تعليقة على معالم الاصول - ج ٦

السيّد علي الموسوي القزويني

تعليقة على معالم الاصول - ج ٦

المؤلف:

السيّد علي الموسوي القزويني


المحقق: السيد علي العلوي القزويني
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
المطبعة: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ١
ISBN: 964-470-559-9
الصفحات: ٤٨٦

وفيه ـ بعد تسليم صحّة الفرض ـ : أنّ الأمر بالاحتياط أيضا إرشاديّ سواء كان من العقل أو الشرع ، ومن حكم الأمر الإرشادي ـ على ما ذكرناه مرارا ـ عدم تأثيره في أزيد ممّا يترتّب على الفعل والترك مع قطع النظر عنه من ثواب أو عقاب ، فالترك ما لم يصادف مخالفة الواقع لا عقاب عليه وإن كان مخالفة للأمر بالاحتياط.

نعم لو التزمنا بالعقاب عليه من حيث تضمّنه مخالفة قوله : « لا تنقض اليقين بالشكّ » (١) المفيد لتحريم نقض اليقين بالشكّ لو استندنا في وجوب الإتيان بالمحتملات إلى استصحاب شغل الذمّة فليس بذلك البعيد. ولكنّه أيضا لا يتمّ لإمكان دعوى كون النهي المذكور أيضا إرشاديّا لا حقيقيّا مفيدا للتحريم الشرعي الّذي يعاقب على مخالفته. ومع فرض التسليم يتطرّق المنع إلى صحّة استصحاب شغل الذمّة ووفائه بإثبات وجوب الإتيان بالمحتملات ، لأنّ الاستصحاب إنّما يؤثّر في ثبوت آثار المستصحب وأحكامه الّتي هي من لوازمه الشرعيّة الدائمة اللزوم له ، لا في ثبوت ما هو من مقارناته الاتفاقيّة الّتي تترتّب عليها أحيانا ، ووجوب الإتيان بما زاد على المأمور به الواقعي ليس من الآثار اللازمة لاشتغال الذمّة ، بل من مقارناته الاتفاقيّة الّتي يتحقّق معه في صورة الاشتباه خاصّة.

وثانيها : أنّه قد يتوهّم أنّ الاشتباه إن كان ناشئا عن الجهل بشرط من شروط العبادة كالقبلة فلا بدّ من القول بسقوط اعتبار هذا الشرط والتزام إهماله ، لأنّ مراعاته المقتضية للجمع بين المحتملات يوجب العجز عن إحراز شرط آخر وهو مقارنة العمل لقصد وجهه من وجوب أو ندب على وجه يعلم بذلك الوجه ، فإنّه مع الاشتباه واعتبار الشرط المجهول غير ممكن ، فدار الأمر بين إهمال أحدهما وإسقاط اعتباره ، والشرط المجهول أولى بذلك ، ويلزم منه كون المأمور به في صورة اشتباه القبلة هو الصلاة لا الصلاة إلى القبلة فيكفي صلاة واحدة. وربّما نسب الاستناد إلى هذا الوجه إلى ظاهر الحلّي وفيه مغالطة واضحة.

فأوّل ما يرد عليه : منع اعتبار قصد الوجه والعلم به في صحّة العبادة رأسا.

وثانيه : أنّ مقارنة المأمور به الواقعي لقصد الوجه يحرز على نحو ما يحرز به مقارنته لقصد القربة بلا فرق بينهما ، فالعجز عن إحرازه مع مراعاة الشرط المجهول محلّ منع. وطريق إحرازهما هو أن ينوي حين الأخذ بالجمع بين المحتملات الإتيان بها للتوصّل إلى

__________________

(١) الوسائل ٥ : ٣٢١ الباب ١٠ من أبواب الخلل الواقع في الصلاة ح ٣.

١٦١

أداء المأمور به بداعي الإطاعة والقربة لوجوبه. وهذا كاف في إحراز صحّة العبادة ، ولا حاجة إلى إحراز الوجه في كلّ إتيان كما لا حاجة إلى إحراز القربة في كلّ إتيان.

وثالثه : منع سلامة الوجه في صورة جهالة الشرط عن جهالة لاشتباه محلّه ، فهما معا مجهولان ، فالشرط المجهول ليس أولى بالإهمال.

ورابعه : أنّ المتعيّن في الصورة المذكورة إنّما هو إهمال قصد الوجه ، لأنّه ـ على ما ظهر من دليله إن تمّ ـ شرط عند التمكّن من إحرازه. ومع انتفاء التمكّن ـ كما فيما نحن فيه بعد التسليم ـ يسقط اعتباره ، حتّى أنّ القائلين بشرطيّته لا يأبونه.

ولعلّ السرّ فيه أنّ الشرط المجهول من قيود العمل ، وقصد الوجه كقصد القربة من شروط الامتثال لا من قيود المأمور به ، فيكون الثاني أولى بالإهمال في مقام الدوران.

وقد يوجّه أيضا : بأنّ قصد وجه العمل على وجه الجزم إنّما لوحظ اعتباره في الفعل المستجمع للشرائط ، وليس اشتراطه في مرتبة سائر الشرائط بل متأخّر عنه ، فإذا قيّد اعتباره بحال التمكّن سقط حال العجز ، أعني العجز عن إتيان الفعل الجامع للشرائط مجزوما به وبوجوبه ، ولعلّه راجع إلى ما بيّنّاه.

وثالثها : أنّه قد ظهر من تضاعيف المسألة أنّ جميع المحتملات في شبهة المكلّف به إنّما يؤتى به مقدّمة لإحراز الواقع ،على معنى العلم بأداء المأمور به الواقعي المردّد بينها ، وإذا كان المأمور به من قبيل العبادات الّتي يعتبر في صحّتها النيّة فطريق إحرازها أن يقصد الإتيان بها لإحراز الإتيان بالمأمور به امتثالا للأمر به ، بأن يكون داعيه إلى الإتيان بالمحتملات إحراز الإتيان بالمأمور به وإلى إتيانه امتثال الأمر به الّذي يعبّر عنه بالقربة ، ويلزم منه أنّه يجب عليه عند الإتيان بكلّ منها أن يعزم على الإتيان بالباقي ليتحقّق به العزم على الإتيان بالمأمور به. فلو أتى بكلّ واحد من دون العزم المذكور لم يقع صحيحا وإن صادف المأمور به ، لأنّه أتى بالمأمور به من دون العزم على الإتيان به.

فمن فروع المسألة أنّه إن أتى بجميع المحتملات ولكنّه لم يعزم في شيء منها على الإتيان بما بعده لم يصحّ شيء منها ، وإن أتى بواحد منها مع العزم على الإتيان بما بعده ثمّ بدا له أن لا يأتي به ثمّ انكشف مصادفة ذلك الواحد المأتيّ به للواقع أجزأه ، وإن أتى به مع العزم المذكور ثمّ انكشف المصادفة أجزأه ولم يجب حينئذ الإتيان بالباقي ، وإن أتى بواحد لا مع العزم على الإتيان بالباقي لم يكن مجزئا وإن صادف الواقع ، لأنّه أتى به من دون

١٦٢

مقارنة الإتيان به للعزم عليه ، لوضوح أنّ القصد إلى فعل ما يحتمل عدم كونه هو المأمور به لا يحقّق العزم على الإتيان بالمأمور به. والنيّة المعتبرة في العبادة يعتبر فيها مقارنة العمل للعزم عليه ، ومعناه الجزم بإيقاع الفعل بالعنوان الّذي اخذ في الأمر ، ومرجع انتفاء العزم بهذا المعنى إلى انتفاء داعي القربة وامتثال الأمر ، ضرورة امتناع تحقّق قصد امتثال الأمر فيما يشكّ كونه مأمورا به مع القطع بالأمر.

فإن قلت : لو أتى بواحد بداعي امتثال الأمر على تقدير كونه مأمورا به وجب القطع بصحّته إذا انكشف المصادفة وإن لم يقارنه العزم على الإتيان بالباقي ، كما في العبادة المأتيّ بها بعنوان الاحتياط والإتيان بما يحتمل ورود الأمر به إيجابا أو ندبا ، حيث إنّه يؤتى به بداعي امتثال الأمر على تقدير ثبوته في الواقع ، ولا إشكال لأحد في صحّته إذا انكشف ثبوت الأمر في الواقع.

