تعليقة على معالم الاصول - ج ٦

السيّد علي الموسوي القزويني

تعليقة على معالم الاصول - ج ٦

المؤلف:

السيّد علي الموسوي القزويني


المحقق: السيد علي العلوي القزويني
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
المطبعة: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ١
ISBN: 964-470-559-9
الصفحات: ٤٨٦

وإن قال : بأنّه يبقى هذا العامّ بلا مورد.

قلنا : يكفي في مورده الشبهات المحصورة والشبهات الحكميّة قبل الفحص ، وبالنسبة إلى من تمكّن من العلم ، وغير ذلك من الشبهات الحكميّة الوجوبيّة حيث يعمل فيها بالاحتياط وأصل الاشتغال.

وثانيا : بأنّ نحو قوله عليه‌السلام : « من أخذ بالشبهات ارتكب المحرّمات وهلك من حيث لا يعلم » (١) وارد في سياق التزهيد والتوريع وحمل المكلّف الجاهل على تحصيل مرتبة الزهد والورع ، فغاية ما يستفاد منها كون ارتكاب الشبهات خلاف الاولى فيكره ويستحبّ اجتنابها ، كما يرشد إليه المرويّ عن كفاية النصوص عن الكليني بسنده عن عليّ بن محمّد الخزّاز عن أبي الحسن عليه‌السلام في حديث في ذمّ الدنيا « إنّ في حلالها حسابا وفي حرامها عقابا ، وفي الشبهات عتابا ، فأنزل الدنيا منزلة الميتة ، وخذ منها ما يكفيك إن كان حلالا كنت قد زهدت فيها ، وإن كان حراما لم تكن أخذت من الميتة ، وإن كان العتاب فالعتاب سهل يسير (٢) ».

وفيها موضع آخر من الدلالة على عدم وجوب الاجتناب ، حيث خصّ الشبهات بالعتاب ، وهو دون العقاب ويترتّب على فعل المكروهات وترك المستحبّات ، وقد يعبّر عنه باللوم ويفرّق بينه وبين الذمّ ويقال : إنّ الذمّ ما يترتّب على ترك الواجب واللوم على ترك المستحبّ ، فأقصى ما يقتضيه العتاب هو كراهة ارتكاب الشبهات واستحباب اجتنابها.

وثالثا : أنّ قوله عليه‌السلام : « من أخذ بالشبهات ... » إلى آخره ، عامّ من جهات عديدة فيخصّص بقوله عليه‌السلام : « كلّ شيء مطلق ... » إلى آخره ، لكونه خاصّا بالشبهة الحكميّة ، وتخصيص الأكثر المتوهّم مشترك اللزوم ، لأنّه إنّما يلزم بإخراج الشبهات الموضوعيّة ولا يندفع بدخول الشبهات الحكميّة لقلّتها ، والحاسم لمادّة هذا الإشكال إبقاء الرواية على عمومها وحملها على كراهة الارتكاب ونحوها.

ورابعا : بمنع دلالتها على وجوب الاجتناب ومنع الارتكاب ، فإنّ قوله عليه‌السلام : « من ترك الشبهات نجى عن المحرّمات » يقضي بالملازمة الواقعيّة الدائميّة بين الترك والنجاة ، كما أنّ قوله عليه‌السلام : « من أخذ بالشبهات ارتكب المحرّمات » أيضا يقضي بالملازمة الواقعيّة بين الأخذ والارتكاب ، والملازمة الاولى وإن كانت مسلّمة إلاّ أنّ الملازمة الثانية في بعض

__________________

(١) الكافي ١ : ٦٨ ، ح ١٠.

(٢) كفاية الأثر : ٢٢٧.

٨١

تقاديرها محلّ منع وفي البعض الآخر غير مجدية.

وتوضيحه : أنّ الأخذ بالشبهات إمّا أن يحمل على الأخذ بجميعها على حدّ العموم المجموعي ، أو على الأخذ بكلّ واحد منها على حدّ العموم الأفرادي ، وعلى الثاني فالملازمة الواقعيّة بينه وبين ارتكاب المحرّمات إمّا أن تكون دائميّة أو تكون غالبيّة أو تكون أحيانيّه.

والملازمة في الأوّل وإن كانت مسلّمة ، لوضوح أنّ الأخذ بجميع الشبهات يلازم ارتكاب محرّم واقعي لا محالة ، إلاّ أنّه لا يصلح جهة للمنع عن الارتكاب ، كما لا يصلح لها على مذاق الخصم في الشبهات الموضوعيّة ، فإنّ ارتكابها كذلك يلازم ارتكاب محرّمات واقعيّة لا محالة بالبداهة ، وهو ملغى في نظر الخصم ولا يؤثّر في منع الارتكاب.

وهي في الوجه الثاني ممنوعة ، ولا يسوغ تنزيل الرواية عليها صونا لها عن وصمة الكذب ، كما أنّها في الوجه [ الثالث ](١) أيضا ممنوعة ، وإنّما يلزم غلبة ارتكاب المحرّمات الواقعيّة لو دخلت الشبهات الموضوعيّة أيضا في الرواية ، ومفروض كلام الخصم خروجها ، والشبهات الحكميّة التحريميّة بأنفسها في غاية القلّة ، ولا يلازم الأخذ بها بمجرّدها غلبة ارتكاب المحرمات.

وهي في الوجه الرابع مسلّمة إلاّ أنّ الهلاك في قوله : « وهلك من حيث لا يعلم » إمّا أن يراد به الهلاك الاخروي أعني العقاب ، أو الهلاك الدنيوي الّذي يترتّب على فعل المحرّم الواقعي من باب الخاصيّة كسميّة السمّ ونحوها ، والأوّل ممّا لا يجوز تنزيل الرواية عليه لقبح العقاب عقلا على مخالفة الحرمة الواقعيّة المجهولة ، والثانية مسلّم إلاّ أنّه أيضا لا يصلح جهة للمنع عن الارتكاب ، كما لا يصلح لها في الموضوعات الخارجيّة على رأي الخصم ، فلا دلالة للرواية في شيء من وجوهها على وجوب اجتناب الشبهات وحرمة ارتكابها ، بل غاية ما يسلّم إنّما هو الدلالة على أولويّة الاجتناب ولا كلام فيها.

وأمّا العقل : فيقرّر بوجهين :

أحدهما : أصل الاشتغال الّذي هو أصل عقلي يجري فيما علم اشتغال الذمّة وشكّ في البراءة ، لاستقلال العقل بأنّ الاشتغال اليقيني يستدعي يقين البراءة باتّفاق من المجتهدين والأخباريّين ، وأمّا صغرى هذا الأصل فلأنّا قبل مراجعة الأدلّة الشرعيّة علمنا إجمالا

__________________

(١) وفي الأصل : « الثاني » وهو سهو منه قدس سرّه والصواب ما أثبتناه في المتن.

٨٢

بالبديهة بأنّ في الشريعة محرّمات كثيرة اشتغلت ذمّتنا بوجوب تركها أجمع على وجه اليقين ، وبعد مراجعة الأدلّة وإن ظهر جملة من تلك المحرّمات المعلومة بالإجمال إلاّ أنّه لم يحصل بذلك القطع بالخروج عن عهدة الترك الواجب علينا ، بل القطع به موقوف على ترك كلّ ما احتمل كونه منها إذا لم يكن دليل شرعي على حلّيته وإباحته ، إذ مع وجود هذا الدليل يقطع بعدم العقاب على الفعل وإن لم يقطع بإباحته في الواقع.

فصار المحصّل : أنّه يجب تحصيل اليقين بالبراءة إمّا بيقين الخروج عن العهدة ، أو بيقين عدم العقاب على الفعل ولو مع الحرمة واقعا.

والجواب عن ذلك :

أوّلا : النقض بالشبهات الحكميّة الوجوبيّة ، لحصول العلم الإجمالي من جهة الضرورة قبل النظر في الأدلّة الشرعيّة بأنّ في الشريعة واجبات كثيرة اشتغلت ذمّتنا بالتكليف بإتيانها أجمع على وجه اليقين إلى آخر ما ذكره.

