تعليقة على معالم الاصول - ج ٦

السيّد علي الموسوي القزويني

تعليقة على معالم الاصول - ج ٦

المؤلف:

السيّد علي الموسوي القزويني


المحقق: السيد علي العلوي القزويني
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
المطبعة: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ١
ISBN: 964-470-559-9
الصفحات: ٤٨٦

بقائه وارتفاعه في الوقت الآخر.

والثانية : أنّ القضايا الشرطيّة وما يجري مجراها تفيد الحكم بوجود شيء على تقدير وجود آخر ، على معنى تعليق حصول أمر على حصول أمر غير حاصل.

والثالثة : أنّ قضيّة التعليق عدم تحقّق المعلّق في الخارج ما لم يتحقّق المعلّق عليه ، على معنى توقّف وجود الأوّل على وجود الثاني.

وهذه المقدّمات كلّها صحيحة لا كلام في شيء منها ، وإنّما الكلام في تشخيص المعلّق هل هو حكم القضيّة أو موضوعه ، ومبنى الدليل على تخيّل الأوّل ، فيتفرّع عليه حينئذ القول بأنّ الحكم المعلّق لم يكن ثابتا في الزمان الأوّل من جهة عدم وجود الشرط المعلّق عليه ثمّة ، وإنّما هو قابل للثبوت باعتبار قابليّة المعلّق عليه للوجود ، فلا معنى لاستصحابه في الزمان الثاني ، لأنّ استصحاب الأمر الغير الثابت غير معقول ، ومن ذلك شبهة الدليل.

ولكنّ الّذي يساعد عليه النظر كون التعليق في موضوع الحكم لا في نفسه ، بل هو في جميع القضايا التعليقيّة يقع فعلا في حال النطق خبريّا كان أو طلبيّا ، ويبقى المحكوم به في الأوّل والمطلوب في الثاني ، مراعى حصوله على حصول المعلّق عليه ، فقولنا : « إن كانت الشمس طالعة فالنهار موجود » حكم فيه بوجود النهار على تقدير طلوع الشمس ، فالحكم ـ أعني إسناد الوجود إلى النهار على تقدير طلوع الشمس ـ إنّما يقع حال النطق ويبقى وجود النهار معلّقا على طلوع الشمس ، لأنّه الّذي لا يتحقّق ما لم يتحقّق الطلوع. ولذا يقال : إنّ صدق الشرطيّة لا يتوقّف على صدق الشرط ، ومعناه : أنّ صدق الإسناد لمطابقته الواقع لا يتوقّف على تحقّق الشرط في الخارج ، وكذا الكلام في قولنا : « إن جاءك زيد فأكرمه » فإنّ الحكم وهو الطلب الحتمي المتضمّن لمنع الترك على تقدير المجيء يقع في حال النطق ، والمطلوب وهو إيجاد الإكرام يبقى مراعى على تحقّق المجيء من زيد وبدونه لا يوجد الإكرام ، لأنّه ليس بمطلوب حينئذ لا أنّه لا وجوب أصلا ، وهذا الوجوب لتيقّن ثبوته قبل وجود الشرط المعلّق عليه إذا صار لعروض حالة أو تبدّل زمان مشكوك البقاء جاز استصحابه ، لتحقّق أركان الاستصحاب وشرائطه وشمول أدلّته له.

وعلى هذا القياس استصحاب الحرمة في مسألة العنب والزبيب لثبوت الحرمة في حال العنبيّة على تقدير الغليان والشكّ في بقائها في حال الزبيبيّة ، فإنّه في غاية الصحّة إن

٤٢١

لم يخدشه عدم بقاء موضوع المستصحب.

لا يقال : ما ذكرت من كون المعلّق في التعليقيّات هو المحكوم به لا الحكم والمطلوب لا الطلب ، ينافي ظاهر ما ذكروه في تعريف الواجب المشروط من أنّه ما يتوقّف وجوبه على ما يتوقّف عليه وجوده ، فإنّه يعطي كون الموقوف على وجود مقدّمة الوجود هو الوجوب لا الواجب.

لمنع المنافاة ، لأنّ معنى وجوبه في قولهم : « ما يتوقّف وجوبه » وجوب الإتيان به ، وقضيّة ظاهر التعريف أنّ مع عدم وجود مقدّمة الوجود لا يجب الإتيان به إمّا لأنّه لا وجوب أصلا كما في حقّ الفاقدين للشرط في تمام مدّة العمر ، أو لأنّ الإتيان به في هذه الحالة خاصّة ليس بواجب وإن تحقّق فيها أصل الوجوب المتعلّق بالإتيان بعد وجود الشرط في حقّ الفاقدين للشرط في بعض آنات العمر مع اتّفاق وجدانهم إيّاه في بعض آخر من آناته ، فليتأمّل فإنّه دقيق.

فالأقوى على ما حقّقناه جريان الاستصحاب التقديري وحجّيّته.

والمناقشة فيه : بعدم بقاء موضوع المستصحب وتبدّله.

يدفعها : أنّ الكلام في حجّيّة الاستصحاب التقديري نوعا مع فرض بقاء موضوع المستصحب وعدم تبدّله ، وأمّا عدم الحجّيّة من جهة عدم بقاء الموضوع فلا اختصاص له بذلك ليكون هو المناط الكلّي في منع حجّيّته ، بل سائر الاستصحابات أيضا مع عدم بقاء موضوعاتها ليست بحجّة.

كما أنّ المناقشة فيه بكونه معارضا باستصحاب حكم آخر تنجيزي كاستصحاب الإباحة قبل الغليان في مثال العصير الزبيبي ونحو ذلك أيضا.

يدفعها : بورود الاستصحاب التعليقي على غيره من الاستصحابات التنجيزيّة كما هو واضح.

هذا ولا يذهب عليك إنّا وإن رجّحنا الاستصحاب التعليقي واخترنا حجّيّته ، إلاّ أنّها حيث لم يكن هناك مانع آخر من حجّيّته من تبدّل موضوع ونحوه ، وحينئذ فلا يرد علينا القول بحرمة العصير الزبيبي تعويلا على استصحاب الحرمة التقديريّة الثابتة له حال العنبيّة كما تمسّك به العلاّمة الطباطبائي ، ليكون ذلك عدولا عمّا اخترناه في الفروع من القول بحلّيّته ، لأنّا تخلّصنا عنه ثمّة في هذه المسألة بالخصوص بتبدّل الموضوع ، لأنّ الحكم معلّق على ماء العنب ، والزبيب ليس بعنب بل كان عنبا ، فليتدبّر.

٤٢٢

المطلب الحادي عشر

في استصحاب الحكم العرضي ، ومحلّه أن يكون للشيء جهتان ذاتيّة غير معلومة الحكم وعرضيّة مرتفعة الحكم بمصادفة رافع له بعد اليقين بثبوته ، وذلك كما في الحيوان المتولّد من طاهر العين أبا كالغنم ونجس العين امّا كالكلب ، ولم يكن تابعا لأحد أبويه في الاسم ، ولا مماثلا لغيرهما من الحيوانات ، وكونه هذا الحيوان المتولّد منهما من حيث هو كذلك جهة ذاتيّة فيه ، وملاقاته لامّه برطوبة حين التولّد جهة عرضيّة ، ونجاسته من الجهة الاولى غير معلومة ، ومن الجهة الثانية معلومة ، مع فرض إصابة مطهّر شرعي إيّاه من مطر ، أو ماء جار ، أو ماء بحر على وجه أوجب زوال كلّ نجاسة عرضيّة قابلة للزوال ، فيشكّ حينئذ في نجاسته.

وحينئذ فلو حكم بنجاسته استصحابا لها ، لدفع ذلك الاستصحاب بأنّه لا بدّ فيه من اليقين السابق والشكّ اللاحق ، وبدون أحدهما يستحيل الاستصحاب. فلو اريد به استصحاب النجاسة المستندة إلى ذاته ، فهي غير معلومة من أوّل الأمر ، ولو اريد استصحاب النجاسة المستندة إلى الملاقاة العارضة له فهي غير مشكوكة بعد العلم بارتفاعها ، فلا يقين بثبوتها على تقدير ولا شكّ في ارتفاعها على تقدير آخر. والظاهر أنّ بطلان هذا الاستصحاب ممّا لا إشكال فيه.

