تعليقة على معالم الاصول - ج ٦

السيّد علي الموسوي القزويني

تعليقة على معالم الاصول - ج ٦

المؤلف:

السيّد علي الموسوي القزويني


المحقق: السيد علي العلوي القزويني
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
المطبعة: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ١
ISBN: 964-470-559-9
الصفحات: ٤٨٦

الدوران فيما بينهما إنّما هو حيث ثبت بالدليل وجوب شيء في الجملة وشكّ في وجوبه على التعيين أو على التخيير بينه وبين غيره كما في الظهر والجمعة ، وحيث إنّ مرجعه إلى الشكّ في المكلّف به بعد العلم بالتكليف فيجري فيه القاعدة المذكورة مقتضية لترجيح التعيين ، ولم يثبت في المقام وجوب أخذ بعد ليدور بين التعيين والتخيير لقيام احتمالي الإباحة والتوقّف ، فالشكّ في أصل التكليف لا في المكلّف به بعد العلم بالتكليف.

ومنها : أنّ وجوب الأخذ بالتحريم إنّما هو لئلاّ يلزم المخالفة القطعيّة ، بناء على حجّيّة العلم الإجمالي كما قرّر في محلّه.

ويزيّفه : أنّ معنى حجّيّة العلم الإجمالي كونه منجّزا للتكليف ، وإنّما يصير كذلك حيث أمكن امتثال المعلوم بالإجمال وقد عرفت تعذّره في المقام ، ولذا حكم العقل بعدم جواز توجّه المعلوم بالإجمال هنا إلى المكلّف على وجه يكون تكليفا عليه بالفعل ، ومرجعه إلى عدم إمكان تنجّز التكليف بهذا العلم الإجمالي ، ومعه لا معنى لحجّيته حتّى يحرم مخالفته ، من غير فرق في ذلك بين المخالفة العمليّة والمخالفة الالتزاميّة ، مع تطرّق المنع إلى حرمة المخالفة الالتزاميّة ولو مع حجّية العلم الإجمالي ، لعدم وجوب الالتزام بالحكم الشرعي مطلقا ، فإنّ الأحكام الفرعيّة ليست كالأحكام الاصوليّة الاعتقاديّة الّتي يطلب فيها الاعتقاد ثمّ الالتزام والتديّن بالمعتقد ولا يكفي أحدهما بدون الآخر ، فلا يطلب فيها الالتزام بل ولا الاعتقاد أصالة ، وهذا هو معنى عدم وجوب معرفة الوجه في العبادات ، وعليه مبنى صحّة عبادات الجاهل حيث طابقت الواقع.

نعم ربّما يجبان مقدّمة في العبادات إذا توقّف عليهما أو على أحدهما نيّة القربة المعتبرة فيها.

هذا ومع الغضّ عن جميع ذلك فالمخالفة القطعيّة عمليّة كانت أو التزاميّة كما تندفع بأخذ التحريم على التعيين ، كذلك تندفع بأخذ الوجوب كذلك ، أو على التخيير بينهما بدوا ، وتخصيصه بالأوّل غير معقول.

ومنها : أخبار التوقّف الدالّة على وجوب الوقوف عند الشبهات ، بناء على أنّ المراد به السكون عن حركة الفعل وهو الترك.

وفيه : منع دلالتها على الوجوب وعلى وجوب الوقوف بهذا المعنى على ما تقدّم

١٠١

مشروحا ، مع أنّها ظاهرة فيما يحتمل الهلاكة في فعله فقط ، وهي هاهنا محتملة في كلّ من الفعل والترك.

ومنها : الاستقراء في الشرعيّات المتضمّن لغلبة تغليب الشارع جانب الحرمة ، كترك غير ذات العادة العبادة بمجرّد رؤية الدم ، وترك العبادة في أيّام الاستظهار ، وترك الإنائين المشتبهين وما أشبه ذلك.

وقد يجاب عنه : بمعارضة أصل البراءة ، وفيه ما لا يخفى ، لأنّ ظنّ الغلبة إمّا أن يكون حجّة فلا يعارضه الأصل ، أو لا فلا يعارض الأصل.

والتحقيق : منع الغلبة ، بل منع تحقّق مورد من الشبهة الحكميّة الدائرة بين الوجوب والتحريم رجّح فيها الشارع جانب الحرمة على أن يكون ذلك هو الأصل فيها ، وبناء ترجيح الترك في الأمثلة المذكورة مع عدم غلبة فيها ليس على ذلك ، مع منع الحكم في بعضها فإنّ الأقرب في المبتدئة وفي حكمها ذات العادة العدديّة فقط أنّها في تحيّضها بمجرّد رؤية الدم تراعي صفات الحيض ومع عدم وجودها لا تتحيّض إلاّ بعد مضيّ ثلاثة أيّام.

ولو سلّم فبناء ترجيح الترك ـ كما في ذات العادة أيضا ـ لعلّه على أصل موضوعي يرتفع معه الشبهة ، وهو أصالة الحيض في دماء النساء وقاعدة الإمكان ، مع أنّ الشبهة هنا وفي أيّام الاستظهار موضوعيّة لا حكميّة ، ولعلّ قاعدة ترجيح جانب الحرمة فيها مسلّمة ، فتأمّل مع إمكان كونه في أيّام الاستظهار لأصالة بقاء الحيض واستصحاب حرمة العبادة.

وبناء الحكم في الإنائين المشتبهين على قاعدة حجّيّة العلم الإجمالي مع كون الشبهة فيها أيضا موضوعيّة دون ما نحن فيه ، مع العلم بوجود الحرام فيه ، دون ما نحن فيه مع إمكان الاحتياط فيه دون ما نحن فيه ، مع عدم دوران الأمر هنا بين الوجوب والتحريم لأنّ الوضوء مشروط بطهارة الماء واشتباه الطاهر بالنجس توجب تعذّر إحراز الشرط وهو يوجب تعذّر إحراز المشروط فيسقط فرض المائيّة ، فلا يحتمل في استعمال الماء وهنا وجوب ليكون الأمر بالإهراق من باب تغليب الحرمة على الوجوب كما هو واضح.

ومنها : كون دفع المفسدة في بناء العقلاء أولى وأهمّ من جلب المنفعة ، مضافا إلى قضاء القوّة العاقلة بوجوب دفع المضرّة ، وإلى أنّ إفضاء الحرمة إلى مقصودها أتمّ من إفضاء الوجوب إلى مقصوده ، لأنّ المقصود من الحرمة يتأتّى بالترك سواء كان مع قصد أم غفلة

١٠٢

بخلاف فعل الواجب.

ويندفع الأوّل ـ مع ابتنائه على عدم اشتمال الوجوب على مفسدة الترك وإلاّ فيدور الأمر بين دفع مفسدة الفعل ودفع مفسدة الترك ولا مرجّح للأوّل ـ : بأنّ المفسدة الاخرويّة مدفوعة بحكم العقل المستقلّ على ما تقدّم ، والمفسدة الدنيويّة لا جهة لتقديم دفعها في بناء العقلاء على جلب المنفعة إلاّ وجوب دفع الضرر الّذي يستقلّ به العقل ، فيختصّ بما إذا كان الضرر مقطوعا أو مظنونا أو محتملا بالاحتمال الموجب للخوف ، وهو في المقام ليس بشيء من ذلك ، لأنّ القطع بأحد الحكمين الغير المشتمل أحدهما على ضرر لا يوجب القطع بضرر الآخر ولا الظنّ به ، ولا كون احتماله موجبا لخوف النفس ، لوضوح أنّ فرض الوجوب بعد البناء على خلوّه عن مفسدة الترك مع التحريم بعد القطع بأحدهما ليس إلاّ كفرض الإباحة أو الاستحباب معه بعد القطع بأحدهما في مسألة الدوران بين الحرمة وغير الوجوب في عدم استلزامه شيئا من القطع والظنّ والخوف فليتدبّر. وبهذا كلّه يظهر اندفاع الثاني.

ويندفع الثالث أوّلا : بالوجوب التوصّلي لحصول المقصود منه بالفعل مع القصد ومع الغفلة.

