تعليقة على معالم الاصول - ج ٦

السيّد علي الموسوي القزويني

تعليقة على معالم الاصول - ج ٦

المؤلف:

السيّد علي الموسوي القزويني


المحقق: السيد علي العلوي القزويني
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
المطبعة: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ١
ISBN: 964-470-559-9
الصفحات: ٤٨٦

أمّا في الإعادة فلأنّ التكليف بها ليس تكليفا زائدا على أصل التكليف الوارد بالفعل قبل الإتيان به ناقصا بل هو عين التكليف الأوّل ، وحيث إنّه لمّا كان مقتضيا للامتثال والإتيان بالمأمور به وتبيّن خلل في المأتيّ به أوّلا انكشف بقاؤه على العهدة فيقتضي الإتيان بالفعل ثانيا ، وحينئذ نقول : إنّ الشكّ في جزئيّة المبحوث عنه بعد تذكّر النسيان في المأتيّ به أوّلا يوجب الشكّ في حصول المأمور به وتحقّقه في الخارج ودخوله في ظرف الوجود ، والأصل عدمه.

ومقتضاه وجوب الإتيان ثانيا وهو الإعادة ، ويعضده أصالة الاشتغال الثابت على وجه اليقين قبل الإتيان الأوّل ، ومعه لا مجرى لأصل البراءة.

وأمّا في القضاء فلأنّ التكليف بالقضاء ـ بناء على ما هو المحقّق من كونه بفرض جديد لا بالأمر الأوّل ـ وإن كان تكليفا زائدا على التكليف بالأداء ، إلاّ أنّ قضيّة الجمع بين أدلّة الأداء وأدلّة القضاء كون المأمور به في الموقّتات هو الأمر الدائر بين الفعل في الوقت والفعل في خارجه على وجه الترتّب ، بأن يكون تنجّز الأمر بالفعل في خارج الوقت معلّقا إلى عدم حصول الفعل في الوقت.

وحينئذ نقول : إنّ الشكّ في جزئيّة المبحوث عنه بعد تنبّه النسيان خارج الوقت يوجب الشكّ في حصول القسم الأوّل من المأمور به. وهو الأداء وتحقّقه في الخارج ، والأصل يقتضي عدمه ، ومقتضاه تعيّن الإتيان بالقسم الثاني وهو القضاء هذا.

ولكنّ الإنصاف : أنّ هذا الأصل الموضوعي بالقياس إلى القضاء غير منتج لتعيّن الإتيان به ، لأنّ تنجّز الأمر به بمقتضى الترتيب بينه وبين الأداء معلّق على فوات الأداء ، فلا بدّ في التزام الأمر به من إحراز صدق قضيّة الأداء وهو ممّا لا محرز له ، وبدونه يرجع الشكّ بالنسبة إليه إلى كونه في التكليف ، وأصل البراءة ينفيه من دون أن يرد عليه الأصل المذكور.

ولو اريد إحراز صدق الفوات بذلك الأصل ، رجع إلى كونه مثبتا وهو باطل ، ويؤيّده ما ورد به النصّ وأفتى به الأصحاب في مسألة الشكّ في فعل الصلاة من التفصيل بين كونه في الوقت فيأتي بها أو في خارجه فليس عليه شيء.

وحينئذ فلا بدّ في إثبات أصالة البطلان على وجه ينتج وجوب كلّ من الإعادة والقضاء من إثبات عموم جزئيّة الجزء لحالتي العمد والسهو والذكر والنسيان بمراجعة دليل ذلك الجزء ، وحينئذ فنقول : إنّ هذا الدليل لا يخلو عن أقسام ثلاثة ، لأنّه إمّا أن يكون لفظيّا أو

٢٠١

لبّيا كالإجماع ونحوه.

وعلى الأوّل : فإمّا أن يكون بصورة خطاب الوضع كقوله عليه‌السلام : « لا صلاة إلاّ بفاتحة الكتاب (١) » و « لا صلاة لمن لم يقم صلبه (٢) » أو يكون بصورة خطاب التكليف كقوله : « اقرأ الفاتحة في الصلاة واقرأ السورة فيها » ونحو ذلك.

أمّا القسم الأوّل : فلا ينبغي التأمّل في كون مؤدّاه الجزء الواقعي ، سواء حمل كلمة « لا » على نفي الماهيّة أو على نفي الصحّة ، فلا يتفاوت الحال فيه حينئذ بين حالتي العمد والسهو والذكر والنسيان.

وأمّا القسم الثاني : فهو وإن كان ربّما يوهم في بادئ النظر اختصاص الجزء بحالة التذكّر ، لاختصاص التكليف بالتذكّر وعدم تناوله حالتي السهو والنسيان لقبح تكليف الغافل ، ولكنّ الّذي يساعد عليه ثاني النظر هو ثبوت الجزء الواقعي بنحو هذا الخطاب أيضا.

أمّا أوّلا : فلظهور الأوامر الواردة لبيان الأجزاء والشروط في الإرشاد ، الّذي هو بيان للواقع بصورة الطلب من دون طلب.

وأمّا ثانيا : فلأنّ اختصاص الخطاب بحالة التذكّر لا يوجب اختصاص الحكم الوضعي المستفاد منه بتلك الحالة ، بل الظاهر المنساق منه كون الجزء جزءا في الواقع ، وإنّما يؤثّر اختصاص الخطاب بحالة التذكّر في رفع المؤاخذة والعقوبة على المخالفة الناشئة عن نسيان الجزء ، لا في كون المأتيّ به من العمل الناقص مأمورا به في تلك الحالة.

ألا ترى أنّ السيّد إذا أمر عبده بتركيب معجون ذي أجزاء وبيّن أجزاءه بخطابات منفصلة تكليفيّة فنسي العبد بعض هذه الأجزاء ، كان معذورا عند العقلاء لنسيانه ، لا آتيا في نظر السيّد بالمأمور به.

وأمّا القسم الثالث : فهو العمدة ممّا يتوهّم فيه الاختصاص بحالة التذكّر بتوهّم الإجمال في معقد الإجماع الموجب للأخذ بالقدر المتيقّن منه.

