تفسير المراغي - ج ٥

أحمد مصطفى المراغي

فائت ، وفقده عرضة لليأس من كل خير ، ومن ثم يكثر الانتحار من فاقدى الإيمان.

وأما المؤمن فأقل ما يؤتاه فى المصايب الصبر الذي يخفف وقعها على النفس ، وأكثره رحمة الله التي بها تتحول النقمة إلى نعمة بما يستفيد من الاختبار والتمحيص وكمال العبرة والتهذيب.

وقد يبتلى الله المؤمن ويمتحن صبره فيعطيه إيمانه من الرجاء به ما تخالط حلاوته مرارة المصيبة حتى تغلبها ، وقد يأنس أحيانا بها لعظم رجائه وصبره ، وهذا وإن كان نادرا فهو واقع حاصل.

(وَكانَ اللهُ بِهِمْ عَلِيماً) فينبغى للمؤمن أن يكتفى بعلم الله فى إنفاقه ولا يبالى بعلم الناس ، فهو الذي لا ينسى عمل العاملين ولا يظلمهم من أجرهم شيئا.

وفى هذه الآيات الكريمة الهداية الكافية فى معاملة الناس لربهم ولبعضهم بعضا ولكن المسلمين قصّروا فى اتباع هذه الأوامر ، وأعرضوا عن مساعدة ذوى القربى والجيران واليتامى والمساكين ، والشواهد على هذا كثيرة.

(إِنَّ اللهَ لا يَظْلِمُ مِثْقالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضاعِفْها وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْراً عَظِيماً (٤٠) فَكَيْفَ إِذا جِئْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنا بِكَ عَلى هؤُلاءِ شَهِيداً (٤١) يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَعَصَوُا الرَّسُولَ لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الْأَرْضُ وَلا يَكْتُمُونَ اللهَ حَدِيثاً (٤٢))

تفسير المفردات

المثقال : أصله المقدار الذي له ثقل مهما قل ، ثم أطلق على المعيار المخصوص للذهب وغيره ، والذرة أصغر ما يدرك من الأجسام ومن ثم قالوا إنها النملة أو رأسها أو الخردلة أو الهباء (ما يظهر فى نور الشمس الداخل من الكوّة) ولذلك روى عن ابن عباس

٤١

رضي الله عنهما أنه أدخل يده فى التراب ثم نفخ فيه فقال كل واحدة من هؤلاء ذرة ، والظلم : النقص كما قال تعالى : «كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَها وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئاً» ومن لدنه : من عنده ، والحديث الكلام.

المعنى الجملي

بعد أن بيّن عز اسمه صفات المتكبرين وسوء أحوالهم وتوعدهم على ذلك بأشد أنواع الوعيد ـ زاد الأمر توكيدا وتشديدا فذكر أنه لا يظلم أحدا من العاملين بوصاياه لا قليلا ولا كثيرا ، بل يوفيه حقه بالقسطاس المستقيم ، وفى هذا أعظم الترغيب لفاعلى البر والإحسان وحفز لهممهم على العمل ، وفى معنى الآية قوله : «فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ».

الإيضاح

(إِنَّ اللهَ لا يَظْلِمُ مِثْقالَ ذَرَّةٍ) أي إنه تعالى لا ينقص أحدا من أجر عمله ، والجزاء عليه شيئا ما وإن صغر كذرة الهباء بل يوفيه أجره ، كما لا يعاقبه بغير استحقاق للعقوبة ، إذ أن الثواب والعقاب تابعان لتأثير الأعمال فى النفس بتزكيتها أو تدسيتها ، فالعمل يرفعها إلى أعلى عليين أو يهبط بها إلى أسفل سافلين ، ولذلك درجات ومثاقيل مقدّرة فى نفسها لا يحيط بدقائقها إلا من أحاط بكل شىء علما.

والخلاصة ـ إن الظلم لا يقع من الله تعالى لأنه من النقص الذي يتنزه عنه وهو ذو الكمال المطلق والفضل العظيم ، وقد خلق للناس مشاعر يدركون بها ما لا يدركه الحس ، وشرع لهم من أحكام الدين وآدابه ما لا تستقل عقولهم بالوصول إلى مثله فى هدايتهم وحفظ مصالحهم ، وهى تسوق إلى الخير وتصرف عن الشر وأيدها بالوعد والوعيد ، فمن وقع بعد ذلك فيما يضره ويؤذيه كان هو الظالم لنفسه لأن الله لا يظلم أحدا.

٤٢

(وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضاعِفْها) أي إنه تعالى مع كونه لا ينقص أحدا من أجر عمله مثقال ذرة يزيد للمحسن فى حسناته ، فالسيئات جزاؤها بقدرها ، والحسنات يضاعف الله تعالى جزاءها عشرة أضعاف أو أضعافا كثيرة كما قال فى آية أخرى : «مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثالِها وَمَنْ جاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلا يُجْزى إِلَّا مِثْلَها وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ» وقال : «مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضاعِفَهُ لَهُ أَضْعافاً كَثِيرَةً».

(وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْراً عَظِيماً) إي إنه تعالى لواسع فضله لا يكتفى بجزاء المحسنين على إحسانهم فحسب ، بل يزيدهم من فضله ويعطيهم من لدنه عطاء كبيرا ، وسمى هذا العطاء أجرا ولا مقابل له من الأعمال ، لأنه لما كان تابعا للأجر على العمل سمى باسمه لمجاورته له. وفى ذلك إيماء إلى أنه لا يكون لغير المحسنين ، إذ هو علاوة على أجور أعمالهم ، فلا مطمع للمسيئين فيه.

(فَكَيْفَ إِذا جِئْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنا بِكَ عَلى هؤُلاءِ شَهِيداً؟) أي إذا كان الله لا يضيع من عمل العاملين مثقال ذرة ، فكيف يكون الناس إذا جمعهم الله وجاء بالشهداء عليهم وهم أنبياؤهم ، فما من أمة إلا لها بشير ونذير.

