تعليقة على معالم الاصول - ج ٦

السيّد علي الموسوي القزويني

تعليقة على معالم الاصول - ج ٦

المؤلف:

السيّد علي الموسوي القزويني


المحقق: السيد علي العلوي القزويني
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
المطبعة: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ١
ISBN: 964-470-559-9
الصفحات: ٤٨٦

الاجتهاد وليس ببالغ.

ومنها : المتسامح في الدين التارك للطريقين تسامحا.

ومنها : الغافل المعبّر عنه بالقاصر الراكن إلى طريق غير مشروع في الواقع.

ومنها : المحتاط ، فإنّه أيضا بتركه الطريقين من أفراد الجاهل بمعنى تارك الطريقين وإن كان خفيّا.

فتحقيق المقام : أنّ مجرى الاحتياط إن كان من قبيل المعاملات فيجوز العمل عليه فيها من غير فحص بلا إشكال ، لكون المدار في صحّتها على مطابقة الواقع من دون اشتراط بالفحص ، والاحتياط طريق موصل إلى الواقع من غير فرق بين العقود أو الايقاعات أو غيرهما ممّا لا يعتبر فيه القربة ، فالغاسل للمتنجّس يحتاط بغسله مرّتين والقاصد لعقد النكاح مثلا يحتاط بالجمع بين عبارتي صيغة العقد إذا لم يعلم أيّتهما المؤثّر وهكذا ، وإن كان من قبيل العبادات فهو محلّ البحث والنظر اللائق للتكلّم فيه.

فنقول : انّ الاحتياط في العبادات على وجوه أربع هي كيفيّة الاحتياط :

الأول : الاحتياط في المسائل المشكوكة من حيث التكليف باختيار الفعل في محتمل الوجوب والترك في محتمل الحرمة.

الثاني : الاحتياط في المسائل المشكوكة من حيث دوران الوجوب المقطوع به بين التعيين والتخيير بمراعاة محتمل التعيين.

الثالث : الاحتياط في المسائل المشكوكة من حيث المكلّف به للشكّ في جزئيّة أو شرطيّة شيء للعبادة بالاتيان بها مع المشكوك فيه جزءا أو شرطا.

الرابع : الاحتياط في المسائل المشكوكة من حيث المكلّف به الدائر بين المتبائنين بالجمع والتكرار.

فهل يشرع الاحتياط في جميع هذه الصور ، أو لا يشرع في الجميع ، أو يشرع في الاولى دون البواقي ، أو يشرع في الاوليين دون الأخيرتين ، أو يشرع في الثلاث الاولى دون الأخيرة؟ ومرجعه إلى جواز الاحتياط ما لم يؤدّ إلى تكرار العبادة احتمالات.

ويمكن القول بالجواز مطلقا لوجود المقتضي وفقد المانع ، أمّا الأوّل : فيكفي في وجود المقتضي كون الاحتياط موصلا إلى الواقع محصّلا للمصلحة المطلوبة منه فكان مجزيا عمّا كان الغرض من جعله طريقا وهو تحصيل مصلحة الواقع ، أو مثل مصلحة الواقع وهو المصلحة

٢٤١

الملحوظة في سلوك الطريق المتدارك بها ما فات من مصلحة الواقع على تقدير عدم مصادفة الطريق للواقع ، مع أنّ دليل صحّة عبادات الجاهل في صورة المطابقة يقضي بكفاية العمل بالاحتياط بطريق أولى ، لوجود مناط الحكم المذكور وهو مطابقة الواقع هنا على وجه آكد ، لأنّ المحتاط حال سلوكه طريق الاحتياط قاطع بكونه موصلا إلى الواقع بخلاف الجاهل الشاكّ في طريقه المسلوك وإن غفل عن شكّه.

وأمّا الثاني : فلأنّ المانع إن كان هو الأصل ـ أعني أصالة التعيين ـ عند دوران الأمر بينه وبين التخيير.

ففيه أوّلا : منع كون المقام من دوران الأمر بين التعيين والتخيير ، بناء على أنّ مرجع كفاية الاحتياط إلى كونه مسقطا عن الطريق المجعول لا إلى كونه طريقا مجعولا ، ليكون بالإضافة إلى كلّ من طريقي الاجتهاد والتقليد أحد فردي الواجب التخييري.

وثانيا : منع جريان الأصل المذكور هنا لعدم جريان مدركه الّذي هو أصالة الاشتغال ، إذ بعد ملاحظة كون هذا الطريق محصّلا لمصلحة الواقع المقصودة من جعل الطريقين لا يبقى في سلوكه شكّ في البراءة.

وإن كان لزوم معرفة الوجه وقصد الوجه معا أو قصد الوجه فقط ، بناء على أنّ معرفة الوجه إنّما يعتبر مقدّمة لقصد الوجه لا لنفسه.

ففيه ـ مع أنّهما حاصلان في بعض الصور المذكورة ، وإنّ قصد الوجه عند معتبريه من شروط الامتثال لا من قيود المأمور به ونحن نقطع بعدم توقّف صدق الامتثال عليه إلاّ حيث يتوقّف عليه قصد التعيين في العبادة المشتركة ـ : منع اعتبار معرفة الوجه ولا قصده في صحّة العبادات كما حقّق في محلّه.

وإن كان هو إطلاق الإجماعات المنقولة المعتضد بإطلاق فتوى الأكثر ، والحصر المستفاد من قولهم : « الناس صنفان مجتهد ومقلّد » حسبما تقدّم إليه الإشارة.

ففيه : منع الإطلاق لظهور الجاهل في معاقد الإجماع وفتوى الأكثر في المتسامح في الدين التارك للطريقين تسامحا ، أو جاهل لم يطابق عمله الواقع ، أو لم يحرز في عمله القربة من جهة التردّد الحاصل له في كون ما يأتي به مكلّفا به وعدمه فلا يشمل المحتاط ، بل لا يبعد دعوى ظهور « الجاهل » في لسان الفقهاء فيمن خالف عمله الواقع لجهله ، كما يرشد إليه تصريحهم بالفرق بين جاهل الموضوع وجاهل الحكم في الصلاة في النجاسة أو

٢٤٢

المغصوب لباسا أو مكانا أو غيرهما ممّا يذكرونه من باب التفريع في جميع أبواب العبادات من الحكم بصحّة عمل الأوّل وكونه معذورا دون الثاني.

ويؤيّد ذلك أيضا ورود نقل الإجماع من السيّد رضيّ الدين (١) في مسألة جاهل القصر المحكوم بكونه معذورا في اتمام الصلاة لجهله بحكم القصر ، ولا منافاة في الحصر المذكور للعمل بالاحتياط ، لظهور كون المراد حصر المكلّفين بحسب كونهم باعتبار القابليّة من أهل الاجتهاد أو من أهل التقليد.

ولا ريب أنّ المحتاط حينئذ ليس بخارج عن الصنفين ، فليس مرادهم حصر المكلّفين في المجتهد والمقلّد الفعليّين وإلاّ انتقض بالجاهل المتسامح ونحوه.

وبالجملة ليس المراد من المجتهد والمقلّد في هذا العصر ما يقابل المحتاط ، بل المراد ما يعمّه باعتبار أنّ المحتاط أيضا بحسب القابليّة إمّا من أهل الاجتهاد فيتركه بسلوك طريق الاحتياط ، أو من أهل التقليد فيتركه بسلوك طريق الاحتياط ، كما أنّ المتسامح في الدين أيضا كذلك.

ومع الغضّ عن جميع ما ذكرنا وتسليم إطلاق معقد الإجماع وكلام الأكثر وظهور الحصر نقول : إنّه يجب الخروج عنه بملاحظة مقدّمتين قطعيّتين :

إحداهما : ما تقدّم الإشارة إليه في بحث عبادات الجاهل من أنّه لا مدخليّة لخصوص طريقي الاجتهاد والتقليد في صحّة العبادة ، بل المعتبر هو المطابقة وأنّ الغرض من جعلهما طريقين التوصّل بسلوكهما إلى مصلحة الواقع أو مثل مصلحة الواقع.

واخراهما : ما ذكرناه هاهنا من أنّ الاحتياط طريق موصل إلى نفس مصلحة الواقع لا محالة من غير تخلّف.