وثانيا : بأنّه لا يتمّ إلاّ على تقدير عدم جواز المخالفة القطعيّة العمليّة ، لكون الفعل مع الغفلة مخالفا لكلّ من الوجوب والحرمة وقد عرفت منعه.

وثالثا : بأنّه على فرض تماميّته إنّما ينهض لنفي تعيين الأخذ بالوجوب لا لنفي التخيير بينه وبين الأخذ بالتحريم.

ومن جميع ما بيّنّاه علم أنّه لا دليل من عقل ولا نقل على وجوب الأخذ بأحدهما على وجه التخيير إلاّ توهّم أنّه انقياد للشارع وهو واجب عقلا.

ويدفعه : أنّ الانقياد إن أريد به الوصف النفساني أعني كون العبد مع مولاه في مقام الإطاعة ، فهو حاصل في المقام بالقياس إلى الحكم الواقعي المعلوم بالإجمال ، لأنّه عبارة عن كون العبد ملتزما بموافقة جميع ما صدر من المولى وبلغ إليه من الأوامر والنواهي ، وهو لا يقضي بوجوب كلّ واحد من الأخذ باحتمال التحريم والأخذ باحتمال الوجوب على البدل على أنّه الحكم الظاهري المجعول لنحو هذه الواقعة وإن اريد به نفس الإطاعة بمعنى موافقة الأمر والنهي فهي غير ممكنة وغير حاصلة بالتخيير المذكور ، أو بمعنى عدم المخالفة فهو فرع توجّه الخطاب الواقعي وقد عرفت منعه بما لا مزيد عليه.

١٠٣

لا يقال : إنّ الواقعة من حيث اشتباه حكمها الواقعي لا بدّ وأن تشتمل على حكم مجعول يتديّن به في مقام العمل ، ويلزم ممّا ذكرت من نفي الإباحة وتعيين الأخذ بالتحريم [ أ ] والتخيير بينه وبين الأخذ بالوجوب إخلاؤها عن هذا الحكم.

لأنّا نقول : غاية ما يسلّم بمقتضى الضرورة والإجماع والأخبار المتواترة إنّما هو عدم جواز خلوّ الواقعة عن الحكم الواقعي المجعول ، وأمّا خلوّها عن الحكم الظاهري المجعول فلا دليل على امتناعه ، مع أنّ مرجع ما بيّنّاه إلى نفي الدليل على أحد الأحكام الثلاث المذكورة على التعيين لا نفي جميعها بحسب الواقع ، واللازم من ذلك التوقّف عن الحكم الظاهري أيضا بعد التوقّف عن الحكم الواقعي.

نعم لو كانت الشبهة ناشئة عن تعارض خبرين أحدهما دالّ على الأمر والآخر على النهي مع استجماعهما لشرائط الحجّية اتّجه فيها القول بالتخيير ، لكن لا بين الأخذ بالتحريم والأخذ بالوجوب من حيث احتمال الحكم الواقعي لأحدهما ودورانه بينهما ، بل من حيث إنّ وجوب العمل بخبر الواحد الجامع للشرائط بمقتضى أدلّة حجّيّتة حكم اصولي يتساوى نسبته إلى كلا المتعارضين ، باعتبار كونهما فردان من العنوان العامّ الّذي دلّ الدليل على هذا الحكم في جميع أفراده ، واتّفق من جهة تنافي مدلوليهما عدم إمكان العمل بكلّ منهما بعينه مع فقد المرجّح لأحدهما على صاحبه ، فالعقل المستقلّ يحكم بالتخيير بينهما على معنى وجوب العمل بكلّ منهما في تلك الواقعة على البدل حذرا عن طرح أدلّة الحجّية والترجيح من غير مرجّح ، كحكمه بالتخيير في إكرام زيد وعمرو إذا وجب بمقتضى عموم « أكرم العلماء » واتّفق لعارض تعذّر الجمع بينهما في الإكرام ، وكحكمه أيضا بالتخيير في مسألة تزاحم الواجبين المضيّقين إذا لم يكن أحدهما أهمّ في نظر الشارع ، ويدلّ عليه أيضا ما ورد في بعض الأخبار العلاجيّة من قوله عليه‌السلام : « بأيّهما أخذت من باب التسليم وسعك الله (١) » وإطلاقه يتناول ما لو تعارض الخبران في الوجوب والتحريم ، وهذا التخيير يستتبع التخيير في المسألة الفرعيّة بين الأخذ بالوجوب الّذي هو مؤدّى أحد الخبرين والأخذ بالتحريم الّذي هو مؤدّى الخبر الآخر ، ثمّ بناء العمل على ما أخذ.

ولا يمكن إجراء هذا الحكم في مطلق صور دوران الحكم بين الوجوب والتحريم

__________________

(١) الوسائل ١٨ : ٨٠ ، الباب ٩ من أبواب صفات القاضي ، ح ١٩.

١٠٤

بتوهّم توسيط تنقيح المناط ، بدعوى كون مناط الحكم في الخبرين هو القطع بصدور شيء من الإمام مع الشكّ في الصادر ، وهو موجود فيما نحن فيه لمكان القطع بصدور الحكم الإلزامي مع الشكّ في الصادر ، لمنع كون الحكم المذكور منوطا بما ذكر بل الحكم الاصولي المنتفى نحوه فيما نحن فيه ، مع تطرّق المنع إلى القطع بالصدور في الخبرين بل غايته كونه قطعي العمل ، وهذا حكم يتساوى نسبته إليهما فيؤول أمره إلى التخيير نظير أمرين بمتضادّين ممتنع الجمع بينهما في الامتثال ، بل لا يمكن إلحاق ما نحن فيه بمسألة رجوع المقلّد إلى مجتهدين عند اختلافهما في الرأي ولو بالوجوب والتحريم المحكوم عليه بالتخيير ، فإنّ وجوب رجوع العامي إلى الفقيه الجامع للشرائط حكم ثبت بالنصّ والإجماع ، ومع تعدّد الفقهاء وتساويهم واختلافهم كان الحكم المذكور على التخيير بحكم العقل ، على حدّ ما لو أمر السيّد عبده بالرجوع إلى الطبيب مع تعدّد الأطبّاء وتساويهم.

ثمّ على تقدير القول بالتخيير بمساعدة دليل عليه فهل هو في ابتداء الأمر فلا يجوز له العدول عن المختار الأوّل إلى غيره أو مستمرّ ما دام العمر فيجوز العدول مطلقا؟ وجهان من مدرك حكم العقل بالتخيير فإن كان مدركه الانقياد بمعنى الوصف النفساني الّذي يتمّ بمجرّد الالتزام أيضا فهو لا يأبى الاستمرار ، وإن كان الانقياد بمعنى نفس الإطاعة وعدم المخالفة ومرجعه إلى المنع عن المخالفة القطعيّة فهو لا يتمّ إلاّ بالتخيير البدوي.

وقد يستدلّ عليه أيضا بقاعدة الاحتياط بمعنى اقتضاء الشغل اليقيني ليقين البراءة ولا يتأتّى إلاّ بالاستمرار وعدم العدول عن المختار ، واستصحاب الحكم الفرعي وسائر الآثار المترتّبة عليه بعد الاختيار.

ويضعّف الأوّل بل الثاني بابتنائهما على الشكّ المخصوص بالأحكام التوقيفيّة ، والتخيير المذكور عقلي ولا يعقل للعقل شكّ في قضيّة حكمه ولا إهمال في حكمه ، كما يضعّف الثاني أيضا بمعارضة استصحاب التخيير الثابت قبل الاختيار الوارد على الاستصحاب المذكور.

هذا كلّه بالقياس إلى المجتهد ، وأمّا المقلّد الّذي وظيفته الرجوع إلى المجتهد إذا رجع إليه للاستفتاء عن حكم نحو هذه الواقعة فهل يفتيه بالتخيير مطلقا أو بما أخذه واختاره أو يفصّل فيفتيه بما أخذه إن كان بناؤه على التخيير البدوي وإلاّ فبالتخيير ، وجوه.