قلت : تقدير كون الفعل المأتيّ به مأمورا به فيما قطع أصل الأمر مع احتمال كون المأمور به غيره ممّا يقابله لا يحقّق كونه مأمورا به ، فلا يتحقّق به الجزم المعتبر في نيّة العبادة مع الاحتمال المذكور. ولا يقاس ذلك على موارد الاحتياط ولا موارد احتمال الأمر ، إذ ليس للمأمور به بالأمر الاحتمالي تقديرين ، بأن يتردّد بين شيئين ، فالتقدير ثمّة في الأمر لا في الفعل ، وهو لا ينافي الجزم بالفعل بالعنوان الّذي اخذ في الأمر على تقدير ثبوته ، وفي ما نحن فيه في الفعل لا في الأمر لمكان القطع بثبوته ، وهو ينافي الجزم فينافي داعي القربة.

رابعها : لو كان الواجب المشتبه أمرين مترتّبين شرعا ، بأن اعتبر الشارع الإتيان بلاحقهما بعد الإتيان بسابقهما بحيث لو عكس لم يكن ممتثلا ، كالظهر والعصر المردّدين بين القصر والإتمام ، أو بين الجهات الأربع ، أو بين الثوبين المشتبيهين ، فهل يعتبر في جواز الشروع في محتملات اللاحق الفراغ اليقيني عن الأوّل بإتيان جميع محتملاته أو لا ، بل يكفي الترتيب بين كلّ واحد من محتملات اللاحق ومثله من محتملات الأوّل ، فيجوز الإتيان بالعصر قصرا بعد الإتيان بالظهر قصرا ، ثمّ الإتيان بالعصر تماما بعد الإتيان بالظهر تماما ، والإتيان بالعصر إلى جهة بعد الإتيان بالظهر إلى تلك الجهة وهكذا إلى آخر الجهات ، أو يفصّل في ذلك بين الوقت المختصّ بالظهر فلا يجوز الشروع في محتملات العصر إلاّ بعد الفراغ عن جميع محتملات الظهر ، والوقت المشترك فيكفي فيه ترتّب كلّ واحد من محتملات العصر على مثله من محتملات الظهر؟ احتمالات ، اختلف فيه الفقهاء على قولين

١٦٣

على حسب الاحتمالين الأوّلين.

أوّلهما : لجماعة كالموجز (١) وشرحه (٢) والمسالك (٣) والروض (٤) والمقاصد العليّة (٥).

وثانيهما : لآخرين كنهاية الإحكام (٦) والمدارك (٧) وحاشية الروضة للمحقّق الخوانساري (٨).

والأقوى في بادئ النظر هو الأوّل ، لنفس أدلّة الترتيب بينهما ، فإنّ معناه أنّه لا يسوغ الشروع في اللاحق إلاّ بعد الفراغ عن إحراز السابق المأمور به الواقعي ، وهو بمجرّد الإتيان بأحد محتملاته غير محرز ، مضافا إلى أنّه ما لم يقطع بفراغ الذمّة عن السابق لا يمكن الجزم ولا إحراز القربة عند الشروع في في اللاحق ، لعدم العلم بمشروعيّة هذا الشروع.

وفي الوجهين نظر.

أمّا الأوّل : فلأنّ الترتيب المستفاد من أدلّته هو أن يتعقّب العصر الواقعي المأمور به للظهر الواقعي المأمور به ، وهو بهذا المعنى حاصل لا محالة على تقدير تعقّب كلّ واحد من محتملات العصر لمثله من محتملات الظهر ، لأنّه لو كان المحتمل الأوّل المأتيّ به من محتملات الظهر هو الظهر الواقعي المأمور به فقد يعقّبه العصر الواقعي ، وهكذا يقال في الثاني والثالث من محتملاتهما. وحينئذ فالعصر المأتّي بها قصرا عقيب الإتيان بالظهر قصرا إن كانت هي العصر الواقعيّة المأمور بها فقد وقعت مترتّبة على الظهر الواقعي ، وإلاّ فلا يقدح تقدّمها على الظهر الواقعي. ولا ينافي الترتيب المعتبر بينهما شرعا ، لأنّه معتبر بين واجبين واقعيّين لا بين واجب واقعي وما ليس بواجب في الواقع.

ولو اريد من إحراز السابق المأمور به في عبارة الدليل العلم بفراغ الذمّة عن الظهر الواقعي ، فهو وإن كان لا يحصل بمجرّد الإتيان بأحد محتملاته ، إلاّ أنّه ليس من الترتيب المعتبر بينهما في شيء ، ولم يدلّ على اعتباره دليل آخر.

وأمّا الثاني : فلأنّ الجزم والقربة المعتبرين فيما نحن فيه ـ على ما تقدّم بيانه ـ هو أن يكون المكلّف عند الشروع في الإتيان بالمحتملات جازما للإتيان بالمأمور به الواقعي المشتبه بينها بداعي امتثال الأمر به ، وهذا متحقّق فيما لو أتى بكلّ واحد من محتملات العصر عقيب مثله من محتملات الظهر ، لأنّه في الإتيان بمجموع محتملات العصر جازم

__________________

(١) الموجز الحاوي ( الرسائل العشر ) : ٦٦. (٢) كشف الالتباس ( مخطوط ) : ١٣٤.

(٣) المسالك ١ : ١٥٨. (٤) روض الجنان : ١٩٤.

(٥) المقاصد العليّة : ١١٧.

(٦) نهاية الإحكام ١ : ٢٨٢.

(٧) المدارك ٢ : ٣٥٩.

(٨) حاشية الروضة البهيّة : ١٨٠.

١٦٤

للإتيان بالعصر الواقعي ، وداعيه إلى هذا الإتيان ليس إلاّ امتثال الأمر به.

وتحقيق المقام : أنّ حكم هذه المسألة لا بدّ وأن يستكشف عن دليل وجوب الإتيان بجميع محتملات الواجب عند الاشتباه بغيره ، وهو أحد الأمرين من قاعدة دفع الضرر المحتمل وقاعدة الاشتغال.

وضابطه : أنّ الإتيان بمحتملات العصر على الوجه الثاني لو كان موجبا لاحتمال الضرر زائدا على الضرر المحتمل على تقدير عدم الإتيان ببعض محتملاتها ، أو موجبا للشكّ في البراءة زائدا على الشكّ فيها على تقدير عدم الإتيان بجميع محتملاتها ، فالمتّجه هو القول الأوّل بنفس دليل وجوب الإتيان بجميع المحتملات ، وإلاّ اتّجه القول الثاني للأصل وعدم الدليل على وجوب الشروع في محتملات العصر بعد الفراغ عن جميع محتملات الظهر؟ والأظهر هو الثاني إذ لا موجب لاحتمال الضرر الزائد ولا الشكّ الزائد في البراءة إلاّ احتمال الإخلال في الترتيب المعتبر بينهما ، والمفروض على ما عرفت أنّ الإتيان بمحتملات العصر على الوجه المذكور لا ينافي الترتيب الواقعي بل يحقّقه ، فالأقوى في ثاني النظر حينئذ هو القول الثاني.

وأمّا احتمال الفرق بين وقت الاختصاص وغيره ففيه : أنّ اختصاص الوقت بالظهر لا يقتضي المنع عن الشروع ببعض محتملات العصر ما لم يحصل الفراغ عن جميع محتملات الظهر ، لأنّ معنى الاختصاص أنّه يختصّ من أوّل الوقت مقدار أداء الظهر الواقعي بشرائطها المختلف بحسب حال المكلّف بها سواء وقعت فيه أو لا ، وإذا انقضى هذا المقدار دخل الوقت المشترك. وحينئذ فإذا أتى فيما نحن فيه بأحد محتملات الظهر في أوّل الوقت فقد خرج وقت الاختصاص ودخل الوقت المشترك ، سواء كان ما وقع فيه هو الظهر الواقعي أو لا ، فلا مانع من الشروع في العصر بعده ، لوقوعه على كلّ تقدير في الوقت المشترك.

