تعليقة على معالم الاصول - ج ٦

السيّد علي الموسوي القزويني

تعليقة على معالم الاصول - ج ٦

المؤلف:

السيّد علي الموسوي القزويني


المحقق: السيد علي العلوي القزويني
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
المطبعة: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ١
ISBN: 964-470-559-9
الصفحات: ٤٨٦

الاستصحاب ، لأنّ الضابط في جريان الاستصحاب ـ على ما بيّناه مرارا ـ هو الشكّ في بقاء الشيء بعد اليقين بوجوده ، وما لم يكن موضوعه باقيا لم يكن بقاؤه مشكوكا ، بل المشكوك فيه حدوثه لموضوع آخر ولزمه انتفاء اليقين السابق ، ولو لا عدم المعارض أو الفحص عن الدليل الاجتهادي المحتمل وجوده لم يحرز الشكّ ، بحيث لو لا البناء على مقتضى الحالة السابقة لزم نقض اليقين بالشكّ.

نعم يمكن أن يجعل من شروط اعتبار الاستصحاب عدم تعلّق شكّه بعدد ركعات الصلاة مثلا ، فإنّ الاستصحاب حينئذ وإن كان جاريا غير أنّه لا يعمل به ، عملا بما دلّ على وجوب البناء على الأكثر المخصّص لعمومات الأخبار الدالّة عليه ، وإن كان قد يقال عليه : بأنّ ذلك أيضا ليس شرطا آخر وراء الشكّ اللاحق ، لأنّ البناء على الأكثر ليس نقضا لليقين بالشكّ بل هو نقض اليقين باليقين ، بناء على أنّه أعمّ من اليقين الوجداني واليقين التعبّدي ، والقاعدة المستفادة من دليل البناء على الأكثر يقين تعبّدي ، فتأمّل.

وكيف كان فنحن نتكلّم في الامور المذكورة على تقدير كونها شروطا ولو باعتبار رجوعها إلى ركني الاستصحاب ، فلابدّ من التكلّم في مباحث :

المبحث الأوّل

في اشتراط الاستصحاب ببقاء موضوع المستصحب.

واعلم أنّ المراد بالموضوع هنا معروض الحكم بسيطا كان أو مركّبا من الأجزاء الخارجيّة ، كالوضوء الّذي هو عبارة عن غسلتين ومسحتين. أو من الأجزاء العقليّة كالماء المتغيّر إذا اخذ بوصف التغيّر معروضا للنجاسة ، والمجتهد الحيّ إذا اخذ بقيد الحياة معروضا لحجّية فتاويه ، فيعتبر بقاء معروض الحكم على الوجه الّذي عرضه الحكم ، على معنى بقائه بجميع ما اعتبر معه من الأجزاء الخارجيّة والأجزاء العقليّة الّتي هي القيود فيما لو كان مقيّدا اخذ بوصف التقييد ، فلو انتفى معروض الحكم بنفسه أو انتفى بعض أجزائه أو أحد قيوده لم يكن الموضوع باقيا ، ومعنى بقائه حينئذ كون الموضوع في القضيّة المشكوكة في الزمان اللاحق بعينه هو الموضوع في القضيّة المتيقّنة في الزمان السابق ، بحيث لو فرض الحكم في القضيّة المشكوكة مخالفا للحكم في القضيّة المتيقّنة في الايجاب والسلب مع وحدة زمانيهما لزم التناقض كـ « زيد حيّ » و « عمرو موجود » و « بكر

٤٤١

عادل » مثلا إذا كان حياة زيد متيقّنة في زمان مشكوكة في آخر ، ووجود عمرو متيقّنا في زمان مشكوكا في آخر ، وعدالة بكر متيقّنة في زمان مشكوكة في آخر ، فيعتبر كون الموضوع في القضيّة المشكوكة هو زيد أو عمرو أو بكر على الوجه الّذي اخذ موضوعا في القضيّة المتيقّنة ، وهو الذات المعرّاة عن وصف المحمول ـ أي المأخوذة لا بشرط وصف المحمول ـ سواء كان المحمول هو الحياة أو الوجود أو العدالة وإنّما اعتبر ذلك في موضوع القضيّة إحرازا للمغايرة الذهنيّة فيما بينه وبين المحمول لئلاّ يلزم حمل الشيء على نفسه. وبذلك يندفع ما استشكله بعضهم في كلّية اعتبار بقاء الموضوع في الاستصحاب لانتقاضها باستصحاب وجود الموجودات عند الشكّ في بقائه ، فإنّ بقاء الشيء عبارة عن وجوده الثانوي أعني وجوده المسبوق بالوجود ، فلو كان ذلك معلوما في الزمان الثاني ـ كما هو المراد من احراز بقاء الموضوع في الزمان الثاني الّذي هو زمان الشكّ ـ فلا حاجة في الحكم ببقاء وجود الموجود في الزمان الثاني إلى وسط ، فما معنى استصحابه؟ وكذا الكلام في استصحاب الحياة.

ووجه الاندفاع : أنّ بقاء الموضوع وإن كان عبارة عن وجوده الثانوي إلاّ أنّه في كلّ شيء بحسبه من الوجود الثانوي ذهنا أو خارجا على النحو الّذي اخذ في القضيّة المتيقّنة ، فالموضوع في نحو « زيد موجود » و « عمرو حيّ » الذات المعرّاة عن وصفى الوجود والحياة وهي الذات المتقرّرة في الذهن ، وفي نحو « زيد عادل أو فاسق » الذات الموجودة في الخارج المعرّاة عن وصفي العدالة والفسق ، فبقاؤه في نحو الأوّلين لا يقتضي وجوده الثانوي الخارجي ليلزم من احرازه والعلم به رفع الحاجة عن الاستصحاب ، بل معناه كون المتقرّر في الذهن في زمان الشكّ هو المتقرّر في زمان اليقين.

ومرجع اشتراط بقاء الموضوع إلى وحدة موضوعي القضيّة المشكوكة والقضيّة المتيقّنة ومرجع ذلك إلى وحدة القضيّة في زمان اليقين والشكّ ، وبذلك ظهر أنّ تعدّد القضيّتين المتيقّنة والمشكوكة إنّما هو باعتبار تعدّد زماني اليقين والشكّ ، وإلاّ فأصل القضيّة واحدة في الزمانين ، ولا تصير واحدة إلاّ بوحدة الموضوع في الزمانين ، ويلزم من ذلك وحدة المحمول أيضا ، فرجع الكلام إلى أنّه يعتبر في جريان الاستصحاب وحدة الموضوع والمحمول في قضيّة يستصحب حكمها من زمان إلى آخر ، ولو انتفى وحدة الموضوع فلا استصحاب ، كما أنّه لو انتفى وحدة المحمول أيضا فلا استصحاب.

٤٤٢

ويظهر أثر اعتبار الوحدتين في إثبات وجوب الجزء بعد تعذّر الكلّ بالاستصحاب ، كغسل الوجه واليدين مع مسح الرأس بعد تعذّر مسح الرجلين مثلا فإنّه غير صحيح جزما كما تقدّم سابقا ، ولكن يمكن استناد عدم الصحّة تارة إلى انتفاء وحدة موضوعي القضيّتين المتيقّنة والمشكوكة ، واخرى إلى انتفاء وحدة محموليهما ، لوضوح تغائر قولنا : « غسل الوجه واليدين من حيث كونه في ضمن الكلّ ـ وهو الوضوء ـ واجب » وقولنا : « غسل الوجه واليدين من حيث ذاته واجب » كتغائر قولنا : « غسل الوجه واليدين واجب » على معنى الوجوب الغيري المقدّمي وقولنا : « غسل الوجه واليدين واجب » على معنى الوجوب النفسي الذاتي.

وبالتأمّل في ذلك ظهر دليل اشتراط بقاء الموضوع الّذي مرجعه إلى وحدة موضوعي القضيّتين ، وهو لزوم انتفاء الشكّ اللاحق في تقدير وانتفاء اليقين السابق في آخر على تقدير عدم بقاء الموضوع ، الّذي مرجعه إلى تعدّد القضيّتين موضوعا أو محمولا ، وهما من أركان الاستصحاب فيستحيل بدون أحدهما.