ويزيد بطلانا ما يجامعه من الشكّ الساري بأن يكون الشكّ المأخوذ فيه ساريا ، وذلك كما لو اعتقد المجتهد في الواقعة بحكم خاصّ إلى زمان ثمّ بعد ذلك الزمان عرضه الشكّ في صحّة اعتقاده وفساده ، ومرجعه الشكّ في تحقّق الحكم المعتقد من أوّل الأمر وعدمه. وحينئذ فإن أراد إجراء ذلك الحكم في زمان الشكّ المذكور كان استصحابا مع الشكّ الساري ومستصحبه حكما عرضيّا ، لأنّه لو اريد به استصحاب ذلك الحكم من حيث كونه واقعيّا فهو غير معلوم الثبوت من أوّل الأمر ، ولو اريد به استصحابه من حيث كونه معتقدا أو من حيث إنّه ظاهري باعتبار عروض الاعتقاد فهو غير مشكوك البقاء لمكان القطع بارتفاعه.

ومن أمثلته العامّ المخصّص المقطوع حجّيّته قبل طروّ المخصّص ، فإذا طرأه يشكّ في بقاء حجّيّته على وجه يسري إلى ثبوتها في زمان اليقين بها ، فقد يحكم بالحجّيّة تمسّكا باستصحاب الحجّيّة المتيقّنة قبل طروّ المخصّص.

ويزيّفه : أنّ الشكّ فيه سار والمستصحب حكم عرضي ، لأنّه لو اريد بالحجّيّة المستصحبة ما هو بحسب الواقع ونفس الأمر فأصل ثبوتها غير معلوم ، ولو اريد ما هو

٤٢٣

كذلك بحسب المعتقد فارتفاعه غير مشكوك. وبالجملة استصحاب الحكم العرضي بنوعه باطل خصوصا مع سريان شكّه.

المطلب الثاني عشر

في استصحاب الحالة السابقة مع كون شكّه ساريا ،والمراد بسريان الشكّ كون زمان الشكّ ظرفا للشكّ في الحدوث أيضا ، على معنى كون الشكّ شكّا في البقاء والحدوث معا ، ومحلّه أن يتيقّن شيء في وقت ثمّ يجيء وقت آخر يشكّ في تحقّقه فيه على وجه يسري إلى تحقّقه في الوقت الأوّل أيضا وعدمه ، كعدالة زيد المتيقّنة يوم الخميس مثلا المشكوك فيها يوم الجمعة على وجه يسري الشكّ إلى تحقّقها يوم الخميس ، الّذي لزمه زوال اليقين السابق بتحقّقها فيه ، ومعناه تبدّل اليقين بها بالشكّ في أنّه هل كان عادلا يوم الخميس حسبما تيقّن به أو لا؟ بل كان اليقين بها فيه من باب الاعتقاد المخالف للواقع.

ومثلها صحّة العبادة المقطوع بها في أثناء العمل المشكوك فيها بعد الفراغ بسبب طروّ الشكّ في الإخلال ببعض أفعالها أو اختلال بعض شرائطها ، وهذا الشكّ كما ترى على خلاف الشكّ المأخوذ في مورد الاستصحاب.

والفرق بينهما بعد اشتراكهما في تيقّن شيء في وقت ثمّ مجيء وقت آخر طرأ فيه الشكّ في تحقّقه ، أنّ في الأوّل يشكّ في الوقت الثاني في حدوث ما تيقّن حدوثه في الوقت الأوّل ، وفي الثاني يشكّ في الوقت في بقاء ما تيقّن حدوثه في الوقت الأوّل ، والأوّل لزمه زوال اليقين الموجود في الوقت الأوّل في الوقت الثاني ، والثاني لزمه بقاء اليقين الموجود في الوقت الأوّل في الوقت الثاني ، فالشكّ الساري خارج عن قانون موضوع الاستصحاب ، ولا يتحقّق في مورده من جهته استصحاب ، ولا يصدق معه الاستصحاب أصلا لا لغة ولا اصطلاحا.

أمّا الأوّل : فلأنّ الاستصحاب لغة عبارة عن أخذ الشيء مصاحبا له ، والشيء ما لم يكن محرزا يستحيل أخذه مصاحبا له ، وهو مع سريان الشكّ ليس بمحرز ، فلا يمكن أخذه مصاحبا له.

وأمّا الثاني : فلأنّ الاستصحاب الاصطلاحي المدلول عليه بالأخبار لا يتأتّى إلاّ مع اليقين السابق والشكّ اللاحق ، على وجه يكون الزمان اللاحق ظرفا للشكّ واليقين معا مع تعلّق اليقين بحدوث الشيء أو وجوده المطلق وتعلّق الشكّ ببقائه ، ولا يقين مع الشكّ

٤٢٤

الساري أصلا ، لمكان التنافي بينهما فيما اتّحد متعلّقهما حدوثا ، فإذا آل الشكّ في الزمان الثاني إلى حدوث المتيقّن في الزمان السابق استحال معه بقاء اليقين بحدوثه ، وقضيّة ذلك أن لا يجري في مورده قاعدة الاستصحاب. وهل هنا قاعدة اخرى مفادها كون الشكّ المفروض الحادث بعد تيقّن الشيء المتعلّق بحدوثه وتحقّقه في الزمان السابق ملغى في نظر الشارع ، كما أنّ الشكّ في بقائه بعد تيقّن حدوثه ملغى في نظره بمقتضى أدلّة الاستصحاب أو لا؟

فعلى الأوّل كان ما ذكر قاعدة اخرى مغايرة لقاعدة الاستصحاب يرجع إليها في موارد الشكّ الساري. فقد يتوهّم ثبوت هذه القاعدة أيضا كالاستصحاب من أخبار الاستصحاب ، بدعوى : عدم اختصاص مدلولها بالشكّ في البقاء بل المنساق منها أنّ الشكّ بعد اليقين ملغى مطلقا ، سواء تعلّق بنفس ما تيقّنه سابقا أم ببقائه. ويظهر هذا التوهّم من المحقّق السبزواري فيما حكي عنه في الذخيرة في مسألة من شكّ في بعض أفعال الوضوء ، حيث قال : « والتحقيق أنّه إن فرغ من الوضوء متيقّنا للإكمال ثمّ عرض له الشكّ فالظاهر عدم وجوب إعادة شيء لصحيحة زرارة ولا تنقض اليقين أبدا بالشكّ (١) ».

وحكى بعض مشايخنا دعوى شمول الأخبار للقاعدتين عن غير واحد من معاصريه قال : « وإن اختلفوا بين مدّع لانصرافها إلى خصوص الاستصحاب ، وبين منكر له عامل بعمومه » وقال قبيل ذلك : « ولعلّه نشأ هذا التوهّم لهؤلاء من كلام الحلّي في السرائر حيث استدلّ على المسألة المذكورة بأنّه لا يخرج عن حال الطهارة إلاّ على يقين من كمالها وليس ينقض الشكّ اليقين ».

ثمّ دفعه بأنّ هذا التعبير من الحلّي لا يلزم أن يكون استفاده من أخبار عدم نقض اليقين بالشكّ.

ثمّ قال : « ويقرب من هذا التعبير عبارة جماعة من القدماء ، لكنّ التعبير لا يلازم دعوى شمول الأخبار للقاعدتين (٢) » انتهى.

أقول : الإنصاف منع استفادة القاعدتين معا من هذه الأخبار ، أمّا أوّلا : فلا ستلزامه استعمال اللفظ في معنيين ، فإنّ مرجع كون الشكّ ملغى في مورديهما إلى البناء في إحداهما على حدوث ما تيقّنه سابقا في الزمان الأوّل وفي اخراهما على بقاء ما تيقّنه سابقا في

__________________

(١) الذخيرة : ٤٤.

(٢) فرائد الاصول ٣ : ٣٠٣ ـ ٤٠٤.

٤٢٥

الزمان الثاني.

