يُضِلُّوكَ) أي إنه تعالى بفضله ورحمته عليك صرف نفوس الأشرار عن الطمع فى إضلالك والهمّ بذلك ، لأنه إذا توجهت همتهم إلى التلبيس على شخص ومحاولة صرفه عن الحق ، احتاج إلى طائفة من الوقت لمقاومتهم وكشف حيلهم وتمييز تلبيسهم حتى تمحص الحقائق وينجلى الرشد من الغىّ ، فيضيع وقت هو فى أشد الحاجة إليه لصرفه فى عمل نافع ، ومن ثم تفضل على نبيه صلى الله عليه وسلم ورحمه بصرف كيد الأشرار عنه وزحزحته عن صراط الله الذي أقامه عليه.

والخلاصة ـ إنه لولا فضل الله عليك بالنبوة والتأييد بالعصمة ورحمته لك ببيان حقيقة الواقع لهمت طائفة منهم أن يضلوك عن الحكم العادل المنطبق على حقيقة القضية فى نفسها ، ولكنهم قبل أن يطمعوا فى ذلك ويهموا به جاءك الوحى ببيان الحق وإقامة أركان العدل والمساواة فيه بين جميع الخلق.

١٥١

(وَما يُضِلُّونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ) بانحرافهم عن الصراط السوىّ الذي هداهم الإسلام إليه (وَما يَضُرُّونَكَ مِنْ شَيْءٍ) وقد عصمك الله من الناس ومن اتباع الهوى فى الحكم بينهم.

(وَأَنْزَلَ اللهُ عَلَيْكَ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ) علمت مما سلف أن الكتاب هو القرآن ، والحكمة : فقه مقاصد الدين وأسراره ووجه موافقتها للفطرة وانطباقها على ستن الاجتماع البشرى ومصالح الناس فى كل زمان ومكان.

(وَعَلَّمَكَ ما لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ) من الكتاب والشريعة ، وخصوصا ما تضمنته هذه الآيات من العلم بحقيقة الواقعة التي تخاصم فيها بعض المسلمين مع اليهودي.

(وَكانَ فَضْلُ اللهِ عَلَيْكَ عَظِيماً) إذ أرسلك للناس كافة ، وجعلك خاتم النبيين ، واختصك بنعم كثيرة ومزايا لا تدخل تحت حصر ، فيجب أن تكون أعظم الناس شكرا له ، كما يجب على أمتك مثل ذلك ليكونوا خير أمة أخرجت للناس قدوة لغيرهم فى جميع الخيرات.

(لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْواهُمْ إِلاَّ مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً (١١٤) وَمَنْ يُشاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ ما تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَساءَتْ مَصِيراً (١١٥))

تفسير المفردات

النجوى : المسارّة بالحديث ، أو هو جمع واحده نجىّ بمعنى المتناجين : أي المتسارّين المعروف : ما تعرفه النفوس وتقره وتتلقاه بالقبول ، وبغى الشيء : طلبه ، والمشاقّة : المعاداة

١٥٢

والمخالفة مأخوذة من الشّق كأن كل واحد من المتعاديين يكون فى شق غير الذي فيه الآخر.

المعنى الجملي

لا يزال الحديث فى الذين يختانون أنفسهم ويستخفون من الناس ولا يستخفون من الله ، وهم طعمة بن أبيرق ومن أراد مساعدته من بنى جلدته.

الإيضاح

(لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْواهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاحٍ بَيْنَ النَّاسِ) أي لا خير فى كثير من تناجى أولئك الذين يسرّون الحديث من جماعة طعمة الذين أرادوا مساعدته على اتهام اليهودي وبهته ومن سائر الناس ، ولكن الخير كل الخير فى نجواى ، من أمر بصدقة أو معروف أو إصلاح بين الناس ، وإنما قال فى كثير لأن من النجوى ما يكون فى الشؤون الخاصة كالزراعة والتجارة مثلا فلا توصف بالشر ولا هى مقصودة من الخير ، وإنما المراد بالنجوى الكثيرة المنفي عنها الخير هى النجوى فى شؤون الناس ومن ثم استثنى منها الأشياء الثلاثة التي هى جماع الخير للناس.

والكتاب الحكيم يجعل النجوى مظنّة الإثم والشر ، ومن ثم خاطب الله المؤمنين بقوله «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا تَناجَيْتُمْ فَلا تَتَناجَوْا بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ وَمَعْصِيَةِ الرَّسُولِ وَتَناجَوْا بِالْبِرِّ وَالتَّقْوى وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ».