وقد يفصّل في المقام بين الاحتياط المستلزم للتكرار والغير المستلزم له ، فمقتضى الأصل في الأوّل وجوب الفحص بالرجوع إلى الأدلّة العلميّة أو الظنون الخاصّة أو المطلقة ، وذلك لأنّ الاحتياط ممّا لا مجوّز له إلاّ توهّم أنّ الغرض المطلوب في العبادات حصول الامتثال ، وهذا ممّا يحصل بالتكرار أيضا ومعه لا داعي إلى وجوب الفحص.

ويدفعه : أنّ المتيقّن ممّا يبرأ من الامتثال إنّما هو الامتثال التفصيلي وهو أن يعلم حين العمل حصول الامتثال به بعينه ، والامتثال الإجمالي ـ وهو أن يعلم حين العمل حصول الامتثال

__________________

(١) نقله صاحب الذكرى ٤ : ٣٢٥.

٢٤٣

بأحد الأمرين ولا يدري بأيّهما يحصل؟ ـ مشكوك في كونه مبرئ للذمّة وعدمه ، وقضيّة قاعدة الاشتغال تعيّن مراعاة الأوّل ، ولا ريب أنّ ما يوجبه التكرار إنّما هو الامتثال الإجمالي.

وتوهّم التمسّك بإطلاق الأمر لنفي اعتبار خصوص التفصيل في الامتثال في لحاظ الآمر.

يدفعه : أنّ التمسّك بالإطلاق إنّما يتّجه إذا كان الامتثال من قيود المأمور به لا من أغراض الآمر ، وهو خلاف التحقيق بل غير متعقّل ، لأنّ الامتثال في لحاظ الآمر إنّما يلاحظ من باب العلّة الغائيّة ، فلا يعقل كونه من قبيل القيود لينفى احتمال تقييده بخصوص التفصيل بإطلاق المأمور به ، فإذا كان من قبيل الأغراض لا يمكن التمسّك فيه بالإطلاق. وعليه فمع رجاء حصول العلم يتعيّن الفحص تحصيلا للامتثال العلمي التفصيلي ، ومع رجاء الظنّ الخاصّ يتعيّن الفحص أيضا لقيام هذا الظنّ مقام العلم ، ومع رجاء الظنّ المطلق يشكل الحال من حيث رجوعه إلى دوران الأمر بين الامتثال العلمي الإجمالي والامتثال الظنّي التفصيلي. ولكلّ منهما وجه من الرجحان من حيث العلميّة والتفصيليّة ، ولكنّ الاحوط فيه الفحص أيضا بل هو المتعيّن ، لكون الظنّي التفصيلي مبرئ يقينيّا بخلاف العلمي الإجمالي.

وأمّا ما لا يستلزم التكرار كالصلاة مع السورة لمن شكّ في جزئيّة السورة إذا أتى بها احتياطا ، فالكلام من حيث الإجمال والتفصيل في الامتثال لا يجري فيه ، لإفادته الامتثال التفصيلي بنفس هذا العمل ، فالمتّجه فيه القول بعدم لزوم الفحص وجواز العمل بالاحتياط ، إذ لا موجب للشكّ في البراءة إلاّ الإخلال بمعرفة الوجه وقصد الوجه ، وقد فرغنا عن عدم اعتبار شيء منهما في المأمور به.

والجواب : منع دوران الأمر في الاحتياط المستلزم للتكرار بين الامتثال الإجمالي والامتثال التفصيلي على وجه التحيّر الّذي يرجع للخروج عنه إلى الاصول والقواعد ، لأنّا لا نتعقّل للامتثال معنى إلاّ الإتيان بالمأمور به على حسب ما أمر به. وهذا لا يقبل التخصيص بالجهة كما يظهر بأدنى تأمّل ، مع إمكان أن يقال ـ على تقدير تسليم الدوران بالمعنى المذكور ـ : جاز الاحتياط ـ بل بطريق أولى فكان أرجح ـ لأنّه إدراك للواقع بطريق العلم وإن حصل العلم بعد الاتيانات.

الثاني : من شرطي أصل البراءة أن يكون إعماله في واقعة لم يكن هناك أصل موضوعي يحرز به الموضوع المعلّق عليه الحكم الإلزامي المشكوك فيه ، وبهذا البيان ظهر وجه اعتبار هذا الشرط ، إذ مع وجود نحو الأصل المذكور لا مجرى لأصل البراءة حتّى

٢٤٤

يعمل به ، وذلك كما في اللحم اللقيط المشكوك حاله من حيث التذكية والعدم ، والماء الملاقي للنجاسة المشكوك حاله من حيث الكرّيّة والعدم مع سبق عدم الكرّيّة ، والمال الّذي في يد زيد أمانة لغائب إذا وكّل عمرا في اشترائه عن مالكه له المشكوك حاله من حيث انتقاله إليه والعدم ، والمرأة المشكوك حالها من حيث صيرورتها زوجة له وعدمه فيما إذا وكّل أحدا يزوّجها له ، فإنّ أصالة البراءة في هذه الأمثلة ونظائرها وإن كانت تقتضي عدم وجوب الاجتناب ، إلاّ أنّ الأصل الموضوعي في الجميع ـ وهو أصالة عدم التذكية ، وأصالة عدم الكرّيّة ، وأصالة عدم تحقّق السبب الناقل ، وأصالة عدم الزوجيّة ـ مانع من إعماله ، لاقتضائه وجوب الاجتناب في الجميع ، ومعه لا يمكن إعمال أصل البراءة.

وهل هذا لورود الأصل الموضوعي عليه أو لحكومة دليله على دليله؟ الأظهر الثاني لعدم اندراجه في ضابط الوارد ، لعدم رفعه الشكّ المأخوذ في موضوع أصل البراءة.

نعم دليله وهو عموم قوله عليه‌السلام : « لا ينقض اليقين أبدا بالشكّ (١) » متعرّض بمضمونه لقوله عليه‌السلام : « كلّ شيء فيه حلال وحرام فهو لك حلال ... » إلى آخره (٢) في اقتضاء البناء على الحلّيّة وعدم الاجتناب فيما شكّ في حلّه وحرمته لشبهة الموضوع ، مع كون هذا البناء نقضا للقضيّة المتيقّنة سابقا من الحرمة ووجوب الاجتناب بالشكّ ببيان مقدار موضوعه ، ومحصّله : أنّ الشكّ الّذي يبنى معه على عدم وجوب الاجتناب هو ما لم يكن مسبوقا بالحالة السابقة المتيقّنة.

وبجميع ما قرّرناه ظهر أيضا أنّ مورد هذا الشرط إنّما هو الشبهات الموضوعيّة ، كما أنّ مورد الشرط الأوّل إنّما هو الشبهات الحكميّة ، فليتدبّر.

وقد ذكر الفاضل التوني (٣) للعمل بأصل البراءة وغيره من الاصول العدميّة شروطا اخرى غير ما ذكرناه :

أحدها : أن لا يكون إعمال الأصل موجبا لثبوت حكم شرعي من جهة اخرى ، مثل أن يقال ـ في أحد الانائين المشتبهين ـ : الأصل عدم وجوب الاجتناب عنه ، وعدم بلوغ الملاقي للنجاسة كرّا ، وعدم تقدّم الكرّيّة ـ حيث يعلم بحدوثها ـ على ملاقاة النجاسة ، فإنّ

__________________

(١) الوسائل ١ : ١٧٤ ـ ١٧٥ ، الباب ١ من أبواب نواقض الوضوء ، ح ١ ، و ٢ : ٥٩٤ ، الباب ٤٤ من أبواب الحيض ، ح ٢ ، و ٣ : ٢٢٦ ، الباب ٨ من أبواب القبلة ، ح ٦.

(٢) الوسائل ١٢ : ٥٩ ، الباب ٤ من أبواب ما يكتسب به ، الحديث الأوّل.

(٣) الوافية : ١٨٦ ـ ١٨٧ و ١٩٣ ـ ١٩٤.

٢٤٥

إعمال الاصول في هذه الموارد يوجب الاجتناب عن الإناء الآخر أو الملاقي أو الماء.