ولا ريب أنّ الحدوث في الزمان الأوّل والبقاء في الزمان الثاني أمران متغايران لا يمكن اجتماعهما في محلّ واحد ، ولا جامع بينهما فلا يجوز اجتماعهما في الإرادة من لفظ « لا ينقض » في إطلاق واحد.

إلاّ أن يقال : إنّ نقض اليقين بالشكّ عبارة عن رفع اليد عن المتيقّن سابقا بالبناء على عدم حدوثه أو عدم بقائه ، فالمطلوب بالنهي إنّما هو عدم رفع اليد عمّا تيقّنه ، وهو قدر جامع بين البناء على حدوثه والبناء على بقائه كلّ في محلّه المبتلى به ، وقد اريد من اللفظ فلا يلزم محذور الاستعمال في معنيين.

فالأولى أن نقول ـ في وجه عدم إمكان الجمع بين القاعدتين في الإرادة من اللفظ : إنّ فرض شموله لهما يؤدّي إلى التناقض في مدلول اللفظ ، لأنّ ما رجع الشكّ إلى حدوثه سابقا يلازم تيقّن عدم حدوثه قبل ذلك الزمان المشكوك في حدوثه فيه ، وشموله للاستصحاب يعطي البناء على بقاء ما تيقّنه سابقا سواء كان أمرا وجوديّا أو أمرا عدميّا ، ومن الأمر العدمي عدم حدوث ما شكّ في حدوثه قبل الزمان المشكوك في حدوثه فيه ، والاستصحاب يقتضي البناء على عدم حدوثه ، ففرض شموله للقاعدتين يقضي فيه بالبناء على حدوثه والبناء على عدم حدوثه وهما نقيضان ، فليتدبّر.

وأمّا ثانيا : فلمنع شمول الأخبار للقاعدتين معا ، بل هي ظاهرة في خصوص الاستصحاب.

أمّا أوّلا : فلظهور اليقين والشكّ في قوله عليه‌السلام : « لا تنقض اليقين أبدا بالشكّ (١) » ونحوه في الفعليّين منهما ، وهذا يختصّ بما يشكّ في بقائه ، إذ لا يقين فعلا فيما شكّ في حدوثه.

وأمّا ثانيا : فلشهادة موارد أكثر هذه الأخبار من حيث عدم انطباقها إلاّ على الشكّ في البقاء ، كما لا يخفى على من لاحظها بكونها مسوقة لإعطاء قاعدة الاستصحاب لا غير ، وليس هذا من تخصيص العامّ بالمورد ، إذ لا دلالة للفظ العامّ على العموم بالنظر إلى القاعدتين ليكون الخروج عنه بمقتضي خصوص المورد تخصيصا له ، بل هو من تحصيل العامّ بالمورد.

وأمّا ثالثا : فلأنّ المنساق من قوله عليه‌السلام : « لا ينقض اليقين بالشكّ (٢) » عرفا ـ على ما بيّنّاه مرارا ـ إفادة أنّ المعتبر في ترتيب أحكام الشيء عليه إنّما هو اليقين بوجوده ولا يعتبر معه

__________________

(١) الوسائل ١ : ١٧٤ ـ ١٧٥ الباب ١ من أبواب نواقض الوضوء ، ح ١.

(٢) نفس الهامش السابق.

٤٢٦

اليقين ببقائه ، فوجب ترتيبها إلى أن يحصل اليقين بارتفاعه.

ويرشد إليه أيضا ظاهر قوله عليه‌السلام في صحيحة زرارة : « فإنّه على يقين من وضوئه ، ولا ينقض اليقين أبدا بالشكّ ، ولكن ينقضه بيقين آخر (١) » وهذا كما ترى لا ينطبق إلاّ على الاستصحاب.

نعم قوله عليه‌السلام : « من كان على يقين فشكّ فليمض على يقينه (٢) » في بعض هذه الأخبار.

وكذلك قوله : « من كان على يقين فأصابه شكّ فليمض على يقينه (٣) » في البعض الآخر ، ربّما يوهم ظهوره في الشكّ الساري بملاحظة المضيّ في لفظ « كان » ولكنّه أيضا مدفوع بظهور « فليمض على يقينه » في الشكّ في البقاء لأنّ المضيّ على اليقين معناه البناء على بقاء المتيقّن ، فليتأمّل.

وهل هنا مدرك آخر يؤخذ منه هذه القاعدة الّتي موضوعها ما إذا اعتقد المكلّف قصورا أو تقصيرا في زمان بشيء موضوعا كان كعدالة زيد وطهارة نفسه ، أو حكما اجتهاديّا كما لو اعتقد المجتهد في وقت طهارة الغسالة أو العصير العنبي بعد الغليان ، أو تقليديّا كما لو اعتقد المقلّد كون فتوى مجتهده في الواقعة ذلك ثمّ زال ذلك الاعتقاد بطروّ الشكّ في ثبوت المعتقد ثمّة وعدمه ، ومرجعه إلى الشكّ في مطابقة اعتقاده الواقع وعدمها ، أو لا مدرك لنحو هذه القاعدة في الأدلّة الشرعيّة أصلا فلا تكون ثابتة؟

فنقول : إن قصد من القاعدة إثبات حدوث ما تيقّنه في السابق ثمّ بقائه مستمرّا إلى اليقين بارتفاعه ، ليترتّب عليه الآثار والأحكام المعلّقة على وجوده ، ولازمه الحكم بإجزاء الأعمال الماضية الواقعة على طبق وجوده وتطبيق غيرها من الأفعال المستقبلة عليه ، فلا مدرك لها من عقل ولا نقل حتّى الاستصحاب ، لما عرفت من تغاير موضوعيهما فلا يمكن إثباتها به ، وكذلك إن قصد منها إثبات حدوثه في الزمان السابق فقط من دون إثباته في الأزمنة المتأخّرة ليترتّب عليه مضيّ الأعمال السابقة الواقعة على طبقه فقط.

نعم إن قصد منها مجرّد مضيّ الآثار الشرعيّة المترتّبة عليه في الزمان السابق وصحّة الأعمال الماضية المتفرّعة عليه ، فقد يقال : بثبوتها من أدلّة عدم اعتبار الشكّ بعد الفراغ وبعد تجاوز المحلّ مثل قوله عليه‌السلام في صحيحة ابن أبى يعفور : « إذا شككت في شيء من

__________________

(١) الوسائل ١ : ١٧٤ ـ ١٧٥ الباب ١ من أبواب نواقض الوضوء ، ح ١.

(٢) الوسائل ١ : ١٧٥ الباب ١ من أبواب نواقض الوضوء ، ح ٦.

(٣) إرشاد المفيد : ١٥٩ ، المستدرك : ٢٢٨ الباب ١ من أبواب نواقض الوضوء ، ح ٤.

٤٢٧

الوضوء وقد دخلت في غيره فليس شكّك بشيء ، إنّما الشكّ إذا كنت في شيء لم تجزه (١).

وفي صحيحة زرارة : « إذا خرجت من شيء ثمّ دخلت في غيره فشكّك ليس بشيء (٢).

وفي موثّقة محمّد بن مسلم : « كلّما شككت فيه ممّا قد مضى فامضه كما هو (٣) ».

وفي حسنة محمّد بن عيسى الأشعري : « كلّ شيء شكّ فيه ممّا قد جاوزه ودخل في غيره فليمض عليه (٤) » إلى غير ذلك ممّا يقف عليه المتتبّع في كتب الفقه والحديث ، وهذا في بادئ الأمر وإن كان ممّا يقبله الطبع ـ فمن صلّى باعتقاد الطهارة ثمّ شكّ في مطابقة اعتقاده وكونه متطهّرا في ذلك الزمان بنى على صحّة صلاته ، ومن صلّى مع زيد باعتقاد العدالة مثلا ثمّ شكّ في عدالته في ذلك الزمان فصلاته ماضية وهكذا ـ ولكن دقيق النظر يأباه ، لأنّ قاعدة الشكّ بعد الفراغ أو تجاوز المحلّ بنفسها قاعدة لا يعتبر فيها سبق اليقين والاعتقاد ، ولذا كانت جارية إذا كان العامل حين العمل غافلا غير معتقد بشيء.

