تفسير المراغي - ج ٥

أحمد مصطفى المراغي

الخلقة قال تعالى : «فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَتَ اللهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللهِ ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ» أي إنه يراد به تغيير الفطرة الإنسانية عما فطرت عليه من الميل إلى النظر والاستدلال وطلب الحق وتربيتها وتعويدها الأباطيل والرذائل والمنكرات ، فالله قد أحسن كل شىء خلقه ، وهؤلاء يفسدون ما خلق الله ويطمسون عقول الناس.

والخلاصة ـ إن الدين الفطري الذي هو من خلق الله وآثار قدرته ليس هو مجموع الأحكام التي جاء بها الرسل ليبلغوها للناس ، بل هو ما أودعه الله فى فطرة البشر من توحيده والاعتراف بقدرته وجلاله ، وهو ما أشار إليه فى الحديث «كل مولود يولد على الفطرة».

ومن أهم أسس هذا الدين الفطرية العبودية للسلطة الغيبية التي تنتهى إليها الأسباب ، وتقف دون الوصول إلى حقيقتها العقول.

(وَمَنْ يَتَّخِذِ الشَّيْطانَ وَلِيًّا مِنْ دُونِ اللهِ فَقَدْ خَسِرَ خُسْراناً مُبِيناً) أي ومن يتبع الشيطان ووسوسته وإغواءه وهو البعيد من أسباب رحمة الله وفضله ، فقد خسر خسرانا ظاهرا فى الدنيا والآخرة ؛ إذ أنه يكون أسير الأوهام والخرافات ، يتخبط فى عمله على غير هدى ، ويفوته الانتفاع التام بما وهبه الله من العقل والمواهب الكسبية التي أوتيها الإنسان وميّز بها من بين أصناف الحيوان.

(يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ) فيعد الناس الفقر إذا هم أنفقوا شيئا من أموالهم فى سبيل الله ، ويوسوس لهم بأن أموالهم تنفد أو تقلّ ويصبحون فقراء أذلاء ، ويعدهم الغنى والثروة حين الإغراء بالقمار ، ويعد من يغريه بالتعصب لرأيه وإيذاء مخالفه فيه من أهل دينه للجاه والشهرة وبعد الصيت.

ويؤيد هذه الوعود بالأمانى الباطلة يلقيها إليهم.

١٦١

ويدخل فى وعد الشيطان وتمنيته ما يكون من أوليائه من الإنس ، وهم قرناء السوء الذين يزينون للناس الضلال والمعاصي ويمدونهم فى الطغيان وينشرون مذاهبهم الفاسدة وآراءهم الضالة التي يبتغون بها الرفعة والجاه والمال ، وهؤلاء يوجدون فى كل زمان ومكان.

(وَما يَعِدُهُمُ الشَّيْطانُ إِلَّا غُرُوراً) أي وما يعدهم الشيطان إلا باطلا يغترون به ولا يملكون منه ما يحبون ، فيزين لهم النفع فى بعض الأشياء وهى مشتملة على كثير من الآلام والمضارّ ؛ فالزانى أو المقامر أو شارب الخمر يخيل إليه أنه يتمتع باللذات بينما هو فى الحقيقة يتمتع بلذائذ وقتية تعقبها آلام دنيوية طويلة المدى ، وخيمة العواقب ، إلى عذاب أخروى لا يعلم كنهه إلا من أحاط يكل شىء علما.

وبعد أن بين حال أولياء الشيطان وما يعدهم به الشيطان ـ ذكر عاقبتهم فقال :

(أُولئِكَ مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَلا يَجِدُونَ عَنْها مَحِيصاً) أي أولئك الذين يعبث بهم الشيطان بوسوسته ، أو بإغواء دعاة الباطل من أوليائه ، مأواهم جهنم لا يجدون عنها مهربا يفرّون إليه ، إذ هم بطبيعتهم ينجذبون إليها ويتهافتون عليها تهافت الفراش على النار ، فتصلى وجوههم وجنوبهم وظهورهم.

ثم بعدئذ ذكر عاقبة من لا يستجيب دعوة الشيطان ولا يصيخ لأمره ونهيه فقال :

(وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً) أي إنهم سيتمتعون بالنعيم المقيم فى جنات تجرى من تحتها الأنهار خالدين فيها أبدا ، وذلك هو الفوز العظيم لمن سمت نفسه عن دنس الشرك ، فلم تجعل لله أندادا ولم تحط بها الخطيئة فى صباحها ومسائها فى غدوّها ورواحها.

ثم ذكر أن ما وعدهم به هو الوعد الحق الذي لا شك فيه فقال :

(وَعْدَ اللهِ حَقًّا ، وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللهِ قِيلاً؟) أي ذلك الذي وعدكم الله به هو الوعد الحق ، فهو القادر على أن يعطى ما وعد بفضله وجوده ، وواسع كرمه ورحمته ، وأما وعد الشيطان فهو غرور من القول وزور ، إذ هو عاجز عن الوفاء فهو يدلى إلى

١٦٢

أوليائه بباطله ، فحقه ألا يستجاب له أمر ولا نهى ، ولا تتّبع له نصيحة ، فوساوسه أباطيل ، وسراب بقيعة يحسبه الظمآن ماء حتى إذا جاءه لم يجده شيئا.

(لَيْسَ بِأَمانِيِّكُمْ وَلا أَمانِيِّ أَهْلِ الْكِتابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ وَلا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللهِ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً (١٢٣) وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلا يُظْلَمُونَ نَقِيراً (١٢٤) وَمَنْ أَحْسَنُ دِيناً مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً وَاتَّخَذَ اللهُ إِبْراهِيمَ خَلِيلاً (١٢٥) وَلِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَكانَ اللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطاً (١٢٦))

تفسير المفردات

الأمانى ، واحدها أمنية : وهى الصورة التي تحصل فى النفس ، من تمنى الشيء وتقديره ، وكثيرا ما يطلق التمني على ما لا حقيقة له ، ومن ثم يعبرون به عن الكذب كما قال عثمان رضي الله عنه : ما تعنّيت ولا تمنّيت منذ أسلمت. وليا : أي يلى أمره ويدفع العقاب عنه ، ولا نصيرا : أي ينصره وينقذه مما يحل به ، والنقير والنقرة : النكتة التي تكون فى ظهر النواة ، وبها يضرب المثل فى القلة ، الحنيف : المائل عن الزيغ والضلال ، والخليل : المحب لمن يحبه ، من الخلة (بالضم) وهى المودة والمحبة التي تتخلل النفس وتمازجها قال شاعرهم :

قد تخللّت مسلك الروح منى

وبذا سمى الخليل خليلا

محيطا : أي عالما بالأشياء قادرا عليها.

