تفسير المراغي - ج ٥

أحمد مصطفى المراغي

عن الصعود بأرواحهم إلى مستوى الرفعة والكرامة ، لتزكيتهم إياها بالقول الباطل دون الفعل ، فلم تصل بهم نفوسهم إلى مراتب الفوز والفلاح.

وفى الآية موضعان من العبرة :

١) أن الله يجزى عامل الخير بعمله ولو مشركا ، لأن لعمله أثرا فى نفسه يكون مناط.

الجزاء ، فيخفف عذابه عن عذاب غيره كما ورد فى الأحاديث ، إن بعض المشركين يخفف عنهم العذاب بعمل لهم ، فحاتم الطائي بكرمه ، وأبو طالب بكفالته النبي صلى الله عليه وسلم ونصره إياه ، وأبو لهب لعتقه جاريته ثوبة حين بشرته بمولد النبي صلى الله عليه وسلم.

٢) أن يحذر المسلمون الغرور بدينهم كما كان أهل الكتاب فى عصر التنزيل وما له ، وأن يبتعدوا عن تزكية أنفسهم بالقول ، واحتقار من عداهم من المشركين ، وأن يعلموا أن الله لا يحابى فى نظم الخليقة أحدا لا مسلما ولا يهوديا ولا نصرانيا ، ألا ترى أن خاتم النبيين قد شجّ رأسه ، وكسرت سنّه ، وردّى فى حفرة من جراء تقصير عسكره فيما يجب من اتباع أمر القائد وعدم مخالفته ، وأن يهتدوا بكتاب الله وبسنته فى الأمم ، وأن يتركوا وساوس الدجالين الذين يصرفونهم عن الاهتداء بهدى كتابهم ، ويشغلونهم بما لم ينزل الله به عليهم سلطانا ، فإنه ما زال ملكهم وما ذهب عزهم إلا بتركهم لهدى دينهم ، واتباعهم لأولئك الدجالين والمشعوذين.

ثم أكد التعجيب من حالهم الذي فهم من الآية السابقة فقال :

(انْظُرْ كَيْفَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ) أي انظر كيف يكذبون على الله بتزكية أنفسهم وزعمهم أن الله يعاملهم معاملة خاصة بهم ، لا كما يعامل سائر عباده.

(وَكَفى بِهِ إِثْماً مُبِيناً) أي إن تزكية النفس ، والغرور بالدين والجنس ، مما يبطّىء عن نافع العمل الذي يثاب عليه الناس ، وكفى بهذا إثما ظاهرا ، لأنه لا أثر له من حق ، ولا سمة عليه من صواب ، فالله لا يعامل شعبا معاملة خاصة تغاير سننه التي وضعها فى الخليقة ، وما مصدر هذه الدعوى إلا الغرور والجهل ، وكفى بذلك شرا مستطيرا.

٦١

(أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هؤُلاءِ أَهْدى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلاً (٥١) أُولئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللهُ وَمَنْ يَلْعَنِ اللهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ نَصِيراً (٥٢) أَمْ لَهُمْ نَصِيبٌ مِنَ الْمُلْكِ فَإِذاً لا يُؤْتُونَ النَّاسَ نَقِيراً (٥٣) أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلى ما آتاهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ فَقَدْ آتَيْنا آلَ إِبْراهِيمَ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْناهُمْ مُلْكاً عَظِيماً (٥٤) فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ بِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ صَدَّ عَنْهُ وَكَفى بِجَهَنَّمَ سَعِيراً (٥٥))

تفسير المفردات

الجبت : أصله الجبس ، وهو الرديء الذي لا خير فيه ، ويراد به هنا الأوهام والخرافات والدّجل ، والطاغوت ما تكون عبادته والإيمان به سببا للطغيان والخروج من الحق ، من مخلوق يعبد ، ورئيس يقلّد ، وهوى يتّبع ، وروى عن عمر ومجاهد أنه الشيطان ، والنقير : النقرة التي فى ظهر النواة ، ومنها تنبت النخلة يضرب بها المثل فى الشيء الحقير التافه ، كما يضرب المثل بالقطمير وهو القشرة الرقيقة التي على النواة بينها وبين التمرة ، والحسد تمنى زوال النعمة عن صاحبها المستحق لها ، والناس هنا محمد صلى الله عليه وسلم ومن آمن معه ، والفضل النبوة والكرامة فى الدين والدنيا ، والكتاب العلم بظاهر الشريعة ، والحكمة العلم بالأسرار المودعة فيها ، والملك العظيم ما كان لأنبياء بنى إسرائيل كداود وسليمان عليهما السلام ، وصدّ عن الشيء : أعرض عنه ، ونار مسعرة : موقدة ، ويقال أوقدت النار وأسعرتها.

٦٢

المعنى الجملي

أخرج ابن إسحاق عن ابن عباس قال : كان الذين حزّبوا الأحزاب من قريش وغطفان وبنى قريظة ، هم حيّ بن أخطب ، وسلّام بن أبى الحقيق ، وأبو عمارة ، وهوذة بن قيس ، وباقيهم من بنى النّضير ، فلما قدموا على قريش قالوا هؤلاء أحبار اليهود وأهل العلم بالكتب الأولى ، فاسألوهم أدينكم خير أم دين محمد؟ فسألوهم فقالوا دينكم خير من دينه ، وأنتم أهدى منه وممن اتبعه ، فأنزل الله (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ ـ إلى قوله ـ مُلْكاً عَظِيماً) قاله السيوطي فى لباب النقول.

وقد تكون هذه الآيات نزلت بعد غزوة الأحزاب أو فى أثنائها ، إذ نقض اليهود عهد النبي صلى الله عليه وسلم واتفقوا مع المشركين على استئصال شأفة المسلمين حتى لا يظهروا عليهم ، ومن ثم فضلوهم على المؤمنين ، كما أن هذا التفضيل ربما كان عند النداء بالنفير للحرب.