هذا مضافا إلى أنّ الظاهر المتبادر من قولنا : « لا ينقض اليقين بالشكّ » وقوله عليه‌السلام : « من كان على يقين فشكّ ، فليمض على يقينه (١) » وحدة متعلّقي اليقين والشكّ ، ولا يعقل ذلك إلاّ إذا تعلّق اليقين بتحقّق الشيء ـ على معنى وجوده المطلق ـ وتعلّق الشكّ ببقائه ، ولا يتأتّي ذلك إلاّ مع وحدة ذلك الشيء في زماني اليقين والشكّ.

فرجع الكلام إلى دعوى أنّ بقاء الموضوع هو المتبادر من أخبار الاستصحاب ولو بواسطة الدلالة الالتزاميّة البيّنة بالمعنى الأعمّ ، أو العقليّة التبعيّة من باب الإشارة.

ويمكن الاستدلال عليه أيضا بالبرهان العقلي المبنيّ على مقدّمتين عقليّتين ، من امتناع وجود العرض لا في الموضوع ، وامتناع انتقال العرض ، ومقدّمة ثالثة سمعيّة مستفادة من الأخبار أو عرفيّة مستندة إلى بناء العقلاء في مجاري الاستصحاب ، وهو اعتبار كون الشكّ في بقاء الشيء بعد اليقين بوجوده المطلق.

فنقول : أنّ الحكم الّذي يقصد اثبات وجوده بالاستصحاب إمّا أن يقصد اثباته لا في الموضوع أو يقصد اثباته في الموضوع ، ولا سبيل إلى الأوّل لاستحالة وجود العرض لا في الموضوع ، وعلى الثاني فإمّا أن يقصد اثباته في موضوع آخر غير الموضوع الأوّل أو اثباته

__________________

(١) الوسائل ١ : ١٧٥ الباب ١ من أبواب نواقض الوضوء ، ح ٦.

٤٤٣

في الموضوع الأوّل ، ولا سبيل إلى الأوّل لأنّ الحكم الّذي اريد اثباته لغير الموضوع الأوّل إمّا أن يكون هو الحكم الأوّل أو مثله ، والأوّل باطل لاستحالة انتقال العرض ، وكذلك الثاني لأنّ مثل الحكم الأوّل غيره فلم يتيقّن وجوده في الزمان السابق ، فلم يكن الشكّ المفروض شكّا في بقاء الشيء بعد اليقين بوجوده المطلق ، بل هو شكّ في الحدوث فلا يلزم من عدم اثباته في الزمان الثاني نقض اليقين بالشكّ ، فتعيّن الثاني أعني القصد إلى اثبات الحكم في الموضوع الأوّل ، ويعتبر في احراز بقائه العلم ببقائه ولا يكفي فيه مجرّد الاحتمال.

وحينئذ فالناظر في الاستصحاب إن قطع ببقاء موضوع المستصحب فلا إشكال في صحّة الاستصحاب ، كما أنّه إن قطع عدم بقائه لا إشكال في عدم صحّته ، وإن شكّ في بقائه وعدم بقائه فهو محلّ إشكال ، وقضيّة شرطيّة بقاء الموضوع والعلم به عدم صحّته أيضا ، لأنّ ضابط بقاء الموضوع ـ على ما قرّرناه ـ إنّما هو وحدة القضيّة المتيقّنة والقضيّة المشكوكة ، على معنى كون القضيّة واحدة باعتبار وحدة موضوعها وكان حكمها متيقّنا في زمان ومشكوكا في آخر ، ومعنى استصحابه حينئذ عدم رفع اليد عن حكم تلك القضيّة بمجرّد طروّ الشكّ في بقائه ، ولم يعلم فيما احتمل ارتفاع موضوعه كون القضيّة المشكوكة هي المتيقّنة بعينها ، لئلاّ يرفع اليد عن حكمها بمجرّد طروّ الشكّ له ، مع أنّ الشكّ المفروض فيها ليس شكّا في بقاء الحكم فقط بل في الأمر الدائر بين البقاء والحدوث ، ومثل ذلك ممّا لم يشمله أدلّة الاستصحاب.

وأمّا ما يقال ـ : من أنّ بقاء الموضوع أعمّ من البقاء الواقعي والبقاء الظاهري ، كما أنّ العلم به أعمّ من العلم الوجداني المستند إلى الحسّ ونحوه والعلم الشرعي ، والاستصحاب علم شرعي وما يحرز به بقاء ظاهري.

وبعبارة اخرى : أنّ بقاء الموضوع قد يحرز بحكم الوجدان ، وقد يحرز بحكم الاستصحاب ، ففيما احتمل بقاؤه جاز احرازه في الزمان اللاحق بالاستصحاب ثمّ يستصحب الحكم المبحوث عنه ، ومرجعه إلى إعمال استصحابين أحدهما : استصحاب بقاء الموضوع الّذي مرجعه إلى احراز كون القضيّة المشكوكة بعينها هي المتيقّنة بالاستصحاب وثانيهما : استصحاب نفس الحكم المشكوك في بقائه وبقاء موضوعه ـ فكلام ظاهريّ لا ينبغي الاصغاء إليه عند التحقيق وفي النظر الدقيق ، لأنّ احراز بقاء الموضوع بالمستصحب الّذي هو عبارة عن استصحاب الموضوع لا يجدي نفعا في صحّة استصحاب

٤٤٤

نفس الحكم المشروط فيه العلم ببقاء موضوعه ، الّتي ضابطها كون القضيّة من حيث كونها مشكوكة عينها من حيث كانت متيقّنة إن احتيج إليه ، مع أنّه في بعض الصور غير ممكن وهو فيما أمكن يغني عن استصحاب الحكم.

وتوضيحه : أنّ الشكّ في الحكم قد يكون مسبّبا عن الشكّ في الموضوع وقد يكون مسبّبا عن أمر آخر ، والشكّ في الموضوع على التقديرين قد يكون شكّا في بقاء الموضوع وقد يكون شكّا في موضوعيّة الباقي.

والفرق بينهما أنّ الموضوع قد يكون أمرا معيّنا يشكّ في بقائه ولو باعتبار الشكّ في زوال قيد من قيوده ، وقد يكون أمرا مجملا مردّدا بين شيئين أحدهما معلوم الارتفاع والآخر معلوم البقاء فيشكّ في موضوعيّة الباقي ، ثمّ الشكّ في البقاء قد يكون ناشئا عن شبهة في الموضوع الصرف المعبّر عنه بالأمر الخارجي ، وقد يكون ناشئا عن الشكّ في الموضوع المستنبط ، فهذه ستّة أقسام :

القسم الأوّل والثاني : ما شكّ في بقاء الموضوع وكان ناشئا عن الشبهة في أمر خارجي ، سواء كان الشكّ في بقاء الحكم مسبّبا عن الشكّ في الموضوع ـ كنجاسة الماء المتغيّر إذا شكّ في زوال تغيّره فيما فرض دخول الوصف في الموضوع ، وطهارة الماء الكرّ إذا شكّ عند ملاقاته النجاسة في زوال كرّيّته ، ومطهرّيّة الماء المطلق إذا شكّ عند اختلاطه بالمضاف في زوال إطلاقه ، ونجاسة الكلب في المملحة أو النار إذا شكّ في استحالته ملحا أو رمادا لظلمة ونحوها ممّا يمنع من الاعتبار ، وجواز التيمّم بالأرض والسجود عليها إذا شكّ بالطبخ في استحالتها ـ أو عن أمر آخر كعدالة المجتهد الغائب إذا شكّ في مسألة جواز تقليده ابتداء في بقاء عدالته مقرونا بالشكّ في حياته ، وكذلك عدالة زيد الغائب الّذي اريد الوصيّة إليه إذا شكّ في بقاء عدالته وحياته معا ، وحرمة زوجته على الغير إذا شكّ في بقائها عند احتمال طلاقه إيّاها مع الشكّ في حياته أيضا.