وبذلك يندفع ما يظهر من بعض مشايخنا من الميل إلى المنع من الشروع في بعض محتملات العصر بعد الإتيان بأحد محتملات الظهر في الوقت المختصّ ، حيث إنّه بعد ترجيح القول الثاني قال : « هذا كلّه مع تنجّز الأمر بالظهر والعصر دفعة واحدة في الوقت المشترك ، أمّا إذا تحقّق الأمر بالظهر فقط في الوقت المختصّ ففعل بعض محتملاته ، فيمكن أن يقال : بعدم الجواز ، نظرا إلى الشكّ في تحقّق الأمر بالعصر فكيف يقدّم على محتملاتها الّتي

١٦٥

لا تجب إلاّ مقدّمة لها ، بل الأصل عدم الأمر فلا يشرع الدخول في مقدّمات الفعل » انتهى (١).

فإنّ تنجّز الأمر بالعصر بعد دخول الوقت المشترك ممّا لا ينبغي الاسترابة فيه. والله الهادي إلى سبيل الرشاد.

وخامسها : أنّه إذا سقط من محتملات الواجب ما هو بمقدار الواجب على معنى سقوط وجوب الإتيان به ، فهل يجب الإتيان بالباقي أو لا؟

فنقول : إنّ سقوط البعض قد يكون عقليّا كما لو تعذّر أحد المحتملات لضيق وقت أو مانع خارجي فحكم العقل بسقوط وجوبه ، وقد يكون شرعيّا بمعنى أنّ الشارع أسقط وجوبه ، وعلى التقديرين فالساقط قد يكون واحدا معيّنا ، وقد يكون واحدا لا بعينه على وجه رجع مفاده إلى التخيير في ترك أحد المحتملات ، فالصور أربع :

أمّا الصورة الاولى : وهي ما لو سقط واحد معيّن بسقوط عقلي لتعذّره ، كما لو أمر المولى بإطعام زيد فاشتبه زيد بين أربعة لم يتمكّن من إطعام واحد معيّن منهم ، فما يتراءى في بادئ النظر بحكم الأصل الأوّلي هو الحكم بعدم وجوب الباقي ، لارتفاع العلم الإجمالي المتعلّق بالواقع بالنسبة إلى الباقي بسبب سقوط مقدار الواجب الواقعي ، فيدور الواجب الواقعي بين المقدور وغير المقدور ، فلا يدرى أنّ الواجب الواقعي هو الباقي المقدور ليجب الإتيان به ، أو غيره فلا يجب الإتيان بالمقدور ، فيؤول الشكّ إلى أنّ المقدور واجب أو لا؟فيكون في أصل التكليف ، وقد مرّ أنّ الشكّ إذا كان في التكليف فالأصل البراءة.

وأمّا الصورة الثانية : وهي ما لو سقط واحد غير معيّن عقلا لتعذّره ، فما يتراءى أيضا في بادئ النظر هو عدم الوجوب ، لعين ما ذكرناه من أول الشكّ بالنسبة إلى الباقي إلى التكليف ، إذ لا يعلم أنّ الساقط بعد الاختيار هل الواجب الواقعي أو غيره ، فارتفع العلم الإجمالي بالنسبة إلى الباقي.

لكن يشكل الحال بالنظر إلى ظاهر كلام الفقهاء في مسألة اشتباه القبلة لمن فرضه الصلاة إلى الجهات الأربع إذا لم يتّسع الوقت لضيقه الأربع ، فحكموا بوجوب الإتيان بما يحتمله الوقت ، ولو لم يتّسع إلاّ من جهة واحدة تخيّر في الإتيان بها إلى أيّ جهة شاء.

والمحقّق في المعتبر عمّم الحكم بالنسبة إلى سائر الأعذار العقليّة بقوله : « وكذا لو منعت ضرورة من عدوّ أو سبع أو مرض » (٢) ويظهر من غيره الموافقة له في هذا التعميم

__________________

(١) فرائد الاصول ٢ : ٣١٤.

(٢) المعتبر : ١٤٥.

١٦٦

على وجه ظاهرهم كونه محلّ وفاق ، فلا بدّ أن يكون هناك قاعدة أو أصل آخر وارد على الأصل المذكور دعاهم إلى الحكم المذكور ، الّذي مرجعه إلى وجوب الإتيان بالباقي بعد سقوط أحد المحتملات لعذر عقلي.

ولعلّ مستندهم في ذلك استصحاب الأمر ، فإنّه بسقوط البعض يشكّ في سقوط الأمر والأصل بقاؤه. ويشكل : بأنّ الاستصحاب المذكور لو تمّ لاختصّ بما لو كان العذر والسقوط طارئا على التكليف والاشتغال بعد تنجّزه واستدعائه وجوب المحتملات مقدّمة ، وأمّا لو كان ابتدائيّا حصل من بدو الأمر وحين الابتلاء بالواقعة المشتبهة المردّدة بين المعذور والمقدور فلا استصحاب لانتفاء الحالة السابقة المتيقّنة.

مع أنّ هذا الاستصحاب من أصله فاسد فيما كان له حالة سابقة ، إذ لو اريد بالأمر المستصحب الأمر المقدّمي بالنسبة إلى الباقي فهو فرع على الأمر الأصلي المتعلّق بالواجب الواقعي بقاء وارتفاعا ، فما لم يحرز بقاؤه لم يعقل بقاء الأمر المقدّمي ، ومع إحرازه لم يحتج في إبقاء الأمر المقدّمي إلى الاستصحاب.

ولو اريد به الأمر الأصلي لم يصحّ استصحابه ، لعدم كون بقاء موضوعه وهو الواجب الواقعي محرزا ، لتردّد الساقط بالعذر بين كونه الواجب الواقعي أو غيره من محتملاته ، ولا يمكن ابقاء الموضوع هنا بالاستصحاب لبطلان الأصل المثبت ، لأنّ أصالة عدم كون الساقط هو الواجب الواقعي لا يقتضي كون الواجب الواقعي هو الباقي أو في جملته ، إلاّ أن يؤول استصحاب الأمر بأصالة عدم سقوط الواجب الواقعي عن الذمّة ، وهذا كاف في التزام وجوب الإتيان بالباقي من دون الحاجة إلى الحكم بكون الواجب الواقعي هو الباقي أو في جملته.

ويحتمل أن يكون مستندهم في الحكم المذكور هو أنّ الإتيان بمحتملات الواجب حيثما وجب إنّما يجب لوجوب الموافقة القطعيّة ، وهو يتضمّن أمرين : الأمر الأصلي بالواجب الواقعي ، والأمر المقدّمي بكلّ واحد من محتملاته ، فإذا سقط اعتبار الموافقة القطعيّة بطروّ العذر المقتضي لسقوط بعض المحتملات ، فالأمر يدور بين كون الساقط هو الأمر المقدّمي بذلك البعض فقط أو الأمر الأصلي بالواجب الواقعي الموجب سقوطه لسقوط الأمر المقدّمي عن جميع المحتملات ، والأوّل أهون في بناء العقلاء.

ومضافا إلى أنّ الأمر فيما كان اشتباهه لاشتباه شرط من شروطه كالقبلة والثوب

١٦٧

الطاهر يدور بين سقوط اعتبار الشرط أو سقوط التكليف بالمشروط ، والأوّل أهون في بناء العقلاء أيضا ، فيبقى المشروط واجبا بلا اشتراطه بالاستقبال والثوب الطاهر.

ويشكل هذا الطريق أيضا : بأنّ بقاء الأمر الأصلي في الواجب الواقعي على تقدير كونه البعض المعيّن الّذي طرأ عليه العذر غير معقول لأنّه ينافي سقوطه ، وكذلك تجويز ترك أحد المحتملات على تقدير تعذّره لا على التعيين غير معقول ، لرجوعه بالنسبة إلى الواجب المعيّن الواقعي إلى التخيير بين فعل الواجب وتركه ، والتزام سقوط الشرط لكونه أهون لا يلائم إيجابهم في مسألة اشتباه القبلة الإتيان بما يحتمله الوقت ، لأنّ مقتضاه الاقتصار على واحدة لا وجوب الإتيان بأزيد ، ولا إيجابهم الإعادة مطلقا أو في الوقت مطلقا أو في الجملة ، على الخلاف والأقوال المحرّرة في محلّه فيما لو انكشف بعد الفراغ وقوعها إلى غير القبلة.