والتحقيق أنّه لا يفتيه إلاّ بما اختاره من وجوب أو تحريم ، وذلك لأنّ التخيير المذكور

١٠٥

من الأحكام الاصوليّة الّتي لا يشاركه المقلّد فيها ، والأظهر من دليله أنّه بدوي ، واختيار المجتهد هاهنا ينزّل منزلة ظنّه الاجتهادي بوجوب شيء أو تحريمه في كونه ملزما للفعل أو الترك عليه وعلى مقلّده ، بصيرورة مظنونه أو مختاره حكم الله الفعلي في حقّهما ، فكما ينتظم عنده في صورة استقرار ظنّه بالوجوب أو التحريم مقدّمتان قطعيّتان بهذه الصورة « هذا مظنوني ، وكلّ مظنوني حكم الله في حقّي وحقّ مقلّدي » فكذا فيما نحن فيه بعد اختياره أحد الحكمين ينتظم عنده نحو هاتين المقدّمتين بهذه الصورة « هذا مختاري ، وكلّ مختاري حكم الله في حقّي وحقّ مقلّدي » أمّا كونه حكم الله في حقّه فلدليل التخيير وكونه بدويّا ، وأمّا أنّه حكم الله في حقّ المقلّد فلأدلّة اشتراك التكاليف والأحكام بينه وبين المجتهد من الضرورة والإجماع وغيرهما من غير فرق فيه بين الأحكام الواقعيّة النفس الأمريّة والأحكام الظاهريّة.

ثمّ ينبغي أن يعلم أنّ موضوع المسألة في شبهة الوجوب والتحريم ما لم يكن الشكّ في أحدهما مسبّبا عن الشكّ في الآخر لعدم دليل على التعيين ، أو إجماله كالأمر المجرّد عن قرينة التعيين إن قلنا باشتراكه بين الإيجاب والتحريم ، أو تعارض الدليلين ، وأمّا لو كان الشكّ في أحدهما مسبّبا عنه في الآخر فهو خارج عن مسألة الدوران لارتفاع الشبهة بالأصل الرافع للشكّ السببي ، وذلك كالصلاة عند ضيق الوقت في المسجد مكان إزالة النجاسة الموجودة في جدار المسجد من خارج المشكوك في وجوبها ، بناء على اقتضاء الأمر بالشيء للنهي عن الضدّ فيشكّ في وجوب هذه الصلاة للشكّ في حرمتها من جهة النهي الضمني المشكوك فيه من جهة الشكّ في وجوب إزالة نحو هذه النجاسة ، فإذا دفع احتمال التحريم بأصالة البراءة عن وجوب الإزالة تعيّن الوجوب بلا إشكال.

وكالشكّ في وجوب غسل الجنابة وحرمته في نهار رمضان إذا انحصر طريقه في الارتماس ـ على القول بعدم إبطاله الصوم ـ عند دخول وقت الصلاة ، فإنّ الشكّ في حرمته باعتبار حرمة الارتماس مسبّب عن الشكّ في وجوبه ، لوضوح أنّه لو كان واجبا لم يكن الارتماس في هذه الصورة حراما لعدم جواز اجتماع الأمر والنهي ، فلو دفع وجوب الاغتسال في هذه الحالة بأصل البراءة تعيّن التحريم بلا إشكال.

ولو فرض أصل لفظي في مورد رافع للشكّ عن التحريم مثلا تعيّن الالتزام بالوجوب أيضا ، كالشكّ في وجوب الصلاة في مكان مغصوب في آخر الوقت وحرمتها بناء على

١٠٦

عدم جواز اجتماع الأمر والنهي ، فإنّ استصحاب الأمر بالصلاة وإن كان يقتضي بقاء الوجوب ، إلاّ أنّ أصالة عدم التخصيص بالقياس إلى دليل حرمة الغصب أيضا يقتضي التحريم ، فيدور الأمر بين الأصل العملي والأصل اللفظي ، وحيث إنّ الثاني في جميع موارده وارد على الأوّل فتعيّن التحريم وارتفع معه شبهة الوجوب.

وبالجملة فكلّ شبهة من دوران الأمر بين الوجوب والتحريم إذا ارتفع أحد طرفيها بأصل عملي أو لفظي موجود في المسألة فهي خارجة عن مسألة دوران الأمر بين الوجوب والتحريم ، لعدم شبهة في الحقيقة بعد ملاحظة الأصل المذكور. هذا كلّه في الشبهة الحكميّة.

وأمّا إذا كانت الشبهة في دوران الأمر بين الوجوب والتحريم موضوعيّة ، بأن يتردّد الموضوع الخارجي بين عنوانين أحدهما واجب بحسب الشرع والآخر محرّم فأمثلته كثيرة :

منها : الكافر المردّد بين كونه حربيّا ليجب قتله أو ذمّيّا ليحرم قتله.

ومنها : الميّت اللقيط في مفازة المردّد بين المسلم ليجب الصلاة عليه والكافر ليحرم الصلاة عليه.

ومنها : الغريق المردّد بين المسلم ليجب إنقاذه لوجوب حفظ النفس المحترمة والكافر الحربي ليحرم إنقاذه لوجوب إعدام النفس الكافرة.

ومنها : المخبر المردّد بين العادل ليجب قبول خبره والفاسق ليحرم قبول خبره ، بناء على انتفاء الواسطة بين العادل والفاسق ، وإلاّ فبأصالة عدم حصول الملكة وأصالة عدم صدور موجب الفسق عن هذا المخبر يحكم بعدم وجوب قبول خبره وعدم حرمة قبوله.

وربّما يذكر من أمثلته الحليلة الواجب وطؤها ـ بالأصالة أو لعارض بالنذر ونحوه ـ المشتبهة بالأجنبيّة ، والخلّ المخلوف على شربه المشتبه بالخمر.

وفيه نظر :

أمّا أوّلا : فلأنّ الشبهة في نحو هذين المثالين من قبيل الشكّ في المكلّف به من باب اشتباه الواجب بالحرام ، وستعرف أنّ من صور الشكّ في المكلّف به دوران الأمر بين الواجب والحرام على معنى اشتباه الواجب بالحرام.

وأمّا ثانيا : فلخروجهما عن حدّ الشبهة بالأصل الموضوعي الموجود فيهما كأصالة عدم الزوجيّة بينهما في الأوّل ، وأصالة عدم وقوع الحلف على هذا الموضوع الخارجي في الثاني ، فتلحق المرأة بالأجنبيّة فيحرم وطؤها ، ويؤول الواقعة في المائع المردّد بعد ارتفاع

١٠٧

احتمال الوجوب بالأصل المذكور إلى مسألة الدوران بين الإباحة والتحريم ، وقد تقدّم أنّ الأصل فيها الإباحة.

نعم إنّما يصلح كون الخلّ المشتبه بالخمر من أمثلة ما نحن فيه لو فرض وقوع الحلف على شرب نوع الخلّ المستلزم لوجوب شرب جميع أفراده في محلّ الابتلاء ، ولكنّه فرض بعيد.

وكيف كان فأمّا الحكم في ذلك فهو البراءة وخلوّ ذمّة المكلّف عن حكم إلزامي إيجابا أو تحريما ، فيجوز كلّ من الارتكاب والاجتناب ، على معنى عدم الحرج في شيء منهما ، للعقل المستقلّ الحاكم بقبح العقاب والمؤاخذة على مخالفة ما لا سبيل إلى معرفته ولا إلى امتثاله ، فلا يصحّ للشارع أن يؤاخذ على الفعل ، بأن يقول : لم ارتكبت وقد كان حراما؟ ولا على الترك بأن يقول : لم تركته وقد كان واجبا؟ لصحّة الاعتذار بعدم معرفة الحرمة ولا الوجوب ، ولا أن يؤاخذه على عدم مراعاة الاحتياط في امتثال الحكم الإلزامي لتعذّره ، ولا أن يحتجّ عليه بحجّية العلم الإجمالي ، لتمكنّه من ردّه بأنّ الحجّية إن اريد بها الموافقة القطعيّة فهي متعذّرة ، وإن اريد بها عدم المخالفة القطعيّة فالالتزاميّة منها على تقدير وجوب الالتزام بحكم الله الفرعي غير حاصلة في الواقعة الشخصيّة ، لحصول الالتزام بحكم كلّ من الواقعتين الكليّنين ، والعمليّة منها غير قادحة لعدم توجّه الخطاب في تلك الواقعة بالفرض ، مع أنّها غير لازمة أيضا لعدم القطع عند التلبّس بكلّ من الفعل والترك بكون ما يتلبّس به مخالفة.

