تعليقة على معالم الاصول - ج ٦

السيّد علي الموسوي القزويني

تعليقة على معالم الاصول - ج ٦

المؤلف:

السيّد علي الموسوي القزويني


المحقق: السيد علي العلوي القزويني
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
المطبعة: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ١
ISBN: 964-470-559-9
الصفحات: ٤٨٦

ذلك حمل له على اليقين الشأني.

وربّما يلزم ارتكاب خلاف ظاهر آخر في قوله : « فابن » بحمله على إرادة « حصّل ».

وتوهّم أنّ تنزيل الرواية على بيان حكم الاستصحاب يوجب حمل اليقين على إرادة اليقين السابق ، وهو أيضا خلاف ظاهر من لفظه الظاهر في اليقين الفعلي لا السابق ولا الشأني.

وإن شئت قلت : إنّه ظاهر في اليقين الحاصل فعلا لا فيما حصل ولا فيما يحصل بعد ، ففي تعيّن الخروج عن الظاهر لا فرق بين المعنيين.

يدفعه : أنّ اعتبار السبق في اليقين الاستصحابي لا ينافي الفعليّة ، نظرا إلى أنّ « السابق » في اليقين السابق عبارة عن متعلّق اليقين وهو الزمان السابق لا ظرف وجوده ، فهو مع الشكّ المعتبر معه في الاستصحاب كلاهما فعليّان ، غير أنّ متعلّق اليقين حدوث الحالة السابقة ومتعلّق الشكّ بقاؤها.

لا يقال : إنّ اليقين بالاشتغال أيضا في مورد قاعدة الاشتغال يقين فعلي ، فلو حمل عليه قوله : « فابن على اليقين » لم يكن خروجا من الظاهر ولا ارتكابا لخلافه ، ومن مقتضى البناء على اليقين بالاشتغال لزوم مراعاة ما يبرئ الذمّة « لأنّ تنزيل لفظ الرواية على يقين الاشتغال إرجاع له أيضا إلى الاستصحاب ولكن في خصوص الاشتغال لا مطلق الحالة السابقة ، لأنّ قولنا : « إذا شككت فابن على اليقين بالاشتغال » يقال فيما لو اريد إعمال الاستصحاب ، وفيما لو اريد إعمال قاعدة الاشتغال يقال : « إذا شككت فابن على اليقين بالبراءة » أي حصّل اليقين بها ولا تكتف باحتمالها. فالرواية على الاحتمال المذكور أيضا لا تخلو عن الدلالة على اعتبار الاستصحاب ولكن في الجملة ، كيف وتنزيلها عليه أيضا خروج عن الظاهر ، لأنّ لفظي « الشكّ » و « اليقين » مطلقان وصرفهما إلى البراءة والاشتغال بالخصوص لا بدّ له من صارف.

ولكنّ الإنصاف : أنّ دلالة هذه الرواية على الاستصحاب مطلقا أو في الجملة ليست بذلك الوضوح ، لقوّة احتمال ورودها في شكوك الصلاة بل في خصوص الشكّ في ركعاتها كما أو مأنا إليه في تقرير المناقشة المتقدّمة ، بأن يكون تقديرها « إذا شككت في شيء من ركعاتها فابن على ما يوجب اليقين بالصحّة المبرئة للذمّة » وهو البناء على الأكثر ثمّ الاحتياط بعد التسليم ، وإنّما عبّر بهذا اللفظ تعريضا على العامّة البانين فيها على ما لا يوجبه لاحتمال الزيادة في الركعة. ونظائر هذا التعبير لإفادة ذلك المعنى في الروايات الواردة في باب الشكوك كثيرة.

٣٢١

منها : ما رواه عمّار بن موسى الساباطي قال : سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن شيء من السهو في الصلاة فقال : « ألا اعلّمك شيئا إذا فعلته ثمّ ذكرت أنّك أتممت أو نقصت لم يكن عليك شيء؟ قلت : بلى ، قال : إذا سهوت فابن على الأكثر ، فإذا فرغت وسلّمت فقم فصلّ ما ظننت أنّك نقصت ، فإن كنت قد أتممت لم يكن عليك في هذه شيء ، وإن ذكرت أنّك كنت نقصت كان ما صلّيت تمام ما نقصت (١) ».

وما أرسله الصدوق في الفقيه قال : قال أبو عبد الله عليه‌السلام لعمّار بن موسى : « يا عمّار ألا أجمع لك السهو كلّه في كلمتين ، متى ما شككت فخذ بالأكثر ، وإذا سلّمت فأتمّ ما خلت أنّك نقصته (٢) ».

ومن الأخبار ما رواه الشيخ عن الصفّار عن عليّ بن محمّد القاساني قال : كتبت إليه عليه‌السلام وأنا بالمدينة عن اليوم الّذي يشكّ فيه من رمضان هل يصام أم لا؟ فكتب عليه‌السلام : « اليقين لا يدخل فيه الشكّ ، وصم للرؤية وأفطر للرؤية (٣) » تمسّك بها بعض الأعلام (٤) وهذه في وضوح الدلالة على الاستصحاب عموما بحيث لا يفتقر إلى بيان ، فإنّه عليه‌السلام بعد ما سئل عن حكم يوم الشكّ المردّد بين آخر شعبان وأوّل رمضان ، أو بين آخر رمضان وأوّل شوّال ، أصّل للسائل أصلا كلّيا وقنّن قانونا مطّردا وهو : أنّ اليقين لا يدخله الشكّ ، ومعناه : أنّ اليقين لا يزاحمه الشكّ ، ومزاحمه الشكّ لليقين عبارة عن إيجابه رفع اليد عنه وترك العمل به ، ومحصّله : المنع من نقض اليقين بالشكّ. ثمّ فرّع عليه فرعين لا ينطبقان عليه إلاّ على تقدير كون المراد به قاعدة الاستصحاب.

أحدهما : عدم وجوب الصوم إلاّ لرؤية هلال رمضان ، لسبق يقين شعبانيّة الشهر على يوم الشكّ ، فلا ينقض بالشكّ بل بيقين مثله ، وهو اليقين بخروج شعبان الحاصل برؤية هلال رمضان.

وثانيهما : عدم وجوب الإفطار إلاّ لرؤية هلال شوّال ، لسبق يقين رمضانيّة الشهر على يوم الشكّ ، فلا ينتقض بذلك الشكّ بل بيقين مثله حاصل برؤية هلال شوّال.

ولا يجري فيه ما تقدّم في الرواية السابقة من احتمال كون الغرض تأسيس قاعدة

__________________

(١) الوسائل ٥ : ٣١٨ ، الباب ٨ من أبواب الخلل الواقع في الصلاة ، الحديث ٣ ، ح ٢ : ٣٤٩ ح ١٤٤٨.

(٢) الوسائل ٥ : ٣١٧ ـ ٣١٨ ، الباب ٨ من أبواب الخلل الواقع في الصلاة ، ح ١.

(٣) الوسائل ٧ : ١٨٤ ، الباب ٣ من أبواب أحكام شهر رمضان ، ح ١٣.

(٤) القوانين ٢ : ٦٢.

٣٢٢

الاشتغال ، لعدم ثبوت الاشتغال اليقيني في المورد الّذي هو يوم الشكّ ، أمّا في أوّل الفرعين : فواضح ، وأمّا في ثانيهما : فبناء على كون كلّ يوم من رمضان تكليفا مستقلاّ فيرجع الشكّ في يوم الشكّ إلى التكليف ، مع أنّ قاعدة الشغل على تقدير ثبوت الاشتغال في الأوّل يقضي بوجوب صوم يوم الشكّ لا نفي وجوبه ، وهي على تقدير ثبوته في الثاني غير جارية لدوران الأمر فيه بين المحذورين من وجوب صوم هذا اليوم وحرمته ، فدلالة الرواية على اعتبار الاستصحاب عموما وكونه أصلا كلّيا ممّا لا ينبغي الاسترابة فيه.

نعم ربّما يشكل الحال في التعويل عليها من جهة سندها باعتبار عليّ بن محمّد القاساني الّذي ضعّفه العلاّمة في الخلاصة (١) وعزى تضعيفه أيضا إلى الشيخ في أصحاب الهادي عليه‌السلام من رجال الشيخ (٢) ولم نقف من غيرهما على توثيق له ، مع ما عن النجاشي (٣) في ذمّه من أنّه غمز عليه أحمد بن محمّد بن عيسى وأنّه سمع منه مذاهب منكرة.

