تعليقة على معالم الاصول - ج ٦

السيّد علي الموسوي القزويني

تعليقة على معالم الاصول - ج ٦

المؤلف:

السيّد علي الموسوي القزويني


المحقق: السيد علي العلوي القزويني
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
المطبعة: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ١
ISBN: 964-470-559-9
الصفحات: ٤٨٦

بوجوب أخذها كذلك في لحاظ الاستعمال أيضا ، وهذا واضح.

وأمّا الثالث : فلعود الضمير في قوله : « هو لك حلال » إلى الشيء المراد به ما اشتبه حكمه ، لا إلى المجهول بطريق الاستخدام ، وخروج المذكورات إنّما هو لأخذ وصف الاشتباه في الشيء بحيث لو لاه لم تكن خارجة ، لكون الجميع من الشيء كما هو الضابط في كلّ قيد احترازي ، مع أنّه لو سلّم عود الضمير إلى المجهول من باب الاستخدام لكان خروج المذكورات مستندا إلى ذلك الوصف بحيث لولاه لم تكن خارجة ، فلا معنى لمنع إخراجها تعليلا بأن لا جهالة فيها ، فإنّ القيد الاحترازي من شأنه إخراج ما انتفى عنه ذلك القيد.

وأمّا الرابع : فلأنّ خروج المذكورات وإن استند إلى اعتبار مفهوم المخالفة ، إلاّ أنّ السالبة اللازمة له ليست منتفية الموضوع بالمصطلح المنطقي ، وهو كون السلب باعتبار انتفاء ذات الموضوع ، لتحقّق الذات في جميع المذكورات وهي الّتي عبّر عنها في الرواية بالشيء ، ولذا لو لا تقييده باشتباه الحكم أو جهالته لدخلت فيه وشملها الحكم المستفاد من الرواية ، فالسلب حينئذ بعد التقييد المذكور إنّما هو باعتبار انتفاء وصف موضوع المنطوق ، فالقضيّة المفهوميّة من السالبة المتحقّقة الموضوع؟ فالسلب باعتبار انتفاء المحمول عن ذات الموضوع المتحقّقة في القضيّة ، وتوهّم كونها غير مفيدة فاسد ، لأنّها بنفسها فائدة القيد الوارد في الكلام ولا يعقل لها مع ذلك فائدة اخرى.

نعم إنّما يلزم السالبة المنتفية الموضوع على تقدير اعتبار مفهوم المخالفة في نحو « إن رزقت ولدا فاختنه ، وإن رزقت مالا فأنفقه » وغيرهما ، ممّا يرجع القيد الوارد في الكلام إلى كونه لبيان الموضوع لا لبيان انتفاء الحكم عند انتفاء القيد ، فليتدبّر.

ومن الفضلاء من انتصر القول بتعميم الرواية بإمكان أن يقال : إنّا إذا ضممنا عنوان مشتبه إلى عنوان معلوم الحرمة وعنوان معلوم الحلّية صدق على المجموع أنّه شيء فيه حلال وحرام ، فيثبت الحلّية للمشتبه الحكم لعدم العلم بحرمته ، وكذا لو جمعنا بين مصاديق الثلاثة فينسحب الحكم حينئذ من المصداق إلى العنوان ، ثمّ زيّفه بقوله : « وفي كلا الوجهين تعسّف ، فإنّ المتبادر من الرواية حلّية المشتبه من معلوم أحد النوعين بالآخر في الشيء المشتمل عليها » إنتهى (١).

وهذا في محلّه ، فإنّ الفرض إنّما يجدي في اندراج المفروض في الرواية إذا اريد من كلّ

__________________

(١) الفصول : ٣٥٣.

٦١

شيء الكلّ الاعتباري ، لا الكلّي الحقيقي المنقسم إلى النوعين ، وقد عرفت أنّه خلاف الظاهر المتبادر من اللفظ بحسب متفاهم العرف ، كما لا يخفى على العارف بمتفاهمات العرف.

وأمّا الإجماع : فعلى ما تقدّم من إمكان تقريره تارة : بإجماع العلماء كافّة حتّى الأخبارييّن على أنّ الحكم فيما لم يرد دليل على تحريمه من حيث هو ولا من حيث إنّه مجهول الحكم هو البراءة ، وعدم العقاب والمؤاخذة على الفعل.

واخرى : بالإجماع على أنّ الحكم فيما لم يرد دليل على تحريمه من حيث هو هو البراءة ، وجواز الارتكاب وعدم وجوب الاحتياط ولا غيره.

وهذا أيضا يمكن تقريره تارة : بالإجماع المحصّل من ملاحظة فتاوى الفقهاء في المسائل الفرعيّة.

واخرى : بالإجماعات المنقولة في كلام الأصحاب الّتي منها ما تقدّم عن الصدوق من قوله : « اعتقادنا أنّ الأشياء على الإباحة حتّى يرد النهي (١) » وربّما يظهر منه في تعبيره بمثل هذه العبارة كونه من دين الإماميّة.

وثالثة : بالإجماع العملي ـ المعبّر عنه بالسيرة المعلومة ـ من تناول أهل الشرع كافّة قديما وحديثا للمأكولات والمشروبات وغيرها ممّا يندرج في العناوين المحتملة للتحريم الغير المنصوص على تحريمها بالخصوص من بعد الفحص من غير نكير ولا تشنيع من أحد ، فإنّه ممّا يكشف عن أنّ المركوز في أذهان أهل الشرع بل وسائر الشرائع كون الإباحة وجواز الارتكاب وعدم وجوب شيء من الاحتياط ولا الوقف هو الأصل في الأشياء ، بحيث لا يحتاج ذلك إلى دليل ، وإنّما المحتاج إليه هو التحريم خصوصا أو عموما ، وهذه هي الطريقة المستقيمة المستمرّة من زمان صاحب الشريعة إلى يومنا هذا الكاشفة عن كونها من الاصول المتلقّاة منه صلوات الله عليه ، وهذا هو معنى كلام المحقّق ـ على ما حكي ـ « من أنّ أهل الشرائع كافّة لا يخطئون من بادر إلى تناول شيء من المشتبهات ، سواء علم الإذن فيها من الشرع أم لم يعلم ، ولا يوجبون عليه عند تناول شيء من المأكول أن يعلم التنصيص على إباحته ، ويعذّرونه في كثير من المحرّمات إذا تناولها من غير علم ولو كانت محظورة لأسرعوا إلى تخطئته حتّى يعلم الإذن » (٢) انتهى.

لكن يشكل هذا التقرير : بمنع كون العمل المذكور من أهل الشرع كاشفا عن كونه

__________________

(١) الاعتقادات ، للصدوق ـ المطبوع ضمن مصنّفات الشيخ المفيد ٥ : ١١٤.

(٢) المعارج : ٢٠٥ ـ ٢٠٦.

٦٢

طريقة مأخوذة من صاحب الشريعة ، لجواز كون مبناها على استقلال العقل بقبح المؤاخذة والعقاب على ارتكاب ما لم يرد لبيان تحريمه دليل بالخصوص.

وأمّا من العقل : فهو أيضا على ما تقدّم من تقريره ، وجميع ما يتعلّق به بما لا مزيد عليه على وجه لا حاجة إلى إعادته هنا.

وقد يستدلّ أيضا بوجوه اخر ، كلزوم العسر والحرج لو وجب الاحتياط في الوقائع المشكوكة الحكم ، وتعذّر الاحتياط ، وعدم التمكّن من الاجتناب واستصحاب البراءة المتيقّنة حال الصغر أو الجنون.

