تعليقة على معالم الاصول - ج ٦

السيّد علي الموسوي القزويني

تعليقة على معالم الاصول - ج ٦

المؤلف:

السيّد علي الموسوي القزويني


المحقق: السيد علي العلوي القزويني
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
المطبعة: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ١
ISBN: 964-470-559-9
الصفحات: ٤٨٦

والظاهر أنّ مراده بقرينة التنظير بآية النبأ وخبر الواحد جعل الاستصحاب عبارة عن حكم عقلي ظنّي بالبقاء. وقولهم عليهم‌السلام : « لا تنقض اليقين » دليل على الملازمة بينه وبين الحكم الشرعي ، فالاستصحاب دليل عقلي ملازم للحكم الشرعي بملازمة شرعيّة أثبتها قولهم : « لا تنقض ». وعليه فيكون المسألة الباحثة لإثبات هذه الملازمة من جهة الرواية اصوليّة ، وهذا متين بعد التوجيه المذكور ، حسن على تقدير ثبوت مقدّمات ثلاث :

أحدها : حكم العقل بالبقاء ظنّا.

والاخرى : كون موضوع علم الاصول ذات الدليل لا بشرط وصف الدليليّة.

والثالثة : كون قولهم : « لا تنقض اليقين بالشكّ » مسوقا لبيان الملازمة المذكورة بين الحكم المذكور والحكم الشرعي ، والكلّ محلّ منع.

أمّا منع الاولى : فلما سنحقّقه.

وأمّا منع الثانية : فقد مرّ الإشارة إليه.

وأمّا منع الثالثة : فلظهور الرواية في كونها مسوقة لإعطاء حكم ظاهري تعبّدي للجاهل من حيث هو شاكّ في البقاء بعد اليقين بالثبوت ، وهو وجوب الحكم بالبقاء وترتيب آثار الباقي على ما احتمل بقاؤه مطلقا ، من دون تعرّض فيها لحكم العقل والملازمة بينه وبين حكم الشرع.

ولو أراد ممّا عرفت كون المستفاد من الرواية قاعدة من القواعد ، وهي دليل على الحكم في موردها والرواية دليل على هذا الدليل.

ففيه : ضعف واضح ، إذ إعمال القاعدة في كلّ مورد لمعرفة حكم ذلك المورد ليس على أنّها دليل الحكم في ذلك المورد ، بل على أنّ دليله هو عموم دليل هذه القاعدة ، فليست القاعدة واسطة بين حكم المورد ودليلها لتكون دليلا عليه ، ودليلها دليلا على الدليل ، فبطل التنظير بخبر الواحد وآية النبأ.

وبالجملة القاعدة إذا كانت من قبيل مدلول الدليل فإجراؤها على جميع جزئيّات موضوعها عمل بعموم ذلك الدليل ، ولا فرق في عدم كون البحث عنه على هذا التقدير بين كون المستصحب حكما اصوليّا كاستصحاب الظهور في العامّ المخصّص المبحوث عن حجّيّته ، واستصحاب حجّيّة أخبار الآحاد الثابتة في أزمنة الحضور لإثباتها في أزمنة الغيبة وغيره. فما يتراءا في كلام بعض من كون الأوّل مسألة اصوليّة غير جيّد.

٢٦١

نعم البحث في جريان الاستصحاب في ظهورات الألفاظ وعدمه بحث في المسألة الاصوليّة ، غير أنّه ممّا لا تعلّق له بالبحث عن الاستصحاب فيما هو جار فيه.

ولقد عثرنا في كلام السيّد الطباطبائي في رسالته الاستصحابيّة على دعوى الإجماع على كون المسألة في بحث الاستصحاب اصوليّة ، ولم نتحقّق معنى هذا الإجماع مع تطرّق المنع إلى أصل انعقاده ، إلاّ أن يراد منه الإجماع على تدوينها في علم الاصول ، وهذا كما ترى لا يلازم مطلوبه. وكيف كان فلا ينبغي الاصغاء إلى هذه الدعوى مضافا إلى بطلان أصل المدّعى.

الأمر الثالث : في تحرير محلّ النزاع واعلم أنّه يحرّر من جهات :

منها : ما ظهر في الجملة من تضاعيف كلماتنا السابقة من أنّ الاستصحاب قد يتكلّم فيه من حيث العقل وقد يتكلّم فيه من حيث النقل ، ونتيجته على الأوّل عند قائليه حكم واقعي ظنّي ومدار اعتباره على الظنّ. وعلى هذه الطريقة بعد العامّة شيخ الطائفة (١) والسيّدان (٢) والفاضلان (٣) والشهيدان (٤) والمصنّف (٥) وغيرهم ، ولم نقف منهم على من اعتمد في هذا الباب على ما ورد فيه من الروايات المعتبرة المستفيضة عدا ما عن الشيخ في العدّة من انتصار القائل بحجّيّته تمسّكا بما روي عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله من : « أنّ الشيطان ينفخ بين إليتي المصلّي ، فلا ينصرفنّ أحدكم إلاّ بعد أن تسمع صوتا أو تجد ريحا (٦) ».

وفي كلام بعض مشايخنا : « إنّ أوّل من تمسّك بهذه الأخبار فيما وجدته والد الشيخ البهائي فيما حكي عنه من العقد الطهماسبي (٧) وتبعه صاحب الذخيرة (٨) وشارح الدروس (٩) وشاع بين من تأخّر عنهم (١٠) غاية الشيوع.

نعم ربّما يظهر من الحلّي في السرائر (١١) الاعتماد على هذه الأخبار ، حيث عبّر عن استصحاب نجاسة الماء المتغيّر بعد زوال تغيّره من قبل نفسه بنقض اليقين باليقين ، وهذا يشعر بكونه مأخوذا من الأخبار (١٢).

__________________

(١) العدّة ٢ : ٧٥٨.

(٢) السيد المرتضى في الذريعة ٢ : ٨٢٩ ـ ٨٣٢ ، والسيد ابن زهرة في الغنية ( الجوامع الفقهية ) : ٤٨٦.

(٣) المحقق في المعارج : ٢٠٦ ـ ٢٠٨ ، والمعتبر ١ : ٣٢ والعلاّمة في مبادئ الوصول : ٢٥٠ و ٢٥١ ، وتهذيب الوصول : ١٠٥.

(٤) الشهيد الأوّل في الذكرى ١ : ٥٣ والقواعد والفوائد ١ : ١٣٢ والشهيد الثاني في تمهيد القواعد : ٢٧١.

(٥) المعالم : ٢٣٣ ـ ٢٣٤.

(٦) عوالي اللئالي ١ : ٣٨٠ ، الحديث الأوّل ، مع اختلاف في العبارة.

(٧) العقد الطهماسبي ( مخطوط ) : الورقة ٢٨.

(٨) الذخيرة : ٤٤ و ١١٥ ـ ١١٦.

(٩) مشارق الشموس : ٧٦ ـ ١٤١ ـ ١٤٢. (١٠) كما في الفصول : ٣٧٠ ، والقوانين ٢ : ٥٥.

(١١) السرائر ١ : ٦٢. (١٢) انظر فرائد الاصول ٣ : ١٤.

٢٦٢

وهو على الثاني عند قائليه حكم تعبّدي ظاهري موضوعه الجاهل بالبقاء الّذي سبقه يقين الحدوث ، ومناطه عدم العلم بالارتفاع ، سواء شكّ في البقاء والارتفاع على وجه التساوي أو ظنّ البقاء أو ظنّ الارتفاع. ومبناه على الاعتماد على الأخبار كما عرفت. ومنهم من جمع بين الطريقين كبعض الأعلام (١) فاعتبره تارة من حيث الظنّ وتارة من حيث التعبّد. ومرجع الاختلاف في حجّيّته على الطريقة الاولى إلى النزاع في أمر صغروي ، وهو حصول الظنّ بالبقاء بملاحظة الحالة السابقة على ما ظهر من عبارة العضدي المتقدّمة.