وثانيّا منع اشتغال الذمّة بأزيد ممّا أمكن تحصيل العلم التفصيلي أو الظنّ التفصيلي من جهة الأدلّة الشرعيّة به ، فإنّ شرط تنجّز التكليف بالنسبة إلى الأحكام الواقعيّة المجعولة في الوقائع المصحّح للعقاب على مخالفتها إنّما هو العلم الإجمالي مع التمكّن من العلم التفصيلي بها أو ما يقوم مقام العلم التفصيلي ، ومنه فتوى الفقيه بالنسبة إلى المقلّد ، ولذا لا يكون الجاهل المقصّر في الأحكام المتمكّن من العلم التفصيلي بها أو ما يقوم مقامه معذورا في جهله ، ويصحّ عقابه على مخالفة تلك الأحكام وأمّا غير العالم بالإجمال كالغافل أو العاجز عن العلم التفصيلي وما يقوم مقامه فذمّته ليست مشغولة بتكليف إلزامي في الوقائع المجهولة وإن كانت الأحكام المجعولة لها في الواقع هي الأحكام الإلزاميّة من وجوب أو حرمة ، ويقبح عقلا مؤاخذته وعقابه على مخالفة تلك الأحكام ، وعليه مبنى ما تقدّم في تقرير الدليل العقلي على أصل البراءة من قبح التكليف بلا بيان ، وقبح المؤاخذة على مخالفة ما لا سبيل للمكلّف إلى العلم به من الوجوب أو الحرمة الواقعيّين.

وكلامنا في باب أصل البراءة مفروض في صورة العجز عن تحصيل العلم بالحكم الواقعي وما يقوم مقامه ، ولذا يشترط في إعماله الفحص أو اليأس عن الدليل المعتبر ، فالعقل الحاكم بقبح المؤاخذة والعقاب على مخالفة الحكم الواقعي المجهول لا يحكم مع ذلك بوجوب ترك كلّ ما احتمل كونه من المحرّمات الواقعيّة ، ولا بوجوب إتيان كلّ ما احتمل كونه من الواجبات الواقعيّة من جهة أصل الاشتغال ، ويرجع ذلك إلى اليقين بعدم

٨٣

العقاب على الفعل مع الحرمة واقعا ولا على الترك مع الوجوب واقعا ، فهذا أحد الأمرين ممّا وجب تحصيله على المكلّف لتحصيل اليقين بالبراءة على معنى خلوّ ذمّته عن التكليف الإلزامي ، حسبما اعتبره المستدلّ في تقرير الدليل.

وثالثا : أنّ الضابط في إعمال أصل الاشتغال بعد العلم بأصل الاشتغال إنّما هو الشكّ في المكلّف به الّذي لا يؤول إلى الشكّ في أصل التكليف ، وبعد إخراج المحرّمات المعلومة أو المظنونة كان الشكّ في الباقي شكّا في أصل التكليف فيرجع فيه إلى أصل البراءة ، ولا مجرى معه لأصل الاشتغال ، لعدم بقاء احتمال الاشتغال بعد الحكم بالبراءة ، على معنى خلوّ ذمّة المكلّف عن التكليف المشكوك فيه ، وإن احتملت الواقعة من حيث هي للحكم الإلزامي المجعول لها في الواقع.

وثانيهما : كون الأصل في الأفعال الغير الضروريّة الحظر ، كما عليه طائفة من الإماميّة ، فيعمل به حتّى يثبت من الشرع الإباحة ، والمفروض فيما لا نصّ فيه عدم ورود الإباحة فيه بالخصوص ، وأمّا الإباحة بالعموم على تقدير تسليم دلالة ما ورد فيه فهو معارض بما ورد من الأمر بالوقف أو الاحتياط ، فلا بدّ من الرجوع إلى الأصل.

وعن الشيخ الاحتجاج عليه في العدّة « بأنّ الإقدام على ما لا يؤمن المفسدة فيه كالاءقدام على ما يعلم فيه المفسدة (١) ».

ومحصّله : كون الإقدام على ما احتمل فيه الضرر حراما باعتبار كون دفع الضرر المحتمل واجبا ، وقد تقدّم في تضاعيف الدليل العقلي على أصل البراءة في الشبهة الوجوبيّة نسبة الجزم بذلك عن السيّد أبي المكارم في الغنية (٢).

وجوابه : فساد تفريع ما نحن فيه على مسألة الحظر والإباحة ، ثمّ منع الأصل ، ثمّ منع مدركه المشار إليه.

أمّا الأوّل : فبناء على ما استظهرناه في مقدّمات المسألة المشار إليها من كلمات القولين بالإباحة والحظر من إرادة الإباحة والحظر الواقعيّين ، والكلام فيما نحن فيه إنّما هو في استعلام الحكم الظاهري بعد الوقف في الحكم الواقعي المردّد بين الحرمة وغير الوجوب.

وأمّا الثاني : فلما حقّقناه ثمّة من أنّ الحقّ مع المبيحين إن أرادوا بالإباحة مجرّد عدم الحرج في الفعل ، لتطرّق المنع إلى حكم العقل بالحظر خصوصا الحظر الواقعي.

__________________

(١) العدة ٢ : ٧٤٢.

(٢) الغنية ٢ : ٣٦٣.

٨٤

وأمّا الثالث (١) : فلما قرّرناه في تضاعيف المسألة المشار إليها عند الكلام على أدلّة الحاظرين وفي تضاعيف بيان الدليل العقلي على أصل البراءة في الشبهة الحكميّة الوجوبيّة من منع إعمال قاعدة وجوب دفع الضرر المحتمل فيما نحن فيه بما لا مزيد عليه ، ولا نطيل الكلام بإعادته هنا.

وملخّص ما قدّمناه في الموضعين إمّا منع احتمال الضرر أو منع وجوب دفعه. ولو بقى هاهنا تتمّة فلعلّنا نتعرّض لها عند الكلام في الشبهة التحريميّة في الموضوع.

فتقرّر بجميع ما سمعت أنّ الأصل فيما لا نصّ فيه من الشبهة الحكميّة التحريميّة هو البراءة ، على معنى عدم وجوب الاجتناب عن المشتبه من جهة الاحتياط وغيره ، ولو عبّر في مكانها بالإباحة فلا بدّ أن يراد بها مجرّد عدم الحرج في فعل المشتبه.

وأمّا الإباحة بمعنى التسوية بين الفعل والترك حسبما أنشأها المنشئ فلا بدّ في الالتزام بها من دليل آخر غير ما تقدّم من أدلّة الأصل ، لأنّها لا تفيد أزيد من البراءة بمعنى خلوّ ذمّة الجاهل عن الإلزام بالترك. وعدم ترتّب العقاب على الفعل ، حتّى قوله عليه‌السلام : « كلّ شيء مطلق حتّى يرد فيه نهي » (٢) فإنّ أقصاه الإطلاق بمعنى خلوّه عن قيد التكليف.

ثمّ الظاهر أنّه لا فرق فيه في الواقعة المشكوكة بين ما يعمّ به البلوى وغيره ، كما هو المشهور بين المجتهدين وعليه المحقّق أيضا في المعارج ، على ما هو ظاهر إطلاق عبارته المحكيّة : من « أنّ الأصل خلوّ الذمّة عن الشواغل الشرعيّة ، وإذا ادّعى مدّع حكما شرعيّا جاز لخصمه أن يتمسّك بالبراءة الأصليّة ، فيقول : لو كان ذلك الحكم ثابتا لكان عليه دلالة شرعيّة لكن ليس كذلك فيجب نفيه ، وهذا الدليل لا يتمّ إلاّ ببيان مقدّمتين :

إحداهما : أنّه لا دلالة عليه شرعا ، بأن ينضبط طرق الاستدلالات الشرعيّة ويبيّن عدم دلالتها عليه.

والثانية : أن يبيّن أنّه لو كان هذا الحكم ثابتا لدلّت عليه إحدى تلك الدلائل ، لأنّه لو لم يكن عليه دلالة لزم التكليف بما لا طريق للمكلّف إلى العلم به ، وهو تكليف بما لا يطاق ، ولو كانت عليه دلالة غير تلك الأدلّة لما كانت أدلّة منحصرة فيها ، لكنّا بيّنا انحصار الأحكام في تلك الطرق ، وعند ذلك يتمّ كون ذلك دليلا [ على ] نفي الحكم » انتهى (٣).