أقول : وهذا الشرط عند التحقيق وفي النظر الدقيق ممّا لا يرجع إلى محصّل ، وكأنّه وهم ممّا في كلام العلماء من عدم اعتبار الاصول المثبتة تنزيلا على غير وجهه غفلة عن حقيقة المراد ، فإنّ مرادهم من عدم اعتبار الأصل المثبت عدم وفائه بإثبات ما هو من الآثار العقليّة أو العاديّة للمورد ، بل إنّما يفي بترتّب الآثار الشرعيّة فقط ، مثلا استصحاب طهارة الثوب الّذي أصابه مايع يتردّد بين الماء والبول إنّما يوجب ترتيب الآثار الشرعيّة المترتّبة على المستصحب في زمان اليقين ، من عدم وجوب غسل الثوب ، وجواز الدخول معه في الصلاة ونحوه ، لا ترتيب ما هو من اللوازم العقليّة ككون هذا المايع ماء. وأصالة البراءة عن وجوب الاجتناب عن الإناء المتردّد بين كونه ماءا أو خمرا مثلا إنّما يوجب ترتيب آثار عدم وجوب الاجتناب الثابتة له شرعا على تقدير العلم به ، من جواز شربه وعدم وجوب غسل موضع ملاقاة الملاقي وجواز الدخول في الصلاة بما أصابه من ثوب أو بدن ، ولا يوجب الحكم بكونه ماء الّذي هو من اللوازم العقليّة لعدم وجوب الاجتناب.

ويظهر الفائدة في الأحكام المعلّقة على الماء من جواز التطهّر به عن الحدث وضوءا أو غسلا ، والوفاء بالنذر إذا نذر الإفطار بماء مسخّن. فعلى تقدير عدم الحكم بالمائيّة في المثالين لا يجوز استعماله في الطهارة ، ولا يكون الافطار به مجزئا ، وكذلك استصحاب الطهارة فيمن خرج منه المذي المشكوك في كونه ناقضا إنّما يوجب ترتيب الآثار الشرعيّة الّتي كانت مترتّبة على الطهارة حال اليقين ، وهي عدم وجوب طهارة اخرى ، وجواز الدخول في الصلاة ، ومسّ كتابة القرآن وغيرها ممّا هو مشروط بالطهارة ، وعدم كون المذي ناقضا ليس منها فلا يسوغ الحكم به لمجرّد استصحاب الطهارة.

والسرّ في عدم ترتّب ما عدا الآثار الشرعيّة على المورد بمقتضى الأصل الجاري فيه أنّ الاصول الشرعيّة كلّها من قبيل القواعد التعبّديّة المستنبطة عن الأدلّة الشرعيّة.

ومن الواضح البديهي وجوب الاقتصار في إعمال قاعدة من تلك القواعد في مواردها على مقدار ما دلّ عليه دليلها.

ولا ريب أنّ مقتضى قوله عليه‌السلام : « لا ينقض اليقين أبدا بالشكّ (١) » وجوب ترتيب الأحكام

__________________

(١) الوسائل ١ : ١٧٤ ـ ١٧٥ ، الباب ١ من أبواب نواقض الوضوء ، ح ١ ، و ٢ : ٥٩٤ ، الباب ٤٤ من أبواب الحيض ، ح ٢ ، و ٣ : ٢٢٦ ، الباب ٨ من أبواب القبلة ، ح ٦.

٢٤٦

الشرعيّة على الطهارة المستصحبة الثابتة لها حال اليقين ، وكون المايع ماء وعدم كون المذي ناقضا ليس منها ، وهو ساكت عن وجوب ترتيب نحو هذه الآثار. وقوله عليه‌السلام : « كلّ شيء فيه حلال وحرام فهو لك حلال ... » إلى آخره (١) ، إنّما يدلّ على جواز البناء على حلّية ما يشكّ في حلّه وحرمته ، على معنى ترتيب الأحكام الشرعيّة المترتّبة على الحلّية على الموضوع المشتبه ، وكونه ماء أو خلاّ أو نحوه ليس متيقّنا وهو ساكت عن الدلالة على التعبّد بترتيب هذه الآثار أيضا. فمعنى عدم اعتبار الاصول المثبتة أنّه لم يثبت بالقياس إلى الآثار الغير الشرعيّة قاعدة مؤدّاها التعبّد بترتيب تلك الآثار ، وهذا كما ترى ممّا لا يرجع محصّله إلى بيان اشتراط العمل بالاصول بعدم كونها مثبتة ، إذ لا توقّف للعمل به في الآثار الشرعيّة على عدم ترتيب الآثار العقليّة أو العاديّة عليها.

والمفروض عدم ثبوت عموم للقاعدة على حسب دليلها بالقياس إليها حتّى يقال : بأنّها لكونها مثبتة لها لا يجوز العمل لانتفاء شرط جواز العمل بها.

وبالتأمّل فيما ذكرناه من ضابط الأصل المثبت تعرف أنّ ما ذكره من الاصول في الأمثلة المذكورة ليست من الاصول المثبتة بالقياس إلى وجوب الاجتناب ، أمّا في المثالين الأخيرين فلأنّه من الآثار الشرعيّة المترتّبة على عدم كرّية الماء إذا لاقاه نجاسة ، فلذا جرى عليه ذلك الحكم حال اليقين بعدم الكرّيّة.

وأمّا في المثال الأوّل فلأنّ أصالة عدم وجوب الاجتناب عن أحد الانائين على تقدير عدم مانع آخر من العمل به لا يوجب وجوب الاجتناب عن الاناء الآخر ، لأنّه ليس بلازم عقلي لعدم وجوب الاجتناب عن الاناء الأوّل ، بل اللازم له عقلا كون الاناء الآخر هو الّذي لاقته النجاسة مثلا ، والعمل بالأصل المذكور إنّما يكون مثبتا على تقدير الحكم لذلك الّذي هو عبارة عن ترتيب اللازم العقلي ، فعدم اعتباره من حيث إثباته معناه عدم جواز الحكم بذلك ، وهذا لا يمنع من جواز العمل به بدون هذا الحكم ومن غير ترتيب اللازم العقلي ، كما في استصحاب طهارة الثوب الّذي لا إشكال في جواز العمل به من دون الحكم على المايع المردّد بكونه ماء ، فعدم جواز العمل بالأصل المذكور ليس لأجل أنّه مثبت بل لمانع آخر ، وهو أنّ جريان أصالة عدم وجوب الاجتناب كما أنّه يتصوّر في أحد الانائين بعينه كذلك يتصوّر في الاناء الآخر بعينه ، فإعمالهما معا يوجب طرح العلم الإجمالي

__________________

(١) الوسائل ١٢ : ٥٩ ، الباب ٤ من أبواب ما يكتسب به ، الحديث الأوّل.

٢٤٧

والمخالفة القطعيّة العمليّة للتكليف الفعلي وهو وجوب الاجتناب عمّا لاقته النجاسة من الإنائين ، وإعماله في أحدهما المعيّن ترجيح بلا مرجّح ، وكلاهما باطلان.

وقضيّة ذلك سقوط اعتبار الأصل هنا رأسا ، مضافا إلى أنّ المورد هنا من مجاري قاعدة الاشتغال وقاعدة وجوب دفع الضرر المحتمل ، ومعهما لا مجرى لأصل البراءة.

وثانيها : أن لا يتضرّر بإعمالها مسلم ، كما لو فتح إنسان قفص طائر فطار ، أو حبس شاة أحد فمات ولدها ، أو أمسك رجلا فهرب دابّته ، فإنّ إعمال البراءة فيها يوجب تضرّر المالك ، فيحتمل اندراجه في قاعدة الإتلاف ، وعموم قوله : « لا ضرر ولا ضرار (١) فإنّ المراد نفي الضرر من غير جبران بحسب الشرع وإلاّ فالضرر غير منفيّ ، فلا علم حينئذ ولا ظنّ بأنّ الواقعة غير منصوصة. فلا يتحقّق شرط التمسّك بالأصل من فقدان النصّ ، بل يحصل القطع بتعلّق حكم شرعي بالضارّ ، ولكن لا يعلم أنّه مجرّد التغرير أو الضمان أو هما معا ، فينبغي له تحصيل العلم بالبراءة ولو بالصلح.