ففي هذين القسمين لا ينبغي التأمّل في جريان استصحاب الموضوع على نحو ما مرّ في بحث الاستصحاب في الامور الخارجيّة ، إلاّ أنّه مع كونه في القسم الأوّل مغنيا عن استصحاب نفس الحكم ـ لأنّ استصحاب الموضوع على ما بيّنّاه في بحث الاصول المثبتة لا معنى له إلاّ ترتيب الآثار الشرعيّة المعلّقة على ذلك الموضوع ، الّتي من جملتها الحكم المشكوك في بقائه ـ لا يجدي نفعا في صحّة استصحاب نفس الحكم في القضيّة الّتي

٤٤٥

محمولها ذلك ، لما عرفت من أنّ المنساق من الأخبار الاستصحابيّة وحدة القضيّة في زماني اليقين والشكّ ، على معنى كون مورده قضيّة واحدة كان حكمها متيقّنا في زمان ومشكوكا في زمان آخر ، حتّى لا يرفع اليد عن حكمها لمجرّد طروّ الشكّ له وهو الاستصحاب ، ويحتمل في القضيّة المشكوكة هنا بالنظر إلى احتمال ارتفاع موضوع الحكم كونها غير القضيّة المتيقّنة فلم يحرز كونها في زماني اليقين والشكّ قضيّة واحدة حتّى لا يرفع اليد عن حكمها لمجرّد طروّ الشكّ له كما يظهر بأدنى تأمّل.

فالفرق بين استصحاب الموضوع واستصحاب الحكم هنا المقتضي لجريان الاستصحاب في الأوّل وعدم جريانه في الثاني معلوميّة كون القضيّة المشكوكة في الأوّل بعينها هي القضيّة المتيقّنة وعدم معلوميّة ذلك في الثاني ، والكلام إنّما هو في إحراز شرط الثاني وصحّة الأوّل لا تكفي فيه ، مع ما عرفت من أنّ الأوّل يغني عن الثاني في القسم الأوّل ولا حاجة معه إلى إعمال الاستصحاب في الحكم ، بل قد يقال : إنّ استصحاب الموضوع في القسم الثاني أيضا يغني عن استصحاب الحكم وإن لم يكن الشكّ فيه مسبّبا عن الشكّ في الموضوع ، لأنّ استصحاب الموضوع عبارة عن ترتيب الأحكام الشرعيّة المعلّقة عليه ، سواء كانت واقعيّة ثابتة بالأدلّة الاجتهاديّة أو ظاهريّة ثابتة بالأدلّة الفقاهيّة وهي الاصول. وكما أنّه إذا فرضنا بقاء زيد بحكم الوجدان من جهة الحسّ ونحوه كان حكمه الظاهري في مسألة الشكّ في طلاق زوجته حرمة تزويج تلك الزوجة على الغير بحكم الاستصحاب ، فكذلك إذا فرضنا بقاءه بالاستصحاب كان حكمه الظاهري حرمة تلك الزوجة على الغير من دون حاجة إلى استصحابه.

والحاصل : أنّ الآثار الشرعيّة المترتّبة على الموضوع الخارجي أعمّ من كونها أحكاما واقعيّة أوّليّة ثابتة بالأدلّة الاجتهاديّة أو أحكاما ظاهريّة ثانويّة ثابتة بحكم الاستصحاب ، وحرمة زوجة زيد الغائب مع العلم بحياته والعلم بعدم طلاقه إيّاها حكم واقعي له ومع الشكّ في الطلاق حكم ظاهري له ثابت بالاستصحاب ، فإذا أبقينا الموضوع بالاستصحاب عند الشكّ في بقائه يترتّب عليه جميع أحكامه الشرعيّة واقعيّة كانت أو ظاهريّة ، فمع استصحابه الّذي هو عبارة عن ترتيب تلك الأحكام لا حاجة إلى استصحابها.

وقد يجاب أيضا عن القول بجواز إحراز الموضوع في الزمان اللاحق بالاستصحاب في نحو القسم الثاني : بأنّه لا إشكال حينئذ في استصحاب الموضوع عند الشكّ ، لكن

٤٤٦

استصحاب الحكم ـ كالعدالة مثلا ـ لا يحتاج إلى ابقاء حياة زيد ، لأنّ موضوع العدالة زيد على تقدير الحياة ، إذ لا شكّ فيها إلاّ على فرض الحياة فالّذي يراد استصحابه هو عدالته على تقدير الحياة.

وبالجملة فهنا استصحابان لكلّ منهما موضوع على حدة حياة زيد وعدالته على تقدير الحياة ، ولا يعتبر في الثاني اثبات الحياة ، ومبنى ذلك على كون القضيّة في قولنا : « زيد عدل » تقديريّة حيث حكم فيها بعدالة زيد على تقدير حياته ، ولا شبهة في صدقها لأنّها حقيقيّة والقضايا الحقيقيّة كلّها فرضيّة ، وصدق القضيّة الفرضيّة لا يتوقّف على ثبوت الموضوع فعلا بل يكفي فيه فرض الثبوت ، ولذا يجامع العلم بثبوته والعلم بعدمه والشكّ في الثبوت والعدم.

القسم الثالث والرابع : ما كان الشكّ في بقاء الموضوع ناشئا عن الشبهة في الموضوع المستنبط ، سواء كان الشكّ في بقاء الحكم مسبّبا عن الشكّ في بقاء الموضوع ـ كالخزف والآجر إذا شكّ في بقاء جواز السجود عليهما للشكّ في بقاء الأرضيّة فيهما ، الناشئ عن الشبهة في أنّ مسمّى الأرض بحسب الوضع العرفي أو اللغوي هل اعتبر فيه عدم المطبوخيّة أو لا؟ والماء والمختلط بالمضاف إذا شكّ في طهوريّته للشكّ في بقاء المائيّة فيه الناشئ عن الشبهة في أنّه هل اعتبر في وضع الماء عرفا أو لغة عدم اختلاطه بمضاف أو لا؟ وكذلك الممتزج بالتراب بحيث صار كدرا إذا شكّ في بقاء المائيّة فيه ، للشكّ في دخول وصف الصفاء في مسمّى الماء وعدمه ـ أو كان مسبّبا عن أمر آخر غير الشكّ المذكور كالشكّ في جواز السجود أو المطهرّيّة في الأمثلة المذكورة لاحتمال طروّ النجاسة مع الشكّ في بقاء صدق الأرض أو الماء بعد الطبخ والاختلاط بالمضاف أو التراب.

والظاهر عدم جريان الاستصحاب في هذين القسمين لا في قضيّة الحكم ولا في قضيّة الموضوع وهو قولنا : « هذا أرض أو ماء » مثلا ، لاحتمال تغاير القضيّتين لأنّ موضوع الحكم في قضيّة الحكم إنّما هو الأرض والماء وهو محتمل الارتفاع في القضيّة المشكوكة ، وموضوعه في قضيّة الموضوع إنّما هو المورد حال عدم الطبخ وعدم الاختلاط على معنى كون الأرض والماء محمولا على الغير المطبوخ والغير المختلط وهو غير باق في القضيّة المشكوكة.

ولك أن تقول : إنّ الشكّ في بقاء الموضوع هاهنا يرجع إلى الشكّ في موضوعيّة الباقي بالنظر إلى احتمال مدخليّة القيد العدمي أو الوجودي في مسمّى اللفظ ، ولو سلّم جريانه

٤٤٧

بالنسبة إلى الموضوع فهو لا يجدي نفعا في صحّة استصحاب الحكم كما عرفت.

وممّا ذكر ظهر عدم جريان الاستصحاب في القسم الخامس أيضا ، وهو ما كان الشكّ في بقاء الموضوع من جهة الشبهة في دليل الحكم باعتبار عدم تعرّض فيه لبيان أنّه ما علم ارتفاعه أو ما علم بقاؤه ، كالماء المتغيّر إذا زال تغيّره بنفسه والمجتهد بعد مماته ، حيث لم يعلم من دليل نجاسة الأوّل وجواز تقليد الثاني أنّ موضوع الحكم هل هو الماء المتغيّر والمجتهد الحيّ بوصفي التغيّر والحياة على أن يكون الوصف أيضا من جملة الموضوع ، أو الماء والمجتهد لا بشرط الوصف على أن يكون الوصف خارجا عن الموضوع علّة لحدوث الحكم أو ظرفا لوجوده سواء كان الشكّ في بقاء الحكم مسبّبا عن الشكّ في الموضوع أو لا؟ فلا يجوز الاستصحاب بالنسبة إلى شيء من الموضوع والحكم.

أمّا الأوّل : فالاستحالة إثبات موضوعيّة الباقي باستصحاب بقاء ما لا شكّ في عدم بقائه.

