تعليقة على معالم الاصول - ج ٦

السيّد علي الموسوي القزويني

تعليقة على معالم الاصول - ج ٦

المؤلف:

السيّد علي الموسوي القزويني


المحقق: السيد علي العلوي القزويني
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
المطبعة: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ١
ISBN: 964-470-559-9
الصفحات: ٤٨٦

المرتضى وجماعة من العامّة على الثاني ويحكى عن المفيد رحمه‌الله المصير إلى الأوّل وهو اختيار الأكثر *

______________________________

ما دامت الضرورة أو ما لم يحدث شيء من النواقض وإن ارتفعت الضرورة ، أو باعتبار تردّده بين مقدارين معلومين لشيئين هو مردّد بينهما ، كما لو علم وجود طائر في بيت إلى زمان ثمّ شكّ بعد ذلك الزمان في بقائه باعتبار تردّده بين العصفور الّذي مقدار استعداده للبقاء سنة مثلا ، والحمامة الّتي مقدار استعداده للبقاء سنتان مثلا.

والمراد بالمانع هاهنا رافع الحالة السابقة مع القطع باستعداده للبقاء لولاه ، والشكّ من جهته إمّا في وجود ما علم كونه رافعا كما لو شكّ في خروج البول أو المني ، أو في رافعيّة ما علم وجوده إمّا لجهالة أصل الرافعيّة كالمذي المشكوك في رافعيّته بحسب الشرع ، أو لجهالة مفهوم الرافع الموجبة للشكّ في اندراج ما علم وجوده فيه وعدمه كالخفقة المشكوك اندراجها في النوم الّذي لا يعلم أنّه مجرّد زوال الحسّ عن العين أو هو مع زواله عن الاذن والقلب ، أو لجهالة حال هذا الّذي علم وجوده من حيث كونه مصداقا للرافع أو لغيره كالبلل المشتبه بين البول وغيره أو المني وغيره ، أو لجهالة المستصحب باعتبار تردّده بين ما يكون الموجود رافعا له وبين ما لا يكون رافعا له ، كالصلاة بلا سورة المشكوك في كونها رافعة لاشتغال الذمّة بالصلاة وعدمه باعتبار تردّده بين الاشتغال بالصلاة مع السورة أو بها لا معها ، وكذا الاشتغال بالصلاة يوم الجمعة المردّدة بين الظهر والجمعة إذا أتى بها جمعة ، فالشكّ في رافعيّته حينئذ إنّما هو باعتبار الاجمال في محلّ الاشتغال.

والظاهر وقوع الخلاف في الجميع بالحجيّة مطلقا وعدمها كذلك ، وقد يفصّل من جهة الشكّ في المقتضي فعدم الحجّية ومن جهة الشكّ في المانع فالحجّية. وقد يفصّل في الرافع أيضا بين الشكّ في وجوده والشكّ في رافعيّته ، فينفي الحجّية في الثاني مطلقا أو إذا لم يكن الشكّ في المصداق الخارجي.

* إطلاق الحكاية يعطي كونهما قولا بنفي الحجّية مطلقا وقولا بإثباتها كذلك والمحصّل من أقوال المسألة مضافا إليهما أحد عشر أو اثنا عشر قولا.

ثالثها : الفرق بين حال الإجماع وحال الشرع فالحجّية في الثاني دون الأوّل ، وهو

٢٨١

المعروف من الغزالي (١).

ورابعها : الفرق بين الامور العدميّة والامور الوجوديّة بالحجّية في الأوّل دون الثاني.

وخامسها : الفرق بين الأحكام التكليفيّة الابتدائيّة والأحكام الوضعيّة أو التكليفيّة التابعة لها بعدم الحجّية في الأوّل والحجّية في الأخيرين ، وعليه الفاضل التوني في الوافية (٢).

وسادسها : الفرق بين الأحكام الشرعيّة كلّية أو جزئيّة والامور الخارجيّة بالحجّية في الأوّلين دون الأخير ، وهو الّذي حكاه الخوانساري في عبارته المتقدّمة (٣).

وسابعها : الفرق بين الحكم الشرعي الكلّي وغيره من الحكم الشرعي الجزئي والأمر الخارجي بالحجّية فيما عدا الأوّل ، وهذا ما عرفت من الأخباريّين (٤).

وثامنها : الفرق بين الحكم الشرعي الجزئي وغيره من الحكم الشرعي الكلّي والأمر الخارجي فالحجّية في الأوّل خاصّة ، وهو الّذي استظهره شارح الوافية ممّا حكاه شارح الدروس (٥).

وتاسعها : الفرق بين ما كان الشكّ فيه من جهة المقتضي فعدم الحجّية وما كان الشكّ من جهة المانع فالحجّية ، وهو الّذي ينطبق عليه المحكيّ عن معارج المحقّق (٦) من اعتباره فيما ثبت استمراره وشكّ في الغاية الرافعة له.

وعاشرها : هذا التفصيل مع اختصاص الحجّية في الشقّ الثاني بصورة الشكّ في وجود المانع ، وهو خيرة المحقّق السبزواري (٧) على ما يظهر من عبارته الآتية.

وحادي عشرها : هذا التفصيل أيضا مع اختصاص الحجّية في الشقّ الثاني بصورتي الشكّ في وجود المانع أو في مانعيّة الموجود باعتبار الاشتباه المصداقي وقد سبق عن المحدّث الاستر آبادي (٨) ما يقضي بكون مختاره الحجّية في جميع صور الشبهة الموضوعيّة وبعض صور الشبهة الحكميّة الّذي ضابطه الشكّ في النسخ ، وحينئذ فإن نزّل عليه ما عرفت من تفصيل الأخباريّين ـ كما صنعه بعض مشايخنا (٩) ـ كانت الأقوال إحدى عشر ، وإن أخذناه قولا برأسه في مقابله كانت إثنى عشر.

__________________

(١) المستصفى ١ : ١٢٨. (٢) الوافية : ٢٠٢.

(٣) انظر مشارق الشموس : ٧٦.

(٤) حكاه عنهم في الرسائل الاصوليّة : ٤٢٥.

(٥) شرح الوافية ( مخطوط ) : ٣٣٩ ، مشارق الشموس : ٢٨١ ـ ٢٨٨.

(٦) المعارج ٢٠٩ ـ ٢١٠.

(٧) الذخيرة : ١١٦ ـ ١١٥.

(٨) الفوائد المدنيّة : ١٤٣.

(٩) فرائد الاصول ٣ : ٣٣.

٢٨٢

وقد مثّلوا له بالمتيمّم إذا دخل في الصلاة ثمّ رأى الماء في أثنائها ، والاتّفاق واقع على وجوب المضيّ فيها قبل الرؤية ، فهل يستمرّ على فعلها بعدها استصحابا للحال الأوّل أم يستأنفها بالوضوء*

______________________________

* ونوقش في هذا المثال بما لا وقع له من عدم انطباقه على الممثّل ، وذلك أنّ محلّ الاستصحاب على ما بيّنه سابقا هو ما لا يقوم دليل على انتفاء الحكم في ثاني الحال ، وعدم قيام دليل على انتفاء حكم التيمّم بعد رؤية الماء محلّ تأمّل ، فإنّ العمومات الدالّة على اشتراط الوضوء على تقدير وجود الماء تنافي بقاء ذلك ، فالقول بالاستصحاب هنا ليس في محلّه.

وفيه : شمول العمومات المذكورة لوجدان الماء في أثناء الصلاة بالدلالة على اشتراط الوضوء في هذه الصلاة ليترتّب عليه استئنافها بالوضوء ليس بواضح بل محلّ منع ، بل القدر المسلّم إنّما هو دلالتها عليه بالعموم ما لم يتلبّس بالصلاة بعد التيمّم ، ولذا فرضوا المثال في صورة وجدانه في أثنائها ، مع أنّ مبنى التمثيلات غالبا على الفرض والتقدير ، فليقدّر المسألة ممّا لم يشمل دليل الحكم الأوّل لثاني الحال وإن لم يكن الواقع كذلك ، ولذا يقال : إنّ المناقشة في المثال غير مستحسن.