وهاهنا نزاع آخر على القول بكون اعتباره من باب الظنّ ربّما يستشمّ من كلماتهم ، وهو أنّ المعتبر من الظنّ الاستصحابي هل هو الظنّ الشخصي ـ وهو كون مناط حجّيّة الظنّ الفعلي في جميع مجاريه وكلّ من أشخاصه ـ أو الظنّ النوعي ، وهو كونه بحيث لو خلّي وطبعه يفيد ظنّ البقاء وهو كاف في جواز العمل به وإن لم يفد بعض أشخاصه الظنّ لعارض؟ فالمعهود من طريقة الفقهاء في مجاري الاستصحاب من أبواب العبادات والمعاملات والأحكام على ما يعلم بأدنى تتبّع عدم توقيفهم الاستصحاب على إفادة الظنّ الفعلي في خصوص المقام ، وأخذهم بمقتضيات الاصول العدميّة والوجوديّة من دون مراعاة أن يكون الآخذ بها ظانّا ببقاء الحالة السابقة.

وبالجملة المعهود من طريقة العاملين بالاستصحاب من الأصحاب الاكتفاء بنوعه على أنّه لو خلّي وطبعه من أسباب الظنّ ، ولا يلتزمون شخص الظنّ في كلّ مورد. وعلى هذا فلا يتفاوت حال الاستصحاب في الأحكام الكلّية بالنظر إلى الأشخاص ولا بتفاوت الأزمان ولا باختلاف الأوضاع.

نعم ربّما يظهر الوقوف على الظنّ الشخصي من شيخنا البهائي في كلام له محكيّ عن الحبل المتين في باب الشكّ في الحدث بعد يقين الطهارة ، قائلا : « لا يخفى أنّ الظنّ الحاصل بالاستصحاب فيمن تيقّن الطهارة وشكّ في الحدث لا يبقى على نهج واحد ، بل يضعّف بطول المدّة شيئا فشيئا ، بل قد يزول الرجحان ويتساوى الطرفان ، بل ربّما يصير الراجح مرجوحا كما إذا توضّأ عند الصبح وذهل عن التحفّظ ثمّ شكّ عند المغرب في صدور الحدث منه ولم يكن من عادته البقاء على الطهارة إلى ذلك الوقت ، والحاصل أنّ المدار على الظنّ فما دام باقيا فالعمل عليه وإن ضعف » انتهى (٢).

__________________

(١) القوانين ٢ : ٥٧ ـ ٥٩.

(٢) الحبل المتين : ٣٧.

٢٦٣

وقد يستظهر ارتضاؤه من شارح الدروس حيث إنّه بعد حكاية كلامه قال : « ولا يخفى أنّ هذا إنّما يصحّ لو بنى المسألة على أنّ ما تيقّن بحصوله في وقت ولم يعلم أو يظنّ طروّ ما يزيله يحصل الظنّ ببقائه والشكّ في نقيضه لا يعارضه ، إذ الضعيف لا يعارض القويّ ، لكن هذا البناء ضعيف ، بل بناؤها على الروايات مؤيّدة بأصالة البراءة في بعض الموارد وهي تشمل الشكّ والظنّ معا ، فإخراج الظنّ منه ممّا لا وجه له أصلا » انتهى (١).

قيل : ويمكن استظهاره من الشهيد أيضا في الذكرى حيث ذكر. « أنّ قولنا : « اليقين لا ينقضه الشكّ ) لا يعنى به اجتماع اليقين والشكّ ، بل المراد أنّ اليقين الّذي كان في الزمن الأوّل لا يخرج عن حكمه بالشكّ في الزمان الثاني ، لأصالة بقاء ما كان فيؤول إلى اجتماع الظنّ والشكّ في الزمان الواحد فيرجّح الظنّ عليه كما هو مطّرد في العبادات » انتهى (٢).

وحيث إنّ بناء الاستصحاب على الظنّ عندنا فاسد على ما ستعرفه ، فلا يهمّنا التكلّم في تحقيق أنّ الظنّ الاستصحابي هل يعتبر نوعا أو شخصا.

ومنها : ما يتلى عليك في تضاعيف الكلام في بيان أقسام الاستصحاب والتعرّض لبيان جهات انقسامه ، فليعلم : أنّه ينقسم تارة باعتبار دليل المستصحب ، واخرى باعتبار نفس المستصحب ، وثالثة باعتبار الشكّ المأخوذ فيه ، وهذه هي الجهات الأوليّة الّتي باعتبارها ينقسم الاستصحاب.

أمّا الجهة الاولى : فمن وجوه ثلاث :

أوّلها : انقسامه إلى استصحاب حال العقل واستصحاب حال الشرع ، وإنّما جعلناه من انقسامه باعتبار الدليل لأنّ العقل والشرع كلاهما دليلان ، وهذا أوفق بالاعتبار من جعله من الانقسام باعتبار المستصحب كما سبق إلى بعض الأوهام. والحالان المأخوذان في هذين القسمين قسمان من الحال الّتي يضاف إليها الاستصحاب في قولهم : « استصحاب الحال » وهي عبارة عن الحالة العارضة للشيء المتيقّن ثبوتها في آن ، المشكوك بقاؤها في آن آخر لا حق بالآن الأوّل ، وهي بالاعتبار الأوّل تسمّى بالحالة السابقة المعتبر ملاحظتها في الاستصحاب ، على معنى أنّ تلك الحالة العارضة باعتبار كون ثبوتها في الآن الأوّل متيقّنا يقال لها الحالة السابقة لا مطلقا ، فحال العقل وحال الشرع يراد بهما الحالتان العارضتان للشيء باعتبار استناد ثبوتهما إلى الدليل العقلي أو الدليل الشرعي كائنا ما كان. وعليه فقرينة مقابلة حال العقل بحال الشرع تقتضي كونها عبارة عن الحالة المستندة إلى العقل ،

__________________

(١) مشارق الشموس : ١٤٢.

(٢) الذكرى ١ : ٢٠٧ مع اختلاف يسير.

٢٦٤

لأنّ حال الشرع عبارة عن الحالة المستندة إلى الشرع ، لا الحالة الّتي يحكم العقل على طبقها.

فما يقال في شرح استصحاب حال العقل المتداول في لسانهم مريدين به استصحاب البراءة وعدم التكليف المتّفق على جوازه وجريانه بل حجّيته في الجملة ـ من أنّ المراد استصحاب الحال الّتي يحكم العقل على طبقها وهو عدم التكليف ، لا الحال المستندة إلى العقل حتّى يقال : إنّ مقتضى ما تقدّم هو عدم جواز استصحاب عدم التكليف عند ارتفاع القضيّة العقليّة ، وهي قبح تكليف غير المميّز أو المعدوم كما في كلام بعض مشايخنا (١) ـ ليس بجيّد.

أمّا أوّلا : فلشناعة التفكيك بين حالي العقل والشرع في قسمي التقسيم المذكور. وحمل حال الشرع ، أيضا على إرادة الحال الّتي يحكم الشرع على طبقها دون الحال المستندة إلى الشرع ممّا ينبغي القطع بفساده ، لأنّ الأحكام الشرعيّة الّتي لا مدخل للعقل فيها بأسرها مستندة إلى شارع ومستفاد من الأدلّة الشرعيّة ، بناء على كون الوجه في استنادها إليها كونها وسائط في إثباتها لا ثبوتها.

وأمّا ثانيا : فلأنّه قدس‌سره على ما ظهر من التعليل إنّما ارتكب هذا التكلّف قصدا إلى دفع السؤال الّذي أشار إليه ، الوارد على تقدير كون المراد من استصحاب حال العقل استصحاب الحال المستندة إلى العقل من جهة ما تقدّم ممّا حقّقه في سابق كلامه من أنّ الاستصحاب لا يجري في الأحكام العقليّة ولا في الأحكام الشرعيّة المستندة إليها ، سواء كانت وجوديّة أم عدميّة إذا كان العدم مستندا إلى القضيّة العقليّة ، كعدم وجوب الصلاة مع السورة على ناسيها. وأمّا ما لم يكن مستندا إلى القضيّة العقليّة بل كان لعدم وجود المقتضي للوجود وإن كانت القضيّة العقليّة موجودة أيضا فلا بأس باستصحابه بعد ارتفاع القضيّة العقليّة ، ومنه استصحاب حال العقل المراد به استصحاب البراءة والنفي.