والسرّ فى كون النجوى مظنة الشر فى الأكثر أن العادة قد جرت بحب إظهار الخير والتحدث به فى الملأ. وأن الشر والإثم هو الذي يذكر فى السر والنجوى ، وفى الأثر «الإثم ما حاك فى النفس وكرهت أن يطّلع عليه الناس».

وقد استثنى الله من النجوى التي لا خير فى أكثرها أمورا ثلاثة ، لأن خيريتها أو كمالها تتوقف على الكتمان وجعل التعاون عليها سرا والحديث فيها نجوى.

١٥٣

فالصدقة وهى من الخير قد يؤذى إظهارها المتصدّق عليه ويضع من كرامته ، ومن ثم قال عز من قائل «إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقاتِ فَنِعِمَّا هِيَ ، وَإِنْ تُخْفُوها وَتُؤْتُوهَا الْفُقَراءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ».

وقد يكون الجهر بالأمر بها والحث عليها أشد إيذاء وإهانة من إيتائه إياها جهرا ولومع الإخلاص وابتغاء مرضاة الله.

وكذلك الأمر بالمعروف على مسمع من الناس فكثيرا ما يستاء منه المأمور به ولا سيما إذا كان الآمر من أقرانه لأنه يرى فى أمره إياه استعلاء عليه بالعلم والفضل وإبهاما له بالتقصير أو الجهل ، فمن ثم كانت النجوى به أبعد عن الإيذاء ، ومثله الإصلاح بين الناس ، فإنه ربما ترتب على إظهاره والتحدث به كثير من الشر ، ألا ترى أن بعض الناس إذا علم أن ما يطالب به من الصلح كان بأمر فلان من الناس لا يستجيب ولا يقبل ، أو يصده عن الرضا به ذكره بين الناس وعلمه بأنه كان بسعى وتواطؤ.

أخرج البيهقي عن أبى أيوب الأنصاري : أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له «يا أبا أيوب ، ألا أدلك على صدقة خير لك من حمر النّعم؟ فقال بلى يا رسول الله ، قال تصلح بين الناس إذا تفاسدوا ، وتقرّب بينهم إذا تباعدوا» وعن عبد الله بن عمر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «أفضل الصدقة إصلاح ذات البين».

(وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً) أي ومن يفعل هذه الأعمال الثلاثة من الطاعات لوجه الله وطلب مرضاته فإن الله سيؤتيه الثواب العظيم والأجر الجزيل ، وإنما تنال مرضاة الله بالشيء إذا فعل على الوجه الذي يحصل به الخير ويتم به النفع الذي شرع لأجله ، وبذا ترقى روح الفاعل له ارتقاء تصل به إلى ذلك الفضل وتنال قربا معنويا من الله وتصير أهلا للجزاء الأوفى فى حياة أشرف من هذه الحياة وأرقى.

١٥٤

والخلاصة ـ إن ابتغاء مرضاته إنما تطلب بالإخلاص وعدم إرادة السمعة والرياء كما يفعل المتفاخرون من الأغنياء (تصدقنا. أعطينا منحنا. عملنا وعملنا) فهؤلاء إنما يبتغون الربح بما يبذلون أو يعملون لا مرضاة لله تعالى. ولذلك يشق عليهم أن بكون خفيا ، وأن يخلصوا فى الحديث عنه نجيّا ، لأن الاستفادة منه بجذب القلوب إليهم ، وتسخير الناس لخدمتهم ، ورفعهم لمكانتهم ، إنما تكون بإظهاره لهم ليتعلق الرجاء فيهم.

وبعد أن وعد الله بالجزاء الحسن من يتناجون بالخير ويبتغون نفع الناس مرضاة الله عز وجل ـ أوعد الذين يتناجون بالشر ويبيّتون ما يكيدون به للناس فقال :

(وَمَنْ يُشاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ ما تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَساءَتْ مَصِيراً) أي ومن يشاقق الرسول بارتداده عن الإسلام وإظهار عداوته له من بعد ما ظهرت له الهداية على لسانه وقامت عليه الحجة ويتبع سبيلا غير سبيل أهل الهدى ـ نوله ما تولى : أي نتركه وما اختار لنفسه ونكله إلى ما توكل عليه.