والظاهر أنّه من أمثلة الاستصحاب من جهة الشكّ في المقتضي ، باعتبار عدم وضوح مقدار استعداد حكم التيمّم للبقاء ، إذ لا يدرى أنّ مقدار وجوب المضيّ في الصلاة ما لم يرى الماء في الأثناء ، أو ما دام في الصلاة ولو بعد رؤية الماء؟

فما تخيّل من أنّه من قبيل الشكّ من جهة الرافع لأنّ الشكّ في أنّ وجدان الماء في أثناء الصلاة ناقض للتيمّم كما أنّه ناقض له قبلها أو لا؟ بمعزل عن التحقيق ، لأنّ وجدان الماء لو كان له وصف الناقضيّة كالحدث لوجب أن لا يفترق الحال فيه بين أثناء الصلاة وما قبلها كما في الحدث ، ولا معنى معه للشكّ في انتقاضه.

والسرّ في انتقاضه به قبل الصلاة هو أنّ التيمّم وحكمه معلّقان على فقدان الماء ، ووجدانه رافع لهذا الموضوع لكن لا مطلقا بل بشرط تمكّنه بعد الوجدان عن استعماله ، ولذا لو وجده ولم يمض زمان يتمكّن من استعماله فيه فتلف لم ينتقض على الأقوى ، ومنشأ الشكّ حينئذ فيما لو وجده في أثناء الصلاة هو أنّ حكم التيمّم هل يستمرّ إلى ما بعد

٢٨٣

احتجّ المرتضى رضى الله عنه*

______________________________

وجدانه باعتبار أنّ الصلاة المتشاغل بها مانع شرعي عن استعماله ، والمانع الشرعي كالمانع العقلي ، فالتمكّن من استعماله غير حاصل أو لا يستمرّ؟ وهذا شكّ من جهة المقتضي لعدم معلوميّة مقدار الاستعداد للبقاء.

* والأنسب تقديم حجج القول بحجّية الاستصحاب ثمّ التعرّض لبيان حجج النافين. ولمّا ظهر من تضاعيف كلماتنا السابقة أنّ لهم في الاستصحاب طريقتين من حيث العقل ومن حيث التعبّد الشرعي من جهة الأخبار ، فالكلام في تحقيقه يقع في مقامين :

المقام الأوّل : في اعتباره إثباتا ونفيا من جهة العقل.

فنقول : احتجّ المثبتون بوجوه :

أوّلها : ما اعتمد عليه المحقّق في المعارج (١) من أنّ المقتضي للحكم الأوّل ثابت والعارض لا يصلح رافعا له فيجب الحكم بثبوته في الثاني ، أمّا أنّ المقتضي للحكم الأوّل ثابت فلأنّا نتكلّم على هذا التقدير ، وأمّا أنّ العارض لا يصلح رافعا فلأنّ العارض إنّما هو احتمال تجدّد ما يوجب زوال الحكم لكن احتمال ذلك يعارضه احتمال عدمه ، فيكون كلّ واحد منهما مدفوعا بمقابله ، فيبقى الحكم الثابت سليما عن رافع.

وفيه : من الضعف ما لا يخفى ، فإنّ المقتضي للحكم الأوّل ـ أي الحكم في الآن الأوّل ـ إمّا أن يراد به علّة الحكم الّتي هي واسطة في ثبوته كالتغيّر لنجاسة الماء ، والتيمّم لإباحة الدخول في الصلاة ووجوب المضيّ فيها ، أو دليله الّذي هو واسطة في إثباته وعلّة للعلم به كقوله عليه‌السلام : « خلق الله الماء طهورا لا ينجّسه شيء إلاّ ما غيّر لونه أو طعمه أو رائحته (٢) » وقوله تعالى : ( فَلَمْ تَجِدُوا ماءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً )(٣) مثلا. وعلى التقديرين فالمقتضي له إمّا أن اقتضى ثبوته مقيّدا بالآن الأوّل ، أو اقتضاه على وجه الدوام والاستمرار ، أو اقتضاه على وجه الإهمال من دون تعرّض لتقييده بالآن الأوّل ولا دوامه واستمراره.

والأوّل خروج عن محلّ الاستصحاب ، إذ لم يقل أحد من القائلين بالاستصحاب به في نحوه لانتفاء المقيّد بفوات قيده ، وثبوت مثله في الآن الثاني يحتاج إلى مقتض آخر ويستحيل استصحاب الحكم الأوّل إليه ، فبقي الاحتمالان الأخيران ، والفرق بينهما أنّ الدليل

__________________

(١) المعارج : ٢٠٦ ـ ٢١٠.

(٢) الوسائل ١ : ١٠١ ، الباب ١ من أبواب الماء المطلق ، ح ٩.

(٣) المائدة : ٦.

٢٨٤

على أوّلهما منطبق على الشكّ من جهة المانع ، وعلى ثانيهما منطبق عليه من جهة المقتضي.

وعبارة الدليل بقرينة قوله : « فلأنّ العارض [ إنّما هو ] احتمال تجدّد ما يوجب زوال الحكم » وقوله : « فيبقى الحكم الثابت سليما عن رافع » أظهر بل ظاهر كالصريح في الأوّل ، وعليه فنتكلّم على قوله : « فيجب الحكم بثبوته في الآن الثاني » فإمّا أن يراد بالحكم بثبوته المحكوم عليه بالوجوب القطع بثبوته أو الظنّ به ، أو البناء عليه تعبّدا على معنى ترتيب آثار الثابت في الآن الثاني ، والأوّلان باطلان إذ لا موجب للقطع والظنّ بثبوته فيه مع احتمال تجدّد الرافع ـ أي حدوثه ـ بل حصول كلّ منهما مع هذا الاحتمال عند التحقيق محال ، ولا يجدي فيه جعل احتمال تجدّده معارضا باحتمال عدمه وكون كلّ منهما مدفوعا بمقابله ، لأنّ فرض التعارض بينهما واندفاع كلّ بصاحبه ليس إلاّ تحقيقا للشكّ في حدوث الرافع وعدم حدوثه ، وهو يوجب الشكّ في ثبوت الحكم في الآن الثاني وانتفائه ، ولو قطع أو ظنّ ثبوته مع ذلك لزم اجتماع النقيضين.

والثالث أيضا ـ مع خروجه عن الفرض من إثبات الاستصحاب من جهة العقل ـ باطل لافتقاره إلى دليل التعبّد والبناء ، والدليل خال عن ذكره.

وقد يقال : إنّ ظاهره دعوى القطع ببقاء الحالة السابقة واقعا ، فردّ : بأنّه لم يعرف هذه الدعوى من أحد ، واعترف بعدمه في المعارج (١) في أجوبة النافين وصرّح بدعوى رجحان البقاء.

أقول : وكأنّ الوجه في استظهار ذلك ظهور الحكم في قوله : « فيجب الحكم » في دعوى القطع ، ولعلّه الداعي للفاضل الجواد إلى إبدال الحكم في شرحه (٢) بالظنّ ، وإرجاع الاستدلال إلى دعوى حصول المظنّة ببقاء الحالة السابقة.

ويزيّفه على هذا التقدير أنّ حصول الظنّ لا بدّ له من موجب ، وهو إمّا نفس تعارض الاحتمالين فتأثيره في ظنّ البقاء غير معقول ، وإنّما هو مؤثّر في الشكّ في البقاء والارتفاع.

أو الالتفات إلى المقتضي للحكم الأوّل باعتبار ما فيه من عموم أو إطلاق موجب لتناوله الآن الثاني كتناوله الآن الأوّل ، فهو خروج عن محلّ الاستصحاب ، لأنّه إثبات للحكم في الزمان الثاني بنفس دليل الحكم الأوّل لا بالاستصحاب.

أو الالتفات إلى نفس الحكم الثابت في الآن الأوّل ، فهو وإن كان يوافق مذاقهم من جعل المناط في الاستصحاب التعويل على الحالة السابقة غير أنّه إرجاع للدليل إلى الدليل

__________________

(١) المعارج ٢٠٩.

(٢) غاية المأمول ( مخطوط ) : الورقة ١٢٨.

٢٨٥

الآتي ، وسيأتي الكلام فيه.

ويمكن تقرير الجواب عن الدليل بنهج آخر غير ما تقدّم ، وهو : أنّ المراد بالمقتضي إمّا أن يكون سبب الحكم في الواقع وعلّة ثبوته ، أو سبب العلم به وهو دليله وعلّة إثباته.