نعم في محكيّ المشتركات (٤) وصفه بالثقة ، غير أنّ شهادة الجرح عندهم مقدّمة. ولئن سلّمنا عدم التعويل على تضعيف العلاّمة في الخلاصة لانتهائه إلى ابن الغضائري الّذي لا تعويل على تضعيفاته لأنّه كثيرا مّا يضعّف رجالا ليسوا بضعاف ، فلا أقلّ من إيراثه قصورا في السند. ولكن مع هذا كلّه يمكن جبر ضعف السند أو قصوره بعمل الأصحاب ، مع أنّه على تقدير عدم الجابر إنّما يقدح على القول بالعمل بالأخبار من باب الظنّ الخاصّ دونه من باب الظنّ المطلق كما هو الأقوى ، لابتنائه على ظنّ الصدور واطمئنانه وإن ضعف بحسب الاصطلاح المتأخّر ، فتأمّل.

ومن الأخبار ما رواه الصدوق في الخصال تارة في أوائله (٥) مسندا عن أبيه عن سعد بن عبد الله عن محمّد بن عيسى اليقطيني عن القاسم بن يحيى عن جدّه الحسن بن راشد عن أبي بصير ومحمّد بن مسلم عن أبي عبد الله عليه‌السلام (٦) ، واخرى في أواخره في حديث الأربعمائة رواه مرسلا عن أبي جعفر عليه‌السلام ، وفي الطريقين معا قال : قال أمير المؤمنين عليه‌السلام : « من كان على يقين فشكّ فليمض على يقينه ، فإنّ الشكّ لا ينقض اليقين (٧).

وعن البحار مرسلا : « أنّ أمير المؤمنين عليه‌السلام قال : من كان على يقين فأصابه شكّ

__________________

(١) خلاصة الأقوال ٢٣٢ / ٦.

(٢) رجال الشيخ : ٤١٧.

(٣) رجال النجاشي : ٢٥٥ / ٦٦٩.

(٤) هداية المحدّثين : ٢١٨.

(٥) كذا ، والصحيح في أواخره في حديث الأربعمائة.

(٦) لم أعثر عليه.

(٧) الخصال : ٦١٩.

٣٢٣

فليمض على يقينه ، فإنّ اليقين لا يدفع بالشكّ (١) ».

وهذه الثلاث وإن كانت ضعيفة في الاصطلاح المتأخّر بارسال المرسل منها ، واشتمال سند المسند منها على القاسم بن يحيى الّذي ضعّفه العلاّمة في الخلاصة (٢) إلاّ أن يقال : بأنّ التضعيف المذكور لكونه من ابن الغضائري لا يعبأ به ، ورواية الأجلّة ومنهم أحمد بن محمّد بن عيسى عن هذا الرجل آية الاعتماد عليه ، بل في التعليقة (٣) أنّه آية وثاقته ، ومع ذلك فهي مع الروايات الاخر المتقدّمة باعتبار تكاثرها يتعاضد بعضها ببعض ، غير أنّ دلالتها على الاستصحاب عموما واضحة لا ينبغي الاسترابة فيه ، لظهور قوله عليه‌السلام : « من كان على يقين فشكّ ، أو أصابه شكّ » في اليقين السابق والشكّ اللاحق ، وفي كونه عليه‌السلام في مقام اعطاء قاعدة كلّية.

وتوهّم المناقشة فيها أيضا باعتبار ظهور « النقض » و « الدفع » في المناقضة والمدافعة الحقيقيّة ، وإنّما يتحقّق ذلك بين اليقين والشكّ إذا اتّحد موردهما زمانا ، بأن تكون الآثار السابقة المترتّبة على اليقين السابق مشكوكة باعتبار الشكّ في ثبوت الحالة السابقة ثمّة كما في صورة سريان الشكّ ، كعدالة زيد وصحّة عبادته إذا شكّ بعد الفراغ في أصل ثبوتها حين العمل بعد اليقين بها ، وظاهر عدم نقض اليقين بالشكّ في نحو هذه الصورة إنّما هو حفظ الآثار السابقة المترتّبة على اليقين السابق وهذا معنى آخر لا تعلّق له بالاستصحاب.

يندفع : بظهور قوله : « فليمض » في وجوب ترتيب الآثار المستقبلة لا مجرّد حفظ الآثار الماضية ، مع كون النقض الوارد في الأخبار إنّما يلاحظ بالنسبة إلى الآثار المستقبلة.

وهذه هي آخر الأخبار العامّة المستدلّ بها على الاستصحاب ، ولقد عرفت وضوح دلالة أكثرها عليه مطلقا أو في الجملة ، والظاهر عدم الفرق فيها بين ما لو كان الشكّ في بقاء الحالة السابقة باعتبار الشكّ في المقتضي أو باعتبار الشكّ في المانع كما هو المعروف بين المتأخّرين.

ومن مشايخنا من تأمّل فيه بالنسبة إلى الشكّ في المقتضي تبعا للمحقّق الخوانساري (٤) ، وأوضح وجهه بما ملخّصه : أنّ النقض حقيقة في رفع الأمر الثابت كما في نواقض الطهارة ، ويطلق مجازا تارة على رفع الأمر الغير الثابت الّذي من شأنه الثبوت والاستمرار لوجود

__________________

(١) البحار ٢ : ٢٧٢.

(٢) خلاصة الأقوال : ٢٤٨ / ٦.

(٣) تعليقة الوحيد البهبهاني : ٢٦٤.

(٤) مشارق الشموس : ٧٦.

٣٢٤

المقتضي لثبوته ، واخرى على مطلق رفع اليد عن الأمر الغير الثابت ولو لعدم المقتضي له بعد الأخذ به ، والحقيقة هنا متعذّرة لانتقاض اليقين بنفسه بطروّ الشكّ ، ويجب حمله على أوّل المعنيين الآخرين لأنّه أقرب إلى الحقيقة ، فيخصّص متعلّقه بما من شأنه الاستمرار والاتّصال ، لأنّ الفعل الخاصّ يصير مخصّصا لمتعلّقة العامّ كما في قول القائل : « لا تضرب أحدا » ، فإنّ الضرب قرينة على اختصاص العامّ بالأحياء ولا يكون عمومه للأموات قرينة على إرادة مطلق الضرب عليه كسائر الجمادات (١).

أقول وتحقيق المقام : أنّ لا ينقض في قوله : « لا ينقض اليقين بالشكّ » وغيره من مرادفاته الواردة في الأخبار المذكورة باعتبار المادّة من الأفعال المسندة إلى المكلّف ، وحقيقة معناه وإن كان رفع الأمر الثابت ومنه فسخ البيع ، وهدم البناء ، وحلّ برم الحبل في « نقضت الحبل » ومنه قوله تعالى : ( لا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَها )(٢) ، ونواقض الوضوء باعتبار أنّها أسباب لنقض الطهارة ورفعها ، و [ لكن ] قد يطلق مجازا على رفع اليد عن شيء على معنى ترك العمل على مقتضاه وعدم ترتيب أحكامه وآثاره ومنه نقض العهد واليمين.

وباعتبار الهيئة تفيد اعطاء حكم تكليفي أو إرشادي إلى المكلّف الّذي عرضه الشكّ بعد اليقين ، فوجب كون متعلّقه وهو النقض مقدورا له ، وقضيّة ذلك أن لا يراد به رفع الأمر الثابت ، ولا رفع الأمر الّذي من شأنه الثبوت ، سواء كان ذلك الأمر الثابت أو الّذي من شأنه الثبوت هو اليقين أو المتيقّن الّذي هو حياة زيد وعدالته وغيرهما من الامور الخارجيّة ، ونجاسة الماء المتغيّر بالنجاسة ، ووجوب المضيّ في الصلاة على المتيمّم ، والطهارة والحدث وغيرها من الأحكام الشرعيّة الكلّية أو الجزئيّة ، أو آثار اليقين وأحكامه الّتي تضاف إليها باعتبار كونها من آثار المتيقّن وأحكامه لعدم اختيار للمكلّف في شيء من ذلك.