وبالجملة دليل وجوب الإتيان بالمحتملات إذا كان قاعدة الاشتغال المتضمّنة لإعمال قاعدة المقدّميّة لا يجري إلاّ مع اليقين بالتكليف والشكّ في المكلّف به ، واليقين بالتكليف مع احتمال كون البعض الساقط بالعذر العقلي هو الواجب منتف ، ومعه لا مقتضي لوجوب الإتيان بالباقي.

نعم يمكن إثبات ذلك بالنظر إلى قاعدة دفع الضرر المحتمل ، بتقريب : أنّ العقل بالنظر إلى احتمال كون الواقع في جملة الباقي ، أو احتمال أنّ الشارع جعل غير الواقع بدلا عن الواقع على تقدير مصادفة البعض الساقط للواجب الواقعي ، يجوّز العقاب على ترك الباقي لتضمّنه مخالفة الواقع أو بدله ، فيجب دفعه بالإتيان بالباقي.

ويشكل : بأنّ الأصل رافع لاحتمال العقاب ما لم يعلم وجود الواقع في جملة الباقي ولم يقم دليل على البدل كما فيما نحن فيه.

ويمكن أن يقال : إنّ بناء العقلاء في نظائر المسألة من العرفيّات على الالتزام بالباقي بعد تعذّر بعض المحتملات ، ويكشف ذلك عن طريقة الشارع في الشرعيّات ، فإن تمّ ذلك وإلاّ وجب التمسّك بالإجماع حيثما كان قائما على وجوب الإتيان بالباقي تماما.

وأمّا الصورة الثالثة والرابعة : وهو ما لو قال الشارع : « أسقطت عنك هذا ، أو أحد هذه » فالوجه فيه وجوب الإتيان بالباقي ، فإنّ تخصيص البعض بالإسقاط دون الجميع يدلّ بالالتزام العرفي على مطلوبيّة الباقي ولو من باب جعل البدل ، وهذا ممّا لم نقف له على

١٦٨

مثال في الشرعيّات.

وربّما استدلّ على وجوب الاتيان بالباقي مطلقا على حسب ما ساعد عليه الوقت أو المكنة بعموم « الميسور لا يسقط بالمعسور (١) » و « ما لا يدرك كلّه لا يترك كلّه (٢) » و « إذا أمرتكم بشيء فأتوا منه ما استطعتم (٣) ».

وفيه نظر خصوصا بالقياس إلى الأخيرة ، ودونه بالقياس إلى الثانية ، لظهورهما في غير ما نحن فيه.

هذا كلّه فيما لو دار الواجب المشتبه بغير الحرام بين المتبائنين ، وقد يكون دائرا بين الأقلّ والأكثر مع كون الشبهة موضوعيّة ، وهذا على قسمين باعتبار كون الأقلّ والأكثر استقلاليّين أو ارتباطيّين ، والأوّل مثل الفائتة المردّدة بين الأربع والخمس ، والدين المشتبه بين أربعة دنانير أو خمسة ، وصوم شهر رجب المأمور به المشتبه بين تسعة وعشرين يوما أو ثلاثين يوما ، مع كون كلّ يوم مأمورا به بالاستقلال لاشتباه هلال هذا الشهر.

والثاني مثل هذا المثال مع فرض كون مجموع الشهر من حيث المجموع مأمورا به ، ومنه نذر صوم شهر رجب والتزامه بعقد الإجارة ، فهل المرجع فيهما أصل البراءة ، أو أصل الاشتغال؟

والحقّ التفصيل ، ففي الاستقلاليّين لا مرجع إلاّ أصل البراءة ، لرجوع العلم الإجمالي المفروض فيه بالنسبة إلى المكلّف به بعد العلم بأصل التكليف إلى العلم التفصيلي بالتكليف في الأقلّ والشكّ في الزائد ، والأصل يقتضي عدم الوجوب ، ولا يعقل فيه جريان أصل الاشتغال ، لحصول يقين البراءة بالنسبة إلى الأقلّ وعدم العلم بالتكليف في الزائد.

وفي الارتباطييّن لا مرجع إلاّ أصل الاشتغال ، للشكّ في البراءة على تقدير الاقتصار على الأقلّ ، لأنّه على تقدير وجوب الأكثر لا يفيد براءة لا بالنسبة إلى الأكثر ولا بالنسبة إلى نفسه ، وهذا واضح.

الصورة الثانية : ما لو كان اشتباه الواجب بغير الحرام لشبهة حكميّة من جهة فقد النصّ كاشتباه الواجب في يوم الجمعة ، بين الظهر والجمعة وفي بعض المواضع بين القصر والاتمام ، والكلام فيه تارة في جواز المخالفة القطعيّة وعدمه واخرى في وجوب الموافقة القطعيّة وعدمه ، والباعث على البحث في هاتين الجهتين ملاحظة العلم التفصيلي ، فإنّه إذا حصل بالحكم الواقعي وبموضوعه لزمه أمران حرمة مخالفته القطعيّة ووجوب الموافقة

__________________

(١) عوالي اللئالي ٤ : ٥٨ مع اختلاف يسير.

(٢) نفس المصدر.

(٣) نفس المصدر.

١٦٩

القطعيّة ، وهل العلم الإجمالي بمتعلّق الحكم الواقعي بعد العلم التفصيلي به ـ كما فيما نحن فيه ـ يشارك العلم التفصيلي في الحكم الأوّل أو لا؟ وعلى الأوّل فهل يشاركه في الحكم الثاني أو لا؟ فنقول :

أمّا الجهة الاولى : فالأقوى فيه هو حرمة المخالفة القطعيّة بل هو المعروف بين الأصحاب ، ويظهر من المحقّق الخوانساري (١) وبعض الأعلام (٢) جوازها ، لمصيرهما في نحو ما نحن فيه بوجوب أحد الأمرين على التخيير ، مستندين إلى أنّ الّذي ثبت بالإجماع والضرورة هو عدم جواز تركهما معا لا وجوب فعلهما معا ، وهذا يقتضي بأنّه لو لا الاجماع والضرورة على عدم جواز تركهما معا لكان جائزا بمقتضى الأصل.

وكيف كان فلنا على ما قوّيناه هو ما دلّ على عدم جواز المخالفة القطعيّة للعلم التفصيلي بعينه ، وهو أنّه يوجب تنجّز التكليف على معنى صيرورة الحكم الواقعي المعلوم تكليفا إلزاميّا فعليّا شاغلا لذمّة المكلّف على وجه يعاقب على مخالفته ، ومخالفته في الحقيقة مخالفة للتكليف الفعلي المعلوم ، وهو معصية والمعصية قبيحة عقلا وشرعا ، وهذا بعينه جار في العلم الإجمالي ، لأنّه في حكم العقل وبناء العقلاء يجري مجرى العلم التفصيلي في تأثيره في تنجّز التكليف وتوجّه الخطاب إلى المكلّف ، فمخالفته معصية فتكون قبيحة عقلا وشرعا ، ولا نعني من حرمة المخالفة إلاّ هذا.

ومن جوّزها ـ لو لا الإجماع والضرورة على عدم الجواز ـ لا بدّ وأن يرجع دعواه في منع كفاية العلم الإجمالي في تنجّز التكليف ، ولعلّ وجهه أنّ المكلّف به فيما نحن فيه الّذي يلتزم تعلّق التكليف به إمّا أن يكون الواحد المعيّن في الواقع المجهول في نظر المكلّف الّذي هو متعلّق الحكم الواقعي ، أو أحد الأمرين على التخيير ، ولا سبيل إلى شيء منهما. أمّا الأوّل : لعدم ورود الخطاب من الشارع.

وأمّا الثاني : فلعدم كون الحكم الواقعي المفروض للواقعة هو الوجوب التخييري ، لعدم توجّهه إلى الواحد التخييري الغير المعيّن المنتزع عن الطرفين ، بل إنّما توجّه إلى الواحد المعيّن لا غير.

ويزيّفه : اختيار الشقّ الأوّل وعدم العبرة فيه بالخطاب التفصيلي ، بل يكفي فيه العلم بالحكم الواقعي تفصيلا أو إجمالا مع التمكّن من العلم به تفصيلا ، والعلم بموضوعه تفصيلا

__________________

(١) مشارق الشموس : ٢٦٧.