وعلى التقديرين فإمّا أن يراد به السبب التامّ ـ أي العلّة التامّة الّتي في الأوّل عبارة عن المقتضي المقارن وجوده لوجود شروط الاقتضاء وفقد موانع اقتضائه ، وفي الثاني عبارة عن الدليل التامّ السليم عن المعارض ـ أو السبب الناقض الّذي هو جزء العلّة الّذي في الأوّل عبارة عن المقتضي مع قطع النظر عن تحقّق شروطه وفقد موانعه ، وفي الثاني عبارة عن الدليل مع قطع النظر عمّا يعارضه.

فإن اريد به السبب التامّ الّذي هو العلّة التامّة والدليل التامّ.

ففيه ـ مع أنّه لا يلائم فرض احتمال تجدّد الرافع وفرض التعارض بينه وبين احتمال عدمه ـ : أنّه يوجب الغناء عن الاستصحاب ، ضرورة استحالة تخلّف المعلول والمدلول عن العلّة التامّة والدليل التامّ ، فالحكم في الآن الثاني يثبت بالأوّل في الواقع وبالثاني في الظاهر ، كما ثبت الحكم الأوّل بهما كذلك.

وإن اريد به السبب الناقص أعمّ من أن يكون سببا للحكم الواقعي أو العلم به.

ففيه : أنّا لسنا بصدد إثبات أنّ العارض يصلح لكونه رافعا بل إنّما نطلب المتمّم لما يقتضي ثبوت الحكم في الواقع وحصول العلم به في الظاهر ، وهو عدم المانع في الأوّل وعدم المعارض في الثاني.

وغاية ما أفاده الدليل هو عدم صلاحية كون العارض رافعا وهو لا يوجب العلم بعدم المانع والمعارض ، فمن أين يجيء وجوب الحكم بثبوت الحكم بمجرّد وجود جزء علّته ودليله؟ مع أنّ المعلول لا يثبت والمدلول لا يحصل إلاّ بالعلّة والدليل التامّين ، وهما لا يتمّان إلاّ بعد العلم بعدم المانع والمعارض ، فالمقتضى ـ بالفتح ـ لا يتأتّى إلاّ بعد تماميّة المقتضي ـ بالكسر ـ ولذا صار من ضروريّات العقول أنّ تحقق كلّ شيء يتوقّف على شيئين وجود المقتضي ورفع المانع ، والأخير لم يحرز بالدليل علما ولا ظنّا حتّى ينتج قطع البقاء أو ظنّه.

ولعلّه لأجل ذا كلّه قد يحتمل توجيه الدليل بأن يكون مراده بالمقتضي للحكم دليله ، وأنّ المراد بكونه ثابتا ثبوته في الآن الثاني بأن يكون له عموم أو إطلاق يتناوله ، وأنّ المراد بالعارض احتمال طروّ المخصّص أو المقيّد لذلك ، ومرجعه إلى الشكّ في تخصيص

٢٨٦

العام أو تقييد المطلق ولو للشكّ في مخصّصية شيء موجود أو مقيّديته.

ولا ريب أنّه لا عبرة به في منع العمل بالعموم والإطلاق كما يرشد إليه تمثيله بالنكاح والشكّ في حصول الطلاق ببعض الألفاظ المختلف فيها ، كـ « أنت خليّة ، أو بريّة » فإنّ دليل عقد النكاح المؤثّر في حلّ الوطء وعلاقة الزوجيّة على وجه الدوام إنّما يقتضي في ذلك الدوام لما فيه من العموم الأزماني ، ودليل الطلاق مخصّص له مخرج لزمان وقوعه عن هذا العامّ ، ومع عدم الالتفات إلى احتمال التخصيص أو التقييد يرجع في اثبات الحكم إلى هذا العموم.

وهذا ـ بناء على التوجيه ـ وإن كان بحسب الواقع حقّا وهو الّذي قد يعبّر عنه باستصحاب حال العموم أو الإطلاق كما أشرنا إليه سابقا ، غير أنّه قد عرفت أنّه ليس من الاستصحاب المصطلح المتنازع فيه في شيء ، فالتوجيه المذكور أيضا إخراج للدليل عن محلّ الاستصحاب.

وثانيها : أنّ الثابت في الزمان الأوّل ممكن الثبوت في الآن الثاني وإلاّ لم يحتمل البقاء ، فيثبت بقاؤه ما لم يتجدّد مؤثّر العدم لاستحالة خروج الممكن عمّا عليه بلا مؤثّر ، فإذا كان التقدير تقدير عدم العلم بالمؤثّر فالراجح بقاؤه فيجب العمل عليه.

وفيه : أنّ البقاء في تقدير عدم العلم بالمؤثّر لا يكون راجحا إلاّ إذا كان عدم تجدّد المؤثّر راجحا ، ومجرّد عدم العلم بالمؤثّر لا يستلزمه ، لأنّه قد يجامع رجحان عدم تجدّده ، وقد يجامع رجحان تجدّده ، وقد يجامع تساوي احتمال تجدّده مع احتمال عدمه ، فيكون أعمّ ، والأعمّ لا يستلزم الأخصّ.

وثالثها : أنّ الشيء الفلاني قد كان ولم يظنّ عدمه ، وكلّما هو كذلك فهو مظنون البقاء ، فينتج أنّ الشيء الفلاني مظنون البقاء ، ثمّ يجعل ذلك صغرى لقياس آخر هكذا : أنّ الشيء الفلاني مظنون البقاء ، وكلّ مظنون البقاء يجب العمل عليه ، فالشيء الفلاني يجب العمل عليه.

ويمكن إرجاع الوجه السابق إلى هذا البيان ، فلا بدّ في تتميمه [ من ] إثبات الكبرى في كلّ من القياسين ، فيمكن الاستدلال على كبرى القياس الأوّل ـ وهو حصول الظنّ بالبقاء فيما كان ولم يظنّ عدمه ـ بوجهين :

أحدهما : الوجدان ، وهو أنّا متى ما راجعنا أنفسنا وجدنا فرقا بيّنا بين ما لو كان المشكوك مسبوقا بالوجود وما لو كان مسبوقا بالعدم ، كالزوجيّة المشكوكة إذا شكّ فيها الإنسان في امرأة تارة في حدوثها واخرى في بقائها ، فإنّه يدرك بالوجدان فرقا واضحا

٢٨٧

بينهما ، وليس هذا الفرق إلاّ باعتبار كون زوجيّة هذه المرأة في الأوّل مرجوحة وفي الثاني راجحة ، وهذا هو معنى رجحان بقاء الحالة السابقة وجودا كان أو عدما.

وثانيهما : البرهان ، وهو أنّا نرى أنّ العقلاء قاطبة في جميع الأعصار والأمصار بناؤهم على الاتّكال إلى الحالة السابقة في كلّ شيء ، كما يرشد إليه ما شاع بينهم من إرسال المراسيل والمكاتيب إلى البلاد النائية مع احتمال انهدامها ، وإرسال التحف والهدايا والودائع والأمانات وأموال التجارات إلى النائين مع احتمال موتهم وعدم بقاء حياتهم ، وقراضهم واستقراضهم أموالا إلى أجل بعيد مع احتمال عدم بقاء المقرض أو المستقرض إلى ذلك الأجل ، ومسافرتهم إلى الأصقاع والنواحي والمصارع البعيدة للتجارات أو الزيارات أو مقاصد اخر مع احتمال خرابها وعدم بقائها على حالاتها الّتي لها دخل في نيل القصد ، إلى غير ذلك ممّا لا يحصى كثرة. فبناؤهم هذا مع كونهم شاكّين إمّا أن يكون لمرجّح أو لا لمرجّح ، والثاني ترجيح بلا مرجّح فلا يقدمون عليه. وعلى الأوّل فالمرجّح إمّا طريق ناظر إلى الواقع ونفس الأمر ، أو طريق ناظر إلى الظاهر كالاحتياط الّذي هو عبارة عن اختيار الفعل لرجاء أنّه صادف الواقع. والثاني باطل لأنّا كثيرا مّا نراهم يعتمدون على الحالة السابقة مع كونه خلاف الاحتياط ، مثل أنّهم يرسلون أموالا كثيرة إلى البلاد النائية لعامليهم مع كونهم شاكّين في بقاء العاملين ، وقضيّة الاحتياط في نحو ذلك هو ترك الاعتماد على الحالة السابقة ، كما هو واضح.