١٦٣

المعنى الجملي

بعد أن بين سبحانه فى الآيات السالفة أن الشيطان يعدهم ويمنيهم ، ويدخل فى تلك الأمانى ما كان يمنّيه أهل الكتاب من الغرور بدينهم ، إذ كانوا يرون أنهم شعب الله الخاص ، ويقولون : إنهم أبناء الله وأحباؤه ، وأن النار لن تمسهم إلا أياما معدودات ، وقد سرى لهم هذا الغرور من اتكالهم على الشفاعات وزعمهم أن فضلهم على غيرهم من البشر بمن بعث فيهم من الأنبياء ، فهم يدخلون الجنة بكرامتهم لا بأعمالهم.

حذّرنا فى هذه الآيات الكريمات أن نكون مثلهم ، وكانت هذه الأمانى قد دبّت إلى المسلمين فى عصر النبي صلى الله عليه وسلم كما دل على ذلك قوله «أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللهِ وَما نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلُ» الآية ، فلضعفاء الإيمان من المسلمين فى الصدر الأول ولأمثالهم فى كل زمان أنزلت هذه الموعظة ، ولو تدبروها لما كان لهذه الأمانى عليهم من سلطان.

أخرج ابن أبى شيبة عن الحسن موقوفا. «ليس الإيمان بالتمني ولكن ما وقر فى القلب وصدّقه العمل» وقال الحسن : إن قوما غرّتهم المغفرة فخرجوا من الدنيا وهم مملوءون بالذنوب ، ولو صدقوا لأحسنوا العمل.

وأخرج ابن جرير وابن أبى حاتم عن السدّى قال «التقى ناس من المسلمين واليهود والنصارى فقال اليهود للمسلمين : نحن خير منكم ، ديننا قبل دينكم وكتابنا قبل كتابكم ونبينا قبل نبيكم ونحن على دين إبراهيم ولن يدخل الجنة إلا من كان هودا. وقالت النصارى مثل ذلك ، فقال المسلمون : كتابنا بعد كتابكم ونبينا بعد نبيكم ، وقد أمرتم أن تتبعونا وتتركوا أمركم ، فنحن خير منكم ، نحن على دين إبراهيم وإسماعيل وإسحاق

١٦٤

ولن يدخل الجنة إلا من كان على ديننا ، فأنزل الله ليس بأمانيكم إلخ الآية» فأفلج الله حجة المسلمين على من ناوأهم من أهل الأديان الأخرى.

الإيضاح

(لَيْسَ بِأَمانِيِّكُمْ وَلا أَمانِيِّ أَهْلِ الْكِتابِ) أي ليس فضل الدين وشرفه ولا نجاة أهله به أن يقول القائل منهم : إن دينى أفضل وأكمل ، بل عليه أن يعمل بما يهديه إليه ، فإن الجزاء إنما يكون على العمل ، لا على التمني والغرور : فليس أمر نجاتكم ولا أمر نجاة أهل الكتاب منوطا بالأمانى فى الدين ، فالأديان لم تشرع للتفاخر والتباهي ، ولا تحصل فائدتها بالانتساب إليها دون العمل بها.

ثم أكد ذلك وبيّنه بقوله :

(مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ) أي إن من يعمل سوءا يلق جزاءه ، لأن الجزاء بحسب سننه تعالى أثر طبيعى للعمل ، لا يتخلف فى اتباع بعض الأنبياء وينزل بغيرهم كما يتوهم أصحاب الأمانى والظنون ، فعلى الصادق فى دينه أن يحاسب نفسه على العمل بما هداه إليه كتابه ورسوله ، ويجعل ذلك المعيار فى سعادته ، لا أن يجعل تكأته أن هذا الكتاب أكمل ، ولا أن ذلك الرسول أفضل.

روى «أنه لما نزل قوله (مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ) راع ذلك أبا بكر وأخافه ، فسأل النبي صلى الله عليه وسلم ، قال : من ينج مع هذا يا رسول الله؟ فقال له النبي صلى الله عليه وسلم : أما تحزن ، أما تمرض ، أما يصيبك البلاء؟ قال بلى يا رسول الله قال هو ذاك».

وأخرج مسلم وغيره عن أبى هريرة قال : لما نزلت هذه الآية شق ذلك على المسلمين وبلغت منهم ما شاء الله تعالى فشكوا ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : «سدّدوا وقاربوا ، فإن فى كل ما أصاب المسلم كفارة حتى الشوكة يشاكها والنّكبة ينكبها» والأحاديث بهذا المعنى كثيرة ، ومن ثم يرى عامة العلماء أن الأمراض والأسقام ومصايب الدنيا وهمومها يكفر الله بها الخطايا.

١٦٥

ويرى بعضهم أن المصايب لا تكفّر إلا إذا أثرت فى النفس تأثيرا صالحا وكانت سببا فى قوة الإيمان وترك السوء والتوبة منه والرغبة فى صالح العمل بما تحدثه من العبرة فتكون مربّية لعقله ونفسه ، أما إذا ضاعفت الذنوب كالمصايب التي تحمل صاحبها على الجزع ومهانة النفس وضعف الإيمان إلى ذنوب أخرى لم يكونوا ليقترفوها لولا المصيبة فلا تكفر شيئا من الخطايا بل تزيدها.