فالانصاف أنّه ليس هنا قاعدة يستنبط منها حكم شرعي اخذ في موضوعها الشكّ الساري من حيث هو كذلك.

نعم قد يكون الشكّ المأخوذ في قاعدة الشكّ بعد الفراغ من باب الشكّ بعد الفراغ (٥) وأولى بعدم ثبوت نحو هذه القاعدة الأعمال المستقبلة ليكون مقتضاها لزوم تطبيق هذه الأعمال على وجود ما تيقّنه سابقا في الأزمنة المتأخّرة الّتي تقع فيها هذه الأعمال ، سواء كان بقاؤه إليها على تقدير حدوثه في الزمان الأوّل معلوما أو عدمه معلوما أو مشكوكا ، فلا يجوز ترتيب الآثار على ذلك المعتقد بالنسبة إلى تلك الأعمال والحكم بكونها صادرة حتّى أنّه لو صحّحناه قاعدة الشكّ بعد الفراغ بالقياس إلى الأعمال الماضية لم يكن لها أثر بالقياس إلى تلك الأعمال.

وبالجملة : لا يصحّ ترتيب الآثار بالنسبة إلى الأعمال المستقبلة على المعتقد السابق

__________________

(١) الوسائل ١ : ٣٣١ ، الباب ٤٢ من أبواب الوضوء الحديث ٢.

(٢) الوسائل ٥ : ٣٣٦ ، الباب ٢٣ من أبواب الخلل الواقع في الصلاة ، الحديث الأوّل.

(٣) الوسائل ٥ : ٣٣٦ ، الباب ٢٣ من أبواب الخلل الواقع في الصلاة ، الحديث ٣.

(٤) الوسائل ٤ : ٩٣٧ الباب ١٣ من أبواب الركوع ، الحديث ٤.

(٥) كذا في الأصل ، والصواب : « نعم ، قد يكون الشكّ المأخوذ في قاعدة اليقين من باب الشكّ بعد الفراغ ». والله العالم.

٤٢٨

مع فرض زواله بسريان الشكّ إليه إلاّ بعد إحراز أحد الأمرين ، ليس شيء منها بشيء :

أحدهما : تقدير تحقّق المعتقد في زمن الشكّ ، بأن يقال : إنّ الأعمال الماضية لكونها محمولة على الصحّة تكشف صحّتها عن تحقّق ما هو شرط في صحّتها في الواقع ، وإذا تحقّق المعتقد في الواقع يترتّب عليه كلّما هو مشروط به ، ومن جملة ذلك الأعمال المستقبلة ، فيحكم بوقوعها صحيحة أيضا لوقوع ما هو شرط في صحّتها في الواقع.

وثانيهما : تقدير كون الاعتقاد بذلك المعتقد المفروض حصوله في السابق صحيحا بحمله على الصحّة كفعل المسلم ، بأن يقال : إنّ أفعال المسلم كما أنّها محمولة على الصحّة فكذلك اعتقاداته ، فيكون الأعمال المستقبلة صحيحة لترتّبها على المعتقد بالاعتقاد الصحيح الثابت صحّته بالقاعدة المقتضية لصحّة الفعل.

وأنت خبير بما فيهما من التكلّف مع وضوح فسادهما.

أمّا الوجه الأوّل : فلأنّ غاية ما في الأعمال الماضية ترتّب الأحكام عليها دون تحقّق المعتقد ووقوعه في الواقع ، فإنّها إنّما يحكم بصحّتها لذواتها للقاعدة المشار إليها من جهة أنّها أعمال وقع الشكّ في صحّتها بعد الفراغ ، وهي لا توجب تحقّق المعتقد في الواقع لكونه ملزوما للصحّة ، والملزوم لا يثبت بمجرّد ثبوت اللازم إلاّ على القول بالاصول المثبتة الغير المعمول بها عندنا.

وأمّا الوجه الثاني : فلأنّ أصالة الصحّة على فرض جريانها في الاعتقادات إنّما يقضي بصحّة نفس الاعتقاد ولو في الواقع وهي لا توجب استمرار المعتقد ، وصحّة الأعمال مترتّبة على ثبوت المعتقد حين وقوعها لا على صحّة الاعتقاد وإن لم يكن حاصلا إلاّ على سبيل الفرض والتقدير.

المطلب الثالث عشر

في جواز العمل بالاستصحاب في مورد العموم الأزماني وعدمه.

واعلم أنّ الدليل الاجتهادي كما أنّه قد يكون عامّا بحسب الأفراد كقوله : « أكرم العلماء » فكذلك قد يكون عامّا بحسب الأزمان ، ومعناه كون دليل الحكم في دلالته عليه بحيث لو خلّي وطبعه كان دالاّ على ثبوته في جميع الأزمان ، ودلالته عليه ما يسمّى بالعموم الأزماني.

وحينئذ نقول : إنّ الدليل الدالّ على الحكم في الزمان السابق إمّا أن يكون دالاّ على

٤٢٩

ثبوته في الزمان الثاني وما بعده أيضا ، كقوله : « أكرم العلماء في كلّ زمان » ونحوه النهي في موارد إفادته الدوام ، أو يكون دالاّ على عدم ثبوته في الزمان الثاني وما بعده كقوله : « أكرم العلماء إلى أن يفسقوا » بالنسبة إلى ما بعد الغاية بناء على مفهوم الغاية ، أو يكون ساكتا عن حال الحكم في الزمان الثاني إثباتا ونفيا لإجماله كقوله : « صم إلى الليل » مع تردّد الليل بين استتار القرص وذهاب الحمرة ، أو لقصور في دلالته كقوله : « إذا تغيّر الماء نجس » فإنّه لا يدلّ على أزيد من حدوث النجاسة في الماء بالتغيّر. ونحوه الإجماع إذا انعقد على حكم في زمان ، بناء على أنّه لا يشمل ما بعد ذلك الزمان ولا يتعرّض له بنفي ولا إثبات.

ولا ينبغي الإشكال في جريان الاستصحاب في القسم الأخير ، كما لا ينبغي التأمّل في عدم جريانه في سابقه لارتفاع موضوعه بفرض وجود الدليل على ارتفاع الحكم في الزمان [ الثاني ]. وكذلك القسم الأوّل لأجل ذلك أيضا ، فإنّ موضوعه ما لا دليل على بقائه وارتفاعه ، والدليل المفروض رافع لهذا الموضوع. ولذا ذكرنا في غير موضع أنّ الأصل كما لا يصلح معارضا للدليل فكذلك لا يصلح معاضدا له ، وليس معناه أنّه يجري ولا يعارض ولا يعاضد ، بل معناه أنّه مع الدليل لا يجري ليعارض ويعاضد ، فالسالبة بانتفاء الموضوع.

وهذا كلّه ممّا لا كلام فيه ، وإنّما الكلام في أنّه إذا خرج من العامّ في القسم الأوّل بعض الأفراد في بعض الأزمنة عن العموم بالدليل ثمّ شكّ بعد ذلك الزمان في حكم هذا الفرد فهل هو ملحق به في الحكم أو بما قبله؟

وبعبارة أوضح : فهل يعمل فيه بالحكم العامّ المستفاد من الدليل العامّ تمسّكا بعمومه أو بالحكم الخاصّ المستفاد من الدليل المخصّص نظرا إلى استصحابه؟

وبعبارة ثالثة : فهل يكون حكمه هو الحكم العامّ نظرا إلى عموم دليله بحسب الأزمان ، أو الحكم الخاصّ نظرا إلى أنّه كان متيقّن الثبوت ثمّ شكّ في بقائه فيستصحب؟

والظاهر أنّ كلمات العلماء فيه مختلفة كما يظهر منهم في بعض المقامات الّتي منها مسألة تلقّي الركبان عند ظهور الغبن الفاحش للبايع المحكوم عليه بثبوت الخيار له ، المختلف في كونه على الفور كما عن جماعة تمسّكا بعموم الأزمان المستفاد من إطلاق ( أَوْفُوا بِالْعُقُودِ )(١). ومنع جريان الاستصحاب ، أو على التراخي كما عن آخرين استنادا إلى استصحاب الحالة السابقة الّذي لازمه تخصيص العامّ به على تقدير العموم ، ونحوه

__________________

(١) المائدة : ١.