نعم إذا تلبّس بأحدهما بعد التلبّس بالآخر يحصل القطع بتحقّق مخالفة فيما بينهما ، ولا قبح في نحو هذه المخالفة عقلا ولا شرعا.

ولا يذهب عليك أنّ إثبات أصل البراءة هنا بهذا الحكم العقلي مقصور على صورة تعذّر رفع الاشتباه بالفحص أو السؤال والرجوع إلى أهل الخبرة ، لأنّ مناطه عدم السبيل إلى معرفة الحكم وإلى امتثاله ، وعليه فيصحّ المؤاخذة على ترك السؤال ، ويشكل الأمر بالقياس إلى ما سيأتي من عدم وجوب الفحص في العمل بأصل البراءة في الموضوعات وما نحن فيه منها ، فلا بدّ للعمل به فيه مع إمكان الفحص والسؤال من مدرك آخر غير العقل ، ولا يبعد التمسّك بعموم قوله عليه‌السلام : « كلّ شيء فيه حلال وحرام فهو حلال لك حتّى تعرف الحرام منه بعينه (١) » وقوله عليه‌السلام أيضا : « كلّ شيء لك حلال حتّى تعرف الحرام بعينه » (٢) وأمّا

__________________

(١) الوسائل ١٢ : ٥٩ ، الباب ٤ من أبواب ما يكتسب به ، الحديث الأوّل.

(٢) الوسائل ١٢ : ٦٠ ، الباب ٤ من أبواب ما يكتسب به ، ح ٤ مع تفاوت.

١٠٨

كون الحكم الظاهري المجعول لتلك الواقعة هو الإباحة أو الأخذ بالتحريم أو التخيير بينه وبين الأخذ بالوجوب فالكلام فيه نظير ما مرّ في الشبهة الحكميّة من الوقف هذا.

المقام الثاني

في حكم الشكّ في المكلّف به لشبهة حكميّة أيضا أو شبهة موضوعيّة ،فإنّ الشكّ في المكلّف به أيضا قد يكون باعتبار الشبهة الحكميّة وقد يكون باعتبار الشبهة الموضوعيّة. وضابط الفرق بينهما وبين الشكّ في المكلّف به مع الشكّ في التكليف أنّ الواقعة في موارد التكليف يلاحظ فيها امور ثلاث : الحكم الصادر من الشارع كالوجوب ، ومتعلّق ذلك الحكم وهو العنوان الكلّي الّذي علّق عليه الوجوب ، والمصداق الخارجي لذلك المتعلّق وهو الجزئي المطابق للعنوان المعلّق عليه الوجوب ، والواقعة المشكوكة قد تكون بحيث يشكّ في أصل حكمها الصادر من الشارع فهو الشكّ في التكليف ، وقد يكون حكمها الصادر من الشارع معلوما بالتفصيل ويشكّ في متعلّقه لعدم وضوح العنوان المعلّق عليه ذلك الحكم فهو الشكّ في المكلّف به لشبهة حكميّة ، وقد يكون متعلّقه أيضا معلوما بالتفصيل ولكن يشكّ في مصداقه الخارجي لأمر خارجي لا يرجع إلى الشارع فهو الشكّ في المكلّف به لشبهة موضوعيّة.

ثمّ إنّ الشكّ في المكلّف به إمّا أن يكون لدوران الأمر بين الحرام وغير الواجب ، أو لدوران الأمر بين الواجب وغير الحرام ، أو لدورانه بين الحرام والواجب ، فتحقيق هذا المقام أيضا يستدعي التكلّم في مطالب :

المطلب الأوّل

في دوران الأمر بين الحرام وغير الواجب

وهو باعتبار كون الشكّ تارة لشبهة موضوعيّة واخرى لشبهة حكميّة لفقد النصّ أو إجماله أو تعارض النصّين يتضمّن صور أربع :

الصورة الاولى

في الشبهة الموضوعيّة من اشتباه الحرام بغيره ،وهذا الاشتباه قد يكون في محصور وهو الشبهة المحصورة ، كما في الانائين المشتبهين أحدهما الخمر أو النجس أو حرام آخر ، وقد يكون في غير محصور وهو الشبهة الغير المحصورة فهاهنا مرحلتان :

١٠٩

المرحلة الاولى :

في الشبهة المحصورة ، والخلاف فيها من حيث وجوب الاجتناب عن جميع أطراف الشبهة ، وجواز ارتكاب الجميع مطلقا ، أو تدريجا لا دفعة ، أو إلى أن ينفى مقدار الحرام ، أو إلاّ ما عيّنته القرعة معروف ، والأقوال الخمس المذكورة فيها معلومة ، ومبنى الخلاف في الجملة على حجّيّة العلم الإجمالي وعدمها ، ومقتضى حجّيّتة من أنّه وجوب الموافقة القطعيّة المستلزم لحرمة المخالفة القطعيّة ، أو حرمة المخالفة القطعيّة فقط مطلقا ، أو إذا كانت حاصلة في الارتكاب دفعة لا إذا كانت لازمة من التدريج. فمن يجوّز الارتكاب مطلقا يطرح العلم الإجمالي بزعم عدم حجّيته ، ومن يمنعه مطلقا يراه حجّة بالمعنى المتضمّن لوجوب القطع بالموافقة الّذي لا يتأتّى إلاّ باجتناب الجميع فيجب مقدّمة ، ومن يجوّز الارتكاب إلاّ في مقدار الحرام يجعل معنى حجّيّته حرمة المخالفة القطعيّة مطلقا ، ومن يجوّزه مع التدريج لا مع الدفعة يجعل مقتضى حجّيّته حرمة المخالفة القطعيّة الحاصلة مع الدفعة لا اللازمة من التدريج.

ومرجع هذا الخلاف إلى الإشكال في كون ما هو حرام في الواقع في مورد العلم الإجمالي حراما في الظاهر أيضا ، على معنى الحرمة الفعليّة الّتي يعصي المكلّف بارتكابه ويعاقب على مخالفتها وعدمه ، والأقوى هو الأوّل ، ومرجعه إلى كفاية العلم الإجمالي في تنجّز التكليف وفعليّة الحرمة ولازمه وجوب اجتناب الجميع مقدّمة ، لأنّ القطع بالموافقة لا يحصل إلاّ بذلك.

لنا : نفس الخطابات الواردة في تحريم العناوين المحرّمة ، فإنّ [ قول الشارع ](١) « حرّمت عليكم الخمر » مثلا يفيد كبرى كلّيّة وهو قولنا : « كلّ خمر حرام » وكما أنّه إذا علم تفصيلا خمريّة شيء يحرز به صغرى تنضمّ إلى هذه الكبرى الكلّيّة فليحصل بهما النتيجة قهرا وهي حرمة ذلك الشيء حرمة فعليّة ، فكذلك إذا علم خمريّة شيء إجمالا يحرز به الصغرى المذكورة ، وإذا انضمّت إلى الكبرى الكلّيّة كانت النتيجة الحاصلة منهما الحرمة الفعليّة لذلك الشيء المعلوم بالإجمال لا محالة.

والفرق بين صورتي العلم التفصيلي والعلم الإجمالي في كفاية الأوّل في تنجّز التكليف وعدم كفاية الثاني ـ الّذي مرجعه إمّا إلى القدح في الصغرى المذكورة أو إلى منع

__________________

(١) وفي المصدر « قوله تعالى » بدل « قول الشارع » وهو سهو منه قده ، لأنّ ما ذكر عقيبه ليست بآية من القرآن الكريم ولذا صحّحناه بما في المتن.

١١٠

كلّيّة الكبرى المذكورة ـ لا بدّ له من فارق ، وهو إمّا اللغة بدعوى أنّ الخمر مثلا قد اخذ في وضعه لغة ما لا يوجد في المعلوم بالإجمال وهو العلم التفصيلي.

أو العرف بدعوى أنّه في حيّز الخطاب ينصرف عرفا إلى المعلوم بالتفصيل.