وفي الكلّ من الضعف ما لا يخفى ، فإنّ العسر بالاحتياط والحرج في الاجتناب إنّما يلزم على تقدير كثرة الوقائع المشتبهة المحتملة للتحريم لجهالة أصل الحكم الشرعي ، وهي في الكثرة ليست بهذه المثابة ، بل هي بعد البناء على انفتاح باب الظنون المطلقة مضافة إلى الظنون الخاصّة في غاية القلّة ، فلا يلزم بالتزام الاحتياط وإلزام الاجتناب فيها عسر ولا حرج ، وتعدّد الاحتياط إنّما يسلّم في صورة الدوران بين التحريم والوجوب ، والكلام في المقام إنّما هو في دوران الأمر بين التحريم وغير الوجوب. واستصحاب البراءة الأصليّة الثابتة في حال الصغر أو الجنون غير نافع في إثبات أصل البراءة مطلقا ، إمّا لأنّ البراءة في حقّ الصبيّ والمجنون معناها خلوّ الواقعة من حيث هي عن الحكم الإلزامي رأسا ، بناء على أنّ أفعال الصبيان والمجانين كأفعال البهائم خالية عن حكم شرعي مجعول حتّى الإباحة ، وقد انتقض ذلك فيما نحن فيه باليقين بأنّ للواقعة حكما مجعولا مردّد بين الحرمة والإباحة ، أو الكراهة أو غيرها كما هو مفروض المسألة ، ولا سيّما مع ملاحظة ما ثبت بالأخبار المتواترة من أنّ لله تعالى في كلّ شيء حكما مجعولا ، وأنّه مخزون عند أهل البيت عليهم‌السلام ، أو لأنّ حالة الصغر وحالة الجنون مأخوذة في الصبيّ والمجنون على وجه الموضوعيّة لنفي التكاليف والأحكام الإلزاميّة.

وقد تبدّل ذلك الموضوع فيما نحن فيه ، ومعه لا معنى لاستصحاب البراءة الثابتة في حالة الصغر والجنون.

ولو قلنا بمجعوليّة الأحكام في الوقائع المضافة إلى الصبيّ والمجنون أخذا بمقتضى عموم الخطابات ، بناء على كون الصغر والجنون وغيرهما مانعة عن تنجّز التكليف وتوجّه الخطاب على وجه أثّر في اشتغال الذمّة ، سقط الوجه الأوّل وبقي الباقي.

٦٣

احتجّ الأخباريّون بالكتاب والسنّة والعقل ، فمن الكتاب طوائف ثلاث :

منها : الآيات الناهية عن القول على الله بما لا يعلم كقوله تعالى : ( وَلا تَقْفُ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ )(١) و ( أَنْ تَقُولُوا عَلَى اللهِ ما لا تَعْلَمُونَ )(٢) وفي معناها الأخبار الناهية عن ذلك أيضا ، مثل قوله عليه‌السلام : « إذا جاءكم ما تعلمون فقولوا به وإن جاءكم ما لا تعلمون فها ، وأهوى بيده إلى فيه (٣) » وقوله عليه‌السلام بعد قول الراوي : ما حقّ الله على خلقه؟ فقال : « أن يقولوا ما يعلمون ، ويكفّوا عمّا لا يعلمون ، فإذا فعلوا ذلك فقد ردّوا إلى الله حقّه (٤) » فإنّ القول بالبراءة عند الجهل بالحكم اتّباع لما ليس لنا به علم وقول على الله بما لا يعلم.

ومنها : الآيات الآمرة بملازمة التقوى ، كقوله تعالى : ( اتَّقُوا اللهَ حَقَّ تُقاتِهِ )(٥) وقوله : ( فَاتَّقُوا اللهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ )(٦) فإنّ الاتّقاء في محتمل الحرمة لا يتمّ إلاّ بالاحتياط والاجتناب ، فيجب.

ومنها : قوله تعالى : ( وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ ) (٧) فإنّ ارتكاب الشبهة إلقاء للنفس في التهلكة فيحرم.

والجواب عن الجميع : بالنقض بالشبهة في محتمل الوجوب ، لبنائهم فيها على البراءة.

وعن الطائفة الاولى : بأنّ اتّباع ما ليس لنا به علم ، والقول على الله بما لا يعلم في محتمل الحرمة ، إنّما يلزم بالحكم بالبراءة وجواز الارتكاب على أنّه حكم الواقعة من حيث هي ، وليس مبنى القول بالبراءة على ذلك ، فإنّا لا نفتي فيه بشيء على أنّه الحكم الواقعي ، بل نتوقّف من هذه الجهة ، وأمّا الحكم بالبراءة وجواز الارتكاب على أنّه حكمها من حيث الجهل بحكمها الواقعي فليس اتّباعا لما لا علم لنا به ، ولا قولا على الله بما لا يعلم ، لمكان العلم به من الأدلّة القطعيّة الناهضة بالبراءة في الشبهة ، ولا سيّما العقل المستقلّ بقبح العقاب على الفعل أو الترك بلا بيان.

وعن الثانية : بعدم منافاة العمل بالبراءة في محتمل الحرمة بعد ثبوت ترخيص الشارع فيه للاتّقاء المأمور به ، من الوقاية بمعنى التحفّظ عن معاصي الله تعالى بترك الواجبات وفعل المحرّمات ، ولذا قيل في تفسير قوله : ( اتَّقُوا اللهَ حَقَّ تُقاتِهِ )(٨) حقّ تقواه ، وما يجب منها وهو استفراغ الوسع في القيام بالواجبات والاجتناب عن المحارم.

__________________

(١) الإسراء : ٣٦. (٢) البقرة : ١٦٩.

(٣) الكافي ١ : ٥٧ ، ح ١٣.

(٤) الوسائل ١٨ : ١١٩ الباب ١٢ من أبواب صفات القاضي ، ح ٢٧.

(٥) آل عمران : ١٠٢.

(٦) التغابن : ١٦.

(٧) البقرة : ١٩٥.

(٨) آل عمران : ١٠٢.

٦٤

وعن المعاني (١) وتفسير العيّاشيّ سئل الصادق عليه‌السلام عن هذه ، قال : « يطاع ولا يعصى ، ويذكر فلا ينسى ، ويشكر فلا يكفر (٢) ».

وعن العيّاشيّ عنه أنّه سئل عنها ، فقال : منسوخة ، قيل وما نسخها؟ قال : قول الله : ( فَاتَّقُوا اللهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ )(٣). (٤)

وبالجملة فالعمل بالبراءة فيما نحن فيه ليس تعرّضا لمعصية الله تعالى ، ولا ارتكابا لما هو من محارمه ليجب الاتّقاء منه.

وقد يقال : إنّ أوامر التقوى كأوامر الإطاعة إرشاديّات لا يترتّب على مخالفتها أزيد ممّا يترتّب على الارتكاب المنافي لها ، فلا بدّ في حصول المعصية بذلك من ثبوت حرمته أو وجوب الاجتناب من غير جهة هذه الأوامر ، وهذا أوّل المسألة.

ولو سلّم كونها أوامر شرعيّة فلابدّ من حملها على الاستحباب حذرا عن تخصيص الأكثر ، إذ التقوى لها مراتب كثيرة لا تحصى ليست بأجمعها واجبة ، بل الواجب منها على تقدير تسليمه أقلّ قليل منها ، كما نبّه عليه حديث النسخ فحملها على الوجوب يوجب خروج أكثرها بخلاف حملها على الاستحباب ، فإنّه وإن أوجب خروج الواجب وهو لكونه تخصيص الأقلّ لا ضير فيه.

وعن الثالثة : بمنع الوقوع في المهلكة في العمل بالبراءة إن اريد بها الهلاك الاخروي وهو العقاب ، لأنّ العقل المستقلّ بقبح العقوبة يؤمننا الوقوع في المهلكة. وإن اريد بها المفسدة الدنيويّة فاحتمالها يوجب رجوع الشبهة إلى كونها موضوعيّة وبناؤهم فيها على البراءة وعدم وجوب الاجتناب.

ومن السنّة ـ مضافا إلى ما أشرنا إليها من الأخبار الناهية عن القول على الله تعالى بما لا يعلم ، وقد عرفت الجواب عنها ـ طوائف من الأخبار :

الطائفة الاولى

الروايات الآمرة بالاحتياط وهي كثيرة جدّا كصحيحة عبد الرحمن بن الحجّاج قال : سألت أبا الحسن عليه‌السلام عن رجلين أصابا صيدا وهما محرمان ، الجزاء بينهما أو على كلّ

__________________

(١) معاني الأخبار : ٢٤٠.

(٢) تفسير العيّاشي : ١٩٤ ، ح ١٢٠.

(٣) التغابن : ١٦.

(٤) تفسير العيّاشي ١ : ١٩٤ ، ح ١٢١.

٦٥

واحد منهما جزاء؟ قال : « بل عليهما أن يجزي كلّ واحد منهما الصيد ، قلت : إنّ بعض أصحابنا سألني عن ذلك فلم أدر ما عليه ، قال : إذا أصبتم بمثل هذا ولم تدروا فعليكم الاحتياط حتّى تسألوا عنه وتعلموا (١) ».