(وَلا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللهِ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً) أي من يعمل السوء ويستحق العقاب عليه لا يجد له وليا غير الله يتولى أمره ويدفع الجزاء عنه ، ولا نصيرا ينصره وينقذه مما يحلّ به ؛ لا من الأنبياء الذين تفاخر بهم ولا من غيرهم من المخلوقات التي اتخذها بعض البشر آلهة وأربابا ، فكل تلك الأمانى تكون أضغاث أحلام ، وإنما يكون المدار فى ذلك على الإيمان والأعمال كما قال :

(وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلا يُظْلَمُونَ نَقِيراً) أي ومن يعمل كل ما يستطيع عمله من الأعمال التي تصلح بها النفوس فى أخلاقها وآدابها وأحوالها الاجتماعية ، سواء كان العامل ذكرا أو أنثى وهو مطمئن القلب بالإيمان ـ فأولئك العاملون المؤمنون بالله واليوم الآخر يدخلون الجنة بزكاء أنفسهم وطهارة أرواحهم ولا يظلمون من أجور أعمالهم شيئا ولو حقيرا كالنقير.

وفى هذه الآية وما قبلها من العبرة والموعظة ما يهدم صروح الأمانى التي يأوى إليها الكسالى وذوو الجهالة من المسلمين الذين يظنون أن الله يحابى من يسمى نفسه مسلما ويفضله على اليهودي والنصراني لأجل هذا اللقب ، فالذين يفخرون بالانتساب إليه وقد نبذوه وراء ظهورهم وجرموا الاهتداء بهديه ، هم فى ضلال مبين.

وبعد أن بين سبحانه أن النجاة والسعادة منوطان بصالح الأعمال مع الإيمان أردف ذلك ذكر درجات الكمال فقال :

(وَمَنْ أَحْسَنُ دِيناً مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ) أي لا أحد أحسن ممن جعل قلبه خالصا لله وحده ، فلا يتوجه إلى غيره فى دعاء ولا رجاء ، ولا يجعل بينه وبينه حجابا

١٦٦

من الوسطاء والشفعاء ، ولا يرى فى الوجود إلا هو ، ويعتقد أنه سبحانه ربط الأسباب بالمسببات ، فلا يطلب شيئا إلا من خزائن رحمته ، ولا يأتى بيوت هذه الخزائن إلا من مسالكها ، وهى السنن والأسباب التي سنها فى الخليقة.

وهو مع هذا الإيمان الكامل والتوحيد الخالص ، محسن للعمل متحلّ بأحسن الأخلاق والفضائل.

وقد عبر عن توجه القلب بإسلام الوجه ، لأن الوجه أعظم مظهر لما فى النفس من إقبال وإعراض ، وسرور وكآبة ، وما فيه هو الذي يدل على ما فى السريرة.

(وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً) أي واتبع إبراهيم فى حنيفيته التي كان عليها ، بميله عن الوثنية وأهلها ، وتبريه مما كان عليه أبوه وقومه منها ، قال تعالى : «وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَراءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ. إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ. وَجَعَلَها كَلِمَةً باقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ».

(وَاتَّخَذَ اللهُ إِبْراهِيمَ خَلِيلاً) أي اصطفاه الله لإقامة دينه فى بلاد غلبت عليها الوثنية ، وأفسد الشرك عقول أهلها ، وقد بلغ من الزلفى عند ربه ما صح به أن يسمى خليلا ، فقد اختصه بكرامة ومنزلة تشبه الخليل لدى خليله ، ومن كانت له هذه المنزلة كان جديرا أن تتّبع ملّته وتأتسي طريقته.

والخلاصة ـ إنه منّ عليه بسلامة الفطرة وقوة العقل وصفاء الروح وكمال المعرفة وفنائه فى التوحيد.

ثم ذكر ما هو كالعلة لما سبق بقوله :

(وَلِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ) أي إن كل ما فى السموات والأرض ملك له ومن خلقه ، مهما اختلفت صفات المخلوقات ، فجميعها مملوكة عابدة له خاضعة لأمره.

(وَكانَ اللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطاً) إحاطة قهر وتسخير ، وإحاطة علم وتدبير ، وإحاطة وجود ، لأن هذه الموجودات ليس وجودها من ذاتها ولا هى ابتدعت نفسها بل وجودها

١٦٧

مستمد من ذلك الوجود الأعلى ، فالوجود الإلهى هو المحيط بكل موجود ، فوجب أن يخلص له الخلق ، ويتوجه إليه العباد.

وقد جاءت هذه الآية خاتمة لما تقدم لفوائد :

١) بيان الدليل على أنه المستحق وحده لإسلام الوجه له والتوجه إليه فى كل حال لأنه هو المالك لكل شىء ، وغيره لا تملك لنفسه شيئا.

٢) نفى ما يتوهم فى اتخاذ الله إبراهيم حليلا من أن هناك شيئا من المقاربة فى حقيقة الذات والصفات.

٣) التذكير بقدرته تعالى على إنجاز وعده ووعيده فى الآيات التي قبلها ، إذ من له ما فى السموات والأرض خلقا وملكا فهو أكرم من وعد.

(وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّساءِ قُلِ اللهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ وَما يُتْلى عَلَيْكُمْ فِي الْكِتابِ فِي يَتامَى النِّساءِ اللاَّتِي لا تُؤْتُونَهُنَّ ما كُتِبَ لَهُنَّ وَتَرْغَبُونَ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الْوِلْدانِ وَأَنْ تَقُومُوا لِلْيَتامى بِالْقِسْطِ وَما تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللهَ كانَ بِهِ عَلِيماً (١٢٧) وَإِنِ امْرَأَةٌ خافَتْ مِنْ بَعْلِها نُشُوزاً أَوْ إِعْراضاً فَلا جُناحَ عَلَيْهِما أَنْ يُصْلِحا بَيْنَهُما صُلْحاً وَالصُّلْحُ خَيْرٌ وَأُحْضِرَتِ الْأَنْفُسُ الشُّحَّ وَإِنْ تُحْسِنُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً (١٢٨) وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّساءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ فَلا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ فَتَذَرُوها كَالْمُعَلَّقَةِ وَإِنْ تُصْلِحُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللهَ كانَ غَفُوراً رَحِيماً (١٢٩) وَإِنْ يَتَفَرَّقا يُغْنِ اللهُ كُلاًّ مِنْ سَعَتِهِ وَكانَ اللهُ واسِعاً حَكِيماً (١٣٠))