أقول : وهذا الشرط أيضا لا يرجع إلى محصّل ، لأنّه إمّا أن يسلّم قاعدتي الإتلاف ونفي الضرر ويقول بكونهما من القواعد المعتبرة المحكّمة على الأصل في اقتضاء ضمان الضارّ للمستضرّ أو لا ، فعلى الثاني لا أثر لتضرّر المسلم في منع العمل بالأصل ، لأنّه على التقدير المذكور لا حكم له في نظر الشارع حتّى يكون إعمال الأصل مشروطا بعدمه.

وعلى الأوّل فهما كسائر القواعد المحكّمة على الاصول ، فكما يقال : لا يجري أصل البراءة حيث يجري قاعدة الاشتغال أو قاعدة وجوب دفع الضرر المحتمل ، فكذلك يقال : لا يجري حيث يجري قاعدة الإتلاف أو قاعدة نفي الضرر.

والسرّ في عدم جريانه مع جريانها ورودها عليه ، لما اخذ في موضوعه فقدان النصّ. وليس المراد بالنصّ المأخوذ في موضوعه النصّ المصطلح بل مطلق الدليل ، والمراد بالدليل ما يعمّ القواعد العامّة الّتي يستند إليها في الفروع ، وعليه ففقدان نحو قاعدتي الإتلاف ونفي الضرر مأخوذ في موضوع الأصل ، فلا يجري حيث تجريان. وهذا يغني عن جعل العمل به مشروطا بعدم الضرر ، إذ مع حصول الضرر كانت القاعدتان دليلا على الضمان ومع وجوده لا أصل ليعمل به لانتفاء موضوعه ، هذا ولكنّ العبارة المتقدّمة لا تتحمّل شيئا من شقّي الترديد ، بل هي ظاهرة أو صريحة في أنّ وجه الاشتراط عدم كون فقدان

__________________

(١) الوسائل ١٧ : ٣٤١ ، الباب ١٢ من أبواب إحياء الموات ، ح ٣ ، ٤ ، ٥.

٢٤٨

النصّ ـ بمعنى عدم الدليل على الحكم المأخوذ في موضوع الأصل ـ محرزا مع تضرّر المالك ، لأنّ معنى إحرازه حصول القطع أو الظنّ بعدم وجوده وليس شيئا منهما حاصلا في المقام ، لاحتمال اندراجه في القاعدتين المفروض كون كلّ منهما دليلا على الضمان. وأورد عليه حينئذ : بأنّ مجرّد احتمال اندراج الواقعة في قاعدة الاتلاف أو الضرر لا يوجب رفع اليد عن الأصل ، والمعلوم تعلّقه بالضارّ فيما نحن فيه هو الإثم والتعزير إن كان متعمّدا ، وإلاّ فلا يعلم وجوب شيء عليه ، فلا وجه لتحصيل العلم بالبراءة ولو بالصلح. والأولى أن يورد عليه : باندراج الواقعة في قاعدة الإتلاف وهي مقتضية للضمان ، ومعه لا يجرى الأصل كما عرفت.

ثالثها : أن لا يكون مجرى الأصل جزء عبادة مركّبة ، واستوجهه صاحب الفصول (١) بناء منه على مختاره في مسألة الشكّ في المكلّف به الدائر بين الأقلّ والأكثر باعتبار الشكّ في مدخليّة شيء فيه من البناء على الاشتغال.

لكن اعترض عليه : بأن لا وجه لتخصيص الاشتراط بالجزء بل يجري في الشرط والمانع.

وقد عرفت ما عندنا من أنّ المرجع فيه البراءة فلا وجه للاشتراط ، مع أنّه على تقدير مرجعيّة الاشتغال ـ كما اختاره ـ فالاشتراط المذكور لا يزيد على ما اخذ في موضوع أصل البراءة من انتفاء الدليل على المشكوك بناء على ما عرفت من كون الدليل أعمّ من القاعدة ، وقاعدة الاشتغال دليل بالقياس إلى أصل البراءة ، فمع جريانها لا مجرى له لانتفاء موضوعه.

نعم يبقى الكلام مع الفاضل التوني فإنّه علّل الاشتراط المذكور : بأنّ كلّ نصّ بيّن فيه أجزاء المركّب كان دالاّ على عدم جزئيّة ما عداها ، فيكون عدم جزئيّة المختلف فيه حينئذ منصوصا لا معلوما بالأصل (٢). ومرجعه إلى دعوى عدم جريان أصل البراءة مع وجود الدليل على نفي الجزئيّة.

ويرد عليه أوّلا : أنّه لا اختصاص لهذا الاشتراط بما كان المشكوك فيه جزئيّة شيء للعبادة ، بل كلّ حكم إلزامي دلّ الدليل على نفيه لا يجري فيه أصل البراءة ، فيجري هذا الاشتراط في جميع موارد وجود الدليل.

وثانيا : أنّه لا يزيد على ما اخذ في موضوع الأصل من فقد النصّ ، لأنّ المراد من

__________________

(١) الفصول الغروية : ٣٦٤.

(٢) الوافية : ١٩٥.

٢٤٩

أصل

اختلف الناس في استصحاب الحال *.

________________________________

النصّ المعتبر فقده أعمّ ممّا دل على ثبوت الحكم وما دلّ على نفيه ، فهذا يغني عن قوله : الاشتراط المذكور.

وثالثا : منع دلالة النصّ المتعرّض لبيان أجزاء المركّب على عدم جزئيّة ما عداها ، لاختلاف النصوص المتعرّضة لبيان أجزاء العبادات في تعرّضها الأجزاء قلّة وكثرة ، وإنّما يستفاد مجموع الأجزاء من مجموع النصوص ، فليس بناء كلّ واحد منها على استيفاء تمام الأجزاء.

والسرّ فيه : أنّها وردت بحسب حاجات المخاطبين ، فيحتمل في الجزء المختلف فيه ورود نصّ لبيانه غير بالغ إلينا ، مع أنّه قد يتعارض نصّان في جزئيّة شيء على وجه لا محيص معه من الرجوع إلى الأصل سيّما على القول بالتساقط أو الوقف في مسألة التعادل.

هذا آخر ما أوردناه في مسألة أصل البراءة ، ونسأل الله التوفيق على أن نردفه بقيّة مسائل الفنّ بحوله وقوّته ، فإنّه لا حول ولا قوّة إلاّ بالله العليّ العظيم ، والحمد لله أوّلا وآخرا وظاهرا وباطنا.

* وليعلم أنّ الاستصحاب أصل عامّ النفع سار في المسائل الفرعيّة من الطهارة إلى الديات سريان الماء في عروق الشجر وأغصانه وأوراقه وأثماره ، إذ قلّما يتّفق مسألة فرعيّة لم تستعمل فيها أصل استصحابي لانسحاب حالة عدميّة أو وجوديّة. وهو باعتبار اللغة استفعال من الصحبة ، وهي حالة بين الشيئين باعتبار لزوم أحدهما للآخر ، ولذا فسّرها في المجمع بالملازمة (١). فالاستفعال فيها عبارة عن طلب الصحبة من الشيء ، ويقال له في الفارسية : « طلب همراهى كردن از چيزى »

وحاصله : أخذ الشيء مصاحبا ، ومنه استصحاب أجزاء ما لا يؤكل لحمه في الصلاة. ولمناسبة هذا المعنى غلّب في لسان الفقهاء والاصوليّين على معنى خاصّ لما يتضمّنه من طلب المكلّف من الحالة السابقة أن تصحبه وتلازمه ، سواء اعتبرناه على طريقة القدماء ـ ولا سيّما العامّة المستندين في حجّيته إلى ما زعموه من الحكم العقلي الظنّي بأنّ ما ثبت دام المفيد في الواقعة الشخصيّة ظنّ البقاء ـ أو على طريقة المتأخّرين المستندين فيها إلى

__________________

(١) مجمع البحرين ٢ : ٩٧ مادة « صحب ».

٢٥٠

روايات مستفيضة (١) ناهية عن نقض اليقين بغير اليقين ، إذ المكلّف على الاولى كأنّه بتحصيله ظنّ البقاء في الواقعة الشخصيّة بالنظر في الحكم العقلي يطلب من الحالة السابقة المصاحبة له في الزمان السابق أن تصحبه له في الآن اللاحق أيضا ، وعلى الثانية كأنّه بتنزيله الحالة السابقة منزلة الثابتة الباقية في الآن اللاحق بملاحظة منع الشارع من نقض اليقين بغيره يطلب منها المصاحبة.