٤٣٠

الكلام في سائر الخيارات المختلف في فوريّتها.

والّذي يقتضيه جليّ النظر منع جريان هذا الاستصحاب الّذي مرجعه إلى تخصيص العامّ الأزماني ، لأنّ العموم على فرض ثبوته دليل رافع لموضوع الاستصحاب فلا استصحاب ، فالمانع من التمسّك به مستظهر إن كان مستند منعه هو ذلك.

ولكنّ الّذي يساعد عليه دقيق النظر هو التفصيل ، ففي بعض المقامات يتعيّن العمل بالعموم ولا استصحاب معه ، وفي بعضها يؤخذ بالاستصحاب لا بالعموم ، حتّى أنّه لو فرض مانع آخر من العمل بالاستصحاب وجب الرجوع إلى سائر الاصول لا العموم.

وضابط هذا التفصيل : أنّ الزمان الّذي اعتبر عموم الدليل بالنسبة إليه قد يؤخذ قيدا لموضوع الحكم على وجه يكون كلّ زمان موضوعا مستقلاّ ، فينحلّ الحكم العامّ إلى أحكام متعدّدة على حسب تعدّد الأزمان ، وذلك مثل « أكرم العلماء في كلّ يوم » مع خروج زيد يوم الجمعة بالدليل ، و « صم كلّ يوم » مع خروج صوم يوم العيد بالدليل ، وقد يؤخذ حالة في الحكم ويعبّر عنها بالدوام والاستمرار كقوله : « أكرم العلماء دائما ».

ففي القسم الأوّل لا محيص من العمل بالعموم ولا يجري معه الاستصحاب فلا يجوز العمل به ، وإلاّ لزم تخصيص العامّ بالاستصحاب وهو باطل ، وضابطه أنّه لو فرض في زمان الشكّ ـ وهو الزمان الثاني ـ موضع الاستصحاب دليل آخر على خلاف حكم العامّ لزم تخصيص آخر فيه زائدا على التخصيص الأوّل ، فكما أنّه في المثال المتقدّم بعد إخراج زيد يوم الجمعة لو اخرج عمرو أيضا يوم الجمعة لزم تخصيص آخر ، فكذلك لو اخرج زيد يوم السبت أيضا لزم تخصيص آخر ، وحينئذ فلو أخذ الاستصحاب موقع هذا المخصّص مدركا لإخراج زيد يوم السبت لزم تخصيص العامّ بالاستصحاب مع ثبوت عمومه ، وهو على ما بيّنّاه غير معقول.

والسرّ فيه : أنّ كلاّ من إكرام زيد يوم الجمعة وإكرامه يوم السبت فرد مستقلّ للعامّ اعتبر عمومه بالنسبة إليه ، ولا يلزم من تخصيصه بالنسبة إلى الفرد الأوّل خروج الفرد الثاني أيضا ، فلا بدّ في التزام خروجه أيضا من مخصّص آخر والاستصحاب غير صالح له ، بخلاف القسم الثاني فإنّ في نحوه لا مانع من طرف العامّ من العمل بالاستصحاب ، إذ لو فرض في موقعه دليل آخر على حكم الفرد المخرج في الزمان الثاني لم يلزم تخصيص آخر زائد على التخصيص الأوّل ، ففي مثل « أكرم العلماء دائما » لو اخرج زيد يوم الجمعة

٤٣١

بالدليل الغير المتناول لا جماله لحال زيد يوم السبت وأجرينا حكم المخصّص فيه يوم السبت وما بعده أيضا لم يلزم تخصيص آخر.

والسرّ في ذلك : أنّ الدوام الّذي هو حالة في وجوب اكرام زيد انقطع بالتخصيص الأوّل ، النافي يوم الجمعة للوجوب عن اكرامه طال زمان عدم وجوب اكرامه أو قصر ، فهو تخصيص واحد على كلّ حال ، حتّى أنّه لو دلّ الدليل الأوّل أو غيره على عدم وجوبه إلى الأبد لم يزد على التخصيص المذكور شيئا ، لوضوح أنّ الدوام لكونه حالة في الوجوب تابع ، فإذا انتفى المتبوع انتفى التابع طال زمان انتفاء المتبوع أو قصر.

وقضيّة ذلك أن يكون كلّ من وجوب اكرام زيد وعدم وجوبه فيما بعد الزمان الأوّل محتاجا إلى دليل ، فإذا قضى الاستصحاب بعدم وجوبه لم يكن مانع من العمل به ، كما أنّه لو قضى أصل البراءة به مع قطع النظر عن الاستصحاب لم يكن مانع من العمل به أيضا ، والخيار الثابت في زمان ظهور الغبن أو العيب أو غيرهما بالدليل المجمل الغير المتناول لما بعد زمان الفور كالإجماع ونحوه المنافي لعموم اللزوم ووجوب الوفاء بالعقد بحسب الأزمان من هذا القبيل ، فوجوب الوفاء به الّذي معناه سقوط الخيار بعد زمان الفور يحتاج إلى دليل ولا يكفي فيه عموم ( أَوْفُوا بِالْعُقُودِ )(١) ، كما أنّ بقاء الخيار فيه يحتاج إلى دليل والاستصحاب كاف فيه.

فما ذكره المانعون من التمسّك به من أنّ عموم الوفاء بالعقود من حيث الأفراد يستتبع عموم الأزمان وارد على خلاف التحقيق ، وكأنّهم لا حظوا ما قبل التخصيص وإلاّ فبعد التخصيص انقطع كلّ من العمومين بالنسبة إلى هذا الفرد ، وحيث إنّ عموم الأزمان الّذي هو عبارة عن دوام وجوب الوفاء بالعقد في بقائه وارتفاعه تابع لوجوب الوفاء ، ففي ثاني زمان التخصيص لا يعقل دوام مع عدم ثبوت الوجوب.

وبالجملة عموم الأزمان الّذي يعبّر عنه بالدوام المستفاد من إطلاق الأمر من الأحوال العارضة للحكم وليس من مشخّصات الموضوع ، كما أنّ جهات القضيّة الّتي منها الدوام في مصطلح أهل المنطق من الأحوال العارضة للحكم لا من مشخّصات موضوع القضيّة ولا من قيود محمولها.

ولا ريب أنّ العارض تابع لمعروضه فيثبت حيث ثبت وينتفي حيث انتفى ، فما لم

__________________

(١) المائدة : ١.

٤٣٢

يحرز الحكم لم يحرز الحالة العارضة له ، فلا يمكن الاستدلال على ثبوت الحكم بوجود الحالة العارضة ، لا لأنّها موجودة ولا يمكن أن يستدلّ بها عليه بل لا وجود لها مع عدم وجوده ، والشكّ في وجوده يستلزم الشكّ في وجودها ، فالاستدلال بها حينئذ عليه يرجع إلى الاستدلال بمشكوك على مشكوك وهذا كما ترى ، فإذا خرج فرد من العامّ في زمان بمخصّص ارتفع عنه حكم العامّ فانقطع بسببه دوامه بالنسبة إلى هذا الفرد ، فإذا شكّ في حكمه في ثاني زمان التخصيص لإجمال في المخصّص أو قصور في دلالته فلم يبق بالنسبة إليه بالخصوص في العامّ دلالة على الدوام ليستدلّ به على ملزومه الّذي هو الحكم ، فلا مانع من جريان الاستصحاب حينئذ والتمسّك به.

ومن أمثلته العصير العنبي قبل الغليان الّذي دلّ الدليل العامّ كـ ( أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّباتُ )(١) و ( خَلَقَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً )(٢) على حلّيته وطهارته على وجه الدوام ، المستفاد من إطلاق « احلّ » ثمّ ورد عليهما تخصيص من جهة ما دلّ على حرمته ونجاسة بالغليان ، وإذا ذهب ثلثاه بغير النار صار ذلك سببا للشكّ في بقاء الحرمة والنجاسة وزوالهما ، فيحكم ببقائهما استصحابا لحكم المخصّص ، ولا يحكم عليه بمقتضى العامّ من الحلّية والطهارة لانقطاع عمومه الأزماني تبعا للتخصيص الرافع لحكمه.