١٦٨

تفسير المفردات

يستفتونك : أي يطلبون منك الفتيا ، يفتيكم : يبين لكم ما أشكل عليكم ، يقال : أفتاء إفتاء وفتيا وفتوى ، وأفتيت فلانا رؤياه عبّرتها له ، ما كتب لهن : أي ما فرض لهن من الميراث ، وأن تقوموا : أي تعنوا عناية خاصة ، بالقسط : أي بالعدل ، خافت : أي توقعت ما تكره بوقوع بعض أسبابه ، أو ظهور بعض أماراته ، نشوزا : ترفعا وتكبرا ، إعراضا : ميلا وانحرافا ، فلا جناح : أي لا إثم ولا حرج ، أحضرت الأنفس الشحّ : أي إن الشح حاضر لها لا يغيب عنها ، المعلّقة التي ليست مطلّقة ولا ذات بعل ، من سعته : من غناه ، واسعا : غنيّا.

المعنى الجملي

كان الكلام أول السورة فى الأحكام المتعلقة بالنساء واليتامى والقرابة ، ومن قوله : واعبدوا الله إلى هنا فى أحكام عامة فى أسس الدين وأصوله وأحوال أهل الكتاب والمنافقين والقتال ـ ثم عاد الكلام هنا إلى أحكام النساء لشعور الناس بالحاجة إلى زيادة البيان فى تلك الأحكام ، فالآيات السالفة أوجبت مراعاة حقوق الضعيفين : المرأة واليتيم وجعلت للنساء حقوقا مؤكدة فى المهر والإرث ، وحرمت ظلمهن ، وأباحت تعدد الزوجات وحددت العدد الذي يحل منهنّ حين الخوف من عدم الظلم ، ولكن ربما يحدث لهم الاشتباه فى بعض الوقائع المتعلقة بها كأن يقع الاشتباه فى حقيقة العدل الواجب بين النساء ، هل يدخل العدل فى الحب أو فى لوازمه من زيادة الإقبال على المحبوبة والتبسط فى الاستمتاع بها أولا ، وهل يحل للرجل أن يمنع اليتيمة ما كتب الله لها من الإرث حين يرغب فى نكاحها؟ وبماذا يصالح امرأته إذا أرادت أن تفتدى منه؟ ـ كل هذا مما تشتد الحاجة إلى معرفته بعد العمل بتلك الأحكام ، فمن ثم جاءت هذه الآيات مبينة أتم البيان لذلك.

١٦٩

أخرج ابن جرير قال : كان لا يرث إلا الرجل الذي قد بلغ أن يقوم فى المال ويعمل فيه ، ولا يرث الصغير ولا المرأة شيئا ، فلما نزلت آيات المواريث فى سورة النساء شق ذلك على الناس وقالوا : أيرث الصغير الذي لا يقوم فى المال والمرأة التي هى كذلك فيرثان كما يرث الرجل ، فرجوا أن يأتى فى ذلك حدث من السماء فانتظروا ، فلما رأوا أنه لا يأتى حدث قالوا لئن تم هذا إنه لواجب ما عنه بدّ ، ثم قالوا سلوا ، فسألوا النبي صلى الله عليه وسلم فأنزل الله تعالى هذه الآية.

الإيضاح

(وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّساءِ) أي يطلبون منك الفتيا فى شأنهن ببيان ما غمض وأشكل من أحكامهن ، من جهة حقوقهن المالية والزوجية ، كالعدل فى المعاملة حين العشرة ، وحين الفرقة والنشوز.

(قُلِ اللهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ) بما يوحيه إليك من الأحكام فى كتابه.

(وَما يُتْلى عَلَيْكُمْ فِي الْكِتابِ فِي يَتامَى النِّساءِ اللَّاتِي لا تُؤْتُونَهُنَّ ما كُتِبَ لَهُنَّ وَتَرْغَبُونَ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الْوِلْدانِ) أي ويفتيكم فى شأنهن ما يتلى عليكم فى الكتاب مما نزل قبل هذا الاستفتاء فى أحكام معاملة يتامى النساء اللاتي قد جرت عادتكم ألا تعطوهن ما كتب لهن من الإرث إذا كان فى أيديكم ، لولايتكم عليهن وترغبون فى أن تنكحوهن لجمالهن والتمتع بأموالهن ، أو عن أن تنكحوهن لدمامتهن فلا تنكحوهن ولا تنكحونهن غيركم حتى يبقى ما لهن فى أيديكم ، وقد كان الرجل منهم يضم اليتيمة ومالها إلى نفسه ، فإن كانت جميلة تزوجها وأكل المال ، وإن كانت دميمة عضلها عن التزوج حتى تموت فيرثها ، وما يتلى عليكم أيضا فى شأن المستضعفين من الولدان الذين لا تعطونهم نصيبهم من الميراث ، وقد كانوا إنما يورّثون الرجال دون الأطفال والنساء.

والخلاصة ـ إن الذي يتلى عليهم فى الضعيفين : المرأة واليتيم هو ما تقدم فى أول

١٧٠

السورة وأن الله يذكرهم بتلك الآيات المفصلة ليتدبروها ويتأملوا معانيها ثم يعملوا بها ، إذ قد جرت طباع البشر أن يتغافلوا عن دقائق الأحكام والعظات التي ترجعهم عن أهوائهم وتؤنبهم على اتباع شهواتهم.

(وَأَنْ تَقُومُوا لِلْيَتامى بِالْقِسْطِ) أي يفتيكم أن تقوموا لليتامى من هؤلاء النساء والولدان المستضعفين بالقسط ، بأن تهتموا بهم اهتماما خاصا وتعنوا بشأنهم ويجرى العدل فى معاملتهم على أكمل الوجوه وأتمها ، فإن ذلك هو الواجب الذي لا هوادة فيه ، ولا خيرة فى شأنه.