خلافا له في المعتبر فخصّ العمل بالأصل بما يعمّ به البلوى على ما اشتهر نسبته إليه ،

__________________

(١) وفي الأصل : « الثاني » بدل « الثالث » وهو سهو منه رحمه‌الله والصواب ما أثبتناه في المتن.

(٢) الفقيه ١ : ٣١٧ ، ح ٩٣٧.

(٣) المعارج ٢١٢ ـ ٢١٣.

٨٥

لكن لنا في النسبة نظرا ، لأنّ الّذي يظهر من كلامه المنقول اختياره التفصيل المذكور في أصل آخر يعبّر عنه بأنّ عدم الدليل على حكم دليل على عدم ذلك الحكم ، الّذي جعله أحد أقسام الاستصحاب حيث قال :

« الثالث : ـ يعني من أدلّة العقل ـ الاستصحاب وأقسامه ثلاثة :

الأوّل : استصحاب حال العقل وهو التمسّك بالبراءة الأصليّة ، كما يقال : الوتر ليس واجبا لأنّ الأصل براءة الذمّة ، ومنه أن يختلف العلماء في حكم الدية بين الأقلّ والأكثر كما في دية عين الدابّة المتردّدة بين النصف والربع ـ إلى أن قال ـ :

الثاني : أن يقال : عدم الدليل على كذا فيجب انتفاؤه ، وهذا يصحّ فيما يعلم أنّه لو كان على هذا دليل لظفر به ، أمّا لا مع ذلك فيجب التوقّف ، ولا يكون ذلك الاستدلال حجّة ، ومنه القول بالإباحة لعدم دليل الوجوب والحظر.

الثالث : استصحاب حال الشرع ، فاختار أنّه ليس بحجّة (١) بل إطلاقه القول باستصحاب حال العقل بمعنى التمسّك بالبراءة الأصليّة مع تقييد القسم الثاني بما عرفت يعطي إطلاق قوله بالبراءة الأصليّة.

وكيف كان فنحن نتكلّم على هذا التفصيل ونقول : إنّه إنّما يستقيم إذا كان النظر في أصل البراءة إلى الواقع ، ليصحّ نفيه فيما يعمّ به البلوى بعدم وجود الدليل عليه ، لقضاء العادة بأنّه لو كان لظفرنا به ، فعدمه يدلّ على انتفاء الحكم الواقعي من وجوب أو حرمة.

ويدفعه : ما بيّنّاه مرارا من أنّ أصل البراءة بموضوعه ناطق بأن لا تعرّض فيه للواقع بإثبات ولا نفي ، بل هو متكفّل لبيان حال ذمّة المكلّف من حيث خلوّه عن التكليف الإلزامي ، وعدم العقاب على ارتكابه المشتبه مع إمكان خلوّ الواقعة من حيث هي عن الحكم الإلزامي ، على معنى عدم كون حكمها المجعول هو الوجوب أو الحرمة ، أو كون حكمها أحدهما مع عدم ورود دليل لبيانه لمصلحة ، أو مع وروده ولكن لم يبلغ إلينا ، أو بلغ مع اشتباه دلالته ، أو اتّضح دلالته مع اشتغاله بمعارضة مثله ، وهذا لا يتفاوت فيه الحال بين عموم البلوى بالواقعة وعدمه لعموم أدلّته.

وقضيّة ذلك العموم عدم الفرق أيضا في العمل به بين الأعيان من مشروب أو مأكول أو مطعوم حتّى اللحوم ، فلو شكّ في حرمة لحم حيوان وحلّيّته بعد إحراز طهارته ـ ولو بحكم الأصل ـ وقابليّته للتذكية كلحم الحمير مثلا ، يعمل فيه بالأصل المقتضي للحلّيّة ولو

__________________

(١) المعتبر ١ : ٣٢.

٨٦

بمعنى عدم الحرج في فعله. وما يقال : من أنّ الأصل في اللحوم الحرمة ، فإنّما يسلّم في اللحوم الجزئيّة المشتبهة بشبهة الموضوع باعتبار الشكّ في وقوع التذكية عليه وعدمه ، كاللحم المطروح أو المأخوذ من يد كافر ونحوه ، ممّا انتفى فيه يد المسلم وسوقه ، ولم يوجد فيه أثر يد المسلم أيضا. ومنه الجلد المطروح ونحوه ، ممّا يعتبر في حلّيّته التذكية من أجزاء الحيوان المأكول لحمه ، لعدم جريان أصل البراءة فيه ، لوجود أصل موضوعي وارد عليه وهو أصالة عدم التذكية. وأمّا اللحوم الكلّية المشتبهة بشبهة الحكم فهذا الأصل ممّا لا أصل له فيها ، إلاّ باعتبار وجوب الاحتياط الّذي منعناه رأسا.

وإذا انجرّ الكلام إلى هذا المقام فاعلم : أنّ لثاني الشهيدين في الروضة كلاما في مسألة الحيوان المتولّد من طاهر ونجس الّذي لم يلحق بأحدهما في الاسم ، ولم يكن له مماثل في الخارج ، المختلف في طهارته ونجاسته حيث قال : « وإن انتفى المماثل فالأقوى طهارته ، وإن حرم لحمه للأصل فيهما (١) ومراده بالأصل في الأوّل أصالة الطهارة الثابتة بالنصّ والإجماع ، ولا إشكال فيه ، وإن كان قد يناقش فيه باستصحاب النجاسة له في بطن الامّ قبل ولوج الروح ، بناء على أنّ ولوج الروح فيه ليس كاستحالة النطفة حيوانا من تبدّل الموضوع.

وفيه أوّلا : منع نجاسة هذا الحيوان في الحالة المذكورة ، إذ لا جهة له إلاّ كونه ميتة أو جزءا مبانا من الحيّ لا تحلّه الحياة ، والكلّ موضع منع ، لأنّه إنّما يسلّم أحد الأمرين إذا سقط قبل ولوج الروح ، وأمّا هو ما دام في بطن امّه وإن لم يصدق عليه الحيّ قبل ولوج الروح إلاّ أنّه لا يصدق عليه الميتة أيضا ولا أنّه جزء مبان من الحيّ ، لأنّ لحياة الامّ علاقة ومدخليّة ولذا ينموا يوما فيوما ، وأمّا إذا خرج بعد ولوج الروح ، فهو حيّ لم يسبقه حالة نجاسة إلاّ حال كونه نطفة وقد خرج عنها بالاستحالة.

وثانيا : بطلانه لتبدّل موضوع المستصحب على تقدير تسليم نجاسته في الحالة المذكورة ، لأنّه كان ميتة وقد صار حيّا ، وإجراء حكم الميتة في الحيّ كما ترى ، فالاستصحاب المتوهّم غير معقول إمّا لمنع الحالة السابقة ، أو لمنع بقاء موضوع المستصحب.

وأمّا الأصل في الثاني فقد يعترض عليه : بأنّ كلامه هاهنا لاستناده بذلك الأصل ينافي كلامه في باب الأطعمة والأشربة ، لبنائه ثمّة على حلّية الأشياء استنادا إلى أصالة الحلّ في الأشياء. (٢)

ويمكن الذبّ عنه : بالتزام خروج اللحوم عن هذا الأصل بانقلابه إلى أصل ثانوي

__________________

(١) الروضة البهيّة ١ : ٢٨٥ ـ ٢٨٦ ، وتمهيد القواعد : ٢٧٠.

(٢) الروضة البهية ٧ : ٣٢١.

٨٧

مخصوص بها ، وإنّما الكلام في معنى ذلك الأصل ومدركه ، ولا يخلو عن إشكال بل الإشكال فيه قويّ ، وإن كان قد يوجّه احتمالا بإرادة أصالة حرمة اللحم الثابتة في حال الحياة على معنى استصحابها.

ويزيّفه ـ بعد فرض قبول هذا الحيوان للتذكية ووقوعها عليه ـ : أنّ الحرمة العرضيّة الثابتة حال الحياة مرتفعة بالتذكية ، والحرمة الذاتيّة من أوّل الأمر غير ثابتة ، فعلى الأوّل لا شكّ وعلى الثاني لا يقين.

وقد يوجّه أيضا ـ كما عن شارح الروضة (١) بأنّ كلاّ من النجاسات والمحلّلات محصورة ، فإذا لم يدخل في المحصور منها كان الأصل طهارته وحرمة لحمه.