وهذه الشهادة عبارة عن عرض أعمال الأمم على أنبيائهم (لا فرق بين اليهود والنصارى والمسلمين) ومقابلة عقائدهم وأخلاقهم وأعمالهم بعقائد الأنبياء وأعمالهم وأخلاقهم ، فمن شهد لهم نبيهم بأنهم على ما جاء به وما أمر الناس بالعمل به فهم ناجون ومن تبرأ منهم أنبياؤهم لمخالفة أعمالهم وعقائدهم لما جاءوا به فأولئك هم الخاسرون وإن ادّعوا اتباعهم والانتماء إليهم.

وقوله : وجئنا بك على هؤلاء شهيدا ، يراد به شهادة محمد صلى الله عليه وسلم خاتم المرسلين على أمته كما قال تعالى :

«وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً» أي إن هذه الأمة بحسن سيرتها تكون شهيدة على الأمم السالفة

٤٣

وحجة عليها فى انحرافها عن هدى المرسلين ، والرسول صلى الله عليه وسلم بسيرته وأخلاقه الغالية وسننه المرضية يكون حجة على من تركها وتساهل فى اتباعها ، وعلى من تغالى فيها وابتدع البدع المحدثة من بعده.

روى البخاري والترمذي والنسائي وغيرهم من حديث ابن مسعود أنه قال : قال لى رسول الله صلى الله عليه وسلم «اقرأ علىّ. قلت : يا رسول الله أقرأ عليك ، وعليك أنزل؟ قال نعم أحب أن أسمعه من غيرى فقرأت سورة النساء حتى أتيت إلى هذه الآية (فَكَيْفَ إِذا جِئْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ) إلخ فقال (حسبك الآن) فإذا عيناه تذرفان».

فانظر كيف اعتبر بهذه الشهادة الشهيد الأعظم صلى الله عليه وسلم فبكى لتذكر هذا اليوم ، وهل نعتبر كما اعتبر ونستعد لهول ذلك اليوم باتباع سنته ونجتهد فى اجتناب البدع والتقاليد التي لم تكن فى عهده ، وبذا نكون أمة وسطا لا تفريط عندها فى الدين ولا إفراط لا فى الشؤون الجسمية ولا فى الشؤون الروحية ، أو نظل فى غوايتنا تقليدا للآباء فنكون كما قال الكافرون «إِنَّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلى آثارِهِمْ مُقْتَدُونَ» (يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَعَصَوُا الرَّسُولَ لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الْأَرْضُ) أي إذا جاء ذلك اليوم الذي نأتى فيه بشهيد على كل أمة ، يتمنى الذين كفروا وعصوا الرسول فلم يتبعوا ما جاء ، أن يصيروا ترابا تسوّى بهم الأرض فيكونوا وإياها سواء كما قال فى سورة النبأ «وَيَقُولُ الْكافِرُ يا لَيْتَنِي كُنْتُ تُراباً».

(وَلا يَكْتُمُونَ اللهَ حَدِيثاً) أي إنهم يودون لو يكونون ترابا فتسوّى بهم الأرض ولا يكونون قد كتموا الله وكذبوا أمامه على أنفسهم بإنكار شركهم وضلالهم كما قال تعالى «وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا أَيْنَ شُرَكاؤُكُمُ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ ، ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلَّا أَنْ قالُوا وَاللهِ رَبِّنا ما كُنَّا مُشْرِكِينَ ، انْظُرْ كَيْفَ كَذَبُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ» أي فهم حينئذ يكذبون وينكرون شركهم إما اعتقادا منهم أنّ ما كانوا عليه ليس بشرك وإنما هو استشفاع

٤٤

وتوسل وإما مكابرة وظنا أن ذلك يجديهم ويدفع عنهم العذاب ، فيشهد عليهم الأنبياء المرسلون أنهم لم يكونوا متبعين لهم فيما أحدثوا من شركهم ، بل كانوا مبتدعين ذلك من عند أنفسهم ، فقد قاسوا ربهم على ملوكهم الظالمين وأمرائهم المستبدين الذين يتركون عقاب بعض المسيئين بشفاعة المقربين ، فإذا شهدوا عليهم تمنوا لو كانوا قد سوّيت بهم الأرض وما افتروا ذلك الكذب.

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكارى حَتَّى تَعْلَمُوا ما تَقُولُونَ وَلا جُنُباً إِلاَّ عابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضى أَوْ عَلى سَفَرٍ أَوْ جاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ النِّساءَ فَلَمْ تَجِدُوا ماءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ إِنَّ اللهَ كانَ عَفُوًّا غَفُوراً (٤٣))

تفسير المفردات

الغائط : المنخفض من الأرض كالوادى ، وأهل البادية والقرى الصغيرة يقصدونه عند قضاء الحاجة للستر والاستخفاء عن الناس ، وملامسة النساء : الإفضاء إليهن ، تيمموا : اقصدوا ، والصعيد : وجه الأرض ، والطيب : الطاهر ، العفوّ : ذو العفو ، والعفو عن الذنب : محوه وجعله كأن لم يكن ، والغفور : ذو المغفرة ، والمغفرة : ستر الذنوب بعدم الحساب عليها.

المعنى الجملي

بعد أن وصف سبحانه الوقوف بين يديه يوم العرض والأهوال التي تؤدى إلى تمنى الكافر العدم فيقول : يا ليتنى كنت ترابا ، والتي تجعله لا يستطيع أن يكتم

٤٥

الله حديثا ، وذكر أنه لا ينجو فى ذلك اليوم إلا من كان طاهر القلب والجوارح بالإيمان به والطاعة لرسوله ـ وصف فى هذه الآية الوقوف بين يديه فى مقام الأنس ، وحضرة القدس ، المنجى من هول الوقوف فى ذلك اليوم ، وطلب فيه استكمال القوى العقلية وتوجيهها إلى جانب العلى الأعلى بألا تكون مشغولة بذكرى غيره ، طاهرة من الأنجاس والأخباث ، لتكون على أتم العدّة للوقوف فى ذلك الموقف الرهيب ، مستشعرة تلك العظمة والجلال والكبرياء.

الإيضاح

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكارى حَتَّى تَعْلَمُوا ما تَقُولُونَ) أي لا تصلّوا حال السكر حتى تعلموا قبل الشروع فيها ما ستقرءونه وما ستعملونه ، ذاك أن حال السكر لا يتأتى معها الخشوع والخضوع والحضور مع الله بمناجاته بكتابه وذكره ودعائه.