وبالتأمّل في البيان المذكور يظهر سرّ ما ذكروه في الفرق بين هذا الأصل وسائر الاصول العمليّة من أنّ الأوّل ما يلاحظ فيه الحالة السابقة ، بأن يكون الجهة المقتضية لطلب المصاحبة من الحالة السابقة بانضمام حكم العقل أو الشرع ثبوتها في الزمن السابق دون غيرها.

وعلى هذا فأجود تعاريفه بحسب الاصطلاح وأخصرها أن يقال : « إنّه إبقاء ما كان باعتبار أنّه كان » أي الحكم ظنّا أو تعبّدا ببقائه في آن باعتبار كونه في آن سابق عليه ، فخرج إبقاء حكم لوجود علّته كالحكم ببقاء نجاسة الماء المتغيّر حال وجود تغيّره ، أو لوجود دليله كالحكم ببقاء طهارة الكرّ الملاقي للنجاسة بالنظر إلى قوله عليه‌السلام : « إذا كان الماء قدر كرّ لم ينجّسه شيء (٢) ».

فأمّا الاقتصار في تعريفه على « إبقاء ما كان » بدون ذكر القيد الأخير كما في كلام بعض مشايخنا (٣) تعليلا بأنّ دخل الوصف في الموضوع مشعر بعلّيته للحكم فعلّة الإبقاء هو أنّه كان ، فهو وإن كان كما ذكره قدسّ سرّه من الإشعار غير أنّه يشكل الاكتفاء به في مقام التعريف الّذي مبناه على وضوح حال المعرّف الّذي لا بدّ فيه من دلالة واضحة ، فلا يكفي فيه الإشعار الّذي هو دون الدلالة.

وعلى ما بيّنّاه ينطبق تعريفه بأنّه : « إثبات الحكم في الزمان الثاني تعويلا على ثبوته في الزمن الأوّل » كما في زبدة البهائي (٤). وفي معناه تعريفه بأنّه إثبات حكم في زمان لوجوده في زمان سابق عليه كما عن المحقّق الخوانساري في شرح الدروس (٥) ناسبا له إلى القوم ، وبه فسّره المصنّف في عبارته الآتية المشتملة على قوله : « فهل يحكم

__________________

(١) الوسائل ١ : ١٧٥ و ١٧٦ ، الباب ١ من أبواب نواقض الوضوء ، ح ١ و ٦ ، و ٢ : ٥٩٤ و ١٠٦٥ الباب ٤٤ من أبواب الحيض ، ح ٢ وو ٣ : ٢٢٦ ، الباب ٨ من أبواب القبلة ، ح ٦ ، و ٥ : ٣٢١ ، الباب ١٠ من أبواب الخلل الواقع في الصلاة ، ح ٣.

(٢) الوسائل ١ : ١١٧ الباب ٩ من أبواب الماء المطلق ، ح ١.

(٣) فرائد الاصول ٣ : ٩.

(٤) الزبدة : ٧٢ ـ ٧٣.

(٥) مشارق الشموس : ٧٦.

٢٥١

ومحلّه أن يثبت حكم في وقت ثمّ يجيء وقت آخر ولا يقوم دليل على انتفاء ذلك الحكم ، فهل يحكم ببقائه على ما كان وهو الاستصحاب ، أم يفتقر الحكم به في الوقت الثاني إلى دليل*؟

______________________________

ببقائه على ما كان وهو الاستصحاب » بناء على عود الضمير إلى مصدر الفعل المتقدّم وهو الحكم ببقائه على ما كان على حدّ قوله تعالى : ( اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوى )(١).

* ولقد أجاد رحمه‌الله في جعله البيان المذكور تعريفا لمحلّ الاستصحاب ومورده ، فإنّه أصل يجري في نحو هذا المورد لا أنّه هو نفس ذلك الأصل.

والعجب عن بعض الأعلام (٢) أنّه كيف غفل عن هذا المعنى مع وضوحه فعرّف الاستصحاب : « بأنّه كون حكم أو وصف يقينيّ الحصول في الآن السابق مشكوك البقاء في الآن اللاحق » بناء على ظهور الكون في الناقصة ، فيكون الحكم والوصف المجرور بالإضافة رفعا في محلّ الاسم ، ويقينيّ الحصول نصبا على الخبريّة ، وكذا مشكوك البقاء على أنّه خبر بعد خبر بإسقاط العاطف على حدّ « هذا حلو حامض » ، مع احتمال كون الخبر هو مشكوك البقاء وكون يقينيّ الحصول جرّا على أنّه نعت للاسم.

وكيف كان فيرد عليه : أنّه تعريف لمحلّ الاستصحاب ومورده لا أنّه نفسه ، ولعلّه كما قيل وهم نشأ من كلام العضدي حيث إنّه قال : « معنى استصحاب الحال أنّ الحكم الفلاني قد كان ولم يظنّ عدمه ، وكلّما هو كذلك فهو مظنون البقاء (٣) وقد اختلف في صحّة الاستدلال به لإفادته ظنّ البقاء وعدمها لعدم إفادته إيّاه ، فأخذ التعريف المذكور عن صغرى هذا القياس أخذا بحاصل مضمون القضيّة بزعم أنّه الاستصحاب في مصطلحهم ، لا مضمون الكبرى كما فهمه المصنّف حيث فسّره بما ينطبق على الكبرى ، لمكان الاختلاف الواقع في الكبرى على ما قرّره العضدي ، وهو خلاف في الحكم الّذي موضوعه الاستصحاب ولا يكون إلاّ الصغرى.

وفيه : ما لا يخفى ، فإنّ ظاهر العضدي أنّه عرّف الاستصحاب بنفس القياس المؤلّف من المقدّمتين ، وإنّما دعاه إلى ذلك ما آنسه في عرفهم من إطلاق الدليل على الاستصحاب وعدّه من الأدلّة العقليّة. ولمّا كان الدليل عندهم عبارة عمّا يتألّف من مقدّمتين فعرّفه بما ذكره.

__________________

(١) المائدة : ٨.

(٢) القوانين ٢ : ٥٣.

(٣) شرح مختصر الاصول ٢ : ٤٥٣.

٢٥٢

ولا يقدح فيه الخلاف الّذي نقله الراجع إلى كبرى هذا القياس ، لأنّه خلاف في تماميّة هذا الدليل باعتبار الشبهة في صدق كبراه أو كذبها. فمن يدّعي صحّة الاستدلال به يدّعيه بزعم كون كبراه صادقة ، ومن ينفيها يدّعي كذبها على معنى عدم إفادة كون الشيء الفلاني كان ولم يظنّ عدمه الظنّ بالبقاء ، ولذا علّل قول الفريقين بإفادته ظنّ البقاء وعدم إفادته إيّاه. فحمل هذا التعريف بقرينة نقل الخلاف على كونه تعريفا للاستصحاب بمضمون الصغرى ليس على ما ينبغي ، كما أنّ حمل كلام بعض الأعلام على كونه وهما من هذا التعريف أيضا لعلّه ليس على ما ينبغي ، فليتدبّر.

وعلى تعريفه بمجموع المقدّمتين ينطبق ما عرّفه الفاضل التوني في الوافية من « أنّه التمسّك بثبوت ما ثبت في وقت أو حال على بقائه فيما بعد ذلك الوقت وفي غير تلك الحال ، فيقال : إنّ الأمر الفلاني قد كان ولم يعلم عدمه ، وكلّما كان كذلك فهو باق (١) ».

وربّما وجّه تعريف بعض الأعلام بجعل الكون من « كان » التامّة بمعنى الثبوت مضافا إلى فاعله مع كون « في الآن اللاحق » متعلّقا به ـ ليكون المعنى ثبوت الحكم الموصوف بالوصفين في الآن اللاحق ـ لا بمشكوك البقاء ، لأنّ الشكّ في البقاء يلزمه كونه في الآن اللاحق ، فيدلّ عليه بالالتزام ولا حاجة معه إلى التصريح به في التعريف.