وعلى الأوّل فذلك الطريق إمّا أن يكون هو القطع ببقاء الحالة أو الظنّ ، ولمّا كان الأوّل مفروض الانتفاء فتعيّن الثاني وهو المطلوب.

والحاصل أنّ اعتمادهم على الحالة السابقة لا بدّ وأن يكون لمرجّح لاستحالة الترجيح [ بلا مرجّح ] والمرجّح ليس إلاّ الظنّ الحاصل على طبق الحالة السابقة ، وهذا هو المراد من كبرى القياس الأوّل.

وأمّا الدليل على كبرى القياس الثاني وهو حجّيّة الظنّ الحاصل على طبق الحالة السابقة ، فهو أيضا بناء العقلاء في الموارد المشار إليها ، فإنّه كما يكشف عن أصل حصول الظنّ على طبق الحالة السابقة فكذلك يكشف عن حجّيّة هذا الظنّ وجواز العمل عليه ، لأنّه لولاه لا يقدمون على العمل على طبق الحالة السابقة كما لا يخفى.

مضافا إلى أنّه لو لاه لزم ترجيح المرجوح على الراجح ، وذلك لأنّ ترك العمل بالظنون الاستصحابيّة إنّما يصحّ بأحد شيئين :

٢٨٨

الأول : سقوط التكليف في مواردها رأسا.

الثاني : وجود طريق اجتهادي يرجع إليه فيها.

والأوّل خلاف الضرورة القاضية ببقاء التكليف مطلقا حتّى في مظانّ الاستصحاب.

والثاني خلاف الفرض من فقد الدليل الاجتهادي في مجرى الاستصحاب قطعيّا كان أو ظنّيا وإلاّ كان هو المتّبع ولا يعقل معه الاستصحاب ، فبقى احتمالان : أحدهما راجح وهو احتمال بقاء الحالة السابقة ، والآخر مرجوح ، ولا بدّ من الأخذ بأحدهما والأخذ بالثاني ترجيح للمرجوح ، فتعيّن الأخذ بالأوّل.

فإن قلت : إنّ بناء العقلاء إنّما ينهض حجّة حيث كشف عن حكم القوّة العاقلة ، وإنّما يعقل ذلك حيث لم يكن حكم العقل المستقلّ بخلافه ، والعقل مستقلّ بقبح التديّن في دين الله بطريق يشكّ في جواز التعبّد به شرعا وعدمه ، بأن يؤخذ مؤدّاه حكما يتديّن به ، لرجوعه بالأخرة إلى التعبّد بالشكّ والتديّن بالمشكوك ـ وهو قبيح عقلا يذمّ فاعله ـ والظنّ منه ، على ما قرّرناه في تأسيس أصالة حرمة العمل بالظنّ من بحث حجّيّة الظنّ ، ومعه يستحيل استكشاف حكم القوّة العاقلة ببناء العقلاء.

قلت : المدار في اعتبار بناء العقلاء على أحد الأمرين : من الكشف عن حكم القوّة [ لعاقلة ] ومن الكشف عن تقرير المعصوم ، وهو فيما نحن فيه كاشف عن الثاني ، لأنّ عملهم على الظنون الاستصحابيّة ليس أمرا متجدّدا مستحدثا بل هو ثابت من قديم الزمان حتّى زمن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والوصيّ عليه‌السلام ومن المعلوم ضرورة اطّلاعهم عليه وتمكّنهم من الردع ولا سيّما النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الّذي لا يحتمل في حقّه التقيّة ، وعدم ردعهم عنه ، وإلاّ لوصل إلينا كما وصل منعهم عن العمل بالقياس حتّى صار من ضروريّات مذهبنا ، وهذا يكشف عن رضاهم بذلك العمل.

فإن قلت : بناؤهم على هذا لا يكشف عن التقرير أيضا ، لجواز كون عدم ردعهم اكتفاء فيه بالعمومات الناهية عن العمل بما وراء العلم كتابا وسنّة كقوله تعالى : ( لا تَقْفُ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ )(١)( وَإِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً )(٢) وقوله عليه‌السلام : « من شكّ أو ظنّ فأقام عليهما فقد حبط عمله (٣) » ونحو ذلك من الآيات والروايات ، ولكون هذه العمومات كافية

__________________

(١) الإسراء : ٣٦.

(٢) النجم : ٢٨.

(٣) الوسائل ١٨ : ٢٥ ، ١١٣ ، الباب ٦ ، ١٢ من أبواب صفات القاضي ، ح ٨ ، ٧ على الترتيب.

٢٨٩

في ارتداعهم سقط عنهم وجوب الردع فلم يردعوا ، فلا يكشف عن الرضاء.

قلت : انّ الردع الواجب عليهم عليهم‌السلام قد يكون بعنوان ارشاد الجاهل وتنبيه الغافل ، وقد يكون بعنوان الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، ولقد اشير إليهما معا في قوله تعالى : ( وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ )(١) والقدر المسلّم ممّا يسقط بوجود العمومات المذكورة إنّما هو وجوب الردع بالعنوان الأوّل لا الثاني ، لكون مورده العالمين بالأحكام الخائضين في معاصي الله ، وعليه فلو كان العمل على الظنون الاستصحابيّة بمقتضى العمومات المذكورة منكرا لوجب الردع عنه على الإمام لعموم وجوب النهي عن المنكر ، وعدمه يكشف عن عدم المنكريّة ، وهذا ينهض مخصّصا للعمومات المذكورة.

وبالجملة العمومات الدالّة على حرمة العمل بما وراء العلم مسلّمة ، ولكنّها مخصّصة بتقرير المعصوم المكشوف عنه ببناء العقلاء ، كما أنّه يخصّص عمومات حرمة الغيبة بتقريره فيما لو اغتيب بحضرته متجاهر بالفسق وتمكّن من ردعه ومنعه ولم يفعل.

هذا غاية ما يمكن أن يقال في تتميم الاستدلال ، ولكنّه مع ذلك ضعيف لتطرّق المنع إلى كلّ من الكبريين بمنع أدلّة إثباتهما من الوجدان والبرهان.

أمّا الوجدان المدّعى لاثبات الكبرى الاولى : فلأنّ الوجدان السليم يكذّبه.

وتوضيحه : أنّا متى ما راجعنا أنفسنا وجدنا الموارد فيما لو كان المشكوك فيه مسبوقا بالوجود مختلفة ، فربّ مقام يساوي احتمال البقاء لاحتمال عدمه ، كما لو كان الشكّ باعتبار المقتضي كالخيار المشكوك فيه بعد الزمان الأوّل باعتبار شبهة الفوريّة ، وربّ مقام يترجّح فيه احتمال البقاء ، وربّ مقام ينعكس فيه الأمر كما لو غبنا عن زيد بعد ما عرض له مرض يغلب البرء منه أو الهلاك فيه ، فلو شككنا في بقائه وعدمه يترجّح البقاء في الأوّل وعدمه في الثاني ، ولو حمل الظنّ المأخوذ في الكبرى على الظنّ النوعي على معنى أنّ الوجود السابق لو خلّي وطبعه وبنوعه يؤثّر في ظنّ البقاء لئلاّ يقدح فيه اختلاف الموارد ـ وهو الظاهر من عبارة الدليل المحرزة بأنّ الشيء الفلاني قد كان ولم يظنّ عدمه وكلّما كان كذلك فهو مظنون البقاء ، لوضوح عدم الملازمة بين عدم الظنّ بالعدم والظنّ بالبقاء إلاّ بإرادة الظنّ النوعي من مظنون البقاء ـ.

__________________

(١) آل عمران : ١٠٤.

٢٩٠

فيدفعه أيضا : منع قضاء الوجدان بأنّ الوجود الأوّل من شأنه التأثير في ظنّ البقاء وإن لم يؤثّر فعلا في بعض الموارد لوجود مانع ، بل ضرورة الوجدان قاضية بأنّه لو خلّي وطبعه وقطع النظر عن كلّ أمر خارج من غلبة بقاء أو غلبة ارتفاع لا يؤثّر في شيء من ظنّ البقاء وظنّ الارتفاع في شيء من الموارد.