الإيضاح

(أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ؟) أي ألم تنظر إلى حال هؤلاء الذين أوتوا نصيبا من الكتاب ، كيف حرموا هدايته وهداية العقل والفطرة ، وآمنوا بالدجل والخرافات ، وصدقوا بالأصنام والأوثان ، ونصروا أهلها من المشركين على المؤمنين المصدقين بنبوة أنبيائهم والمعترفين بحقية كتبهم؟.

(وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هؤُلاءِ أَهْدى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلاً) أي ويقولون إن المشركين أرشد طريقة فى الدين من المؤمنين الذين اتبعوا محمدا صلى الله عليه وسلم.

قال ابن جرير : إن الله وصف الذين أوتوا نصيبا من الكتاب من اليهود بتعظيمهم غير الله بالعبادة ، والإذعان له بالطاعة فى الكفر بالله ورسوله ومعصيتهما ، وأنهم قالوا إن أهل الكفر بالله أولى بالحق من أهل الإيمان به ، وأن دين أهل التكذيب لله ورسوله أعدل وأصوب من دين أهل التصديق لله ورسوله اه.

٦٣

وروى عن عكرمة أن كعب بن الأشرف انطلق إلى المشركين من كفار قريش فاستجاشهم على النبي صلى الله عليه وسلم ، وأمرهم أن يغزوه ، وقال إنا معكم نقاتله ، فقالوا إنكم أهل كتاب وهو صاحب كتاب ، ولا نأمن أن يكون هذا مكرا منكم ، فإن أردت أن تخرج معنا فاسجد لهدين الصنمين وآمن بهما ففعل ، ثم قالوا : نحن أهدى أم محمد؟ فنحن ننحر الكوماء (الناقة الضخمة السّنام) ونسقى اللبن على الماء ، ونصل الرحم ، ونقرى الضيف ، ونطوف بهذا البيت ، ومحمد قطع رحمه ، وخرج من من بلده ، فقال : بل أنتم خير وأهدى.

ثم بين عاقبة أمرهم وشديد نكالهم فقال :

(أُولئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللهُ) أي أولئك الذين اقتضت سنن الله فى خلقه أن يكونوا بعيدين عن رحمته ، مطرودين من فضله وجوده.

(وَمَنْ يَلْعَنِ اللهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ نَصِيراً) أي ومن يبعده الله من رحمته فلن ينصره أحد من دونه ، إذ لا سبيل لأحد إلى تغيير سننه تعالى فى خليقته ، وهو قد جعل الخذلان نصيب من يؤمنون بالجبت والطاغوت ، إذ هم قد تجاوزوا سنن الفطرة واتبعوا الخرافات والأوهام ، لأنه إنما ينصر المؤمنين باجتنابهم ذلك «وَكانَ حَقًّا عَلَيْنا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ».

ثم انتقل من توبيخهم على الإيمان بالجبت والطاغوت ، وتفضيلهم المشركين على المؤمنين ، إلى توبيخهم على البخل والأثرة ، وطمعهم فى أن يعود إليهم الملك فى آخر الزمان ، وأنه سيخرج منهم من يجدد ملكهم ودولتهم ويدعو إلى دينهم فقال :

(أَمْ لَهُمْ نَصِيبٌ مِنَ الْمُلْكِ) أي إنهم لا حظ لهم من الملك ، إذ هم فقدوه بظلمهم وطغيانهم ، وإيمانهم بالجبت والطاغوت.

(فَإِذاً لا يُؤْتُونَ النَّاسَ نَقِيراً) أي إنه لو كان لهم نصيب من الملك لا تبعوا طريق.

البخل والأثرة ، وحصروا منافعه فى أنفسهم ، فلا يعطون الناس منه نقيرا.

والخلاصة ـ إن اليهود ذوو أثرة وشحّ يشق عليهم أن ينتفع منهم غير اليهودي ، فإذا صار لهم ملك حرصوا على منع الناس أدنى النفع وأحقره ، ومن كانت هذه حاله

٦٤

حرص أشد الحرص على ألا يظهر نبى من العرب يكون لأصحابه ملك يخضع لهم فيه بنو إسرائيل ، ولا تزال هذه حالهم إلى اليوم ، فإن تم لهم ما يسعون إليه من إعادة ملكهم إلى بيت المقدس وما حوله فإنهم يطردون المسلمين والنصارى من تلك الأرض المقدسة ولا يعطونهم منها نقيرا.

ولكن هل يعود الملك كما يريدون؟ ليس فى الآية ما يثبت ذلك ولا ما ينفيه ، وإنما الذي فيها بيان طباعهم فيه لو حصل.

ثم انتقل من توبيخهم بالبخل إلى توبيخهم بالحسد فقال :

(أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلى ما آتاهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ) أي إن هؤلاء يريدون أن يضيق فضل الله بعباده ، ولا يحبون أن يكون لأمة فضل أكثر مما لهم أو مثله ، لما استحوذ عليهم من الغرور بنسبهم وتقاليدهم مع سوء حالهم.

وهم قد رأوا أن محمدا صلى الله عليه وسلم بعد أن أعطى النبوة جعله الله كل يوم أقوى دولة وأعظم شوكة وأكثر أعوانا وأنصارا من أجل هذا حسدوه حسدا عظيما.

وبعد أن ذكر أن كثرة نعمه عليه صارت سببا لحسد هؤلاء اليهود ، بين ما يدفع ذلك الحسد فقال :

(فَقَدْ آتَيْنا آلَ إِبْراهِيمَ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْناهُمْ مُلْكاً عَظِيماً) أي إن يحسدوا محمدا على ما أوتى فقد أخطئوا ، إذ ليس هذا ببدع منا ، لأنا قد آتينا مثل هذا من قبل لآل إبراهيم والعرب منهم فإنهم من ذرية ولده إسماعيل ، فلم لم تعجبوا مما آتى آل إبراهيم وتعجبون مما آتى محمدا صلى الله عليه وسلم؟ ولم لا يكون مستبعدا فى حق هؤلاء ومستبعدا فى حق محمد صلى الله عليه وسلم؟

وفى الآية رمز إلى أنه سيكون للمسلمين ملك عظيم يتبع النبوة والحكمة ، وقد ظهرت تباشيره عند نزول الآيات بالمدينة ، فقد قويت شوكتهم وأخذ أمرهم يعظم رويدا رويدا.