والسرّ في عدم جريانه فيما استند إلى القضيّة العقليّة بعد ارتفاعها على ما أفاده سابقا هو أنّ ارتفاع تلك القضيّة في الأحكام المستندة إليها لا يكون إلاّ لتبدّل موضوع القضيّة ومعه يستحيل الاستصحاب ، ويرد عليه أمران :

أحدهما : أنّ جعل العدم في عدم التكليف بالقياس إلى المعدوم وغير المميّز ممّا استند إلى عدم المقتضي لا إلى القضيّة العقليّة وهي قبح تكليف المعدوم وغير المميّز ، تصحيحا لاستصحابه الّذي لا كلام لأحد في صحّته غير صحيح ، لأنّ الّذي يستند إلى عدم المقتضي

__________________

(١) فرائد الاصول ٣ : ٤٠.

٢٦٥

إنّما هو نفس عدم التكليف ، بناء على أنّ انتفاء علّة الوجود علّة للعدم والّذي يطلب من الدليل عقليّا كان أو شرعيّا إنّما هو العلم بعدم التكليف ، وهو المراد من استناد الأحكام العقليّة بأسرها إلى العقل ، بناء على أنّه واسطة في إثباتها ـ أي العلم بثبوتها ـ لا في ثبوتها ، بأن يكون العلّة لثبوت الحكم وجوديّا أو عدميّا هو العقل ، وإلاّ لم يتحقّق للحكم العقلي ـ بمعنى ما يستند إلى العقل ـ مصداق أصلا.

ولا ريب أنّ عدم التكليف فيما ذكر يستند إلى القضيّة العقليّة على معنى استناد العلم به إليهما.

وثانيهما : أنّ المناص عن الإشكال المذكور غير منحصر في التكليف الّذي يكذّبه الاعتبار ، بل لنا مناص آخر موافق للاعتبار غير مفتقر إلى نحو هذا التكلّف وسنشير إليه فيما بعد ذلك.

وإذا ظهر أنّ حال العقل لا بدّ وأن يراد منها الحال المستندة إلى العقل ، علم أنّه عبارة عن الحكم العقلي الّذي يتفرّع عليه الحكم الشرعي بحكم الملازمة بين العقل والشرع ، أو عبارة عن نفس الحكم الشرعي المترتّب على الحكم العقلي المعبّر عنه بالقضيّة العقليّة ، وهل هو مخصوص بالحكم العقلي العدمي أو الوجودي كما في موارد التحسين والتقبيح العقليّين ، أو لما يعمّهما؟ احتمالات أظهرها بالنظر إلى اصطلاحهم في استصحاب حال العقل حيث يعبّرون عنه تارة باستصحاب البراءة الأصلية واخرى باستصحاب عدم التكليف وغير ذلك من الشواهد الموجودة في كلماتهم هو الأوّل.

ولعلّ السرّ في تخصيصهم الاصطلاح بذلك ما يتبيّن عندهم من عدم جريان الاستصحاب في الأحكام الكلّيّة العقليّة الوجوديّة على ما سنذكره ، فسقط بذلك احتمال إرادة ما يعمّ الحكم العقلي الوجوديّ ، سواء كان حكمه ضروريّا وبلا وسط كحكمه بقبح الظلم ، أو مع الوسط كحكمه بوجوب ردّ الوديعة لكون الامتناع عنه ظلما ، وقبح الكذب الضارّ لكونه ظلما.

وربّما يحتمل في حال العقل كونه عبارة عن مطلق الامور العدميّة سواء كان من قبيل الأحكام الشرعيّة كاستصحاب عدم الوجوب مثلا ، أو من الامور الخارجيّة كاستصحاب عدم الرطوبة ، أو من الموضوعات المستنبطة كاستصحاب عدم النقل ، وعلّل : بأنّ الحاكم بالعدم في العدميّات هو العقل ، فإنّ كلّ حادث مسبوق بالعدم الأزلي لافتقاره في الوجود إلى علّة الوجود ، وإنّما يحكم العقل بالعدم لاطّلاعه على عدم علّة الوجود ، ويعضده أصالة النفي لو كانت مرادفة لاستصحاب حال العقل كما يوهمه بعض العبارات ، ولكنّه محلّ تأمّل.

فالقدر المتيقّن من استصحاب حال العقل هو استصحاب عدم التكليف المعبّر عنه

٢٦٦

باستصحاب البراءة فيما إذا حكم العقل به قبل الوجود أو قبل التميّز لقبح خطاب المعدوم وغير المميّز ، ثمّ شكّ في بقائه بعد الوجود والتميّز ، ولا كلام بل لا إشكال في جواز استصحابه حال الشكّ ، ولا يقدح فيه ارتفاع القضيّة كما يقدح في استصحاب الأحكام العقليّة الوجوديّة ، لعدم كون مستند الحكم في الحقيقة هذه القضيّة العقليّة ، بل مستنده إنّما هو انتفاء المقتضي للتكليف وهو خطاب الشرع ورودا وتوجّها ، لما عرفت من أنّ العقل إنّما يحكم بالعدم في العدميّات لعدم وجود علّة الوجود الّذي منه انتفاء المقتضي ، والقضيّة العقليّة المذكورة وهو قبح خطاب المعدوم والغير المميّز إنّما تلاحظ لاحراز انتفاء المقتضي لا لأصل الحكم بعدم التكليف ، وارتفاع القضيّة العقليّة بعد الوجود والتميّز الّذي هو عبارة عن عدم حكم العقل حينئذ بقبح الخطاب بل حكمه بعدم قبحه يحصل له الشكّ في وجود المقتضي ، وهو توجّه خطاب الشرع وعدمه ، فيستصحب عدم التكليف السابق ويكون ذلك من الاستصحاب للشكّ في المقتضي.

ولا يرد عليه : أنّ اللازم حينئذ صحّة استصحاب عدم وجوب الصلاة مع السورة أو غيرها من الأجزاء أو الشرائط لناسي شيء منها الثابت حال النسيان فيما بعد التذكّر في الوقت ، كما عن بعضهم من الميل إلى اجزاء عمل الناسي في موارد نسيانه تمسّكا بهذا الاستصحاب ، بتقريب : أنّ الصلاة مع السورة مثلا لم يكن واجبا على هذا الشخص قبل التذكّر فيستصحب بعده ، مع أنّ رأي المحقّقين قد استقرّ على بطلانه.

لأنّ استصحاب عدم التكليف الثابت حال النسيان بعد التذكّر ليس في مجراه ، لا لما قد يقال من انتفاء موضوع المستصحب ـ لعدم كون موضوع عدم التكليف المذكور هو هذا الشخص من حيث هو ، بل الناسي أو هذا الشخص من حيث إنّه ناس ، وهذا بعد التذكر غير باق ـ وإلاّ لزم أن لا يصحّ استصحاب عدم التكليف الأزلي ولا الثابت حال عدم التميّز أيضا لعدم بقاء موضوعه وهو المعدوم وغير المميّز ، بل لعدم جريان الاستصحاب مع وجود الدليل على خلاف المستصحب وهو عموم خطابات التكليف لما بعد النسيان ، فإنّ ناسي السورة مثلا إذا زال نسيانه فيتوجّه إليه عموم قوله : « صلّ مع السورة » لعدم كون ما أتى به هو الصلاة مع السورة ولا بدلا عنها ، ومعه لا معنى لاستصحاب عدم وجوب الصلاة مع السورة.

والفارق بينه وبين ما نحن فيه أنّ عدم التكليف في المقامين وإن كان حكما عقليّا ومستندة فيهما إنّما هو انتفاء المقتضي للتكليف وهو توجّه الخطاب ، المحرز فيهما معا بقبح

٢٦٧

الخطاب ، إلاّ أنّه في مسألة الناسي لوجود المانع عن صحّته وهو النسيان ، وإذا ارتفع المانع توجّه الخطاب لتحقّق جميع شرائط صحّته العقليّة والشرعيّة ، وفيما نحن فيه لفقد شرط صحّته عقلا وهو الوجود وادراك الخطاب وفهم معناه ، وإذا صار المعدوم موجودا وغير المميّز مميّزا حصل الشرط العقلي وبقي الشكّ في كون البلوغ شرطا شرعيّا مثلا وعدمه ، أو في صدور أصل الخطاب فيما بعد البلوغ أيضا في موارد فقد النصّ ، وقضيّة ذلك جريان استصحاب عدم التكليف السابق فيما نحن فيه دون مسائل النسيان.