وفى هذا بيان لسنة الله فى عمل الإنسان ، وإيضاح لما أوتيه من الإرادة والاستقلال والعمل بالاختيار ، فالوجهة التي يتولاها ويختارها لنفسه يوليه الله إياها : أي يجعله واليا لها وسائرا على طريقها ، فلا يجد من القدرة الإلهية ما يجبره على ترك ما اختار لنفسه بحسب الاستعداد والإدراك وعمل ما يرى أنه خير له وأنفع فى عاجله أو آجله أو فيهما معا ، ثم ندخله جهنم ونعذبه أشد العذاب ، لأنه استحب العمى على الهدى وعاند الحق واتبع الهوى ، وما أقبحها عاقبة لمن تفكر وتدبر! وقد اشترط فى هذا الوعيد أن يتبين له الهدى أما من لم يتبين له فلا يدخل فيه وهم أصناف : فمنهم من نظر فى الدليل ولم يظهر له الحق وبقي متوجها إلى طلبه بتكرار النظر والاستدلال مع الإخلاص وهذا معذور غير مؤاخذ ، ومنهم من لم تبلغه الدعوة الإسلامية أو بلغته مشوهة معكوسة ككثير من أهل أوربا فى العصر الحاضر ، وحال هؤلاء كحال من سبقهم ، ومنهم من اتبع الهدى تقليدا لمن يثق به كآبائه وخاصة أهله ،

١٥٥

وهذا لم يتبين له الهدى ، ولذلك يتركه إلى كل ما يقره عليه أهله ورؤساؤه من البدع والضلالات.

(إِنَّ اللهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً بَعِيداً (١١٦) إِنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إِلاَّ إِناثاً وَإِنْ يَدْعُونَ إِلاَّ شَيْطاناً مَرِيداً (١١٧) لَعَنَهُ اللهُ وَقالَ لَأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبادِكَ نَصِيباً مَفْرُوضاً (١١٨) وَلَأُضِلَّنَّهُمْ وَلَأُمَنِّيَنَّهُمْ وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آذانَ الْأَنْعامِ وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللهِ وَمَنْ يَتَّخِذِ الشَّيْطانَ وَلِيًّا مِنْ دُونِ اللهِ فَقَدْ خَسِرَ خُسْراناً مُبِيناً (١١٩) يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ وَما يَعِدُهُمُ الشَّيْطانُ إِلاَّ غُرُوراً (١٢٠) أُولئِكَ مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَلا يَجِدُونَ عَنْها مَحِيصاً (١٢١) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً وَعْدَ اللهِ حَقًّا وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللهِ قِيلاً (١٢٢))

تفسير المفردات

يدعون : أي يتوجهون ويطلبون منها المعونة لهيبة غيبية لا يعقل الإنسان معناها ، إلا إناثا : أي أمواتا ، والعرب تطلق على الميت أنثى لضعفه وعجزه ، والشيطان هو الخبيث المؤذى من الجن والإنس ، والمريد والمارد من مرد على الشيء إذا مرن عليه حتى صار يأتيه بلا تكلف ، والمراد أنه مرد على الإغواء والإضلال أو تمرد واستكبر عن الطاعة ، واللعن : هو الطرد والإبعاد مع السخط والإهانة ، والنصيب : الحصة والسهم من الشيء ، والمفروض : المعيّن ، والأمانى : جمع أمنية ، يقال تمنى الشيء إذا أحب أن يكون له وإن لم يتخذ له أسبابه ، والتمني : تقدير شىء فى النفس وتصويره فيها سواء أكان عن تخمين وظن أم كان عن رؤية وبناء على أصل ، ولكنه يغلب فيما يبنى على الحدس والتخمين وما لا حقيقة له ،

١٥٦

البتك : القطع ، وسيف باتك : أي قاطع والتبتيك : التقطيع ، والغرور : الباطل ، والمحيص المهرب والمخلص ، يقال : وقعوا فى حيص بيص وفى حاص باص : أي فى أمر يعسر التخلص منه.

المعنى الجملي

علمت فيما سلف أن قوله تعالى : إنا أنزلنا إليك إلخ نزلت فى شأن طعمة بن أبيرق سارق الدرع ورميه اليهودي بسرقته ، وأن قوله : ومن يشاقق الرسول إلخ نزلت فى ارتداده عن الدين ولحوقه بالمشركين ، وهنا ذكر أنه لو لم يرتد لم يكن محروما من رحمة الله ولكنه بارتداده صار بينه وبين رحمته حجاب أيما حجاب فإن كل ذنب يجوز أن يغفره الله للناس إلا ذنب الشرك ، فإن صاحبه مطرود من عفوه ورحمته.