والخلاصة ـ إن اليهود إما مغرورون مخدوعون يظنون أن فضل الله لا يعدوهم ، ورحمته تضيق بغيرهم ، وإما حاسبون أن ملك الكون فى أيديهم ، فهم لا يعطون

٦٥

أحدا منه ولو حقيرا كالنقير ، وإما حاسدون للعرب على ما أعطاهم الله من الكتاب والحكمة والملك الذي ظهرت مبادئه ومقدماته.

(فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ بِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ صَدَّ عَنْهُ) قوله به أي بمن تقدم من الأنبياء كإبراهيم وآله ، أي إن أولئك الأنبياء مع ما اختصوا به من النبوة والملك لم تؤمن أممهم جميعا بهم بل منهم من آمن بهم ومنهم من بقي على كفره ، فلا تعجب أيها الرسول مما عليه قومك فإن هذه حال جميع الأمم مع أنبيائهم.

وفى هذا تسلية للنبى صلى الله عليه وسلم ، ليكون أشد صبرا على ما يناله من قبلهم من الأذى والجحود والإنكار «فَلَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ عَلى آثارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهذَا الْحَدِيثِ أَسَفاً».

(وَكَفى بِجَهَنَّمَ سَعِيراً) أي إن انصرف عنهم بعض العذاب فى الدنيا فكفاهم ما أعدّ لهم من سعير جهنم فى العقبى ، لأنهم آثروا اتباع الباطل والعمل بما يزينه لهم على اتباع الحق ، ولا يزال ذلك دأبهم حتى يرديهم فى دار الشقاء والنكال وهى جهنم وبئس القرار.

(إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِنا سَوْفَ نُصْلِيهِمْ ناراً كُلَّما نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْناهُمْ جُلُوداً غَيْرَها لِيَذُوقُوا الْعَذابَ إِنَّ اللهَ كانَ عَزِيزاً حَكِيماً (٥٦) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً لَهُمْ فِيها أَزْواجٌ مُطَهَّرَةٌ وَنُدْخِلُهُمْ ظِلاًّ ظَلِيلاً (٥٧))

تفسير المفردات

نصليهم : نشويهم بالنار ، يقال شاة مصلية ، أي مشوية ، ونضجت : احترقت وتهرأت وتلاشت ، من قولهم نضج الثمر واللحم نضحا : إذا أدركا ، ليذوقوا العذاب :

٦٦

أي ليدوم لهم ذوقه ولا ينقطع كما تقول للعزيز : أعزك الله : أي أدام لك العز وزادك فيه والعزيز هو القادر الغالب على أمره ، والحكيم : هو المدبر للأشياء وفق الحكمة والصواب ، ومطهرة : أي من العيوب والأدناس الحسية والمعنوية ، وقوله : ظلا ظليلا كقوله ليل أليل وصف للمبالغة والتأكيد فى المعنى : أي ظل وارف لا يصيب صاحبه حر ولا سموم ، ودائم لا تنسخه الشمس ، وقد يعبر بالظل عن العزة والمتعة والرفاهية فيقال «السلطان ظل الله فى أرضه». ولما كانت بلاد العرب غاية فى الحرارة كان الظل عندهم أعظم أسباب الراحة ، وكان ذلك عندهم رمزا للنعيم المقيم ، والآيات : الأدلة التي ترشد إلى أن هذا الدين حق ، ومن أجلّها القرآن لأنه أول الدلائل وأظهر الآيات وأوضحها ، والكفر بها يعم إنكارها والغفلة عن النظر فيها وإلقاء الشبهات والشكوك مع العلم بصحتها عنادا وحسدا ، والخلود : الدوام ، وقد أكده بقوله أبدا ، ومطهرة : أي بريئات من المعايب الجسمانية والطباع الردية.

المعنى الجملي

بعد أن ذكر عز اسمه فى الآية السالفة أن ممن دعوا إلى التصديق بالأنبياء فريقا نأى وأعرض عن اتباع الحق ، ثم توعد من أعرض بسعير جهنم.

فصل هنا الوعيد بذكر أحوال الفريقين وما يلاقيه كل منهم من الجزاء يوم القيامة.

الإيضاح

(إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِنا سَوْفَ نُصْلِيهِمْ ناراً) أي طن الله تعالى قد أعد لمن جحد بآياته التي أنزلها على أنبيائه نارا مسعرة تشويهم وتحرق أجسامهم حتى تفقدها الحس والإدراك.

(كُلَّما نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْناهُمْ جُلُوداً غَيْرَها) أي كلما فقدت التماسك الحيوى وبعدت عن الحس والحياة بدلها جلودا أخرى حية تشعر بالألم وتحس بالعذاب.

قال الدكتور عبد العزيز إسماعيل باشا عليه سحائب الرحمة فى كتابه [الإسلام

٦٧

والطب الحديث] والحكمة فى تبديل جلود الكفار ، أن أعصاب الألم هى فى الطبقة الجلدية ، وأما الأنسجة والعضلات والأعضاء الداخلية فالإحساس فيها ضعيف ، ولذلك يعلم الطبيب أن الحرق البسيط الذي لا يتجاوز الجلد يحدث ألما شديدا ، بخلاف الحرق الشديد الذي يتجاوز الجلد إلى الأنسجة ، لأنه مع شدته وخطره لا يحدث ألما كثيرا ، فالله يقول لنا إن النار كلما أكلت الجلد الذي فيه الأعصاب نجدده كى يستمر الألم بلا انقطاع ، ويذوقوا العذاب الأليم ، وهنا تظهر حكمة الله قبل أن يعرفها الإنسان ، وكان الله عزيزا حكيما اه.