أمّا الأوّل : فلأنّ اليقين بمجرّد طروّ الشكّ ينتقض قهرا وليس بقاؤه وانتقاضه من آثار قدرة المكلّف ليصحّ تعلّق التكليف برفعه.

وأمّا الثاني : فلأنّ المتيقّن وهو الحالة السابقة في بقائه وارتفاعه يتبع وجود مقتضيه وانتفاء مانعه ، فهو على تقدير تحقّق الأمرين باق لا محالة ، وعلى تقدير عدم تحقّق أحدهما مرتفع لا محالة ، وليس شيء منهما من حيث هو مشكوك من آثار قدرة المكلّف ليصحّ خطابه بعدم نقضه ورفعه.

__________________

(١) فرائد الاصول ٣٩ : ٧٨ ـ ٧٩.

(٢) النحل : ٩٢.

٣٢٥

وأمّا الثالث : فلأنّ الآثار المترتّبة على اليقين بأسرها من قبيل الأحكام الشرعيّة والأحكام العقليّة ورفعها عبارة عن نسخها ، وهو أيضا ليس من مقدورات المكلّف ليصحّ تكليفه بعدمه ، بل المقدور له إنّما هو رفع اليد عن اليقين السابق بترك العمل على مقتضاه وعدم ترتيب الأحكام المترتّبة عليه في الواقعة ، وهذا ممّا يصحّ تعلّق الخطاب به والنهي عنه ومحصّله : وجوب العمل بمقتضاه وترتيب آثاره وأحكامه ، وقضيّة ذلك حمل « النقض » على إرادة هذا المعنى وإن كان مجازيّا.

وقد يتوهّم أنّ ذلك يستدعي تصرفّا آخر في لفظ « اليقين » بحمله إمّا على إرادة المتيقّن تسمية للمتعلّق باسم المتعلّق ، أو على إرادة الأحكام والآثار تسمية للاّزم باسم الملزوم.

وظنّي أنّه ليس كما توهّم ، لأنّ نقض اليقين كناية عن رفع اليد عن اليقين المفروض حصوله قبل طروّ الشكّ ، على معنى ترك العمل على مقتضاه وعدم ترتيب أحكامه ، وهذا لا يقتضي تصرّفا في لفظ « اليقين » أصلا ، وطريق عدم رفع اليد عنه فرض القضيّة المشكوكة قضيّة متيقّنة وتنزيلها منزلتها ثمّ اجراء جميع ما كان يترتّب على القضية المتيقّنة من الآثار والأحكام على القضيّة المشكوكة.

فظهر أنّ الأقوى ما هو المعروف بين المتأخّرين من عموم الروايات بعد نهوض دلالتها على الاستصحاب لكلّ من الشكّ في المقتضي والشكّ في المانع بجميع أقسامه المتقدّمة ، وتوهّم اختصاصها بالثاني ليس على ما ينبغي ، لوروده على خلاف التحقيق ، وانتظر لزيادة تحقيق في ذلك عند الكلام على التفاصيل وتزييف حججها.

واستدلّ أيضا لا ثبات التعبّد بالاستصحاب بعدّة أخبار خاصّة واردة في موارد جزئيّة بتوهّم أنّها بمجموعها تدلّ عليه بقول مطلق ، كصحيحة عبد الله بن سنان قال : سأل أبي أبا عبد الله عليه‌السلام وأنا حاضر ، أنّي اعير الذمّي ثوبي وأنا أعلم أنّه يشرب الخمر ويأكل الخنزير فيردّه عليّ ، فأغسله قبل أن اصلّي فيه؟ فقال أبو عبد الله عليه‌السلام : « صلّ فيه ولا تغسله من أجل ذلك ، فإنّك أعرته إيّاه وهو طاهر ولم تستيقن أنّه نجّسه ، فلا بأس أن تصلّي فيه حتّى تستيقن أنّه نجّسه (١) ».

وموثّقة عبد الله بن بكير عن أبيه قال : قال أبو عبد الله عليه‌السلام : « إذا استيقنت أنّك قد أحدثت

__________________

(١) الوسائل ٢ : ١٠٩٥ ، الباب ٧٤ من أبواب النجاسات ، ح ١.

٣٢٦

فتوضّأ ، وايّاك أن تحدث وضوءا أبدا حتّى تستيقن أنّك قد أحدثت (١) ».

وموثّقة عمّار عن أبي عبد الله عليه‌السلام ـ في حديث ـ : « قال كلّ شيء نظيف حتّى تعلم أنّه قذر ، فإذا علمت فقد قذر ، وما لم تعلم فليس عليك شيء (٢) ».

والخبر المرويّ في كتب المشايخ الثلاث بطرق متعدّدة المتلقّى بالقبول : « الماء كلّه طاهر حتّى يعلم أنّه قذر (٣) ».

ووجه انطباق مفاد الصحيحة على الاستصحاب واضح من حيث إنّ الإمام عليه‌السلام أمر السائل بالصلاة في الثوب وعدم الاعتناء باحتمال طروّ النجاسة تعويلا على طهارته السابقة ، وأناط التحرّز عنه في الصلاة ووجوب غسله لها باستيقان أنّ الذمّي نجّسه ، ولا يعنى من الاستصحاب إلاّ هذا.

وبهذا البيان يمكن تطبيق موثّقة ابن بكير عليه أيضا من حيث إنّه عليه‌السلام أناط وجوب التوضّؤ باستيقان الحدث.

وأمّا انطباق موثّقة عمّار عليه فلعلّ وجهه أنّه عليه‌السلام حكم في كلّ شيء نظيف باستمرار نظافته إلى أن يحصل العلم بقذارته. فقوله : « كلّ شيء نظيف » معناه كلّ شيء محكوم باستمرار نظافته إلى زمان علم قذارته أي طروّ القذارة له. وهكذا يقال في تطبيق قوله عليه‌السلام : « الماء كلّه طاهر » إلى آخره عليه.

وفيه نظر واضح ، لمنع كون الرواية مسوقة لتأسيس قاعدة الاستصحاب ، بل هي ظاهر الانسياق لإعطاء قاعدة اخرى يعبّر عنها بقاعدة الطهارة فيما شكّ طهارته ونجاسته إلى أن يعلم نجاسته ، نظير قاعدة الصحّة في فعل المسلم إلى أن يعلم الفساد ، وقاعدة الحلّ إلى أن يعلم الحرمة.

وتوضيح المقام : « أنّ قوله : « كلّ شيء نظيف حتّى تعلم أنّه قذر » في بادئ النظر يحتمل وجوها :

أحدها : أن يراد بالموضوع العناوين الكلّيّة القابلة لكون حكمها الواقعي الطهارة ، وبالمحمول الطهارة الواقعيّة لتكون الرواية مسوقة لإنشاء الطهارة الواقعيّة للعناوين الكلّية.

وثانيها : أن يراد بالموضوع العناوين الكلّية الغير المعلوم حكمها الواقعي المردّد بين

__________________

(١) الوسائل ١ : ١٧٦ ، الباب ١ من أبواب نواقض الوضوء ، ح ٧ ، و ٣٣٢ ، الباب ٤٤ من أبواب الوضوء ح ١.

(٢) الوسائل ٢ : ١٠٥٤ ، الباب ٣٧ من أبواب النجاسات ، ح ٤.

(٣) الكافي ٣ : ١ ، ح ٢ ، ٣ الفقيه ١ : ٥ ، ح ١ باختلاف ، التهذيب ١ : ٢١٥ و ٢١٦ ، ح ٦١٩ ـ ٦٢١.

٣٢٧

الطهارة والنجاسة مثل كلب الماء والحيوان المتولّد من طاهر ونجس الّذي لا يشبه أحد أبويه ولا مماثل له ، وبالمحمول الطهارة الظاهريّة ليكون الرواية مسوقة لإنشاء الطهارة الظاهريّة في العناوين الكلّية للجاهل بحكمها الواقعي من حيث الطهارة والنجاسة.

وثالثها : أن يراد بالموضوع الموضوعات الخارجيّة والجزئيّات الحقيقيّة المشتبهة بين عنوانين طاهر ونجس ، وبالمحمول الطهارة الظاهريّة لتكون الرواية مسوقة لإنشاء الطهارة الظاهريّة للموضوعات الخارجيّة المشتبهة.