ويدفعه : أنّ إجمال معقد الإجماع يستكشف غالبا من كلمات المجمعين أو الناقلين للإجماع ، ونرى كلماتهم في باب الفرق بين الأجزاء الركنيّة والأجزاء الغير الركنيّة من أحكام الخلل متطابقة على تسليم أصالة البطلان بنسيان الجزء مطلقا ، لظهورها عند

__________________

(١) عوالي اللآلئ ١ : ١٩٦ ح ٢ و ٢ : ٢١٨ ح ١٣ و ٣ : ٨٢ ح ٦٥.

(٢) الوسائل ٤ : ٩٣٩ الباب ١٦ من أبواب الركوع ح ٢.

٢٠٢

الاستدلال على عدم البطلان في الأجزاء الغير الركنيّة في أنّه لو لا الأدلّة القاضية به من الروايات وغيرها لا محيص من التزام البطلان ، ولذا لا يتمسّكون في هذا المقام بأنّ القدر الثابت بالإجماع مثلا من جزئيّة الجزء هو كونه جزءا في حالة العمد والذكر ، ويلزم منه عدم البطلان بفواته في حالة السهو والنسيان.

وبالجملة نراهم لا يستدلّون على عدم البطلان بنسيان الأجزاء الغير الركنيّة بفقد المقتضي للبطلان ، بل بوجود المانع من البطلان وهو الأدلّة القاضية بعدمه ، فيستفاد من طريق استدلالهم ثمّة حكومة أدلّة عدم البطلان على الأدلّة المثبتة للأجزاء ، ولو كانت مجرّد إجماع محصّلا أو منقولا.

وقضيّة الحكومة أنّه لو لا الدليل الحاكم كان المتّبع هو الدليل المحكوم عليه ، ولا نعني من أصالة البطلان بنسيان الجزء على وجه يثمر في الموارد المشتبهة الخالية عن دليل عدم البطلان إلاّ هذا.

وقد يتوهّم كون الأصل الأوّلي في نسيان الجزء عدم البطلان من جهة الاستصحاب وهو استصحاب الصحّة أعني الصحّة الثابتة للعمل قبل طروّ السهو والنسيان.

ولا خفاء في ضعفه كما أشرنا إليه غير مرّة ، إذ لا يمكن أن يراد بالصحّة المستصحبة بالقياس إلى الأجزاء السابقة على السهو إلاّ الصحّة الشأنيّة ، وهي كونها بحيث لو انضمّ إليها الأجزاء اللاحقة وارتبط بها لأثّرت في الصحّة الفعليّة ، وهذا ممّا لا حاجة له إلى الاستصحاب ، لصدق الشرطيّة وكذب الشرط أو الشكّ في صدقه وكذبه ، إذ على عموم جزئيّة الجزء لحالتي العمد والسهو كذب الشرط ، وعلى الشكّ في عمومها كان الشرط مشكوكا في صدقة وكذبه ، ومعه استحال إنتاج الاستصحاب المذكور مع عدم الحاجة إليه للصحّة الفعليّة.

هذا مع أنّ الصحّة الفعليّة إن اريد بها موافقة الأمر فلا شكّ في انتفائها ، إمّا لأنّه لا موافقة بالفرض إن اريد بالأمر الأمر بالمركّب التامّ ، أو لأنّه لا أمر على معنى عدم كونه محرزا إن اريد به الأمر بالعمل الناقص المأتيّ به ، وإن اريد بها ترتّب الأثر الّذي منه سقوط الإعادة والقضاء ، ففيه : أنّه يترتّب على الصحّة بمعنى موافقة الأمر ، وقد عرفت حالها من انتفاء الموافقة في تقدير وانتفاء الأمر في آخر.

وقد يقال : إنّ الأصل الأوّلي في مسألة نسيان الجزء ونقصانه سهوا وإن كان ما ذكر ، إلاّ أنّ هنا أصلا ثانويّا حاكما عليه مستفاد من قوله عليه‌السلام : « رفع عن امّتي الخطأ والنسيان إلى

٢٠٣

آخره » (١) بناء على أنّ رفع التسعة لا يمكن صرفها إلى أعيانها حذرا عن الكذب ، فوجب حمله على رفع آثارها ، ومن آثار النسيان تدارك المأمور به بنسيان جزئه إعادة وقضاء ، ورفعهما عبارة عن إسقاط وجوبهما.

وقضيّة ذلك وجوب ترتيب آثار الصحّة على العمل الناقص مطلقا إلاّ ما خرج بالدليل ، وإن اقتضى الأصل الأوّلي بطلانه.

ويدفعه : ابتناء ذلك على حمل الرفع على رفع جميع الآثار لا خصوص المؤاخذة ، ولقد منعناه عند شرح الحديث في مسألة الشبهة الموضوعيّة من الشكّ ، وعيّنّا الحمل على خصوص رفع المؤاخذة فلاحظ وتأمّل. ومعه لا دلالة للرواية على ما توهّم من الأصل الثانوي ، فالأصل الأوّلي ممّا لا وارد عليه من الاصول.

المسألة الثانية : في بطلان العبادة بزيادة جزئها عمدا وعدم بطلانها.

وليعلم أوّلا : أنّ محلّ البحث تعمّد زيادة جزء العبادة من حيث الجزئيّة من دون أن يطرأه خصوصيّة اخرى رافعة للإشكال ، فإنّه ربّما يطرأ خصوصيّة لا ينبغي التأمّل في بطلانها بتعمّد زيادته لأجل هذه الخصوصيّة ، وقد ينعكس الأمر بطروّ حيثيّة لا ينبغي التأمّل في عدم البطلان بالنظر إلى هذه الحيثيّة.

فمن الأوّل ما لو ثبت بدليل الجزء كونه جزءا بشرط لا ، على معنى شرط الوحدة ، وإذا كرّر ذلك حينئذ بتعمّد الزيادة مثلا كان مبطلا لها لا محالة ، لا لمجرّد الزيادة بل لأدائها إلى انتفاء شرط الجزء وهو الوحدة الموجب لانتفاء المشروط ، فبطلانها في الحقيقة لفوات جزئها.