ثم ذكر السبب فيما تقدم فقال :

(لِيَذُوقُوا الْعَذابَ) ليدوم لهم ذوق العذاب ، لأن الإحساس يصل إلى النفس بواسطة الحياة فى الجلد ، وفى هذا إزالة لوهم ربما يعرض لبعض الناس قياسا على ما يعهدون فى أنفسهم فى الدنيا من أن الذي يتعود الألم يقلّ شعوره به ويصير عاديا عنده ، كما يشاهد فى كثير من الآلام والأمراض التي يطول أمدها.

وفى التعبير بيذوقوا إيماء إلى أن إحساسهم بذلك العذاب يكون كإحساس الذائق المذوق لا يدخل فيه نقصان ولا زوال بسبب ذلك الاحتراق.

ثم أكد سابق الكلام وبين علته فقال :

(إِنَّ اللهَ كانَ عَزِيزاً حَكِيماً) أي إنه تعالى عزيز قادر لا يمتنع عليه شىء مما توعد به أو وعد ، حكيم يعاقب من يعاقبه وفق الحكمة ، ومن حكمته أن ربط الأسباب بالمسببات فلا يستطيع أحد أن يغلبه على أمره فيبطل اطرادها ، فهو كما جعل الكفر والمعاصي سببا للعذاب كما تقدم فى الآية ، جعل الإيمان والعمل الصالح سببا للنعيم ، وذلك ما بينه بقوله :

(وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً) أي إن الذين آمنوا بالله وصدقوا برسوله سيدخلون جنات يتمتعون بنعيمها العظيم كفاء ما أخبتوا إلى ربهم وقدّموا من عمل صالح ، لأن الإيمان وحده

٦٨

لا يكفى لتزكية النفس وإعدادها لهذا الجزاء ، بل لا بد معه من عمل صالح يشعر به المرء بالقرب من ربه والشعور بهيبته وجلال سلطانه.

(لَهُمْ فِيها أَزْواجٌ مُطَهَّرَةٌ) أي لهم أزواج مبرآت من العيوب الجسمانية والعيوب الخلقية ، فليس فيهن ما يوحشهم منهن ولا ما يكدر صفوهم ، وبذا تكمل سعادتهم ويتم سرورهم فى تلك الحياة التي لا نعرف كنهها ، وإنما نفهمها على طريق التمثيل وقياس الغائب على الشاهد.

(وَنُدْخِلُهُمْ ظِلًّا ظَلِيلاً) أي ونجعلهم فى مكان لا حرّ فيه ولا قرّ.

وفى ذلك إيماء إلى تمام النعمة والتمتع برغد العيش وكمال الرفاهية.

(إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَماناتِ إِلى أَهْلِها وَإِذا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللهَ كانَ سَمِيعاً بَصِيراً (٥٨) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً (٥٩))

تفسير المفردات

الأمانة : الشيء الذي يحفظ ليؤدّى إلى صاحبه ، ويسمى من يحفظها ويؤديها حفيظا وأمينا ووفيّا ، ومن لا يحفظها ولا يؤديها خائنا ، والعدل : إيصال الحق إلى صاحبه من أقرب الطرق إليه ، والتأويل بيان المآل والعاقبة.

المعنى الجملي

بعد أن ذكر سبحانه فى الآية السابقة الأجر العظيم للذين آمنوا وعملوا الصالحات وكان من أجلّ تلك الأعمال أداء الأمانات والحكم بالعدل بين الناس ـ لا جرم أمر بهما فى هذه الآية.

٦٩

روى عن ابن عباس قال : لما فتح رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة دعا عثمان ابن طلحة ، فلما أتاه قال أرنى المفتاح (مفتاح الكعبة) فلما بسط يده إليه قام العباس فقال : يا رسول الله بأبى أنت وأمي اجمعه لى مع السقاية ، فكف عثمان يده فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم هات المفتاح يا عثمان ، فقال هاك أمانة الله ، فقام ففتح الكعبة ثم خرج فطاف بالبيت ثم نزل عليه جبريل برد المفتاح فدعا عثمان بن طلحة فأعطاه المفتاح ثم قال (إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَماناتِ إِلى أَهْلِها) حتى فرغ من الآية)

الإيضاح

(إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَماناتِ إِلى أَهْلِها) الأمانة على أنواع :

١) أمانة العبد مع ربه ، وهى ما عهد إليه حفظه من الائتمار بما أمره به والانتهاء عما نهاه عنه ، واستعمال مشاعره وجوارحه فيما ينفعه ويقرّبه من ربه ، وقد ورد فى الأثر :

إن المعاصي كلها خيانة لله عز وجل.

٢) أمانة العبد مع الناس ، ومن ذلك رد الودائع إلى أربابها وعدم الغش وحفظ السر ونحو ذلك مما يجب للأهل والأقربين وعامة الناس والحكام.

ويدخل فى ذلك عدل الأمراء مع الرعية وعدل العلماء مع العوام بأن يرشدوهم إلى اعتقادات وأعمال تنفعهم فى دنياهم وأخراهم من أمور التربية الحسنة وكسب الحلال ، ومن المواعظ والأحكام التي تقوّى إيمانهم وتنقذهم من الشرور والآثام وترغبهم فى الخير والإحسان ، وعدل الرجل مع زوجه بألا يفشى أحد الزوجين سرا للآخر ولا سيما السر الذي يختص بهما ولا يطلع عليه عادة سواهما.

٣) أمانة الإنسان مع نفسه ، بألا يختار لنفسه إلا ما هو الأصلح والأنفع له فى الدين والدنيا ، وألا يقدم على عمل يضره فى آخرته أو دنياه ، ويتوقى أسباب الأمراض والأوبئة بقدر معرفته وما يعرف من الأطباء ، وذلك يحتاج إلى معرفة علم الصحة ولا سيما فى أوقات انتشار الأمراض والأوبئة.