وهذا الخطاب موجه إلى المسلمين قبل السكر بأن يجتنبوه إذا ظنوا أنهم سيصلّون ، ليحتاطوا فيجتنبوه فى أكثر الأوقات ، وقد كان هذا تمهيدا لتحريم السكر تحريما باتا لا هوادة فيه ، إذ من يتقى أن يجىء عليه وقت الصلاة وهو سكران يترك الشرب عامة النهار وأول الليل لتفرّق الصلوات الخمس فى هذه المدة. فلم يبق للسكر إلا وقت النوم من بعد العشاء إلى السحر فيقلّ الشراب لمزاحمة النوم له ، وأول النهار من صلاة الفجر إلى وقت الظهيرة وقت الكسب والعمل لأكثر الناس ، ويقل أن يسكر فيه إلا أصحاب البطالة والكسل.

وقد ورد أنهم كانوا بعد نزولها يشربون بعد العشاء فلا يصبحون إلا وقد زال السكر وصاروا يعلمون ما يقولون.

روى أبو داود والترمذي عن على كرم الله وجهه قال «صنع لنا عبد الرحمن بن عوف طعاما فدعانا وسقانا من الخمر فأخذت منا وحضرت الصلاة فقدّمونى فقرأت قل يا أيها الكافرون لا أعبد ما تعبدون ونحن نعبد ما تعبدون ، فنزلت الآية.

٤٦

وروى ابن جرير عن علىّ أن الإمام كان يومئذ عبد الرحمن وأن الصلاة صلاة المغرب ـ وكان ذلك قبل أن تحرّم الخمر.

ويفترق المعنى بين الأسلوبين (لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكارى) ولا تقربوا الصلاة سكارى إذ الأول يتضمن النهى عن السكر الذي يخشى أن يمتد إلى وقت الصلاة فيفضى إلى أدائها فى أثنائه ؛ وخلاصة المعنى عليه احذروا أن يكون السكر وصفا لكم عند حضور الصلاة فتصلوا وأنتم سكارى ، فامتثال هذا النهى إنما يكون بترك السكر فى وقت الصلاة وفيما يقرب منها ، والثاني يتضمن النهى عن الصلاة حال السكر فحسب.

وأما نهيهم عن الصلاة جنبا فلا يتضمن نهيهم عن الجنابة قبل الصلاة ، لأنها من سنن الفطرة وإنما ينهاهم عن الصلاة فى أثنائها حتى يغتسلوا ولهذا قال جنبا ولم يقل وأنتم جنب.

(وَلا جُنُباً إِلَّا عابِرِي سَبِيلٍ) أي ولا تقربوا الصلاة جنبا فى أي حال إلا حال كونكم عابرى سبيل : أي مجتازين الطريق ، وقد روى أن رجالا من الأنصار كانت أبوابهم فى المسجد وكان يصيبهم الجنابة ولا يحدون ممرّا إلا فيه فرخّص لهم فى ذلك ولم يأمر النبي صلى الله عليه وسلم بسد تلك الأبواب والكوى إلا فى آخر عمره الشريف ولم يستثن إلا خوخة أبى بكر رضي الله عنه (الخوخة الكوّة والباب الصغير).

(حَتَّى تَغْتَسِلُوا) أي لا تقربوا الصلاة جنبا إلى أن تغتسلوا ، إلا ما رخص لكم فيه من عبور السبيل فى المسجد.

وحكمة الاغتسال من الجنابة أن الجنابة تحدث تهيجا فى الأعصاب فيتأثر البدن كله ويحدث فتور وضعف فيه يزيله الاغتسال بالماء ، ومن ثم ورد فى الحديث «إنما الماء من الماء» رواه مسلم :

والخلاصة ـ إن الذين طلب الصلاة حال العلم والفهم وتدبر القرآن والذكر ، وذلك يتوقف على الصحو وترك السكر ، كما طلب أن يكون الجسم نظيفا نشيطا وذلك لا يكون إلا بإزالة الجنابة.

٤٧

ولما كانت الصلاة فريضة موقوتة لا هوادة فيها لأنها تذكّر المرء ربه وتعدّه للتقوى ، وكان الاغتسال من الجنابة يتعسر فى بعض الحالات ويتعذر فى بعضها الآخر ، رخص سبحانه لنا فى ترك استعمال الماء والاستعاضة عنه بالتيمم ، فقال :

(وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضى أَوْ عَلى سَفَرٍ أَوْ جاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ النِّساءَ فَلَمْ تَجِدُوا ماءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ) المراد بالمرض المرض الذي يخاف زيادته باستعمال الماء كبعض الأمراض الجلدية والقروح كالحصبة والجدرىّ أو نحو ذلك ، والسفر يشمل الطويل والقصير ، والمراد بالمجيء من الغائط الحدث الأصغر بخروج شىء من أحد السبيلين (القبل والدبر) وملامسة النساء : غشيانهن.

ففى هذه الحالات (المرض. السفر. فقد الماء عقب الحدث الأصغر الموجب للوضوء والحدث الأكبر الموجب للغسل) اقصدوا وتحروا صعيدا طيبا : أي وجها طاهرا من الأرض لا قذارة فيه ولا أوساخ ، فامسحوا بوجوهكم وأيديكم منه ثم صلّوا.

والخلاصة ـ إن حكم المريض والمسافر إذا أرادا الصلاة كحكم المحدث حدثا أصغر أو ملامس النساء ولم يجد الماء فعلى كل هؤلاء التيمم فقط قاله الأستاذ الإمام.

لكن المعروف فى المذاهب الأربعة أن شرط التيمم فى السفر فقد الماء فلا يجوز مع وجوده ، وهذا بخلاف ظاهر الآية.