وفيه : مع ما فيه من التكلّف الواضح ، أوّلا : أنّه لا يوافق ما أفاده قدسّ سرّه في أوّل كتابه (٢) عند بيان موضوع اصول الفقه من أنّ الاستصحاب إن اخذ من العقل كان داخلا في دليل العقل ، وإن اخذ من الأخبار كان داخلا في السنّة. وهذا على كلا التقديرين يأبى ما ذكر في التوجيه.

أمّا التقدير الأوّل فلأنّ دليل العقل حكم عقلي يتوصّل به إلى حكم شرعي ، وهو هنا حكم العقل ببقاء ما كان على ما كان لا ثبوت ما كان في الآن اللاحق.

وأمّا التقدير الثاني فلأنّ المأخوذ من الأخبار وجوب الحكم ببقاء ما كان على ما كان لا ثبوته في الآن اللاحق.

وثانيا : أنّ التوجيه المذكور يوجب البينونة فيما بين المعرّف والمعرّف ، لأنّ الثبوت في الآن اللاحق حال من أحوال الحكم الّذي هو المستصحب ووصف فيه ، والاستصحاب بحسب الاصطلاح على ما يستفاد من كلمات القوم واستعمالاتهم من مقولة الفعل ، ولذا يعرّف تارة بالإبقاء ، واخرى بالحكم بالبقاء ، وثالثة بالإتيان ، ورابعة بالتمسّك بثبوت ما ثبت ... إلى آخره.

__________________

(١) الوافية : ٢٠٠.

(٢) القوانين ١ : ٩.

٢٥٣

ويرشد إليه أيضا ما شاع في كلامهم عند إعمال الاستصحاب من قولهم : يجب استصحابه ، إلى غير ذلك من الشواهد الّتي يقف عليها المتتبّع في كلامهم ، فالثبوت يبائن الجميع.

اللهمّ إلاّ أن يقال : إنّ تعريف الاستصحاب بالثبوت مأخوذ عمّا تقدّم من تعريفي البهائي والخوانساري بالإثبات أخذا بلازم الشيء ، فاريد من الثبوت الإثبات من باب التعبير عن الشيء بلازمه ، وفيه تعسّف.

وبالجملة التعريف المذكور لا يخلو عن حزازة وكلفة والخروج عن استقامة.

لا يقال : إنّ تعريفه بالإبقاء والإثبات أيضا لا يلائمه قولهم : « الاستصحاب حجّة أو ليس بحجّة » على حدّ قولهم : « القياس حجّة والاستحسان ليس بحجّة » لمكان المنافرة في قولنا : « الإبقاء حجّة أو الإثبات ليس بحجّة » وأيضا فإنّ الاستصحاب يطلق عليه الدليل. ولا يصحّ أن يقال : الإبقاء دليل ولا الإثبات دليل.

لأنّا نقول : الإبقاء والإثبات والحكم بالبقاء أو الثبوت كلها ألفاظ مترادفة فاريد من بعضها ما يراد بالآخر ، فالمراد بالإبقاء والإثبات هو الحكم بالبقاء والحكم بالثبوت وهو حكم العقل به ظنّا ، ويعني بحجّية الاستصحاب حجّيّة هذا الحكم العقلي وإطلاق الدليل عليه أيضا إنّما هو بهذا الاعتبار ، فيصحّ إضافة الحجّية إلى الإبقاء والإثبات وإطلاق الدليل عليهما بتأويلهما إلى هذا الحكم العقلي.

وينبغي التنبيه على امور :

الأمر الأوّل : أنّ الاستصحاب على ما يظهر بالتأمّل في التعاريف المذكورة وغيرها يعتبر فيه عدّة امور هي من مقوّماته الّتي يلزم باختلال واحد منها انتفاء ماهيّة الاستصحاب ، وهي الحكم وموضوعه واليقين السابق والشكّ اللاحق ، وكون الحكم المتيقّن ثبوته في الآن السابق قابلا للشكّ في بقائه في الآن اللاحق. والمراد بموضوع الحكم أن يكون موضوعه في الآن اللاحق عين ما هو موضوعه في الآن السابق ، والمراد باليقين السابق أن يكون متعلّق اليقين هو الزمان السابق وإن لم يكن ظرفا لوجوده أيضا ، كعدالة زيد إذا حصل اليقين في الآن المتأخّر بثبوتها في آن سابق عليه مع الشكّ في بقائها في ذلك الآن المتأخّر من دون سبق اليقين بها في الآن السابق إمّا لغفلة أو شكّ.

وبالجملة لا يعتبر في اليقين المعتبر في الاستصحاب سبق حدوثها في الزمان السابق ، بل يكفي تعلّقها به وإن تأخّر حدوثه إلى زمان الشكّ ، بحيث يكون زمان واحد ظرفا

٢٥٤

لحدوث اليقين والشكّ معا ، بأن يكون متعلّق اليقين هو الزمان السابق ومتعلّق الشكّ هو ذلك الزمان اللاحق الّذي هو ظرف لحدوثيهما.

وما يقال : من أنّ اليقين والشكّ متناقضان فلا يجتمعان معا ، معناه أنّهما لا يجتمعان في متعلّق واحد في زمان واحد ، لا أنّهما لا يجتمعان في زمان واحد مع تعدّد متعلّقيهما.

والمراد بالشكّ اللاحق أن يكون متعلّق الشكّ هو الزمان اللاحق وإن كان ظرف حدوثه زمان سابق عليه لا خصوص ما يكون الزمان اللاحق ظرفا لحدوثه أيضا ، فلو حصل اليقين بعدالة زيد في وقت وشكّ معه في بقائها في الأزمنة المتأخّرة عنه ليجري عليه أحكام العدالة من هذا الوقت في الأزمنة المتأخّرة استصحابا.

وعليه مبنى النيابات والوكالات والوصايا فيما إذا لوحظ وصف العدالة حين العقد في النائب والوكيل والوصي مع تأخّر زمان العمل عن زمان العقد ولو بكثير. وإذا عرفت أركان الاستصحاب فاعلم : أنّ هاهنا عدّة أشياء ربّما تعدّ من الاستصحاب صورة وليست منه حقيقة لخروجها عن مسمّاه الاصطلاحي ، بل معناه اللغوي أيضا ، كالاستصحاب القهقري ، والاستصحاب في الشكّ الساري ، والاستصحاب العرضي ، واستصحاب الشيء مع تبدّل موضوعه ، والاستصحاب في الأحكام العقليّة ، فإنّ الأوّل عكس قانون الاستصحاب ، لأنّه عبارة عن تعدية الحكم اليقيني في الآن اللاحق إلى الآن السابق المشكوك في تحقّقه فيه ، فلا يكون ذلك استصحابا حتّى لغة ، لانتفاء طلب الصحبة فيه ، بل هو عند التحقيق غير معقول لامتناع اعادة المعدوم.

والثاني ليس معه يقين سابق لتعلّق الشكّ بالحدوث والبقاء ، وإن سبقه الاعتقاد بالحدوث لزواله بسراية الشكّ.

و [ الثالث ](١) فيما كان له جهتان ذاتيّة وعرضيّة مع كون الجهة الاولى مشكوكة من بدو الأمر والثانية منتفية وقد لحقها ما يرفعها ، كالحيوان المتولّد من كلب وغنم مع كون امّه الكلب من دون أن يشبه أحد أبويه ولا مماثل له يتبعه في الحكم طهارة ، فإنّه إذا غسل بالماء ثمّ استصحب نجاسته السابقة على الغسل كان ممّا انتفى معه أحد ركنيه اليقين السابق إن اريد استصحاب نجاسته الذاتيّة ، أو الشكّ اللاحق إن اريد استصحاب نجاسته العرضيّة.

__________________

(١) وفي الأصل : « الثاني » بدل « الثالث » والصواب ما أثبتناه في المتن نظرا إلى السياق ولعلّه سهو منه قدّس سره.

٢٥٥

والرابع والثالث (١) كاستصحاب نجاسة الكلب الواقع في المملحة المستحيل ملحا ، ويفسده : أنّ النجاسة إنّما ثبتت للكلب وهذا ملح وليس بكلب ، وحكم الملح ولو بحكم الأصل الطهارة ، ومن المستحيل انسحاب حكم موضوع إلى موضوع آخر.