ثم رغبهم فى العمل بما فيه فائدة لليتامى ، وحبب إليهم النّصفة فقال :

(وَما تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللهَ كانَ بِهِ عَلِيماً) أي وما تفعلوه من الخير لليتامى فهو مما لا يعزب عن علمه ، وهو مجازيكم به ولا يضيع عنده شىء منه.

(وَإِنِ امْرَأَةٌ خافَتْ مِنْ بَعْلِها نُشُوزاً أَوْ إِعْراضاً) أي وإن توقعت من بعلها نشوزا وترفعا عليها بما لاح لها من مخايل ذلك وأماراته ، بأن منعها نفسه ونفقته والمودة والرحمة التي تكون بين الرجل والمرأة ، أو آذاها بسبّ أو ضرب أو نحو ذلك ، أو إعراضا عنها بأن قلل من محادثتها ومؤانستها لبعض أسباب من طعن فى سن أو دمامة أو شىء فى الأخلاق أو الخلق أو ملال لها أو طموح إلى غيرها أو نحو ذلك.

والواجب عليها أن تتثبت فيما تراه من أمارات الإعراض فربما كان الذي شغله عن مسامرتها والرغبة عن مباعلتها ، مسائل من مشاكل الحياة الدنيوية أو الدينية ، وهى أسباب خارجية لا دخل له فيها ، ولا تعلق لها بكراهتها والجفوة عنها ، وحينئذ عليها أن تعذره ، وتصبر على ما لا تحب من ذلك ، أما إذا استبان لها أن ذلك لكراهته إياها ورغبته عنها.

(فَلا جُناحَ عَلَيْهِما أَنْ يُصْلِحا بَيْنَهُما صُلْحاً) أي فلا بأس بهما فى أن يصلحا بينهما صلحا كأن تسمح له ببعض حقها عليه فى النفقة أو المبيت معها ، أو بحقها كله فيهما أو فى أحدهما ، لتبقى فى عصمته مكرّمة ، أو تسمح له ببعض المهر ومتعة الطلاق أو بكل

١٧١

ذلك ليطلقها كما جاء فى قوله تعالى : «فَلا جُناحَ عَلَيْهِما فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ» وإنما يحل له ذلك إذا كان برضاها ، لاعتقادها أن فى ذلك الخير لها بلا ظلم لها ولا إهانة.

وقد روى أن امرأة أراد زوجها أن يطلقها لرغبته عنها وكان لها منه ولد فقالت له : لا تطلقنى ودعنى أقوم على ولدي وتقسم لى فى كل شهرين ، فقال إن كان هذا يصلح فهو أحبّ إلىّ ، فأقرها على ما طلبت.

(وَالصُّلْحُ خَيْرٌ) من التسريح والفراق ، لأن رابطة الزوجية من أعظم الروابط وأحقها بالحفظ ، وميثاقها من أغلظ المواثيق.

وعروض الخلاف بين الزوجين وما يترتب عليه من نشوز وإعراض وسوء معاشرة من الأمور الطبيعية التي لا يمكن زوالها من البشر.

وأجمل ما جاء فى الإسلام لمنعه هو المساواة بينهما فى كل شىء إلا القيام برياسة الأسرة ، لأنه أقوى من المرأة بدنا وعقلا وأقدر على الكسب وعليه النفقة كما جاء فى قوله «وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ».

فيجب على الرجل أن يعاشرها بالمعروف وأن يتحرى العدل بقدر المستطاع.

(وَأُحْضِرَتِ الْأَنْفُسُ الشُّحَّ) أي إن النفوس عرضة له ، فإذا عرض لها داع من دواعى البذل ألمّ بها الشح والبخل ونهاها أن تبذل ما ينبغى بذله لأجل الصلح ، فالنساء حريصات على حقوقهن فى القسم والنفقة وحسن العشرة ، والرجال حريصون على أموالهم أيضا ، فينبغى أن يكون التسامح بينهما كاملا ، إذ هما قد ارتبطا ارتباطا وثيقا بذلك الميثاق العظيم وأفضى بعضهما إلى بعض.

ثم رغب فى بقاء الرابطة الزوجية جهد المستطاع فقال :

(وَإِنْ تُحْسِنُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً) أي وإن تحسنوا العشرة فيما بينكم وتتقوا أسباب النشوز والإعراض وما يترتب عليهما من الشقاق ، فإن الله كان خبيرا بذلك لا يخفى عليه شىء منه ، فهو يجازى من أحسن الحسنى ويثيبه على ذلك.

ثم بين أن العدل بين النساء فى حكم المستحيل ، فعلى الرجل أن يعمل جهد المستطاع قال

١٧٢

(وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّساءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ) أي مهما حرصتم على العدل والمساواة بين المرأتين ، حتى لا يقع ميل إلى إحداهما ولا زيادة ولا نقص ، فلن تستطيعوا ذلك ولو قدرتم عليه لما قدرتم على إرضائها به ، ومن ثم رفع الله ذلك عنكم وما كلفكم إلا العدل فيما تستطيعون بشرط أن تبذلوا فيه وسعكم ، لأن الباعث على الكثير من هذا الميل هو الوجدان النفسي والميل القلبي الذي لا يملكه المرء ولا يحيط به اختياره ولا يملك آثاره الطبيعية ، ولهذا خفف الله ذلك عنكم وبين أن العدل الكامل غير مستطاع ولا يتعلق به تكليف.

(فَلا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ) أي وإذا كان ذلك غير مستطاع فعليكم ألا تميلوا كل الميل إلى من تحبون منهن وتعرضوا عن الأخرى.

(فَتَذَرُوها كَالْمُعَلَّقَةِ) أي فتجعلوها كأنها ليست بالمتزوجة ولا بالمطلقة ، فإن الذي يغفره لكم من الميل هو ما لا يدخل فى اختياركم ولا يكون فيه تعمد التقصير أو الإهمال ، أما ما يقع تحت اختياركم فعليكم أن تقوموا به ، إذ لا هوادة فيه.