ومن الثاني الزيادة على القدر الواجب من التسبيحات الأربع أو من تسبيحة الركوع والسجود ، فإنّها بملاحظة كونها ذكرا جائزة بل راجحة ولا تبطل بها العبادة. ومنه أيضا تكرّر الجزء لأجل الاحتياط عند احتمال خلل في المأتيّ به أوّلا ، فإنّه أيضا أمر راجح ولا تبطل به العبادة قطعا ، ومحلّ البحث هو تعمّد زيادة الجزء من حيث الجزئيّة من دون ملاحظة نحو هذه الخصوصيّات والحيثيّات ، وهو يتصوّر من وجوه :

الأوّل : أن يتعمّد زيادة الجزء على أن يكون الزائد جزءا مستقلاّ.

الثاني : أن يتعمّد الزيادة على أن يكون الزائد بانضمام المزيد عليه إليه جزء واحد.

__________________

(١) الوسائل ١١ : ٢٩٥ ، الباب ٥٦ من أبواب جهاد النفس ، الحديث الأوّل.

٢٠٤

الثالث : أن يتعمّد الزيادة على أن يكون الزائد بدلا عن المزيد عليه بعد رفع اليد عنه في الأثناء أو بعد الفراغ ، كما لو قرأ سورة ثمّ بدا له أن يقرأ سورة اخرى اقتراحا أو للاستعجال أو نحو ذلك ، فهل تبطل العبادة بالزيادة في جميع هذه الصور ، أو لا تبطل في شيء منها ، أو تبطل في بعض دون آخر؟

فالّذي يتراءى في بادئ النظر هو عدم البطلان مطلقا ، لأنّ البطلان لا بدّ له من موجب وهو إمّا من جهة استلزام الزيادة لوقوع خلل في المأمور به بحسب جزئه المادّي باعتبار رفعها قيدا وجوديّا أو عدميّا معتبرا مع الجزء وهو الوحدة أو عدم الزيادة ، أو جزئه الصوري باعتبار قطعها الهيئة الاتصاليّة المعتبرة فيما بين الأجزاء.

ويندفع توهّم الاخلال في القيد الوجودي أو العدمي بأنّه مبنيّ على ثبوت كون كلّ جزء من أجزاء المأمور به مقيّدا في لحاظ الشارع بقيد الوحدة وبقيد عدم الزيادة وهو أوّل المسألة ، كما يندفع توهّم الاخلال في الجزء الصوري بأنّ القاطعيّة ليست أمرا منضبطا ثابتا على وجه كلّي في كلّ ما تخلّل بين أجزاء الصلاة إلاّ ما خرج بالدليل ، ليندرج فيه زيادة الجزء بكلّ من صورها الثلاث المتقدّمة ، بل هو حكم تعبّدي ثابت في بعض الأشياء ، ولذا يقطعها البكاء للدنيا ولا يقطعها البكاء للآخرة ، ويقطعها كلام الآدميّين ولا يقطعها الذكر المطلق ، ويقطعها الفعل الكثير الغير الماحي ولا يقطعها قتل العقرب ، وهكذا.

فدعوى كون زيادة الجزء أيضا من القواطع تحتاج إلى ثبوت وهو أوّل المسألة.

ولكنّ الّذي يتراءى في ثاني النظر هو البطلان مطلقا ، وذلك لأنّ الصحّة الّتي هي في العبادات مقتضى الأمر لا بدّ لها من موجب لا البطلان ، وهو مع زيادة الجزء بأحد الاعتبارات الثلاث غير متحقّق ، فإنّ العبادات مركّبات متلقّاة من الشارع ، فوجب الاقتصار فيها على الهيئات المشروعة ، والقدر المقطوع به من الهيئة المشروعة هي الهيئة الحاصلة في أجزاء المركّب باعتبار عدم اشتمالها على زيادة شيء منها بأحد الاعتبارات الثلاث.

وأمّا الهيئة الحاصلة منها باعتبار اشتمالها على الزيادة المغايرة للهيئة الاولى فليست من الهيئة المشروعة ، إمّا لتبيّن عدم مشروعيّتها أو للشكّ في مشروعيّتها باعتبار الشكّ في شمول الأمر الوارد بالمركّب في قوله تعالى : ( أَقِيمُوا الصَّلاةَ )(١) لها وعدمه ، فوجب الرجوع إلى أصل الاشتغال ، وهذا يقتضي عدم الزيادة أصلا ، أو عدم الاقتصار على

__________________

(١) البقرة : ٤٣ ، ٨٣.

٢٠٥

ما حصل فيه الزيادة بمراعاة الإعادة والقضاء ، مضافا إلى أصالة عدم تعلّق الأمر بتلك الهيئة المشكوكة ، ولا يعنى من البطلان بسبب زيادة الجزء إلاّ هذا.

ويؤيّد ما ذكرناه من عدم مشروعيّة هذه الهيئة ما ورد من النصّ في خصوص غسالات الوضوء من أنّ الفرض منها غسلة واحدة والثانية إسباغ والثالثة بدعة ، ومعنى كون الثالثة بدعة أنّ الهيئة الحاصلة بزيادة الغسلة الثالثة غير مشروعة فلا تكون مجزئة. والظاهر عدم الفرق في ذلك بين ما لونوى زيادة الجزء من حين الشروع في العبادة أو بداله زيادته في الأثناء ، إذ على الأوّل قصد الهيئة الغير المشروعة في علم الله أو المشكوك في كونها مشروعة ، وعلى الثاني انكشف كون الهيئة الحاصلة فيه في علم الله غير مشروعة أو يشكّ في كونها مشروعة وعدمه.

وعلى ما بيّنّاه ينزّل ما احتجّ به المحقّق في المعتبر (١) على بطلان الصلاة بالزيادة من أنّ الزيادة تغيير لهيئة العبادة الموظّفة فتكون مبطلة.

فما اعترضه بعض مشايخنا بأنّه : « إن اريد تغيير الهيئة المعتبرة فالصغرى ممنوعة ، لأنّ اعتبار الهيئة الحاصلة من عدم الزيادة أوّل الدعوى ، فإذا شكّ فيه فالأصل البراءة عنه ، وإن اريد أنّه تغيير للهيئة المتعارفة المعهودة للصلاة فالكبرى ممنوعة ، لمنع كون تغيير الهيئة المتعارفة مبطلا (٢) » ليس في محلّه.