أو العقل بدعوى أنّه يقبح التكليف بالمعلوم بالإجمال كما أنّه يقبح التكليف بالمجهول الصرف ، ومرجعه إلى القول بكون شرط تنجّز التكليف عند العقل العلم التفصيلي بموضوعه.

أو الشرع بدعوى أنّ الشارع دلّنا على أنّ المعلوم بالإجمال في حكم المجهول في عدم توجّه الخطاب فيه إلى المكلّف ، استنادا في ذلك إلى ما تقدّم من قوله عليه‌السلام : « كلّ شيء فيه حلال وحرام فهو حلال ذلك حتّى تعرف الحرام بعينه (١) » وقوله عليه‌السلام أيضا : « كلّ شيء لك حلال حتّى تعرف الحرام منه بعينه (٢) » فإنّه ظاهر كالصريح في الشبهات الموضوعيّة ، وبعمومه يشمل ما نحن فيه لعدم حصول معرفة الحرام بعينه.

والسرّ في انحصار الفارق في هذه الوجوه الأربع هو أنّ قوله تعالى : « حرّمت عليكم الخمر » مثلا عامّ في جميع أفراد الخمر ومصاديقه ، وعدم اندراج شيء فيه لا يخلو من أن يكون لخروج موضوعي أو لخروج حكمي من باب التخصيص ، وعلى الأوّل إمّا أن يكون خروجه عن الموضوع لأمر لغوي أو لأمر عرفي ، وعلى الثاني إمّا أن يكون التخصيص لمخصّص عقلي أو شرعي ، ولا سبيل إلى شيء من هذه الوجوه.

أمّا على الجملة : فلأنّها متشاركة في نتيجة واحدة هي مع بطلانها في نفسها خارجة عن المتنازع وعن مفروض الكلام ، لما بيّنّا أنّ مرجع البحث في حجّيّة العلم الإجمالي إلى أنّ المعلوم بالإجمال مع كونه حراما في الواقع هل هو حرام في الظاهر أيضا ليجب الاجتناب عنه أو لا؟

وبعبارة اخرى : أنّ ما فرض فيه من الحرمة الواقعيّة هل لزمها بسبب العلم الإجمالي حرمة فعليّة شاغلة لذمّة المكلّف ، عليها مدار الإطاعة والمعصية واستحقاق الثواب والعقاب على الموافقة والمخالفة أو لا؟ فيجوز له الارتكاب كائنا ما كان ، ولا يعصى به ولا يعاقب عليه ، فالحرمة الواقعيّة ثابتة فيه بالفرض ومفروغ عنها. والكلام إنّما هو في

__________________

(١) الوسائل ١٢ : ٥٩ ، الباب ٤ من أبواب ما يكتسب به الحديث الأوّل.

(٢) الوسائل : ١٢ : ٦٠ ، الباب ٤ من أبواب ما يكتسب به ، ح ٤ ، مع تفاوت.

١١١

لزومها الحرمة الفعليّة أيضا وعدمه ، وقضيّة خروجه عن خطاب التحريم موضوعا أو حكما انتفاء الحرمة الواقعيّة عنه الّتي هي مؤدّى الخطاب ، فإنّ مفاد قوله : « حرّمت عليكم الخمر » ونحوه ليس إلاّ حرمة واقعيّة وإنّما تصير تكليفا وحكما فعليّا بتحقّق شرائطه الّتي منها العلم بها تفصيلا أو إجمالا. والالتزام بانتفائها عن المعلوم بالإجمال خلاف مفروض الكلام ، فيبطله دليل الخلف ، هذا مع بطلانه في نفسه لوجهين :

أحدهما : الأولويّة القطعيّة بالقياس إلى الشبهة الموضوعيّة من الشكّ في التكليف الّتي يعمل فيها بأصل البراءة ، القاضية بجواز ارتكاب الموضوع المشتبه والإباحة الظاهريّة فيه ، إذ قد عرفت أنّ أصل البراءة في مجاريه لا يتعرّض الحكم الواقعي الثابت للواقعة بنفي ولا إثبات ، بل مفاده خلوّ ذمّة المكلّف في الظاهر عن الحكم الواقعي الثابت للواقعة بنفي ولا إثبات ، بل مفاده خلوّ ذمّة المكلّف في الظاهر عن الحكم الإلزامي والتكليف الفعلي الّذي عليه يترتّب الآثار من الإطاعة والمعصية والثواب والعقاب ، وإن كان الحكم المجعول للواقعة في الواقع هو الحكم الإلزامي من ايجاب أو تحريم ، فإذا لم يكن الاشتباه في الموضوع الخارجي مع الجهل الصرف به مصادما للحرمة الواقعيّة ورافعا لها فلئلاّ يكون مصادما لها مع العلم الإجمالي به طريق الأوليّة القطعيّة.

وثانيهما : استلزامه التصويب الباطل حتّى عند المصوّبة لأنّهم يدّعون التصويب في الأحكام الواقعيّة لا في الموضوعات ، وإنّ التصويب في الأحكام عندهم عبارة عن تبدّل الحكم الواقعي بتبدّل العلم والجهل ، على معنى اختلاف الأحكام الواقعيّة باختلاف المكلّفين في العلم الإجمالي به. فاختلاف الموضوع الواقعي باختلافهم في العلم والجهل أو بالموضوع والعلم الإجمالي به. فاختلاف الموضوع الواقعي بالختلافهم في العلم والجهل أو اختلافهم في العلم التفصيلي والعلم الإجمالي لم يقل به أحد حتّى المصوّبة.

وقضيّة خروج المعلوم بالإجمال عن الخطاب موضوعا أو حكما هو التصويب بأحد هذين المعنيين ، إذ على الأوّل يلزم اختلاف الموضوع الواقعي بالعلم التفصيلي والعلم الإجمالي ، وعلى الثاني يلزم اختلاف الحكم الواقعي باختلاف الموضوع في العلم التفصيلي والعلم الإجمالي.

وأمّا على التفصيل : فلبطلان كلّ من الوجوه الأربع في نفسه.

أمّا الوجه الأوّل : فلما تقرّر في محلّه وصار إليه المحقّقون وجمهور الاصوليّين من أنّ الألفاظ موضوعة للمعاني الواقعيّة النفس الأمريّة لا بشرط العلم بها ولا بعدمها ، وإنّ العلم

١١٢

بالمعنى الواقعي عبارة عن انكشاف الواقع عند العالم ، ووجه اعتباره معه إنّما هو وجه الطريقيّة فلا يدخل في وضعه قطعا.

وأمّا الوجه الثاني : فلانتفاء موجب عدم الانصراف بالنسبة إلى الموضوع المعلوم بالإجمال ، وعدم الملازمة بينه وبين ما عرض الفرد من العلم الإجمالي ، فإنّه على ما تقرّر في محلّه إمّا ندرة وجود الفرد أو ندرة إطلاق اللفظ عليه ، وليس في المعلوم بالإجمال إلاّ العلم الإجمالي وهو عارض ، ولئن سلّمنا ندرة العلم الإجمالي في التحقّق بالقياس إلى العلم التفصيلي فهي ندرة في العارض ولا تستلزم ندرة في المعروض لا وجودا ولا إطلاقا كما هو واضح ، فلا يلزم بها عدم انصراف الخمر مثلا في نحو قوله : « حرّمت عليكم الخمر » إلى المعلوم بالإجمال ، لأنّه قد يكون في نفسه أغلب الأفراد وجودا وإطلاقا ، وقد عرضه العلم الإجمالي في قضيّة بسبب الاشتباه.

لا يقال : هذا إنّما يتوجّه لو جعل الانصراف وعدمه في المفرد أعني الخمر المأخوذ في نحو قوله : « حرّمت عليكم الخمر » وليس مبنى دعوى الانصراف إلى المعلومات بالتفصيل على ذلك بل على نفس الخطاب ، فهو من مقتضيات التركيب الكلامي ومن حالات الهيئة التركيبيّة المأخوذة في الخطاب باعتبار كونه خطاب تكليف ، فيختصّ باعتبار اشتراط التكليف بالعلم بموارد العلم ، وينصرف في متفاهم العرف بهذا الاعتبار إلى المعلومات بالتفصيل لا غير.