(٢) القوانين ٢ : ٣٧.

١٧٠

أو إجمالا مع التمكّن من امتثاله ، والمفروض حصول العلم الاجمالي بالموضوع بعد العلم التفصيلي بالحكم الواقعي ، وعدم كفايته في توجّه الطلب الفعلي لا بدّ وأن يكون لمانع عقلي أو نقلي ، ولا سبيل إلى شيء منهما.

أمّا الأوّل : فلأنّ الّذي يمكن تخيّله مانعا إمّا توهّم أنّ الجهل بالتفصيل في نظر العقل يجري مجرى الجهل التفصيلي كما في الجاهل ، وكما أنّه عذر يمنع من توجّه الطلب إلى الجاهل فكذلك الجهل بالتفصيل أيضا عذر يمنع من ذلك ، أو توهّم أنّ الجهل بالتفصيل يستلزم العجز من الامتثال وعدم تمكّن العالم بالاجمال منه.

وأيّا ما كان فهو واضح الدفع ، أمّا الأوّل : فلوضوح الفرق بين الجهل التفصيلي والجهل بالتفصيل ، فإنّ الأوّل إنّما ينهض عذرا لقبح المؤاخذة على مخالفة ما لا سبيل اللمكلّف إلى معرفته ولا إلى امتثاله ، والعالم بالاجمال فيما نحن فيه عرف الحكم الواقعي تفصيلا وموضوعه إجمالا ، وهو متمكّن من الامتثال أيضا بالاحتياط ، فالعقل لا يقبح عقابه على المخالفة بل يحسّنه.

وأمّا الثاني : فدفعه أوضح.

وأمّا انتفاء المانع النقلي فلأنّه ليس في الشرع ما يصلح مانعا إلاّ أصل البراءة وهو غير جار فيما نحن فيه ، لعدم جريان مداركه فيه من العقل والنقل من نحو « ما حجب الله علمه عن العباد فهو موضوع عنهم (١) » و « الناس في سعة ما لم يعلموا (٢) » و « رفع عن امّتي ما لا يعلمون (٣) » وما أشبه ذلك.

أمّا العقل : فلما عرفت من أنّه لا يقبح عقاب العالم بالاجمال على مخالفته العلم الإجمالي.

وأمّا الأخبار : فلدخول المقام في مفاهيم هذه الأخبار ، ولذا قيل : انّ العمل بها في كلّ من الموردين بخصوصه يوجب طرحها بالنسبة إلى أحدها المعيّن عند الله المعلوم وجوبه ، فإنّ وجوب واحدة من الظهر والجمعة أو القصر والاتمام ممّا لم يحجب الله علمه عنّا فليس موضوعا عنّا ، ولسنا في سعة منه ، ولا أنّه مرفوع عنّا.

ويستفاد من بعض الأعلام كون المانع عن توجّه الخطاب بالواقع لزوم التكليف بالمجمل المحتمل لأفراد متعدّدة بإرادة فرد معيّن عند الشارع مجهول عند المكلّف ، المستلزم لتأخير البيان عن وقت الحاجة الّذي اتّفق أهل العدل على استحالته.

__________________

(١) الكافي ١ : ١٦٤ ، ح ٣.

(٢) عوالي اللآلئ ١ : ٤٢٤ ، ح ١٠٩.

(٣) التوحيد : ٣٥٣ ، ح ٢٤.

١٧١

وهذا في غاية الضعف لمنع الملازمة ، فإنّ طروّ الاشتباه لعارض اختفاء الأحكام الواقعيّة بواسطة الأسباب الخارجيّة لا ينافي تحقّق البيان في زمان الوحي ، وليس على الشارع مزاحمة الأسباب الخارجيّة بمنعها عن التأثير في الاختفاء ، أو إزالة الاشتباه الحاصل منها ، بل الواجب عليه أن يجعل حكما عامّا يتعبّد به المكلّف حال الاشتباه ، ويجوز الاكتفاء فيه بحكم العقل.

ولو سلّم كون الاشتباه بدويّا حاصلا في زمن الخطاب يتطرّق المنع إلى بطلان اللازم ، فإنّ التكليف بإطلاقه لا قبح فيه بل قد يكون مستحسنا إذا ساعد عليها مصلحة ، وممّا يصلح مصلحة في نظر العقل حمل المخاطب على الامتثال بطريق الاحتياط ليتكامل به استحقاقه الثواب ، والاغراء بالجهل وتأخير البيان عن وقت الحاجة لا قبح فيهما إلاّ في مواضع الجهل العذري ، وهو ما لا يتمكّن المكلّف معه من الاطاعة ، والمفروض في المقام خلافه.

وأمّا الجهة الثانية : فالأقوى فيها وجوب الموافقة القطعيّة المقتضي لوجوب الاحتياط بمراعاة الاتيان بالفعلين ، ويظهر وجهه بالتأمّل في وجه حرمة المخالفة القطعيّة ، إذ قد عرفت أنّ مبناها على تنجّز التكليف وقضيّة التكليف الفعلي الشاغل للذمّة وجوب الاطاعة والموافقة لأنّ التكليف ، إنّما يتوجّه إلى المكلّف لغرض الامتثال والاطاعة والموافقة ، فيجب عليه تحصيل البراءة وتفريغ الذمّة عمّا اشتغلت به من التكليف الإلزامي الشامل لها ، وهذا وإن كان بحسب الامكان قد يتأتّى بأداء الواجب الواقعي وقد يتأتّى بأداء بدله فيما جعل الشارع له بدلا ، بأن يقال : انّه جعل من الفعلين المردّد بينهما الواجب الواقعي ما ليس بواجب في الواقع بدلا عمّا هو واجب في الواقع ، سواء نصّ عليه بدلالة مطابقيّة ، كأن يقول : « إذا ثبت وجوب شيء واشتبه الواجب بين فعلين ، فقد جعلت ما ليس بواجب منهما بدلا عمّا هو الواجب » أو بدلالة التزاميّة كأن يقول : « إذا ثبت الوجوب واشتبه الواجب فالمكلّف مخيّر بين الفعلين » وعلى التقديرين يكفيه الاتيان بأحدهما ، لأنّه إمّا واجب أو مسقط عن الواجب.

وأيّا ما كان فالالتزام به يفتقر إلى دليل ، ومع فقده كما فيما نحن فيه فطريق تفريغ الذمّة ينحصر في أداء نفس الواجب ، وهذا وإن كان بحسب الخارج لا يتوقّف عقلا على الاتيان بالفعلين ، إلاّ أنّ العلم به يتوقّف عليه فيجب تحصيله بالاتيان بهما فيجب مقدّمة ، مضافا إلى أنّه لو اكتفى بأحدهما يحتمل العقاب في ترك الآخر لاحتمال كونه الواجب الواقعي ، وهو

١٧٢

احتمال للضرر فيجب دفعه بالاتيان به أيضا ، ولا يعنى من وجوب الموافقة القطعيّة إلاّ هذا.

وأمّا القول بالتخيير فإن اريد به التخيير الواقعي ، ففيه : أنّه خلاف مفروض الواقعة من كون الحكم الواقعي فيها وجوب أحد الفعلين على التعيين لا على التخيير.

وإن اريد به التخيير الظاهري على معنى أنّ الشارع جعل للعالم بالاجمال الجاهل بالتفصيل لجهله حكما ظاهريّا وهو التخيير بين الفعلين بعد إلغاء الحكم الواقعي ورفع اليد عنه ، كما جعل للجاهل في موارد أصل البراءة لجهله حكما ظاهريّا وهو الإباحة مثلا.

ففيه مع أنّ إلغاء الوجوب الواقعي هنا خلاف بديهة العقل ، أنّ الالتزام بهذا الحكم الظاهري لا بدّ له من دلالة معتبرة وهي منتفية ، فيبقى حكم العقل بوجوب الاحتياط سليما عمّا يوجب الخروج عنه.

وإن اريد به الأمر المنتزع عن الوجوب الواقعي المتعلّق بما هو معيّن عند الله من الفعلين والجعل البدلي بالنسبة إلى غيره.

ففيه : أنّه أيضا يحتاج إلى دلالة معتبرة على البدليّة والمفروض انتفاؤها ، فيرجع إلى حكم العقل بوجوب الاحتياط.