وموثّقة عبد الله بن وضّاح قال : كتبت إلى العبد الصالح عليه‌السلام يتوارى القرص ويقبل الليل ويزيد الليل ارتفاعا ، ويستر عنّا الشمس ويرتفع فوق الجبل حمرة ، ويؤذّن عندنا المؤذّنون ، فاصلّي حينئذ وافطر إن كنت صائما ، أو أنتظر حتّى تذهب الحمرة الّتي فوق الجبل؟ فكتب عليه‌السلام : « أرى لك أن تنتظر حتّى تذهب الحمرة وتأخذ بالحائطة لدينك (٢) ».

والمرويّ عن أمالي المفيد الثاني ـ ولد الشيخ ـ بسند كالصحيح عن مولانا أبي الحسن الرضا عليه‌السلام قال : « قال أمير المؤمنين عليه‌السلام لكميل بن زياد : أخوك دينك فاحتط لدينك بما شئت (٣) ».

وما عن خطّ الشهيد في حديث طويل عن عنوان البصري عن أبي عبد الله عليه‌السلام يقول فيه : سل العلماء ما جهلت ، وإيّاك أن تسألهم تعنّتا وتجربة ، وإيّاك أن تعمل برأيك شيئا ، وخذ الاحتياط في جميع امورك ما تجد إليه سبيلا ، واهرب من الفتيا هربك من الأسد ، ولا تجعل رقبتك عتبة للناس (٤).

وما أرسله الشهيد أيضا حاكيا عن الفريقين من قوله عليه‌السلام : « دع ما يريبك إلى ما لا يريبك (٥) ».

وما أرسله أيضا من قوله عليه‌السلام : « لك أن تنظر الحرام وتأخذ بالحائطة لدينك (٦) ».

وما أرسل أيضا عنهم عليهم‌السلام « ليس بناكب عن الصراط من سلك سبيل الاحتياط (٧) ».

والجواب من وجوه :

الأوّل : أنّ أوامر الاحتياط على ما تقدّم الإشارة إليه كلّها إرشاديّات ، فلا يترتّب عليها من المعصية سوى ما يترتّب على ارتكاب الشبهة مع قطع النظر فيها ، فلا بدّ من إحرازها من غير جهتها ، ولا يعقل إحرازها بها كما هو واضح.

__________________

(١) الوسائل ١٨ : ١١١ ، الباب ١٢ من أبواب صفات القاضي ، الحديث الأوّل.

(٢) الوسائل ٣ : ١٢٩ ، الباب ١٦ من أبواب المواقيت ، ح ١٤.

(٣) الأمالى : ١١٠ ، ح ١٦٨ ، الوسائل ١٨ : ١٢٣ ، الباب ١٢ من أبواب صفات القاضي ، ح ٤١.

(٤) الوسائل ١٨ : ١٢٧ ، الباب ١٢ من أبواب صفات القاضي ، ح ٥٤.

(٥) الذكرى ٢ : ٤٤٤ ، الوسائل ١٨ : ١٢٤ و ١٢٧ ، الباب ١٢ من أبواب صفات القاضي ، ح ٤٧ و ٥٦.

(٦) الذكرى ٢ : ٤٤٥ ، والوسائل ١٨ : ١٢٧ الباب ١٢ من أبواب صفات القاضي ، ح ٥٨.

(٧) رواه المحدّث البحراني في الحدائق ١ : ٧٦.

٦٦

الثاني : على فرض كونها شرعيّة لا يمكن حملها على الوجوب ، لاستلزامه تخصيص الأكثر في مرتبة هي من أظهر مراتب قبحه ، لأنّ موارد الاحتياط في الشرعيّات كثيرة بل غير محصورة ، ولا يجب الاحتياط إلاّ في أقلّ قليل منها هو بالقياس إلى الباقي ليس إلاّ كشعرة بيضاء في بقرة سوداء ، فلا بدّ من حملها على الاستحباب وإن تضمّن ذلك التخصيص بالنسبة إلى الاحتياط الواجب ، أو مطلق الرجحان ، والأوّل أقرب فتعيّن الحمل عليه.

وتوهّم أنّ الاستحباب وإن كان أقرب غير أنّه يبعّده ما لزمه من التخصيص ، والرجحان المطلق وإن كان في نفسه أبعد غير أنّه يقرّبه عدم استلزامه تخصيصا.

يدفعه أوّلا : أنّ التخصيص في الجملة مشترك اللزوم بين المعاني الثلاث بالقياس إلى صورة دوران الأمر بين الوجوب والتحريم ، فإنّ الاحتياط فيها إنّما هو بالجمع بين الفعل والترك ، وهو غير ممكن فيخرج عن الجميع بالعقل ، فإنّه لعدم إمكانه كما لا يجب فكذلك لا يستحبّ ، وإذا انتفى عنه الأمران انتفى الرجحان أيضا ، لأنّه غير خال عنهما.

وثانيا : أنّ الوجه في كون التخصيص اللازم على تقدير الحمل على الاستحباب مبعّدا إنّما هو كونه خلاف الأصل ، فأصالة عدم التخصيص ينافي الأقربيّة ويعارضها.

وفيه : منع المعارضة لورود قاعدة الأقربيّة عليها ، فإنّ مراعاة هذه القاعدة توجب الالتزام بجميع لوازمها ، وإن كانت مع قطع النظر عنها مخالفة للأصل ، لا لأنّ الأصل مع ملاحظتها جار ولا يعتنى به ، بل لعدم جريانه حينئذ بارتفاع موضوعه بسبب إعمال القاعدة ، كما هو شأن كلّ دليل أو قاعدة اجتهاديّة واردين على الأصل.

الثالث : أنّ هذه الأوامر ليست إلاّ عمومات قابلة للتخصيص ، فعند وجود ما يصلح مخصّصا لها وجب تخصيصها ، وقد عرفت في أخبار البراءة أنّ قوله عليه‌السلام : « كلّ شيء مطلق حتّى يرد فيه نهي (١) » كالنصّ في الشبهة الحكميّة التحريميّة ، فيكون أخصّ من قوله عليه‌السلام : « أخوك دينك فاحتط لدينك (٢) » ونظائره ، ومن الواجب تقديم الخاصّ على العامّ.

ولو سلّم عدم التخصيص ـ ولو لوجود ما يكون خاصّا بشبهة التحريم في أخبار الاحتياط كالثالث من مراسيل الشهيد ـ لكن أخبار الطرفين بمنزلة الخبرين المتعارضين ، لأنّ في أخبار البراءة على ما تقدّم ما هو ناف للاحتياط كالخبر المتقدّم ، وقوله عليه‌السلام : « الناس

__________________

(١) الفقيه ١ : ٣١٧.

(٢) الأمالي : ١١٠ ، ح ١٦٨.

٦٧

في سعة ما لم يعلموا (١) » فلا بدّ من الترجيح السندي بالرجوع إلى المرجّحات السنديّة الّتي منها موافقة الكتاب وموافقة العقل المستقلّ ، وهما في جانب أخبار البراءة. فلا بدّ في أخبار الاحتياط من الطرح أو التأويل بالحمل على الاستحباب ، وهذا أولى.

سلّمنا عدم الترجيح من هذه الجهة أيضا لكنّهما خبران تعارضا وتساقطا ، ويبقى بعده الأدلّة الاخر المقامة على البراءة من الكتاب والإجماع ـ ولو في الجملة ـ والعقل سليمة عن المعارض ، فتأمّل.

الرابع : منع نهوض الاستدلال بها في كلّ واحد على التفصيل ، أمّا صحيحة ابن الحجّاج فأوّلا : بأنّ موردها من الشكّ في المكلّف به في الشبهة الحكميّة الوجوبيّة فلا يندرج فيه محلّ البحث لوجهين.

وثانيا : على فرض تسليم كون المنساق من الرواية في متفاهم العرف أنّ من اشتبه عليه الأمر في التكليف أو المكلّف به وجوبيّا أو تحريميّا فعليه الاحتياط حتّى يسأل ، بأنّ الرواية إنّما تفيد وجوب الاحتياط والاحتراز عن الإفتاء في مقام الجهل بحكم الواقعة إلى أن يسأل عنه ويعلم به ثمّ يفتي ، بقرينة قول الراوي : « بعض أصحابنا سألني عن ذلك فلم أدر ما عليه (٢) » وقول الإمام عليه‌السلام : « حتّى يسألوا منه وتعلموا (٣) » حيث جعل غاية الاحتياط السؤال عن حكم الواقعة والعلم به ، فقوله : « إذا أصبتم بمثل هذا ـ أي إذا سألتم عمّا لا تعلمونه ـ فعليكم الاحتياط والإمساك عن الإفتاء حتّى تسألوا وتعلموا (٤) » لحرمة الإفتاء من غير علم ، وهذا أمر مسلّم لا يمكن الاسترابة فيه ، ولكن لا يلزم من وجوب الاحتياط في الإفتاء وجوب الاحتياط في العمل ، ولا دلالة في الرواية على الثاني أصلا.