فإنّ مراده قدس‌سره من هيئة العبادة الموظّفة هيئة العبادة المشروعة على معنى مشروعيّة الهيئة ، ومحصّله : أنّه لا إشكال في كون الهيئة الحاصلة من عدم زيادة الجزء مشروعة لأنّها القدر المعلوم ممّا شمله الأمر ، كما لا إشكال في كون زيادة الجزء موجبة لحدوث هيئة اخرى مغايرة الاولى وهي الهيئة الحاصلة بالزيادة ، وهذا هو المراد من تغيير الهيئة الموظّفة وهو المراد من الصغرى. ولا ريب أنّها لا تقبل شيئا من طرفي الترديد.

وأمّا الكبرى وهي كون الزيادة مبطلة ، فمعناها كون الهيئة الحاصلة بالزيادة باطلة إمّا لتبيّن عدم مشروعيّتها ، بنآءا على أنّ المتبادر من الأمر بالعبادة المركّبة مطلوبيّة الهيئة الحاصلة من عدم الزيادة ولو كان التبادر إطلاقيّا ، أو للشكّ في كونها مشروعة ، فيرجع إلى أصلي العدم والاشتغال ، وهما يقتضيان الحكم عليها بالبطلان.

__________________

(١) المعتبر ٢ : ٣٧٩.

(٢) فرائد الاصول ٢ : ٣٧١.

٢٠٦

وبالتأمّل فيما قرّرناه يظهر أنّ مرجع الشكّ في كون الزيادة مبطلة إلى الشكّ في مشروعيّة الهيئة الحاصلة بها لا إلى الشكّ في مانعيّة الزيادة أو شرطيّة عدمها ، كما قد يتوهّم ليرجع فيه إلى أصل البراءة المقتضي لعدم المانعيّة وعدم الشرطيّة.

فإن قلت : نعم ، ولكن مع رجوع الشكّ إلى مشروعيّة الهيئة المذكورة يرجع إلى أصل البراءة أيضا لنفي اعتبار الهيئة الحاصلة من عدم الزيادة في المأمور به ، ومقتضاه التخيير بين الهيئتين.

قلت : الأصل في مسألة دوران الأمر بين التعيين والتخيير هو التعيين ، عملا بأصالة عدم تعلّق الأمر بالفرد المشكوك في شمول الأمر له ، وبأصل الاشتغال المقتضي للاقتصار على القدر المقطوع بمشروعيّته وهو الهيئة الحاصلة بعدم الزيادة ، ولذا قيل : بأنّ الأصل عدم تعلّق الأمر بالهيئة الحاصلة بالزيادة لم يكن معارضا بأصالة عدم تعلّق بالهيئة الحاصلة بعدم الزيادة.

فإن قلت : البناء على أصل الاشتغال إنّما يلائم القول بالصحّة دون القول بالأعمّ لما تقرّر في مسألة الصحيح والأعمّ ، وأشرت إليه سابقا في ثمرة الفرق بين القولين من أنّ الأوّل يلزمه البناء على أصل الاشتغال والثاني على أصل البراءة.

قلت : هذا إنّما هو ثمرة الفرق بينهما في مسألة الشكّ في جزئيّة شيء في العبادة أو شرطيّته ، لا أنّ الأعمّي يلزمه البناء على أصل البراءة في مطلق الشكّ المتعلّق بالعبادة حتى في مسألة دوران الأمر بين المتبائنين كالظهر والجمعة ، والقصر والاتمام ، أو مسألة دوران الواجب بين التعيين والتخيير ، فإنّ أصل البراءة في الأوّل غير معقول وفي الثاني غير صحيح لورود أصلي العدم والاشتغال عليه.

فإن قلت : لا خفاء في صدق الصلاة على الهيئة الحاصلة بالزيادة خصوصا على القول بالأعمّ ، فمرجع الشكّ في اعتبار الهيئة اللازمة من عدم الزيادة بالخصوص في المأمور به إلى الشكّ في الإطلاق والتقييد ، والأصل اللفظي في نحوه يقتضي الاجتزاء بالهيئة الحاصلة بالزيادة.

قلت : إنّ من شرط حجّيّة الإطلاق عدم وروده مورد الغالب ، ولا ريب أنّ الغالب من الهيئتين إطلاقا ووجودا إنّما هو الهيئة اللازمة لعدم الزيادة ، فينصرف إليها الإطلاق لا إلى الهيئة الصغرى.

وقد يتمسّك لاثبات الصحّة على تقدير طروّ زيادة الجزء في الأثناء باستصحاب

٢٠٧

صحّة الأجزاء السابقة.

ويزيّفه : ما مرّ مرارا من أنّ استصحاب الصحّة من أصله فاسد الوضع ، وعلى فرض صحّته لا ينتج الصحّة الفعليّة المسقطة للتدارك.

وقد يتمسّك أيضا بقوله تعالى : ( لا تُبْطِلُوا أَعْمالَكُمْ )(١) بتقريب : أنّ حرمة الإبطال إيجاب للمضيّ فيها وهو مستلزم لصحّتها ولو بالإجماع المركّب وعدم القول بالفصل في غير الصوم والحجّ الفاسدين المأمور بوجوب المضيّ فيهما مع عدم صحّتهما ، مضافا إلى استصحاب حرمة القطع المتيقّن ثبوته قبل تخلّل زيادة الجزء ، واستصحاب وجوب إتمام العمل كذلك. ولا خفاء في ضعف الجميع.

أمّا الأوّل فلأنّ الإبطال المسند إلى المكلّف المنهيّ عنه في الآية يتحقّق في صور :

الاولى : أن يبطل العمل بإعدام شرط موجود في الأثناء كالاستقبال في الصلاة إذا استدبر في الأثناء.

الثانية : أن يبطله بإيجاد مانع كما لو أحدث في أثناء الصلاة.

الثالثة : أن يبطله بالقطع الّذي هو رفع اليد عنه ، ولا إشكال في حرمة الجميع لعموم الآية.