نعم يبقى في المقام سؤال آخر من جهة تبدّل موضوع المستصحب لفرض صيرورة المعدوم موجودا وغير المميّز مميّزا ، وعدم التكليف السابق إنّما ثبت للمعدوم وغير المميّز لا غير.

ولكن يدفعه : منع مدخليّة وصف المعدوميّة وغير المميّزية في موضوعيّة الموضوع ، بكونهما قيدين فيه ليكون زوالهما تبدّلا له ، بل نظير الإسكار في الخمر الّذي يقال : انّه حرام لأنّه مسكر ، والتغيّر في الماء المتغيّر بالنجاسة المحكوم عليه بالنجاسة ، والعالميّة في زيد العالم المأمور باكرامه لخصوصيّة فيه غير العالميّة حيث يعتبر الوصف لمجرّد التعريف ، فكما أنّ الموضوع في هذه الأمثلة هو الذات والوصف المأخوذ فيه علّة للحكم كما في الأوّلين ، أو معرّف للموضوع كما في الأخير فكذلك في المعدوم وغير المميّز ، فإنّ موضوع عدم التكليف فيهما هو الذات لا بشرط وصف العدم وعدم التميّز ، والوصف المأخوذ معها علّة لكن لا لنفس هذا الحكم العدمي بل لقبح الخطاب الّذي يحرز به انتفاء علّة التكليف فيحكم العقل بملاحظته بعدمه.

لا يقال : ما معنى الذات بالقياس إلى المعدوم مع أنّه ليس بشيء خارجا ولا ذهنا ، إذ ليس المراد بها ما يرادف العين بل ما يقابل الوصف ، ومحصّل المراد منها في المعدوم الشيء الّذي يفرضه العقل ويلاحظه باعتبار انتفاء علّة وجوده ويطلق عليه المعدوم بهذا الاعتبار ، ثمّ بعد وجوده الّذي هو عبارة عن طرد العدم يطلق عليه الموجود.

فإن قلت : إنّ ذلك مجرّد فرض واعتبار والفرض لا يحقّق المفروض ، فليس في المعدوم شيء يصلح موضوعا ، فعدم التكليف من حيث حالته السابقة عدم لا في الموضوع ، وعلى تقدير انسحابه إلى الآن اللاحق يصير عدما في الموضوع ، وكيف يجامع استصحابه؟ لما سيأتي تحقيقه من أنّ الاستصحاب يعتبر فيه للمستصحب موضوع محرز من الزمان السابق إلى الآن اللاحق.

٢٦٨

قلت : هذا على ما سنقرّره إنّما هو فيما لو كان المستصحب أمرا وجوديّا ، فإنّه يقتضي موضوعا محرزا من الزمان السابق إلى الآن اللاحق ، لأنّه من مقولة العرض وهو ما لو وجد في الخارج وجد في الموضوع ، بخلاف ما لو كان عدميّا فإنّه ليس أمرا واقعيّا يقتضي في جميع آناته موضوعا محقّقا يتقوّم به ، بل هو مفهوم اعتباري صرف يعتبره العقل عند انتفاء [ علّة ] الوجود.

غاية الأمر أنّه من باب المقارنة الاتفاقيّة قد يتحقّق في أمر موجود محقّق كعدم التكليف بالقياس إلى غير المميّز ، وقد يتحقّق في أمر معدوم صرف كعدم التكليف بالقياس إلى المعدوم ، فالمقصود من المستصحب هو العدم لا بشرط كونه في الموضوع ولا بشرط كونه لا في الموضوع الثابت في آن لم يكن ثمّة تكليف ولا من يتقوّم به التكليف ، فإذا انقطع بالنسبة إلى الثاني بقي بالنسبة إلى الأوّل على حاله إلى أن يحصل الشكّ في انقطاعه أيضا وعدمه ، فيصحّ استصحابه من دون مانع.

لا يقال : إذا كان المحرز لانتفاء علّة وجود التكليف هو القضيّة العقليّة على ما ذكرت وهو قبح خطاب المعدوم أو غير المميّز ، لزم من ارتفاعها تحققّ علّة الوجود ومعه ينبغي القطع بالتكليف ، فما معنى الشكّ؟

لأنّ العلّة إذا كانت مركّبة من أجزاء فانتفاء كلّ جزء علّة تامّة لعدم المعلول ، ولا يلزم من وجود أحدها وجوده ، ولا ريب أنّ لكلّ من وجود المكلّف وتميّزه مدخليّة في وجود الخطاب المقتضي للتكليف ، والشكّ فيه مع تحقّقهما إنّما هو بواسطة الشكّ في مدخليّة البلوغ أيضا مثلا وعدمها ، فوجود العلّة التامّة لوجود المقتضي للتكليف غير محرز ، فيستصحب عدم التكليف المشكوك بقاؤه باعتبار الشكّ في المقتضي.

نعم ينبغي القطع بعدم جريان الاستصحاب في الأحكام العقليّة الوجوديّة كقبح الظلم ، وقبح تكليف ما لا يطاق ، وقبح الكذب الضارّ ، ووجوب ردّ الوديعة لكون الامتناع عنه ظلما ، وقبح لطم اليتيم لكونه ظلما.

وبالجملة كلّ حكم عقلي ضروري أو نظري منته إلى الضروري ، لاستحالة وقوع الشكّ في القضايا العقليّة.

وتوهّم جريانه بالقياس إلى الحكم الشرعي التابع للحكم العقلي كحرمة الظلم ، ووجوب ردّ الوديعة ، وحرمة الكذب وما أشبه ذلك.

٢٦٩

يدفعه : أنّ اللازم لا ينفكّ عن الملزوم ، فما لم يرتفع القبح عن الظلم لم يرفع عنه الحرمة ، والأوّل محال فكذا الثاني ، بخلاف القضايا الشرعيّة المتلقّاة من الشارع ولو بواسطة الإجماع ، ومنها نجاسة الماء المتغيّر بالنجاسة. والفارق أنّ منشأ الشكّ في بقاء الحكم الشرعي إنّما هو ما طرأ دليل ذلك الحكم من الإهمال والإجمال ، وهو في القضايا العقليّة محال ، فإنّها منحصرة في المحصورة الكلّيّة أو الطبيعيّة الآئلة إلى المحصورة ، ولا يتحقّق فيها قضيّة مهملة ، لأنّ العقل ما لم يلاحظ موضوع القضيّة بجميع جهاته وخصوصيّاته ولم يأخذ معه من الخصوصيّات ما هو قيد له لم يحكم عليه بشيء من الحسن والقبح.

وأمّا الشرعيّات فوقوع المهملة فيها باعتبار نظر المكلّفين في غاية الكثرة والشيوع ، مثلا قوله : « الماء المتغيّر بالنجاسة نجس » سواء اخذ من الإجماع أو من الأخبار لا يدرى أنّه حكم فيه بثبوت المحمول مادام ذات الموضوع ، أو مادام الوصف العنواني موجودا؟وقوله : « المتيمّم إذا دخل في الصلاة يجب عليه المضيّ فيها » لا يدرى أنّه قضيّة مطلقة أو مقيّدة بعدم رؤية الماء في الأثناء.

ومن ذلك بطل توهّم عدم الفرق بين حال الإجماع وحال العقل لجامع كونهما لبيّين ، وكما أنّ الأوّل يصحّ استصحابه فكذا الثاني ، لعدم كون اللبيّة هي الجهة المانعة من الاستصحاب ولا المقتضية له ، بل الجهة الفارقة بينهما وقوع الإهمال في الأوّل دون الثاني فإنّ القدر المتيقّن من معقد الإجماع على نجاسة الماء المتغيّر بالنجاسة هو النجاسة حال التلبّس بوصف التغيّر لا ما بعده ، فيكون السنّة المكشوف عنها بذلك الإجماع مجملة بين الإطلاق والتقييد.

وقد يفرض استصحاب حال العقل فيما يثبت بقاعدة الاشتغال الّتي هي أيضا من القضايا العقليّة ، كوجوب الصلاة مع السورة عند الشكّ في جزئيّة السورة مثلا بعد تيقّن الاشتغال بالصلاة. وحينئذ فإذا طرأ نسيان السورة في صلاته يحكم بعدم الإجزاء استصحابا لوجوب الصلاة مع السورة الثابت قبل الإتيان بهذا العمل ، بالعقل الحاكم باستدعاء الشغل اليقيني للبرء اليقيني.