وثالثا : بأنّها بقرينة قوله عليه‌السلام : « حتّى تسألوا » ظاهرة في صورة إمكان السؤال وتحصيل العلم بحكم الواقعة ووجوب الاحتياط في هذه الصورة لا ينافي العمل بالبراءة فيما لا سبيل إلى العلم بحكم الواقعي ، لبنائه على تعذّر العلم واليأس عن الدليل ، ولذا يشترط فيه الفحص على ما ستعرفه في ذيل المسألة.

وأمّا موثّقة ابن وضّاح (٥) فلخروج موردها أيضا عن محلّ البحث ، إذ قضيّة وجوب مراعاة الوقت في الصوم والصلاة ـ كما هو مقرّر في الفقه ـ هو وجوب الاحتياط بالإمساك

__________________

(١) عوالي اللآلئ ١ : ٤٢٤ ، ح ١٠٩.

(٢) الوسائل ١٨ : ١١١ الباب ١٢ من أبواب صفات القاضي ، ح ١.

(٣ و ٤) نفس الحديث السابق.

(٥) الوسائل ١٨ : ١٢٢ الباب ١٢ من أبواب صفات القاضي ، ح ٣٧.

٦٨

عن الإفطار والدخول في الصلاة على من يشكّ في دخول الوقت إلى أن يحصل له العلم بدخوله ، فإنّ وجوب الاحتياط في نحو هذه الصورة ممّا لا إشكال فيه ، ويساعد عليه الاستصحاب وقاعدة الشغل.

وربّما يحتمل خروج الرواية مخرج الردّ على أهل الخلاف ، لبنائهم في المغرب على كفاية استتار القرص ولم يعتبروا ذهاب الحمرة ، وكأنّ الراوي ممّن يعاشرهم وقوله عليه‌السلام : « أرى لك أن تنتظر » (١) تعليم لطريق الاحتياط لحفظ الدين في أمر الصلاة والصوم بالانتظار لذهاب الحمرة الّذي مناط دخول الوقت ، إن اريد به ذهاب الحمرة المشرقيّة أو ما يلازمه وهو ذهاب الحمرة فوق الجبل ، فقوله عليه‌السلام : « تأخذ بالحائطة لدينك » (٢) يراد به الأخذ بما يحفظ الدين ، وهو مراعاة ذهاب الحمرة لا متابعة العامّة في الاكتفاء باستتار القرص ، والحائطة للدين معناها الحافظ له ، فليست الرواية من الأمر بالاحتياط في العمل مع الشكّ في الحكم ، بل من الأمر بالاحتياط للدين وحفظه بمراعاة آدابه وأحكامه الّتي منها ذهاب الحمرة لدخول وقت الإفطار في الصوم والدخول في الصلاة.

وأمّا رواية الأمالي فلأنّها أيضا في غير محلّ البحث ، فإنّ قوله عليه‌السلام : « أخوك دينك (٣) » تشبيه للدين بالأخ ، إغراء للراوي إلى الاهتمام في حفظه عن المنافيات والمضادّ من الحكم بغير ما أنزل الله ، والإفتاء بغير علم ، وشهادة الزور ، وتضييع حقّ وترويج باطل ، وقلّة مبالات في الأعمال والأموال والحقوق والفروج ، كما يهتمّ الإنسان بالاحتياط في أخيه ، لحفظه عن الموبقات والمهلكات والشرور والمضارّ في حاله وماله ، فهو ليس من الاحتياط في العمل عند الجهل بالحكم ، بل من الاحتياط بمعنى الاحتراز عن منافيات الدين لحفظه ، كما يقول الطبيب للمريض : « احتط » وهذا يجامع العلم بالحكم والتمكّن من تحصيله ، ولا ريب في وجوبه. وقوله : « بما شئت » ليس من باب التعليق على المشيّة ليلازم الاستحباب ، بل معناه : أنّ الاحتياط في هذا المقام بما شئت من قليل أو كثير فقد وقع في محلّه.

وأمّا المرويّ عن خطّ الشهيد فمع ضعفه كالبواقي ، فلظهور قوله عليه‌السلام : « في جميع امورك » (٤) خصوصا بملاحظة إضافة الامور إلى المخاطب في الموضوعات الخارجيّة الّتي

__________________

(١ و ٢) نفس الحديث السابق.

(٣) امالي الشيخ ١ : ١٠٩.

(٤) الوسائل ١٨ : ١٢٧ الباب ١٢ من أبواب صفات القاضي ، ح ٥٤ وفيه : ( ووجدت بخطّ الشهيد محمّد بن مكي قده ... ).

٦٩

يتّفق الابتلاء بها للمخاطب على حسب عادته ، وحيث إنّ الاحتياط فيها ليس بواجب باتّفاق من الأخباريّين أيضا وجب صرف الأمر عن الوجوب. ولو سلّم عدم الظهور فيها فنقول : قوله : « خذ بالاحتياط » عقيب قوله : « سل العلماء ما جهلت » (١) ظاهر في الاحتياط مع إمكان السؤال وتحصيل العلم ، ولا كلام في وجوبه كما تقدّم.

ولو سلّم عدم الظهور أيضا نقول : إنّ قوله عليه‌السلام : « في جميع امورك » عامّ يشمل جميع موارد الاحتياط ، وقد عرفت أنّها غير محصورة لا يجب الاحتياط إلاّ في أقلّ قليل منها ، فوجب حمل الأمر على الاستحباب ، أو الرجحان المطلق ، أو الإرشادي المعرّى عن الطلب ، أو غير ذلك حذرا عن تخصيص الأكثر.

وتوهّم أنّ التخصيص أرجح من المجاز حيثما دار الأمر بينهما على ما قرّر في محلّه.

يدفعه : أنّه إنّما يسلّم إذا لم يطرئه ما يوهنه ، وكونه تخصيص الأكثر من موهناته لأنّه إمّا غير جائز أو في غاية المرجوحيّة على القول بالجواز ، والمجاز أرجح منه بمراتب ، مع قوّة احتمال كون المراد من الاحتياط نظير ما يأمر به الطبيب من الاحتراز عن كلّ غير مشروع فعلا أو تركا مجامع للعلم بالحكم ، فلا يلزم تخصيص ولا مجاز.

وأمّا قوله عليه‌السلام : « دع ما يريبك إلى ما لا يريبك ». (٢)

ففيه : أنّ ارتكاب الشبهة إنّما يكون مريبا إذا لم يأذن فيه الشارع ، وقد ثبت الرخصة بما تقدّم من أدلّة البراءة من الآيات والروايات ، ولا سيّما العقل النافي للعقاب والمؤاخذة عنه ، فلا ريبة فيه لندعه إلى الاجتناب عنه ، فوجب حمل الرواية على غير ما نحن فيه ، ولعلّه الاحتياط في صورة الشكّ في المكلّف به بعد القطع بالتكليف فيما دار الأمر فيه بين المتبائنين.

وعن المحقّق أنّه أجاب عنه بأنّه خبر واحد لا يعمل بمثله في الاصول (٣) ، سلّمنا لكن إلزام المكلّف بالأثقل مظنّة ريبة ، لأنّه مشقّة لم يدلّ الشرع عليها ، فيجب اطراحها بموجب الخبر ، وضعف الوجهين واضح.

أمّا الأوّل : فلمنع كون المسألة اصوليّة بل هي فرعيّة ، أو من مبادئ المسائل الفرعيّة تذكر في الاصول لما فيه من الكلّية ، ولو سلّم فإنّما لا يعمل بخبر الواحد في اصول

__________________

(١) نفس الحديث السابق.

(٢) الوسائل ١٨ : ١٢٧ من أبواب صفات القاضي ، ح ٥٦ ، الذكرى : ١٣٨.

(٣) معارج الاصول : ١٥٧.

٧٠

الاعتقاد وفي اصول الفقه إذا كانت من المسائل اللغويّة أو المسائل العقليّة ، وأمّا إذا كانت شرعيّة بكون الحكم فيها بحيث من شأنه أن يؤخذ من الشارع كمسائل الحجّية فلا حجر عن العمل بخبر الواحد فيها ، لاتّحاد المناط فيها وفي الفروع ، بل عموم دليل الحجّية.