٧٠

(وَإِذا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ) أمر الله بالعدل فى آيات كثيرة : منها هذه الآية ، ومنها «اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوى» وقوله «كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ» وقوله «فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُما بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ» والحكم بين الناس له طرق : منها الولاية العامة والقضاء وتحكيم المتخاصمين لشخص فى قضية خاصة.

والحكم بالعدل يحتاج إلى أمور :

١) فهم الدعوى من المدّعى والجواب من المدّعى عليه ، ليعرف موضوع التنازع والتخاصم بأدلته من الخصمين.

٢) خلوّ الحاكم من التحيز والميل إلى أحد الخصمين.

٣) معرفة الحاكم الحكم الذي شرعه الله ليفصل بين الناس على مثاله من الكتاب أو السنة أو إجماع الأمة.

٤) تولية القادرين على القيام بأعباء الأحكام.

وقد أمر المسلمون بالعدل فى الأحكام والأقوال والأفعال والأخلاق ، قال تعالى «وَإِذا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كانَ ذا قُرْبى».

ثم بين حسن العدل وأداء الأمانة فقال :

(إِنَّ اللهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ) أي نعم الشيء الذي يعظكم به أداء الأمانات والحكم بالعدل بين الناس ، إذ لا يعظكم إلا بما فيه صلاحكم وفلاحكم وسعادتكم فى الدارين.

(إِنَّ اللهَ كانَ سَمِيعاً بَصِيراً) أي عليكم أن تعملوا بأمر الله ووعظه ، فإنه أعلم منكم بالمسموعات والمبصرات ، فإذا حكمتم بالعدل فهو سميع لذلك الحكم ، وإن أديتم الأمانة فهو بصير بذلك.

وفى هذا وعد عظيم للمطيع ، ووعيد شديد للعاصى ، وإلى ذلك الإشارة بقوله عليه السلام «اعبد الله كأنك تراه ، فإن لم تكن تراه فإنه يراك» وفيه أيضا إيماء إلى الاهتمام بحكم القضاة والولاة لأنه قد فوض إليهم النظر فى مصالح العباد.

٧١

وبعد أن أمر سبحانه برد الأمانات إلى أهلها ، وبالحكم بين الناس بالعدل مخاطبا بذلك جمهور الأمة ، أمر بطاعة الله والرسول وطاعة أولى الأمر ، إذ لا تقوم المصالح العامة إلا بذلك ، فقال :

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ) أي أطيعوا الله واعملوا بكتابه ، وأطيعوا الرسول لأنه يبين للناس ما نزل إليهم ، فقد جرت سنة الله بأن يبلغ عنه شرعه رسل منهم تكفل بعصمتهم وأوجب علينا طاعتهم.

وأطيعوا أولى الأمر ، وهم الأمراء والحكام والعلماء ورؤساء الجند وسائر الرؤساء والزعماء الذين يرجع إليهم الناس فى الحاجات والمصالح العامة ، فهؤلاء إذا اتفقوا على أمر وحكم وجب أن يطاعوا فيه بشرط أن يكونوا أمناء وألا يخالفوا أمر الله ولا سنة رسوله التي عرفت بالتواتر ، وأن يكونوا مختارين فى بحثهم فى الأمر واتفاقهم عليه.

وأما العبادات وما كان من قبيل الاعتقاد الديني فلا يتعلق به أمر أهل الحل والعقد بل إنما يؤخذ عن الله ورسوله فحسب ، وليس لأحد رأى فيه إلا ما يكون فى فهمه.

فأهل الحل والعقد من المؤمنين إذا أجمعوا على أمر من مصالح الأمة ليس فيه نص عن الشارع وكانوا مختارين فى ذلك غير مكرهين بقوة أحد ولا نفوذه فطاعتهم واجبة ، كما فعل عمر حين استشار أهل الرأى من الصحابة فى الديوان الذي أنشأه وفى غيره من لمصالح التي أحدثها برأى أولى الأمر من الصحابة ولم تكن فى زمن النبي صلى الله عليه وسلم ولم يعترض عليه أحد من علمائهم فى ذلك.

(فَإِنْ تَنازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللهِ وَالرَّسُولِ) أي فإذا لم يوجد نص على الحكم فى الكتاب ولا فى السنة ينظر أولو الأمر فيه ، لأنهم هم الذين يوثق بهم ، فإذا اتفقوا وأجمعوا وجب العمل بما أجمعوا عليه ، وإن اختلفوا وتنازعوا وجب عرض ذلك على الكتاب والسنة وما فيهما من القواعد العامة ، فما كان موافقا لهما علم أنه صالح لنا ووجب الأخذ به ، وما كان مخالفا لهما علم أنه غير صالح ووجب تركه ، وبذا يزول التنازع وتجتمع

٧٢

الكلمة ، وهذا الرد واستنباط الفصل فى الخلاف من القواعد هو الذي يعبر عنه بالقياس والأول هو الإجماع الذي يعتدّ به.

ومما تقدم تعلم أن الآية مبينة لأصول الدين فى الحكومة الإسلامية ، وهى :

١) الأصل الأول القرآن الكريم ، والعمل به هو طاعة الله تعالى.

٢) الأصل الثاني سنة رسوله صلى الله عليه وسلم ، والعمل به طاعة الرسول صلى الله عليه وسلم.

٣) الأصل الثالث إجماع أولى الأمر وهم أهل الحل والعقد الذين تثق بهم الأمة من العلماء والرؤساء فى الجيش والمصالح العامة كالتجار والصناع والزراع ، ورؤساء العمال والأحزاب ومديرى الصحف ورؤساء تحريرها ـ وطاعتهم حينئذ هى طاعة أولى الأمر.