ويزيّفه : أنّ مناط قاعدة الشغل هو اليقين بالتكليف والشكّ في المكلّف به مع وجود القدر المتيقّن ممّا يحصل به البراءة ، وهذا المناط كما كان متحقّقا قبل الإتيان بهذا العمل فكذلك يكون متحقّقا بعده. فالقاعدة بنفسها جارية بعده أيضا قاضية بوجوب الإعادة ، ومعه

٢٧٠

لا معنى للاستصحاب ، ومرجعه إلى اليقين ببقاء الحكم الظاهري المستند إلى العقل ، ومعه لا يعقل الاستصحاب.

نعم ربّما يتوهّم وقوع الشكّ في الأحكام العقليّة باعتبار اشتباه الموضوع وإن لم يقع فيها شكّ باعتبار اشتباه الحكم ، كالشكّ في قبح الكذب باعتبار اشتباه حال المكلّف بين الاضطرار إليه لدفع ضرر لا يتسامح فيه عند العقلاء بناء على أنّ الكذب إنّما يقبح عقلا في غير حال الاضطرار ، وكما لو شكّ في قبح الكذب باعتبار اشتباه كونه ضارّا وفي قبح لطم اليتيم للشكّ في كونه ظلما.

وفيه : ـ مع أنّه ليس شكّا في القضيّة العقليّة ، لأنّ القضيّة في جميع موارد اشتباه الموضوع لا تكون إلاّ شخصيّة وموضوعها هذا الكذب وهذا اللطم مثلا ، وظاهر أنّ موضوع حكم العقل ليس هذا الكذب وهذا اللطم ـ أنّه لا يجدي نفعا في صحّة استصحاب الحكم العقلي حتّى في القضيّة الشخصيّة لانتفاء الشكّ الحالة السابقة. وعليه فعدم جريان الاستصحاب في الأحكام العقليّة إمّا لانتفاء الشكّ اللاحق لو كان النظر إلى أصل الحكم الكلّي العقلي أو الحكم الشرعي التابع له ، أو لانتفاء اليقين السابق لو كان النظر إلى الحكم الجزئي العقلي أو الشرعي التابع له.

فظهر بجميع ما قرّرناه عدم جريان بحث الاستصحاب والنزاع في حجّيته في استصحاب حال العقل إذا اريد بها الحالة الوجوديّة المستندة إلى العقل ، لعدم جريان الاستصحاب فيها ليجري التكلّم في حجّيته ، فالسالبة باعتبار انتفاء الموضوع ، وأمّا حال العقل بمعنى حكمه العدمي فقد عرفت صحّة استصحابه. وقد يدّعى خروجه عن محلّ النزاع لوقوع الإجماع على حجّيته.

وعن المحقّق (١) والعلاّمة (٢) والفاضل الجواد (٣) الإطباق على العمل به ، وهذا لا يخلو عن تأمّل ، إذ القدر المعلوم الّذي يسلّم الإجماع عليه هو البناء على البراءة والحكم بعدم التكليف في مظانّ الشكّ فيه. وأمّا أنّه باعتبار الاستصحاب والأخذ بمقتضى الحالة السابقة فغير واضح ، لجواز كون مستندهم فيه أصل البراءة الّذي هو أيضا أصل عقلي من جهة قبح التكليف بلا بيان.

وبالجملة لم يظهر من المجمعين على الحكم بالبراءة أنّ مستندهم فيه هو الاستصحاب

__________________

(١) المعارج : ٢٠٩ ـ ٢١٠.

(٢) تهذيب الوصول : ٢٩٣ ـ ٢٩٤.

(٣) غاية المأمول : الورقة ١٣٠ ( مخطوط ).

٢٧١

ليكون حجّيّته هنا إجماعيّة. ومن ذلك ظهر ما في كلام جماعة من تقسيم الاستصحاب إلى أربعة أقسام مع التصريح بعدم الخلاف في حجّيّة أكثرها.

أحدها : استصحاب نفي الحكم الشرعي وبراءة الذمّة منه إلى أن يظهر دليله ، وهو المعبّر عنه بالبراءة الأصليّة ، وقد وقع الخلاف فيه بين الأخباريّين ففرّقوا في الحجّيّة بين الشبهات الوجوبيّة فالحجّيّة والشبهات التحريميّة فعدمها ، لبنائهم فيها على وجوب الأخذ بالاحتياط ، والمجتهدين فعمّموا الحجّيّة.

وثانيها : استصحاب حكم العموم إلى أن يقوم المخصّص ، وحكم النصّ إلى أن يرد الناسخ.

وثالثها : استصحاب إطلاق النصّ إلى أن يثبت المقيّد ، وهذان القسمان ممّا لا خلاف في حجّيّته عند الفريقين.

ورابعها : استصحاب الحكم الشرعي في موضع طرأت له حالة لم يعلم شمول الحكم لها ، وهو الاستصحاب المعروف المتنازع في حجّيّته الّتي أنكرها الأخباريّة ، لمنع كون اختلاف المجتهدين والأخباريّين في القسم الأوّل من حيث التعميم والتفصيل اختلافا في حجّيّة الاستصحاب عموما أو خصوصا ، بل هو اختلاف في عموم العمل بأصل البراءة وعدمه ، هذا مع تطرّق المنع إلى كون القسمين الآخرين المدّعى فيهما الإجماع على الحجّيّة من حقيقة الاستصحاب ، لكون حال النصّ في مواضع الشكّ في التخصيص والنسخ والتقييد من الاصول اللفظيّة فإطلاق الاستصحاب عليها مسامحة واضحة.

وثانيها : انقسامه إلى استصحاب حال النصّ واستصحاب حال الإجماع ، وهذان قسمان لحال الشرع كما يظهر بأدنى تأمّل. فما يوهمه بعض العبارات من جعلهما قسيمين له غير سديد ، والظاهر بل المقطوع به دخولهما معا في محلّ النزاع. فما عن صاحب الحدائق في الدرر النجفية (١) من دعوى انحصار النزاع في استصحاب حال الإجماع ليس بجيّد ، ولعلّه وهم من التمثيل في غير واحد من الكتب الاصوليّة لمحلّ النزاع بمسألة المتيمّم إذا رأى الماء في أثناء الصلاة مع دعوى الإجماع على وجوب المضيّ فيها قبل الرؤية.

وأنت خبير بأنّ المثال لا يخصّص المقال.

وعن الغزالي القول بالفرق بين هذين القسمين بإنكار حجّيّة استصحاب حال الإجماع دون حال النصّ ، وستعرف أنّ ظاهره إنكار الحجّيّة مطلقا.

__________________

(١) الدّرر النجفيّة : ٣٤.

٢٧٢

وثالثها : انقسامه إلى كون دليل المستصحب بحيث يدلّ على استمرار الحكم إلى حصول مانع أو إلى غاية معيّنة ، وكونه بحيث لم يدلّ على استمراره إليهما ، والظاهر وقوع النزاع فيهما معا.

ولقد فصّل بينهما المحقّق في المعارج (١) والخوانساري في شرح الدروس (٢) بإنكار الحجّيّة في الثاني وإثباتها في الأوّل مطلقا ، كما هو ظاهر المحكيّ من المعارج (٣) أو بشرط كون الشكّ في دخول الغاية كما ستسمع عن الخوانساري.

ولقد زعم المصنّف في آخر كلامه وتبعه بعضهم أنّ قول المحقّق موافق لإنكار المنكرين مطلقا وليس بشيء ، وستعرف تفصيل القول في ذلك عند شرح عبارة المصنّف.