وأمّا الثاني : فلأنّ الإلزام بالأثقل إنّما هو بموجب الأمر الوارد في الخبر لا مطلقا ، فليس من الإلزام بمشقّة لم يدلّ عليه الشرع ، فليس فيه مظنّة ريبة.

وأمّا قوله عليه‌السلام : « لك أن تنظر الحزم وتأخذ بالحائطة لدينك » (١) ففيه :

أوّلا : منع دلالته على الوجوب لا بطريق النصوصيّة ولا الظهور ، فإنّ غاية ما يفيده « اللام » إنّما هو الرخصة في الفعل ، ولا إشكال في جواز الاحتياط بل رجحانه على تقدير استفادته من اللام فإنّ الاحتياط حسن على كلّ حال عقلا ونقلا.

وثانيا : منع كون الحائطة للدين يراد منها الاحتياط بالمعنى المبحوث عنه ، بل هو بقرينة « أن تنظر الحزم » ظاهر فيما يحفظ به من الاحتراز عن منافياته الّتي منها فعل الحرام ، فيجامع العلم بالحكم ولا إشكال في وجوبه ، ولا يندرج فيه الاحتياط في الشبهة.

وأمّا قوله عليه‌السلام : « ليس بناكب ... » (٢) إلى آخره.

ففيه : أيضا منع ظهوره في الوجوب ، بل نظير هذا التركيب شيء يذكر في مقام الوعظ والإرشاد ، ولعلّ النظر فيه بقرينة السلوك والسبيل إلى تارك الطريقين من الاجتهاد والتقليد الّذي يعمل بالاحتياط في جميع أعماله من العبادات ، والمعاملات ، فإنّه أسلم الطرق في امتثال أحكام الله تعالى ، ولا سيّما في مقابلة الجاهل في العبادات والمعاملات التارك لطريقة الاحتياط أيضا.

ولا ريب أنّ السالك بطريقة الاحتياط لإدراكه الواقع في جميع الوقائع لا ينكب عن الصراط ، بخلاف الجاهل التارك لها فإنّه حيث لم يطابق عمله الواقع ربّما ينكب ، وكذلك السالك لطريقة الاجتهاد والسالك لطريقة التقليد أيضا ربّما أمكن في حقّهما النكوب فيمالو قصّرا في مراعاة شروط الاجتهاد أو التقليد ، هذا مضافا إلى قوّة احتمال إرادة ما يأمر به الطبيب من الاحتراز عن الامور الغير المشروعة في الدين ، فإنّ صاحبه لا ينكب عن الصراط

__________________

(١) الوسائل ١٨ : الباب ١٢ من أبواب صفات القاضي ، ح ٥٨ ( عن الشهيد ) ، لم نجد في الذكرى هذا النصّ ، وإنّما الموجود في ( ص ١٣٨ ) عن العبد الصالح : أرى لك أن تنتظر حتّى تذهب الحمرة وتأخذ الحائط لدينك.

(٢) الحدائق ١ : ٧٦.

٧١

بخلاف غيره الّذي لا يبالي عن ترك الواجبات وفعل المحرّمات فإنّه لا يأمن من أن ينكب.

الطائفة الثانية

أخبار التوقّف الّتي قيل إنّها لا تحصى كثرة :

منها : ما في ذيل مقبولة عمر بن حنظلة بعد ذكر المرجّحات من قوله عليه‌السلام : « إذا كان كذلك فأرجه حتّى تلقى إمامك ، فإنّ الوقوف عند الشبهات خير من الاقتحام في الهلكات (١).

ومنها : صحيحة جميل بن درّاج عن أبي عبد الله عليه‌السلام : أنّه قال : « الوقوف عند الشبهة خير من الاقتحام في الهلكة ، انّ على كلّ شيء حقيقة وعلى كلّ صواب نورا فما وافق كتاب الله فخذوه وما خالف كتاب الله فدعوه (٢) ».

ومنها : رواية الزهري (٣) والسكوني (٤) وعبد الأعلى (٥) « الوقوف عند الشبهة خير من الاقتحام في الهلكة ، وتركك حديثا لم تروه خير من روايتك حديثا لم تحصه ».

ومنها : رواية أبي شيبة عن أحدهما (٦) ، وموثّقة سعد بن زياد عن جعفر عليه‌السلام عن أبيه عليه‌السلام عن آبائه عليهم‌السلام عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله أنّه قال : « لا تجامعوا في النكاح على الشبهة وقفوا عند الشبهة ـ إلى أن قال ـ فإنّ الوقوف عند الشبهة خير من الاقتحام في الهلكة (٧).

ومنها : موثّقة حمزة بن طيّار أنّه عرض على أبي عبد الله عليه‌السلام بعض خطب أبيه حتّى بلغ موضعا منها قال له : كفّ واسكت ، ثمّ قال أبو عبد الله عليه‌السلام : أنّه لا يسعكم فيما ينزل بكم ممّا لا تعلمون إلاّ الكفّ عنه ، والتثبّت والردّ إلى أئمّة الهدى عليهم‌السلام حتّى يحملوكم فيه إلى القصد ، ويجلوا عنكم فيه العمى ، ويعرّفوكم فيه الحقّ قال الله تعالى : ( فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ )(٨) و (٩).

ومنها : رواية جميل عن الصادق عليه‌السلام عن آبائه عليهم‌السلام أنّه « قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : الامور ثلاثة : أمر

__________________

(١) الوسائل ١٨ : ٧٦ الباب ٩ من أبواب صفات القاضى ، الحديث الأوّل.

(٢) الوسائل ١٨ : ٨٦ الباب ٩ من أبواب صفات القاضي ، ح ٣٥.

(٣) الوسائل ١٨ : ١١٢ ، الباب ١٢ من أبواب صفات القاضي ، ح ٢.

(٤) الوسائل ١٨ : ١٢٦ ، الباب ١٢ من أبواب صفات القاضي ، ح ٥٠.

(٥) الوسائل ١٨ : ١٢٦ ، الباب ١٢ من أبواب صفات القاضي ، ذيل الحديث ٥٠.

(٦) الوسائل ١٨ : ١١٥ ، الباب ١٢ من أبواب صفات القاضي ، ح ١٣.

(٧) الوسائل ١٨ : ١١٦ ، الباب ٤ من أبواب صفات القاضي ، ح ١٥ وفيه : مسعدة بن زياد.

(٨) النحل : ٤٣.

(٩) الوسائل ١٨ : ١٢ ، من أبواب القاضي ، ح ١٤.

٧٢

بيّن لك رشده فاتّبعه ، وأمر بيّن لك غيّه فاجتنبه ، وأمر اختلف فيه فردّه إلى الله عزّ وجلّ (١) ».

ومنها : رواية جابر عن أبي جعفر عليه‌السلام في وصيّته لأصحابه إذا اشتبه الأمر عليكم فقفوا عنده ، ردّوه إلينا حتّى نشرح لكم من ذلك ما شرح الله لنا (٢) ».

ومنها : رواية زرارة عن جعفر عليه‌السلام « حقّ الله على العباد أن يقولوا ما يعلمون ويقفوا عندما لا يعلمون (٣) ».

ومنها : رواية المسمعي الواردة في اختلاف الحديث ، وفيها : « وما لم يجدوا في شيء من هذه الوجوه فردّوا إلينا علمه فنحن أولى بذلك ، ولا تقولوا فيه بآرائكم ، وعليكم الكفّ والتثبّت والوقوف ، وأنتم طالبون باحثون حتّى يأتيكم البيان من عندنا (٤) » إلى غير ذلك ممّا يقف عليه المتتبّع.

والجواب أمّا عن المقبولة ـ فبعد الإغماض عن قوّة احتمال « الشبهات » فيها لنحو الشبهة المحصورة ، بملاحظة كون موردها الخبرين المتعارضين المأمور بارجائهما الّذي هو في معنى ترك العمل بهما معا ، إمّا لاشتباه الحجّة منهما بغير الحجّة ، أو لاشتباه الكذب منهما لعدم صدوره عن الإمام بما هو صدق لصدوره عنه.

وعن (٥) ظهروها في التوقّف عند الشبهة المقدور على رفعها بالرجوع إلى الإمام أو غيره من الطريق المنصوبة ، فلا يندرج فيها ما نحن فيه.