٤) الأصل الرابع عرض المسائل المتنازع فيها على القواعد والأحكام العامة المعلومة فى الكتاب والسنة ، وذلك قوله : فإن تنازعتم فى شىء فردوه إلى الله والرسول.

فهذه الأربعة الأصول هى مصادر الشريعة ، ولا بد من وجود جماعة يقومون بعرض المسائل المتنازع فيها على الكتاب والسنة ممن يختارهم أولو الأمر من علماء هذا الشأن.

ويجب على الحكام الحكم بما يقرّونه ، وبذلك تكون الدولة الإسلامية مؤلفة من جماعتين : الأولى الجماعة المبينة للأحكام الذين يسمون الآن (الهيئة التشريعية) والجماعة الثانية جماعة الحاكمين والمنفذين وهم الذين يسمون (الهيئة التنفيذية).

وعلى الأمة أن تقبل هذه الأحكام وتخضع لها سرا وجهرا ، وهى بذلك لا تكون خاضعة لأحد من البشر ، لأنها لم تعمل إلا بحكم الله تعالى أو حكم رسوله صلى الله عليه وسلم بإذنه ، أو حكم نفسها الذي استنبطه لها جماعة أهل الحل والعقد والعلم والخبرة من أفرادها الذين وثقت بإخلاصهم وعدم اتفاقهم إلا على ما هو الأصلح لها.

(إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ) أي ردوا الشيء المتنازع فيه إلى الله ورسوله بعرضه على الكتاب والسنة إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر ، فإن المؤمن لا يقدم شيئا على حكم الله ، كما أنه يهتم باليوم الآخر أشد من اهتمامه بحظوظ الدنيا.

٧٣

وفى هذا دليل على أن من لا يقدم اتباع الكتاب والسنة على أهوائه وحظوظه فإنه لا يكون مؤمنا حقا.

(ذلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً) أي ذلك الردّ للشىء المتنازع فيه إلى الله ورسوله خير لكم ، لأنه أقوى الأسس فى حكومتكم ، والله أعلم منكم بما هو الخير لكم ، ومن ثم لم يشرع لكم فى كتابه وعلى لسان رسوله إلا ما فيه مصالحكم ومنافعكم وما هو أحسن عاقبة لما فيه من قطع عرق التنازع وسد ذرائع الفتن.

(أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلالاً بَعِيداً (٦٠) وَإِذا قِيلَ لَهُمْ تَعالَوْا إِلى ما أَنْزَلَ اللهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُوداً (٦١) فَكَيْفَ إِذا أَصابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ ثُمَّ جاؤُكَ يَحْلِفُونَ بِاللهِ إِنْ أَرَدْنا إِلاَّ إِحْساناً وَتَوْفِيقاً (٦٢) أُولئِكَ الَّذِينَ يَعْلَمُ اللهُ ما فِي قُلُوبِهِمْ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَعِظْهُمْ وَقُلْ لَهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ قَوْلاً بَلِيغاً (٦٣))

تفسير المفردات

الزعم فى أصل اللغة : القول حقا كان أو باطلا ثم كثر استعماله فى الكذب ، قال الراغب : الزعم حكاية قول يكون مظنة للكذب ، وقد جاء فى القرآن فى كل موضع ذم القائلين به كقوله «زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا قُلْ بَلى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ» وقوله «قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ وَلا تَحْوِيلاً». والطاغوت : بمعنى الطغيان الكثير ، ضلالا بعيدا : أي بعيدا صاحبه

٧٤

عن الحق ، إذ هو لا يهتدى إلى الطريق الموصلة إليه ، صدودا : أي إعراضا متعمدا عن قبول حكمك ، إحسانا : أي فى المعاملة بين الخصوم ، وتوفيقا : أي بينهم وبين خصومهم بالصلح ، فأعرض عنهم : أي اصرف وجهك عنهم ، وعظهم : أي ذكرهم بالخير على الوجه الذي ترقّ له قلوبهم ، قولا بليغا : أي يبلغ من نفوسهم الأثر الذي تريد أن تحدثه فيها.

المعنى الجملي

بعد أن أوجب سبحانه فى الآية السالفة على جميع المؤمنين طاعة الله وطاعة الرسول ذكر فى هذه الآية أن المنافقين والذين فى قلوبهم مرض لا يطيعون الرسول ولا يرضون بحكمه بل يريدون حكم غيره. أخرج الطبراني عن ابن عباس قال «كان أبو برزة الأسلمىّ كاهنا يقضى بين اليهود فيما يتنافرون فيه ، فتنافر إليه ناس من المسلمين فأنزل الله تعالى : ألم تر إلى الذين يزعمون أنهم آمنوا؟ ـ إلى قوله ـ إلا إحسانا وتوفيقا».

وأخرج ابن جرير عن الشعبي قال : كان بين رجل من اليهود ورجل من المنافقين خصومة فقال اليهودي : أحاكمك إلى أهل دينك أو قال إلى النبي لأنه قد علم أنه لا يأخذ الرشوة فى الحكم فاختلفا ثم اتفقا على أن يأتيا كاهنا فى جهينة فنزلت.

الإيضاح

(أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ) أي انظر إلى عجيب أمر هؤلاء الذين يزعمون أنهم آمنوا بك وآمنوا بمن قبلك من الأنبياء ويأتون بما ينافى الإيمان ، إذ الإيمان الصحيح بكتب الله ورسله يقتضى العمل بما شرعه الله على ألسنة أولئك الرسل وترك العمل مع الاستطاعة دليل على أن الإيمان غير راسخ فى نفس مدّعيه فكيف إذا عمل بضد ما شرعه الله؟ فهؤلاء المنافقون إذ هربوا من التحاكم إليك

٧٥

وقبلوا التحاكم إلى مصدر الطغيان والضلال من أولئك الكهنة والمشعوذين ـ سواء أكان أبا برزة الأسلمى أم كعب بن الأشرف ـ دليل على أن الإيمان ليس له أثر فى نفوسهم ، بل هى كلمات يقولونها بأفواههم لا تعبر عما تلجلج فى صدورهم ، وكيف يزعمون الإيمان بك وكتابك المنزل عليك يأمرهم بالكفر بالجبت والطاغوت فى نحو قوله «وَلَقَدْ بَعَثْنا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ» وقوله «فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقى» وهم يتحاكمون إليه؟ فألسنتهم تدّعى الإيمان بالله وبما أنزله على رسله ، وأفعالهم تدلّ على كفرهم بالله وإيمانهم بالطاغوت وإيثارهم لحكمه.