والفرق بين هذا وسابقه ـ مع كون مفاد الرواية على التقديرين قاعدة الطهارة ـ واضح من حيث كون الشبهة في السابق حكميّة وفيه موضوعيّة.

ورابعها : أن يراد بالموضوع الأشياء المعلوم طهارتها في وقت المشكوك في بقاء الطهارة لها في وقت آخر ، وبالمحمول استمرار هذه الطهارة المعلومة لتكون الرواية مسوقة لإنشاء الحكم باستمرار الطهارة فيما علم طهارته وشكّ في استمرارها. وهذا هو الاستصحاب لو تمّت دلالة الرواية عليه ولو ظهورا.

وينبغي القطع بحسب ثاني النظر بفساد المعنى الأوّل القاضي بامتناع حمل الرواية عليه ، بدليل كون الغاية وهو قوله : « حتّى تعلم أنّه قذر » من تتمّة المحمول ومن المستحيل كون الطهارة الواقعيّة ، مغيّاة بغاية العلم ، لأنّ الأحكام الواقعيّة ولا سيّما الوضعيّة ـ ولا سيّما الطهارة والنجاسة ـ لا تتبدّل بالعلم والجهل. فالطاهر الواقعي طاهر في الواقع وإن جهل طهارته ، والنجس الواقعي نجس في الواقع وإن جهل نجاسته.

وأمّا المعاني الثلاث الباقية ـ أعني قاعدة الطهارة في الشبهة الحكميّة وهي في الشبهة الموضوعيّة واستصحاب الطهارة ـ فمن الأعلام (١) من يظهر منه امتناع الجمع بينها في الإرادة ، لتغايرها وفقد الجامع بينها ، فيلزم من إرادة الجميع استعمال لفظ الرواية في أكثر من معنى.

ومن الفضلاء من يظهر منه جواز الجمع بينها ، فقال ـ ردّا على بعض الأعلام ـ : « إنّ الرواية تدلّ على أصلين :

أحدهما : أنّ الحكم الأوّلي للأشياء ظاهرا هي الطهارة مع عدم العلم بالنجاسة ، وهذا لا تعلّق له بمسألة الاستصحاب.

__________________

(١) القوانين ٢ : ٦٤.

٣٢٨

الثاني : أنّ هذا الحكم مستمرّ إلى زمن العلم بالنجاسة ، وهذا من موارد الاستصحاب وجزئيّاته (١) ».

وفيه : أنّ المعنيين وإن كانا متداخلي المورد لعموم القاعدة لمورد استصحاب الطهارة ، إلاّ أنّه لا يمكن الجمع بينهما في الإرادة إلاّ لجامع يكون هو المراد ، حذرا عن الاستعمال في معنيين.

وغاية ما يمكن فرضه من الجامع العامّ للمعاني الثلاث هو أن يراد ب « كلّ شيء نظيف » كلّ ما لم يعلم نظافته فهو محكوم بكونه نظيفا.

ويدفعه : أنّه توهّم عموم للجميع وعند التحقيق قاصر عن إفادة الاستصحاب.

أمّا أوّلا : فلتغاير إنشاء أصل الطهارة ظاهرا للموضوع المشتبه حكمه الواقعي من حيث الطهارة والنجاسة ، وإنشاء استمرار الطهارة للموضوع المعلوم طهارته واقعا في وقت ، ولا يمكن إرادتهما معا من الهيئة التركيبيّة الّتي هي في الأصل جملة خبريّة ، والمعنى المذكور لا يصلح جامعا لهما ، بل هو ظاهر في إنشاء أصل الطهارة.

غاية الأمر تعيّن حملها على الطهارة الظاهريّة لدخول الشكّ في موضوعها.

وأمّا ثانيا : فلأنّ مناط الحكم في مورد قاعدة الطهارة إنّما هو مجرّد الشكّ في الطهارة والنجاسة لشبهة حكميّة أو موضوعيّة ، على معنى كونه بانفراده جزءا لموضوع هذا الحكم من دون مدخليّة شيء آخر معه فيه ، كما أنّ مناط الحكم في مورد أصالة الصحّة في فعل المسلم مجرّد الشكّ في الصحّة والفساد لشبهة موضوعيّة ، ومناط الحكم في مورد أصالة الحلّ في الأشياء هو مجرّد الشكّ في الحلّ والحرمة لشبهة حكميّة أو موضوعيّة ، بخلاف الاستصحاب فإنّ مناط الحكم في موارده هو المجموع من اليقين بثبوت الطهارة في وقت والشكّ في بقائها في آخر ، على وجه يكون المجموع من حيث المجموع جزاء للموضع لا أحدهما فقط.

وبالجملة مناط الحكم فيه وموضوعه مركّب من جزئين ، وهما اليقين السابق والشكّ اللاحق ، بحيث يكون لكلّ منهما مدخليّة في الحكم لاعتبار دخوله في موضوعه ، فلو فقد أحدهما فقد الحكم من حيث إنّه حكم استصحابي. فلو اريد من قوله : « كلّ شيء » ما اخذ فيه الأمران معا فلا يدخل فيه مورد القاعدة ، ولو اريد منه ما اخذ فيه الشكّ فقط فلا يدخل فيه مورد الاستصحاب ، والمعنى المذكور المتوهّم كونه جامعا ظاهر فيه ، ومعه لا يمكن تناوله للاستصحاب إلاّ بتوهّم إرادة الشكّ في الطهارة والنجاسة لا بشرط سبق العلم

__________________

(١) الفصول : ٣٧٣.

٣٢٩

بالطهارة ولا عدم سبق العلم بها.

وفيه : أنّ هذا بعينه هو معنى قاعدة الطهارة الّتي لا يلاحظ لموردها حالة سابقة وإن كانت موجودة ، ولذا ذكرنا سابقا أنّها تعمّ مورد الاستصحاب ، ولا يلزم من ذلك ـ بناء على إرادة المعنى المذكور ـ دلالة الرواية على الاستصحاب أيضا ، لأنّ المعتبر فيه إنّما هو الشكّ في الطهارة والنجاسة بشرط سبق العلم بالطهارة ، ولذا كان المشكوك فيه في مورده هو بقاء الطهارة السابقة بعد الفراغ عن ثبوت أصلها ، لا أصل الطهارة وإن لم يحرز ثبوته. واللفظ المحمول على معنى ملحوظ لا بشرط غيره لا يتناول معنى ملحوظ (١) بشرط شيء آخر غيره ، بل لا يمكن إرادتهما معا من اللفظ في إطلاق واحد.

وما يقال : من أنّ المعنى الملحوظ لا بشرط لا ينافيه ألف شرط ، فإنّما هو بالنظر إلى التحقّق الخارجي لا بالنظر إلى الدخول في الإرادة من اللفظ ، فإن اريد به الملحوظ بشرط شيء فلا يمكن معه إرادة الملحوظ لا بشرط ، وإن اريد به الملحوظ لا بشرط فهو لا يتناول الملحوظ بشرط شيء لتغايرهما بحسب الاعتبار ، وإرادتهما معا من اللفظ يوجب استعماله في معنيين وهو غير سائغ. والحاصل : أنّ المعنى الملحوظ لا بشرط إذا اريد من لفظ بوصف اللابشرطيّة فينافيه شرط واحد فضلا عن ألف شرط. ويلزم منه أنّ اللفظ إذا اريد منه هذا المعنى فهو لا يفيد إلاّ قاعدة اخذ موضوعها على هذا الوجه ، ولا يفيد القاعدة الاخرى الّتي اخذ موضوعها بشرط شيء. ولو اريد به إفادة القاعدتين معا يلزم ما ذكر من محذور الاستعمال في معنيين.

فما عرفت عن بعض الفضلاء من تجويز دلالة الرواية على قاعدة الطهارة واستصحاب الطهارة معا إفراط في القول. كما أنّ ما توهّمه بعض الأعلام من امتناع الجمع بين المعاني الثلاث تفريط في القول. بل الحقّ المشكوك على حدّ الاعتدال هو التفصيل بإمكان الجمع بين المعنيين الأوّلين وعدم إمكانه بينهما وبين الأخير.