وعن أنّه لا بدّ فيها من تخصيص ، لعدم وجوب التوقّف عند جميع الشبهات حتّى عند الأخباريّين تخصيصها بالشبهات الحكميّة التحريميّة ليس بأولى من تخصيصها بالشبهات المحصورة ، بل هو المتعيّن لئلاّ يلزم تخصيص العامّ بالمورد ، أو أنّه على تقدير التخصيص يلزم تخصيص الأكثر ، فلا بدّ من حمل ألامر المستفاد منها على غير الوجوب من استحباب أو مطلق رجحان أو إرشاد ، كما ربّما يومئ إليه التعبير بالخيريّة ـ من وجهين (٦) :

الأوّل : أنّ الإرجاء المأمور به عبارة عن تأخير العمل بالخبرين ، فالأمر به يفيد

__________________

(١) الوسائل ١٨ : ١١٨ ، الباب ١٢ من أبواب صفات القاضي ، ح ٢٣.

(٢) الوسائل ١٨ : ١٢٣ ، الباب ١٢ من أبواب صفات القاضي ، ح ٤٣.

(٣) الوسائل ١٨ : ١١٩ ، الباب ١٢ من أبواب صفات القاضي ، ح ٢٧.

(٤) الوسائل ١٨ : ٨٢ ، الباب ٩ من أبواب صفات القاضي ، ح ٢١.

(٥) عطف على قوله : « فبعد الإغماض عن قوّة احتمال الشبهات » الخ.

(٦) خبر لقوله : والجواب.

٧٣

وجوب التوقّف عن العمل بهما ، والعمل بالخبر إمّا عبارة عن الإفتاء بموجبه ، أو عن القضاء بموجبه ، أو عن الالتزام والتديّن بمؤدّاه ، أو عن العمل الخارجي على طبقه على معنى تطبيق الحركات والسكنات الخارجيّة عليه ، وهو على قسمين :

أحدهما : ارتكاب الواقعة أو اجتنابها استنادا إلى الخبر وتعويلا عليه.

وثانيها : الفعل أو الترك تعويلا على أنّ حكمه الواقعي المجعول هو الّذي يستفاد من الخبر من إباحة أو وجوب أو تحريم ، وأيّامّا اريد من الأمر بإرجاء الخبرين من هذه الوجوه فنحن نقول بوجوب التوقّف فيه ، ولا يندرج فيه ما نحن فيه ، لأنّ ارتكاب الشبهة في محتمل التحريم لا يلازم الإفتاء ولا القضاء ولا التزام ولا الاستناد إلى الخبرين ، ولا على أنّ حكمها المجعول من حيث هي هو الإذن والإباحة المستفادة من أحدهما ، بل بناؤه إنّما هو على كون حكمها المجعول من حيث الاشتباه ومن حيث جهالة الحكم الواقعي إنّما هو الجواز والرخصة في الفعل. وهذا كما ترى ليس من العمل بالخبرين ولا بأحدهما ليندرج في الأمر بالإرجاء المفيد لوجوب التوقّف.

فإن قلت : إنّ محلّ الاستدلال على حكم مطلق الشبهة حتّى ما نحن فيه إنّما هو قوله عليه‌السلام : « إنّ الوقوف عند الشبهات » إمّا لعموم « الشبهات » أو لحجّية العلّة المنصوصة ، فإنّه يفيد عموم الحكم في كلّ شبهة تحريميّة وإن كانت لغير تعارض النصّين من فقد نصّ أو إجماله.

قلت : العموم من هذه الجهة وإن كان مسلّما غير أنّه لا يجدي في عموم الحكم المطلوب في المقام ، لأنّ أقصى ما يفيده الرواية إنّما هو الوقف عن الفعل والترك معا على وجه الاعتماد ، على أنّ حكمه المجعول له من حيث هو إنّما هو الجواز والإباحة ، ووجوب الوقف بهذا المعنى مسلّم حتّى في غير ما تعارض فيه نصّان ، ولكنّه لا ينافي جواز الارتكاب على أنّه الحكم المجعول للجاهل بحكم الواقعة من حيث هي.

لا يقال : عموم الحكم بهذا الاعتبار يتمّ بملاحظة ظاهر الوقوف ، لظهوره عرفا فيما يقابل الحركة بمعنى الفعل والارتكاب ، وهو السكون بالترك والاجتناب ، وإطلاقه يقضي بوجوب الوقوف عن الارتكاب بجميع وجوهه وجهاته حتّى الجهة الّتي عليها مبنى العمل بالبراءة.

لأنّ الظهور المذكور على تقدير تسليمه إنّما يسلّم في غير نحو هذا التركيب ، فإنّ إضافة « الوقوف » فيه إلى « الشبهة » تصرفه عن ذلك إلى ظهور التوقّف عن جميع أطراف الشبهة ، فإن كانت من قبيل الشبهة المحصورة فبالاجتناب عن الجميع ، وإن كانت من قبيل

٧٤

الشبهة الحكميّة التحريمية ، فبالإمساك عن كلّ من الفعل والترك ، واستحالة الجمع بينهما إنّما هي في الفعل والترك. المطلقين ، وأمّا الفعل والترك اعتمادا في كلّ منهما على الجواز الواقعي فالإمساك والوقوف عنهما معا ممكن ، فهو الواجب دائما لا الوقوف عن الارتكاب مطلقا ولو اعتمادا على الجواز المجعول للواقعة من حيث الجهالة.

الثاني : أنّ الاقتحام في الهلكات هو الدخول فيها ، فإمّا أن يراد به الدخول الحقيقي وهو الأظهر ، أو الدخول الحكمي على معنى كون ارتكاب الشبهات ممّن عوّد نفسه به في عرصة الدخول في الهلكات ، باعتبار أنّ الخائض فيها لا يأمن من الوقوع في المحرّمات ، بل ربّما ينجرّ ركوبه الشبهات إلى ارتكاب المحرّمات أيضا ولو لقلّة مبالاته ، فإنّ من رتع حول الحمى لا يبالي أن يرتع في الحمى ، وقد روي (١) أنّ من ارتكب الشبهات نازعته ودعته نفسه إلى المحرّمات.

وفي معناه قول رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله في حديث : « ألا وإنّ لكلّ ملك حمى ، وإنّ حمى الله محارمه ، فمن يرتع حول الحمى أو شك أن يقع فيه (٢) ».

وفي آخر : « أنّ لكلّ ملك حمى ، وإنّ حمى الله حلاله وحرامه ، والشبهات بين ذلك كما لو أنّ راعيا رعى إلى جانب حمى لم يلبث غنمه أن تقع في وسطه فدعوا الشبهات (٣) ».

وفي ذلك عن أمير المؤمنين عليه‌السلام : « والمعاصي حمى الله ، فمن يرتع حولها يوشك أن يدخلها (٤) ». والهلكة ظاهرة في الهلاك الاخروي وهو العقاب ، فإمّا أن يراد به ما يترتّب على مخالفة الحكم الواقعي المجهول ، أو على مخالفة الحكم الظاهري المجعول للجاهل بذلك الحكم وهو وجوب التوقّف والاحتياط ، والأوّل باطل لقبح العقاب على مخالفة حكم لا يعلمه المكلّف عقلا ولا ينكره الأخباريّون أيضا ، ولذا يتكلّفون في إلزام المكلّف على العقاب بالتزام وجوب الاحتياط وما بمعناه ، والثاني ـ مع أنّه محلّ منع لأدلّة البراءة ـ مبنيّ على ثبوت ذلك الحكم العامّ من دليل آخر ، ليكون الارتكاب حينئذ من الاقتحام في الهلكات ، ويندرج به في عموم قوله عليه‌السلام : « الوقوف عند الشبهات خير من الاقتحام في الهلكات (٥)

__________________

(١) الوسائل ١٨ : ١٢٤ ، الباب ١٢ من أبواب صفات القاضي ، ح ٤٧.

(٢) الوسائل ١٨ : ١٢٢ الباب من أوبواب صفات القاضي ، ح ٣٩ ، عوالي اللآلئ ٢ : ٨٣ ، ح ٢٢٣.

(٣) الوسائل ١٨ : ١٢٢ ، الباب ١٢ من أبواب صفات القاضي ح ٤٠.

(٤) الفقيه ٤ : ٧٥ باب نوادر الحدود ، الوسائل ١٨ : ١١٨ ، الباب ١٢ من أبواب صفات القاضي ، ح ٢٢.