ويدخل فى هؤلاء كل من يتحاكم إلى الدّجالين كالعرّافين وأصحاب المندل والرمل ومدّعى الكشف والولاية.

وفى الآية إيماء إلى أن من رد شيئا من أوامر الله أو أوامر الرسول صلى الله عليه وسلم فهو خارج من الإسلام ، سواء رده من جهة الشك أو من جهة التمرد ، ومن أجل هذا حكم الصحابة بردّة الذين منعوا الزكاة وقتلهم وسبى ذراريهم.

(وَيُرِيدُ الشَّيْطانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلالاً بَعِيداً) أي ويريد الشيطان أن يجعل بينهم وبين الحق مسافة بعيدة ، فهم لشدة بعدهم عن الحق لا يهتدون إلى الطريق الموصلة إليه.

والخلاصة ـ إن الواجب على المسلمين ألا يقبلوا قول أحد ولا يعملوا برأيه فى شىء له حكم فى كتاب الله أو سنة رسوله ، وما لا حكم له فيهما فالعمل فيه برأى أولى الأمر ، لأنه أقرب إلى المصلحة.

(وَإِذا قِيلَ لَهُمْ تَعالَوْا إِلى ما أَنْزَلَ اللهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُوداً) أي وإذا قيل لأولئك الزاعمين للإيمان الذين يريدون التحاكم إلى الطاغوت : تعالوا إلى ما أنزل الله فى القرآن لنعمل به ونحكّمه فيما بيننا ، وإلى الرسول ليحكم بيننا

٧٦

بما أراه الله ، رأيتهم يعرضون عنك ويرغبون عن حكمك إعراضا متعمدا منهم ، وهذه الآية مؤكدة لما دلت عليه الآية التي قبلها من نفاق هؤلاء الذين يرغبون عن حكم الله وحكم رسوله إلى حكم الطاغوت من أصحاب الأهواء ، لأن حكم الرسول لا يكون إلا حقا متى بينت الدعوى على وجهها ؛ وأما حكم غيره بشريعته فقد يقع فيه الخطأ بجهل القاضي بالحكم ، أو بجهل تطبيقه على الدعوى.

وهى أيضا دالة على أن من أعرض عن حكم الله متعمدا ، ولا سيما بعد دعوته إليه وتذكيره به ، فإنه يكون منافقا لا يعتقد ما يزعمه من الإيمان ، ولا ما يدّعيه من الإسلام.

(فَكَيْفَ إِذا أَصابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ ثُمَّ جاؤُكَ يَحْلِفُونَ بِاللهِ إِنْ أَرَدْنا إِلَّا إِحْساناً وَتَوْفِيقاً) أي فكيف يفعلون إذا أطلعك الله على شأنهم فى إعراضهم عن حكم الله وعن التحاكم إليك ، وتبين أن عملهم يكذب دعواهم ، وأن تلك الحال التي اختاروا فيها التحاكم إلى غير الرسول لا تدوم لهم ، وأنه يوشك أن يقعوا فى مصاب بسبب ما قدمت أيديهم من هذه الأعمال وأمثالها ، ثم اضطروا إلى الرجوع إليك لتكشفه عنهم ، واعتذروا عن صدودهم بأنهم ما كانوا يريدون بالتحاكم إلى غير الرسول إلا إحسانا فى المعاملة وتوفيقا بينهم وبين خصومهم بالصلح أو بالجمع بين منفعة الخصمين ويحلفون بالله على ذلك وهم مخادعون.

وفى الآية وعيد شديد لهم على ما فعلوا ، وأنهم سيندمون حين لا ينفعهم الندم ، ويعتذرون ولا يغنى عنهم الاعتذار.

(أُولئِكَ الَّذِينَ يَعْلَمُ اللهُ ما فِي قُلُوبِهِمْ) هذا أسلوب يستعمل فيما يعظم من خير أو شر ، مسرة أو حزن ، فيقول الرجل لمن يحبه ويحفظ وده : الله يعلم ما فى نفسى لك ، أي إنه لكثرته وقوته لا يقدر على معرفته إلا الله تعالى ، ويقول فى العدو الماكر المخادع :

الله يعلم ما فى قلبه ، أي إن ما فى قلبه من الخبث والخديعة بلغ حدا كبيرا لا يعلمه إلا علام الغيوب.

٧٧

فالمعنى هنا أن ما فى قلوبهم من الكفر والحقد والكيد وتربص الدوائر بالمؤمنين بلغ من الفظاعة مقدارا لا يحيط به إلا من يعلم السر وأخفى.

(فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَعِظْهُمْ وَقُلْ لَهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ قَوْلاً بَلِيغاً) طلب إليه سبحانه أن يعاملهم بثلاثة أشياء.

١) الإعراض عنهم وعدم الإقبال عليهم بالبشاشة والتكريم ، إذ هذا يحدث فى نفوسهم الهواجس والخوف من سوء العاقبة ، وهم لم يكونوا على يقين من أسباب كفرهم ونفاقهم ، وكانوا يحذرون أن تنزل عليه سورة تنبئهم بما فى قلوبهم ، وإذا استمر هذا الإعراض عنهم ظنوا الظنون ، وقالوا لعله عرف ما فى نفوسنا ، لعله يريد أن يؤاخذنا بما فى بواطننا.