وأمّا الثاني : فلفرض عدم كون بقاء الموضوع محرزا.

وإذا تمهّد هذا كلّه ظهر أنّ الاستصحاب لا يصلح محرزا لبقاء موضوع المستصحب فنقول : إنّه في مورد الشكّ في بقاء الموضوع لا بدّ لإحراز بقائه من الرجوع إلى الامور الخارجيّة الّتي منها الأمارات المقرّرة لتشخيص الموضوعات الخارجيّة ، كالصدق العرفي وقول أهل الخبرة وقول العدلين وقول العدل الواحد حيث يعتبر ، أو إلى الأمارات المقرّرة لإثبات الأوضاع والعلامات المميّزة للحقائق عن المجازات ، أو إلى الأدلّة الشرعيّة الواردة لبيان الأحكام ، فإن حصل في إحدى تلك المراتب ما يكشف عن الموضوع وبقائه أو ارتفاعه فلا إشكال حينئذ من حيث جريان الاستصحاب وخلافه ، وإلاّ فيحتمل وجهان :

أحدهما : إلحاق صورة الشكّ في البقاء بصورة القطع بعدم البقاء بقول مطلق في منع الاستصحاب بالوجه الّذي قرّرناه في منع نهوض الاستصحاب لإحراز البقاء ، وملخّصه : أنّ الشكّ في الشرط يستلزم الشكّ في المشروط ، ومرجعه إلى الشكّ في شمول قوله : « لا ينقض اليقين بالشكّ » لما يشكّ في بقاء موضوعه إن لم ندّع ظهور عدم شموله.

وثانيهما : التفصيل بمنع جريانه تارة وإثباته اخرى ، فالأوّل فيما كان الشكّ في البقاء من جهة زوال وصف عن الموضوع محتمل لمدخليّة وجوده فيه أو عروض وصف له يحتمل لمدخليّة عدمه فيه ، والثاني فيما كان الشكّ فيه من جهة احتمال وجود رافع أو رافعيّة موجود للموضوع ، أو ما اخذ فيه من وصف عنواني ذاتي كإطلاق الماء أو عرضيّ

٤٤٨

كتغيّره ، أو من جهة تبدّل زمان حدوث الحكم بزمان آخر فيما يحتمل كونه من مشخّصات الموضوع كزمان الفور في الخيار ، وكلّ ذلك لبناء العقلاء على ما يرشد إليه الاستقرار.

وممّا يكشف عن بقاء الموضوع فيما يرجع لإحرازه إلى الامور الخارجيّة أن يصدق عرفا قضيّة قولنا : « هذا كان كذا سابقا » كما يقال في الماء المتغيّر بعد زوال تغيّره : « إنّ هذا الماء كان نجسا سابقا » وفي الكرّ المشكوك بقاء كريّته : « أنّ هذا الماء كان كرّا » وفي جزء المركّب عند تعذّر جزئه الآخر : « أنّ هذا كان واجبا سابقا » فصدقها في العرف يكشف عن وحدة القضيّة المشكوكة والمتيقّنة موضوعا ومحمولا ، وهذا هو معنى بقاء الموضوع المحرز بالصدق العرفي ، وإن ظهر بالتدقيق الفلسفي والإغماض عن العرف تغايرهما موضوعا أو محمولا المخلّ ببقاء الموضوع القادح في صحّة الاستصحاب معه ، وهذا هو معنى المسامحة العرفيّة على ما اشتهر من بناء الاستصحاب في كثير من موارده عليها ، ومنه استصحاب نجاسة الكلب بعد موته لصدق قولنا : « هذا كان نجسا في السابق » عرفا ، مع أنّه لو بنينا على الدقّة استحال استصحاب نجاسته ، لأنّ موضوع النجاسة حال الحياة إنّما هو الكلب وهذا جماد لا كلب.

نعم لو لم يصدق هذه القضيّة بحسب العرف أيضا كما في الكلب إذا صار في المملحة ملحا ، والعذرة إذا صارت ترابا أو دودا أو رمادا أو فحما ، فلا يقال : « هذا كان نجسا » كشف عن عدم بقاء الموضوع فلا يصحّ معه الاستصحاب.

وممّا يستعلم منه الموضوع فيما يرجع لإحرازه إلى الأدلّة الشرعيّة كون الوصف أو ما يجري مجراه بحيث اخذ عنوانا في دليل الحكم إذا كان من الأدلّة اللفظيّة كأن يقال : « الماء المتغيّر بالنجاسة نجس » بخلاف ما لو قيل : « الماء إذا تغيّر نجس » فيظهر في الأوّل أنّ موضوع النجاسة هو الماء المتلبّس بالتغيّر فيقدح زواله حينئذ في جريان الاستصحاب ، وفي نحو الثاني يظهر أنّ موضوعها الماء فلا يقدح زواله في جريانه وإن احتمل عند العقل دخله في الموضوع.

وعلى هذه الطريقة مبنى الاستحالة المطهّرة للأعيان النجسة على ما عليه المعظم من أصحابنا الّتي هي عبارة عن تبدّل موضوع النجاسة وهو المستحيل بموضوع آخر وهو المستحال إليه ، كالكلب في المملحة إذا صار ملحا ، والنطفة في الرحم إذا صارت حيوانا ، والعذرة في النار إذا صارت رمادا إلى غير ذلك من أمثلة هذه المسألة ، فلا يحكم بنجاسة

٤٤٩

المستحال إليه لزوالها بزوال اسم الكلب والنطفة والعذرة ، وهو العنوان الّذي علّق عليه حكم النجاسة في الخطاب بشهادة فهم العرف من قوله : « الكلب نجس » و « اجتنب عن النطفة » و « اغسل ثوبك عن العذرة » مثلا ، حيث يفهم من العنوان بحسب العرف كون موضوع النجاسة هو الذات المتصفة بالكلبيّة الّتي هي مسمّى لفظ « الكلب » باعتبار وضعه العرفي أو اللغوي وهكذا في النطفة والعذرة ، فإذا زال الوصف الّذي هو جزء الموضوع انتفى موضوع النجاسة ولزم منه زوال النجاسة ، لاستحالة بقاء الحكم بعد انتفاء موضوعه ، فيرجع بالنسبة إلى الباقي وهو المستحال إليه إلى ما يقتضي طهارته من دليل خاصّ ، أو أصل عامّ وهو أصالة الطهارة في الأشياء إن لم يوجد دليل خاصّ ، وعليه مبنى قاعدتهم المشهورة المعبّر عنها ب « أنّ الأحكام تدور مدار الأسماء » ومعناه : أنّها تدور مدار موضوعاتها الّتي هي مسمّيات الألفاظ الموضوعة بازائها ، فإذا تبدّل مسمّى لفظ بمسمّى لفظ آخر تبدّل حكمه أيضا ، سواء كان تبدّل المسمّى باعتبار زوال صورته النوعيّة كما في الكلب والملح ، أو زوال حال من أحواله المأخوذة في الوضع كما في الخمر إذا انقلب خلاّ.

ولا ينتقض ذلك بالحنطة النجسة إذا صارت طحينا ، والطحين عجينا ، والعجين خبزا ، ولا بالعنب النجس إذا صار مويزا ، والمويز عصيرا والعصير دبسا ، بتقريب : أنّ الاسم يتبدّل في كلّ مرتبة بآخر ولا يزول الحكم وهو النجاسة في شيء من المراتب ، لأنّ المراد من الأحكام الدائرة مدار الأسماء الأحكام الأصليّة المعلّقة في الخطاب على عناوينها الخاصّة ، كالكلب والخنزير والنطفة والعذرة وغيرها بالنسبة إلى النجاسة ، وليست الحنطة ولا العنب عنوانا للنجاسة في خطاب ، ولا النجاسة العارضة لهما بالملاقاة حكما أصليّا ورد في الخطاب معلّقا على اسمي الحنطة والعنب.

نعم قد استفيد من الأدّلة كالإجماع والأخبار الجزئيّة الواردة في موارد مخصوصة قاعدة كلّية لموضوع عامّ يكون الحنطة والعنب من جزئيّاتها ، وهي تنجّس كلّ ملاق للنجاسة ، على معنى قبوله النجاسة لعارض الملاقاة ، وهذا المعنى لا يزول بالطحن ولا بالعجن ولا بالخبز ، وإن استلزم ذلك اختلاط أجزاء محلّ الملاقاة بغيرها ، وهذا إن لم يؤكّد بقاء النجاسة على حالها لا يزيلها قطعا ، فليس في نحو المثالين إلاّ تبدّل التسمية ، وهذا ليس من تبدّل العنوان المعلّق عليه الحكم في الخطاب.