وأمّا البرهان المدّعى من جهة بناء العقلاء.

ففيه : أنّ استقرار بناء العقلاء على العمل على طبق الحالة السابقة في الأمثلة المتقدّمة ونظائرها وأنّه لا بدّ له من موجب لئلاّ يلزم الترجيح من غير مرجّح وإن كان مسلّما ولا يمكن انكاره ، ولكنّ الموجب له على ما نشاهده في الأمثلة المذكورة إنّما هو العلوم العاديّة الموجودة فيها فمعتمدهم على العلم العادي بالبقاء لا غير ، وأمّا استقراء بنائهم على العمل على طبقها ولو مع انتفاء العلم العادي أو كون الموجب له فيما استقرّ بناؤهم عليه هو الظنّ بالبقاء محلّ منع.

وتوهّم أنّ العلم العادي المدّعى وجوده فيها ليس إلاّ الظنّ ، لأنّه عبارة عن الظنّ.

يدفعه : أنّ العلم ليس إلاّ الاعتقاد الجازم الغير المحتمل للخلاف عقليّا كان أو عاديّا بلا فرق بينهما ، إلاّ في أنّ موجبه في الأوّل هو المقدّمة العقليّة وفي الثاني العادة المستمرّة الغير المنتقضة.

غاية الأمر أنّه ربّما يقبل احتمال الخلاف على تقدير الالتفات إلى منشأ الاحتمال ، فما لم يحصل الالتفات إلى منشأ الاحتمال فهو جزم البتّة ، والمعتبر في الظنّ وقوع احتمال الخلاف لا مجرّد قبوله على تقدير الالتفات إلى منشائه ، والقدر المعلوم من بناء العقلاء في موارد الأمثلة المتقدّمة ونظائرها إنّما هو عملهم على طبق الحالة السابقة حال الغفلة عن منشأ احتمال عدم بقاء الحالة السابقة ، وليس هذا إلاّ تعويلا على العلم العادي.

ومع الغضّ عن جميع ذلك وتسليم الظنّ في موارد بناء العقلاء وكونه المعوّل عليه عندهم ، يتطرّق المنع إلى كبرى القياس الثاني ، ومحصّله منع حجّيّة الظنون الاستصحابيّة ووجوب العمل بها ، لكون دليله ـ من بناء العقلاء ولزوم ترجيح المرجوح ـ مدخولا.

أمّا الأوّل : فلأنّ القدر المعلوم من بناء العقلاء إنّما هو في الامور العرفيّة والأحكام المتعلّقة بامور المعاش وهو لا يكشف عن تقرير المعصوم ، ولا يجدي نفعا في حجّيّة الظنّ الاستصحابي في الأحكام الشرعيّة ولا في موضوعاتها إلاّ أن يستقرّ بناؤهم فيها أيضا وهو

٢٩١

غير معلوم ، بل المعلوم خلافه ، لما نشاهده فيها من تحيّرهم عند الشكّ في بقاء حالة سابقة منها ، كمن شكّ في الحدث بعد تيقّن الطهارة أو في الطهارة بعد تيقّن الحدث ، وفي أحكام من غاب غيبة منقطعة من زوجيّة زوجته وماليّة أمواله ونحو ذلك ممّا لا يحصى كثرة ، وتوقّفهم حتّى يرجعوا إلى العلماء ويسألوهم عن حكم الواقعة.

وتوهّم أنّ ذلك لعلّه لما عهدوه وعرفوا من شرعهم من أنّ وظيفة الجاهل في واقعة الرجوع إلى العالم بحكمها وأنّ من وظيفة المقلّد أخذ حكمه في الواقعة المبتلى بها من مجتهده ، غير قادح فيما ذكرناه من عدم استقرار بنائهم في الأحكام الشرعيّة وموضوعاتها على الاستقلال على العمل على طبق الحالة السابقة ولا التعويل على الظنون الاستصحابيّة بل يؤكّده.

ودعوى أنّ ذلك لعلّه لعدم حصول ظنّ لهم ببقاء الحالة السابقة فيها ، رجوع عن إطلاق دعوى حصول هذا الظنّ ووجوب العمل به استدلالا ببناء العقلاء ، وكاف في هدم الاستدلال ومنع ثبوت الاستصحاب من باب حكم العقل.

وأمّا الثاني : فلجواز الرجوع بعد فرض عدم ارتفاع التكليف في موارد الاستصحاب وعدم وجود الطرق الاجتهاديّة الناظرة إلى الواقع إلى الطرق الشرعيّة المتكفّلة لبيان الأحكام الظاهريّة المجعولة للمتحيّر ، كأصلي البراءة والاشتغال وأصالة التخيير كلّ في مجراه ، ولا يخلو موارد الاستصحاب عن هذه الاصول ، فلا يلزم بعد الأخذ بمؤدّاها ترجيح المرجوح ، سواء وافق الحالة السابقة أو خالفها.

ويظهر من السيّد شارح الوافية أنّ أصل حصول رجحان البقاء في الاستصحاب من الواضحات ولكن مشؤه الغلبة ، فقال ـ بعد دعوى رجحان البقاء ـ ، « إنّ الرجحان لا بدّ له من موجب ، لأنّ وجود كلّ معلول يدلّ على وجود علّة له إجمالا ، وليست هي اليقين المتقدّم بنفسه ، لأنّ ما ثبت جاز أن يدوم وجاز أن لا يدوم ، ويشبه أن يكون هي كون الأغلب في أفراد الممكن القارّ أن يستمرّ وجوده بعد التحقّق ، فيكون رجحان وجود هذا الممكن الخاصّ للإلحاق بالأعمّ الأغلب ، هذا إذا لم يكن رجحان الدوام مؤيّدا بعادة أو أمارة وإلاّ فيقوى بهما ، وقس على الوجود حال العدم إذا كان يقينيّا (١) » انتهى.

وتبعه بعض الأعلام قائلا : « بأنّ الوجدان السليم يحكم بأنّ ما تحقّق وجوده أو عدمه

__________________

(١) شرح الوافية ( مخطوط ) : ٣٢٥.

٢٩٢

في حال أو وقت ولم يحصل الظنّ بطروّ عارض يرفعه فهو مظنون البقاء ـ إلى أن قال ـ : وهذا الظنّ ليس من محض الحصول في الآن السابق لأنّ ما ثبت جاز أن يدوم وجاز أن لا يدوم بل لأنّه لمّا فتّشنا الامور الخارجيّة من المعدومات والموجودات وجدناها باقية مستمرّة بوجودها الأوّل غالبا على حسب استعداداتها في مراتبها ، فنحكم فيما لا نعلم حاله بما وجدنا في الغالب إلحاقا بالأعمّ الأغلب » انتهى ما أردنا ذكره هنا (١).

وكلامه رحمه‌الله يتضمنّ دعويين ، إحداهما : قضاء الوجدان بحصول ظنّ البقاء في موارد الاستصحاب.

والاخرى : كون منشؤه الغلبة.

ويرد على الاولى أوّلا : ما أشرنا إليه سابقا من قضاء الوجدان بأنّ الظنّ يتبع خصوصيّات المقامات ويختلف بالقرائن الموجودة فيها ، فقد يظنّ البقاء وقد يظنّ عدمه وقد لا يظنّ شيء منهما.

وثانيا : أنّه يؤدّي في كثير من الصور إلى التناقض ، كما طعن به بعض الأخباريّين على القول بإفادته الظنّ ، وذلك فيما لو فرض حوض ورد فيه الماء تدريجا إلى موضع معيّن منه يشكّ في بلوغه حدّ الكرّ وعدمه ، فقضيّة استصحاب القلّة أو عدم الكرّيّة كون عدم كونه كرّا مظنونا ، ثمّ ورد عليه الماء أيضا إلى أن يبلغ كرّا يقينيّا فما زاد ، ثمّ اخذ من مائه تدريجا إلى أن يصل الموضع الأوّل ، وقضيّة استصحاب الكرّيّة حينئذ كونه مظنون الكريّة ، فيلزم على القول بالظنّ الوجداني على طبق الحالة السابقة القول بأنّ هذا المقدار المعيّن من الماء مظنون كونه كرّا ومظنون عدم كونه كرّا ، وهو ظاهر الفساد ، ولا نظنّ بأحد يعتمد باستصحاب القلّة لا يعتمد باستصحاب الكرّيّة أو بالعكس.