وأمّا الجهة الثانية : انقسامه باعتبار المستصحب ، وهذا أيضا من وجوه كثيرة :

فمنها : أنّ المستصحب قد يكون أمرا وجوديّا كوجوب شيء وطهارته ونجاسته وحياة زيد ، وقد يكون أمرا عدميّا كعدم التكليف وعدم الرطوبة وعدم الكرّيّة وعدم النقل وعدم القرينة. والظاهر اندارجهما معا في النزاع خلافا لشيخ مشايخنا (٤) رضوان الله عليهم حيث نفى الخلاف عن حجّيّة الاستصحاب العدمي ، ناسبا لدعوى الإجماع على اعتباره في العدميّات إلى استاذه السيّد في الرياض (٥). واستشهد له بعد الإجماع المذكور باستقراء سيرة العلماء على التمسّك بالاصول العدميّة كأصالة عدم القرينة وأصالة عدم الاشتراك وأصالة عدم النقل ونحوها. واستدلالهم على الحجّيّة بعدّة امور لا تجري في الامور العدميّة مثل استغناء الشيء في بقائه عن العلّة ، وكفاية العلّة المحدثة في الحكم به ، مع ظهور استصحاب الحال في عنوانات المسألة في الأمر الوجودي ، وكذلك تعريفهم له بما هو ظاهر فيه.

والإجماع مع نفي الخلاف في مطلق الأمر العدمي غير واضح بل محلّ منع ، ولذا أنكر استصحاب عدم التذكية جماعة منهم صاحب المدارك (٦) وإن كان يظهر دعواه أيضا من التفتازاني في شرح الشرح حيث قال : « وخلاف الحنفيّة المنكرين للاستصحاب إنّما هو في الإثبات دون النفي الأصلي ».

__________________

(١) المعارج : ٢٠٩ ـ ٢١٠.

(٢) مشارق الشموس : ٧٥ ـ ٧٦.

(٣) المعارج : ٢٠٩ ـ ٢١٠.

(٤) انظر فرائد الاصول ٣ : ٢٧ والمراد بشيخ مشايخه هو المحقّق شريف العلماء المازندراني رحمه‌الله.

(٥) راجع ضوابط الاصول : ٣٥١.

(٦) المدارك ٢ : ٣٨٧.

٢٧٣

والسيرة المدّعاة مع أنّها أخصّ لاختصاصها بباب الألفاظ والاصول اللفظيّة تندفع (١) :

أوّلا : استقرارها أيضا على العمل في باب الألفاظ بالاصول الوجوديّة أيضا كأصالة العموم ، وأصالة الإطلاق ، وأصالة بقاء المعنى اللغوي ، وأصالة بقاء الوضع وآثاره. ويظهر الإجماع على العمل بكلّ من العدميّة والوجوديّة في باب الألفاظ من المحقّق البهبهاني في محكيّة عن الرسالة الاستصحابيّة ، حيث انّه بعد نقل الخلاف فيه وحكاية القول بإنكار اعتبار الاستصحاب مطلقا عن بعض والقول بإثباته عن آخر والتفصيل عن ثالث ، قال : « لكنّ الّذي نجد من الجميع ـ حتّى من المنكر مطلقا ـ إنّهم يستدلّون بأصالة عدم النقل فيقولون : الأمر حقيقة في الوجوب عرفا فكذا لغة لأصالة عدم النقل ، ويستدلّون بأصالة بقاء المعنى اللغوي فينكرون الحقيقة الشرعيّة إلى غير ذلك كما لا يخفى على المتتبّع » انتهى (٢).

وثانيا : أنّ سيرة العمل على الاصول المذكورة مسلّمة ، لكن كون مبناه على الاستصحاب بإرادة الاستصحاب من تلك الاصول العدميّة غير واضح.

وغاية ما هنالك استقرار بنائهم على البناء على العدم وترتيب آثاره في مقام احتمال النقل أو وجود القرينة أو الاشتراك وتعدّد الوضع ونحو ذلك ممّا يدفع احتماله بالأصل ، وأمّا كونه استصحابا للعدم الأصلي متضمّنا لملاحظة الحالة السابقة بل التعويل عليها فغير معلوم ، فمن الجائز كونه قاعدة اخرى مخصوصة بالألفاظ مأخوذة من العرف وأهل اللسان الكاشف عن جعل الواضع وترخيصه في ذلك عموما بل إلزامه به.

ومن ذلك يندفع أيضا استظهار الخروج عن محلّ النزاع من استصحاب النفي المسمّى بالبراءة الأصليّة ، لتصريح جماعة كالفاضلين والفاضل الجواد وغيرهم بالإطباق على العمل عليه ، لمنع كون البناء على البراءة هنا استصحابا للحالة السابقة كما أشرنا إليه سابقا ، فإنّ البراءة بنفسها أصل عقلي [ مأخوذة ] من قبح التكليف بلا بيان.

وأمّا استظهاره من استصحاب عدم النسخ المصرّح في كلام المحدّثين الاستر آبادي (٣) والبحراني (٤) بعدم الخلاف فيه ، حتّى أنّه مال الأوّل إلى كونه من ضروريّات الدين فهو أوضح منعا ، فإنّ المعهود في مواضع احتمال النسخ إنّما هو العمل على أصالة عدم النسخ وكونها استصحابا ممنوع ، بل ليست إلاّ كأصالة عدم التخصيص وأصالة عدم التقييد ، ولعلّها

__________________

(١) حاشية شرح مختصر الاصول ٢ : ٢٨٤.

(٢) الرسائل الاصوليّة : ٤٢٤ ـ ٤٢٥.

(٣) الفوائد المدنية : ١٤٣.

(٤) الحدائق الناضرة ١ : ٥٣.

٢٧٤

أيضا من القواعد الغير المنوطة بملاحظة الحالة السابقة ، بل الأظهر بل المقطوع به في موارد هذه الاصول الثلاث عدم الالتفات إلى حالة سابقة أصلا ، وربّما كان مبناها على الرجحان والظهور كما في أصالة الحقيقة ولو فرض حصوله بعد الفحص وعدم العثور على المخصّص أو المقيّد أو الناسخ حيثما وجب الفحص ، وربّما كان على تقدير إرادة القاعدة مدركها في أصالة عدم النسخ هو الغلبة ، وفي أصالة عدم التخصيص وعدم التقييد هو العقل المستقلّ بإدراك قبح الخطاب بما له ظاهر وإرادة خلافه المعبّر عنه بقبح الإغراء بالجهل.

وأمّا الاستشهاد بالاستدلال المتقدّم الغير الجاري في العدميّات.

فيدفعه أوّلا : أنّه معارض باستدلالهم أيضا بما يختصّ بالعدميّات أو يعمّها والامور الوجوديّة. ومن جملة ذلك الاستدلال بأنّه لو لا العمل على الاستصحاب لزم سدّ باب الاجتهاد والاستنباط رأسا ، لمسيس الحاجة في تتميم الاستدلال بالأدلّة اللفظيّة من الكتاب والسنّة الّتي هي أغلب مباني الاستنباط ومدارك الأحكام إلى إعمال اصول عدميّة غير محصورة ، كأصالة عدم النقل ، وعدم القرينة ، وعدم الاشتراك ، وعدم الحذف والإضمار ، وعدم السقط وعدم الزيادة ، ونحو ذلك.

وثانيا : إمكان كون الوجه في الاقتصار على ما يثبت الاستصحاب في الوجوديّات هو أنّه لمّا كان الغرض الأصلي في المسألة هو التكلّم في الاستصحاب المعدود من أدلّة الأحكام الشرعيّة الفرعيّة فاكتفوا في بيان الدليل بذكر ما يثبته في الوجودي فقط لأنّه الحكم الشرعي لا العدمي ، مع أنّ الغالب في مظانّ الاقتصار في مقام الدليل على ذكر ما هو أخصّ من المدّعى تتميم عموم الدعوى بمقدّمة اخرى مطويّة في طيّ الاستدلال مركوزة في ذهن المستدلّ من الإجماع المركّب أو الأولويّة ، لأنّ الموجود المفتقر في وجوده إلى علّة موجودة إذا لم يحتج في بقائه إلى علّة فالمعدوم أولى بذلك.

وممّا أشرنا إليه يظهر الوجه في التعبير عن العنوان وتعريفهم له بما هو ظاهر في الوجودي بعد تسليم أصل الظهور ، فإنّه باعتبار أنّ الغرض الأصلي من تدوين المسألة هو التكلّم في دليليّة الاستصحاب للأحكام ، وهو لا ينافي دخول ما ليس بدليل في الاصطلاح أيضا في محلّ النزاع.