وقد يتحقّق البطلان بأمر خارج عن اختيار المكلّف ، كنسيان الجزء على ما تقدّم في المسألة السابقة ، وهذا ممّا لا يصدق معه الإبطال الظاهر في الفعل الاختياري فلا يتناوله النهي.

وقد يتحقّق فيه ما يشكّ في كونه مبطلا وعدمه ، كما نحن فيه من تعمّد زيادة الجزء ، وهذا ممّا يشكّ معه في صدق الإبطال على [ معنى ] رفع اليد عن الصلاة الواقع فيها هذه الزيادة وعدمه ، لاحتمال البطلان بنفس الزيادة العمديّة وهو يوجب الشكّ في تناول النهي وعدمه ، فلا مقتضي في الآية لصحّة هذه الصلاة.

وأمّا الثاني : فلأنّ القطع إنّما يصدق مع ارتباط الأجزاء اللاحقة بالسابقة وهو موضع شكّ ، ويشكّ معه في صدق القطع ، والاستصحاب مع الشكّ في صدق موضوع المستصحب غير معقول.

وأمّا الثالث : فلأنّ العمل في عنوان وجوب الإتمام عبارة عن المأمور به وكون ما وقع فيه الزيادة مأمورا به غير محرز ، ومعه لا معنى لاستصحاب وجوب الإتمام ، مع أنّ الإتمام ليس له معنى محصّل إلاّ ربط الأجزاء اللاحقة بالسابقة وهو مع الشكّ في الارتباط غير

__________________

(١) محمّد : ٣٣.

٢٠٨

مقدور ، فلا يثمر استصحاب وجوبه بل لا يصحّ ، لاشتراط التكليف ابتداء واستدامة بالقدرة.

ويدلّ على المختار من بطلان الفريضة بالزيادة عموم التعليل فيما نقل عن تفسير العيّاشي فيمن أتمّ في السفر : أنّه يعيده ، لأنّه زاد في فرض الله عزّ وجلّ فتدبّر.

المسألة الثالثة : في زيادة الجزء سهوا ، ويظهر حكمها بالتأمّل في المسألة السابقة من حيث رجوع الشكّ إلى مشروعيّة الهيئة الحاصلة من زيادة الجزء فيجري فيه الأصلان المتقدّمان.

فتقرّر بجميع ما عرفت في المسائل الثلاث أنّ الأصل في الجزء المشكوك فيه كونه ركنا بالنسبة إلى الأحكام الثلاث إلى أن يعلم خلافه بالدليل.

الأمر الثاني : إذا ثبت كون شيء جزءا أو شرطا للعبادة فهل الأصل كونهما مطلقين حتى يسقط التكليف بالكلّ أو المشروط عند تعذّر الجزء أو الشرط ، أو كونهما مقيّدين بحالة التمكّن فلا يسقط التكليف بتعذّرها ، أو الأصل في الشرط كونه مطلقا وفي الجزء كونه مقيّدا؟ وجوه بل أقوال.

ويظهر فائدة الفرق بينهما في الوضوء مثلا إذا قطع بعض أعضائه ، وأغسال الميّت إذا تعذّر السدر والكافور ، فهل يجب غسل باقي الأعضاء؟ وتغسيل الميّت بالقراح ثلاثا ، أو لا يجب شيء منهما؟ أو يجب الأوّل دون الثاني؟ وجوه مبنيّة على الأقوال الثلاث.

ومبنى القول الأوّل على أصالة البراءة ، لأنّ المتيقّن من التكليف بالكلّ أو المشروط هو ما قبل طروّ العذر.

وأمّا التكليف بما بقي من الكلّ بعد تعذّر الجزء أو المشروط بعد تعذّر الشرط فمشكوك فيه ، والأصل براءة الذمّة عنه.

ومبنى القول الثاني على استصحاب الأمر والوجوب في صورة سبق التكليف على تعذّر الجزء والشرط ، كما لو قطع يده أو فقد السدر والكافور بعد استقرار التكليف بالوضوء والأمر بغسلي السدر والكافور ، ويتمّ فيما عدا هذه الصورة بالإجماع المركّب وعدم القول بالفصل.

وتوهّم قلبه بنفي التكليف عمّا لم يسبق التكليف على طروّ العذر بأصل البراءة ، ويتمّ فيما عداه بالإجماع المركّب.

واضح الدفع بكون الأوّل أقوى من الثاني ، لتقدّم الاستصحاب على أصل البراءة بواسطة حكومة أدلّته على أدلّة أصل البراءة.

ومبنى القول بالفرق على أصل اعتباري ، وهو أنّ الشرط قيد والقيد وإن غاير المقيّد

٢٠٩

مفهوما إلاّ أنّه لا يغايره وجودا بل هو متّحد معه في الوجود الخارجي ، على معنى كون وجودهما واحدا ، فتعذّره يوجب انتفاء ذلك الوجود الواحد ، ولزمه سقوط التكليف لكون متعلّقه ذلك الوجود المنتفي بالفرض ، بخلاف الجزء بالنسبة إلى الكلّ ، فإنّ كلاّ من أجزائه إنّما وقع في طرف العرض من الآخر ، ووجود كلّ يغاير وجود الآخر ، فلا يوجب انتفاؤه انتفاء الكلّ المتحصّل في ضمن باقي الأجزاء.

وهذا كما ترى أردأ الوجوه ، فإنّ انتفاء الجزء المتعذّر وإن كان لا يوجب انتفاء الكلّ المتحصّل في ضمن باقي الأجزاء ، إلاّ أنّه يوجب سقوط التكليف المتعلّق بالكلّ بما هو كلّ ، لأنّه إنّما تعلّق بوجود الكلّ الّذي هو عين وجودات أجزائه الّتي منها وجود هذا الجزء المنتفي ، فانتفاؤه يوجب انتفاء وجود الكلّ بالمعنى المذكور ، وما بقي منه ليس بذلك الوجود.

ودونه في الضعف وجه القول الثاني.

أمّا أوّلا : فلبطلان أصل الاستصحاب ، لانتفاء أحد الأمرين من الشكّ اللاحق إن اريد به استصحاب الأمر بالكلّ بما هو كلّ ، والأمر بالمقيّد بوصف كونه مقيّدا ، واليقين السابق إن اريد به استصحاب الأمر بالمطلق والأمر بما بقي من أجزاء الكلّ.