(وَإِنْ تُصْلِحُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللهَ كانَ غَفُوراً رَحِيماً) أي وإن تصلحوا فى معاملة النساء وتتقوا ظلمهن وتفضيل بعضهن على بعض فيما يدخل فى اختياركم كالقسم والنفقة فإن الله يغفر لكم ما دون ذلك مما لا يدخل فى اختياركم كالحب وزيادة الإقبال وغير ذلك.

وفى الآية عظة وعبرة لمن يتأملها من عبّاد الشهوات الذين لا يقصدون من الزوجية إلا التمتع باللذات الحيوانية دون مراعاة أهم أسس الحياة الزوجية التي ذكرها الله فى قوله : «وَمِنْ آياتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً لِتَسْكُنُوا إِلَيْها وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً» ولا يلاحظون أمر النسل وإصلاح الذرية ، هؤلاء السفهاء الذوّاقون الذين يكثرون من الزواج ما استطاعوا ، ولا باعث لهم إلا حب التنقل والملل من السابقة ، ولا يخطر لهم أمر العدل فى بال ـ عليهم أن يتقوا الله ويكفروا فى ميثاق الزوجية وفى حقوقها المؤكدة وفى عاقبة نسلهم وشؤون ذريتهم وفى حال أمتهم التي تتألف من هذه البيوت المبنية على أسس الشهوات والأهواء وفى حال ذريتهم التي تنشأ بين أمهات متعاديات.

١٧٣

ثم بين أن الفراق قد يكون فيه الخير إذا لم يمكن الوفاق فقال :

(وَإِنْ يَتَفَرَّقا يُغْنِ اللهُ كُلًّا مِنْ سَعَتِهِ) أي وإن يتفرق الزوجان اللذان يخافان ألا يقيما حدود الله ، بأن كره الرجل امرأته لدمامتها أو كبرها وأراد أن يتزوج غيرها أو كان عنده زوجان ولم يقدر على العدل بينهما ـ يغن الله كلا منهما عن صاحبه بسعة فضله ووافر إحسانه وجوده ، فقد يسخّر للمرأة رجلا خيرا منه ، كما يهيىء له امرأة أخرى تحصنه وترضيه وتقوم بشؤون بيته وأولاده ، ولن يكون كل منهما جديرا بعناية الله وإغنائه عن الآخر ، إلا إذا التزما حدود الله ، بأن اجتهدا فى الوفاق والصلح وظهر لهما بعد التفكير والتروّى فى الأسباب أنه غير مستطاع ، فافترقا وهما حافظان لكرامتهما عما يجعلهما عرضة للنقد ونهش العرض ، فإن ذلك مما يرغب الناس فيهما ، لما يرونه فيهما من الأخلاق الفاضلة وعدم التلاحي والتنابذ والتهاجى واختلاق الأكاذيب ، فالرجل ذو الخلق الكريم إذا علم أن امرأة اختلفت مع بعلها لأنها لم تقبل أن تعيش مع من يعرض عنها أو يترفع عليها بل أحبت أن تعيش معه بطريق عادلة ـ رأى فيها أفضل صفات الزوجية.

وكذلك كرائم النساء وأولياؤهن يرغبون فى الرجل إذا علموا أنه يمسك المرأة بمعروف أو يسرحها بإحسان ولا يلجئه إلى الطلاق إلا الخوف من عدم إقامة حدود الله.

(وَكانَ اللهُ واسِعاً حَكِيماً) أي وكان الله ولا يزال واسع الفضل والرحمة ، حكيما فيما شرعه من الأحكام التي جعلها وفق مصالح العباد.

(وَلِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللهَ وَإِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَكانَ اللهُ غَنِيًّا حَمِيداً (١٣١) وَلِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَكَفى بِاللهِ وَكِيلاً (١٣٢) إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ

١٧٤

أَيُّهَا النَّاسُ وَيَأْتِ بِآخَرِينَ وَكانَ اللهُ عَلى ذلِكَ قَدِيراً (١٣٣) مَنْ كانَ يُرِيدُ ثَوابَ الدُّنْيا فَعِنْدَ اللهِ ثَوابُ الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَكانَ اللهُ سَمِيعاً بَصِيراً (١٣٤))

المعنى الجملي

بعد أن أمر سبحانه بالعدل والإحسان إلى اليتامى والمساكين ، بين أنه ما أمر بهذه الأشياء لاحتياجه إلى أعمال العباد ، لأن كل ما فى السموات والأرض ملكه فهو مستغن عنهم وقادر على إثابتهم على طاعته فيما شرعه لخيرهم ومصلحتهم ، بل ليزدادوا بتدبرها إيمانا يحملهم على العمل بها والوقوف عند حدودها.

الإيضاح

(وَلِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ) خلقا وملكا ، فهو وحده مدبر الأكوان ، فلا يتعذر عليه الإغناء بعد الفقر ولا الإيناس بعد الوحشة إلى نحو هذا مما ينبىء بعظيم القدرة وكمال الجود والإحسان.

(وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللهَ) أي ولقد أمرنا من قبلكم من اليهود والنصارى وغيرهم من سالف الأمم كما أمرناكم بتقوى الله فى إقامة سننه وإقامة شريعته ، فبالأولى ترقى معارفكم ، وبالثانية تزكو نفوسكم وتنتظم مصالحكم الدينية والدنيوية.

(وَإِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ) أي وإن تكفروا أنعم الله وتجحدوا فضله وإحسانه فاعلموا أنه سبحانه مالك الملك والملكوت لا يضره كفركم ومعاصيكم كما لا ينفعه شكركم وتقواكم ، وقد وصاكم وإياهم بهما لرحمته لا لحاجته.