لأنّا نقول : لا فرق في متفاهم العرف في عموم مؤدّى الخطاب بين المعلومات بالتفصيل والمعلومات بالإجمال وغيرها.

والسرّ في ذلك : أنّ مؤدّى قوله : « حرّمت عليكم الخمر » على ما عرفت هو الحرمة الواقعيّة ، وهو في ذلك المؤدّى عامّ في الأفراد الواقعيّة للخمر ، أعني كلّ ما يصدق عليه في الواقع إنّه خمر ، سواء علمت فرديّتها له تفصيلا أو إجمالا أو جهلت ، حتّى أنّ الأفراد الواقعيّة المجهول فرديّتها له مع الأفراد الواقعيّة المعلوم فرديّتها له تفصيلا في الاتّصاف بالحرمة الواقعيّة على حدّ سواء ، فكيف بالأفراد الواقعيّة المعلوم فرديّتها له إجمالا.

نعم صيرورة تلك الحرمة الواقعيّة تكليفا فعليّا شاغلا لذمّة المكلّف مشروطة بالعلم بها وبفرديّة ما يحكم بحرمته فعلا للخمر.

وأمّا الكلام في أنّ الشرط مطلق العلم ولو إجمالا أو خصوص العلم التفصيلي فهو

١١٣

مطلب آخر خارج عن مؤدّى هذا الخطاب ، وتحقيقه موكول إلى نظر العقل وستعرفه ، فلا موجب للانصراف ولا التشكيك في عموم مؤدّى الخطاب لجميع الأفراد الواقعيّة حتّى المجهولة منها فضلا عن المعلومة بالإجمال.

ولئن سلّمنا كون مؤدّى الخطاب هو الحرمة الفعليّة وفرضنا في فهم العرف تشكيكا في شمولها للأفراد المعلومة بالإجمال باعتبار الشبهة في كفاية العلم الإجمالي بالموضوع في تنجّز التكليف به ، فهو تشكيك بدوي لا يبلغ حدّ الانصراف إلى غير المعلوم بالإجمال ، ويزول بمراجعة العقل والنظر في حكمه بعدم الفرق في شرط تنجّز التكليف بين العلم التفصيلي والعلم الإجمالي ، كما سنبيّنه في وجه بطلان الوجه الثالث.

فإن قلت : إنّ الجهة الباعثة على الانصراف هو أنّ حال النواهي ليست إلاّ كحال الأوامر ، فكما أنّ المتبادر من الأمر في العرف طلب فعل عن قصد وإن لم يدخل القصد في وضع اللفظ ولا في متعلّق الأمر بل كان تبادر إطلاقيّا محضا من ملاحظة المجموع من مفهوم الصيغة ومدلول المادّة ، فكذلك المتبادر من النهي طلب ترك فعل عن قصد تبادرا إطلاقيّا أيضا على نحو ما عرفت ، وحينئذ فمن شرب الخمر المعلوم بالتفصيل عن قصد فلا إشكال في اندراجه في دليل المنع والتحريم فيكون اثما ، وكذلك إذا كان معلوما بالإجمال فارتكب جميع أطراف العلم الإجمالي دفعة بقصد أن يشرب الخمر أو تدريجا بقصد أن يتوصّل إلى شرب الخمر ، وأمّا من ارتكب الجميع لا بقصد أن يشرب الخمر أو يتوصّل إلى شرب الخمر فلم يظهر اندراجه في دليل المنع.

قلت : مع ما في هذا السؤال من التمحّل والتكلّف ما لا يخفى ، أنّ هذا ليس من منع انصراف الخطاب إلى المعلوم بالإجمال في شيء بل هو اعتراف بشموله للعالم بالإجمال.

غاية الأمر أنّ المطلوب منه هو ترك المعلوم بالإجمال المقرون بالقصد ، بناء على أنّ القصد في كلّ من الأمر والنهي معتبر في متعلّق الطلب ، وهو الفعل في الأمر والترك في النهي ، فيعتبر في الأمر أن يكون الإتيان بالفعل مقرونا بقصد ذلك الفعل وبالترك أيضا مقرونا بقصد ذلك الترك ، وحينئذ فالمكلّف بالنسبة إلى مدلول النهي لا يخلو عن إحدى حالات أربع ، لأنّه إمّا أن يترك المنهيّ عنه عن قصد ، أو يتركه لا عن قصد ، أو يفعله عن قصد ، أو يفعله لا عن قصد.

فعلى الأوّل يكون ممتثلا ومثابا.

وعلى الثاني وإن لم يكن مثابا إلاّ أنّ تركه الصادر لا عن قصد مسقط للطلب ، لكون

١١٤

النهي كالأمر التوصّلي توصّليا.

وعلى الثالث يكون معاقبا وإن كان عالما بالإجمال ، كما هو قضيّة اعتراف السؤال.

وعلى الرابع أيضا ينبغي أن يكون معاقبا لعدم امتثاله طلب الترك عن قصد ، فإنّ الفعل لا عن قصد ليس تركا عن قصد ليثاب عليه ، ولا تركا لا عن قصد ليكون مسقطا للطلب من دون ثواب ولا عقاب ، فتأمّل.

مع أنّ الارتكاب لا عن قصد إن اريد به الارتكاب عن غفلة أو لنسيان أو لإكراه الغير عليه أو لضرورة مسوّغة للحرام أو غير ذلك من جهات الاضطرار السالبة للاختيار فهو خارج عن المتنازع ، إذ لم يقل أحد بوجوب الاجتناب عن الشبهة المحصورة مع الاضطرار.

وإن اريد به الارتكاب لداعي احتمال أن لا يكون خمرا ، ففيه : مع أنّه لا يتمشّى في ارتكاب الجميع دفعة ولا يمنع شمول الخطاب المعلوم بالإجمال بل يؤكّده ، أنّه لا يجدي نفعا في جواز الارتكاب إلاّ على تقدير عدم ثبوت الحرمة الفعليّة للمعلوم بالإجمال ، وهو موضع منع على ما ستعرفه.

وعلى تقدير ثبوتها فالمتجّه هو المنع عن كلّ ارتكاب إمّا لأنّ اليقين باشتغال الذمّة بترك الحرام الواقعي يقتضي اليقين بالخروج عن العهدة ولا يحصل إلاّ بالاجتناب عن الجميع فيجب مقدّمة ، أو لأنّ احتمال عدم كونه [ خمرا ] في كلّ ارتكاب معارض باحتمال كونه خمرا ، وهو احتمال للضرر الاخروي مع كونه عقلائيّا باعتبار مقارنته العلم الإجمالي فيجب دفعه ولا يتأتّى إلاّ بالترك.

وأمّا الوجه الثالث : فلمنع تسوية العقل بين الجاهل الصرف والعالم بالإجمال في نحو ما نحن فيه في قبح تنجّز التكليف وتوجّه الخطاب والطلب الفعلي الشاغل للذمّة ، فإنّه يقبح ذلك في الجاهل لقبح العقاب على مخالفة ما لا طريق للمكلّف إلى معرفته أصلا لا تفصيلا ولا إجمالا ، ولا يلزم بذلك أن يقبح العقاب على مخالفة الحكم الواقعي الّذي علمه المكلّف تفصيلا في موضوع خارجي علمه إجمالا مع تمكّنه من موافقته وامتثاله كما هو مفروض المسألة ، بل يحسن العقاب عليه في حكم العقل كما يحسن العقاب في حكمه على مخالفة من علم الموضوع تفصيلا.

وتوهّم كون شرط تنجّز التكليف الّذي عليه مدار الاطاعة والمعصية واستحقاق المثوبة والعقوبة هو العلم التفصيلي لا العلم الإجمالي لعدم كفايته.