أمّا الثاني : فلما عرفت. وأمّا الأوّل : فلجواز أن يكون المراد ب « كلّ شيء » الموضوعات الخارجيّة على وجه تعمّ الشبهات الحكميّة والشبهات الموضوعيّة ، بأن يراد من « الشيء » الموضوع الخارجي الّذي يشكّ في طهارته باعتبار الشبهة في حكم نوعه ، أو باعتبار الشبهة في خصوصيّة موضوعه في نفسه.

__________________

(١) كذا في الأصل ، ولعلّ الصواب : ملحوظا.

٣٣٠

وعلى الأوّل يكون موردا لقاعدة الطهارة في الشبهات الحكميّة ، وعلى الثاني يكون موردا لها في الشبهات الموضوعيّة.

وبهذا البيان يندفع ما قيل ـ في نفي الفرق بين المعنيين الأوّلين ـ من : أنّه لو صار واحد من جزئيّات العنوان الكلّي المشكوك في حكمه متعلّقا للشكّ في الخارج كان من الشبهة الموضوعيّة ، إذ ليس ملاك الفرق بين الشبهة الحكميّة والشبهة الموضوعيّة هو مجرّد كون متعلّق الشكّ عنوانا كلّيا في الاولى وجزئيّا حقيقيّا في الثانية ، لتنقض الاولى بفرض تعلّق الشكّ بواحد من جزئيّات العنوان الكلّي ، بل المدار فيه على كون الشكّ في الطهارة مسبّبا عن اشتباه الحكم الشرعي ، أو عن اشتباه خصوصيّة في موضوعه بعد معلوميّة الحكم الشرعي لعنوانين كان ذلك الموضوع مردّدا بينهما ، والشبهة على الأوّل حكميّة وإن فرض مورد الشكّ جزئيّا ، وبعد ما سمعت من منع دلالة الرواية على القاعدتين بل لا بدّ من دلالتها إمّا على قاعدة الطهارة أو على استصحابها ، فاعلم أنّها بحسب متفاهم العرف أظهر في قاعدة الطهارة فلا تنهض دليلا على حكم الاستصحاب.

غاية الأمر أنّ مورد القاعدة قد يكون من مورد استصحاب الطهارة ، كما لو كان الشكّ في الطهارة مسبوقا بالعلم بها كما أشرنا إليه سابقا ، ولعلّه منشأ توهّم الدلالة من الرواية عليهما.

ويزيّفه : أنّ عموم قاعدة الطهارة باعتبار عموم موردها لمورد استصحاب الطهارة لا يوجب دلالة الرواية الدالّة على القاعدة على الاستصحاب أيضا.

ألا ترى أنّ مورد القاعدة قد يكون من مورد استصحاب النجاسة فيما لو كان الحالة السابقة فيما يشكّ في طهارته ونجاسته [ هي النجاسة ] ، فالقاعدة المستفادة من الرواية لعموم موردها قد تعمّ هذا المورد أيضا ، مع أنّه لا يعقل دلالة الرواية على استصحاب النجاسة.

ثمّ أنّ في دخول مستصحب النجاسة في المغيّا أو فيما بعد الغاية قولان ، ويظهر الفائدة في وقوع التعارض بين استصحاب النجاسة على تقدير مساعدة الدليل عليه وقاعدة الطهارة على القول بدخوله في المغيّا ، وعدم وقوعه على القول بدخوله فيما بعد الغاية.

وعلى القول بتقديم استصحاب النجاسة ـ كما هو الأقوى ـ لا بدّ من تصرّف في لفظ الرواية ، إمّا بالتخصيص في « كلّ شيء » حتّى يكون معنى الرواية : كلّما يشكّ في طهارته فهو محكوم بالطهارة إلاّ مستصحب النجاسة ، أو بالتعميم في قوله : « حتّى يعلم أنّه قذر » بحمل العلم على ما يعمّ العلم الشرعي ، واستصحاب النجاسة علم شرعي ، فأدلّة استصحاب النجاسة إمّا مخصّصة لدليل قاعدة الطهارة أو حاكمة عليه وهو الأظهر ، على ما ستعرفه في

٣٣١

مباحث تعارض الاستصحاب لسائر الاصول والقواعد الّتي منها قاعدة الطهارة.

وبجميع ما بيّنّاه في تلك الرواية يظهر الحال في الرواية الاخرى ، وهي قوله : « الماء كلّه طاهر حتّى يعلم أنّه قذر (١) ».

فالإنصاف : أنّ الأخبار الخاصّة الواردة في موارد جزئيّة لا تنهض لإثبات الاستصحاب بقول مطلق ، لأنّ منها ما لا دلالة عليه أصلا ، والدالّ منها عليه أيضا لا يدلّ إلاّ على الاستصحاب في بعض الأشياء كالطهارة عن الحدث أو عن الخبث مع كون الشكّ في بقائها وارتفاعها باعتبار الشكّ في طروّ رافعها.

وقد يستدلّ أيضا لإثباته مطلقا بالإجماعات الجزئيّة المنعقدة في موارد خاصّة على الاعتناء والتعويل على اليقين السابق إلى أن يعلم خلاف الحالة السابقة ، كما في مسألة المتطهّر إذا شكّ في طروّ الحدث من البناء على الطهارة إلى أن يعلم طروّ الحدث إجماعا ، وفي مسألة المحدث الشاكّ في التطهّر من البناء على الحديث إلى أن يعلم الطهارة إجماعا ، وكذلك البناء على طهارة ثوب أو بدن أو غيرهما إلى أن يعلم طروّ النجاسة ، أو على نجاستها إلى أن يعلم طروّ الطهارة إجماعا ، والبناء على بقاء ما علم كونه ملكا لزيد مثلا على ملكيّته إلى أن يعلم المزيل إجماعا ، والبناء على حياة الغائب وبقاء أمواله وزوجته في ملكه وزوجيّته إلى أن يعلم موته ، والبناء على بقاء الليل أو النهار في شهر رمضان المعبّر عنه بمستصحب الليل والنهار إجماعا ، إلى غير ذلك ممّا يقف عليه المتتبّع في الفروع. فيستفاد من مجموع هذه الإجماعات أنّ الاستصحاب بجميع أفراده من الاصول الشرعيّة من دون اختصاص له ببعض الموارد دون بعض.

ويمكن المناقشة فيه أوّلا : بمنع كون البناء المذكور في معاقد الإجماعات تعويلا على الحالة السابقة ليكون استصحابا ، لجواز كون كلّ في مورده قاعدة اخرى غير الاستصحاب أثبتها الإجماع.

غاية الأمر مصادفة القاعدة لمورد الاستصحاب ، وهذه لا يقضي بكونه المعتمد ، كما عرفته في قاعدة الطهارة المستفاد من النصّ.

وثانيا : بمنع ثبوت عموم الحجّية بتلك الإجماعات بعد تسليم كون معاقدها من

__________________

(١) الوسائل ١ : ١٠٠ ، الباب ١ من أبواب الماء المطلق ، الحديث ٥.

٣٣٢

الاستصحاب ، لاختصاصها بموارد محصورة لا يمكن التمسّك بحجّية الاستصحاب فيها لإثبات حجّيته على وجه العموم إلاّ من باب تنقيح المناط ، بأن يقال : إنّ المناط في مواردها إنّما هو التعويل على الحالة السابقة من حيث إنّها حالة سابقة من دون مدخليّة لخصوص المورد ، وهذا بمكان من المنع إذ لا منقّح لهذا المناط على وجه يطمئنّ بعدم مدخليّة الخصوصيّة. وعلى فرض التسليم فهو مقصور على بعض صور الاستصحاب ، وهو ما كان الشكّ في عروض المانع وطروّ المزيل والرافع ، فلا وجه للتعدّي إلى غير هذه الصورة ، هذا تمام الكلام في أدلّة المطلقين لحجّية الاستصحاب.

وبقي الكلام في حجج المفصّلين ، ولقد عرفت في مفتتح المسألة أنّ التفاصيل كثيرة :

الأوّل منها : ما أحدثه الفاضل التوني في الوافية وعزاه إلى نفسه وإن قصرت عبارته في إفادته ، وهو الفرق بين الأحكام التكليفيّة الابتدائيّة بعدم الحجّية فيها ، والأحكام الوضعيّة أو التكليفيّة التابعة لها بالحجّية. وينبغي نقل عبارته المسوقة لهذا التفصيل ثمّ التعرّض لبيان ما يرد ، فإنّه بعد الإشارة إلى الخلاف في المسألة ونقل حجّة النافين قال : « ولتحقيق المقام لا بدّ من إيراد كلام يتّضح به حقيقة الحال. فنقول : الأحكام الشرعيّة تنقسم إلى ستّة أقسام :

الأوّل والثاني : الأحكام الاقتضائيّة المطلوب فيها الفعل ، وهي الواجب والمندوب.