ثم زاد ما سلف توكيدا فقال :

(وَكانَ اللهُ غَنِيًّا حَمِيداً) أي وكان الله غنيا عن كل شىء بذاته. محمودا بذاته

١٧٥

وكمال صفاته ، فهو لا يحتاج إلى شكركم لتكميل نفسه «وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ» وفى الحديث القدسي «يا عبادى إنّكم لن تبلغوا ضرّى فتضرونى ، ولن تبلغوا نفعى فتنفعونى ، لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنّكم كانوا على أتقى قلب رجل واحد منكم ما زاد ذلك فى ملكى شيئا ، يا عبادى لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أفجر قلب رجل واحد منكم ما نقص ذلك فى ملكى شيئا ، يا عبادى لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم قاموا فى صعيد واحد فسألونى فأعطيت كل واحد مسألته ما نقص ذلك مما عندى إلا كما ينقص المخيط إذا أدخل فى البحر ، يا عبادى إنما هى أعمالكم أحصيها لكم ثم أوفّيكم إياها ، فمن وجد خيرا فليحمد الله ، ومن وجد غير ذلك فلا يلومنّ إلا نفسه» رواه مسلم.

ثم أعاد ما سلف لزيادة التوكيد فقال :

(وَلِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَكَفى بِاللهِ وَكِيلاً) أي له سبحانه ما فيهما خلقا وملكا يتصرف فيهما كيفما شاء إيجادا وإعداما وإحياء وإماتة ، وكفى به قيّما وكفيلا يوكّل به أمر العباد فى أرزاقهم وأقواتهم وسائر شؤونهم.

(إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ وَيَأْتِ بِآخَرِينَ) أي إن يرد إفناءكم واستئصالكم من الوجود وإيجاد قوم آخرين من البشر يحلون محلكم فى الحكم والتصرف فهو قادر على ذلك ، لأن كل ما فى السموات والأرض فهو تحت قبضته وخاضع لسلطانه.

والخلاصة ـ إن إبقاءكم على ما أنتم عليه من العصيان إنما هو لكمال غناه عن طاعتكم ، ولأن مشيئته لم تتعلق بهذا الإفناء لحكم ومصالح أرادها سبحانه ، لا لعجز عن ذلك ، تعالى الله علوا كبيرا.

ومثل هذه الآية قوله تعالى «(إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ ، وَما ذلِكَ عَلَى اللهِ بِعَزِيزٍ» *) وقوله «وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثالَكُمْ».

وفى هذه الآيات تهديد للمشركين الذين كانوا يؤذون النبي صلى الله عليه وسلم ويقاومون دعوته ، وتنبيه للناس إلى التأمل فى سنن الله التي جرت فى حياة الأمم وموتها ، وإن هذه السنن إذا تعلقت بها المشيئة وقعت لا محالة.

١٧٦

(وَكانَ اللهُ عَلى ذلِكَ قَدِيراً) أي وكان الله قديرا على ذلك الإفناء وإيجاد خلق آخر ، إذ بيده ملكوت كل شىء ، لكنه لحكم يعلمها لم تتعلق إرادته بذلك.

(مَنْ كانَ يُرِيدُ ثَوابَ الدُّنْيا فَعِنْدَ اللهِ ثَوابُ الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ) أي من يرد منكم بسعيه وجهاده فى حياته نعيم الدنيا بالمال والجاه ونحوهما ، فعند الله ثواب الدارين معا بما أعطاكم من العقل والشعور وهداية الحواس ، فعليكم أن تطلبوهما معا ، ولا تكتفوا بما هو أدناهما وهو ما يفنى وتتركوا أغلاهما وهو ما يبقى ، مع أن الجمع بينهما هيّن ميسور لكم وهو تحت قدرتكم وسلطانكم ، فمن خطل الرأى أن تتركوا ذلك وترغبوا عنه ، بل عليكم أن تقولوا ـ ربنا آتنا فى الدنيا حسنة وفى الآخرة حسنة وقنا عذاب النار ـ.

وفى الآية إيماء إلى أن الدين يهدى أهله إلى السعادتين ، وإلى أن ثواب الدنيا والآخرة من فضله تعالى ورحمته.

(وَكانَ اللهُ سَمِيعاً بَصِيراً) أي وكان الله سميعا لأقوال عباده حين مخاطباتهم ومناجاتهم ، بصيرا بجميع أمورهم فى سائر حالاتهم ، فعليهم أن يراقبوه فى الأقوال والأفعال ، وبذا تزكو نفوسهم وتقف عند حدود الفضيلة التي بها تستقيم أمورهم فى دنياهم ويستعدون لحياة أبدية فى آخرتهم يكون فيها نعيمهم وثوابهم.

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَداءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيراً فَاللهُ أَوْلى بِهِما فَلا تَتَّبِعُوا الْهَوى أَنْ تَعْدِلُوا وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً (١٣٥) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلى رَسُولِهِ وَالْكِتابِ الَّذِي أَنْزَلَ مِنْ قَبْلُ وَمَنْ يَكْفُرْ بِاللهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً بَعِيداً (١٣٦))

١٧٧

المعنى الجملي

بعد أن أمر سبحانه بالقسط فى اليتامى والنساء فى سياق الاستفتاء فيهن ، لأن حقهن آكد وضعفهن معهود ـ عمم الأمر هنا بالقسط بين الناس ، لأن قوام أمور الاجتماع لا يكون إلا بالعدل ، وحفظ النظام لا يتم إلا به وبما فيه من الشهادة لله بالحق ولو على النفس والوالدين والأقربين وعدم محاباة أحد لغناه أو لفقره ، لأن العدل مقدم على حقوق النفس وحقوق القرابة وغيرها ، وقد كانت سنة الجاهلية محاباة ذوى القربى ، لأنه يعتزّ بهم كما كانوا يظلمون النساء واليتامى لضعفن وعدم الاعتزاز بهن.