والعجب من سيّد الأفاضل في الرياض ـ على ما حكاه عنه الفاضل النراقي ونقله بعض مشايخنا (٣) ملخّصا ـ حيث إنّه بعد التمسّك بالاستصحاب في موضع ، ذكر : « أنّ الاستصحاب المخالف للأصل دليل شرعي مخصّص للعمومات » ولا ينافيه عموم أدلّة حجّيته من أخبار الباب الدالّة على عدم جواز نقض اليقين بغير اليقين ، إذ ليست العبرة في عموم الدليل وخصوصه بدليل الدليل ، وإلاّ لم يتحقّق لنا في الأدلّة دليل خاصّ لانتهاء كلّ دليل إلى أدلّة عامّة ، بل العبرة فيهما بنفس الدليل ، ولا ريب أنّ الاستصحاب الجاري في مورد مخصوص دليل خاصّ لا يتعدّاه إلى غيره فيقدّم على العامّ كما يقدّم على غيره من الأدلّة. ولذا ترى أنّ الفقهاء يستدلّون على الشغل والنجاسة والتحريم بالاستصحاب في مقابلة عمومات البراءة الأصليّة وطهارة الأشياء وحلّيتها ، كقوله : « الناس في سعة ما لم يعلموا » و « كلّ شيء طاهر حتّى يعلم أنّه قذر » و « كلّ شيء لك حلال حتّى تعرف الحرام منه بعينه » ومن ذلك استنادهم إلى استصحاب النجاسة والتحريم في صورة الشكّ في

__________________

(١) المائدة : ٥.

(٢) البقرة : ٢٩.

(٣) فرائد الاصول ٣ : ٢٧٦ ـ ٢٧٧.

٤٣٣

ذهاب ثلثي العصير وفي كون التحديد تحقيقيّا أو تقريبيّا ، وفي صيرورته قبل ذهاب الثلثين دبسا وفي ذهاب ثلثيه بالشمس إلى غير ذلك » انتهى (١).

وفيه : أنّ المورد إن كان بحيث يجري فيه عموم الدليل فلا يعقل معه جريان الاستصحاب ، لما اخذ في موضوعه من عدم ذلك العموم باعتبار كونه دليلا ، وإن كان بحيث لا يجري فيه عموم الدليل فلا يعقل تخصيصه بما يقتضي فيه خلاف مقتضاه ، سواء كان هو الاستصحاب أو غيره.

وأمّا الاستشهاد لما زعمه من نهوض الاستصحاب مخصّصا للعامّ بالاستصحاب المذكورة.

ففيه : أنّها ونظائرها لا تعارض العمومات المثبتة للاصول الثلاثة من أصالة البراءة وأصالة الطهارة في الأشياء وأصالة الحلّيّة فيها ليكون العمل بها تخصيصا للعمومات ، بل هي إمّا واردة على الاصول المذكورة ـ بناء على أنّه قد اخذ في موضوعات هذه الاصول عدم العلم بشغل الذمّة وعدم العلم بالنجاسة وعدم العلم بالحرمة ، والعلم المأخوذ عدمه فيها أعمّ من العلم الحقيقي والعلم الشرعي ، واستصحاب شغل الذمّة فيما سبقه اليقين به واستصحاب النجاسة فيما سبقه اليقين بها واستصحاب الحرمة فيما سبقه اليقين بها علم شرعي ـ أو أدلّة حجّيتها حاكمة على العمومات المثبتة لهذه الاصول ، بناء على أنّ العمومات تقضي بأنّ ما لم يعلم شغل الذمّة به أو نجاسته أو حرمته يحكم ببراءة الذمّة عنه أو طهارته أو حلّيته. وقوله عليه‌السلام : « لا ينقض اليقين بالشكّ (٢) » متعرّض بمدلوله لبيان كمّية موضوعات هذه العمومات ، وناطق بأنّ ما لم يعلم شغل الذمّة به أو نجاسته أو حرمته إنّما يحكم بالبراءة فيه أو طهارته أو حلّيته فيما لم يسبق اليقين بالشغل فيه أو بنجاسته أو بحرمته ، وأمّا مع سبق اليقين بأحدهما فيحكم فيها بشغل الذمّة وبالنجاسة وبالحرمة ، وعلى التقديرين لا تعارض ليكون علاجه بالتخصيص لتحكيم العموم على المعارض.

وبما بيّنّاه ظهر فساد ما ذكره بعض الأعلام في مسألة تخصيص الكتاب بخبر الواحد في تضاعيف الاستدلال على جوازه من قوله : « بل سدّ باب تخصيص الكتاب بخبر الواحد يوجب منع العمل بخبر الواحد ، إذ قلّما يوجد خبر لم يكن معارضا لظاهر من عمومات الكتاب ، فلا أقلّ من مخالفته لأصل البراءة الثابتة بنصّ الكتاب مثل ( لا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْساً إِلاَّ ما

__________________

(١) راجع فرائد الاصول ٣ : ٢٧٦ ـ ٢٧٧.

(٢) الوسائل ١ : ١٧٤ ـ ١٧٥ الباب ١ من أبواب نواقض الوضوء ، ح ١.

٤٣٤

آتاها )(١) ونحو ذلك (٢) » إذ لا معارضة لأخبار الآحاد المثبتة للتكاليف لعمومات أصل البراءة ، إمّا لورودها عليه أو لحكومة أدلّة حجّيتها على تلك العمومات ، فليتدبّر.

المطلب الرابع عشر

في أصالة عدم النسخ المعمول بها عند العلماء المدّعى عليها الإجماع في كلام بعض الأخباريّين ، هل هي راجعة إلى الاستصحاب كما توهّم ، أو هي من الاصول اللفظيّة بملاحظة عموم دليل الحكم بحسب الأزمان ، كأصالة عدم التخصيص بالقياس إلى العموم الأفرادي؟

ولا بدّ لتحقيق ذلك من تحقيق الحال في مسألة اخرى وهي أنّه إذا ثبت حكم في ابتداء زمان البعثة وشكّ في ثبوته في الأزمنة المتأخّرة إلى زماننا ، فهل يجب متابعته علينا أو لا؟وعلى الأوّل فمدركه هل هو الاستصحاب أو الأصل اللفظي أو قاعدة اخرى ، والحقّ في الأوّل وجوب المتابعة ، وفي الثاني اختلاف الموارد والفروض في الوجوه الثلاث المذكورة.

وتوضيحه : أنّ الحكم الثابت في زمان البعثة قد يحتمل اختصاصه بذلك الزمان لاحتمال مدخليّة خصوصيّة فيه منتفية في غيره من دون خصوصيّة في المكلّفين الموجودين ثمّة ، حتّى لو كنّا نحن من الموجودين ثمّة لشملنا الحكم ، فيكون منشأ الشكّ احتمال مدخليّة خصوصيّة الزمان في الحكم ، وقد يحتمل اختصاصه بالمكلّفين الموجودين ثمّة لخصوصيّة فيهم منتفية فينا من دون مدخليّة لخصوص الزمان ، فيكون منشأ الشكّ احتمال مدخليّة خصوصيّة في المكلّف ، وقد لا يحتمل شيئا من الاختصاصين لما في دليله من عموم أفرادي وعموم أزماني من جهة إطلاق الدليل ، ولكن كان منشأ الشكّ احتمال طروّ رافع وهو النسخ.

ويجب علينا في الكلّ متابعته إلاّ أنّه في الصورة الاولى للاستصحاب ، وفي الثانية لقاعدة الاشتراك في التكليف المستفادة من النصّ والإجماع والضرورة ، ولا يجري فيها الاستصحاب لعدم كون بقاء موضوع المستصحب محرزا في زمان [ الشكّ ] باعتبار الشكّ في موضوعيّة الباقي.

وعلى هذا ينطبق ما ذكره بعض الأعلام (٣) من أنّ الحكم الثابت في حقّ جماعة

__________________

(١) الطلاق : ٧.

(٢) القوانين ١ : ٣١٠.

(٣) القوانين ١ : ٤٩٥ وانظر الفصول : ٣١٥.