والثالث والرابع : الأحكام الاقتضائيّة المطلوب فيها [ الكفّ ] الترك وهي الحرام والمكروه.

والخامس : الأحكام التخييريّة الدالّة على الإباحة.

والسادس : الأحكام الوضعيّة ، كالحكم على الشيء بأنّه سبب لأمر ، أو شرط له أو مانع منه ، والمضايقة بمنع أنّ الخطاب الوضعي داخل في الحكم الشرعي ممّا لا يضرّنا فيما نحن بصدده.

إذا عرفت ذلك ، فإذا ورد أمر بطلب شيء فلا يخلو إمّا أن يكون موقّتا أم لا. وعلى الأوّل : يكون وجوب ذلك الشيء أو ندبه في كلّ جزء من أجزاء الوقت ثابتا بذلك الأمر ، فالتمسّك في ثبوت ذلك الحكم في الزمان الثاني بالنصّ ، لا بالثبوت في الزمان الأوّل حتّى يكون استصحابا وهو ظاهر.

وعلى الثاني : أيضا كذلك إن قلنا بإفادة الأمر للتكرار ، وإلاّ فذمّة المكلّف مشغولة حتّى يأتي به في أيّ زمان كان ، ونسبة أجزاء الزمان إليه نسبة واحدة في كونه أداء في كلّ جزء منها ، سواء قلنا بأنّ الأمر للفور أم لا.

والتوهّم بأنّ الأمر إذا كان للفور يكون من قبيل المؤقّت المضيّق اشتباه غير خفيّ على

٣٣٣

المتأمّل ، فهذا أيضا ليس من الاستصحاب في شيء.

ولا يمكن أن يقال : [ بأنّ ] اثبات الحكم في القسم الأوّل فيما بعد وقته من الاستصحاب ، فإنّ هذا لم يقل به أحد ولا يجوز إجماعا.

وكذا الكلام في النهي ، بل هو الأولى بعدم توهّم الاستصحاب فيه ، لأنّ مطلقه يفيد التكرار ، والتخييري أيضا كذلك.

فالأحكام الخمسة ـ المجرّدة عن الأحكام الوضعيّة ـ لا يتصوّر فيها الاستدلال بالاستصحاب. فأمّا الأحكام الوضعيّة : فإذا جعل الشارع شيئا سببا لحكم من الأحكام الخمسة ـ كالدلوك لوجوب الظهر ، والكسوف لوجوب صلاته ، والزلزلة لصلاتها ، والإيجاب والقبول لإباحة التصرّفات والاستمتاعات في الملك والنكاح ، [ وفيه ] لتحريم امّ الزوجة ، والحيض والنفاس لتحريم الصوم والصلاة ، إلى غير ذلك ـ فينبغي أن ينظر إلى كيفيّة سببيّة السبب ، هل هي على الإطلاق؟ كما في الإيجاب والقبول ، فإنّ سببيّته على نحو خاصّ وهو الدوام إلى أن يتحقّق المزيل ، وكذا الزلزلة ، أو في وقت معيّن كالدلوك ونحوه ممّا لم يكن السبب وقتا ، وكالكسوف والحيض ونحوهما ممّا يكون السبب وقتا ، فإنّ السببيّة في هذه الأشياء على نحو آخر ، فإنّها أسباب للحكم في أوقات معيّنة. وجميع ذلك ليس من الاستصحاب في شيء ، فإنّ ثبوت الحكم في شيء من أجزاء الزمان الثابت فيه الحكم ليس تابعا للثبوت في جزء آخر ، بل نسبة السبب في اقتضاء الحكم في كلّ جزء نسبة واحدة ، وكذلك في الشرط والمانع.

فظهر ممّا ذكرنا : أنّ الاستصحاب المختلف فيها لا يكون إلاّ في الأحكام الوضعيّةـ أعني الأسباب والشرائط والموانع للأحكام الخمسة ـ من حيث إنّها كذلك ، ووقوعه في الأحكام الخمسة إنّما هو بتبعيّتها ، كما يقال في الماء الكرّ المتغيّر بالنجاسة إذا زال تغيّره من قبل نفسه : بأنّه يجب الاجتناب عنه في الصلاة لوجوبه قبل زوال تغيّره ، فإنّ مرجعه إلى أنّ النجاسة كانت ثابتة قبل زوال تغيّره فيكون كذلك بعده. ويقال في المتيمّم إذا وجد الماء في الصلاة : إنّ صلاته كانت صحيحة قبل الوجدان فكذا بعده ـ أي كان مكلّفا ومأمورا بالصلاة بتيمّمه (١) قبله فكذا بعده ـ فإنّ مرجعه إلى أنّه كان متطهّرا قبل وجدان الماء فكذا بعده ، والطهارة من الشروط.

__________________

(١) وفي الأصل : « بتتميمه » بدل « بتيمّمه » ، والصواب ما أدرجناه في المتن كما لا يخفى.

٣٣٤

فالحقّ مع قطع النظر عن الروايات عدم حجّيّة الاستصحاب ، لأنّ العلم بوجود السبب أو الشرط أو المانع في وقت لا يقتضي العلم بل ولا الظنّ بوجوده في غير ذلك الوقت كما لا يخفى ، فكيف يكون الحكم المعلّق عليه ثابتا في غير ذلك الوقت. فالّذي يقتضيه النظر بدون ملاحظة الروايات : أنّه إذا علم تحقّق العلامة الوضعيّة تعلّق الحكم بالمكلّف وإذا زال ذلك العلم بطروّ الشكّ يتوقّف عن الحكم بثبوت ذلك الحكم الثابت أوّلا ، إلاّ أنّ الظاهر من الأخبار أنّه إذا علم وجود شيء فإنّه يحكم به حتّى يعلم زواله » انتهى كلامه (١).

وقوله : « إنّ الاستصحاب المختلف فيها لا يكون إلاّ في الأحكام الوضعيّة » يريد بالأحكام الوضعيّة ما عدا الأحكام الوضعيّة المبنيّة على الدوام والثابتة في أوقات معيّنة ، وضابطه الحكم الوضعي الثابت من دليله على وجه الاهمال من دون قضاء الدليل بدوامه ولا توقيته بوقت معيّن.

ومحصّل كلامه : أنّ الاستصحاب في نحو هذه الأحكام الوضعيّة أو التكليفيّة التابعة لها اللازمة لها حجّة دون غيرها من الأحكام التكليفيّة الابتدائيّة الغير التابعة لحكم وضعي ولا الأحكام الوضعيّة المبنيّة على الدوام أو التوقيت ، وهذا كما ترى يغاير التفصيل المعروف منه ، ومع ذلك فاللازم من كلامه عدم كونه تفصيلا في مسألة حجّيّة الاستصحاب مع فرض جريانه ، بل هو فيما نفاه إنكار لأصل الاستصحاب ونفي لجريانه لا أنّه نفي لحجّيته مع فرض جريانه ، فهو في الحقيقة من المطلقين لحجّية الاستصحاب القائلين بها في جميع موارد جريانه من جهة الأخبار ، إذ القائلون بحجّيته مطلقا لا يريدون بها الحجّية حتّى فيما ليس بجار فيه من الموارد ، بل معناها الحجّية مطلقا في مجاريه ، وهذا يوافق مختاره.

غاية ما هنالك أنّ بينه وبين غيره نزاعا موضوعيّا ، وهو أنّ الاستصحاب هل يجري في الأحكام التكليفيّة الابتدائيّة والأحكام الوضعيّة الثابتة على وجه الدوام أو التوقيت أو لا؟ فهو ناف لجريانه فيها لا أنّه ناف لحجّيته على تقدير جريانه.

وربّما تهافت كلماته من حيث إنّه ادّعى حجّيّة الاستصحاب في الأحكام الوضعيّة ، ومعناه كون المستصحب حيثما يجري نفس الحكم الوضعي ، ومثّل له بما يقضي بكون المستصحب موضوع الحكم الوضعي وهو النجاسة في الماء المتغيّر والطهارة في المتيمّم ، ضرورة أنّ الحكم الوضعي فيهما كون النجاسة سببا لوجوب الاجتناب وكون الطهارة

__________________

(١) الوافية : ٢٠٣ ، ٢٠٠.