وقد يستدّل على المختار : بقاعدة الاشتراك في التكليف وبيانه : أنّ الحاضرين الموجودين في زمن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله والأئمّة عليهم‌السلام كانوا مكلّفين في تلك الواقعة المشتبهة قطعا فكذلك الغائبون والمعدومون لأدلّة الاشتراك في التكليف ، فوجب عليهم الاحتياط.

وهذا في غاية الضعف ، لأنّه لو اريد بالتكليف المشترك فيه التكليف الأوّلي الواقعي بما هو معيّن في الواقع فالاشتراك فيه مسلّم ، غير أنّه لا يجدي نفعا في المقام ، لجواز كون الجهل المفروض فيه علّة مانعة عن تنجّزه كما في موارد أصل البراءة بالقياس إلى الأحكام الواقعيّة الثابتة على الحاضرين مع شركة الغائبين والمعدومين فيها من دون تنجّزها عليهم لعلّة الجهل ، ومجرّة الاشتراك في الوجوب الواقعي لا ينفي مانعيّة الجهل المذكور.

ولو اريد به الحكم الظاهري وهو وجوب الاحتياط ، على معنى أنّ الحاضرين على تقدير طروّ الاشتباه في المكلّف به لهم كان حكمهم الظاهري المجعول لهم في هذا الفرض هو الاحتياط ، فكذلك الغائبون والمعدومون لأدلّة الاشتراك ، ففيه أوّلا : منع قاعدة الاشتراك في الأحكام الظاهريّة ، إذ القدر المسلّم الثابت من أدلّته هو الاشتراك في الأحكام الواقعيّة.

وثانيا : منع كون الحكم الظاهري في حقّ الحاضرين على تقدير اشتباه المكلّف به في

١٧٣

حقّهم وجوب الاحتياط ، لاحتمال كونه البراءة أو التخيير ، وعلى المستدلّ نفيه وأنّى له بذلك.

فإن قلت : إنّ العقل مستقلّ بوجوب الاحتياط لقاعدتي المقدّمة ودفع الضرر ، فيستكشف به عن كون الحكم الظاهري المجعول للحاضرين هو الاحتياط لا غير.

قلت : إذا سلّمت حكومة العقل في ذلك فهو كاف في ثبوت المطلب ، ولا حاجة معه إلى توسيط مقدّمة الاشتراك في التكليف كما هو واضح.

وقد يستدلّ أيضا باستصحاب الاشتغال ، فإنّه إذا أتى بأحد الفعلين يشكّ في ارتفاع الاشتغال الثابت قبله وبقائه فيستصحب ، ومقتضاه وجوب الإتيان بالآخر. ويخدشه : انتفاء اليقين السابق لو اريد به الاشتغال بالواحد المعيّن في الواقع ، وانتفاء الشكّ اللاحق لو اريد به الاشتغال بأحدهما لا بعينه.

اللهمّ إلاّ أن يقال : إنّ التمسّك بالاستصحاب المذكور إنّما هو بعد الفراغ عن إثبات تنجّز التكليف بسبب العلم الإجمالي ، والمقصود به إثبات وجوب الفعلين مع قبالا لمن يكتفي بأحدهما ، وحينئذ فلا ريب في تحقّق الحالة السابقة المتيقّنة ، وهو الاشتغال بالواحد المعيّن في الواقع.

ويخدشه : حينئذ عدم إنتاجه لوجوب الفعل الآخر ، لأنّ الاستصحاب إنّما يفيد ثبوت الآثار الّتي هي من أحكام المستصحب في حال اليقين ، ولا ريب أنّ مقتضى الاشتغال بالواحد المعيّن حال اليقين به هو وجوب الإتيان بذلك الواحد لا غيره ، ووجوب الإتيان بغيره ليس من أحكامه ، فاستصحابه في زمان الشكّ أيضا يقتضي وجوب الإتيان به ، ولم يظهر مع الاشتباه كون الفعل الآخر الغير المأتيّ به هو ذلك المعيّن لجواز كونه غيره ، وقد عرفت أنّ الاستصحاب لا يقتضي جريان ما ليس من أحكام المستصحب في زمان اليقين ، فالاستصحاب المذكور لا يجدي نفع في وجوب ذلك الفعل ، إلاّ بعد الحكم بكونه الواحد المعيّن الّذي تعلّق به الاشتغال ، ولا بدّ له من وسط آخر ، والاستصحاب غير صالح له لبطلان الأصل المثبت ، هذا.

وليعلم أنّ العلم الإجمالي الّذي هو مناط وجوب الاحتياط قد يكون بين شيئين بينهما قدر مشترك اخذ عنوانا في الخطاب ، على وجه تعلّق به التكليف وكان الاشتباه في الخصوصيّتين كاشتباه الصلاة المكلّف بها بين الظهر والجمعة ، أو القصر والإتمام ، أو الجهر والإخفات ، واشتباه الكفّارة المأمور بها بين الصوم والعتق. وقد يكون بين شيئين بينهما قدر

١٧٤

مشترك ولكنّه لم يؤخذ عنوانا في الخطاب ، كما لو علم الوجوب واشتبه الواجب بين الصلاة على النبيّ وقراءة الدعاء عند رؤية الهلال ، أو بين صوم يوم الخميس وغسل يوم الجمعة ، فإنّ الجامع بينهما جنس الفعل ولكنّه لم يؤخذ عنوانا في الحكم ، والفارق بينهما أنّ الاشتباه في الأوّل كما عرفت بين الخصوصيّتين وفي الثاني بين النوعين.

وقد يكون بين شيئين ليس بينهما قدر مشترك أصلا ، كما لو علم صدور خطاب إلزامي من الشارع واشتبه متعلّقه بين فعل هذا الشيء أو ترك ذاك الشيء ، كغسل يوم الجمعة وصلاة يوم الأضحى ، وكصوم يوم عرفة وصوم يوم العيد ، ومرجعه إلى اشتباه الخطاب الإلزامي المعلوم بالإجمال بين قوله : « افعل هذا » أو قوله : « لا تفعل ذاك ». وطريق الاحتياط في الأوّلين الجمع بين الخصوصيّتين أو النوعين ، ولا إشكال فيهما موضوعا من حيث كونهما معا من جزئيّات المسألة وهو دوران الأمر بعد ثبوت الوجوب بين الواجب وغير الحرام ، وحكما من حيث وجوب الاحتياط بمقتضى العلم الإجمالي.

وطريق الاحتياط في الأخير هو الالتزام بفعل ما يحتمل كونه واجبا وترك ما يحتمل كونه حراما ، وهذا موضع إشكال موضوعا ، لوضوح عدم اندراجه في جزئيّات المسألة ، وعدم ظهور اندراجه في جزئيّات الأبواب الاخر. وإن كان ربّما أمكن إرجاعه إلى الشكّ في التكليف الإلزامي بناء على جعله أعمّ من الشكّ في جنس التكليف كما في موارد أصل البراءة والشكّ في نوعه بعد العلم بجنسه وهو الإلزام المردّد بين كونه إيجابا أو تحريما. ولكنّه لا يخلو عن بعد.

وهل يلحق بجزئيّات المسألة حكما وهو وجوب الاحتياط أو لا؟ وجهان :

من وجود العلم الإجمالي المنجّز للتكليف. وقضيّة ذلك اشتغال الذمّة بالإلزام المعلوم بالإجمال ، وهو يقتضي وجوب الموافقة والخروج عن العهدة ، ولا يتمّ العلم به إلاّ بالاحتياط على الوجه المذكور.

ومن جريان أصل البراءة في كلّ من الفعلين بانفراده ، ففي محتمل الوجوب ينفي وجوبه ، وفي محتمل الحرمة ينفي حرمته ، فيجوز ترك الأوّل وفعل الثاني ، ويبقى الإلزام المعلوم بالإجمال بلا مورد فلا تؤثّر في منع المخالفة.

وربّما أمكن هنا وجه ثالث وهو الجمع بين العلم الإجمالي وأصل البراءة المقتضي لمراعاة المخالفة القطعيّة وطرح الموافقة القطعيّة بالتخيير بين فعل ما احتمل الوجوب أو

١٧٥

ترك ما احتمل الحرمة.