أو لتبدّل موضوع المستصحب إن اريد به استصحاب الأمر بالمقيّد والكلّ في المطلق وما بقي من الكلّ ، إلاّ أن يدّعى كون المقام ممّا يتسامح فيه أهل العرف بالنسبة إلى بقاء موضوع المستصحب بإجرائهم ما بقي من المأمور به بعد تعذّر الشرط والجزء مجرى الموضوع الأولى ، كما في استصحاب الكرّية في الماء المشكوك بقاء كرّيته بعد القطع بها بسبب أخذ شيء منها تدريجا.

ويندفع به مناقشة بعضهم كالمحقّق الخوانساري فيه بأنّه إن اريد به الكرّية بالنظر إلى ما قبل أخذ شيء منه فلا شكّ للقطع بانتفائه ، وإن اريد به الكرّية بالنظر إلى ما بقي بعد الأخذ فلا قطع ، ولكنّه محلّ منع.

وأمّا ثانيا : فلمنع التمسّك بالإجماع المركّب في تتميم الحكم لما عدا صورة سبق التكليف على طروّ العذر ، لأنّ مرجع التمسّك به إلى التمسّك بالملازمة الشرعيّة بين شطريه الّتي أثبتها الإجماع ، والقدر المسلّم منها هو الملازمة بينهما في الحكم الواقعي ، كما لو ثبت أحد شطريه بدليل اجتهادي من رواية معتبرة ونحوها ، لا الحكم الظاهري كما لو ثبت أحدهما بأصل كالاستصحاب ونحوه كما فيما نحن فيه ، فيجوز اختلافهما في الحكم

٢١٠

الظاهري تمسّكا في كلّ منهما بالأصل الجاري فيه من الاستصحاب في صورة سبق التكليف وأصل البراءة فيما عداها.

فظهر أنّ أوجه الوجوه هو الوجه الأوّل ، لكون أسلم الاصول هنا أصل البراءة ، ومقتضاه كونهما مطلقين ، لا بمعنى أنّ مؤدّاهما إطلاق الجزء والشرط بحسب الواقع ، بل بمعنى ترتيب آثار الإطلاق عليهما الّتي منها سقوط التكليف رأسا بعد تعذّرهما من غير فرق في ذلك بين كون كلّ من حكم المأمور به وحكم الجزء والشرط مستفادا من اللفظ أو من اللبّ ، أو الأوّل مستفادا من اللفظ والثاني من اللبّ أو بالعكس.

وقد يتوهّم أنّه لو ثبت حكم الكلّ والمشروط باللفظ وحكم الجزء والشرط باللبّ كالإجماع فمقتضى الأصل اللفظي ـ وهو إطلاق دليل الكلّ والمشروط ـ هو الحكم بعدم الجزئيّة والشرطيّة في غير حال التمكّن والاختيار ، لأنّ القدر الثابت بالإجماع إنّما هو الجزئيّة والشرطيّة في حال الاختيار لا في غيرها.

وقد يتوهّم أيضا أنّ الجزئيّة أو الشرطيّة إذا كانت ثابتة بالخطابات اللفظيّة والقضايا التكليفيّة كانت مختصّة بحال القدرة والاختيار ، لكون الخطابات متوجّهة إلى القادر المختار ، وضعف هذين التوهّمين غير خفيّ.

أمّا الأوّل منهما : فلخروج إطلاق المأمور به بواسطة دليل الجزء والشرط عن حاله ، والشكّ إنّما هو في حال القيد إطلاقا وتقييدا ، ولا يرجع لاستعلامه إلى دليل المقيّد ، بل لا بدّ من الرجوع إلى دليل القيد ـ أعني دليلي الجزء والشرط ـ فلو لم يرجع فيهما إلى أصالة عدم التقييد باعتبار كون دليلهما اللبّ ، فلا أقلّ من الرجوع إلى أصالة البراءة ، وقد عرفت أنّ مقتضاها الإطلاق.

وأمّا الثاني : فلأنّ مؤدّى الخطابات المذكورة جاز أن يعمّ القادر المختار ، والعاجز المضطرّ ، والعالم والجاهل ، والملتفت والغافل ، والمتذكّر والناسي بحسب سياقاتها ، لأنّ الأوامر المسوّقة لبيان الجزء والشرط كلّها إرشاديّات عندنا ، فتكون نسبتها إلى الأصناف المذكورة نسبة واحدة ، إذ المراد بالارشاد الدلالة على ما فيه الصواب والرشاد ، فلا يتفاوت بالنسبة إلى المقتدر والمتعذّر والمختار والمضطرّ ، كما في أمر الطبيب بشرب السكنجبين إرشادا إلى ما فيه من المنفعة المتساوي نسبتها إلى الأصناف المذكورة.

٢١١

وليعلم أنّ ما أسّسناه من الأصل إنّما هو الأصل الأوّلي ، إلاّ أنّه انقلب إلى أصل ثانوي مستفاد من عموم قوله عليه‌السلام : « الميسور لا يسقط بالمعسور (١) » و « ما لا يدرك كلّه لا يترك كلّه (٢) » فإنّ ما تعذّر من أجزاء المأمور به معسور وتعذّره أوجب سقوطه وعدم إمكان إدراك كلّه ، وقد دلّت الرواية الاولى على عدم سقوط الميسور منه بسقوط معسوره ، والثانية على أنّه لا يترك جميعه بعدم إدراك جميعه. وضعف سنديهما مجبور بتلقّي الأصحاب لها بالقبول. كما يظهر بتتبّع أبواب المعاملات ودلالتهما على ما نحن فيه من كون الجزء مقيّدا بحال الإمكان واضحة لا ينبغي المناقشة فيها.

وقد يستدلّ عليه أيضا بالنبويّ المعروف : « إذا أمرتكم بشيء فأتوا منه ما استطعتم (٣) » وهو عندي غير صحيح ، لما أوضحناه في مباحث الأوامر من كونه بشهادة مورده مسوقا لنفي وجوب التكرار ، فلا تعلّق له بما نحن فيه ، والعمدة فيه ما ذكرناه من الروايتين.