٣٣٥

شرطا لصحّة الصلاة ، ونفس النجاسة والطهارة موضوع له وقد فرض الاستصحاب فيه لا في الحكم.

وبالجملة الحكم الوضعي في سلسلة الأسباب والشرائط والموانع سببيّة السبب وشرطيّة الشرط ومانعيّة المانع ، لا ذات السبب وذات الشرط وذات المانع ، ومورد الاستصحاب بل المستصحب على ما فرضه إنّما هو ذات السبب والشرط والمانع لا سببيّة الأوّل وشرطيّة الثاني ومانعيّة الثالث ، إلاّ أن يحمل الحكم الوضعي في كلامه على إرادة موضوعه وهو الذات ، فكانت مسامحة واضحة.

إلاّ أنّه على هذا الحمل يندفع عنه ما قد يورد على ما ذكره من أنّ المضايقة بمنع كون الخطاب الوضعي داخلا في الحكم الشرعي ممّا لا يضرّ فيما نحن بصدده ، من أنّ الحكم الوضعي إذا لم يكن حكما مستقلاّ محقّقا متأصّلا بل كان أمرا اعتباريّا انتزاعيّا ينتزعه العقل من الخطاب التكليفي فليس قابلا للاستصحاب ، فكيف يقول بأنّه لا يضرّ فيما هو بصدده؟

ووجه الاندفاع : أنّ المستصحب ـ بناء على تقريره ـ موضوع الحكم الوضعي لا نفسه ليضرّ في جريانه كونه أمرا اعتباريّا ، فليتأمّل.

ثمّ يبقى الكلام معه فيما أنكره من جريان الاستصحاب في الامور المذكورة من التكليفيّات والوضعيّات الّتي منها الأمر الموقّت الّذي استدلّ على عدم جريانه فيه بكون وجوب ذلك الشيء أو ندبه في كلّ جزء من أجزاء ذلك الوقت ثابتا بذلك الأمر ، فالتمسّك في ثبوت الحكم في الزمان الثاني بالنصّ لا بثبوته في الزمان الأوّل حتّى يكون استصحابا.

وفيه : أنّ الموقّت قد يشكّ في بقائه في جزء من أجزاء الوقت باعتبار الشكّ في الإتيان به وعدمه فيستصحب ، وقد يشكّ في بقائه باعتبار تردّد آخره بين زمان وما بعده إمّا لعدم تعرّض دليله لبيان الآخر ، أو لوقوع الخلاف فيه ، أو لاختلاف الأخبار فيه كالعشاء المردّد آخره ـ ولو في حقّ المضطرّ ـ بين نصف الليل وطلوع الفجر ، أو لورود بيان آخره بلفظ مجمل كغروب الشمس في تحديد آخر الظهرين بل العصر المردّد بين استتار القرص وذهاب الحمرة ، أو لمانع خارجي أوجب اشتباه الآخر والشكّ في دخوله من غيم وعمى ونحوهما ، مع فرض تبيّن كون الآخر بحسب الشرع بالنسبة إلى العصر أو صوم نهار رمضان هو ذهاب الحمرة ، فيستصحب الوجوب في الجميع.

إلاّ أن يقال : بكونه في الجميع ممّا يرجع إلى استصحاب الوقت وهو من قبيل الشرط

٣٣٦

إن صحّ في غير الصورة الأخيرة ، فتأمّل. وقد يصحّ الاستصحاب في الموقّتات من جهة الأحوال الطارئة لها لا من جهة أجزاء الوقت ، كما لو دخل الوقت على الحاضر فسافر قبل فعل الصلاة ، أو على المسافر فحضر قبل فعلها ، فيستصحب وجوب الإتمام في الأوّل ووجوب القصر في الثاني ، كما تمسّك به القائلون بكون العبرة في نحوه بحال الوجوب لا الأداء إن لم يخدشه كونه من تبدّل الموضوع ، فتأمّل.

والأولى أن يقال : إنّ الضابط في عدم جريان الاستصحاب في حكم تكليفي أو وضعي أو غيرهما عدم تحقّق شيء من شروط جريانه من اليقين السابق ، والشكّ اللاحق وعدم سريانه ، وبقاء موضوع المستصحب ، ولا جهة لعدم جريانه في الأحكام التكليفيّة الابتدائيّة أو الوضعيّة المؤبّدة أو الموقّتة حسبما زعمه الفاضل إلاّ توهّم عدم تحقّق شكّ فيها.

وفيه : أنّ إنكار تحقّقه فيها يشبه بكونه من إنكار الواضحات ، فإنّ الحكم التكليفي قد يثبت بدليله ولم يعلم استمراره باحتمال الفوريّة فيشكّ في بقائه بعد انقضاء زمان الفور كوجوب ردّ السلام بعد فواته في زمان الفور.

وقد يثبت مع العلم باستمراره في الجملة ولكن يشكّ في مقدار استمراره كوجوب صلاة الكسوفين المشكوك في استمراره إلى الشروع في الانجلاء أو إلى تمام الانجلاء ، ومحرّمات الحائض ومكروهاتها المشكوك في استمرار الحرمة والكراهة فيه إلى حصول نقاء الدم أو إلى حصول الاغتسال ، وإباحة تناول المفطرات في ليل الصيام المشكوك استمرارها إلى الفجر الأوّل أو الثاني ، ووجوب الصوم أو وجوب صلاة العصر المشكوك استمرارهما إلى استتار القرص أو ذهاب الحمرة.

وقد يثبت ويعلم استمراره إلى غاية معيّنة ويشكّ في بقائه للشكّ في دخول الغاية ، وقد يكون من الموقّت أو الموسّع الغير الموقّت ويشكّ بقاؤه في جزء من الوقت للشكّ في الإتيان به كالظهرين مثلا ، وصلاة الزلزلة وغيرها ممّا وقته العمر.

وقد يشكّ البقاء في الموقّت أو الموسّع للشكّ في عروض الرافع أو رافعيّة العارض ، ويتحقّق ذلك في الأحكام الوضعيّة المؤبّدة أو الموقّتة ، فإنّ إباحة التصرّفات والاستمتاعات في الملك المسبّبة من الإيجاب والقبول وإن كانت ثابتة على نحو الدوام حسبما فرضه الفاضل مثالا لثبوت السببيّة على نحو الدوام ـ إلاّ أنّه قد يشكّ في بقائها لاحتمال عروض ما يرفعها من فسخ أو إقالة أو غيرهما من المخرجات عن الملك. هذا مع المناقشة في أنّ

٣٣٧

الإباحة المذكورة ليست من السببيّة ولا محلاّ لها بل هي أثر مترتّب على السبب ومسبّب فيه.

لا يقال : إنّ من دأب الحاكم إذا كان حكيما أن يلاحظ موضوع حكمه بجميع مشخّصاته أوّلا ثمّ يحكم عليه بما أراد وشاء من وجوب أو ندب أو غيرهما ، وقضيّة ذلك عدم جريان الاستصحاب في حكم شرعي يشكّ في بقائه وارتفاعه باعتبار الشكّ في المقتضي ـ أعني استعداده للاستمرار ـ لأنّ الشارع إمّا أن يلاحظ موضوع الحكم ـ كردّ السلام مثلا ـ مقيّدا بالزمان الأوّل أو يلاحظه لا بهذا القيد ، وعلى التقديرين لا معنى لاستصحاب وجوبه ، لاستلزام الأوّل يقين الارتفاع في الزمان الثاني ، واستلزام الثاني يقين البقاء فلا شكّ على التقديرين.

لأنّا نقول : هذا إنّما يتوجّه إذا علم كون الموضوع في لحاظ الآمر مقيّدا أو مطلقا لمكان اليقين بالارتفاع على الأوّل والبقاء على الثاني فلا شكّ على التقديرين. وأمّا إذا لم يعلم أحد التقديرين فلا مانع من استصحاب الحكم ، وهو الوجوب المشكوك فوريّته. إلاّ توهّم عدم كون بقاء موضوع المستصحب محرزا.