٤٣٥

لا يمكن اثباته في حقّ آخرين لتغاير الموضوع ، فإنّ ما ثبت في حقّهم مثله لا نفسه ، ولذا يتمسّك في تسرية الأحكام الثابتة للحاضرين إلى الغائبين أو المعدومين بالإجماع والأخبار الدالّة على الشركة لا بالاستصحاب.

وفي الثالثة للأصل اللفظي الّذي يرجع إليه أصالة عدم النسخ ، فتسمية ذلك بالاستصحاب كما في كلام الأخباريّين سهو.

هذا كلّه بالنسبة إلى هذه الشريعة. وأمّا لو علم بنصّ الكتاب أو بالسنّة المتواترة ثبوت حكم في شرع من الشرائع السالفة مثل قوله تعالى في شأن يحيى : انّه كان ( سَيِّداً وَحَصُوراً )(١) وهو الّذي يحبس نفسه عن النساء ، أو المبالغ في حصر النفس عن الشهوات والملاهي ، فهل يثبت هذا الحكم في حقّنا أيضا أو لا؟ فيه قولان حكاهما في تمهيد القواعد (٢) ومستند المثبتين أنّ عدم علم الناسخ كاف في استصحاب بقائه فهو حجّة مطّردة.

وردّه بعض الأعلام : « بأنّه مبنيّ على القول بكون حسن الأشياء ذاتيّا وهو ممنوع ومناف للقول بالنسخ ، بل التحقيق أنّه بالوجوه والاعتبارات وإن كنّا لا نمنع الذاتيّة في بعض الأشياء ، لكن إعمال الاستصحاب لا يمكن إلاّ مع قابليّة المحلّ » انتهى (٣).

ويدفعه : أنّ الاستصحاب يجري حيث يجوز النسخ ، ولا يجوز النسخ إلاّ فيما كان قابلا للارتفاع ، وهو الّذي يجري فيه الاستصحاب أيضا سواء كان تابعا للحسن الذاتي أو بالوجوه والاعتبارات.

إلاّ أن يقال : إنّ مورد النسخ ما يكون حسنه بالوجوه والاعتبارات وإن كان الوجه والاعتبار من جهة خصوصيّة زمان الحكم ، وهذا على تقدير احتمال مدخليّة خصوصيّة في الزمان كما في محلّ البحث لا يجري فيه الاستصحاب ، لأنّ من شروطه قابليّة المحلّ للبقاء بأن لا يكون مردّدا بين مقدارين من الزمان أقلّ وأكثر ، إذ على هذا التقدير قابليّته للبقاء بعد انقضاء أقلّ الزمانين غير محرز فلا يجري معه الاستصحاب.

ويدفعه : أنّ مرجع ذلك إلى منع حجّيّة الاستصحاب مع الشكّ في المقتضي مطلقا أو في بعض صوره ، ولقد زيّفناه سابقا بإثبات حجّيّته مطلقا.

ولو أورد هنا أيضا بمثل ما تقدّم من أنّ الحكم الثابت في حقّ جماعة لا يمكن إثباته في حقّ آخرين بالاستصحاب لتغاير الموضوعين.

__________________

(١) آل عمران : ٣٢.

(٢) تمهيد القواعد ٢٣٩ ـ ٢٤١.

(٣) القوانين ١ : ٤٩٥.

٤٣٦

لدفعه : فرض عدم مدخليّة خصوص مكلّف دون مكلّف في الحكم على وجه يعطي الموضوعيّة لجماعة دون آخرين.

نعم يمكن المناقشة في الاستصحاب المذكور بوجوه اخر :

الأوّل : أنّ استصحاب الحكم الثابت في شريعة عيسى أو موسى مثلا لا يفيد ثبوته في هذه الشريعة على وجه يجب علينا متابعته ، لجواز أن يكون لخصوص المبلّغ مدخليّة في الحكم الّذي يجب متابعته.

فنقول : إنّ الحكم لا بدّ له من مبلّغ وهو النبيّ ، ونحن نطلب أحكاما بلّغها نبيّنا صلى‌الله‌عليه‌وآله ، والحكم المذكور ليس ممّا بلّغه نبيّنا صلى‌الله‌عليه‌وآله فليس علينا متابعته ، بل لا يجوز ذلك.

ويمكن دفعه : بمنع مدخليّة خصوص المبلّغ في الحكم على وجه يكون جزء لموضوعه ، بل إنّما يعتبر المبلّغ في الأحكام الّتي يجب متابعتها على وجه الطريقيّة ، فالمدار في الإطاعة والمعصية ووجوب المتابعة على انكشاف الأحكام الإلهيّة بأيّ طريق كان ، وإن كان الطريق الغالب فيه بتبليغ النبيّ ، فالّذي يجب علينا بالنسبة إلى النبيّ إنّما هو الإيمان بنبوّته وبما أتى به من الله سبحانه من الشرائع والأحكام ، وهذا هو معنى وجوب التديّن بدين سيّد المرسلين والالتزام به ، وهذا لا ينافي وجوب متابعة حكم إلهي انكشف من غير جهة تبليغه ، كما لو رأى في المنام حكما على وجه قطع بكونه حكما إلهيّا.

ولا ينافيه الحكاية الواقعة فيما بين أفلاطون الحكيم وعيسى النبيّ حيث إنّه دعاه إلى الإيمان به فلمّا نظر أفلاطون في أحكام شرعه وجدها بمقتضى قواعد حكمته حقّا مطابقا للواقع فصدّق بكونه نبيّا مبعوثا من الله سبحانه ، وكون ما أتى به من الشرع من الله ، إلاّ أنّه قال له : « أنت نبيّ في حقّ غيري لا في حقّي » اعتذارا بعدم احتياجه في معرفة الأحكام الإلهيّة ، وقد حكم بكفره وخلوده في النار ، لأنّ كفره وخلوده في النار ـ بعد تسليم صحّة الحكاية ـ إنّما هو لعدم إيمانه بنبوّة نبيّ زمانه أو عدم تديّنه بما آمن ، حيث قال له : « أنت نبيّ في حقّ غيري لا في حقّي » لا لاتّباعه أحكاما من غير جهة تبليغ نبيّ زمانه.

مع أنّ أخذ الحكم المذكور بطريق [ الاستصحاب ] لا ينافي كون المستصحب ممّا بلّغه نبيّنا أيضا.

غاية الأمر أنّه لم يبلّغ إلينا كسائر الأحكام المجهولة الّتي جهالتها لنا لعدم بلوغ بيانها الينا ، مع أنّ وصوله إلينا بطريق الاستصحاب أيضا ينتهي بالأخرة إلى التبليغ ، لأنّ

٤٣٧

الاستصحاب أيضا ممّا بلّغه النبيّ.

الثاني : ما اشتهر من أنّ هذه الشريعة ناسخة لغيرها من الشرائع ، فلا يجوز الحكم ببقاء أحكام الشريعة السابقة ليترتّب عليه وجوب متابعته.

ويمكن دفعه : بأنّه إن اريد كونها ناسخة لكلّ حكم إلهي من أحكام الشريعة السابقة فهو ممنوع ، وإن اريد بكونها ناسخة لبعضها بل أكثرها فهو لا ينافي بقاء بعضها ولو انكشف بقاؤه بطريق الاستصحاب ، فالمتيقّن من المنسوخ ما علم بالدليل ويبقى غيره على ما كان بحكم الاستصحاب.

نعم يمكن أن يقال : إنّا نعلم قطعا بنسخ كثير من الأحكام السابقة ، والمعلوم تفصيلا من هذه المنسوخات قليل جدّا ، فيعلم وجود منسوخ بين الأحكام المشكوك في نسخها إجمالا ، وهذا العلم الإجمالي مانع من العمل بالاستصحاب في هذه الأحكام ، لكونها من باب الشبهة المحصورة الواجب اجتنابها لوجود العلم الإجمالي.

ولكن يدفعه أوّلا : منع وجود العلم الإجمالي بوجود المنسوخ فيما بين الأحكام المشكوكة ، لأنّها في الكثرة ليست بحيث يستلزم عادة حصول العلم الإجمالي ، بل ليست إلاّ قليلة فلا تستلزمه عادة.