وهل القاعدة المستفادة منهما حاكمة على دليل الأمر بالمأمور به المركّب ومتعرّضة بمضمونها لحاله ، بكشفها عن كون المأمور به بهذا الأمر في لحاظ الآمر وعلى حسب ما في ضميره هو الأمر المشترك بين المركّب التامّ والمركّب الناقص على وجه الترتّب ، بأن يكون مطلوبيّته الناقص معلّقة على تعذّر التامّ بواسطة تعذّر جزئه ، أو أنّها بنفسها مفيدة لحكم جديد غير الأمر الوارد بالمركّب؟ وجهان. ذكرناهما مع مبناهما.

وثمرة الفرق بين الاعتبارين وترجيح ما ترجّح منهما على الآخر في ذيل مسألة تبعيّة القضاء للأداء وعدمها من مباحث الأوامر ، وقد ذكرنا ثمّة أنّ الأقوى هو الحكومة. وممّا يترتّب عليها جريان القاعدة في المندوبات المركّبة إذا تعذّر أحد أجزائها.

وهي بالقياس إلى الأجزاء الخارجيّة من الواجبات والمستحبّات المركّبة واضحة لا إشكال فيها.

وهل هي جارية بالقياس إلى الأجزاء العقليّة في المركّبات العقليّة كالشرط والمشروط والقيد والمقيّد ، الّذي مرجعهما إلى الماهيّة والقيد الوارد عليها إذا تعذّر القيد؟فيه إشكال بل منع ذكرنا وجهه في المسألة المشار إليها.

__________________

(١) عوالي اللآلئ ٤ : ٥٨ ح ٢٠٥.

(٢) نفس المصدر ، ح ٢٠٧.

(٣) نفس المصدر ، ح ٢٠٦.

٢١٢

وعليه فالأصل الثانوي المستفاد من الروايتين مقصور على جزء العبادة ، والمرجع بالقياس إلى الشرط هو الأصل الأوّلي لعدم انقلابه.

الأمر الثالث : فيما لو ثبت شرطيّة شيء للعبادة وشكّ في كونه شرطا واقعيّا أو شرطا علميّا فالأصل فيه كونه شرطا واقعيّا على ما هو المعروف المتّفق عليه عندهم.

والمراد بالشرط الواقعي ما كان وجوده من العالم والجاهل بالموضوع موقوفا عليه لصحّة العبادة ، ويلزم من انتفائه عن علم وعن جهل انتفاء المشروط كالطهارة الحدثيّة للصلاة. وبالشرط العلمي ما كان وجوده من العالم بالموضوع موقوفا عليه ، ويلزم من انتفائه عن علم انتفاء المشروط ، كالطهارة الخبثيّة بالقياس إلى الصلاة في حقّ العالم بالخبث ، فلا يلزم من انتفائها من الجاهل بنجاسة ثوبه أو بدنه انتفاء صحّة الصلاة لعدم كونها شرطا في حقّ الجاهل.

والمراد بالأصل المذكور أصالة العدم ، وبيانه : أنّ من صفة الشرط الواقعي إطلاق شرطيّته بالقياس إلى حالات العلم والجهل ، والشرط العلمي يقتضي تخصيص شرطيّة الشرط بصورة العلم ، والأصل عدمه ، فإنّ جعل الشرط ثابت وتخصيصه بصورة العلم مشكوك والأصل ينفيه.

ويمكن تفسيره بقاعدة أنّ المدّعي للزيادة من المتخاصمين يطالب بالدليل دون المنكر لها ، نظرا إلى أنّ جعل أصل الشرط في محلّ الخلاف متّفق عليه بينهما والاختلاف في تخصيصه بالعالم ، فالمدّعي للشرط العلمي يطالب بالدليل دون المدّعي للشرط الواقعي ، وهذا يكشف عن مطابقة دعواه الأصل.

ونظيره ما في أصالة الإمكان فيما يتردّد بينه وبين الامتناع على الصحيح من محامل الأصل هنا من قاعدة مطالبة الدليل من مدّعي الامتناع ، لرجوع قوله إلى دعوى الزيادة الّتي ينفيها القائل بالإمكان ، فإنّ الامتناع عبارة عن ضرورة جانب العدم ، وهذا ينحلّ إلى عدم الشيء وكونه ضروريّا له بالنظر إلى ذاته ، والعدم متّفق عليه بينهما واختلافهما إنّما هو في الزيادة وعلى مدّعيها إقامة الدليل ، فالإمكان يوافق قاعدة أنّ مدّعيه لا يطالب بالدليل لأنّه ينكر ضرورة جانب العدم.

ثمّ الشرط العلمي قد يطلق على ما كان وجود الشيء في الاعتقاد شرطا كوجوده في الواقع وإن لم يكن موجودا في الواقع ، ومرجعه إلى بدليّة الوجود الاعتقادي للوجود الواقعي ، فالشرط حينئذ أعمّ من وجوده في الواقع والاعتقاد بوجوده وإن لم يكن موجودا ،

٢١٣

فالأصل فيه أيضا هو الشرط الواقعي لأصالة عدم جعل البدل.

وقد يطلق أيضا على ما كان وجود الشيء في الاعتقاد معتبرا في موضوع الشرطيّة على وجه الشطريّة أو الشرطيّة ، بأن يكون الشرط هو المجموع من وجود الشيء والاعتقاد بوجوده ، أو وجود الشيء بشرط الاعتقاد بوجوده على حدّ الزنا وأحكامه المعلّقة على وطئ الأجنبيّة مع العلم بكونها أجنبيّة ، فلا يحكم به ولا يجري أحكامه على الوطئ بالأجنبيّة باعتقاد أنّها زوجة ، ولا على الوطئ بالزوجة باعتقاد أنّها أجنبيّة ، والأصل فيه أيضا يقتضي واقعيّة الشرط على معنى كون نفس وجود الشيء شرطا ، لأصالة عدم تعرّض الشارع عند الجعل لاعتبار ما عدا وجوده شطرا أو شرطا ، وعدم أخذه الاعتقاد جزء في موضوع الشرطيّة وعدم ملاحظته الاعتقاد بوجوده عند ملاحظة وجوده.