وإن شئت قلت : انّ العنوان المعلّق عليه النجاسة فيهما إنّما هو الجسم من حيث

٤٥٠

ملاقاته ، وهو غير متبدّل لأنّه عبارة عن القدر الجامع بين الجزئيّات المتمايزة بصورها النوعيّة أو أحوالها العارضة.

ولا ينافيه ما قوّيناه في الفقه (١) من كون الاستحالة مطهّرة للمتنجّسات أيضا ، كالخشب المتنجّس إذا صار رمادا ، خلافا لمن منع ذلك من المتأخّرين تمسّكا بالاستصحاب من حيث إنّ نجاسة المتنجّسات ليست لصورها النوعيّة بل لأنّها أجسام ملاقية للنجاسة ، فالموضوع الّذي مناطه الجسميّة باق على حاله وإن زال عنه الصورة النوعيّة كالخشبيّة ، فيمكن استصحاب نجاسته.

لأنّ معروض النجاسة هو هذا الخشب بعنوانه الشخصي وهو الموضوع لا غير وقد تبدّل بالاستحالة بشخص آخر من ماهيّة اخرى ، وأحد جزئيه وهو الخشبيّة المنطبقة على الصورة النوعيّة غير باق ، فلا يلزم من نجاسته نجاسة الباقي لمجرّد الجسميّة المشتركة بينهما ، فإن لم يكن ذلك ممّا قطع بعدم بقاء الموضوع فلا أقلّ من كونه من المشكوك ، ومرجعه إلى الشكّ في موضوعيّة الباقي ولا يعقل معه الاستصحاب لعدم وحدة قضيّتي المتيقّن والمشكوك ، ولذا لا يصحّ أن يقال ـ إشارة إلى الشخص الباقي ـ : « هذا كان نجسا ».

المبحث الثاني

في اشتراط عدم معارض للاستصحاب ، ولقد عرفت أنّه أيضا من مقوّمات الاستصحاب ، إذ لو لاه لما كان الاستصحاب جاريا ، فعدّه من الشروط لا وجه له إلاّ مسامحة.

وكيف كان فالبحث من جهة اشتراط عدم المعارض يقع تارة في مقابلة الاستصحاب للأدلّة الاجتهاديّة ، واخرى في مقابلته للأدلّة الفقاهيّة غير الاستصحاب ، والأولى أن يقال : في مقابلته لسائر الاصول غير الاستصحاب سواء كانت من الاصول العمليّة كأصل البراءة وأصالة الاشتغال وأصالة التخيير ، أو من الأمارات أو الاصول المعمولة لتشخيص الموضوعات الخارجيّة ، كاليد وأصالة الصحّة وما أشبههما ، وثالثة في مقابلته لاستصحاب آخر الّتي يعبّر عنها بتعارض الاستصحابين. وقبل الخوض في المقامات الثلاث ينبغي التعرّض لبيان الفرق بين الأدلّة الاجتهاديّة والأدلّة الفقاهيّة.

__________________

(١) كما في كتابه الكبير في الفقه المسمّى ب « ينابيع الأحكام في معرفة الحلال من الحرام » نسأل الله تعالى أن يوفّقنا لإعداد هذا التراث الفقهي الكبير إن شاء الله.

٤٥١

فنقول : أنّ الدليل الاجتهادي ما كان بدلالته القطعيّة أو الظنّية ناظرا إلى الواقع ناطقا به كاشفا عنه كشفا علميّا ، والدليل الفقاهي ما يفيد العلم بكون مدلول الدليل الاجتهادي حكما ظاهريّا ، وهو الحكم الفعلي الّذي يجب على المكلّف العالم به التديّن به ، وهو مناط الإطاعة والمعصية وعليه مدار الثواب والعقاب ، ومن ذلك فتوى الفقيه والدليل العلمي القائم بكونها حجّة على المقلّد كالإجماع ، فإنّ الاولى تدلّ المقلّد على الواقع ظنّا والثاني يفيده العلم بكون ذلك المدلول حكمه الفعلي الّذي يجب عليه التديّن به.

وقيل : أصل هذا الاصطلاح من المحقّق البهبهاني قدس‌سره في حاشيته على المعالم ، وإنّما أخذه من تعريفي الاجتهاد والفقه باستفراغ الوسع في تحصيل الظنّ أو مطلق الاعتقاد بالحكم الشرعي الفرعي ، والعلم بالأحكام الشرعيّة الفرعيّة عن أدلّتها التفصيليّة ، فالدليل الاجتهادي ما به يصير المكلّف مجتهدا ، والدليل الفقاهي ما به يصير المجتهد فقيها ، فبهذا الاعتبار صحّ نسبة الأوّل إلى الاجتهاد ونسبة الثاني إلى الفقاهة فيكون الأوّل اجتهاديّا والثاني فقاهيّا ، ويتحصّل منهما مقدّمتان قطعيّتان ينتظم بهما القياس المعروف المعبّر عنه في كلّ مسألة اجتهاديّة : « هذا ما أدّى إليه ظنّي ، وكلّ ما ما أدّى إليه ظنّي فهو حكم الله في حقّي » والنتيجة الحاصلة منهما هي مرتبة الفقاهة المعرّفة بالعلم بالحكم الشرعي الفرعي ، مرادا منه الحكم الظاهري بمعنى الحكم الفعلي.

وبهذا يندفع الإشكال المعروف على تعريف الفقه بملاحظة أنّ أكثر الأدلّة ظنّية وهي لا تلائم العلم.

ووجه الاندفاع : ما أشاروا إليه من أنّ الظنّ في طريق الحكم لا نفسه وظنّية الطريق لا تنافي قطعيّة الحكم ، مرادا بالحكم المتكرّر الحكم الظاهري الفعلي ، ولقد أوضحناه مشروحا في تعريف الفقه (١).

وربّما يشكل الحال بملاحظة ما ذكرناه من ضابط الدليل الفقاهي فيما شاع بين علمائنا المعاصرين ومقاربيهم من إطلاق الأدلّة الفقاهيّة على الاصول الأربع العمليّة ، فإنّه لا ينطبق على المعنى المذكور كما لا يخفى ، إلاّ أن يحمل على المسامحة والتوسّع في الاستعمال بالنسبة إلى الدليل ، نظرا إلى أنّ كلاّ من الاصول الأربعة من قبيل القاعدة لا من قبيل الدليل ، لأنّها أحكام كلّية مجعولة للجاهل الملتفت إلى جهله من حيث كونه جاهلا.

__________________

(١) تعليقة على المعالم الاصول ١ : ١٥٠.

٤٥٢

ووجه التوسّع : أنّها قواعد مستنبطة من الأدلّة ووصفها بالفقاهة باعتبار كونها أحكاما فعليّة في موضوعاتها علمت من أدلّتها المفيدة للعلم.

وقد يقال : إنّ ما نصبه الشارع إن كان غير ناظر إلى الواقع أو كان ناظرا إليه ولكن فرض أنّ الشارع اعتبره لا من هذه الحيثيّة بل من حيث مجرّد احتمال مطابقته للواقع فهو من الاصول ، وإن كان بعضها مقدّما على البعض الآخر ، والظاهر أنّ الاستصحاب والقرعة من هذا القبيل ، والمراد بالاصول المفروض مقابلتها للاستصحاب في المقام الثاني إنّما هو هذا المعنى.

وكيف كان ، فالمقام الأوّل : في مقابلة الاستصحاب للدليل الاجتهادي ، والمراد بمقابلته إيّاه أن يقتضي الدليل الاجتهادي عدم بقاء ما اقتضى الاستصحاب بقاءه ، وحيث إنّ الدليل ما كان معمولا في الأحكام والاستصحاب كثيرا مّا يكون في الموضوعات فالأولى أن يراد من الأدلّة في هذا المقام ما يعمّ الأمارات المعمولة في الموضوعات ، ليعمّ البحث في المقام البيّنة المقتضية لنجاسة ثوب يقتضي الاستصحاب طهارته.