ولكنّ الحاسم لمادّة الإشكال هو استعلام حال العقل ، فإن جوّز العقاب على ترك الاحتياط على الوجه المذكور فلا محيض من التزام وجوبه دفعا للضرر المحتمل ، وإلاّ فالمتّجه جواز الأمرين.

ولا يبعد القول بأنّ بناء العقلاء في نحو الصورة المفروضة على عدم الالتزام بشيء من الفعل والترك حتّى يعلم نوع الخطاب بالتفصيل ، والمسألة بعد في ورطة الإشكال وإن كان الوجه الأخير لا يخلو عن قوّة.

الصورة الثالثة : ما لو اشتبه الواجب بغيره لشبهة حكميّة من جهة إجمال النصّ ، بأن يرد التكليف الوجوبي بأمر مجمل كما في قوله تعالى : ( فَاسْعَوْا إِلى ذِكْرِ اللهِ )(١) لإجمال ذكر الله بين الظهر والجمعة ، وقوله تعالى : ( حافِظُوا عَلَى الصَّلَواتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطى )(٢) لإجمال الوسطى بين الظهر والعصر وغيرهما ، وما لو قيل : « إذا وطئت الحائض فكفّر بمثقال من العين » لإجمال « العين » بين الذهب والفضّة. والظاهر أنّ الخلاف المتقدّم آت هنا أيضا ، والمختار المختار من وجوب الاحتياط بالجمع بين الفعلين ، والدليل الدليل ، والظاهر عدم الفرق فيه بين كون الإجمال أصليّا أو طارئا من اختفاء البيان.

وتوهّم لزوم الإغراء بالجهل وتأخير البيان عن وقت الحاجة.

يدفعه : منع قبحه كما عرفت ، سيّما إذا كانت المصلحة الداعية إليه بعث المكلّف على الامتثال بطريق الاحتياط ليتكامل أجره ويتضاعف قربه ، والمخالف في المسألة بعض الأعلام (٣) وقبله المحقّق الخوانساري (٤) في ظاهر كلماته.

الصورة الرابعة : ما لو كان الاشتباه لتعارض النصّين وتكافؤهما ، كما في بعض مسائل القصر والإتمام ، قيل : المشهور هنا التخيير استنادا إلى أخبار التخيير (٥) في العمل بالخبرين المتعارضين المترجّحة على أخبار الاحتياط ، لكونها أقوى منها سندا ودلالة.

وقيل : بالاحتياط استنادا إلى عدم تناول أخبار التخيير لنحو المقام ، بملاحظة قرائن في تلك الأخبار قاضية بأنّ الإمام عليه‌السلام إنّما حكم بالتخيير من باب الضرورة والإلجاء ، وتحقيق القول في ذلك موكول إلى محلّه فانتظره ، هذا كلّه في دوران الأمر بين المتبائنين.

__________________

(١) الجمعة : ٩.

(٢) البقرة : ٢٣٨.

(٣) القوانين ٢ : ٣٧.

(٤) مشارق الشموس : ٧٧.

(٥) انظر الوسائل ١٨ : ٨٧ ـ ٨٨ الباب ٩ من أبواب صفات القاضي ، ح ٣٩ و ٤٠ و ٤١ و ٤٤.

١٧٦

وأمّا إذا كان دائرا بين الأقلّ والأكثر فهو باعتبار كونهما استقلاليّين أو ارتباطيّين على قسمين : والمراد بالأوّل ما كان التكليف الأصلي والوجوب النفسي بالنسبة إلى الأقلّ معلوما بالتفصيل مع الشكّ فيه بالنسبة إلى الزائد. والمراد بالثاني ما كان التكليف الأصلي والوجوب النفسي مردّدا بين تعلّقه بالأقلّ أو بمجموع الأكثر ، سواء كان الإتيان بالأقلّ مجزئا عن نفسه كمنزوحات البئر أو لا كالصلاة ، ومرجع دوران الأمر بين الارتباطيّين إلى الشكّ في جزئيّة شيء للمكلّف به ، سواء كان جزءا خارجيّا كالاستعاذة قبل البسملة في الصلاة ، أو ذهنيّا كالخصوصيّة المأخوذة في المكلّف به المتولّدة عن شرط له أو قيد له كما في عتق الرقبة المؤمنة ، وقد جرت عادتهم بتسمية ذلك بالشكّ في الشرطيّة وتسمية الشكّ في الجزء الخارجي بالشكّ في الجزئيّة.

وينبغي إسقاط الاستقلاليّين عن البين ، لاتّضاح حكمه ممّا سبق في ذيل مباحث الشبهة الموضوعيّة من الشكّ في المكلّف به من اشتباه الواجب بغير الحرام ، إذ قد عرفت أنّ اشتباه المكلّف بين الأقلّ والأكثر الاستقلاليّين ينحلّ إلى علم تفصيلي بالتكليف بالأقلّ وشكّ في التكليف بالزائد ، والحكم في كلّ منهما معلوم من حيث اقتضاء الأوّل لوجوب تحصيل البراءة بالنسبة إلى الأقلّ ، واقتضاء الثاني للرجوع إلى أصل البراءة بالقياس إلى الزائد.

وأمّا الارتباطيّان فصور البحث فيه باعتبار كون الشبهة فيه قد تكون حكميّة لفقد النصّ أو إجماله أو تعارض النصّين ، وقد تكون موضوعيّة أربع :

الصورة الاولى : ما إذا كانت الشبهة حكميّة لفقد النصّ المعتبر في المسألة ، والكلام فيها باعتبار كون الشبهة قد تكون للشكّ في الجزئيّة ، وقد تكون للشكّ في الشرطيّة يقع في مقامين :

المقام الأوّل : في الشبهة الناشئة عن الشكّ في الجزئيّة ، بأن تكون ناشئة عن الاختلاف بين العلماء في الجزئيّة كما في الاستغاذة قب لـ التسمية في الركعة الاولى ، لذهاب جماعة إلى الجزئيّة واخرى إلى نفيها.

وقد اختلف في وجوب الاحتياط هنا وعدمه على قولين ، إلاّ أنّ المعروف بين الأصحاب عدم وجوبه ، وقيل : إنّه المشهور بين العامّة والخاصّة المتقدّمين منهم والمتأخّرين ، والقول بوجوبه للوحيد البهبهاني في فوائده (١) وقبله المحقّق السبزواري (٢) ـ على ما حكي ـ ولم يعرف عن غيرهما.

__________________

(١) الفوائد الحائريّة : ٤٤١ ـ ٤٤٢.

(٢) ذخيرة المعاد : ٢٧٣.

١٧٧

نعم ربّما شاع في كلمات جمع التمسّك بطريقة الاحتياط ، إلاّ أنّه لم يظهر منهم كونه مذهبا لهم في المسألة الاصوليّة.

وكيف كان فمرجع البحث هنا إلى أنّ المرجع في نحو هذه الصورة هل هو الاحتياط أو البراءة؟ ويتكلّم في ذلك تارة من جهة العقل ، واخرى من جهة النقل.

أمّا الجهة الاولى : فقد يتخيّل أنّ الأصل العقلي من جهة قاعدة الاشتغال يقضي بوجوب الاحتياط ، فإنّ اشتغال الذمّة بالمكلّف به الواقعي المردّد بين الأقلّ والأكثر ثابت والعلم به حاصل يقينا ، وهو يقتضي العلم بالبراءة ، ولا يحصل إلاّ بمراعاة الأكثر والإتيان به الّذي لا يتمّ إلاّ بالإتيان بالجزء المشكوك فيه ، لأنّه القدر المتيقّن ممّا يحصل به الامتثال ، فيجب.

ويزيّفه : أنّ القدر المتيقّن ممّا يحصل به الامتثال إنّما يؤثّر في وجوب الاحتياط حيث لم يكن هناك قدر متيقّن ممّا ثبت فيه الاشتغال كما في المتبائنين ، ووجود القدر المتيقّن ممّا ثبت فيه الاشتغال فيما نحن فيه واضح وهو الأقلّ ، ضرورة اشتغال الذمّة به في الجملة ولو باعتبار كونه بعضا من المأمور به ، وهو ما دام موجودا مانع عن تأثير القدر المتيقّن ممّا يحصل به الامتثال في وجوب الاحتياط ، لرجوع الشكّ معه إلى اشتغال الذمّة بالجزء المشكوك فيه أيضا ، وأصل البراءة ينفيه ، ومرجعه إلى نفي العقاب المحتمل ترتّبه على مخالفة الواقع على تقدير كونه جزءا للمأمور به في الواقع ، ومعه لا مجرى لقاعدة الاشتغال ، لأنّ مقتضاه وجوب تحصيل العلم بالبراءة وهو أعمّ من العلم الشرعي ، وأصل البراءة النافي للعقاب علم شرعي ، لقضائه بجواز الاقتصار في امتثال الأمر على الأقلّ.