يدفعه : منع الانحصار في نظر الحاكم بالاشتراط وهو العقل ، فإنّ العلم في شروط

١١٥

التكليف الفعلي كالقدرة شرط عقلي ، وقولنا : « التكليف مشروط بالعلم » قضيّة عقليّة ، والقضايا العقليّة المتلقّاه من العقل ليست كالقضايا الملفوظة المتلقّاة من الشارع ليطرئها إجمال واهمال ، بل هي قضيّة معقولة لا بدّ وأن تكون مبيّنة في نظر العقل بحيث لم يكن فيها إجمال وإهمال أصلا في شيء من أطرافها موضوعا ومحمولا وكمّا وكيفا وجهة ، ومناط حكمه في تلك القضيّة أحد الأمرين من لزوم تكليف الغافل وتكليف ما لا يطاق لو لا اشتراطه بالعلم ، فالأوّل في المكلّف الغير الملتفت إلى حكم الواقعة أصلا ، والثاني في الملتفت الشاكّ في حكمها الواقعي الّذي لا طريق له إلى معرفته أصلا ، لعدم تمكّنه من الامتثال على تقدير كونه في الواقع مخاطبا بالفعل بالارتكاب أو الاجتناب ، وكما لا يلزم شيء من ذلك في العالم بالفتصيل لو كان بالفعل مخاطبا بالارتكاب أو الاجتناب ، فكذا لا يلزم شيء منهما في العالم بالإجمال المتمكّن من الامتثال ، خصوصا إذا كان علمه الإجمالي في الموضوع بعد علمه التفصيلي كما فيما نحن فيه.

وقضيّة ذلك كلّه أن يكون شرط توجّه الخطاب فعلا وتنجّز التكليف على المكلّف هو العلم بكلّ من الحكم الواقعي وموضوعه عنوانا ومصداقا ولو إجمالا ، لكن بالنسبة إلى الحكم مع التمكّن من العلم التفصيلي ، وبالنسبة إلى موضوعه مع التمكّن من الامتثال وإن لم يتمكّن من العلم التفصيلي ، فالعلم الإجمالي بالحكم الواقعي مع التمكّن من العلم التفصيلي به والعلم الإجمالي بموضوعه ـ ولو مصداقا ـ ولو مع عدم التمكّن من العلم التفصيلي به كاف عند العقل في صحّة الخطاب وحسن التكليف.

وهذا هو السرّ في الفرق بين الجاهل المقصّر والجاهل القاصر في الأحكام ، بكون الثاني في مخالفته لها معذورا دون الأوّل ، لتنجّز التكليف على الأوّل بتحقّق شرطه وهو علمه الإجمالي بالأحكام الشرعيّة مع تمكّنه من معرفة تفاصيلها ، وعدم تنجّزه على الثاني لعدم تحقّق شرطه ، فلو توجّه إليه الخطاب لزم تكليف الغافل وتكليف ما لا يطاق.

وقضيّة ذلك أن يكون المعلوم بالإجمال في الشبهة المحصورة مشمولا لخطاب التحريم في نظر العقل أيضا ، ولا ينتقض بالعلم الإجمالي في الشبهة الغير المحصورة لعدم الابتلاء بجميع أطراف الشبهة في غير المحصور.

ومن شروط تأثير العلم الإجمالي في تنجّز الخطاب بالاجتناب عن المعلوم بالإجمال ابتلاء المكلّف به بواسطة ابتلائه بجميع أطراف العلم الإجمالي ، حتّى أنّ هذا الشرط معتبر في الشبهة المحصورة أيضا كما ستعرفه في فروعها ، فلو لم يكن بعض أطراف العلم

١١٦

الإجمالي فيها محلاّ لابتلاء المكلّف لم يجب الاجتناب عليه عن الباقي ، لعدم العلم بتنجّز التكليف عليه في واقعة هذا العلم الإجمالي بسبب احتمال كون المعلوم بالإجمال هو غير محلّ الابتلاء ، والمكلّف في غير محلّ الابتلاء لا يخاطب فعلا بالاجتناب عنه وإن كان معلوما بالتفصيل فضلا عمّا لو كان معلوما بالإجمال فإذا كان المعلوم بالإجمال ، في الشبهة المحصورة الّتي بعض أطرافها ليس محلاّ للابتلاء مردّدا بين محلّ الابتلاء وغير محلّ الابتلاء رجع الشكّ بالنسبة إلى محلّ الابتلاء إلى كونه في التكليف ، فيجري فيه الأصل بلا معارضة علم إجمالي.

ولعلّ السرّ في اعتبار كون المعلوم بالإجمال محلاّ [ للابتلاء ] في تنجّز التكليف بالاجتناب عنه وتوجّه الخطاب إليه اشتراط التكليف بالقدرة على كلّ من الارتكاب والاجتناب ، بأن لا يكون هناك مانع عقلي ولا شرعي ولا عادي من الارتكاب ، وغير محلّ الابتلاء ليس مقدورا على ارتكابه عادة فلا يكون اجتنابه أيضا مقدورا باعتبار العادة ، لوجوب تساوي القدرة بالقياس إلى طرفي الفعل والترك.

وأمّا الوجه الرابع : فلأنّ الخروج الحكمي في المعلوم بالإجمال عن نحو قوله : « حرمت عليكم الخمر » بالشرع بمقتضى قوله عليه‌السلام : « كلّ شيء فيه حلال وحرام ... إلى آخره » (١) وغيره فرع على التنافي ، بأن يكون مفاد الرواية سالبة جزئيّة تناقض الموجبة الكليّة المستفادة من دليل التحريم وهي حرمة كلّ خمر في الواقع ، وهو فرع الوحدات الثمانية الّتي منها وحدة المحمول ووحدة الموضوع وهي منتفية ، لتعدّد محمول مؤدّى الرواية ومحمول مؤدّى دليل الحرمة ، مع تعدّد موضوعيهما أيضا.

أمّا الأوّل : فلأنّ الحرمة في مؤدّى دليل الحرمة هي الحرمة الواقعيّة والحليّة في قوله : « فهو حلال لك » هي الحليّة الظاهريّة ، بدليل كونها مغيّاة بغاية المعرفة ، ولا يسوغ أن يكون شيء قبل معرفة حرمته حلالا في الواقع ثمّ يصير بعد المعرفة حراما في الواقع لبطلان التصويب ، فقوله : « حلال » يقتضي عدم الحرمة الظاهريّة لا عدم الحرمة الواقعيّة ، فلا يناقض مؤدّى الرواية لمؤدّى دليل الحرمة.

وأمّا الثاني : فلوضوح أنّ قوله : « حرّمت عليكم الخمر » يقتضي بعمومه حرمة الأشخاص الّتي منها المعلوم بالإجمال و « الشيء » في قوله : « كلّ شيء » ظاهر في شيء

__________________

(١) الوسائل ١٢ : ٥٩ الباب ٤ من أبواب ما يكتسب به ، الحديث الأوّل.

١١٧

واحد حقيقي لا ما يعمّه الواحد الاعتباري ، وهو المجموع من امور اعتبر انضمام بعضها إلى بعض. واندراج المعلوم بالإجمال من الشبهة المحصورة فيه إمّا بفرض المجموع من أطراف الشبهة شيئا واحدا فيشمله « كلّ شيء » ويلحقه قوله : « حلال ». ويدفعه : ابتناؤه على جعل شيء أعمّ من الواحد الاعتباري وهو خلاف ظاهر لا شاهد عليه.

أو بجعل الواحد الحقيقي في معنى « كلّ شيء » عبارة عن الواحد الشخصي أو ما يعمّه والواحد النوعي ، نظرا إلى أنّ المعلوم بالإجمال واحد شخصي ، فهذا وإن كان محتملا بالنسبة إلى لفظ « كلّ شيء » ولكن يصرفه عن الواحد الشخصي قرينة وصفه بالاشتمال على الحلال والحرام ، لاستحالة ذلك في الواحد الشخصي فوجب حمله على الواحد النوعي ، فيكون عبارة عن الكلّي المشتمل على فرد حلال وفرد حرام ، فيختصّ الرواية بذلك بالشبهات الموضوعيّة من الشكّ في التكليف ، ولا يندرج فيها نحو المعلوم بالإجمال.

نعم لا يبعد القول باندراجه في قوله : « كلّ شيء لك حلال » في رواية اخرى بجعل « الشيء » عبارة عن الواحد الشخصي.