وعلى أيّ حال كان فالدليل الاجتهادي إن كان ممّا يفيد العلم فهو مقدّم على الاستصحاب من باب التخصّص الّذي قد يعبّر عنه بالورود ، وهو خروج المورد بقيامه عن موضوع الاستصحاب المأخوذ فيه الشكّ ، إذ مع الدليل العلمي لا شكّ فلا استصحاب في الحقيقة ، وإن كان ممّا يفيد الظنّ فلا إشكال في تقدّمه أيضا على الاستصحاب والظاهر أنّه ممّا لا خلاف فيه ، بل عن الفاضل التوني (١) الإجماع عليه ، ووجهه أنّ الاستصحاب أصل تعليقي اخذ في مورده عدم دليل ولا أمارة على خلاف الحالة السابقة.

والعجب من بعض الأعلام (٢) لما يظهر منه من زعم كون الاستصحاب من جملة الأدلّة ، فقد يرجّح عليه الدليل ، وقد يرجّح على الدليل ، وقد لا يرجّح أحدهما على الآخر. وفيه ما فيه.

وأعجب منه استشهاده لما زعمه بما ذكره بعضهم في مال المفقود من أنّه في حكم ماله حتّى يحصل العلم العادي بموته استصحابا لحياته ، مع وجود الروايات المعتبرة المعمول بها عند بعضهم بل عند جمع من المحقّقين الدالّة على وجوب الفحص أربع سنين.

وفيه : أنّ المقابل للاستصحاب بالمعنى المبحوث عنه أمارة قامت بموت المفقود في

__________________

(١) الوافية : ٢٠٨.

(٢) القوانين ٢ : ٧٥.

٤٥٣

مقابلة الاستصحاب المقتضي لحياته ، لا الأخبار المذكورة الّتي هي على تقدير تماميّتها مخصّصة لعموم أدلّة الاستصحاب من حيث إفادتها وجوب البناء على موت المفقود بعد الفحص أربع سنين ، نظير ما دلّ على البناء على الأكثر في عدد الركعات مع اقتضاء الاستصحاب خلافه.

وكيف كان فلا ينبغي التأمّل في تعيّن العمل بالدليل الاجتهادي الظنّي دون الحالة السابقة ، وهل هو من باب التخصّص وهو خروج المورد من موضوع الاستصحاب أو من باب التخصيص وهو رفع اليد عن عموم أدلّة الاستصحاب في مورد الدليل الاجتهادي الوارد على خلاف الحالة السابقة ، أو من باب الحكومة؟ فنقول : ينبغي القطع بالتخصّص على القول بالاستصحاب من حيث الظنّ بناء على تعريف العضدي : « بأنّ الشيء الفلاني قد كان ولم يظنّ عدمه ، وكلّما هو كذلك فهو مظنون البقاء » فإنّ ظنّ العدم الّذي اخذ عدمه في ماهيّة الاستصحاب بدلالة : « ولم يظنّ عدمه » عبارة عن الظنّ المعتبر ، والدليل الاجتهادي المفروض ظنّ معتبر يوجب خروج المورد عن عنوان « ما لم يظنّ عدمه » ، وكذلك على تقدير عدم أخذ هذا القيد العدمي في ماهيّة الاستصحاب مع اعتبار حصول ظنّ البقاء فيها إن اريد به الظنّ الشخصي ، إذ مع ظنّ عدم البقاء المستند إلى الدليل الاجتهادي يستحيل ظنّ البقاء ، بل وكذلك إن اريد به الظنّ النوعي على معنى كون الحالة السابقة بحيث لو خلّي وطبعها تفيد ظنّ البقاء وإن لم تفده في بعض الموارد لعارض ، فإنّ الحالة السابقة إنّما يكون شأنها ذلك فيما لم يوجد هناك دليل أو أمارة ظنّية معتبرة ، ولذا يقال : إنّ الاستصحاب دليل تعليقي ، ومعناه تعليق الحكم على موضوع اخذ فيه القيد العدمي بالنسبة إلى الدليل والأمارة ، فالتعليق على عدمهما إنّما هو لبيان موضوع الحكم ـ كما في قولنا : « إن رزقت ولدا فاختنه » ـ لا لنفي الحكم عن غير محلّ القيد.

وأمّا على القول المختار من أخذ الاستصحاب من الأخبار والقول به من باب التعبّد فقد يقال : بأنّ العمل بالأدلّة في مقابل الاستصحاب من باب التخصّص ، بناء على أنّ المراد من الشكّ التحيّر في العمل وعدم الدليل والطريق ، ومع قيام الدليل الاجتهادي لا حيرة.

وإن شئت قلت : إنّ المفروض من الدليل الاجتهادي دليل قطعي الاعتبار فنقض الحالة السابقة نقض باليقين ، وكأنّ مبناه على أخذ الشكّ بمعنى تساوي الاحتمالين ، أو على جعل الاحتمال الراجح بالنسبة إلى عدم البقاء من باب الظنّ الغير المعتبر على تقدير أخذ الشكّ بمعنى ما يقابل اليقين بخلاف الحالة السابقة ، ليشمل الاحتمال المساوي والراجح

٤٥٤

والمرجوح ، كما هو صريح قوله عليه‌السلام : « ولكنه ينقضه بيقين آخر مثله (١) » في صحيحة زرارة.

ويرد عليه : أنّ ما يقابل اليقين بظاهره يعمّ الظنّ المعتبر بعدم البقاء أيضا ، فخروجه من العموم مبنيّ على جعل اليقين لما يعمّ الظنّ المعتبر ، ولا يتمّ ذلك إلاّ بتحكيم دليل اعتبار الأمارة الظنّية على دليل الاستصحاب ، القاضي بكون الظنّ المستفاد من الأمارة الفلانيّة قائما مقام اليقين ، الكاشف بمدلوله عن كون المراد من اليقين في دليل الاستصحاب وغيره من الأدلّة المعتبرة لليقين في غير مورد الاستصحاب ما يعمّ ذلك الظنّ ، وهذا هو معنى الحكومة لا غير ، فتوهّم الخروج من باب التخصّص سهو.

وقد يتوهّم كون العمل بالأدلّة في مقابل الاستصحاب من باب التخصيص نظرا إلى أنّ قوله : « لا ينقض اليقين بالشكّ » عامّ في الاحتمال المساوي والمرجوح والراجح وهو الظنّ بعدم البقاء ، ودليل اعتبار الأمارة الظنّية ـ كالخبر الواحد الظنّي مثلا ـ عامّ في الظنّ الابتدائي والظنّ المسبوق باليقين الموافق للحالة السابقة والظنّ المسبوق المخالف لها ، وهذان عامّان من وجه ، فيتعارضان في الظنّ المخالف الحاصل من الأمارة المذكورة ، وقاعدة ارجاع التخصيص إلى أحد العامّين بعينه لعلاج التعارض وإن كان يقتضي لزوم مراعاة شاهد يرجّح هذا التخصيص ، غير أنّه يكفي فيه الشاهد الداخلي الّذي منه كون أحد العامّين أقلّ أفرادا من العامّ الآخر ، وهذا المرجّح هنا في جانب دليل اعتبار الأمارة ، لكون عمومه مقصورا على أفراد تلك الأمارة ودليل الاستصحاب عامّ في الرجحان المستند إلى تلك الأمارة وغيرها من سائر الأمارات المعتبرة وغيرها حتّى نحو القياس والاستحسان والنوم وما أشبه ذلك.

ويندفع ذلك أيضا : بما بيّناه من أنّ دليل اعتبار الأمارة متعرّض بمضمونه لبيان مقدار موضوع الأدلّة الّتي اخذ في موضوعها اليقين ، ومنها أدلّة الاستصحاب وكشفه عن إرادة ما يعمّ الظنّ المستفاد من الأمارة من لفظ « اليقين » وهذا أيضا نحو من الحكومة ، أو عن أنّ المراد من الشكّ المقابل لليقين المتناول لظنّ عدم البقاء ما عدا الظنّ المستند إلى تلك الأمارة ، فإنّ الحكومة قد تفيد خروج شيء من موضوع الدليل المحكوم عليه وقد تفيد دخول شيء فيه ، فليتأمّل في المقام فإنّه حقيق لأن يتأمّل فيه.