ومن تأمل فى رخص السفر التي منها قصر الصلاة وإباحة الفطر فى رمضان لا يستنكر أن يرخص للمسافر فى ترك الغسل والوضوء مع وجود الماء وهما دون الصلاة والصيام فى نظر الدين ، فالمشاهد أن الوضوء والغسل يشقان على المسافر الواجد للماء فى هذا الزمان الذي سهلت فيه وسائل السفر فى السكك الحديدية والبواخر ، فكيف تكون المشقة للمسافرين على ظهور الإبل فى مفاوز الحجاز وجبالها ، فأشق ما يشق فى السفر الغسل والوضوء وإن كان الماء حاضرا مستغنى عنه ، ففى البواخر يوجد الماء وتوجد الحمامات للاغتسال بالماء الساخن والماء البارد ولكنها خاصة بالأغنياء الذين يركبون فى الدرجة

٤٨

الأولى والثانية ، وهؤلاء الأغنياء منهم من يصيبه دوار شديد يتعذر معه الاغتسال ، أو خفيف يشق معه الاغتسال ولا يتعذر ، فإذا كانت هذه السفن التي يوجد فيها الماء على هذه الحال يتعسر فيها الاغتسال أو يتعذر فكيف يكون الاغتسال فى قطر السكك الحديدية أو فى قوافل الجمال والبغال؟.

روى أن هذه الآية نزلت فى بعض أسفار النبي صلى الله عليه وسلم وقد انقطع عقد لعائشة ، فأقام النبي صلى الله عليه وسلم يلتمسه والناس معه وليسوا على ماء وليس معهم ماء ، فلما نزلت وصلّوا بالتيمم جاء أسيد بن الحضير إلى مضرب عائشة فجعل يقول : ما أكثر بركتكم يا آل أبى بكر! ، وفى رواية : يرحمك الله يا عائشة ما نزل بك أمر تكرهينه إلا جعل الله تعالى فيه للمسلمين فرجا.

ثم ذكر منشأ السهولة واليسر فقال :

(إِنَّ اللهَ كانَ عَفُوًّا غَفُوراً) العفو هنا التيسير والسهولة ، ومنه قوله تعالى «خُذِ الْعَفْوَ» وقوله صلى الله عليه وسلم «قد عفوت عن صدقة الخيل والرقيق» أي أسقطتها تيسيرا عليكم ، ومن عفوه وتسهيله أن أسقط فى حال المرض والسفر وجوب الوضوء والغسل.

وفى ذلك إيماء إلى أن ما كان من الخطأ فى صلاة السكارى كقولهم : قل يا أيها الكافرون أعبد ما تعبدون ونحن نعبد ما تعبدون ـ مغفور لهم لا يؤاخذون عليه.

قال السيد حسن صديق خان فى شرحه لـ [لروضة الندية] : قد كثر الاختباط فى تفسير هذه الآية : وإن كنتم مرضى أو على سفر إلخ ، والحق أن قيد عدم وجود الماء راجع إلى قوله (أَوْ جاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ النِّساءَ) فتكون الأعذار ثلاثة : السفر والمرض وعدم وجود الماء فى الحضر ، وهذا ظاهر على قول من يقول : إن القيد إذا وقع بعد جمل متصلة كان قيدا لآخرها ، وأما على قول من يقول إنه يكون قيدا للجميع إلا أن يمنع مانع فكذلك أيضا لأنه قد وجد المانع هنا من تقييد السفر والمرض بعدم وجود الماء ـ وهو أن كل واحد منهما عذر مستقل فى غير هذا الباب

٤٩

كالصوم ، ويؤيد هذا أحاديث التيمم التي وردت مطلقة وغير مقيدة بالحضر اه.

ومنه تعلم أن رأيه كرأى الأستاذ الإمام من أن السفر وحده عذر كاف فى التيمم وجد الماء أو لم يوجد.

(أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ يَشْتَرُونَ الضَّلالَةَ وَيُرِيدُونَ أَنْ تَضِلُّوا السَّبِيلَ (٤٤) وَاللهُ أَعْلَمُ بِأَعْدائِكُمْ وَكَفى بِاللهِ وَلِيًّا وَكَفى بِاللهِ نَصِيراً (٤٥) مِنَ الَّذِينَ هادُوا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَواضِعِهِ وَيَقُولُونَ سَمِعْنا وَعَصَيْنا وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ وَراعِنا لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْناً فِي الدِّينِ وَلَوْ أَنَّهُمْ قالُوا سَمِعْنا وَأَطَعْنا وَاسْمَعْ وَانْظُرْنا لَكانَ خَيْراً لَهُمْ وَأَقْوَمَ وَلكِنْ لَعَنَهُمُ اللهُ بِكُفْرِهِمْ فَلا يُؤْمِنُونَ إِلاَّ قَلِيلاً (٤٦))

تفسير المفردات

ألم تر : أي ألم تنظر ، نصيبا : حظا ، السبيل : الطريق القويم ، وليا : أي يتولى شؤونكم ، نصيرا : معينا يدفع شرهم عنكم ، من الذين هادوا : هم اليهود ، غير مسمع :

يحتمل أن يكون المعنى غير مسمع مكروها ، وأن يكون غير مقبول منك ولا مجاب إلى ما تدعو إليه ، وراعنا : إما بمعنى ارقبنا وانظرنا نكلمك ، وإما بمعنى كلمة عبرانية كانوا يتسابون بها ، وهى (راعينا). ليّا بألسنتهم : أي فتلا بها وتحريفا ، طعنا فى الدين : قدحا فيه ، أقوم : أعدل وأسدّ ، إلا قليلا : أي إلا قليلا من الإيمان لا يعبأ به.

المعنى الجملي

بعد أن ذكر الله سبحانه فى سابق الآيات كثيرا من الأحكام الشرعية ووعد فاعلها بجزيل الثواب ، وأوعد تاركها بشديد العقاب ، انتقل هنا إلى ذكر حال بعض الأمم

٥٠

الذين تركوا أحكام دينهم وحرّفوا كتابهم واشتروا الضلالة بالهدى ، لينبه الذين خوطبوا بالأحكام المتقدمة إلى أن الله مهيمن عليهم كما هيمن على من قبلهم ، فإذا هم قصّروا أخذهم بالعقاب الذي رتبه على ترك أحكام دينه فى الدنيا والآخرة ، والمؤمنون بالله حقا بعد أن سمعوا الوعد والوعيد المتقدمين لا بد أن يأخذوا بهذه الأحكام على الوجه الموصّل إلى إصلاح الأنفس ، وذلك هو الأثر المطلوب منها ، ولن يكون ذلك إلا إذا أخذت بصورها ومعانيها ، لا بأخذها بصورها الظاهرة فحسب.