ولكن يزيّفه : الأمثلة المذكورة في ذيلها ، فقوله : « وذلك يكون مثل الثوب عليك قد اشتريته وهو سرقة ، والمملوك عندك ولعلّه حرّ قد باع نفسه ، أو خدع فبيع أو قهر ، أو امرأة تحتك وهي اختك أو رضيعتك ... إلى آخره (١) لظهورها في مشتبه الموضوع من الشكّ في التكليف ، خصوصا مع ملاحظة قوله عليه‌السلام : « ولعلّه » لقضائه بأن ليس في المقام إلاّ مجرّد الاحتمال.

هذا مع إمكان القول بدخول المعلوم بالإجمال فيما بعد الغاية ، بناء على حمل « بعينه » على معناه الاسمي المرادف لمعنى النفس ، ولا على المعنى الوصفي المراد منه التعيين. فإنّا عرفنا وعلمنا أنّ المعلوم بالإجمال حرام عينه فتأمّل.

سلّمنا لكنّه داخل فيما بعد الغاية الّتي في قوله عليه‌السلام : « والأشياء كلّها على هذا حتّى يستبين لك » غير ذلك (٢) لوضوح أنّ بالعلم الإجمالي استبان لنا في المعلوم بالإجمال غير الحلّيّة ، ولا ريب أنّه أظهر في العموم من قوله : « حتّى تعلم أنّه حرام بعينه » (٣) في خصوص العلم التفصيلي.

فتلخّص من جميع ما قررّناه أنّه لا مانع في اللغة من شمول أدلّة تحريم المحرّمات الواقعيّة للمعلوم بالإجمال من مصاديقها ، والعرف أيضا لا يأباه بل يساعد عليه كما عرفت ،

__________________

( ١ ، ٢ ، ٣ ) الوسائل ١٢ : ٦٠ الباب ٤ من أبواب ما يكتسب به ، ح ٤.

١١٨

وليس في حكم العقل أيضا ما يخالف ذلك ، بل قد عرفت أنّه مستقلّ في الحكم بكفاية العلم الإجمالي في تنجّز التكليف وتوجّه الخطاب بالاجتناب عن المعلوم بالإجمال بالفعل ، فيعصى بارتكابه ويعاقب عليه وليس في الشرع أيضا ما يدلّ على خلاف ذلك ، إذا أقوى ما تمسّك به في المقام على جواز الارتكاب قوله عليه‌السلام : « كلّ شيء فيه حلال وحرام فهو حلال لك ... » (١) إلى آخره ، وقوله أيضا : « كلّ شيء لك حلال حتّى تعلم ... » (٢) إلى آخره ، وقد عرفت الحال فيهما.

وهذا كلّه هو معنى قولنا ـ عند الاستدلال على كون المعلوم بالإجمال مع كونه حراما في الواقع حراما في الظاهر وبالفعل ـ : « لنا : نفس الخطابات الواردة في تحريم العناوين المحرّمة » ومرجعه إلى التمسّك بوجود المقتضي لحرمته فعلا وفقد المانع من اقتضائه.

وقضيّة ذلك حرمة مخالفته بعنوان القطع ، على معنى أنّه يقبح على المكلّف بعد كونه مخاطبا بالاجتناب أن يخالفه من غير عذر وهو قاطع بالمخالفة ، بل يقبح على الشارع أيضا أن يرخّص له في المخالفة بتجويزه الارتكاب ، لأنّه تفويت لمصلحة الواقع وإلقاء للمكلّف في المفسدة المقتضية للحرمة من غير عذر ، ونقض للغرض من جعل الحرمة الواقعيّة عملا بمقتضى المفسدة الواقعية صونا للمكلّف من الوقوع فيها.

وإلى ذلك ينظر ما قد يقال في الاستدلال على منع ارتكاب الشبهة المحصورة دفعة وتدريجا من أنّ الشارع لو جوّز الارتكاب دفعة أو تدريجا لزم عليه مخالفة الحكمة المقتضية للحرمة المودعة في الحرام الواقعي ، وهو قبيح عقلا لا يجوز صدوره منه تعالى شأنه.

فإن قلت : إنّ القبح إنّما هو في ترخيص الشارع في مخالفة الواقع من حيث إنّه مخالفة الواقع ، وأمّا لو جعل للعالم بالإجمال من حيث كونه عالما بالإجمال حكما ظاهريّا يلزم من العمل به مخالفة الحكم الواقعي فلا قبح فيه ، كما لا قبح في جعله الحكم الظاهري للجاهل بوصف أنّه جاهل ، وهو جواز ارتكاب المشتبهات في الوقائع المشتبهة وإن لزم من العمل به مخالفة الواقع في بعض الأحيان.

قلت : إنّما يحسن جعل الحكم الظاهري وإن خالف الحكم الواقعي في موضوع العذر للمكلّف المعذور لا مطلقا ، كالجاهل بالحكم الواقعي ، وكما في محلّ التقيّة وغيرها من

__________________

(١) الوسائل ١٢ : ٥٩ الباب ٤ من أبواب ما يكتسب به ، الحديث الأوّل.

(٢) الوسائل ١٢ : ٦٠ الباب ٤ من أبواب ما يكتسب به ، ح ٤.

١١٩

أنواع الضرورة ، وأمّا في غير موضع العذر فجعل الحكم الظاهري المخالف للحكم الواقعي دائما بل أحيانا قبيح البتّة ، والعلم الإجمالي أو كون العلم إجماليّا مع تمكّن المكلّف من الامتثال لا يعدّ عذرا في نظر العقل ، ولذا يستقلّ في الحكم بكفايته في توجّه الخطاب ، فلا يصحّ عقلا أن يجعل له نظير ما جعل للجاهل خصوصا مع أدائه إلى دوام مخالفة الواقع.

هذا مع أنّ جعل الحكم الظاهري خلاف الأصل ، ولا يكفي في التزامه الاحتمال ولا في وقوعه الإمكان على فرض تسليمه ، وإنّما خرجنا عن الأصل والتزمناه في الجاهل لدليله ، ولا دليل عليه هنا عدا ما عرفت من الخبرين.

وقد عرفت الحال فيهما فيبقى أدلّة الواقع المعتضدة بحكم العقل المستقلّ سليمة عمّا يوجب الخروج عنها.

هذا ولكن العمدة هو المنع العقلي ، فإنّ ترخيص الشارع في فعل المحرّم الواقعي مع علم المكلّف بتحريمه في الواقع ينافي حكمة الشارع ، لكونه تفويتا لمصلحة الترك على المكلّف أو إيقاعا له في مفسدة الفعل وكلاهما قبيحان ، مع كونه نقضا للغرض من جعل الحرمة الواقعيّة ، مع أنّ المعصية ومخالفة التكليف الفعلي الناشئ عن العلم بالحكم الواقعي وموضوعه ولو إجمالا في موضع العلم من غير عذر وضرورة قبيح عقلا.

ومن المستحيل على الشارع أن يأذن المكلّف في القبيح العقلي الّذي لم يطرءه جهة محسّنة له أو رافعة لقبحه ، ولا يتفاوت الحال في قبحه عند العقل بين صدور هذه الإذن بعنوان كونها إذنا في المخالفة ، أو بعنوان جعل حكم ظاهري مخالف للحكم الواقعي المعلوم متضمّن للإذن في المخالفة.

نعم إنّما لا يقبح هذه الإذن أو الجعل المتضمّن لها حيث لم يكن المأذون فيه مخالفة في نظر المكلّف وإن كانت مخالفة في علم الشارع ، كما في الجاهل في الوقايع المجهولة فإنّ ارتكابها باعتبار جهالة الحكم الواقعي لم يتبيّن في نظره كونه مخالفة ، لذا لا يقبّحه العقل بل يجوّزه ، فلا يكون ترخيص الشارع فيه إذنا في ارتكاب القبيح ، وليس فيه منافاة لحكمة الشارع من جهة اخرى ، بل منع الجاهل من الفعل وإلزامه على الترك في الواقع بحيث يتضمّن ترتّب المؤاخذة والعقوبة ينافي حكمته باعتبار كونه لغوا وتكليفا بلا بيان ومؤاخذة ما لا سبيل للمكلّف إلى معرفته ولا إلى امتثاله ، وليس فيه تفويت لمصلحة الترك على المكلّف ولا إيقاع له في مفسدة الفعل ، ولا نقض للغرض من جعل الحكم الواقعي في

١٢٠