والخامس مدفوع بأنّ حكم العقل مع بقاء موضوعه على الوجه الّذي لاحظه العقل ممّا لا يقبل الشكّ ، ومع عدم بقاء الموضوع خرج المورد عن محلّ الاستصحاب كما عرفت.

الأمر الثاني : أنّ الاستصحاب على تقدير كونه عقليّا ـ كما عليه العامّة وقدماء أصحابنا وتبعهم المصنّف وقبله الفاضلان ـ وهو حكمه الظنّي بأنّ ما ثبت دام ، مندرج في الأدلّة العقليّة كما أشرنا إليه سابقا وشرحناه في الجملة في أوائل مسألة التحسين والتقبيح العقليّين ، ونزيد هنا بيانا : أنّه حكم عقليّ يتوصّل به إلى حكم شرعي بواسطة أخذه كبرى في قياس صغراه فرضيّة ، وينتظم بهذه الصورة : « أنّ الحكم الفلاني قد ثبت ولم يعلم ارتفاعه ، وكلّما كان كذلك فهو باق » وحيث إنّ الكبرى ظنّية فالنتيجة الحاصلة منه ظنّية ، وعليه مبنى القول باعتبار الاستصحاب من باب الظنّ ، بخلاف ما لو أخذ من الأخبار كما عليه متأخّر والمتأخّرين من أصحابنا ، وهو الموافق للتحقيق على ما سنقرّره ، فلا يمكن كونه حينئذ من قبيل الدليل ، ضرورة أنّ المستفاد من قوله عليه‌السلام : « لا ينقض اليقين إلاّ بيقين مثله (٢) » إنّما هو وجوب الحكم ببقاء ما كان على ما كان وهذا من قبيل المدلول ، وكذا لو قرّرناه بوجوب ترتيب آثار البقاء على ما كان ، فحينئذ يكون مؤدّاه من الأحكام الظاهريّة المجعولة للجاهل بوصف كونه جاهلا ، وعليه مبنى القول بكونه معتبرا من باب التعبّد وعدّه في عداد الاصول العمليّة المقرّرة للجاهل ، ولا إشكال في كون الحكم المذكور من حيث كونه مستفادا من الأخبار من قبيل القواعد الكلّيّة المأخوذة في المسائل الفرعيّة الاستنباطيّة من باب المبادئ التصديقيّة والمباني الشرعيّة ، نظير قاعدتي نفي الضرر ولزوم البيع ، وقد يجعل الاستصحاب على هذا التقدير من قبيل القاعدة ولعلّه مسامحة من تسمية المتعلّق باسم المتعلّق ، وإلاّ فالقاعدة المستنبطة من الأخبار هو وجوب الحكم بالبقاء ، والاستصحاب موضوع لذلك الحكم لا أنّه نفس القاعدة.

__________________

(١) والظاهر أنّ هذا مثال للقسم الرابع ، وهو استصحاب الشيء مع تبدّل موضوعه ولذا لا وجه لذكر كلمة « الثالث » هنا فافهم.

(٢) الوسائل ١ : ١٧٤ ـ ١٧٥ ، الباب ١ من أبواب نواقض الوضوء ، ح ١ ، و ٣٣٣ ، الباب ٤٤ من أبواب الوضوء ، ح ١ ، و ٢ : ٥٩٤ ، الباب ٤٤ من أبواب الحيض ، ح ٢ ، و ٣ : ٢٢٦ ، الباب ٨ من أبواب القبلة ، ح ٦.

٢٥٦

اللهمّ إلاّ أن يقال : إنّ المدلول المستفاد من قوله عليه‌السلام : « لا ينقض اليقين أبدا بالشكّ (١) » هو حكم الشارع ببقاء ما كان على ما كان ، والاستصحاب أيضا حكم بالبقاء فيصحّ إطلاق القاعدة عليه وإطلاقه عليها حينئذ.

وفيه ـ مع ما فيه من التكلّف والخروج عن ظاهر النهي بلا صارف ـ : أنّه خروج عن الاصطلاح ، لأنّ الاستصحاب على ما بيّنّاه من قبيل فعل المكلّف ، وما ذكر من التكلّف يقتضي كونه من فعل الشارع.

وعلى أيّ تقدير كان فهل المسألة في بحث الاستصحاب اصوليّة أو لا؟ بل هي من توابع المسائل الكلاميّة الّتي تذكر في هذا الفنّ من باب المبادئ التصديقيّة ، أو أنّها مسألة فرعيّة تؤخذ من مباني الفروع ، نظير سائر القواعد المقرّرة في الفقه لما فيها من المبنائيّة؟ احتمالات لكلّ منها وجه في تقدير.

وتوضيحه : أنّ الاستصحاب على القول به من باب حكم العقل قد عرفت أنّه دليل عقليّ فالبحث عن حجّيّته وعدم حجّيّته يحتمل وجهين :

أحدهما : كونه صغرويّا راجعا إلى حكم العقل ظنّا ببقاء ما كان وعدم حكمه فيه ، نظير الخلاف في حجّيّة العامّ المخصّص وفي حجّيّة المفاهيم كما هو ظاهر بعض أدلّة الفريقين على ما ستعرفه ، وعليه فينبغي القطع بعدم كونه بحثا في مسألة اصوليّة ، لأنّه بحث يقصد به إثبات ذات الدليل العقلي نظير البحث في التحسين والتقبيح العقليّين على ما هو محلّ النزاع بين الأشاعرة والعدليّة ، لا أنّه بحث عن حال الدليل ، فتكون المسألة من توابع المسائل الكلاميّة.

وثانيهما : كونه كبرويّا راجعا إلى الملازمة بين هذا الحكم العقلي الظنّي ـ بعد الفراغ عن إثباته ـ وبين الحكم الشرعي ، وعليه فيقصد بالبحث عن الحجّيّة إحراز وصف الدليليّة لهذا الحكم العقلي الظنّي ، ففي كونه حينئذ مسألة اصوليّة وعدمه وجهان ، مبنيّان على اعتبار وصف الدليليّة في موضوع هذا العلم ـ كما عليه بعض الأعلام على ما سبق في أوائل الجزء الأوّل من الكتاب (٢) عند الكلام في تحقيق موضوع العلم ـ وعدمه بدعوى كونه ذات الدليل كما زعمه بعض الفضلاء.

__________________

(١) الوسائل ١ : ١٧٤ ـ ١٧٥ ، الباب ١ من أبواب نواقض الوضوء ، ح ١ ، و ٢ : ٥٩٤ ، الباب ٤٤ من أبواب الحيض ، ح ٢ ، و ٣ : ٢٢٦ ، الباب ٨ من أبواب القبلة ، ح ٦.

(٢) تعليقة على معالم الأصول ١ : ٢٠٢.

٢٥٧

ويظهر أثر هذا الخلاف في مباحث حجّيّة الأدلّة كالكتاب وخبر الواحد والإجماع المنقول وما أشبه ذلك ومنها ما نحن فيه ، وحيث إنّ الأرجح عندنا دخول الوصف في الموضوع فنرجّح عدم كونه أيضا مسألة اصوليّة.

إلاّ أن يتكلّف بإرجاع البحث في الحجّية وعدمها إلى انحصار أدلّة الأحكام في الأربع المعهودة وعدم انحصارها فيها ، وظاهر أنّ انحصارها وعدم انحصارها في الأربع من أحوال الأدلّة اللاحقة لها بوصف الدليليّة.

ولكنّه ضعيف جدّا ، إذ مسائل كلّ علم هي الأحوال المختصّة بموضوعه المطلوبة من تدوينها ، فلا بدّ وأن تكون الحالة مطلوبة بالذات من عقد المسألة ، والمقصود بالذات من عقد مسألة الاستصحاب إنّما هو وصف الدليليّة فيه ، وإن لزم [ من ] اثباته عدم انحصار أدلّة الأحكام فيما عداه ، كلزوم نفيه انحصارها فيما عداه ، فالانحصار وعدمه حالة غير مطلوبة من عقد المسألة ، فتأمّل.