ويدفعه : أنّ الضابط في موضوع المستصحب وإحراز بقائه العرف ، ونراهم في مثل ردّ السلام بعد انقضاء زمان الفور يحكمون ببقائه ، ولو بالبناء على نحو من المسامحة في عدم الاعتناء باحتمالي التقييد والإطلاق وجعله نفس ردّ السلام على طريقة الإهمال.

ولا ريب أنّه على هذا الوجه باق فيما بعد زمان الفور ، والتشكيك في بقائه إنّما هو من مقتضى المداقّة العقليّة وهي عند الأصحاب في كثير من المقامات بمعزل عن السقوط (١) بجعلهم المورد ممّا بقي فيه موضوع المستصحب بالبناء على المسامحة العرفيّة ومن ذلك تمسّكهم باستصحاب وجوب التمام عند الشكّ في حدوث التكليف بالقصر ، واستصحاب الكرّيّة وعدمها ، واستصحاب الليل أو النهار وغير ذلك من الامور التدريجيّة المتجدّدة شيئا فشيئا.

وبالجملة ضابط جريان الاستصحاب المبنيّ على بقاء موضوع المستصحب هو كون القضيّة المشكوكة في الزمان الثاني هي عين القضيّة المتيقّنة في نظر أهل العرف بلا تفاوت بينهما ، إلاّ في وصفي اليقين والشكّ الراجعين إلى الحكم لا إلى موضوعه ، ولا في الزمان المختلف بالسبق واللحوق المجعول بالاعتبارين ظرفا لليقين والشكّ من دون مدخليّة له في الموضوع أيضا ولو باعتبار المسامحة.

__________________

(١) كذا في الأصل ، والأوفق بسياق العبارة هو : « بمعزل عن التحقيق » ، والله العالم.

٣٣٨

ومن التفاصيل : الفرق في حجّيّة الاستصحاب بين الامور العدميّة فالحجّية والامور الوجوديّة فعدم الحجّية.

وربّما يشكل الحال في عدّه قولا بالتفصيل مقابلا لانكار الحجّية رأسا مع ملاحظة ما تقدّم عند تحرير محلّ النزاع من نفي الخلاف تارة ودعوى الإجماع اخرى على حجّيّة الاستصحاب في العدميّات ، القاضي بخروجها عن محلّ النزاع وانحصاره في الوجوديّات ، فلو صحّحنا هذه الدعوى لم يعقل كون ما ذكر تفصيلا في المسألة ، بل هو قول بنفي الحجّية رأسا فيما هو محلّ النزاع.

ولكنّ الّذي يهوّن الخطب في ذلك هو ما قدّمناه من منع دعوى خروج العدميّات عن محلّ النزاع ، بدعوى عمومه لها أيضا استنادا إلى شواهد سبق ذكرها.

ويمكن أن يستشهد له أيضا بظواهر عبائر الحاجبي والعضدي والتفتازاني ، ففي المختصر : « الاستصحاب : الأكثر كالمزني والصير في والغزالي على صحّته ، وأكثر الحنفيّة على بطلانه ، سواء كان نفيا أصليّا أو حكما شرعيّا (١) » فإنّ التعميم بعد نقل الخلاف يقضي بعموم الخلاف للنوعين ، بناء على كون المراد بالنفي الأصلي مطلق الأمر العدمي وبالحكم الشرعي الحكم الشرعي الوجودي ، وإنّما جعله مقابلا للأمر العدمي لأنّ عدم الحكم فيما كان المطلوب بالاستصحاب هو العدم ليس حكما شرعيّا.

وعلى طبقه عبارة العضدي في الشرح قائلا بعد تعريف الاستصحاب بما سمعته مرارا ـ : « وقد اختلف في صحّة الاستدلال به لا فادته ظنّ البقاء وعدمها لعدم إفادته إيّاه ، فأكثر المحقّقين كالمزني والصير في والغزالي على صحّته ، وأكثر الحنفيّة على بطلانه فلا يثبت به حكم شرعي ، ولا فرق عند من يرى صحّته بين أن يكون الثابت به نفيا أصليّا ، كما يقال فيما اختلف في كونه نصابا : لم يكن الزكاة واجبة عليه والأصل بقاؤه ، أو حكما شرعيّا مثل قول الشافعيّة في الخارج من غير السبيلين : أنّه كان قبل خروج الخارج متطهّرا والأصل البقاء حتّى يثبت معارض والأصل عدمه (٢) ».

وعلى طبقه عبارة التفتازاني في شرح الشرح قائلا : « وقد اتّفق أكثر المحقّقين كالمزني والصير في والغزالي على صحّة الاحتجاج به ، واتّفق أكثر الحنفيّة على بطلان الاحتجاج به ، سواء كان الاستصحاب نفيا أصليّا وهو استصحاب بقاء النفي الأصلي ، أو حكما شرعيّا

__________________

(١) مختصر الاصول ٢ : ٤٥٣.

(٢) شرح مختصر الاصول ٢ : ٤٥٣.

٣٣٩

مثل قول الشافعيّة في الخارج عن السبيلين : الإجماع منعقد على أنّ المحكوم عليه بالطهارة قبل خروج الخارج متطهّر والأصل البقاء على الطهارة حتّى يثبت معارض لها والأصل عدم المعارض (١) » انتهى.

نعم قد تقدّم منه سابقا كلام آخر وهو أنّ خلاف الحنفيّة إنّما هو في الإثبات دون النفي ، وهذا يقضي بكون الاستصحاب في النفي وفاقيّا بين الحنفيّة وأكثر المحقّقين ، إلاّ أنّه لا ينفي أصل الخلاف في النفي أيضا. ونحن بعد جميع اللتيّا والّتي لو سلّمنا الوفاق على الاستصحاب العدمي فإنّما نسلّمه في خصوص عدم التكليف المعبّر عنه بالبراءة الأصليّة ، وهو أيضا محتمل للنفي الأصلي في العبائر المذكورة بناء على كونه اصطلاحا عندهم في البراءة الأصليّة ، ولو تماشينا مع مدّعي خروج العدميّات عن محلّ النزاع زيادة على ذلك لعدّينا إلى الاصول العدميّة المعمولة في باب الألفاظ كعدم النقل وعدم القرينة وما أشبه ذلك ، إن جعلناها من باب الاستصحاب ، وأمّا خروج مطلق العدميّات فكلاّ ، وعليه فيستقيم عدّ التفصيل المذكور قولا في مقابل القول بنفي الحجّيّة مطلقا.

وربّما يشتبه معنى عدم حجّيّة الاستصحاب في الامور الوجوديّة حسبما أراده هذا القائل ، فإمّا أن يراد به أنّ الاستصحاب لا يوجب الحكم ببقاء المستصحب الوجودي وإن قصد به ترتيب أمر عدمي عليه كاستصحاب حياة زيد الغائب لترتيب عدم جواز تزويج امرأته بغيره ، أو يراد به أنّ الأمر الوجودي لا يثبت بالاستصحاب ولو كان من جهة ترتّبه على المستصحب العدمي الّذي يحكم ببقاء عدمه من جهة الاستصحاب كترتّب انتقال مال مورّث زيد الغائب الّذي مات حال غيبته على عدم موته الّذي يحكم ببقائه بالاستصحاب.

وجهان ، أظهرهما الأوّل ، لظهور التعبير بالاستصحاب في الامور العدميّة والامور الوجوديّة والفرق بينهما بحجّيّة الأوّل وعدم حجّيّة الثاني في الفرق بين الاستصحابين في الحجّيّة والعدم بالنسبة إلى المستصحب العدمي والمستصحب الوجودي.

ولعلّ مستند الفرق حسبما رامه القائل هو أنّ ظنّ البقاء بملاحظة الحالة السابقة الّذي عليه مدار حجّيّة الاستصحاب إنّما يتأتّى في الامور العدميّة دون الوجوديّة ، وذلك أنّ العدم لا يتوقّف في ابتدائه ولا استمراره إلى علّة بل يكفي فيه انتفاء علّة الوجود ، فإذا علم عدم شيء في زمان للعلم بانتفاء علّة وجوده فيه ظنّ بملاحظته بقاؤه في الزمان الثاني أيضا ،

__________________

(١) حاشيه شرح مختصر الاصول ٢ : ٢٨٤.

٣٤٠