الإيضاح

(إِنَّ اللهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ)) تقدم هذا النص بعينه فى غرض آخر من هذه السورة ، وأعاد هنا مرة أخرى ، لأنه إنما ترجى الهداية والموعظة بإبراز المعاني التي يراد إيداعها فى نفوس السامعين فى كل سياق يقصد فيه توجيها إليها وإعدادها لقبولها ، ولن يتم ذلك إلا بتكرار المقاصد الأساسية من تلك المعاني حتى تتمكن فى النفوس بذلك التكرار ، ومن ثم نرى رجال الدين والسياسة الذين عرفوا سنن الاجتماع وفهموا طبائع البشر وأخلاقهم يكررون فى خطبهم ومقالاتهم ، أغراضهم ومقاصدهم التي ينشرونها فى الصحف والكتب ، فإن الذهن إذا تكرر عليه مدح الشيء أو ذمه أثر فيه.

المعنى ـ أكد الله لعباده أنه لا يغفر البتة لأحد أشرك به سواه ، وأنه قد يغفر لمن يشاء من المذنبين مادون الشرك من الذنوب فلا يعذبهم عليه.

ذاك أن الشرك هو منتهى فساد الأرواح وضلال العقول ، فكل خير يلابسه لا يقوى على إضعاف مفاسده وآثامه والعروج بها إلى جوار ربها ، إذ أنها تكون

١٥٧

موزعة بين شركاء يحولون بينها وبين الخلوص إليه عز وجل ، والله لا يقبل إلا ما كان خالصا له.

وبعض الناس ممن يسمون أنفسهم بالموحدين يفعلون كما يفعل سائر المشركين ، فيدعون حين يشتد الكرب ويعظم الخطب غير الله وحده أو مع الله ولا يسمون عملهم دعاء ، بل يسمونه توسلا واستشفاعا ، ويسمون من يدعونهم أولياء وشفعاء ، ولو لم يكن منهم إلا هذا الدعاء لقضاء الحاجات ، وتفريج الكربات ، لكفى ذلك عبادة وشركا بالله ، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم «الدعاء هو العبادة» رواه أبو داود: أي إن العبادة جدّ العبادة إنما تكون فى الدعاء الذي يفيض على اللسان من قرارة النفس حين وقوع الخطب ، واشتداد الكرب ، وهذا ما تسمعه من أصحاب الحاجات ، عند حدوث الملمات ، وفى هياكل العبادات ، ولدى قبور الأموات ، فكل ذلك يمثل الخشوع والخضوع ، ويذرف من العين الدموع «وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللهِ أَنْداداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ».

وما عدا هذا الدعاء من العبادات ، جلّه يفعل بالتعليم ، ويكون فى الغالب خاليا من الشعور الذي به يكون القول أو الفعل عبادة ، إذ هو خال من معنى العبادة وروحها وهو الشعور بالسلطة الغيبية التي هى وراء الأسباب العادية ، ولا سيما الأدعية التي تكون فى الصلوات أو فى غير الصلوات ، إذ نرى الحافظ لها يحرك بها لسانه وقلبه مشغول بشواغل أخرى ، فمثل هذا لا يمثّل العبادة الحقة التي تملأ القلب نورا ، والنفس استسلاما وخضوعا ، والروح طهارة وزكاء.

(وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً بَعِيداً) أي ومن يشرك بالله شيئا فيدعوه معه ويذكر اسمه مع اسمه ، أو يدعوه وحده ملاحظا أنه يقر به إليه زلفى ـ فقد ضل عن القصد ، وبعد عن سبيل الرشد ضلالا بعيدا فى سبيل الغواية ، لأنه ضلال يفسد العقل ، ويكدّر صفاء الروح ويجعله يخضع لعبد مثله ، ويخضع أمام مخلوق يحاكيه ؛ ويكون عبدا للخرافات والأوهام.

١٥٨

وخلاصة ما تقدم :

١) إن الشرك فى العبادة الذي يتجلى فى الدعاء ، هو أقوى أنواع الشرك ، لأنه يكون باعتقاد ناشىء عن وجدان حاكم على النفس مستعبد لها.