فإن قلت : إنّ الأصل العقلي المقتضي لوجوب الاحتياط ربّما أمكن إثباته من جهة قاعدة وجوب دفع الضرر المحتمل بالنظر إلى احتمال العقاب ، فإنّ العقاب على مخالفة الواقع على تقدير الجزئيّة في الواقع من فعله سبحانه ، وهو بالنظر إليه تعالى ممكن بالذات ، ومن حكم الممكن بالذات أن يصحّ صدوره من الفاعل القادر المختار ، وهذا احتمال للعقاب في الاقتصار على الأقلّ ، لجواز مصادفته مخالفة الواقع باعتبار اتّفاق ترك المأمور به الواقعي ، وهو احتمال للضرر الاخروي فيجب دفعه ، ولا يتأتّى إلاّ بمراعاة الأكثر.

قلت : كون الممكن بالذات من حقّه أن يصحّ صدوره من الفاعل المختار على إطلاقه ممنوع ، بل إنّما يكون كذلك ما لم يعرضه سبب الامتناع ، فإنّ الظلم مثلا بالنظر إلى ذاته تعالى ممكن بالذات ولا يصحّ وقوعه منه لما عرضه من سبب الامتناع وهو القبح العقلي ،

١٧٨

ففيما نحن فيه إنّما يصحّ وقوع العقاب على المخالفة منه تعالى إذا لم يكن فيه قبح عقلي ، فلابدّ لمدّعي الأصل العقلي من نفيه ، وأنّى له بذلك ، كيف والعقل مستقلّ بقبح مؤاخذة من امر بمركّب علم عدّة من أجزائه وشكّ في جزئيّة الشيء الفلاني أيضا ، واستفرغ وسعه وبذل جهده في طلب الدليل على جزئيّته فلم يقف عليه ، على وجه أحسّ من نفسه العجز واليأس عن الوقوف عليه ، ثمّ اقتصر في امتثال الأمر بالمركّب المذكور على الإتيان بأجزائه المعلومة وترك المشكوك فيه. ومرجعه إلى أنّ الجهل بجزئيّته مع العجز عن العلم بها عذر عقلي رافع للعقاب على المخالفة على تقديرها ، لقبحه في حكم العقل. ولا يتفاوت الحال في ذلك بين ما لو لم ينصب الآمر دلالة على الجزئيّة أصلا وبين ما لو نصبها ثمّ اختفت على المكلّف.

وبالجملة الجاهل بجزء المكلّف به الملتفت إليه العاجز عن العلم به يجري عند العقل مجرى الجاهل الغافل الغير الملتفت إليه أصلا ، وهما عنده يجريان مجرى الجاهل الغير الملتفت والجاهل الملتفت العاجز عن العلم بأصل التكليف في قبح العقاب على المخالفة.

لا يقال : هذا منقوض ببناء العقلاء على لزوم مراعاة الاحتياط في مسألة الشكّ في جزئيّة شيء للمأمور به في الأوامر العرفيّة والامور المتعلّقة بهم.

ألا ترى أنّه إذا أمر الطبيب المريض بشرب دواء مركّب عن أجزاء ، فشكّ المريض في جزئيّة شيء له ولم يترتّب على وجوده في الدواء ضرر فهو لا يزال مراعيا للاحتياط والإتيان بذلك الجزء المشكوك فيه أيضا ، بحيث لو تركه مع القدرة على إتيانه فصادف المخالفة كان ملوما عند نفسه وعند غيره.

لأنّا نمنع استقرار بناء العقلاء على الالتزام بالاحتياط فيما هو من قبيل محلّ البحث ، وما ذكر من مثال أمر الطبيب ليس منه ، لأنّ أوامر الطبيب إرشاديّة صرفة ولا يترتّب على موافقتها ثواب ولا على مخالفتها عقاب ، وليس الغرض إلاّ إحراز خاصيّة تترتّب على ذات الفعل المأمور به وهو البرء من المرض ، ففي صورة عدم الإتيان بالجزء المشكوك فيه يحتمل عدم ترتّب الخاصيّة وهو احتمال للضرر الدنيوي ولو باعتبار البقاء في المرض ، لأنّ الكون في المرض ضرر واحتماله احتمال عقلائي ، ولا شبهة في أنّ بناءهم في نحو ذلك على مراعاة الاحتياط بما يدفع هذا الضرر المحتمل ، وكلامنا في الأوامر الشرعيّة الّتي يقصد بها الإطاعة والموافقة فيترتّب على موافقتها الثواب وعلى مخالفتها العقاب. واحتمال

١٧٩

العقاب في صورة احتمال المخالفة احتمال للضرر الاخروي ، وإذا استقلّ العقل بنفي العقاب لقبحه عنده فيما نحن فيه فلا يحتمل معه ضرر اخروي ليجب دفعه ، فلا مجرى لقاعدة دفع الضرر حينئذ ، وليس في بناء العقلاء في نحو هذا الفرض ما ينافي ذلك.

وإن شئت لاحظ أمر المولى عبده بمركّب ذي أجزاء ، حيث إنّ العبد إذا شكّ في جزئيّة شيء ليس ملتزما بمراعاة الجزء المشكوك فيه إذا عجز عن العلم بها ، وإذا اقتصر على القدر المعلوم من أجزاء المركّب وصادف مخالفة الواقع لم يكن مذموما ولا مستحقّا للمؤاخذة ولم يصحّ للمولى أيضا مؤاخذته.

فإن قلت : إنّ الأوامر الشرعيّة مع اشتمالها على جهة المولويّة المقتضية للثواب والعقاب على الموافقة والمخالفة مشتملة على جهة الإرشاد أيضا ، بناء على ما عليه العدليّة من كونها تابعة للمصالح النفس الأمريّة الكامنة في الفعل المأمور به ، ولذا يقال : إنّها ذو وجهتين ، فمن حيث اشتمالها على جهة المولويّة وإن لم يكن قاعدة وجوب دفع الضرر في صورة الشكّ في الجزء جارية لدفع احتمال العقاب على المخالفة ، لانتفاء احتماله بواسطة حكم العقل بقبحه ، إلاّ أنّه لا يلزم من ذلك عدم جريانها لدفع احتمال الضرر الدنيوي المترتّب على ترك المأمور به باعتبار اشتماله على مصلحة في الفعل ومفسدة في الترك ، والاقتصار على الأقلّ مع الشكّ في الجزئيّة يوجب احتمال هذا الضرر فيجب دفعه ، على ما ذكرت من جريان القاعدة حيث احتمل الضرر الدنيوي.

قلت أوّلا : إنّ ما يترتّب على ترك المأمور به إنّما هو فوت المصلحة لا وجود المفسدة ، واحتمال فوت المصلحة كاحتمال فوت المنفعة ليس في بناء العقلاء على حدّ احتمال الضرر ليجب دفعه كما هو واضح.

وثانيا : على فرض تسليم احتمال المفسدة في الترك الراجع إلى احتمال الضرر الدنيوي فهو احتمال ضرر لا يعتني بشأنه العقلاء ، ولا يوجبون دفعه ليفرّع عليه وجوب الاحتياط بمراعاة الجزء المشكوك فيه كما لا يخفى.

وثالثا : إنّ الإتيان بالأقلّ بداعي الإطاعة وامتثال الأمر مع التعويل على الأصل الشرعي المعوّل عليه في نفي الزائد ، يتضمّن من المصلحة ما يتدارك به ما فات من مصلحة الفعل أو ما لزم من مفسدة الترك.

فإن قلت : إنّ الجهة الباعثة على إيجاب الواجبات هي اللطف ، ولذا اشتهر بين العدليّة أنّ

١٨٠