(٥) الوسائل ١٨ : ٧٦ ، الباب ٩ من أبواب صفات القاضي ، الحديث الأوّل.

٧٥

ولا يمكن إثباته بنفس هذا الخطاب.

وحينئذ فلا بدّ من تنزيل الرواية على الشبهات المشتملة على الحرام الواقعي الواجب اجتنابه كالشبهة المحصورة ونحوها ، كما يؤيّده مورد الرواية.

أو حمل الاقتحام على الدخول الحكمي ، من جهة أنّ ارتكاب الشبهات ينجرّ بالأخرة إلى الوقوع في المحرّمات الواقعيّة المعلومة بالتفصيل ، وعليه فالأمر بالوقوف المستفاد من الرواية يكون لمجرّد الإرشاد ، وقد ذكرنا مرارا أنّ الأمر الإرشادي لا يترتّب على مخالفته من حيث هو عقاب ولا مؤاخذة ، بل العقاب إنّما يترتّب على الارتكاب حيث أدّى إلى ارتكاب الحرام الواقعي باعتبار ما أدّى إليه لا نفسه ، فلم يثبت بهذه الرواية وجوب الاجتناب عن الشبهة من حيث هو ، ومع قطع النظر عمّا أدّى إليه من ارتكاب الحرام الواقعي المعلوم.

إلاّ أن يقال : إنّ كون ارتكاب الشبهات اقتحاما في الهلكات يقتضي وجود موجب للهلاك الاخروي فيها ، وهذا وإن كان لا يمكن كونه الحرمة الواقعيّة المجهولة لقبح العقاب عليها عقلا ، ولكن لا مانع من أن يكون نحو وجوب الاجتناب وغيره من الحكم العامّ المجعول للجاهل ، فالحكم على ارتكاب الشبهة بكونه اقتحاما في الهلكة يكشف عن وجوب التوقّف بذلك التقريب ، وهذا هو وجه دلالة المقبولة على المطلوب ولا حاجة معه إلى إثباته بدليل آخر.

ولكن يدفعه : أنّ الإمكان لا يستلزم الوقوع ، وكما يمكن أن يكون موجب الهلاك بعد نفي تأثير الحرمة المجهولة فيه ذلك الحكم العامّ المجعول للجاهل ، فكذلك يمكن كونه المحرّمات المعلومة بالإجمال الموجودة في الشبهات كما في الشبهة المحصورة ، وكونه المحرّمات المعلومة بالتفصيل الّتي ينجرّ إلى ارتكابها ارتكاب الشبهات ، وتعيين الأوّل دون الأخيرين يحتاج إلى دليل ، ولا دلالة في الرواية بنفسها على التعيين ، بل الظاهر من صوغ الرواية هو الأخير ، لظهور نحو هذا الكلام في متفاهم العرف في الإرشاد ، مع عدم استلزام الحمل عليه تخصيصا ، مع أنّه قضيّة الجمع بينها وبين أدلّة البراءة ، فإنّ فيها ما هو خاصّ بالشبهة الحكميّة التحريميّة ، وما ينفي العقاب مطلقا حتّى على الحكم العامّ المحتمل ، ويكشف عنه أيضا ما تقدّم من روايات الحمى.

٧٦

وممّا يؤيّده بل يدلّ عليه ما روي من « أنّ أورع الناس من وقف عند الشبهة (١) » وما ورد أيضا من « أنّه لا ورع كالوقوف على الشبهة (٢) ».

وبهذا كلّه يظهر الجواب عن صحيحة ابن درّاج ورواية الزهري والسكوني وموثّقة ابن زياد ، مع ما فيها من وجود قرينة التنزيه من النهي عن المجامعة ، لورودها في شبهة الموضوع الّتي لا يجب فيها الوقف والاحتياط باتّفاق من الأخباريّين ، كما يرشد إليه التمثيل للنكاح على الشبهة بما في كلام الصادق عليه‌السلام : « إذا بلغك أنّك قد رضعت من لبنها ، أو أنّها لك محرم وما أشبه ذلك ، فإنّ الوقوف عند الشبهة خير من الاقتحام في الهلكة (٣) » وحيث إنّ تخصيص العامّ بالمورد غير سائغ فيقضي ذلك بأنّ المراد من « الشبهات » في الرواية ما يعمّ شبهة الموضوع إن لم نقل باختصاصها به ، فينهض هذا قرينة على أنّ الأمر بالوقوف لمجرّد الإرشاد لا الوجوب.

وعن موثّقة ابن طيّار (٤) بظهورها في الكفّ في مشتبه الدلالة بالتشابه والإجمال إلى أن يصل بيانه من أهل الذكر عليهم‌السلام.

وعن رواية جميل بظهور قوله عليه‌السلام : « فردّه إلى الله عزّ وجلّ » (٥) في وجوب ردّ علمه إليه ، وهو لا يلازم وجوب الوقوف عن الارتكاب ، وكذا الجواب عن رواية جابر مع ظهورها في مشتبه الدلالة كما يشهد به قوله عليه‌السلام : « حتّى نشرح لكم » (٦).

وعن رواية زرارة لظهورها في الوقوف عن القول على الله بما لا يعلم ، بقرينة قوله عليه‌السلام : « أن يقولوا ما يعلمون » (٧) وكذا رواية المسمعي بقرينة قوله عليه‌السلام : « ولا تقولوا فيه بآرائكم » (٨) وقد يجاب عن مجموع أخبار التوقّف بوجوه اخر بعضها غير تامّ.

__________________

(١) الوسائل ١٨ : ١١٨ ، الباب ١٢ من أبواب صفات القاضي ، ح ٢٤.

(٢) الوسائل ١٨ : ١١٧ ، الباب ١٢ من أبواب صفات القاضي ، ح ٢٠.

(٣) الوسائل ١٤ : ١٩٣ ، الباب ١٥٧ من أبواب مقدّمات النكاح وآدابه ، ح ٢.

(٤) الوسائل ١٨ : ١١٢ ، الباب ١٢ من أبواب صفات القاضي ، ح ٣.

(٥) الوسائل ١٨ : ١١٨ ، الباب ١٢ من أبواب صفات القاضي ، ح ٢٣.

(٦) الوسائل ١٨ : ١٢٣ ، الباب ١٢ من أبواب صفات القاضي ، ح ٤٣.

(٧) الوسائل ١٨ : ١١٩ ، الباب ١٢ من أبواب صفات القاضي ، ح ٢٧.

(٨) الوسائل ١٨ : ٨٢ ، الباب ٩ من أبواب صفات القاضي ، ح ٢١.

٧٧

الطائفة الثالثة

أخبار التثليث الّتي منها ما تقدّم في أخبار التوقّف من رواية جميل عن الصادق عليه‌السلام عن آبائه عليهم‌السلام : عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وعمدتها ما في مقبولة عمر بن حنظلة عند بيان الترجيح بالشهرة من قوله عليه‌السلام : « ينظر إلى ما كان من روايتهم عنّا في ذلك الّذي حكما به المجمع عليه بين أصحابك ، فيؤخذ به من حكمنا ويترك الشاذّ الّذي ليس بمشهور عند أصحابك ، فإنّ المجمع عليه لا ريب فيه ، وإنّما الامور ثلاثة أمر بيّن رشده فيتّبع ، وأمر بيّن غيّه فيجتنب وأمر مشكل يردّ علمه ( حكمه ـ خ ل ) إلى الله ، قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : حلال بيّن وحرام بيّن وشبهات بين ذلك ، فمن ترك الشبهات نجى من المحرّمات ، ومن أخذ بالشبهات ارتكب المحرّمات وهلك من حيث لا يعلم (١).

وقد اختلف في بيان وجه الدلالة ، فمن مشايخنا (٢) من قرّره بما محصّله : أنّ الخبر الشاذّ الّذي أمر الإمام عليه‌السلام بتركه ـ بعد ما أمر بتقديم المجمع عليه تعليلا بأنّه لا ريب فيه ـ هو الّذي فيه ريب ، فيكون من الأمر المشكل الّذي أوجب الإمام ردّه إلى الله. وإلى ذلك أشار بعض الأعلام في بيان سؤال أورده على نفسه بقوله : « فإنّ تعليل الإمام عليه‌السلام تقديم المجمع عليه بأنّه لا ريب فيه وبأنّ الشاذّ النادر من الأمر المشكل الّذي لا يجوز القول به ويجب ردّه إلى الله ورسوله ، يدلّ على وجوب ترك الشبهات (٣) ».