ونحوه مايع بالغ كرّا فصاعدا مشتبه بين الماء والبول فلاقاه طاهر وغسل فيه متنجّس ، فقضيّة استصحاب طهارة الأوّل ونجاسة الثاني حصول الظنّ بكونه ماء وبكونه بولا ، وأنّه واضح الفساد أيضا. والمفروض كون كلّ من الاستصحابين معمولا به ومعوّلا عليه عندهم ، وكذلك المتطهّر بمايع يشكّ في كونه ماء أو بولا مثلا فإنّه يحكم باستصحاب طهارة بدنه وبقاء حدثه مع أنّ الظنّ بهما محال.

وثالثا : أنّه ربّما يفضي إلى تخلّف المعلول عن علّته فيما لو كان الشكّ في البقاء والارتفاع

__________________

(١) القوانين ٢ : ٥٣ ـ ٥٤.

٢٩٣

مسبّبا عن الشكّ في رافعيّة الحادث كالمذي للمتطهّر والرطوبة المردّدة بين الماء والبول إذا أصابت الثوب ، فإن صحّ ظنّ بقاء الطهارة في استصحابها تخلّف الشكّ فيها عن سببها وهو الشكّ في الحادث ، إلاّ أن يدّعى استلزامه الظنّ بعدم الناقضيّة في الأوّل والظنّ بالمائيّة في الثاني.

ويزيّفه ـ مع أنّه ممّا يكذّبه الوجدان ـ أنّه يوجب محذورا آخر في نحو اشتباه القبلة بين جهتين إذا صلّى إلى إحداهما الموجب للشكّ في بقاء الاشتغال ، فإنّ استصحابه يقتضي وجوب الإتيان بها إلى الجهة الباقية ويوجب الظنّ بكونها هي القبلة ، فيلزم الاكتفاء بها في الصلاة الاخرى كالعصر أو العشاء من دون تكرار لهما ، لكفاية ظنّ القبلة لمن تعذّر عليه العلم بها ، وهذا أيضا ضروريّ الفساد.

ورابعا : أنّ الاستصحاب الّذي نجده بأيدي العلماء يتمسّكون به في جميع أبواب الفقه من دون مراعاة ظنّ البقاء ، بل نراهم يتمسّكون به في مقام كان المستصحب مظنونا ، وفيما كان مشكوكا ، وفيما كان موهوما بكون خلافه مظنونا بظنّ غير معتبر ، كما في حكمهم ببقاء الغائب وترتيبهم أحكام الحياة عليه مع ظنّهم بموته من خبر فاسق أو فاسقين ونحوه.

وأقوى ما يفصح عن ذلك أنّ الشهيد قدس‌سره في القواعد عقد بابا لتعارض الأصل والظاهر ، وصار إلى تقديم الأصل على الظاهر مطلقا إلاّ في مواضع نادرة ، وهو المشهور بين الأصحاب ، ولا يعقل مقابلة الأصل للظاهر إلاّ مع كون المستصحب موهوما.

وممّا يشهد به أيضا إطباقهم على تقديم قول المنكر في باب الدعاوي مطلقا مع كون الظاهر كثيرا مّا في جانب المدّعي. وإطلاقهم فيمن تيقّن الطهارة وشكّ في الحدث أو تيقّن الحدث وشكّ في الطهارة بالبناء في الأوّل على الطهارة وفي الثاني على الحدث من دون تقييد له بظنّ البقاء ، وعدم إعلامهم للمقلّدين باشتراطه في البناء على الحالة السابقة ، وكذا فيمن تيقّن طهارة ثوبه أو نجاسته. فهذا كلّه آية عدم إناطة الاستصحاب بظنّ بقاء الحالة السابقة.

لا يقال : هذا كلّه إنّما يتوجّه على تقدير اعتبار الظنّ الشخصي لا على الاكتفاء بالظنّ النوعي ، فيؤول الأمر إلى دعوى أنّ الغلبة بنوعها ولو خلّي وطبعها تفيد الظنّ بالبقاء وإن لم تفده في بعض الموارد لمنع مانع.

لأنّه ممّا يأباه ضابط الغلبة في مواردها من كون المدار في حجّيتها ـ إن قلنا بها ـ على الظنّ الشخصي بلحوق مورد الشكّ بمورد الغالب ، ولأنّ الظنّ النوعي قد يجامع الظنّ الشخصي الغير المعتبر بالخلاف ، وهو لا يلائم قيد « لم يظنّ عدمه » الّذي أخذه العضدي في

٢٩٤

تعريف الاستصحاب بقوله : « الشيء الفلاني قد كان ولم يظنّ عدمه (١) ». وفي معناه ما عرفت في عبارة بعض الأعلام من قوله : « ولم يحصل الظنّ بطروّ عارض يرفعه (٢) » فإنّ قضيّة ذلك أنّه لا استصحاب أو أنّه لا يعتبر مع اتّفاق الظنّ الشخصي الغير المعتبر بخلاف الحالة السابقة.

إلاّ أن يقال : إنّ المراد بالظنّ النوعي هنا ما لا يكون الظنّ الشخصي شرطا ، لا ما لا يكون الظنّ الشخصي بالخلاف مانعا.

ويدفعه : ما سمعت من عمل العلماء على الاستصحاب مع كون المستصحب موهوما أيضا.

ومع الغضّ عن جميع ذلك فيضعف الاستناد إلى الغلبة بعدم نهوضها مؤثّرة في ظنّ البقاء.

وبعبارة اخرى : أنّ الثابتة منها غير منتجة والمنتجة منها غير ثابتة.

وتوضيحه : أنّ قاعدة الإلحاق والاستقراء في كلام أهل الاستدلال نوع من الدليل يعبّر عنه تارة بالاستقراء واخرى بقاعدة الإلحاق ، وهما لا يتغايران إلاّ باعتبار الحيثيّة ، فمن حيث إنّه يحرز به كبرى كلّيّة يقال له : الاستقراء ، ومن حيث إنّه يستنتج منه حال مورد الشكّ يقال له : قاعدة الإلحاق. ولذا ذكرنا في غير موضع أنّ الاستقراء الذّي يتمسّك به لإلحاق مورد الشكّ بمورد الغالب ينحلّ إلى حجّتين : إحداهما الاستقراء المنطقي وهو تصفّح الجزئيّات لينتقل من حالها إلى حال الكلّي الصادق عليها وعلى المشكوك فيه جنسا كان أو نوعا أو صنفا ، ومعنى الانتقال من حالها إلى حال الكلّي انكشاف الملازمة قطعا أو ظنّا بين الكلّي والوصف الموجود في الجزئيّات وكون ذلك الوصف من لوازم الكلّي. فيتحصّل منه قضيّة كلّيّة تؤخذ كبرى لوانضمّ إليها صغرى فرضيّة موضوعها الفرد المشكوك الحال لحصل قياس من الشكل الأوّل ، وهذا هو الحجّة الاخرى.

ومن هنا يقال : إنّ الاستدلال بالاستقراء لغرض الإلحاق لا يتمّ إلاّ بامور ثلاث :المستقرأ له ليتحصّل منه صغرى هذا القياس.

والمستقرأ فيه وهو الأفراد الغالبة الّتي وجدت على وصف ليحرز به الكبرى الكلّيّة.

والجامع بينهما الصادق عليهما ليتكرّر به الأوسط ويتعدّى الأكبر منه إلى الأصغر وهو المستقرأ له.

ويتّضح هذه المراتب كلّها بملاحظة الفرد المشكوك فيه من الحبشي بعد تصفّح جزئيّاته ووجدان الغالب منها على وصف السواد ، فينتظم القياس هكذا : « هذا حبشي ، وكلّ

__________________

(١) انظر شرح مختصر الاصول ٢ : ٤٥٤.

(٢) القوانين ٢ : ٥٧.