وأمّا على القول بالاستصحاب من جهة الأخبار فالمتّجه كون المسألة الباحثة من مسائل الفروع ، لأنّ الحكم المستفاد من قوله : « لا تنقض ... » إلى آخره هو الوجوب ، ومعروضه الحكم بالبقاء وهو من مقولة فعل المكلّف ، فتكون المسألة باحثة عن حال من أحوال فعل المكلّف.

لكن قد يقال ـ لادراجه على هذا التقدير في المسائل الاصوليّة ـ : بأنّ تشخيص مسائل كلّ علم عمّا عداها بأحد الأمرين : إمّا اندراج موضوع المسألة في موضوع العلم ، أو اندراجها في تعريف العلم.

ولا ريب أنّ وجوب الحكم ببقاء ما كان على ما كان قاعدة ممهّدة لاستنباط الأحكام الشرعيّة الفرعيّة ، فيشملها تعريف اصول الفقه بالعلم بالقواعد الممهّدة لاستنباط الأحكام الشرعيّة الفرعيّة.

ويزيّفه : أنّ موضوع العلم على ما صرّحوا به لا بدّ وأن يكون جهة جامعة لمسائله ، فلا بدّ من اندراج موضوع المسألة فيه ، مضافا إلى ما ذكره المحقّقون في ضابط مسائل كلّ علم من أنّه لا بدّ لها من موضوعات هي إمّا نفس موضوع العلم ، أو جزء من أجزائه ، أو نوع من أنواعه ، أو عرض ذاتيّ له ، أو نوع من عرضه الذاتي وإلى (١) ما حقّق في محلّه

__________________

(١) عطف على قوله : مضافا إلى ما ذكره المحقّقون الخ ».

٢٥٨

أيضا من أنّ تمايز العلوم بتمايز الموضوعات ، ومعناه أنّ تمايز مسائل كلّ علم عن مسائل علم آخر بتمايز موضوعيهما ، وهذا لا يتمّ إلاّ بأن تكون مسائل العلم باحثة عمّا يرجع إلى الموضوع بأحد من الاعتبارات المذكورة.

وقضيّة هذا كلّه عدم كفاية مجرّد صدق تعريف العلم على مسألة في كونها مسألة هذا العلم.

ومع الغضّ عن جميع ذلك يتطرّق المنع إلى شمول التعريف لها أيضا ، لأنّ المأخوذ فيه إنّما هي القواعد الّتي مهّدت لاستنباط الأحكام الشرعيّة الفرعيّة عن الأدلّة التفصيليّة على معنى استنباط الأحكام عن الأدلّة بمعونة هذه القواعد ، وهذه المسألة ليست من هذا القبيل ، لأنّها مهّدت لمعرفة أحكام جزئيّات موضوعها على وجه يكون الواسطة هي نفس هذه القاعدة لا غيرها ممّا هو دليل كما أشرنا إليه في بحث المقدّمة ، كيف ولو لا ذلك لأمكن التوصّل بما ذكر لإدراج جميع القواعد المقرّرة في الفقه الّتي يستنبط منها الفروع ـ كقاعدة نفي الضرر وقاعدة السلطنة وقاعدة اللزوم وقاعدة الصحّة في المعاملة أو في فعل المسلم ونحو ذلك ممّا لا يحصى كثرة ـ في المسائل الاصوليّة وإنّه باطل.

ومن مشايخنا من فصّل في المقام بين ما يكون من الاستصحاب في الشبهات الحكميّة لاشتباه الحكم الشرعي ، كاستصحاب نجاسة الماء المتغيّر بالنجاسة إذا زال تغيّره ، بنفسه وما يجري منه في الشبهات الموضوعيّة لاشتباه موضوع الحكم الشرعي ، كعدالة زيد وطهارة ثوبه وفسق عمر ونجاسة بدنه ، بما ملخّصه : « أنّ المسألة على الأوّل اصوليّة ، لاختصاص إجراء هذا النحو من الاستصحاب بالمجتهد وكونه من وظيفته ولا حظّ فيه للمقلّد ، وهذا من خواصّ المسألة الاصوليّة ، وعلى الثاني لا إشكال في كونها فرعيّة (١) » وقرينة المقابلة يقتضي كون الوجه في فرعيّتها على هذا التقدير اشتراك إجرائه حينئذ بين المجتهد والمقلّد وعدم اختصاصه بالمجتهد.

وفيه : ما لا يخفى ، فإنّ من خواصّ المسألة الاصوليّة أن يختصّ إجراؤها في مواردها بالمجتهد ، وهذا لا يقضي بأن يكون كلّ ما يختصّ إجراؤه في موارده بالمجتهد مسألة اصوليّة ، فإنّ إجراء نحو قاعدة الناس مسلّطون على أموالهم ، وقاعدة نفي الحرج ، وقاعدة نفي الضرر ، وقاعدة البيّنة على المدّعي واليمين على من أنكر ، وغير ذلك ممّا لا يحصى في مواردها من وظائف المجتهد وخصائصه وليست من المسائل الاصوليّة ، مع أنّ ما يختصّ

__________________

(١) فرائد الاصول ٣ : ١٨.

٢٥٩

بالمجتهد من الاستصحاب عند اشتباه الحكم الشرعي إنّما الحكم ببقائه على ما كان ، ووجه اختصاصه به أنّه نوع من استنباط الحكم الشرعي الفرعي من مدركه وهو الاستصحاب وهو من وظائف المجتهد ، وهذا لا ينافي أن يكون الوجوب العارض لذلك الحكم بالبقاء حكما فرعيّا ، ويكون المسألة الباحثة لا ثبات هذا الحكم الفرعي لموضوعه من جهة قوله : « لا ينقض اليقين بالشكّ » (١) مسألة فرعيّة ، لأنّ المسألة الفرعيّة ما كانت باحثة عن الأحوال العارضة لفعل المكلّف.

ولا ريب أنّ الحكم بالبقاء من مقولة فعل المكلّف وإن اختصّ في بعض موارده بالمجتهد ، والوجوب المستنبط من قوله : « لا ينقض » عارض له.

ولا حاجة مع ما ذكرناه في دفع الكلام المذكور إلى أن يقال في دفعه : أنّ اختصاص هذه المسألة بالمجتهد لأجل أنّ موضوعها وهو الشكّ في الحكم الشرعي وعدم قيام الدليل الاجتهادي عليه لا يتشخّص إلاّ للمجتهد ، وإلاّ فمضمونه وهو العمل على طبق الحالة السابقة وترتيب آثارها مشترك بين المجتهد والمقلّد ، ليندفع ويجاب عنه بأنّ جميع المسائل الاصوليّة كذلك ، فإنّ وجوب العمل بخبر الواحد وترتيب آثار الصدق عليه ليس مختصّا بالمجتهد.

نعم تشخيص مجرى خبر الواحد وتعيين مدلوله وتحصيل شروط العمل به مختصّ بالمجتهد ، لتمكّنه من ذلك وعجز المقلّد عنه ، فكأنّ المجتهد نائب عن المقلّد في تحصيل مقدّمات العمل بالأدلّة الاجتهاديّة وتشخيص مجاري الاصول العمليّة ، وإلاّ فحكم الله الشرعي في الاصول والفروع مشترك بين المجتهد والمقلّد.

ثمّ بقي الكلام فيما عزى في المقام إلى بعض السادة الفحول (٢) من أنّه جعل الاستصحاب دليلا على الحكم في مورده وجعل قولهم عليهم‌السلام : « لا تنقض اليقين بالشكّ » دليلا على الدليل ، نظير آية النبأ بالنسبة إلى خبر الواحد حيث قال : « إنّ استصحاب الحكم المخالف للأصل في شيء دليل شرعي رافع لحكم الأصل ومخصّص لعمومات الحلّ ـ إلى أن قال ـ : وليس عموم قولهم عليهم‌السلام : « لا تنقض اليقين بالشكّ بالقياس إلى أفراد الاستصحاب وجزئياته إلاّ كعموم آية النبأ بالقياس إلى أخبار الآحاد المعتبرة » انتهى (٣).

__________________

(١) الوسائل ٥ : ٣٢١ ، الباب ١٠ من أبواب الخلل الواقع في الصلاة ، ح ٣.

(٢) هو السيّد بحر العلوم في فوائده.

(٣) فوائد السيد بحر العلوم : ١١٦ ـ ١١٧.

٢٦٠