وقد اكتفى بعض الأمم من الدين ببعض رسومه الظاهرة فقط كبعض اليهود الذين كانوا يكتفون ببعض القرابين وأحكام الدين الظاهرة ، وهذا لا يكفى فى اتباع الدين والقيام به على الوجه المصلح للنفوس كما أراده الله.

فأرشدنا سبحانه إلى أن عمل الرسوم الظاهرة فى الدين كالغسل والتيمم لا يغنى عنهم شيئا إذا لم يطهروا القلوب حتى ينالوا مرضاته ويكونوا أهلا لكرامته ، ولا يكون حالهم كحال بعض من سبقهم من الأمم.

الإيضاح

(أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ يَشْتَرُونَ الضَّلالَةَ وَيُرِيدُونَ أَنْ تَضِلُّوا السَّبِيلَ) أي ألم تنظر إلى هؤلاء الذين أعطوا طائفة من الكتاب الإلهى ، كيف حرموا هدايته واستبدلوا بها ضدها ، فهم يختارون الضلالة لأنفسهم ويريدون أن تضلوا أيها المؤمنون طريق الحق القويم كما ضلوا هم ، فهم دائبون على الكيد لكم ، ليردوكم عن دينكم إن استطاعوا.

والتعبير بالشراء دون الاختيار للإيماء إلى أنهم كانوا فرحين بما عملوا ، ظانين أن الخير كل الخير فيما صنعوا ، والتعبير بالنصيب يدل على أنهم لم يحفظوا كتابهم كله ، إذ هم لم يستظهروه زمن التنزيل كما حفظ القرآن ولم يكتبوا منه نسخا متعددة فى العصر الأول كما فعلنا حتى إذا ما فقد بعضها قام مقامه بعض آخر ، بل كان عند اليهود نسخة

٥١

من التوراة هى التي كتبها موسى عليه السلام ففقدت ، ويؤيد هذا قوله تعالى «فَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ».

والخلاصة ـ إنهم لم يأخذوا الكتاب كله ، بل تركوا كثيرا من أحكامه لم يعملوا بها وزادوا عليها ، والزيادة فيه كالنقص منه ، فالتوراة تنهاهم عن الكذب وإيذاء الناس وأكل الربا وكانوا يفعلون ذلك ، وزاد لهم علماؤهم ورؤساؤهم كثيرا من الأحكام والرسوم الدينية فتمسكوا بها وهى ليست من التوراة ولا مما يعرفونه عن موسى عليه السلام.

فالذى لم يعملوا به من التوراة قسمان : أحدهما ما أضاعوه ونسوه ، وثانيهما ما حفظوا حكمه وتركوا العمل به ، وهو كثير أيضا.

(وَاللهُ أَعْلَمُ بِأَعْدائِكُمْ) أي والله أعلم منكم بمن هم أعداؤكم فأنتم تظنون فى المنافقين أنهم منكم وما هم منكم ، فهم يكيدون لكم فى الخفاء ويغشّونكم فى الجهر ، فيبرزون الخديعة فى معرض النصيحة ، ويظهرون لكم الولاء والرغبة والنصرة ، والله أعلم بما فى قلوبهم من العداوة والبغضاء.

(وَكَفى بِاللهِ وَلِيًّا وَكَفى بِاللهِ نَصِيراً) فهو الذي يرشدكم إلى ما فيه خيركم وفلا حكم ، وهو الذي ينصركم على أعدائكم بتوفيقكم لصالح العمل والهداية لأسباب النصر من الاجتماع والتعاون وسائر الوسائل التي تؤدى إلى القوة ، فلا تطلبوا الولاية من غيره ولا النصرة من سواه ، وعليكم باتباع السنن التي وضعها فى هذه الحياة ، ومنها عدم الاستعانة بالأعداء الذين لا يعملون إلا لمصالحهم الخاصة كاليهود وغيرهم.

(مِنَ الَّذِينَ هادُوا) هذا بيان للمراد من الذين أوتوا الكتاب بأنهم يهود ونصارى ، وقوله (وَاللهُ أَعْلَمُ) وقوله (وَكَفى بِاللهِ) جملتان معترضتان بين البيان والمبيّن.

ثم بين المراد من اشترائهم الضلالة بالهدى فقال :

(يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَواضِعِهِ) التحريف يطلق على معنيين : أحدهما تأويل القول بحمله على غير معناه الذي وضع له ، كما يؤوّلون البشارات التي وردت فى النبي صلى الله عليه وسلم ويؤولون ما ورد فى المسيح ويحملونه على شخص آخر ولا يزالون ينتظرونه

٥٢

إلى اليوم. وثانيهما أخذ كلمة أو طائفة من الكلم من موضع من الكتاب ووضعها فى موضع آخر ، وقد حصل هذا فى كتب اليهود ، خلطوا ما يؤثر عن موسى بما كتب بعده بزمن طويل ، وكذلك ما وقع فى كلام غيره من أنبيائهم. اعترف بهذا بعض العلماء من أهل الكتاب ، وقد كانوا يقصدون بهذا التحريف الإصلاح فى زعمهم ، وسبب هذا النوع من التحريف أنه وجدت عندهم قراطيس متفرقة من التوراة بعد فقد النسخة التي كتبها موسى عليه السلام وأرادوا أن يؤلفوا بينها فجاء فيها ذلك الخلط بالزيادة والتكرار ، كما أثبت ذلك بعض الباحثين من المسلمين كالشيخ رحمة الله الهندي فى كتابه [إظهار الحق] وأورد له من الشواهد ما لا يحصى.

(وَيَقُولُونَ سَمِعْنا وَعَصَيْنا وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ وَراعِنا) أي ويقول هؤلاء اليهود للنبى صلى الله عليه وسلم : سمعنا قولك وعصينا أمرك ، وقد روى عن مجاهد أنهم قالوا للنبى صلى الله عليه وسلم ، سمعنا قولك ولكن لا نطيعك ، وكذلك كانوا يقولون له (اسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ) يدعون عليه ، على معنى لا أسمعك الله ، فى الموضع الذي يقول فيه المتأدبون للمخاطبين «لا سمعت أذى أو لا سمعت مكروها».