وربّما استدلّ لتعميم محلّ النزاع أيضا بأنّه لو صحّ خروج الاستصحابات العدميّة عن النزاع باتّفاق الكلّ على العمل بها ، لزم كون الخلاف في الاستصحاب الوجودي والتكلّم

٢٧٥

في حجّيته لغوا ، لاستغناء الاستصحاب العدمي المتّفق على حجّيته عن الاستصحاب الوجودي ، إذ ما من أمر عدمي إلاّ وفي مقابله ضدّ وجودي ، فلو اريد استصحاب وجود ذلك الضدّ الوجودي يستغني عنه باستصحاب عدم الضدّ المعدوم ، مثلا لو أردنا استصحاب خيار الفسخ الثابت في آن إلى آن الشكّ في بقائه نتمسّك بأصالة عدم اللزوم ، ولو أردنا استصحاب الطهارة عند الشكّ في الحدث نتمسّك بأصالة عدم الحدث ، ولو أردنا استصحاب الكرّيّة نتمسّك بأصالة عدم القلّة ، ولو أردنا استصحاب نجاسة الماء المتغيّر بعد زوال تغيّره نتمسّك بأصالة عدم طهارته ، ولو أردنا استصحاب طهارة الثوب نتمسّك بأصالة عدم نجاسته ، ولو أردنا استصحاب حياة زيد نتمسّك بأصالة عدم الموت ، ولو أردنا استصحاب عدالة زيد نتمسّك بأصالة عدم الفسق وهكذا. فلا حاجة إلى التمسّك بالاستصحابات الوجوديّة فيكون التكلّم في حجّيتها لغوا ، ولا خفاء في ضعفه ، لأنّ الاستغناء عن الاستصحاب الوجودي بالأصل العدمي إنّما يصحّ على القول بالاصول المثبتة ، وهو خلاف التحقيق وخلاف مختار الأكثر المصرّح به في كلام جماعة.

وعليه فربّما يختلف الضدّ الوجودي مع الضدّ العدمي في الآثار والأحكام ، واستصحاب عدم الضدّ المعدوم يثمر في ترتّب آثار عدمه ولا يثمر في ترتّب آثار وجود الضدّ الموجود ، وذلك كما في عدالة زيد فإنّ أصالة عدم الفسق لا تثمر في ترتّب الأحكام المعلّقة على صفة العدالة من جواز الائتمام به ، وقبول شهادته ، وصحّة الطلاق الواقع بمحضره ، ونفوذ حكمه وفتواه ، وجعله قيّما على غائب أو صغير أو مجنون ، واستنابته عن الميّت في الحجّ والصوم والصلاة ، بل تثمر في ترتّب الأحكام المعلّقة على عدم الفسق كجعله وصيّا ، واستحقاقه الزكاة أو الخمس بناء على عدم اشتراط العدالة في المستحقّ ومانعيّة الفسق.

وبالجملة لابدّ في ترتيب آثار العدالة عند الشكّ في طروّ الفسق بعد البناء على حجّيّة استصحاب عدم الفسق وإعماله من أحد الأمرين : إمّا العمل بالأصل المثبت ، أو إثبات حجّيّة استصحاب العدالة ، والأوّل باطل فتعيّن الثاني. فلا يلزم من الإجماع على حجّيّة الاستصحاب في الامور العدميّة عدم الحاجة إلى التكلّم في حجّيّة الاستصحاب في الامور الوجوديّة.

نعم في نحو الطهارة والنجاسة أو الحدث يترتّب على استصحاب عدم الطهارة آثار النجاسة أو الحدث ، وعلى استصحاب عدم النجاسة وعدم الحدث آثار الطهارة ، إلاّ أنّه غير مطّرد.

اللهمّ إلاّ أن يقال ـ بناء على كون العمل بالاستصحاب من باب الظنّ ـ : لا يتفاوت الحال فيه بين كونه مثبتا وعدمه فيعمل عليه على كلّ تقدير ، لأنّ المعيار حينئذ إنّما هو

٢٧٦

الظنّ الثابت حجّيته بالفرض ، سواء فرض حصوله بالنسبة إلى نفس المستصحب أو بالنسبة إلى لوازمه العقليّة أو العاديّة.

والمفروض أنّ الظنّ بالملزوم يستلزم الظنّ بجميع لوازمه شرعيّة أو عقليّة أو عاديّة.

ويمكن دفعه : بأنّ القدر الثابت اعتباره من الظنّ الاستصحابي إنّما هو الظنّ المستند حصوله إلى نفس الاستصحاب ، لا الظنّ المستند إلى الظنّ بالمستصحب فتأمّل.

ومنها : أنّ المستصحب قد يكون حكما شرعيّا ، وقد يكون أمرا خارجيّا كالكرّيّة والرطوبة والحياة. والأوّل قد يكون حكما كلّيا من شأنه أن يؤخذ من الشارع ، كطهارة المتطهّر بعد خروج المذي المشكوك في ناقضيّته ، وطهارة البئر المشكوك في انفعالها بوقوع النجاسة ، ونجاسة الماء المتغيّر بعد زوال تغيّره. وقد يكون حكما جزئيّا في موضوع خارجي كطهارة هذا الثوب أو نجاسته. والظاهر وقوع الخلاف في جميع هذه الأقسام بالحجّيّة مطلقا وعدمها كذلك والتفصيل ، وستسمع بعض ما يتعلّق بهذا المقام في الوجه الأوّل من الجهة الثالثة. والغرض الأصلي هاهنا بيان شيء آخر وهو أن التفصيل المشار إليه على أنحاء ثلاث :

أحدها : الحجّية في الحكم الشرعي كلّيا أم جزئيّا دون الأمر الخارجي وهو الّذي يظهر نقله من المحقّق الخوانساري ، حيث إنّه في مبحث الاستنجاء بالأحجار من شرح الدروس قال : « وينقسم الاستصحاب إلى قسمين باعتبار الحكم المأخوذ فيه إلى شرعي وغيره (١) » ومثّل للأوّل بنجاسة الثوب والبدن وللثاني برطوبته ، فإنّ المثال وإن كان من قبيل الحكم الجزئي غير أنّ مقابلة الحكم الشرعي لغيره قرينة توجب ظهور إرادة ما يعمّ الكلّي والجزئي من الحكم الشرعي.

وثانيها : الحجّية في الحكم الشرعي الجزئي دون غيره من الحكم الكلّي والأمر الخارجي ، وهو أيضا محتمل عبارة المحقّق المذكور بناء على الأخذ بظاهر المثال. قيل : وربّما يستظهر ممّا حكاه السيّد شارح الوافية عن المحقّق الخوانساري في حاشية له على قول الشهيد رحمه‌الله في تحريم استعمال الماء النجس والمشتبه (٢).

وثالثها : الحجّية فيما عدا الحكم الشرعي الكلّي وإن كان أمرا خارجيّا ، وهو المحكيّ عن الأخباريّين. قيل : والأصل فيه عندهم أنّ الشبهة في الحكم الكلّي لا مرجع فيها عندهم

__________________

(١) مشارق الشموس : ٧٦.

(٢) شرح الوافية ( مخطوط ) : ٣٣٩ ، راجع مشارق الشموس : ٢٨١ ـ ٢٨١.

٢٧٧

إلاّ الاحتياط دون البراءة والاستصحاب ، فإنّهما عندهم مختصّان بالشبهة في الموضوع.

وأمّا القول بالحجّية في الحكم الشرعي الكلّي خاصّة دون غيره مطلقا ، أو في الأمر الخارجي خاصّة دون الحكم الشرعي مطلقا ، فغير موجود وقائله غير مذكور. فما في كلام بعض الأعلام وتبعه غير واحد : من جعل التفصيل بالحجّية في الأحكام الشرعيّة دون الامور الخارجيّة تارة ، والحجّية في الامور الخارجيّة دون الأحكام الشرعيّة اخرى قولان متعاكسان (١) ليس على ما ينبغي ، إذ أصحاب القول الأوّل ينكرون الاستصحاب في الأحكام الكلّية خاصّة وأصحاب القول الثاني يعتبرون الاستصحاب في الأحكام الشرعيّة خاصّة كلّية أو جزئيّة ، إلاّ أن يراد بالامور الخارجيّة الأحكام الجزئيّة اللازمة للموضوعات الخارجيّة.