وكأنّه مأخوذ عمّا ذكره في تمهيد القواعد (٢) ـ على ما حكي ـ من أنّ المحرّم غير منحصر لكثرته على وجه لا ينضبط ، ولعلّ مرجعه إلى دعوى غلبة الطاهر والحرام على وجه ليس شيء منهما محصورا في عدد ولا محدودا بحدّ ، وقاعدة إلحاق مورد الشكّ بمورد الغالب تقضي بطهارته وحرمة لحمه.

وكيف كان فقد يجاب عنه : بمنع حصر المحلّلات ، بل المحرّمات محصورة ، والعقل والنقل دلّ على إباحة ما لم يعلم حرمته ، ولذا يتمسّكون كثيرا بأصالة الحلّ في باب الأطعمة والأشربة.

والتحقيق أن يقال : إنّ حصر المحلّلات ، إن اريد به المعنى المصطلح الاصولي المتضمّن للإثبات والنفي مع كونه مستفادا من الأدلّة الشرعية ، ففيه : منع واضح ، بل ظاهر بعض الأدلّة حصر المحرّمات ، ومن ذلك قوله تعالى : ( وَما لَكُمْ أَلاَّ تَأْكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللهِ عَلَيْهِ وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ ما حَرَّمَ عَلَيْكُمْ )(٣) وقوله أيضا : ( قُلْ لا أَجِدُ فِي ما أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلى طاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلاَّ أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَماً مَسْفُوحاً أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ )(٤).

وإن اريد به قلّة المحلّلات وغلبة المحرّمات على وجه الخروج عن حدّ الإحصاء ، ففيه أوّلا : منع الصغرى ، بل الإنصاف عدم محصوريّة المحلّلات ولا سيّما في غير اللحوم.

وثانيا : منع الكبرى لأنّ الغلبة ليست من الامور التعبّديّة الصرفة ، بل إنّما يجوز التعويل عليها بناء على الظنون المطلقة حيث أفاد الظنّ باللحوق وهو مع عدم الملازمة محال ، كما

__________________

(١) المناهج السويّة ( مخطوط ) : الورقة ٨٤.

(٢) تمهيد القواعد : ٢٧٠.

(٣) الأنعام : ١١٩.

(٤) الأنعام : ١٤٥.

٨٨

أنّ الملازمة مع العلم بوجود الفرد المخالف للأفراد الغالبة في الحكم بل وكثرته محال.

وقد يوجّه أيضا : بأنّ الحلّ في قوله تعالى : ( قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّباتُ )(١) المفيد للحصر على الطيّب ، فكلّ ما شكّ في كونه طيّبا فالأصل عدم إحلال الشارع له.

وعورض بأنّ التحريم في القرآن معلّق على الخبائث والفواحش ، فإذا شكّ فيه فالأصل عدم التحريم ، ومع تعارض الأصلين يرجع إلى أصالة الإباحة وعموم قوله تعالى : ( قُلْ لا أَجِدُ فِي ما أُوحِيَ إِلَيَ )(٢) وقوله عليه‌السلام : « ليس الحرام إلاّ ما حرّم الله (٣) ».

أقول : « الطيّب » و « الخبيث » ليس فيهما حقيقة شرعيّة ، فيحملان على ما ينساق منهما عرفا ، والخبيث ما يستقذره الطبع والطيّب مقابله ، وقد يكون هذا الحيوان ممّا يستقذره الطبع ، مع أنّ مبنى الأشكال في الحلّيّة والحرمة هاهنا ليس على كونه ممّا يستقذره الطبع أو لا ، وإلاّ عاد الشبهة إلى شبهة الموضوع والأصل فيها الإباحة اتّفاقا.

وقد يوجّه أيضا : بأصالة عدم التذكية من جهة الشكّ في قبوله لها.

ودفع : بأنّ الأصل في الحيوان ـ على ما قرّر في محلّه ـ قبول التذكية.

ويرد عليه أيضا : أنّ قبول التذكية ووقوعها لا يلازم الحلّية ، ضرورة عدم استلزام الأعمّ للأخصّ ، فليس مبنى الأصل المذكور على ما ذكر.

وبالجملة ليس مبنى الشبهة على أنّه يقبل التذكية أو لا ، بل على حرمة لحمه لذاته وعدمها ، ولذا لو فرضنا قبوله التذكية كانت الشبهة من الجهة المذكورة باقية ، مع أنّ الجمع بين الحكم بطهارته وحرمة لحمه يأبى عن الحمل المذكور ، لأنّ أصالة عدم التذكية إن تمّت لقضت بنجاسته أيضا ، لكون النجاسة كالحرمة من أحكام الغير المذكّى الّذي يقال له الميتة.

وتحقيق المقام : أنّ الشبهة التحريم في هذا الحيوان إن كانت ناشئة عن الشكّ في قبوله التذكية فأصالة عدم التذكية ـ على معنى عدم تحقّقها في الخارج ـ في محلّه ، لكونها حاكمة على أصالة الحلّ ، إلاّ أن يثبت أصالة قبول التذكية في الحيوان بدليل اجتهادي معتبر وارد عليها.

وإن كانت حاصلة ولو مع فرض قبوله التذكية فأصالة الحلّ والإباحة محكّمة ولا وارد

__________________

(١) المائدة : ٤.

(٢) الأنعام : ١٤٥.

(٣) الوسائل ١٧ : ٣ ، الباب ١ من أبواب الأطعمة والأشربة ، ح ٤.

٨٩

ثمّ إنّ الاحتياط في الوقائع المحتملة للتحريم بالترك والاجتناب بعد نفي وجوبه لمنع أدلّة وجوبه ممّا لا إشكال في حسنه ورجحانه ، لكونه طريق التخلّص عن الحرام الواقعي المحتمل ، بل ولا مانع من المدح والثواب عليه من جهة الانقياد حسبما بيّنّاه في الاحتياط بالفعل والإتيان في الوقائع المحتملة للوجوب. وأمّا بلوغ الرجحان المذكور إلى مرتبة الاستحباب الشرعي أو الكراهة الشرعيّة للارتكاب فمحلّ إشكال ، بل القدر المسلّم منه من جهة العقل إنّما هو رجحانه الغيري ، كما يظهر وجهه من التعليل المتقدّم بكونه طريقا إلى التخلّص عن الحرام الواقعي ، والأوامر الواردة به بعد صرفها عن الوجوب وإبقاء الاحتياط فيها على المعنى المبحوث عنه باعتبار سياقاتها مطابقة لحكم العقل ، فتكون ظاهرة في الإرشاد لمجرّد الحكمة المذكورة ، فلا يترتّب على موافقتها ومخالفتها سوى الخاصيّة المترتّبة على الفعل والترك ، من التخلّص عن الحرام الواقعي والوقوع فيه على تقدير كون الحكم الواقعي المجعول للواقعة هي الحرمة.

تذنيب : في الشبهة التحريميّة الموضوعيّة إذا كان الاشتباه في موضوع خارجي وجزئي حقيقي مردّد بين كونه فردا للعنوان المحرّم المعلوم حرمته أو العنوان المحلّل المعلوم حلّيته ، كالمائع المردّد بين الخمر والخلّ ، والمرأة المردّدة بين الزوجة والأجنبيّة ، واللحم أو الجلد المردّد بين المذكّى والميتة ، إلى غير ذلك ممّا لا يحصى كثرة.

وقد عرفت في مباحث الشبهة الوجوبيّة أنّ الشبهة الموضوعيّة ما لم تكن آئلة إلى الشبهة الحكميّة ليس من شأنها أن يبحث عنها الفقيه ، لكن لمّا كان اشتباه الحكم الشرعي ناشئا عن اشتباه الموضوع بحيث لو زال هذا الاشتباه زال اشتباه الحكم أيضا ، ولو كان السبب في زوال اشتباه الموضوع أصل (١) من الاصول ، كما في مسألة الزوجة المردّدة واللحم المردّد ، فإنّ أصالة عدم الزوجيّة في الاولى وأصالة عدم التذكية في الثاني تقتضي الحرمة ، الّتي هي حكم الأجنبيّة والميتة.