٢٩٥

حبشيّ أسود ، فهذا أسود » أمّا الصغرى فبحكم الفرض ، وأمّا الكبرى فبحكم الاستقراء ، وأمّا النتيجة فبحكم كون المشكوك فيه من أفراد الكلّي الملازم لوصف الجزئيّات المستقرأ فيها.

ثمّ إن كانت الكبرى قطعيّة كما في الاستقراء التامّ فالنتيجة أيضا قطعيّة ، وإن كانت ظنّية كما في الاستقراء الناقص فالنتيجة أيضا ظنّية ، وضابط قطعيّة الكبرى وظنّيتها هو العلم بعدم وجود فرد مخالف أو الظنّ بعدم وجوده.

فما قد يتوهّم ـ من أنّ الغلبة قسم من الاستقراء لأنّه على قسمين تامّ وهو تصفّح تمام الجزئيّات لإثبات حكم كلّي ، وناقص وهو تصفّح أكثر الجزئيّات لإثبات حكم كلّي سواء وجد المخالف ـ أعني الفرد النادر المخالف للأكثر ـ أو لم يوجد ، والثاني كثير ، والأوّل مثل التمساح.

وحينئذ يرتّب القياس حين الشكّ في الفرد هكذا : « هذا حيوان ، وكلّ حيوان يحرّك حنكه الأسفل عند المضغ إلاّ التمساح ».

وبعبارة اخرى : أنّ الاستقراء الناقص الّذي هو تصفّح أكثر الجزئيّات إن لم يوجد معه فرد نادر مخالف فيأتي كبرى القياس بدون استثناء وإلاّ فيأتي مع الاستثناء كما في المثال ، والغلبة هو استقراء ناقص ، لأنّ معنى الغلبة كون غالب الأفراد على نهج واحد ، فكلّ غلبة استقراء ولا عكس كلّيّا ـ ليس بسديد كما يظهر وجهه بالتأمّل فيما ذكرناه.

وكيف كان فالغلبة المؤثّرة في ظنّ لحوق المشكوك فيه بالأعمّ الأغلب لا تؤثّر فيه إلاّ بواسطة الكبرى الكلّيّة المحرزة بتلك الغلبة بشرط اندراج المشكوك فيه في العنوان الكلّي المتكرّر في مقدّمتي القياس ، محمولا في صغراه وموضوعا في كبراه.

وإذا تمهّد هذا فنقول : إنّ الشكّ المعتبر في الاستصحاب على ما بيّنّاه عند التقسيم قد يكون باعتبار الشكّ في المقتضي ، وقد يكون باعتبار الشكّ في وجود المانع ، وقد يكون باعتبار الشكّ في مانعيّة الموجود.

فعلى الأوّل يقرّر الصغرى : بأنّ هذا ما يشكّ في بقائه وارتفاعه باعتبار الشكّ في المقتضي.

وعلى الثاني تقرّر : بأنّ هذا ما يشكّ في بقائه وارتفاعه باعتبار الشكّ في وجود المانع.

وعلى الثالث يقرّر : بأنّ هذا ما يشكّ في بقائه وارتفاعه باعتبار الشكّ في مانعيّة الموجود.

ولا ريب أنّ كلاّ من هذه الصغريات تقتضي كبرى اخذ في موضوعها الشكّ في البقاء والارتفاع بأحد الاعتبارات الثلاث ، وما يتحصّل من الغلبة المدّعاة بعبارة : « أنّا فتّشنا الامور الخارجيّة من الأعدام والموجودات وجدناها باقية مستمرّة على وجودها الأوّل

٢٩٦

غالبا » لا يحصّل لذلك ، لأنّ كلّ موجود بقي على وجوده الأوّل فإنّما وجد في آن وجوده ـ حدوثا وبقاء ـ لتحقّق المقتضي لوجوده وانتفاء المانع عن وجوده ، فيقال حينئذ : كلّ موجود تحقّق المقتضي لوجوده وانتفى المانع عنه في ثاني زمان وجوده فهو باق على وجوده الأوّل. وهذا كما ترى ليس من كبرى الصغريات المذكورة في شيء ، لعدم تكرّر الأوسط باعتبار عدم دخول الشكّ في البقاء والارتفاع بسبب الشكّ في المقتضي أو في وجود المانع أو في مانعيّة الموجود في موضوع هذه الكلّية المتحصّلة من الغلبة المدّعاة ، بل الكبرى المناسبة لها على الأوّل هو قولنا : « كلّما شكّ في بقائه وارتفاعه باعتبار الشكّ في المقتضي فهو باق ».

وعلى الثاني قولنا : « كلّما شكّ في بقائه وارتفاعه باعتبار الشكّ في وجود المانع فهو باق »

وعلى الثالث قولنا : « كلّما شكّ في بقائه وارتفاعه باعتبار الشكّ في مانعيّة الموجود فهو باق ».

وهذه الكبريات كما ترى غير محرزة ، لعدم ثبوت الغلبة في شيء منها لا على وجه تفيد القطع ولا على وجه تفيد الظنّ وهذا معنى قولنا : إنّ الثابتة منها غير منتجة والمنتجة منها غير ثابتة ، فليتدبّر فإنّ المقام دقيق.

وتوهّم أنّ تحقّق المقتضي وانتفاء المانع لبقاء المستصحب يحرز بغلبة اخرى لازمة للغلبة المدّعاة ، وهو أنّ الغالب فيما وجد تحقّق المقتضي وانتفاء المانع ، فيترتّب عليه ظنّ البقاء.

يدفعه : أنّه إن اريد به أنّ الغالب فيما وجد تحقّق المقتضي المانع في آن وجوده فهو حقّ لا سترة عليه ، بل المعلوم في كلّما وجد هو ذلك إلاّ أنّه لا يجدي نفعا في ظنّ التحقّق والانتفاء في آن الشكّ في وجود ما وجد. وإن اريد به أنّ الغالب فيما وجد تحقّق المقتضي وانتفاء المانع في آن الشكّ في وجوده ، فهذه الغلبة ممّا لا سبيل إلى إثباتها.

فإن قلت : لو لم يؤخذ الشكّ في تحقّق المقتضي أو انتفاء المانع أو عدم مانعيّة العارض في الأوسط المتكرّر الّذي هو محمول الصغرى وموضوع الكبرى تمّ القياس وحصل الإنتاج ، فيقال : « هذا ما وجد ـ أي دخل من العدم إلى الوجود ـ وكلّما وجد باق ، فهذا باق ».

أمّا الصغرى : فبالفرض ، وأمّا الكبرى : فبالغلبة الّتي قرّرها بعض الأعلام بقوله : « وجدناها باقية مستمرّة بوجودها الأوّل (١) ».

__________________

(١) القوانين ٢ : ٥٧.

٢٩٧

قلت : إن اريد من كونها باقية بقائها في الجملة فهو مسلّم ، بل الغالب في موارد الاستصحاب هو بقاء الحالة السابقة في الجملة ولكنّه غير مجد.

وإن اريد بقاؤها على وجه الاستمرار ولو بحسب استعداداتها.

ففيه : أنّه في كلّ آن إنّما هو باعتبار تحقّق المقتضي وانتفاء المانع ، فعلّة الحكم في الأفراد المستقرأ فيها غير محرزة في المستقرأ له ، لأنّ الشكّ في البقاء والارتفاع إنّما من جهة الشكّ في تحقّق هذه العلّة وعدمه ، ولو اريد إحرازها بالغلبة يدور الكلام السابق.

وبجميع ما قرّرناه يظهر ما في كلام بعض الأعلام من قوله ـ بعد عبارته المتقدّمة ـ : « فهاهنا مرحلتان الاولى في إثبات الاستمرار في الجملة ، الثانية إثبات مقدار الاستمرار ، ففيما جهل حاله من الممكنات القارّة يثبت الاستمرار في الجملة بملاحظة حال أغلب الممكنات ، مع قطع النظر عن تفاوت أنواعها وظنّ مقدار خاصّ من الاستمرار بواسطة حال النوع الّذي هو من جملتها. فالحكم الشرعي مثلا نوع من الممكنات قد يلاحظ من جهة مطلق الممكنات ، وقد يلاحظ من جهة مطلق الأحكام الصادرة من الموالي بالنسبة إلى العبيد ، وقد يلاحظ من جهة سائر الأحكام الشرعيّة (١) » انتهى.