أقول : وكأنّ وجه دلالته على وجوب تركها أنّ الإمام عليه‌السلام في إيجابه ردّ الأمر المشكل إلى الله ورسوله استشهد بكلام رسول الله في تثليثه الامور ، وجعله الثالث شبهات بين ذلك يلزم من الأخذ بها ارتكاب المحرّمات ، وهذه هي القسم الثالث الّذي عبّر عنه الإمام عليه‌السلام بالأمر المشكل ، وأوجب ردّه إلى الله ، ومن الواضح وجوب مطابقة الشاهد للمشهود له ، فلو لا ترك الشبهات واجبا لم يطابق الشاهد المشهود له.

ومن الأعلام من قرّر الاستدلال ـ قبل ما نقلناه عنه ـ بأنّ من الأشياء ما يجوز فعله لقيام دليل معتبر عليه ، ومنها ما لا يجوز فعله كذلك ، ومنها ما يحتمل الأمرين إمّا لعدم بلوغ دليله إلينا ، أو للإجمال والاشتباه في الدليل ، فمن ترك الشبهات ـ يعني جميعها ـ نجى من المحرّمات ، أي ما هو حرام في الواقع ، ومن أخذ بها ـ أي بجميعها ـ ارتكب المحرّمات لوجودها فيها جزما ، لأخبار المعصومين عليهم‌السلام أو للعلم العادي بذلك ، أو المراد مجاز

__________________

(١) الكافي ١ : ٦٨ ، ح ١٠.

(٢) فرائد الاصول ٢ : ٨٣.

(٣) القوانين ٢ : ٢٣.

٧٨

المشارفة إن لم نحمل « الشبهات » على العموم (١).

فظهر أنّ موضع الاستدلال من هذا الخبر مشتبه أو متعدّد ، وأيّامّا كان فنجيب عن التقرير الأوّل بوجهين :

الأوّل : منع كون الخبر الشاذّ من قسم الأمر المشكل المأمور بردّه إلى الله ، بل الّذي يكون من الأمر المشكل إنّما هو الخبران المتعارضان معا إذا تساويا في جميع الجهات المرجّحة ، كما فرضه الراوي في آخر المقبولة فأجاب الإمام عليه‌السلام بالإرجاء حتّى يلقى إمامه. وأمّا الخبر الشاذّ فهو من القسم الثاني وهو أمر بيّن غيّه ، كما أنّ الخبر المجمع عليه من القسم الأوّل وهو أمر بيّن رشده.

أمّا أوّلا : فلأنّ الإمام عليه‌السلام أمر بتقديم المجمع عليه ، وعلّله : بأنّ المجمع عليه لا ريب فيه وهو يقتضي كون الشاذّ ممّا فيه ريب ، لأنّ تعليل حكم بعد تخصيصه بشيء بالعلّة المشتركة بينه وبين شيء آخر يوجب قبح التخصيص أو قبح التعليل ، فالخبر المجمع عليه لكونه ممّا لا ريب فيه يدخل في أمر بيّن رشده المأمور باتّباعه ، والخبر الشاذّ لكونه ممّا فيه ريب يدخل في أمر بيّن غيّه المأمور باجتنابه ، وغرضه عليه‌السلام من التقسيم وبيان هذين القسمين مع حكمهما بعد أمره عليه‌السلام بأخذ المجمع عليه وترك الشاذّ الاستدلال بما ينحلّ إلى صغرى وكبرى كلّية بعد ذكر النتيجة ، كما لو قيل : « العالم حادث لأنّه متغيّر ، وكلّ متغيّر حادث » فقوله عليه‌السلام : « يؤخذ المجمع عليه ويترك الشاذّ » نتيجتان استدلّ على اولاهما بقوله : أمر بيّن رشده فيتّبع ، فكأنّه قال : لأنّه أمر بيّن رشده ، وكلّ أمر بيّن رشده يجب اتّباعه.

وعلى اخراهما بقوله : أمر بيّن غيّه فيجتنب ، فكأنّه قال : لأنّه أمر بيّن غيّه وكلّ أمر بيّن عينه يجب اجتنابه.

وأمّا ثانيا : فلأنّ الخبر الشاذّ إذا كان من المشتبه لزم كون المجمع عليه أيضا من المشتبه ، لأنّ الاشتباه أمر نسبي يقتضي منتسبين ، وهما في التعارض كـ « لا المتعارضين ». فيلزم كون الترجيح والأخذ بالمرجّحات الواردة في المقبولة مستحبّا واجبا كما تنبّه عليه بعض الأعلام (٢) ، ولا يرضى به المستدلّ وبيان الملازمة : أنّ الشبهة حينئذ وجوبيّة لدوران الأمر بين التعيين والتخيير ، والاحتياط يقتضي تعيين المجمع عليه ، وبناء الأخبارييّن في الشبهات الوجوبيّة كما تقدّم على استحباب الاحتياط لا وجوبه ، فوجوب الترجيح المتّفق

__________________

(١) القوانين ٢ : ٢١.

(٢) القوانين ٢ : ٢٣.

٧٩

عليه المتسالم فيه بينهم وبين المجتهدين يقضي بأن لا شبهة مع وجود المرجّح في أحد المتعارضين وعدمه في المتعارض الآخر ، فيكون الأوّل من الأمر البيّن رشده الّذي يجب اتّباعه والثاني من الأمر البيّن غيّه الّذي يجب اجتنابه.

الثاني : منع دلالة قوله عليه‌السلام : « يردّ علمه إلى الله » على وجوب الاحتياط في الأمر المشكل حسبما يدّعيه المستدلّ.

أمّا أوّلا : فلأنّ تفكيك الإمام عليه‌السلام بين الأمر البيّن غيّه والأمر المشكل بالأمر بالاجتناب في الأوّل والردّ إلى الله في الثاني ، يدلّ على أن ليس مبنى الأمر المشكل على وجوب الاجتناب في العمل وإلاّ لم يتغيّر الاسلوب ، بل على وجوب الوقف في الحكم إفتاء وقضاء.

وأمّا ثانيا : فلأنّ قوله : « يردّ علمه إلى الله » معناه : إحالة العلم بحكم الواقعة عند الجهل به إلى الله تعالى ، على حدّ ما هو متعارف بين المتورّعين عند مسألتهم عمّا لا يعلمونه من قولهم في الجواب : الله يعلم ، فأقصى ما يفيده حينئذ إنّما هو وجوب الاجتناب عن الإفتاء لا غير.

ونجيب عن التقرير الثاني أوّلا : بالنقض بالشبهة الموضوعيّة الّتي يبنى فيها الخصم على البراءة ، مع ما ورد فيها من عموم « القرعة لكلّ أمر مشكل (١) ». فكما أنّه يدفع الإشكال عنها بالأصل وبقوله عليه‌السلام : « كلّ شيء فيه حلال وحرام فهو لك حلال حتّى تعرف الحرام بعينه (٢) » فكذلك نحن ندفع الاشتباه عن الشبهة الحكميّة التحريميّة بالأصل ، وبنحو قوله عليه‌السلام : « كلّ شيء مطلق حتّى يرد فيه نهي (٣) ».

وإن قال : إنّ الشبهة ظاهرة في اشتباه حكم الواقعة بالخصوص وهو لا يرتفع بالأصل.

قلنا : بمثله في الشبهة الموضوعيّة ، فإنّ الإشكال ظاهر في الإشكال في حكم الواقعة بالخصوص وهو لا يندفع بالأصل.

وإن قال : إنّ الشبهات الموضوعيّة خرجت عن عمومات القرعة بالدليل وهو الرواية المشار إليها ونحوها.

قلنا : بمثله فيما نحن فيه ، فإنّ الشبهات الحكميّة خرجت عن عموم من « أخذ بالشبهات ارتكب المحرّمات » بالدليل وهو الخبر المشار إليه ونحوه.

__________________

(١) لم نعثر على رواية بهذا اللفظ ، بل وردت بألفاظ مختلفة فانظر الوسائل ١٧ : ٥٩٢ الباب ٤ من أبواب ميراث الغرقى ، والوسائل ١٨ : ١٨٧ الباب ١٢ من أبواب كيفيّة الحكم ، وغيرها.

(٢) الوسائل ١٢ : ٥٩ الباب ٤ من أبواب ما يكتسب به ، الحديث الأوّل.

(٣) الفقيه ١ : ٣١٧ ، ح ٩٣٧.

٨٠