ومن هنا ظهر أنّ الموضوعات المشتبهة المردّدة بين النوع المحلّل والنوع المحرّم على قسمين :

أحدهما : ما وجد فيه أصل من الاصول يعيّن المشبته ويرفع عنه الاشتباه ، وهو المسمّى بالأصل الموضوعي كما في المثالين المتقدّمين ، والحكم في هذا القسم تابع لما يقتضيه الأصل ويعيّنه من الموضوع ، فإن أفاد دخوله في المحلّل فحكمه الحلّية ، وإن أفاد دخوله في المحرّم فحكمه التحريم ، وعلى التقديرين لا يجري فيه أصل البراءة لا على وجه

__________________

(١) كذا في الأصل ، ولعلّ الصواب : أصلا.

٩٠

يعارض الأصل المذكور ولا على وجه يعاضده ، ووجهه يعلم ممّا تقدّم في مفتتح الباب من أنّ الأصل كما لا يصلح معارضا للدليل كذا لا يصلح معاضدا له.

وثانيهما : ما لا يوجد فيه شيء من الاصول الرافعة لاشتباه الموضوع كما في مسألة المائع المردّد بين الخلّ والخمر ، وهذا هو محلّ الكلام في هذا المقام.

فنقول : إنّ الحكم فيه هو البراءة ، على معنى جواز الارتكاب وعدم الاجتناب وعدم العقاب على الفعل لو صادف الحرام الواقعي ، للأصل العامّ المستفاد من الأدلّة المتقدّمة ، ولا سيّما الإجماع لكون العمل بالأصل هنا وفاقيّا عند الفريقين ، والإجماعات المنقولة فيه بالغة فوق حدّ الاستفاضة ، بل ربّما ادّعي تواترها.

وأظهر ما يدلّ عليه هنا من السنّة قوله عليه‌السلام : « كلّ شيء فيه حلال وحرام » إلى آخره (١) فإنّه لو لم يكن ظاهرا في شبهة الموضوع فلا أقلّ من عدم ظهوره في شبهة الحكم أيضا فيعمّ النوعين ، وإلاّ فقد عرفت أنّه لا ينحلّ إلاّ الموضوع.

ويقرب منه بل يوافقه في الدلالة على المطلب رواية مسعدة بن صدقة « كلّ شيء لك حلال حتّى تعلم أنّه حرام بعينه فتدعه من قبل نفسك ، وذلك مثل الثوب يكون عليك ولعلّه سرقة ، أو العبد يكون عندك ولعلّه حرّ قد باع نفسه أو قهر فبيع أو خدع فبيع ، أو امرأة تحتك وهي اختك أو رضيعتك ، والأشياء كلّها على هذا حتّى يستبين لك غير هذا أو يقوم به البيّنة » (٢) كما استدلّ به العلاّمة في التذكرة (٣) وتبعه جماعة ممّن تأخّر عنه.

وإن كان قد يتأمّل في صحّة الاستدلال بها باعتبار أنّ الحلّية في الأمثلة المذكورة فيها إنّما هي من مقتضى اصول اخر غير أصل البراءة كقاعدة اليد في الأوّلين ، وأصالة عدم تحقّق النسب والرضاع في الأخير ، بحيث لو قطع النظر عن تلك الاصول كان مقتضى الاصول الموضوعيّة الموجودة فيها ـ وهو استصحاب بقاء ملك الغير في الأوّل ، وأصالة الحرّيّة في الإنسان المشكوك في رقّيته في الثاني ، وأصالة عدم تأثير العقد في الثالث ، المانعة عن جريان أصل البراءة فيها ـ هو الحرمة ومنع التصرّف ، فلا مجرى لأصل البراءة في شيء منها ، ومع ذلك كيف يستدلّ عليه بهذه الرواية.

فإنّه يندفع بعموم « كلّ شيء » في الصدر ، وعموم « الأشياء كلّها على هذا » لوضوح أنّ

__________________

(١) الوسائل ١٢ : ٥٩ ، الباب ٤ من أبواب ما يكتسب به ، ح ١.

(٢) الوسائل ١٢ : ٦٠ الباب ٤ من أبواب ما يكتسب به ، ح ٤.

(٣) التذكرة ١ : ٥٨٨ ( الطبعة الحجريّة ).

٩١

فإنّه يندفع بعموم « كلّ شيء » في الصدر ، وعموم « الأشياء كلّها على هذا » لوضوح أنّ التمثيل لا يفيد التخصيص ، والاعتبار إنّما هو بعموم المقال لا بخصوص المثال ، والعامّ صدرا وذيلا يتناول جميع الموضوعات الخارجيّة وجد فيها أصل آخر مقتض للحلّية غير أصل البراءة أو لا ، وجد أصل موضوعي مقتض للحرمة أو لا ، فيندرج فيه ما لا يوجد فيه الأصلان كما فيما نحن فيه.

غاية ما هنالك لزوم تخصيص في العموم بالقياس إلى ما يوجد فيه أصل موضوعي لم يحكم عليه أصل آخر غير أصل البراءة ، كاللحم المطروح ونظائره بما سنشير إليه من طريق هذا التخصيص ، بل في ذيل الرواية باعتبار الغاية الموجودة فيه دلالة واضحة على أنّ الأصل في الأشياء هو الحلّية من غير حاجة لها إلى دليل ولا بيّنة ، وإنّما المحتاج إليهما هو الحرمة.

ويمكن الاستدلال هنا بطريق العقل الحاكم بقبح التكليف بلا بيان أيضا ، بتقريب : أنّ الموضوع المشتبه المردّد بين حلال وحرام لو وجب اجتنابه وترتّب العقاب على ارتكابه لزم التكليف بلا بيان ، واللازم باطل لقبح التكليف بلا بيان عقلا.

أمّا الملازمة : فلأنّ وجوب الاجتناب عن هذا الموضوع إمّا من جهة الحرمة الواقعيّة المجعولة للعنوان المحرّم المشكوك في اندراج هذا الموضوع فيه ، أو أنّه حكم ظاهري مجعول للواقعة الشخصيّة المشكوك في حكمها الواقعي الملحوظة بهذا الوصف العنواني.

ولا سبيل إلى الأوّل ، لأنّ هذه الحرمة بالقياس إلى الواقعة مجهولة ، ولا يصحّ خطاب المكلّف بالحرمة المجهولة على وجه ينعقد تكليفا عليه يعاقب عليه ، ويقبح المؤاخذة والعقاب على مخالفته.

ولا إلى الثاني لأنّ الحكم الظاهري أيضا يحتاج إلى بيان والمفروض عدم حصوله لانتفاء الدليل عليه ، وأخبار الاحتياط قد ظهر حالها مع أنّ العاملين بها في الشبهات الحكميّة لم يعملوا بها هنا.

وتوهّم أنّ الشارع بيّن حكم الخمر بقوله : « الخمر حرام » ومع حصول بيان التحريم للخمر لا يلزم من وجوب الاجتناب عن موضوعه الخارجي الواقعي التكليف بلا بيان.

يندفع بالنقض بأنّه أيضا قد بيّن حكم الخلّ بقوله : « الخلّ حلال » ووجهه : أنّ التحريم الّذي بيّنه الشارع للخمر الواقعي لو كان كافيا في وجوب الاجتناب عمّا احتمل كونه خمرا لكان الحلّ الّذي بيّنه الشارع للخلّ الواقعي كافيا في الحكم بحلّية ما احتمل كونه خلاّ.

٩٢

غاية الأمر تعارض الخطابين في الموضوع الخارجي المردّد بين الخمر والخلّ فيتساقطان ، ويرجع معه إلى الأصل المستفاد من العمومات.

هذا مع أنّ البيان المذكور غير كاف في تحقّق البيان وإزاحة العلّة بالقياس إلى الموضوع المشتبه ، لعدم توجّه التحريم المذكور إلى المكلّف في الواقعة الشخصيّة المجهولة.

ألا ترى أنّه لو قال السيّد لعبده : « أكرم العالم ولا تكرم الفاسق » لا يذمّ العبد على إكرام ما احتمل كونه فاسقا ، وترك إكرام ما احتمل كونه عالما ، بل على إكرام ما علم تفصيلا أو إجمالا كونه فاسقا ، وعلى ترك إكرام ما علم كذلك كونه عالما.