٢) إن دون هذا ـ الشرك المبنى على الفكر والنظر الذي يحاجك فيه صاحبه بالشبهات ، المنتزعة من تشبيه الخالق بالمخلوق ، وقياسه على ظلمة الملوك ، كقولهم : إن الإنسان الخاطئ لا يليق أن يخاطب الإله العظيم مباشرة ، بل عليه أن يتخذ له وليا يكون واسطة بينه وبينه ، كما يتخذ آحاد الرعية الوسائط إلى الملوك والأمراء من المقربين إليهم.

ومثله من يشرك فى ربوبية الله باتخاذ بعض المخلوقين شارعين يحلّون له ما يرون تحليله ويحرّمون عليه ما يرون تحريمه فيتبعهم فى ذلك ٣) إن الجزاء فى الآخرة يكون تابعا لما تكون عليه النفس فى الدنيا من سلامة العقيدة ، ومقدار درجة الفضيلة ، التي يلازمها فعل الخيرات ، أو فساد الفطرة وخطأ العقيدة ، والتدنس بالرذيلة ، التي يلازمها فعل السيئات.

٤) إن الناس متفاوتون فيما بين ذلك من درجات ودركات ، أخسها الشرك وأعلاها التوحيد ، ولكل منهم صفات تناسبها ، فلو جاز أن يغفر الشرك ويجعل صاحبه مع النبيين والصديقين والملائكة المقربين لكان ذلك نقضا لسنة الله التي لا تبديل فيها ولا تغيير.

(إِنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا إِناثاً) أي هؤلاء المشركون لا يدعون لقضاء حاجتهم وتفريج كربهم إلا أمواتا فقد كانوا يعظمون الموتى ويدعونها كما يفعل ذلك كثير من أهل الكتاب ومسلمى هذه القرون ، أو إلا إناثا كاللات والعزّى ، وقد كان لكل قبيلة صنم يسمونه أنثى بنى فلان (وَإِنْ يَدْعُونَ إِلَّا شَيْطاناً مَرِيداً) أي وما يعبدون بعبادتها إلا شيطانا مريدا ، إذ هو الذي أمرهم بعبادتها وأغراهم بها ، فكانت طاعتهم له عبادة.

١٥٩

(لَعَنَهُ اللهُ) أي أبعده الله عن رحمته وفضله ، فإنه داعية الشر والباطل فى نفس الإنسان بما يوسوس فى صدره ويعده ويمنّيه.

(وَقالَ لَأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبادِكَ نَصِيباً مَفْرُوضاً) النصيب المفروض هو ما للشيطان فى نفس كل أحد من الاستعداد للشر ، إذ ما من إنسان إلا يشعر من نفسه بوسوسة الشيطان ، فإن لم يكن بالشرك فبالمعصية والإصرار عليها أو الرياء فى العبادة ، لكن الله أخبر أنه ليس له سلطان على عباده المخلصين ، وقد جاء فى القرآن والحديث ما يدل على هذا.

والخلاصة ـ إن الشيطان خلق متمردا على الحق ، بعيدا من الخير ، مغرى بإغواء البشر وإضلالهم.

(وَلَأُضِلَّنَّهُمْ وَلَأُمَنِّيَنَّهُمْ) إضلال الشيطان لمن يضلهم هو صرفهم عن العقائد الصحيحة ، وشغلهم عن الدلائل الموصلة إلى الحق والهدى ، وتمنيته لهم : تزيينه لهم الاستعجال باللذات الحاضرة والتسويف بالتوبة والعمل الصالح.

والخلاصة ـ إن من شأن الشيطان ومقتضى طبعه إضلال العباد وشغلهم بالأمانى الباطلة ، كرحمة الله للمجرمين بغير توبة ، والخروج من النار بعد دخولها بالشفاعة ، وتزيين لذّات الحياة العاجلة على ثواب الآجلة ونعيمها.

(وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آذانَ الْأَنْعامِ) أي ولآمرنهم بالضلال فليقطّعنّ آذان الأنعام بموجب أمرى ، والمراد به ما كانوا يفعلونه من قطع آذان بعض الأنعام لأصنامهم كالبحائر التي كانوا يقطعون آذانها أو يشقونها شقا واسعا ويتركون الحمل عليها ، وهذا من سخيف أعمالهم الوثنية الدالة على ضعف عقولهم.

(وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللهِ) تغيير خلق الله وسوء التصرف فيه شامل للتغيير الحسى كالخصاء ، وروى ذلك عن ابن عباس وأنس بن مالك ، وللتغيير المعنوي. وروى أيضا عن ابن عباس وغيره ، وعلى هذا فالمراد بخلق الله دينه ، لأنه دين الفطرة وهى

١٦٠