وكذلك كانوا يقولون له : راعنا ، وقد روى أن اليهود كانوا يتسابون بكلمة (راعينا) العبرانية فسمعوا بعض المؤمنين يقولون للنبى صلى الله عليه وسلم : راعنا من المراعاة فافترصوها ، وصاروا يلوون ألسنتهم بالكلمة ويصرفونها إلى المعنى الآخر.

(لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْناً فِي الدِّينِ) أي هم يلوون ألسنتهم فيجعلونها فى الظاهر راعنا وبلىّ اللسان وإمالته (راعينا) قصدا منهم للسّباب والشتم والسخرية ، أو جعله راعيا من رعاة الغنم أو من الرعونة ، ومن تحريف اللسان وليّه خطابهم للنبى صلى الله عليه وسلم وتحيته بقولهم (السام ـ الموت ـ عليكم) يوهمون بفتل اللسان وجمجته أنهم يقولون له (السلام عليكم) وقد ثبت هذا فى صحيح الأحاديث ، كما ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم بعد أن علم عنهم ذلك كان يحيهم بقوله (وعليكم) أي كل أحد يموت.

(وَلَوْ أَنَّهُمْ قالُوا سَمِعْنا وَأَطَعْنا وَاسْمَعْ وَانْظُرْنا لَكانَ خَيْراً لَهُمْ وَأَقْوَمَ) أي ولو أنهم

٥٣

قالوا سمعنا قولك وأطعنا أمرك ، لعلمهم بصدقك ولوجود الأدلة والبينات المتظاهرة على ذلك ، وكذلك لو قالوا : اسمع منا ما نقول وانظرنا : أي أمهلنا وانتظرنا ولا تعجل علينا حتى نتفهم عنك ما تقول ، لكان ذلك خيرا لهم وأصوب مما قالوه ، لما فيه من الأدب والفائدة وحسن العاقبة.

ثم بين عاقبة أمرهم فقال :

(وَلكِنْ لَعَنَهُمُ اللهُ بِكُفْرِهِمْ) أي ولكن خذلهم الله وأبعدهم عن الطاعة بسبب كفرهم ، إذا مضت سنة الله فى البشر بأن الكفر يمنع صاحبه من التفكر والتروّى والأدب فى الخطاب ، ويجعله بعيدا من الخير والرحمة ، فلا يمتّ إليهما بسبب ، ولا يصل إليهما برحم ولا نسب.

(فَلا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلاً) أي فهم لا يؤمنون إلا إيمانا قليلا لا يعتدّ به ، فهو لا يصلح عملا ولا يطهر نفسا ولا يرقى عقلا ، ولو كان إيمانهم بنبيهم وكتابهم إيمانا كاملا لهداهم إلى التصديق بمن جاء مصدقا لما معهم من الكتاب ، وبين لهم ما نسوا منه وما حرفوا فيه ، كما جاءهم بمكارم الأخلاق والنظم الكاملة فى الاجتماع والتشريع ، وبما إن اتبعوه كانوا على الهدى والرشاد ، وعلى الحق والسداد.

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ آمِنُوا بِما نَزَّلْنا مُصَدِّقاً لِما مَعَكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ وُجُوهاً فَنَرُدَّها عَلى أَدْبارِها أَوْ نَلْعَنَهُمْ كَما لَعَنَّا أَصْحابَ السَّبْتِ وَكانَ أَمْرُ اللهِ مَفْعُولاً (٤٧))

تفسير المفردات

الكتاب : التوراة ، الطمس : إزالة الأثر بمحوه أو إخفائه كما تطمس آثار الدار وأعلام الطرق ، إما بأن تنقل حجارتها ، وإما بأن تسفوها الرياح ، ومنه الطمس على الأموال فى قوله «رَبَّنَا اطْمِسْ عَلى أَمْوالِهِمْ» أي أزلها وأهلكها ، والطمس على

٥٤

الأعين فى قوله «وَلَوْ نَشاءُ لَطَمَسْنا عَلى أَعْيُنِهِمْ» إما إزالة نورها وإما محو حدقتها ، والوجه تارة يراد به الوجه المعروف ، وتارة وجه النفس وهو ما تتوجه إليه من المقاصد كما قال تعالى «أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ» وقال «وَمَنْ يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللهِ» وقال «فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً» والأدبار واحدها دبر ، وهو الخلف والقفا ، والارتداد : هو الرجوع إلى الوراء ، إما فى الحسيات وإما فى المعاني ، ومن الأول الارتداد والفرار فى القتال ، ومن الثاني قوله «إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلى أَدْبارِهِمْ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى الشَّيْطانُ سَوَّلَ لَهُمْ وَأَمْلى لَهُمْ» ونلعنهم : نهلكهم ، كما لعنا أصحاب السبت ، أي كما أهلكنا أصحاب السبت ، وقيل مسخهم الله وجعلهم قردة وخنازير كما أخرجه ابن جرير عن الحسن.

المعنى الجملي

بعد أن نعى على أهل الكتاب فى الآية السالفة اشتراءهم الضلالة بالهدى بتحريفهم بعض الكتاب وإضاعة بعضه الآخر ـ ألزمهم هنا بالعمل بما عرفوا وحفظوا بأن يؤمنوا بالقرآن ، ذلك أن إيمانهم بالتوراة يستدعى الإيمان بما يصدّقها ، وحذّرهم من مخالفة ذلك ، وتوعدهم بالويل والثبور ، وعظائم الأمور.

الإيضاح

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ آمِنُوا بِما نَزَّلْنا مُصَدِّقاً لِما مَعَكُمْ) أي أيها اليهود والنصارى آمنوا بالكتاب الذي جاء مصدقا لما معكم ، من تقرير التوحيد والابتعاد عن الشرك ، وما يقوّى ذلك الإيمان من ترك الفواحش ما ظهر منها وما بطن ، وتلك هى أصول الدين وأركانه ، والمقصد الأسمى من إرسال جميع الرسل ، ولا خلاف بينهم فى ذلك ، وإنما الخلاف فى التفاصيل وطرق حمل الناس عليها ، وهدايتهم بها ، وترقيتهم فى معارج الفلاح بحسب السنن التي وضعها الله فى ارتقاء البشر ، بتعاقب الأجيال ، واختلاف الأزمان.