ومنها : أنّ المستصحب قد يكون حكما تكليفيّا وقد يكون حكما وضعيّا كالسبب والشرط والمانع ، وهذان قسمان لأحد قسمي التقسيم السابق ، وقد وقع الخلاف فيهما أيضا بإطلاق الحجّية وإطلاق عدمها ، والتفصيل بالحجّية في الثاني دون الأوّل وهو الّذي صار إليه الفاضل التوني في الوافية (٢).

وأمّا الجهة الثالثة : فمن وجوه أيضا :

أحدها : انقسامه باعتبار منشأ الشكّ المأخوذ فيه ، فإنّ الشكّ بهذا الاعتبار ينقسم إلى ما ينشأ من اشتباه حكم شرعي صادر من الشارع وهو المسمّى بالشبهة الحكميّة ، وما ينشأ من اشتباه أمر خارجي وهو المسمّى بالشبهة الموضوعيّة ، والأوّل كالشكّ في نجاسة الماء المتغيّر الناشئ عن الشبهة في كفاية زوال التغيّر بمجرّده في الطهارة أو احتياجه إلى مطهّر شرعي ، والشكّ في طهارة المكلّف المتطهّر بعد خروج المذي الناشئ عن الشبهة في ناقضيّة المذي بحسب الشرع. والثاني على قسمين :

أحدهما : ما لو كان المستصحب المشكوك حكما شرعيّا جزئيّا ، كالشكّ في بقاء الطهارة الناشئ عن الشكّ في حدوث البول أو كون الحادث بولا وما أشبه ذلك.

والاخر : ما لو كان المشكوك فيه أمرا خارجيّا ، كالشكّ في الرطوبة ، والكرّيّة ، والحياة ، ونقل اللفظ عن معناه الأصلي ونحو ذلك.

ويظهر من المحدّث الاستر آبادي في كلام محكيّ له عن الفوائد المدنيّة خروج الشبهات الموضوعيّة وبعض صور الشبهة الحكميّة وهي موارد الشكّ في النسخ عن محلّ

__________________

(١) القوانين ٢ : ٥٧.

(٢) الوافية : ٢٠٢.

٢٧٨

النزاع ، للاتّفاق بل الضرورة على اعتبار الاستصحاب فيهما.

قال : « واعلم أنّ للاستصحاب صورتين معتبرتين باتّفاق الامّة ، بل أقول : أنّ اعتبارهما من ضروريّات الدين ، إحداهما : أنّ الصحابة وغيرهم كانوا يستصحبون ما جاء به نبيّنا صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى أن يجيء ما ينسخه.

الثانية : إنّا نستصحب كلّ أمر من الامور الشرعيّة ـ مثل كون الرجل مالك أرض وكونه زوج امرأة ، وكونه عبد رجل ، وكونه على وضوء ، وكون الثوب طاهرا أو نجسا ، وكون الليل أو النهار باقيا ، وكون ذمّة المكلّف مشغولة بصلاة أو طواف ـ إلى أن يقطع بوجود شيء جعله الشارع سببا لنقض تلك الامور » إلى آخر ما ذكره (١). وظاهر أنّ الجامع للأمثلة المذكورة وغيرها كون الشبهة موضوعيّة.

وقد يقال : أنّه لو لا تمثيله باستصحاب الليل والنهار لاحتمل أن يكون معقد إجماعه الشكّ من حيث المانع حدوثا أو منعا.

أقول : هذا الاحتمال قائم ولو بالنسبة إلى مثال الليل والنهار ، لجواز إطلاق المانع بمعنى الرافع على كلّ من الليل والنهار بالقياس إلى الآخر أو بالقياس إلى الحكم المعلّق عليه ، كوجوب الصيام المعلّق على النهار الّذي يرفعه الليل ، وجواز تناول المفطرات المعلّق على الليل الّذي يرفعه النهار ، فتأمّل.

ثمّ إنّ ما زعمه من اختصاص النزاع بالشبهات الحكميّة وإن كان يساعد عليه عدّهم الاستصحاب من الأدلّة العقليّة ، فإنّ الدليل العقلي حكم عقليّ يتوصّل به إلى حكم شرعيّ من شأنه أن يؤخذ من الشارع ، غير أنّ ظاهر العنوانات وجملة من استدلالات المثبتين والنافين هو عموم النزاع للشبهات الموضوعيّة أيضا ، لا حظ كلام المنكرين حيث ينكرون استصحاب زيد الغائب والبلدان المبنيّة على ساحل البحر ، وكلام المثبتين في استدلالهم بتوقّف نظام معاش الناس ومعادهم على الاستصحاب ، ولا يلزم من اختصاص ثمرة الدليليّة بالأحكام انحصار النزاع فيها.

غاية الأمر كونه بالقياس إلى الأحكام من باب الدليل وبالقياس إلى الموضوعات من باب الأمارة ، كالبيّنة وغيرها من الأمارات الشرعيّة المجعولة لتشخيص الموضوعات

__________________

(١) الفوائد المدنيّة : ١٤٣.

٢٧٩

الخارجيّة عند الاشتباه ، ومجرّد عدم كون بيان الموضوعات من شأن الشارع لا يوجب عدم اعتبار ما بيّنه وجعله أمارة وطريقا إليها كسائر الأمارات ، فدعوى الاتّفاق والضرورة على ما عرفت ليست بشيء.

وثانيها : انقسامه من حيث مفهوم الشكّ المأخوذ فيه إلى استصحاب ما يتساوى طرفا بقائه وارتفاعه ، واستصحاب ما ظنّ بقاؤه ، واستصحاب ما ظنّ ارتفاعه ، وذلك أنّ الشكّ قد يطلق على مطلق الاحتمال فينقسم إلى تساوي الطرفين ورجحان البقاء ورجحان الارتفاع ، وهل النزاع شامل للجميع أو يختصّ ببعض دون آخر؟

وتحقيقه : أنّه على القول بالاستصحاب تعبّدا من جهة الأخبار يعمّ الجميع ، لأنّ مفاد الأخبار عدم جواز نقض اليقين إلاّ بيقين مثله ، وكذلك على القول به من باب الظنّ النوعي ، على معنى أنّه بنوعه لو خلّي وطبعه يفيد ظنّ البقاء وإن عرض لبعض أفراده ما يمنعه عن افادة الظنّ ، وأمّا على القول به من باب الظنّ الشخصي ـ كما عرفته عن شيخنا البهائي (١) وغيره ـ فالوجه اختصاص النزاع بما يظنّ معه البقاء وخروج صورتي التساوي وظنّ الارتفاع ، لكن هذا كلّه على تقدير كون النزاع في باب الاستصحاب كبرويّا.

وأمّا على تقدير كونه صغرويّا كما استظهرناه من كلام العضدي حيث قال : « وقد اختلف في حجّيته لافادته ظنّ البقاء وعدمها لعدم إفادته ايّاه (٢) » فالظاهر سقوط هذا البحث سواء قدّرنا الظنّ المتنازع فيه نوعيّا أو شخصيّا.

وثالثها : انقسامه باعتبار الجهة المقتضية للشكّ إلى استصحاب ما شكّ في بقائه من جهة الشكّ في المقتضي ، واستصحاب ما شكّ فيه من جهة الشكّ في المانع ، إذ لو علم وجود المقتضي وفقد المانع لعلم البقاء ، كما أنّه لو علم فقد المقتضي أو وجود المانع لعلم الارتفاع ، فلا يعرض الشكّ في البقاء والارتفاع إلاّ للشكّ من جهة أحد الأمرين.

والمراد به (٣) الشكّ من حيث استعداد المستصحب وقابليّته للبقاء ، إمّا لعدم معلوميّة أصل استعداده للبقاء كالشكّ في خيار الغبن وغيره بعد الزمان الأوّل المشكوك في كونه فوريّا وعدمه ، أو لعدم معلوميّة مقدار استعداده للبقاء بالذات كالشكّ في الوضوء الاضطراري المأتيّ به لتقيّة أو ضرورة اخرى ، المشكوك في أنّ مقدار قابليّته للبقاء هل هو

__________________

(١) الحبل المتين : ٣٧.

(٢) شرح مختصر الاصول ٢ : ٤٥٤.

(٣) أي والمراد بالشكّ في المقتضي.

٢٨٠