وثانيا : أنّه على فرض وجوده معارض بالعلم الإجمالي بوجود حكم لم ينسخ فيما بين الأحكام المشكوكة ، لأنّ ما لم ينسخ من الأحكام السابقة أيضا غير معلوم تفصيلا ، فبين الشبهات ما يحرم متابعته وما يجب متابعته وهما معلومان بالإجمال.

وقضيّة ذلك عدم وجوب اجتناب الجميع ولا وجوب ارتكاب الجميع ، حذرا عن المخالفة القطعيّة في التقديرين ، فلا مانع من العمل بالاستصحاب في البعض.

وثالثا : أنّ العلم الإجمالي ما لم يلزم مخالفته القطعيّة العمليّة لم يؤثّر في منع ارتكاب أطرافه ، وغاية ما يلزم من العمل بالاستصحاب في جميع الأحكام المشكوكة إنّما هو المخالفة الالتزاميّة ، وهو الالتزام بكون المستصحب في الجميع حكما إلهيّا مع أنّ منه ما يكون في الواقع منسوخا ، وإنّما يلزم المخالفة العمليّة بسبب استلزام العمل ترك الواجب أو فعل الحرام الفعليّين اللذين توجّه الخطاب بهما فعلا إلى المكلّف فيما لو كان المعلوم نسخه بالإجمال ما عدا الوجوب والحرمة من الأحكام الخمس مع كونه منسوخا في هذه الشريعة بأحدهما ، وليس كذلك إذ المعلوم بالإجمال مردّد بين جميع الأحكام الخمس ، كما أنّ الناسخ في

٤٣٨

هذه الشريعة على تقدير كون المنسوخ ما عدا الوجوب والحرمة يحتمل كونه ما عداهما أيضا ، بأن نسخت الإباحة بالاستصحاب أو بالعكس أو بالكراهة أو بالعكس والاستصحاب بالكراهة أو بالعكس ، فلا يحصل القطع بالمخالفة العمليّة للعلم الإجمالي أصلا ، فلا مانع من العمل بالاستصحاب في جميع الوقائع المشكوكة من جهة العلم الإجمالي.

ويمكن المناقشة في القول بجواز متابعة حكم الشريعة السابقة تمسّكا بالاستصحاب من جهة اخرى ، وهي أنّ العمل بالاستصحاب في نحو المقام لكونه من الشبهات الحكميّة مشروط بالفحص عن الدليل في أدلّة هذه الشريعة. وبعد الفحص عن دليل هذا الحكم الثابت في الشريعة السابقة المشكوك ثبوته في هذه الشريعة فإمّا أن يوجد عليه دليل أو لا؟

وعلى الأوّل يتعيّن العمل بذلك الدليل وافق مؤدّاه لمقتضي الاستصحاب أو خالفه ، ولا حاجة إلى التمسّك بالاستصحاب حينئذ بل لا معنى له. وعلى الثاني فإمّا أن يكون الحكم المبحوث عنه إباحة بالمعنى الأعمّ من الاستصحاب والكراهة مع احتمال نسخه بالوجوب أو الحرمة ، أو غيرها من الوجوب أو الحرمة؟

فعلى الأوّل يبنى على أصلي البراءة والإباحة لرجوع الشكّ فيه إليه في التكليف من هذه الشريعة والأصل مع عدم العلم الإجمالي هو البراءة وعدم استحقاق العقوبة على المخالفة ، ولا حاجة معه أيضا إلى التمسّك بالاستصحاب. وعلى الثاني فالمرجع فيه أيضا إلى أصل العدم لا إلى استصحاب حكم الشريعة السابقة ، وذلك لما علم بالضرورة والأخبار المتواترة من أنّ نبيّنا صلى‌الله‌عليه‌وآله لم يقصّر ولم يهمل في تبليغ شيء من أحكام شريعته ، وما علم من طريقته من عدم حوالة امّته في شيء من الأحكام إلى شريعة اخرى ، وأمّا الوقائع المجهولة أحكامها فليست ممّا لم يبلّغ أحكامها إلى امّته بل بلّغها وبيّنها ، ولكنّها لم تصل إلينا لمانع.

وحينئذ نقول : إنّ الأصل في الحكم التكليفي الوجوبي أو التحريمي الّذي لم يصل بيانه إلينا عدمه ، أي عدم جعل الشارع إيّاه حكما في شريعته ، وعموم الاستصحاب وإن كان ممّا بيّنه النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله أيضا إلاّ أنّ الأصل المذكور مع ما عرفت من الأخبار على تبليغه بجميع أحكام شريعته واستقرار طريقته على عدم إيكال امّته إلى الشرائع السابقة مع الأخبار الدالّة على أنّ كلّ ما حجب علمه عنّا فهو موضوع عنّا ، كاشفا (١) عن نسخ هذا الحكم في

__________________

(١) كذا في الأصل ، ولعلّ الصواب : كاشف.

٤٣٩

هذه الشريعة ومعه لا معنى لاستصحابه.

ويمكن دفعها أيضا : بأنّ استمرار حكم من زمان إلى غيره من الأزمنة المتأخّرة لا يقتضي بالنسبة إلى كلّ زمان جعلا على حدة لينفي احتمال حدوثه بالأصل ، بل يكفي فيه الجعل الأوّل فلا يبقى إلاّ احتمال النسخ ، والأصل والاستصحاب ينفيانه ، هذا.

ولكنّ الإنصاف : أنّ التعويل على استصحاب أحكام الشرع السابق إنّما يصحّ ما لم يظهر شرع لا حق ناسخ للشرع السابق ولو في الجملة. وأمّا بعد ظهوره وانتشاره واستقرار أحكامه فالتعويل على استصحاب أحكام الشرع السابق مشكل ، لأنّ مبنى العمل بالاستصحاب إن كان على طريقة القدماء الّتي مدركها بناء العقلاء فثبوته في محلّ البحث غير معلوم بل المعلوم خلافه لما نرى من استقرار بنائهم على عدم الرجوع إلى الشرع السابق بعد ظهور الشرع اللاحق الناسخ للشرع السابق ، وإن كان على الأخبار الناهية عن نقض اليقين بالشكّ فمفادها وإن كان حكما ظاهريّا مجعولا للشاكّ بعد اليقين ، لكن شمول هذا الحكم الظاهري لما كان المشكوك فيه من أحكام الشرع السابق غير واضح ، لانصراف الأخبار إلى اليقين والشكّ في أحكام هذه الشريعة الّتي أتى بها صادقها صلى‌الله‌عليه‌وآله هذا ، ولكنّ المسألة بعد لم يصف ويحتاج إلى تأمّل آخر.

ثمّ إنّ جماعة رتّبوا على إبقاء أحكام الشرع السابق في موضع الشكّ ـ تبعا لثاني الشهيدين ـ فروعا مخدوشة ، أوردها شيخنا قدس‌سره مع ما يخدشها في رسالته الاستصحابيّة (١).

خاتمة : قد ظهر من تضاعيف المسألة أنّه يشترط في الاستصحاب أمران : اليقين السابق والشكّ اللاحق ، وهذان يعتبران في جريان الاستصحاب لا في اعتباره ، فما فقد أحدهما خارج عن موضوعه لا عن حكمه بالتخصيص ، ولذا يعبّر عنهما بركني الاستصحاب.

وقد ذكر بعضهم له شروطا آخر : بقاء الموضوع ، وعدم المعارض ، والفحص عن الدليل الاجتهادي. فإن اريد كونها شروطا لاعتباره بدعوى خروج الاستصحاب الجاري عن عموم الأخبار بالمخصّص ، كما خرج الاستصحاب في نحو الشكّ في الثلاث والأربع بل مطلق الشكّ في عدد الركعات المقتضي للبناء فيها على الأقلّ الخارج من العموم بدليل البناء على الأكثر من باب التخصيص ، ففيه : منع واضح لعدم جريانه بدونها.

وإن اريد به كونها شروطا لجريانه ، فهو وإن صحّ إلاّ أنّ مرجعها إلى ما تقدّم من ركني

__________________

(١) فرائد الاصول ٣ : ٢٢٩ ـ ٢٣٢.

٤٤٠