٥٥

انظر إلى الحكومات المختلفة المتعاقبة تجد أن رائدها العدل ، ولكن الوسائل الموصلة إليه تختلف باختلاف الأمم والبيئة والزمان والمكان ، فتغيير الحاكم الجديد لبعض ما كان عليه من قبله ليس ببدع ولا مستنكر إذا كان مقصده إقامة ميزان العدل فيما بين الناس ، وحينئذ يسمى مصدقا لما قبله ، لا مكذبا ولا مخالفا.

والقرآن قرر نبوة داود وسليمان وموسى وعيسى عليهم الصلاة والسلام فيما جاءوا به ووبّخ المدعين اتباعهم على إضاعتهم بعض ما جاءوا به وتحريف بعضه الآخر ، وعلى عدم الاهتداء والعمل بما هو محفوظ عندهم ، حتى إن أكثرهم هدموا الأسس التي جاء بها الأنبياء ، ومن أعظمها التوحيد ، فاتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله والمسيح ابن مريم ، وما أمروا إلا ليعبدوا إلها واحدا.

(مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ وُجُوهاً فَنَرُدَّها عَلى أَدْبارِها) أي آمنوا قبل أن يحل بكم العقاب من طمس الوجوه والرد على الأدبار : أي من قبل أن نطمس وجوه مقاصدكم التي توجهتم بها من كيد الإسلام ، ونردها خاسرة إلى الوراء بإظهار الإسلام ونصره عليكم ، وقد كان لهم عند نزول الآية شىء من المكانة والقوة والعلم والمعرفة.

وجعل بعضهم الرد على الأدبار حسيا فقال : نردهم على أدبارهم بالجلاء إلى فلسطين والشام ، وهى بلادهم التي جاءوا منها.

وخلاصة المعنى ـ آمنوا قبل أن نعمّى عليكم السبيل بما نبصّر المؤمنين بشؤونكم ونغريهم بكم ، فتردّوا على أدباركم بأن يكون سعيكم إلى غير الخير لكم.

(أَوْ نَلْعَنَهُمْ كَما لَعَنَّا أَصْحابَ السَّبْتِ) أي آمنوا قبل أن تقعوا فى الخيبة والخذلان وذهاب العزة باستيلاء المؤمنين عليكم وإجلائكم من دياركم كما حدث لطائفة منكم ، أو بالهلاك كما وقع بقتل طائفة أخرى وهلاكها.

ثم هددهم وتوعدهم فقال :

(وَكانَ أَمْرُ اللهِ مَفْعُولاً) المراد من الأمر الأمر التكوينىّ المعبر عنه بقوله عز من قائل «إِنَّما أَمْرُهُ إِذا أَرادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ» أي إنما أمره بإيقاع شىء ما

٥٦

نافذ لا محالة ، ومن هذا ما أوعدتم به ، قال ابن عباس : يريد لا رادّ لحكمه ولا ناقض لأمره ، فلا يتعذر عليه شىء يريد أن يفعله ، كما تقول فى الشيء الذي لا شك فى حصوله : هذا الأمر مفعول وإن لم يفعل بعد.

والخلاصة ـ إنه يقول لهم : أنتم تعلمون أن وعيد الله للأمم السالفة قد وقع ولا محالة ، فاحترسوا وكونوا على حذر من وعيده لكم.

(إِنَّ اللهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللهِ فَقَدِ افْتَرى إِثْماً عَظِيماً (٤٨) أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنْفُسَهُمْ بَلِ اللهُ يُزَكِّي مَنْ يَشاءُ وَلا يُظْلَمُونَ فَتِيلاً (٤٩) انْظُرْ كَيْفَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ وَكَفى بِهِ إِثْماً مُبِيناً (٥٠))

تفسير المفردات

يقال افترى فلان الكذب إذا اعتمله واختلقه ، وأصله من الفري بمعنى القطع ، وتزكية النفس مدحها ، قال تعالى «فَلا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقى» والظلم النقص ، والفتيل : ما يكون فى شق نواة التمر مثل الخيط ، وبه يضرب المثل فى الشيء الحقير كما يضرب بمثقال الذرة ، قال الراغب : الإثم والآثام اسم للأفعال المبطّئة عن الثواب : أي عن الخيرات التي يثاب المرء عليها ، وقد يطلق الإثم على ما كان ضارّا.

المعنى الجملي

بعد أن هدد سبحانه اليهود على الكفر وتوعدهم عليه بأشد الوعيد كطمس الوجوه والرد على الأدبار ، ثم بين أن ذلك الوعيد واقع لا محالة بقوله : وكان أمر الله مفعولا.

ذكر هنا أن هذا الوعيد وشديد التهديد إنما هو لجريمة الكفر ، فأما سائر الذنوب سواه فالله قد يغفرها ويتجاوز عن زلاتها.

٥٧

أخرج ابن المنذر عن أبى مجلز قال : لما نزل قوله تعالى «قُلْ يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللهِ إِنَّ اللهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ» قام النبي صلى الله عليه وسلم على المنبر فتلاها على الناس ، فقام إليه رجل فقال : والشرك بالله ، فسكت ، ثم قام إليه فقال يا رسول الله والشرك بالله تعالى فسكت مرتين أو ثلاثا فنزلت هذه الآية.

الإيضاح

(إِنَّ اللهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ) الشرك بالله ضربان :

١) شرك فى الألوهية ، وهو الشعور بسلطة وراء الأسباب والسنن الكونية لغير الله تعالى.

٢) شرك فى الربوبية ، وهو الأخذ بشىء من أحكام الدين بالتحليل والتحريم عن بعض البشر دون الوحى ، وهذا ما أشار إليه الكتاب الكريم بقوله «اتَّخَذُوا أَحْبارَهُمْ وَرُهْبانَهُمْ أَرْباباً مِنْ دُونِ اللهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ» وقد فسر النبي صلى الله عليه وسلم اتخاذهم أربابا بطاعتهم واتباعهم فى أحكام الحلال والحرام.