المقام الثاني : في مقابلة الاستصحاب لسائر الأمارات الناظرة إلى الواقع المجعولة من

__________________

(١) الوسائل ١ : ١٧٤ ـ ١٧٥ الباب ١ من أبواب نواقض الوضوء ، ح ١.

٤٥٥

هذه الحيثيّة ، والاصول الغير الناظرة إليه ، أو الناظرة إليه الّتي لم يعتبرها الشارع من هذه الحيثيّة ، بل من حيث مجرّد احتمال مطابقتها الواقع ، والكلام فيه يقع في مسائل :

المسألة الاولى : في مقابلة الاستصحاب لليد.

فاعلم أنّ اليد دليل على الملكيّة نصّا وفتوى ، ومن النصّ الدالّ عليه خبر حفص بن غياث المنجبر ضعفه برواية المشايخ الثلاث له وبعمل الأصحاب ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال له رجل : « إذا رأيت شيئا في يدي رجل أيجوز لي أن أشهد أنّه له؟ قال : نعم ، قال الرجل : أشهد أنّه في يده ولا أشهد أنّه له فلعلّه لغيره؟ فقال أبو عبد الله عليه‌السلام : فيحلّ الشراء منه؟ قال : نعم ، قال أبو عبد الله عليه‌السلام : « فلعلّه لغيره؟ قال : ومن أين جاز لك أن تشتريه ويصير ملكك ثمّ تقول بعد الملك : هو لي وتحلف عليه ، ولا يجوز أن تنسبه إلى من صار ملكه إليك من قبله؟ ثمّ قال الصادق عليه‌السلام : لو لم يجز هذا ما قامت للمسلمين سوق (١) ».

مضافا إلى أنّ التعويل عليه في جميع الامور والمعاملات معلوم من طريقة العرف في جميع الملل والأديان في جميع الأعصار والأمصار ، مع امضاء الشارع إيّاه على ما هو معلوم بالضرورة.

ثمّ الظاهر أنّها عند العرف من باب الأمارة الكاشفة عن الواقع لا من باب الأصل التعبّدي ، فينتقلون منها في جميع مواردها إلى الملكيّة الواقعيّة انتقالا ظنّيا قريبا من القطع ، حتّى إنّهم إذا اشتروا شيئا من صاحب اليد يعتقدونه ملكا واقعيّا لهم مع أنّه تابع لملكيّته في الواقع لصاحب اليد قبل الاشتراء بل لا يحتملون عدم الملكيّة لهم بعد الاشتراء إلاّ باعتبار احتمال عدم ملكيّته لصاحب اليد قبله ، وعليه مبنى عملهم وامضاء الشارع أيضا حاصل فيه على هذا الوجه ، كما هو ظاهر الرواية المذكورة ، فإنّ لفظة « لعلّه » في كلام السائل في تعليل عدم الشهادة بالملك لفظ يكنّى به عن الاحتمال الضعيف ، فزعمه جهة مانعة من الشهادة بالملك فنقضه الإمام عليه‌السلام فيما اشتراه من غيره باعتقاد أنّه يصير ملكا ثمّ يقول بعد الملك : هو لي ويحلف عليه ، مع قيام الاحتمال المذكورة فيه قبل الاشتراء فيسري إليه بعد الاشتراء.

ثمّ أجاب عليه‌السلام عمّا زعمه بطريق الحلّ بقوله : « لو لم يجز هذا ما قامت للمسلمين سوق » ومحصّله : أنّ هذا الاحتمال ملغى في نظر الشارع ، ولازمه أنّه اعتبر ظنّ الملكيّة الناشئ عن اليد في جميع مواردها ولو بضميمة الغلبة من حيث إنّ الغالب في مواردها كون

__________________

(١) الوسائل ١٨ : ٢١٥ ، الباب ٢٥ من أبواب كيفيّة الحكم ، الحديث ٢.

٤٥٦

صاحب اليد مالكا وقلّة اليد المستقلّة الغير المالكيّة ، ليستقيم به أمر السوق وينتظم المعاملات السوقيّة المبتنية على الأملاك الّتي لا طريق إلى ملكيّتها إلاّ اليد.

وقضيّة اعتبار ذلك الظنّ أن يجري على المظنون جميع الآثار المترتّبة على الملك ومنها جواز الشهادة به.

وبهذا كلّه ظهر أنّ الاستصحاب ـ أعني استصحاب عدم الملكيّة ـ لا يعارض اليد ، وأنّها مقدّمة عليه من باب الحكومة ـ أعني حكومة دليل حجّيّة اليد على أدلّة الاستصحاب ـ وذلك أنّها تدلّ على عدم جواز نقض اليقين بالشكّ بمعنى مطلق احتمال عدم البقاء ولو ظنّا ، ويندرج فيه يقين عدم الملكيّة المتعقّب لاحتمال الملكيّة ظنّا.

والرواية المذكورة دلّت على أنّ الاحتمال الّذي لا ينقض به اليقين هو ما عدا ظنّ الملكيّة المستند إلى اليد.

ولا ينافيه ما اشتهر من أنّه لو أقرّ ذو اليد المدّعي عليه بكون ما في يده ملكا للمدّعي انتزع منه العين إلاّ أن يقين البيّنة على انتقالها إليه ، لأنّه ليس لتقديم الاستصحاب على اليد ، بل لأجل أنّه لدعوى الملكيّة يصير مدّعيا والمدّعي منكرا فيندرج في عموم البيّنة على المدّعي ، وبدونه يؤخذ بإقراره فينتزع منه العين ، ولذا لو لم يكن هناك مدّع أو أقرّ كونه لغير المدّعي لم ينتزع العين ولا يكلّف بإقامة البيّنة.

والسرّ في إفادة إقراره مع عدم إقامته البيّنة لانتزاع العين أنّه لا حكم ليده مع الإقرار ، لما عرفت من أنّ اعتبارها من حيث الأمارة إنّما هو باعتبار الغلبة ، وهي إنّما تفيد ظنّ اللحوق في الفرد المشتبه ، ومع الإقرار المذكور وعدم إثبات الانتقال بالبيّنة خرج المورد عن الاشتباه ، وهذا هو الوجه في تقديم البيّنة على اليد أيضا ، إذ مع قيامها على ملكيّة ما في اليد لغير صاحب اليد خرج عن كونه مشتبها.

ثمّ لو قلنا بكون اليد من الاصول التعبّديّة المبنيّة على مطلق احتمال الملكيّة راجحا أو مرجوحا أو مساويا كانت مقدّمة أيضا على الاستصحاب ، ولكن من باب التخصيص ، لأنّ دليلها حينئذ أخصّ من دليل الاستصحاب المأخوذ فيه الشكّ بمعنى مطلق الاحتمال كما يظهر وجهه بأدنى تأمّل.

وكما أنّ اليد في إفادة الملكيّة مقدّمة على الاستصحاب فكذلك قول ذي اليد في الإخبار بطهارة ما في يده ونجاسته مقدّمة عليه فيما كانت حالته السابقة مخالفة للمخبر به ، من غير فرق بين ما لو كانت القضيّة في الإخبار بصورة « هذا طاهر وهذا نجس » أو

٤٥٧

« طهّرته ونجّسته » عملا بإطلاق فتوى الأصحاب بحجّية قول ذي اليد.

وفي كون اعتباره من حيث الأمارة الكاشفة عن الواقع بطريق الظنّ ، أو من حيث الأصل التعبّدي المبنيّ على مطلق احتمال المطابقة ولو مرجوحا ، وجهان من أنّ الإخبار من حيث الدلالة حكاية عن الواقع ، ومن أنّه من حيث السند يحتمل المطابقة واللامطابقة على وجه تساوي الاحتمالين ، أو مع رجحان الأوّل ومرجوحيّة الثاني ، أو بالعكس بناء على عدم اشتراط عدالة المخبر كما هو المصرّح به في كلامهم ويساعد عليه إطلاق روايات الباب ، ولا سيّما صحيحة الحلبي قال : « قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام : الخفاف عندنا في السوق نشتريها فما ترى في الصلاة فيها؟ فقال : صلّ فيها حتّى يقال لك : انّها ميتة بعينه (١) فإنّ قوله : « حتّى يقال » مطلق في العادل والفاسق ومجهول الحال ، نعم إطلاقه في الكافر أيضا ممّا لا عامل به ظاهرا.