والسرّ في ذلك ، أنّ الخطاب الوارد في عنوان كلّي لا يوجب بالقياس إلى الموضوعات الخارجيّة تكليفا إلاّ فيما علم كونه من مصاديق ذلك العنوان تفصيلا أو إجمالا ، كما لو كان أحد الامور المحصورة مع الاشتباه ، فالتكليف الفعلي الّذي عليه مدار الثواب والعقاب في موضوع الحكم الواقعي ومصاديقه الخارجيّة مشروط بالعلم بأحد قسميه ، والمفروض انتفاؤه في المقام ، والمشروط عدم عند عدم شرطه بالضرورة ، فلا تكليف في المورد من جهة التحريم المذكور وإن كان بحسب الواقع من مصاديق متعلّقه.

وبالتأمّل فيما ذكرناه يظهر أنّه لا مجال لأن يقال : إنّ الألفاظ موضوعة للمعاني الواقعيّة ومنها الخمر ، وإذا حرّمه الشارع وجب الاجتناب عن كلّ ما احتمل كونه خمرا في الواقع من باب المقدّمة العلميّة ، فالعقل لا يقبح العقاب على ارتكاب الموضوع المشتبه خصوصا على تقدير مصادفته الحرام الواقعي ، ومرجعه إلى إعمال قاعدة الشغل اليقيني المستدعي ليقين البراءة ، وهو لا يحصل إلاّ باجتناب ما ذكر.

وملخّص الاندفاع : منع الاشتغال اليقيني في الأفراد المحتملة الّتي لا يشوبها علم أصلا ، وإنّما يسلّم ذلك في الأفراد المعلومة تفصيلا فلا حاجة في البراءة عنه إلى مقدّمة ، والأفراد المعلومة بالإجمال في شبهة محصورة وهو المحتاج إلى المقدّمة العلميّة وهو الاجتناب عن جميع أطراف الشبهة ، فلا يقين بالاشتغال فيما نحن فيه ليجب مقدّمة اليقين بالبراءة عنه.

وبالجملة قاعدة الاشتغال مقصورة على موارد الشكّ في المكلّف به الّذي لا يؤول إلى الشكّ في التكليف ، ولا يكون إلاّ إذا دار المكلّف به بين متبائنين ، كما لو دار الخمر الواقعي مثلا بين المتّخذ من العنب والمتّخذ من الشعير ، أو دار مصداقه الخارجي بين هذا وذاك كما

٩٣

في الإنائين المشتبهين ، فيجب الاجتناب عن الجميع في الصورتين مقدّمة ليقين البراءة ، ومرجع الاشتباه في الفرد المردّد إلى الشكّ في التكليف الصرف وإن كانت قضيّة قوله عليه‌السلام : « الخمر حرام (١) » متيقّنة ، لوضوح أنّ محمول القضيّة في لحاظ الصدق على شيء يتبع موضوعها في الصفات النفسانيّة من العلم والجهل والظنّ والشكّ ، وإذا كان صدق موضوع هذه القضيّة المتيقّنة على الفرد المردّد مشكوكا كان صدق محمولها عليه أيضا مشكوكا ، ومع هذا الشكّ فالعقاب على ارتكابه قبيح عقلا.

نعم الاحتياط باجتنابه خروجا عن مخالفة النهي الواقعي المحتمل ممّا لا إشكال في حسنه ولا يمكن الاسترابة فيه ، إلاّ أنّه لا يبلغ حدّ اللزوم الشرعي.

وأمّا ما يتوهّم من منع جريان حكم العقل هاهنا بملاحظة ما في الفرد المشتبه من احتمال الضرر الواجب دفعه عقلا ، فيقال : « هذا ما يحتمل فيه الضرر ، وكلّ ما يحتمل فيه الضرر يجب اجتنابه دفعا للضرر المحتمل ».

ففيه : ما مرّ مرارا من منع احتمال الضرر إن اريد به الاخروي ـ أعني المؤاخذة والعقاب ـ لأنّ العقل المستقلّ بقبح التكليف بلا بيان وقبح المؤاخذة على مخالفة الحرمة المجهولة خصوصا على تقدير عدم مصادفة الحرام الواقعي يؤمننا من الضرر ، ومنع وجوب دفعه مع مطلق الاحتمال إن اريد به الدنيوي من قساوة ونحوها ، وإنّما يجب دفعه إذا كان مظنونا أو محتملا بالاحتمال العقلائي الّذي معياره حصول الخوف في النفس ومنه حكم العقل بوجوب دفعه عند وجود مايع محتمل السمّية وإن فرض تساوى الاحتمالين من جميع الوجوه ، بل ومع رجحان عدمها في بعض الأحيان ، بل ربّما أمكن منع وجوب دفعه مع الظنّ أيضا إذا كان ممّا يتسامح فيه عند العقلاء كالقساوة وعدم استجابة الدعاء ونحوهما ممّا لا يرجع إلى زوال عقل أو هلاك نفس أو ظهور نقص في البدن أو حدوث مرض أو شدّته أو بطئه.

وبهذا يندفع ما قيل : من أنّه قد يقوم أمارة غير معتبرة شرعا على الحرمة فيظنّ الضرر فيجب دفعه ، مع انعقاد الإجماع في العمل بالأصل على عدم الفرق بين الشكّ والظنّ الغير المعتبر ، فإنّ ما يحصل به الظنّ الغير المعتبر إذا لم يكن ضررا لا يتسامح فيه عند العقلاء

__________________

(١) التهذيب ١ : ٢٧٩ ، ح ٨٢١ ، الاستبصار ١ : ١٨٩ ، ح ٦٦٣ ، الوسائل ٢ : ١٠٥٦ الباب ٣٨ من أبواب النجاسات ، ح ٩.

٩٤

لا يجب دفعه عند العقل ، بل نقول : إنّ قوله عليه‌السلام : « كلّ شيء لك حلال ... » (١) إلى آخره كما يدلّ على الترخيص في ارتكاب المشتبه ولازمه نفي الضرر الاخروي ، كذلك يدلّ على عدم وجوب دفع الضرر الدنيوي المحتمل فيه ، ولا يلزم به على ما بيّنّاه تخصيص في حكم العقل إمّا لعدم قضاء العقل بوجوب دفع كلّ ضرر ولا مع كلّ احتمال ، أو لأنّ حكم العقل بوجوب دفعه فيما يحكم به إرشاديّ صرف لا يقصد به إلاّ مجرّد التخلّص عن الضرر المحتمل ، فلا يترتّب على موافقته ومخالفته سوى ما يترتّب على الفعل والترك ، فلا ينافيه عدم الوجوب الشرعي الّذي يترتّب على مخالفته العقاب ، ولا يلزم من ترخيص الشارع في الوقوع على الضرر الدنيوي قبح عليه إمّا لكون الضرر ممّا يتسامح فيه عند العقلاء ، أو لكفاية العقل الموجود فيه في الإرشاد إلى دفعه وإن لم يترتّب على تركه عقاب من الشارع ووظيفة الشارع بيان ما يرجع إليه من المؤاخذة وعدمها ، أو لأنّ التعويل على ترخيص الشارع في الارتكاب ربّما يصير ترياقا يندفع به الضرر الّذي في قوّة الحصول على تقدير مصادفة الحرام الواقعي ، فليتدبّر.

ولكن لا يخفى عليك أنّ إثبات أصل البراءة في الموضوعات بطريق العقل على الوجه المذكور إنّما يتمّ حيث لم يمكن تحصيل العلم والمعرفة ، ولم يكن طريق إلى رفع الاشتباه ولو بواسطة أصل من الاصول المشخّصة للموضوعات ، إذ لا يأبى العقل عن المؤاخذة على مخالفة الحرمة الواقعيّة عند مصادفة الحرام الواقعي فيما أمكن معرفته ، وحينئذ فطريق إثبات الأصل في هذه الصورة منحصر في الأدلّة الاخر ، ويكفي فيه إطلاق قوله : « كلّ شيء لك حلال ... الخ ». مضافا إلى ما دلّ على عدم وجوب الفحص للعمل به في الموضوعات كما سنبيّنه.

المطلب الثالث

من الشكّ في التكليف في دوران الأمر بين الوجوب والتحريم لشبهة حكميّة أو موضوعيّة ، والمراد به ما انتفى فيه احتمال غيرهما من إباحة أو استحباب أو كراهة ، إذ مع احتماله كانت المسألة ممّا يتركّب من دوران الأمر بين الوجوب وغير التحريم ، أو بين التحريم وغير الوجوب ، فيعلم حكمها ممّا عرفت فيهما من البناء على البراءة في نفي

__________________

(١) الكافي ٥ : ٣١٣ ، ح ٤٠ ، التهذيب ٤ : ٢٢٦ ، ح ٩٨٩ ، الوسائل ١٢ : ٥٩ الباب ٤ من أبواب ما يكتسب به ، الحديث الأول.