فإنّا نقطع بأنّ كلّما بقي واستمرّ من الممكنات فإنّما بقاؤه واستمراره من جهة تحقّق مقتضيه وانتفاء مانعه ، والشكّ في البقاء والاستمرار في محلّ الاستصحاب إنّما هو باعتبار الشكّ في المقتضي أو باعتبار الشكّ في انتفاء المانع. والحكم ببقاء ما شكّ في تحقّق مقتضيه أو انتفاء مانعه واستمراره والحال هذه بملاحظة ما غلب استمراره من الممكنات أو أحكام الموالي بالنسبة إلى العبيد أو سائر الأحكام الشرعيّة مع القطع بأنّه لا يمكن إلاّ عند تحقّق المقتضي لوجوده وانتفاء المانع عن وجوده ، من المضحكات الّتي لا ينبغي التفوّه به. ولا يتفاوت الحال في ذلك بين كون المستصحب أمرا خارجيّا أو حكما شرعيّا ، ولا يجدي في ظنّ استمرار الحكم الشرعي في آن الشكّ في بقائه ملاحظة استمرار مطلق الممكنات ، ولا ملاحظة استمرار مطلق أحكام الموالي ، ولا ملاحظة استمرار سائر الأحكام الشرعيّة ما لم يظنّ تحقّق المقتضي لوجوده أو عدم تحقّق رافعه أو عدم رافعيّة الأمر المتحقّق المشكوك في رافعيّته.

والمفروض أنّ الظنّ بهذه الامور ممّا لا موجب له إلاّ توهّم غلبة تحقّق المقتضي

__________________

(١) القوانين ٢ : ٥٧.

٢٩٨

وانتفاء المانع في الممكنات القارّة الباقية المستمرّة وقد عرفت حالها.

وبقي من حجج المثبتين للاستصحاب وجهان آخران :

أحدهما : أنّه لو لا كونه حجّة لم يستقم استفادة الأحكام الشرعيّة من الأدلّة اللفظيّة ، لتوقّفها على أصالة عدم القرينة ، وأصالة عدم المعارض ، وأصالة عدم المخصّص وعدم المقيّد وعدم الناسخ ، وقد تقدّم في مقدّمات المسألة ما يضعّفه من أنّ الاصول اللفظيّة ليست من باب الاستصحاب ، بل هي قواعد مخصوصة مختصّة بباب الألفاظ المقرّرة لتشخيص المرادات ، المأخوذة من العرف الكاشف عن ترخيص الواضع ، ومرجعها إلى عدم اعتناء أهل العرف في العمل بالحقيقة والدليل والعامّ والمطلق والنصّ باحتمال وجود القرينة والمعارض والمخصّص والمقيّد والناسخ ، بالبناء على عدم هذه الامور المحتملة وترتيب آثار العدم على موارد احتمالها بترخيص من الواضع.

ولو سلّم كونها من باب الاستصحاب ، فغاية ما لزم من الدليل كونها حجّة ولا يلزم منه حجّيّة مطلق الاستصحاب ، والفارق هو انعقاد الإجماع على العمل عليها وعدم انعقاده في غيرها ، مع أنّ قصارى ما ثبت به حجّيّته في الامور العدميّة المتعلّقة بالألفاظ لا مطلقا.

وثانيهما : أنّه لو لاه لم يتقرّر معجزة ، فانسدّ باب إثبات النبوّات.

وبيان الملازمة : أنّ المعجزة عبارة عن الفعل الخارق للعادة كشقّ القمر وإرجاع الشمس وإنطاق الحصى ونحو ذلك ، فلو لا حصول الظنّ ببقاء الحالة السابقة وهي العادة لم يعلم كون الفعل الصادر من مدّعي النبوّة خارقا لها.

ويرد عليه : أنّ ابتناء تقرّر المعجزة على ظنّ بقاء العادة يستلزم بناء إثبات النبوّات على الظنّ ، لأنّ ظنّ بقاء العادة يستلزم ظنّ كون الفعل المقرون بدعوى النبوّة خارقا لها ، وهو يستلزم الظنّ بنبوّة المدّعي لها ، وأنّه ضروريّ الفساد.

ومع الغضّ عن ذلك يندفع الدليل بمنع الملازمة ، لأنّ بقاء العادة على حالته الأوّلية معلوم لكلّ أحد بضرورة الحسّ والعيان وبداهة الذهن والوجدان ، فيكون الفعل خارقا لها على وجه القطع واليقين ، لأنّ مرجعه إلى إقداره تعالى لمدّعي النبوّة على فعل لم يجر عادته تعالى على إقدار نوع البشر عليه ، فإذا صدر من واحد يقطع بأنّه من إقداره تعالى ، بل المعجزة هو فعل ما لا يكون مقدورا لنوع البشر بحكم العادة ، فإذا صدر من مدّعي النبوّة ما هو من هذا القبيل كشف عن كونه من قدرة القادر على الإطلاق ، وقد أجراه بيده تصديقا له في دعوى النبوّة ، فيعلم كونه نبيّا ، لقبح إظهار المعجزة بيد الكاذب ، وهذا معنى

٢٩٩

احتجّ المرتضى رضي الله عنه بأنّ في استصحاب الحال جمعا بين حالين في حكم من غير دلالة*

______________________________

كونها خارقة للعادة ، فعدم كونه مقدورا بحكم العادة معلوم بالوجدان.

* حجّة المانعين لحجّية الاستصحاب بوجوه :

منها : ما في الغنية (١) كما عن المرتضى في الذريعة (٢) من أنّ المتعلّق باستصحاب الحال يثبت الحكم عند التحقيق بغير دليل.

توضيح ذلك : « أنّهم يقولون قد ثبت بالإجماع على من شرع في الصلاة بالتيمّم المضيّ فيها قبل مشاهدة الماء ، فيجب أن يكون على هذه الحالة بعد المشاهدة له ، وهذا منهم جمع بين الحالين في حكم من غير دليل اقتضى الجمع بينهما ، لأنّ اختلاف الحالتين لا شبهة فيه لأنّ المصلّي غير واجد للماء في إحداهما وواجد له في الاخرى ، فلا يجوز التسوية بينهما من غير دلالة ، وإذا كان الدليل إنّما يتناول الحال الاولى وكانت الاخرى عارية منه لم يجز أن يثبت لها مثل الحكم » (٣) انتهى.

ومحصّله : أنّ دليل الحكم في الحالة الاولى غير متناول للحالة الثانية ، فيكون استصحاب الحكم الثابت في الاولى إلى الثانية إثباتا للحكم فيها من غير دليل وهو باطل ، فيكون الاستصحاب الّذي يتعلّقون به باطلا.

وهذا في غاية المتانة ، لما قرّرناه من أنّ ثبوت الحكم في وقت أو في حالة لا يلازم عقلا ثبوته في وقت آخر ولا في حالة اخرى ما لم يتناول دليله لهما. ودعوى حصول الظنّ ببقائه فيهما من ملاحظة ثبوته الأوّل أو من ملاحظة أمر آخر من غلبة أو غيرها ، مردودة على مدّعيها ، ولكنّه لا ينافي التعبّد بإجراء أحكامه وترتيب آثاره فيهما إلى أن يقطع بالخلاف ، إلاّ أنّه أيضا يحتاج إلى دليل وسيأتي بيانه من جهة الأخبار.

وعن المحقّق في المعارج الجواب عن الدليل المذكور : « بأنّ كون استصحاب الحكم عملا بغير دليل غير مستقيم ، لأنّ الدليل دلّ على أنّ الثابت لا يرتفع إلاّ برافع ، فإذا كان التقدير تقدير عدمه كان بقاء الثابت راجحا في نظر المجتهد ، والعمل بالراجح لازم (٤) » انتهى.

وفيه : من الخلط بين عدم وجود الرافع وعدم العلم بوجوده ما لا يخفى ، إذ على تقدير

__________________

(١) الغنية ( الجوامع الفقهيّة ) : ٤٨٦.

(٢) الذريعة إلى اصول الشريعة ٢ : ٨٢٩ ـ ٨٣٠.

(٣) الذريعة إلى اصول الشريعة ٢ : ٨٣٠.

(٤) المعارج : ٢٠٩.

٣٠٠