والأظهر هو الثاني عملا بالإطلاق فتوى ونصّا.

ويظهر فائدة الفرق بين الوجهين فيما لو تحقّق الإخبار بعد الاستعمال ، فعلى الكشف يفيد نجاسة الملاقي والمستعمل بخلافه على التعبّد ، فتكون النجاسة مقصورة على ما في اليد فيجتنب عنه في الاستعمالات اللاحقة ، ولا حكم له بالنسبة إلى الاستعمالات السابقة.

وعليه ينزّل ما عن جماعة أنّهم قيّدوا قبول إخبار الواحد بنجاسة إنائه بما إذا وقع الإخبار قبل الاستعمال ، فلو كان الإخبار بعده لم يقبل بالنظر إلى نجاسة المستعمل له كالمطبوخ ومواضع الوضوء واليدين والثياب ، غير أنّهم علّلوه بأنّه في الحقيقة إخبار بنجاسة الغير فلا يكفي فيه الواحد وإن كان عدلا.

ولا خفاء في ضعفه ، لأنّ اعتبار قول ذي اليد إن كان من حيث الطريقيّة لكشفه الظنّي عن الواقع فالظنّ بنجاسة الاناء حين تحقّق الإخبار يستلزم الظنّ بنجاسة المستعمل له ممّا لاقاه ، وقضيّة ذلك ترتيب أحكام النجاسة عليه أيضا.

إلاّ أن يقال : بالتفكيك بين الظنّين اللازم والملزوم ، بقصر دليل حجّيّة الظنّ المستفاد من قول ذي اليد على الملزوم كما وقع نظيره في الشرع كثيرا ، وقد مرّ بعض أمثلته في بحث الاصول المثبتة.

ولكن يزيّفه : أنّه لو صحّ هذا التفكيك لزم التزامه في لوازم الظنّ بنجاسة الاناء فيما

__________________

(١) الوسائل ٢ : ١٠٧١ الباب ٥٠ من أبواب النجاسات ، ح ٢.

٤٥٨

لو تحقّق الإخبار قبل الاستعمال أيضا كما لا يخفى ، ولا يظنّ بأحد التزامه.

والفرق بينهما بسبق الاستعمال على الإخبار ولحوقه به ممّا لا يصلح فارقا بينهما في الحكم وهو حجّيّة الظنّ اللازم في الثانية دون الاولى.

ودعوى : أنّ المالك بعد ما وقع إناؤه على يد المستعير المستعمل له لا يدله على الإناء ، فلا يصدق على إخباره المتحقّق في تلك الحال قول ذي اليد.

يدفعها أوّلا : أنّ الواقع في فتاوى كثير منهم التعبير عن عنوان هذه القاعدة بقول المالك وهو صادق في محلّ البحث.

وثانيا : أنّه لم يخرج بذلك عن كونه ذي اليد لأنّه أمر عرفي ، بناء على أنّه ليس المراد من « اليد » الجارحة المخصوصة ، بل هي عبارة عن الاستيلاء على العين على وجه شرعي ، وهو مع إعارة العين باق على حاله خصوصا مع ملاحظة كون استيلاء المستعير فرعا على استيلاء المالك.

نعم يمكن الاستناد في منع تأثير قوله في نجاسة المستعمل له إذا وقع بعد الاستعمال إلى منع عموم في دليل اعتباره بحيث يشمل هذا الفرض ، بدعوى : أنّ هذا الإخبار لا يفيد علما ولا يستفاد من دليله من الروايات وغيرها أزيد من قبول إخبار ذي اليد لو تحقّق حال وجود المورد وبقائه في يده ، فيبقى غيره تحت أصالة الطهارة المستفادة من النصّ والإجماع.

وإن كان من حيث الموضوعيّة والأصل التعبّدي (١) فلا حاجة في منع القبول بالنسبة إلى الاستعمالات السابقة إلى تكلّف الاستدلال بكونه إخبارا بنجاسة الغير ، لأنّ معنى الموضوعيّة هو أن لا يترتّب حكم النجاسة إلاّ على موضوعه المأخوذ فيه إخبار ذي اليد ، ولا يكون إلاّ الإناء بالنسبة إلى الاستعمالات اللاحقة ، لانتفاء جزء الموضوع عنه حال الاستعمالات السابقة ، فهو في تلك الحال لم يكن محكوما بالنجاسة شرعا ليترتّب عليه نجاسة المستعمل له بسبب الملاقاة لأنّه لم يلاق نجسا شرعيّا.

المسألة الثانية : في مقابلة الاستصحاب لأصالة الصحّة في العمل ، ولا إشكال في تقديم ذلك الأصل على الاستصحاب إن اريد به أصالة الصحّة في فعل المسلم الّذي هو من الاصول المجمع عليها فتوى وعملا بين المسلمين المنصوص عليه في الروايات.

ولقد أفردنا لتحقيق ذلك الأصل وتحرير أدلّته من الصحيحة والمزيّفة وبيان جملة من

__________________

(١) عطف على قوله : « لأنّ اعتبار قول ذي اليد إن كان من حيث الطريقيّة لكشفه الظنّي عن الواقع ... الخ ».

٤٥٩

فروعه رسالة على حدة (١) والظاهر أنّ اعتباره من حيث الأصل التعبّدي المكتفى فيه بمطلق احتمال الصحّة ولو مرجوحا ، وحيث إنّ دليله أخصّ من دليل الاستصحاب المأخوذ فيه ذلك الاحتمال أيضا ، فوجه تقديمه عليه إنّما هو تخصيص دليله ورفع اليد عن عمومه في موارد ذلك الأصل.

وربّما احتمل كون هذا الأصل من جملة الظواهر نظرا إلى أنّ الظاهر من حال المسلم هو الإتيان بالعمل الصحيح لا الفاسد فيظنّ الصحّة من هذه الجهة ، وتقديمه على الاستصحاب على هذا التقدير أيضا واضح ، ولكنّه حكومة لا تخصيصا.

وليعلم أنّه ليس المراد بالاستصحاب المقابل لأصالة الصحّة هو استصحاب الفساد ، لأنّه حيثما كان جاريا باعتبار كون حالته السابقة هو الفساد لا معنى لتقديم أصالة الصحّة عليه ، لأنّه قائم مقام العلم بالفساد ، ومن المعلوم أنّه لا مجرى لأصالة الصحّة مع العلم بالفساد أو ما يقوم مقامه. بل المراد به الاستصحاب الموضوعي المقتضي للفساد ، كأصالة عدم البلوغ فيما لو اختلف الضامن والمضمون له فادّعى الضامن كونه صبيّا حال الضمان ، وفيما لو اختلف المتبايعان في صحّة بيع لعدم بلوغ البايع أو المشتري أو كليهما ، وفيما لو اختلفا في الصحّة بادّعاء مدّعي الفساد عدم اعتبار المبيع بالوزن فيما كان من جنس الموزون أو بالكيل في المكيل ، أو للاختلاف في الرؤية فيما اعتبر فيه الرؤية والمشاهدة ، وقاعدة المزيل والمزال ، وتقديم الأصل السببي على الأصل المسبّبي. ومن ذلك تقديم الاستصحاب الموضوعي على الأصل الحكمي ، وتقديم الاستصحاب في الأمثلة المذكورة ونظائرها على أصالة الصحّة لكون الشكّ في الصحّة مسبّبا عن الشكّ في الموضوع ، ولعلّه لذا اضطربت كلمات جماعة من المتأخّرين في أمثال الفروع المذكورة بين متوقّف ومقدّم للاستصحاب الموضوعي.

وظاهر الجمهور تقديم أصالة الصحّة على معارضه وهو الأظهر ، لكون أدلّته أخصّ من دليل الاستصحاب.

والعجب من الشهيد أنّه في مسألة اختلاف الضامن والمضمون له بنى على تقديم قول مدّعي الفساد بادّعاء عدم البلوغ لأصالة براءة ذمّته عمّا ضمنه ، ولعلّه توهّم تعارض استصحاب عدم البلوغ وأصالة الصحّة وتساقطهما فيرجع إلى أصالة البراءة.

__________________

(١) المسمّاة ب « رسالة في حمل فعل المسلم على الصحّة » المطبوعة مع رسالة العدالة بقم المشرّفة سنة ١٤١٩ ه‍. ق.

٤٦٠