٢) النصح والتذكير بالخير على وجه ترقّ له قلوبهم ويبعثهم على التأمل فيما يلقى إليهم من العظات والزواجر.

٣) القول البليغ المؤثر فى النفس الذي يغتمون به ويستشعرون منه الخوف بأن يتوعدهم بالقتل والاستئصال إن نجم منهم النفاق ، ويخبرهم بأن ما فى نفوسهم من مكنونات الشر والنفاق غير خاف على العليم بالسر والنجوى ، وأنه لا فرق بينهم وبين الكفار ، وإنما رفع الله عنهم السيف لأنهم أظهروا الإيمان وأسرّوا الكفر وأضمروه ، فإن فعلوا ما ينكشف به غطاؤهم لم يبق إلا السيف ، وفى الآية شهادة للنبى صلى الله عليه وسلم بالقدرة على بليغ الكلام وتفويض أمر الوعظ والقول البليغ إليه ، لأن لكل مقام مقالا ، والكلام يختلف تأثيره باختلاف أفهام المخاطبين ، كما أن فيها شهادة له بالحكمة ووضع الكلام فى مواضعه ، وهذا نحو ما وصف الله به نبيه داود «وَآتَيْناهُ الْحِكْمَةَ وَفَصْلَ الْخِطابِ».

قال القاضي عياض فى كتابه [الشفاء] فى وصف بلاغته صلى الله عليه وسلم :

أما فصاحة اللسان وبلاغة القول فقد كان صلى الله عليه وسلم من ذلك بالمحل

٧٨

الأرفع ، والموضع الذي لا يجهل ، قد أوتى جوامع الكلم ، وحص ببدائع الحكم ، وعلم ألسنة العرب ، يخاطب كل أمة بلسانها ، ويحاورها بلغتها ... حتى كان كثير من أصحابه يسألونه فى غير موضع عن شرح كلامه وتفسير قوله ... وليس كلامه مع قريش والأنصار وأهل الحجاز ونحد ككلامه مع ذى المعشار الهمداني وطهفة النّهدى والأشعث بن قيس ووائل بن حجر الكندي وغيرهم من أقيال حضر موت وملوك اليمن اه.

(وَما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ لِيُطاعَ بِإِذْنِ اللهِ وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جاؤُكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللهَ تَوَّاباً رَحِيماً (٦٤) فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيما شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً (٦٥))

تفسير المفردات

إذن الله : إعلامه الذي نطق به وحيه وطرق آذانكم ـ كقوله : أطيعوا الله وأطيعوا الرسول ـ استغفروا الله : أي طلبوا مغفرته وندموا على ما فعلوا ، واستغفر لهم الرسول : أي دعا الله أن يغفر لهم ، يحكموك : يجعلوك حكما ويفوضوا الأمر إليك ، وشجر : اختلف واختلط الأمر فيه ، مأخوذ من التفاف الشجر ، فإن الشجر تتداخل بعض أغصانه فى بعض ، حرجا : ضيقا ، قضيت : حكمت ، التسليم : الانقياد والإذعان.

المعنى الجملي

بعد أن أوجب سبحانه فيما سلف طاعة الله وطاعة الرسول وشنع على من رغب عن التحاكم إلى الرسول وآثر عليه التحاكم إلى الطاغوت ـ ذكر هنا ما هو كالدليل على استحقاق الرسول للطاعة ، وعلى استحقاق المنافقين الذين لم يقبلوا التحاكم للمقت والخذلان ، لأنهم لم يرضوا بحكم الرسول صلى الله عليه وسلم.

٧٩

الإيضاح

(وَما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا لِيُطاعَ بِإِذْنِ اللهِ) أي إن سنتنا فى هذا الرسول كسنتنا فى الرسل قبله ، فما نرسلهم إلا ليطاعوا بإذن الله ، فمن خرج عن طاعتهم أو رغب عن حكمهم ، خرج عن حكمنا وسنتنا وارتكب أكبر الآثام.

وجىء بقوله : بإذن الله ، لبيان أن الطاعة الذاتية لا تكون إلا لله رب العالمين ، لكنه قد أمر أن تطاع رسله فطاعتهم واجبة بإذنه وإيجابه.

(وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جاؤُكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللهَ تَوَّاباً رَحِيماً) أي ولو أن أولئك القوم حين ظلموا أنفسهم ورغبوا عن حكمك إلى حكم الطاغوت ـ جاءوك فاستغفروا الله من ذنبهم وندموا على ما فرط منهم وتابوا توبة نصوحا ودعا لهم الرسول بالمغفرة ، لتقبل الله توبتهم وغمرهم بإحسانه ، فرحمته وسعت كل شىء.

وإنما قرن استغفار الرسول باستغفار الله ، لأن ذنبهم لم يكن ظلما لأنفسهم فحسب بل تعدى إلى إيذاء الرسول من حيث إنهم أعرضوا عن حكمه وهو صاحب الحق فى الحكم وحده ، فكان لا بد فى توبتهم وندمهم على ما فرط منهم أن يظهروا ذلك للرسول ليصفح عنهم ، لأنهم اعتدوا على حقه ، وليدعو لهم بالمغفرة ، إذ أعرضوا عن حكمه.

وفى الآية إيماء إلى أن التوبة الصحيحة تقبل حتما إذا استكملت شرائطها ، ومنها أن تكون عقب الذنب مباشرة ، وقد سمى الله ترك طاعة الرسول ظلما للأنفس ، أي إفسادا لها ، لأن الرسول هو الهادي إلى مصالح الناس فى الدنيا والأخرى ، وهذا الظلم شامل للاعتداء والبغي والتحاكم إلى الطاغوت وغير ذلك.

والاستغفار لا يكون مقبولا إلا إذا ناجى العبد ربه عازما على اجتناب الذنب وعدم العودة إليه مع الصدق والإخلاص لله فى ذلك ـ أما الاستغفار باللسان عقب

٨٠