٩٥

التكليف الإلزامي وجوبا أو تحريما.

والمراد من دوران الأمر بينهما لشبهة حكميّة أن يكون اشتباه الحكم الشرعي المجعول للواقعة من حيث هي ناشئا من قيام الدليل على أحدهما من دون تعيين لفقد الدليل على التعيين ، أو إجمال الدليل الوارد فيه ، أو تعارض الدليلين ، ومنه ما اختلفت الامّة فيه على قولين مع اتّفاق الفريقين على نفي الثالث ، فهل يجوز طرحهما معا عملا بأصل البراءة فيهما ـ على معنى خلوّ ذمّة المكلّف عن التكليف الإلزامي بفعل ولا بترك وعدم العقاب على شيء منهما ، وإن كان الحكم المجعول للواقعة من حيث هي لا يخلو عن أحدهما ـ أو يجب الأخذ بواحد منهما على معنى الالتزام به ثمّ العمل على طبقه على التعيين أو التخيير بينه وبين الآخر بدويا أو استمراريّا ، أو الوقف من حيث الطرح والأخذ ثمّ التخيير في العمل بدوا أو استمرارا؟

وقد يقال : إنّ محلّ هذه الوجوه ما لو كان كلّ من الوجوب والتحريم توصّليّا بحيث يسقط بمجرّد الموافقة ، إذ لو كانا تعبّديين محتاجين إلى قصد امتثال التكليف أو كان أحدهما المعيّن كذلك لم يكن إشكال في عدم جواز طرحهما والرجوع إلى الإباحة ، لأنّه مخالفة قطعيّة عمليّة.

وفيه نظر ، لأنّ محصّل معنى طرحهما معا عملا بالأصل إلغاء الشارع لهما وعدم ترتيب آثار التكليف عليهما من المؤاخذة والعقاب لا على الفعل ولا على الترك ، لكون الجهل بنوع التكليف بعد العلم بجنسه في نظره كالجهل بجنس التكليف رأسا في كونه عذرا مانعا عن اشتغال الذمّة بالمجهول ولو كان مجعولا في الواقع ، بل ربّما كان الجهل بالنوع أولى بالمنع من الجهل بالجنس مع احتماله ، لإمكان امتثاله بالاحتياط بالفعل في محتمل الوجوب والترك في محتمل الحرمة في الثاني دون الأوّل ، لا بالفعل لاحتمال الحرمة ولا بالترك لاحتمال الوجوب.

وقضيّة ذلك كلّه كون المخالفة مغتفرة عند الشارع التزاميّة كانت أو عمليّة ، احتماليّة كانت أو قطعيّة ، ولا يفترق الحال في ذلك بين كون كلّ منهما أو أحدهما المعين تعبّديّا أو توصّليّا ، بل قضيّة الفرض عدم لزوم المخالفة العمليّة ، لأنّ الّذي يقبح في الشرع والعقل إنّما هو المخالفة العمليّة ، للتكليف الإلزامي الشاغل للذمّة فعلا لا مخالفة مطلق الحكم الإلزامي

٩٦

المجعول للواقعة من حيث هي وإن لم يتوجّه إلى المكلّف بالفعل ولم يشتغل ذمّته به فعلا لمانع.

نعم لو ثبت بالدليل أنّ الّذي ألغاه الشارع من آثار التكليف المعلوم المردّد بين نوعي الوجوب والتحريم إنّما هو وجوب الموافقة القطيّة لتعذّرها لا حرمة المخالفة القطعيّة في العمل اتّجه الفرق المذكور ، لكن مرجعه إلى منع جريان أصل البراءة بالتزام اشتغال الذمّة في محلّ البحث بالتكليف المردّد وهذا قبل إبطال احتمال الالغاء بالمعنى المذكور أوّل المسألة.

وكيف كان فلا يبعد القول بالطرح والإلغاء بالتزام جريان أصل البراءة النافي لاشتغال الذمّة بالتكليف المردّد ، ونتيجته جواز الفعل والترك وعدم الحرج فيهما ، على معنى كونه الحكم المجعول للواقعة الملحوظة بوصف الجهالة ، إلاّ إذا كان هناك مانع آخر من الفعل كما لو كان عبادة وقلنا بحرمته من حيث التشريع فيختصّ المنع حينئذ بصورة الإتيان به بداعي المشروعيّة لا مطلقا ، وذلك لعموم أدلّة الأصل المذكور كتابا وسنّة ، فإنّ قوله تعالى : ( وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً )(١) ـ بعد تسليم نهوض دلالته على أصل البراءة ، بناء على كون بعث الرسول كناية عن تبليغ الأحكام الواقعيّة ـ ظاهر في البلوغ الكافي في إزاحة العلّة ، ولا ريب في عدم بلوغ كلّ من الوجوب والتحريم في تلك الواقعة إذا اخذ بانفراده ، وبلوغ الأمر المردّد غير كاف في إزاحة العلّة ، وإنّ كلاّ منهما ممّا حجب الله علمه عن العباد بالخصوص فيكون موضوعا عنهم ، وإنّ كلاّ منهما بالخصوص ممّا لا يعلمه الامّة فيكون مرفوعا عنهم ، ومعنى الرفع والوضع على ما تقدّم رفع جميع آثارهما أو خصوص المؤاخذة ، والأمر المردّد غير خال عن أحدهما ، فتكون المؤاخذة مرفوعة عنه أيضا. والورود في قوله عليه‌السلام : « كلّ شيء مطلق حتّى يرد فيه نهي (٢) » أو أمر على رواية الشيخ ظاهر في بلوغ أحدهما على وجه يعلمه المكلّف بعينه ، فصدق فيما نحن فيه أنّه لم يرد فيه نهي ولا أمر.

هذا كلّه مضافا إلى حكم العقل المستقلّ بقبح المؤاخذة والعقاب على مخالفة ما لا سبيل للمكلّف إلى معرفته من الحكم الواقعي المعيّن عند الله ، وعلى مخالفة ما لا سبيل له إلى امتثاله وموافقته من الأمر المردّد بين الوجوب والتحريم.

وممّا يكشف عن صحّة حكم العقل هنا بناء العقلاء في نظائر المسألة ، كما في العبد المطيع إذا بلغه من سيّده تارة وجوب قتل زيد واخرى تحريمه ، فإنّه لا يذمّ بعدم التزامه

__________________

(١) الاسراء : ١٥.

(٢) الفقيه ١ : ٣١٧ ، ح ٩٣٧.

٩٧

بأحدهما ما دام متحيّرا ، ولا على ترك العمل على مقتضاهما بل كان تركه العمل عليه إلى أن يزول الاشتباه مستحسنا.

وتوهّم أنّ طرح الحكم الواقعي المعلوم بالإجمال أيضا قبيح عقلا.

يدفعه : منع اللزوم إن اريد به نفيه عن الواقعة بحسب الواقع ، ومنع بطلان اللازم إن اريد به نفي اشتغال الذمّة به فعلا تعويلا على الأصل المدلول عليه بالعقل والنقل. هذا ولكنّ الإنصاف أنّ إعمال أصل البراءة في نحو ما نحن فيه في غاية الإشكال ، لتطرّق المنع إلى دعوى عموم أدلّته لما نحن فيه ، لانصراف اللفظيّة منها إلى ما لا علم فيه للمكلّف بأصل التكليف لا نوعا ولا جنسا ، وأمّا العقل وإن كان يحكم بقبح العقاب على ما لا سبيل للمكلّف إلى معرفته ولا إلى امتثاله ولو بطريق الاحتياط ولكنّه لا يأبى وجوب الأخذ بأحدهما المعيّن أو المخيّر فيه والعقاب على مخالفته إذا ساعد عليه دليل ، وما تقدّم في مثال بناء العقلاء لا يقضي بكون عدم الالتزام بشيء من الوجوب والحرمة لأجل التعويل على الأصل النافي لاشتغال الذمّة بالتكليف المردّد بينهما ، ولا ينافي كونه لأجل التوقّف عن الطرد والأخذ والتخيير في العمل ما دام التحيّر.