الإيضاح

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ) القوام : هو المبالغ فى القيام بالشيء والإتيان به مستوفيا تاما لا نقص فيه ، وقد أمر الله بإقامة الصلاة وإقامة الشهادة وإقامة الوزن بالقسط تأكيدا للعناية بهذه الأشياء. أي فلتجعلوا العناية بإقامة القسط على وجهه صفة ثابتة لكم راسخة فى نفوسكم ، والعدل كما يكون فى الحكم بين الناس ممن يوليه السلطان أو يحكّمه الناس فيما بينهم ، يكون فى العمل كالقيام بما يجب بين الزوجات والأولاد من النّصفة والمساواة بينهم ، ولو سار المسلمون على هدى القرآن لكانوا أعدل الأمم وأقومهم بالقسط ، وقد كانوا كذلك ردحا من الدهر حين كانوا مهتدين بهديه ، ولكن قد خلف من بعدهم خلف نبذوا تلك الهداية وراء ظهورهم فصارت تضرب بهم الأمثال فى ظلم حكامهم وسوء أحوالهم.

(شُهَداءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ) أي كونوا شهداء لله بأن تتحرّوا الحق الذي يرضاه ويأمر به من غير مراعاة أحد ولا محاباته ، ولو كانت الشهادة على أنفسكم بأن يثبت بها الحق عليكم (ومن أقر على نفسه بحق فقد شهد عليها ،

١٧٨

لأن الشهادة إظهار الحق) أو على والديكم وأقرب الناس إليكم كأولادكم وإخوتكم ، إذ ليس من بر الوالدين ولا من صلة ذوى الرحم أن يعانوا على ما ليس لهم بحق الإعراض عن الشهادة عليهم أوليّها والتحريف فيها ، بل البر والصلة فى الحق والمعروف.

وليس من شك فى أن الحياة قصاص ، فالذين يتعاونون على الظلم وهضم حقوق الناس ، يتعاون الناس على ظلمهم وهضم حقوقهم ، فتكون المحاباة من أسباب فشوّ الظلم والعدوان والمفاسد التي لا يؤمن شرها.

(إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيراً فَاللهُ أَوْلى بِهِما) أي إن يكن المشهود عليه من الأقارب أو غيرهم غنيا أو فقيرا فالله أولى بهما ، وشرعه أحق أن يتبع فيهما ، فحذار أن تحابوا غنيا طمعا فى برّه ، ولا خوفا من أذاه وشره ، ولا فقيرا عطفا عليه وشفقة به ، فمرضاة كل منهما ليست خيرا لكم ولا لهما من مرضاة الله ، ولستم أعلم بمصلحتهما من ربهما ، ولو لا أنه يعلم أن العدل وإقامة الشهادة بالحق خير للشاهد والمشهود عليه لما شرع ذلك ولا أوجبه.

وروى ابن جرير عن السّدى فى سبب نزول الآية : أن رجلين فقيرا وغنيا اختصما إلى النبي صلى الله عليه وسلم فكان حلفه (ميله القلبي) مع الفقير ، يرى أن الفقير لا يظلم الغنى ، فأبى الله إلا أن يقوم بالقسط فى الغنى والفقير.

وقال قتادة فى هذه الآية : هذا فى الشهادة ، فأقم الشهادة يا ابن آدم ولو على نفسك أو الوالدين أو على ذوى قرابتك وأشراف قومك ، فإنما الشهادة لله وليست للناس ، والعدل ميزان الله فى الأرض ، به يرد الله من الشديد على الضعيف ، ومن الصادق على الكاذب ، ومن المبطل على المحق اه.

(فَلا تَتَّبِعُوا الْهَوى أَنْ تَعْدِلُوا) أي فلا تتبعوا الهوى لئلا تعدلوا عن الحق إلى الباطل ، إذ فى الهوى الزلل.

(وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً) أي وإن تلووا ألسنتكم بالشهادة وتحرّفوها أو تعرضوا عنها فلا تؤدوها فالله خبير بأعمالكم لا يخفى عليه قصدكم فهو مجازيكم بما تعملون.

١٧٩

وعبر بالخبير ولم يعبر بالعليم ، لأن الخبرة العلم بدقائق الأمور وخفاياها ، والشهادة يكثر فيها الغشّ والاحتيال حتى لقد يغش الإنسان فيها نفسه ويلتمس المعاذير فى كتمان الشهادة أو تحريفها.

فليتدبر المسلمون ذلك ، وليعملوا بهدى كتابهم ، ويقيموا الشهادة بالحق ، ففى ذلك فلاحهم فى دينهم ودنياهم.

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلى رَسُولِهِ وَالْكِتابِ الَّذِي أَنْزَلَ مِنْ قَبْلُ) هذا خطاب لمؤمنى اليهود ؛ فقد روى عن ابن عباس «أن هذه الآية نزلت فى عبد الله بن سلام وأسد وأسيد ابني كعب وثعلبة بن قيس وسلام بن أخت عبد الله بن سلام ويامين بن يامين ، إذ أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم وقالوا نؤمن بك وبكتابك وبموسى وبالتوراة وعزير ونكفر بما سوى ذلك من الكتب والرسل ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ـ بل آمنوا بالله ورسوله محمد وكتابه القرآن وبكل كتاب كان قبله ـ فقالوا لا نفعل ، فنزلت ، قال فآمنوا كلهم»

وقيل : إن الخطاب فيها للمؤمنين كافة ، والمعنى ازدادوا فى الإيمان طمأنينة ويقينا وآمنوا برسوله خاتم النبيين وبالقرآن الذي نزّله عليه وبالكتب التي نزّلها على رسله من قبله ، فإنه لم يترك عباده فى زمن ما محرومين من البينات والهدى.

وبعد أن أمر بالإيمان بما ذكر توعد من كفر بذلك فقال :

(وَمَنْ يَكْفُرْ بِاللهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً بَعِيداً) أي ومن يكفر بالله أو بملائكته أو ببعض كتبه أو رسله أو اليوم الآخر (وهى أسس الدين وأركانه) فقد ضل عن صراط الحق الذي ينجّى صاحبه فى الآخرة من العذاب الأليم ، ويمتعه بالنعيم المقيم.

ومن فرّق بين كتب الله ورسله فآمن ببعض وكفر ببعض كاليهود والنصارى

١٨٠