وقد سرى الشرك فى الألوهية والربوبية إلى بعض المسلمين منذ قرون كثيرة.

وفى الآية إيماء إلى تسمية أهل الكتاب بالمشركين ، وكأنه يقول لهم : لا يغرّنكم انتماؤكم إلى الكتب والأنبياء ، وقد هدمتم أساس الدين بالشرك الذي لا يغفره الله بحال.

والحكمة فى عدم مغفرة الشرك أن الدين إنما شرع لتزكية النفوس وتطهير الأرواح وترقية العقول ، والشرك ينافى كل هذا ، لأنه منتهى ما تهبط إليه العقول ، ومنه تتولد سائر الرذائل التي تفسد الأفراد والجماعات ، فبه يرفعون من دونهم أو من هم مثلهم إلى مرتبة التقديس والخضوع لهم ، باعتبار أن السلطة العليا بأيديهم ، وأن إرضاءهم وطاعتهم هو إرضاء لله وطاعة له.

٥٨

وبالتوحيد يعتق المرء من رق العبودية لأحد من البشر أو لشىء من الأشياء السماوية أو الأرضية ، ويكون حرا كريما لا يخضع إلا لمن خضعت لسننه الكائنات ، بما أقامه من ربط الأسباب بالمسببات.

والخلاصة ـ إن أرواح الموحدين تكون راقية لا تهبط بها الذنوب إلى الحضيض الذي تهوى إليه أرواح المشركين ، إذ مهما عمل المشرك من الطيبات ، فإن روحه تبقى مظلمة بالعبودية والخضوع لغير الله ، ومهما أذنب الموحدون ، فإن ذنوبهم لا تحيط بأرواحهم ، إذ خيرهم يغلب شرهم ، ولا يبعد بهم الأمد وهم فى غفلة عن ربهم كما قال تعالى «إِذا مَسَّهُمْ طائِفٌ مِنَ الشَّيْطانِ تَذَكَّرُوا فَإِذا هُمْ مُبْصِرُونَ» فهم يسرعون إلى التوبة ويتبعون السيئة بالحسنة حتى يذهب أثرها من النفس ، وذلك هو غفرانها.

(وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ) أي ويغفر ما دون الشرك لمن يشاء من عباده الذين أذنبوا ، ومشيئة الله تعالى تكون وفق حكمته ، وعلى مقتضى سنته فى خليقته ، وقد جرت سنته بألا يغفر الذنوب التي لا يتوب صاحبها ، ولا يتبعها بالحسنات التي تزيل آثارها من نفس فاعلها.

وقصارى ذلك ـ إن الشرك لإفساده للنفوس يترتب عليه العقاب حتما فى الدنيا والآخرة ، وما عداه لا يصل إلى درجته فى إفساد النفوس ، فمغفرته ممكنة تتعلق بها المشيئة الإلهية ، فمنه ما يكون تأثيره السيء فى النفوس قويا ، ومنه ما يكون ضعيفا يغفر بالتأثير بصالح العمل.

(وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللهِ فَقَدِ افْتَرى إِثْماً عَظِيماً) أي ومن يجعل لغير الله شركة مع الله قيّوم السموات والأرض ـ سواء أكانت الشركة بالإيجاد أو بالتحليل والتحريم ـ فقد اخترع ذنبا عظيم الضرر ، تستصغر فى جنب عظمته جميع الذنوب والآثام ، فهو جدير بألا يغفر ، وما دونه قد يمحى بالغفران.

(أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنْفُسَهُمْ) أي انظر واعجب من الذين يدّعون أنهم أزكياء

٥٩

بررة عند الله ، مع ما هم عليه من الكفر وعظيم الذنب ، زعما منهم أن الله يكفر لهم ذنوبهم التي عملوها ، والله لا يغفر لكافر شيئا من كفره ومعاصيه.

وتزكية النفس تارة تكون بالعمل الذي يجعلها زاكية طاهرة كثيرة الخير والبركة بتنمية فضائلها وكمالاتها ، ولا يكون ذلك إلا بابتعادها عن الشرور والآثام التي تعوقها عن الخير وهذه التزكية محمودة ، وهى التي عناها الله سبحانه بقوله : «قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاها».

وتارة تكون بالقول بادعاء الكمال والزكاة ، وقد اتفق العقلاء على استهجان تزكية المرء نفسه بالقول ولو حقا ، ومصدر هذه التزكية الجهل والغرور ، ومن آثاره السيئة الاستكبار عن قبول الحق ، والانتفاع بالنصح.

روى ابن جرير عن الحسن أن الآية نزلت فى اليهود والنصارى حيث قالوا «نَحْنُ أَبْناءُ اللهِ وَأَحِبَّاؤُهُ» وقالوا «لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كانَ هُوداً أَوْ نَصارى» وقالت اليهود «لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّاماً مَعْدُودَةً» وروى عن السدى أنه قال :

نزلت فى اليهود حيث قالوا : إنا نعلم أبناءنا التوراة صغارا فلا تكون لهم ذنوب ، وذنوبنا مثل ذنوب أبنائنا ، ما عملنا بالنهار كفّر عنا بالليل.

وقد رد الله عليهم دعواهم الزكاة والطهارة فقال :

(بَلِ اللهُ يُزَكِّي مَنْ يَشاءُ) أي لا عبرة بتزكيتكم أنفسكم بأن تقولوا : نحن أبناء الله وأحباؤه ، وبأنكم لا تعذبون فى النار ، لأنكم شعب الله المختار ، وتتفاخروا بنسبكم وبدينكم ، بل الله يزكى من يشاء من عباده ، من أي شعب كان ، ومن أي قبيلة كانت ، فيهديهم إلى صحيح العقائد ، وفاضل الآداب ، وصالح الأعمال.

(وَلا يُظْلَمُونَ فَتِيلاً) أي ولا ينقص الله هؤلاء الذين يزكون أنفسهم شيئا من الجزاء على أعمالهم.

فخذلانهم فى الدنيا بالعبودية لغيرهم ، وفى الآخرة بالعذاب والحرمان من النعيم والثواب ، ما كان بظلم من الله عز اسمه ، بل كان بنقصان درجات أعمالهم ، وعجزها

٦٠