وتحقيق المقام : أنّ إشكال المسألة إن كان في صحّة توجّه الحكم الإلزامي المعيّن في الواقع المردّد بين نوعي الوجوب والتحريم في الظاهر إلى المكلّف عقلا وتعلّقه به وكونه شاغلا لذمّته ، فالحقّ هو المنع القبح العقلي ، لوجود ما هو مناط حكم العقل بقبح التكليف بلا بيان وهو عدم تمكّن الامتثال وتعذّره هاهنا أيضا ، إذ لا فرق في عدم تمكّن الامتثال بين الجهل بأصل الإلزام وبين الجهل بنوعه ، بل هو في الثاني أوضح كما لا يخفى. فعدم البيان المأخوذ في موضوع حكم العقل أعمّ من عدم بيان أصل الإلزام ومن عدم بيان نوعه المردّد بين الايجاب والتحريم ، وقضيّة ذلك جواز كلّ من الفعل والترك بالمعنى اللازم للتخيير الاستمراري.

وبهذا اندفع ما عساه يتوهّم من أنّ المسألة من الشكّ في المكلّف به بعد اليقين بالتكليف ، لمكان العلم بالطلب الإلزامي مع الشكّ في أنّ متعلّقه الفعل أو الترك ، ومن حكم هذا الفرض وجوب القطع بالموافقة المستلزم لمنع المخالفة القطعيّة حيث أمكن ولو بطريق الاحتياط ، وأمّا مع عدم إمكانه كما فيما نحن فيه سقط وجوب القطع بالموافقة وبقي لازمه وهو المنع من المخالفة القطعيّة.

٩٨

وقضيّة ذلك دوام اختيار الفعل أو الترك بالمعنى اللازم للتخيير البدوي ، إذ باختيار الفعل تارة والترك اخرى يلزم القطع بالمخالفة.

ووجه الاندفاع : منع اليقين بالتكليف إن اريد به اليقين باشتغال الذمّة بالحكم الإلزامي المعيّن في الواقع المردّد في نظر المكلّف ، بعد ملاحظة قبح التكليف بلا بيان عقلا من غير فرق فيه بين عدم بيان أصل الإلزام وعدم بيان نوعه.

وإن كان الإشكال ـ بعد البناء على عدم توجّه الحكم المذكور إلى المكلّف ـ في الحكم الظاهري المجعول للواقعة بملاحظة جهالة نوع حكمها الواقعي ، وأنّه هل هو الإباحة ، أو وجوب الأخذ باحتمال التحريم ثمّ العمل بمقتضاه ، أو التخيير بين الأخذ به أو الأخذ باحتمال الوجوب ثمّ العمل بمقتضاه ، ومرجعه إلى أنّ الأصل في نحو الواقعة المردّد حكمها الواقعي بين الوجوب والتحريم من حيث الحكم الظاهري هل هو الإباحة أو الحظر أو التخيير؟ فالحقّ فيه المنع عن الجميع.

أمّا الإباحة فلعدم نهوض دليل من العقل والنقل عليها إن اريد بها المعنى الإنشائي ، ليكون حكم الواقعة الملحوظة على الوجه المذكور الإباحة الشرعيّة ، بل القدر المسلّم إنّما هو جواز كلّ من الفعل والترك بمعنى عدم الحرج فيهما الّذي هو لازم عقلي لخلوّ الذمّة عن الإلزام.

وأمّا ما قد يتخيّل من أنّ الجهة في عدم جواز كون الحكم الظاهري هو الإباحة كونها مخالفة للحكم الواقعي في محلّ العلم به ، لمكان العلم بأصل الإلزام الّذي هو حكم واقعي ، وجعل حكم ظاهري مخالف للحكم الواقعي المعلوم غير سائغ.

ففيه : منع واضح ، إذ الحكم الظاهري المخالف للحكم الواقعي إنّما لا يصحّ جعله حيث علم الحكم الواقعي بجنسه ونوعه ولم يكن هناك مانع عقلي ولا شرعي عن العمل به ، فلا حجر في جعله مخالفا له ولو في موضع العلم به مع منع المانع ، ومن هذا القبيل الأحكام المعلّقة على التقيّة المعدودة عندهم من الأحكام الظاهريّة ، وبذلك علم أنّه لا يلزم من الرجوع إلى الأصل في نحو المسألة طرح الحكم الواقعي ، ولا خرق الإجماع المركّب فيما لو اختلفت الامّة على قولين مع اتّفاق الفريقين على نفي الثالث.

أمّا الأوّل : فلأنّه إبقاء للحكم على حاله واتّباع للحكم الظاهري الّذي هو مؤدّى الأصل ، لتعذّر الوصول إلى الحكم الواقعي أو تعذّر العمل بمقتضاه ، غاية ما هنالك مخالفة الحكم الظاهري له ، ولا مانع منها بعد مساعدة الدليل على الأصل المذكور.

٩٩

وأمّا الثاني : فلأنّ خرق الإجماع المركّب عبارة عن إحداث قول ثالث منفيّ بالإجماع على أنّه حكم واقعي في المسألة ، ووجه عدم جوازه كونه في معنى تكذيب الإمام الّذي هو في أحد القولين بالفرض على طريقة أصحابنا في الإجماع ، واتّباع الحكم الموجود في المسألة بمقتضى الأصل المأذون فيه شرعا ليس إحداثا للقول الثالث المنفيّ بالإجماع بالمعنى المذكور.

وبما بيّنّاه ظهر أنّ ما عليه بعض أصحابنا في المسألة المشار إليها إذا لم يدلّ على أحد القولين دليل قطعي أو ظنّي من التمسّك بمقتضى العقل من حظر أو إباحة ـ على معنى الرجوع إلى الأصل العقلي المقتضي للحظر أو الإباحة بعد تسليمه والبناء على صحّته ـ ممّا لا بأس به ولا ينبغي الاسترابة فيه ، وأنّ ردّ الشيخ له في العدّة (١) بعد اختياره القول الآخر منها وهو التخيير بأنّه يوجب طرح قول الإمام عليه‌السلام ليس بسديد ، لعدم كون اتّباع الأصل المفيد للحكم الظاهري تكذيبا للإمام في قوله الّذي هو حكم واقعي تعذّر الوصول إليه لجهالته ، إلاّ على تقدير حمل الحظر والإباحة في كلام الحاظرين والمبيحين على الواقعيّين منهما كما استظهرناه في محلّه ، وحينئذ إنّما يلزم المحذور إذا كان مؤدّى الأصل المرجوع إليه مخالفا للقولين لا مطلقا ، مع أنّ ما اختاره من التخيير أيضا يوجب ذلك المحذور إن أراد به التخيير الواقعي كما فهمه المحقّق قدس‌سره ، ولذا اعترضه : « بأنّ في التخيير أيضا إبطالا لقول الإمام ، لأنّ كلاّ من الطائفتين يوجب العمل بقوله ويمنع من العمل بالقول الآخر ، فلو خيّرنا لاستبحنا ما حظّره المعصوم » انتهى (٢).

نعم إنّما يسلم مختاره عن هذا الاعتراض لو أراد به التخيير الظاهري ، ولعلّه خلاف ما يظهر من كلماته ، وليس المقام محلّ التعرّض لها.

وأمّا وجوب الأخذ بالتحريم ليكون الأصل هو الحظر وإن قيل به في المقام إلاّ أنّه أيضا ممّا لا يساعد عليه دليل يعوّل عليه ، وإن كان يمكن أن يستدلّ بل استدلّ عليه بوجوه :

منها : قاعدة الاحتياط ، نظرا إلى كون المسألة من دوران الأمر بين التعيين والتخيير.

ويزيّفه : منع وجوب الاحتياط على ما مرّ مشروحا ، فلا يجب من جهته الأخذ بالتحريم إلاّ أن يراد بها قاعدة الاشتغال ، كما يومئ إليه حديث الدوران بين التعيين والتخيير ، فيزيّفها حينئذ منع جريانها في المقام لمنع كونه من المسألة المشار إليها ، فإنّ

__________________

(١) العدّة ٢ : ٦٣٦ ـ ٦٣٧.

(٢) المعارج : ١٣٣.

١٠٠