وقد يطلق أيضا على ما كان وجود الشيء في الاعتقاد شرطا ، على معنى كون الشرط هو اعتقاد المكلّف بوجود الشيء وإن لم يكن موجودا في الواقع ، ولعلّ عدالة الإمام في شرط صحّة صلاة المأموم من هذا القبيل ، فالواقعي حينئذ هو ما كان نفس وجود الشيء في الواقع شرطا ، فإذا دار الأمر بينه وبين العلمي بهذا المعنى فلا يجري فيه أصل العدم ، لرجوع إجرائه لتعيين أحد الطرفين حينئذ إلى تعيين الحادث بالأصل ، لكون الجعل متيقّنا والشكّ إنّما هو في المجعول ، لتردّده بين كونه وجود الشيء أو الاعتقاد بوجوده ، ولا يمكن نفي أحدهما دون الآخر بالأصل.

ولا بدّ حينئذ من الرجوع إلى أصلي البراءة والاشتغال في نفي الاعادة والقضاء ، ويختلف ذلك باختلاف الفروض ، فإن أتى بالمشروط غافلا عن وجود الشيء فبان بعد الفراغ وجوده ، فهل يحكم بصحّته المسقطة للاعادة والقضاء أو بطلانه المقتضي لهما؟وجهان ، مبنيّان على كون الشرط وجوده فيصحّ ، أو الاعتقاد بوجوده فلا يصحّ ، والشكّ في ذلك يوجب الشكّ في وجوب الاعادة والقضاء ، وقضيّة أصل الاشتغال في الوقت وجوب الاعادة ، وقضيّة أصل البراءة في خارج الوقت عدم وجوب القضاء ، لمكان الشكّ في صدق قضيّة الفوات الموجب للشكّ في أصل التكليف بالقضاء.

ولو أتى بالمشروط معتقدا وجود ذلك الشيء فانكشف بعد الفراغ عدم وجوده فأصل الاشتغال يقتضي وجوب الاعادة وأصل البراءة يقتضي عدم وجوب القضاء ، فاختلف مقتضى الأصلين باختلاف الفرض في الفرعين ، لكون مقتضى أصل الاشتغال في الفرع

٢١٤

الأوّل علميّة الشرط وفي الفرع الثاني واقعيّته وأصل البراءة بالعكس فليتدبّر ، وليس في المقام أصل منضبط آخر يقتضي أحد طرفي الشكّ مطّردا.

الأمر الرابع : في أنّه إذا تعارض الجزء والشرط عند الاتيان بالعبادة ،بأن لا يتمكّن المكلّف لعذر من الأعذار من ادراكهما معا بل لا بدّ له من ادراك أحدهما وطرح الآخر وتفويته ، فهل الأصل تفويت الجزء أو تفويت الشرط؟ وذلك كما في زيارة عاشوراء بناء على اشتراطها بوحدة المجلس استظهارا له من الروايات الواردة في بيان كيفيّتها إذا لم يمكنه لعذر الاتيان بالزيارة الكاملة التامّة الأجزاء في مجلس واحد ، فيدور الأمر حينئذ بين حفظ الشرط وطرح الجزء ، بأن يكتفي بلعن واحد وسلام واحد مع سائر الأفعال في مجلس واحد ، أو حفظ الجزء وطرح الشرط بأن يأتي بتمام الأجزاء في مجالس متعدّدة ، وقاعدة الاحتياط هنا تقتضي الجمع بين الصورتين بل هو أقرب بالصواب ، غير أنّه قد يرجّح طرح الشرط والأخذ بالجزء ، لكون الشرط وصفا وطرح الوصف أهون من طرح الموصوف.

ولقد تمسّك بنظير ذلك جماعة من المتأخّرين كالشهيد وأحزابه في مسألة لباس المصلّي إذا انحصر الساتر لعورته في ثوب متنجّس ، فيدور الأمر حينئذ بين الصلاة فيه طرحا لشرط الساتر وهو الطهارة ، والصلاة عريانا طرحا للساتر الّذي هو الموصوف ، فرجّحوا الأوّل استنادا إلى كون الوصف أولى بالطرح من الموصوف ، ولعلّ وجه الأولويّة تأخّر رتبة الشرط في الملاحظة والجعل عن رتبة الجزء ، فإنّ الآمر يلاحظ المأمور به أوّلا بأجزائه ثمّ يعتبر له شرائط ، حتّى أنّه يقدّم الجزء في الذكر فيقول : « إيتني بالشيء الفلاني مع الشرط الفلاني » وبذلك ربّما أمكن دفع ما أورد على الوجه المذكور من أنّه اعتبار صرف لا تعويل عليه.

الأمر الخامس : إذا ثبت اعتبار شيء في العبادة ودار بين كونه جزءا أو شرطا ، فالظاهر أنّه لا يمكن الخروج عن الشبهة بأصل العدم لرجوعه إلى تعيين الحادث بالأصل ، إذ الجزء ما يعتبر وجوده من مجموع الوجودات الّذي هو عين وجود الكلّ ، والشرط ما يعتبر وجوده قيدا لوجود الكلّ الذي هو عين وجودات أجزائه ، والمفروض أنّ الشارع قد اعتبر وجود هذا الشيء ، فالجعل معلوم ووجهه غير معلوم وتعيين أحدهما بالأصل غير معقول.

نعم لو ظهر كونه من مقولة الجنس المقول على الكلّ تبيّن كونه جزءا ، كما أنّه لو ظهر كونه ممّا اعتبر مقارنته لتمام العمل انكشف كونه شرطا ، ولو لم يظهر شيء من ذلك وجب

٢١٥

ترتيب آثار الشرط عليه من نفي اشتراطه بشرائط الكلّ من النيّة والطهارة والاستقبال والستر وغيرها من شرائط الصلاة مثلا استنادا إلى الأصل ، لأنّ من حكم جزء الشيء اشتراطه بشرائط ذلك الشيء بخلاف الشرط ، فليتدبّر.

الأمر السادس : في دوران الأمر بين الشرطيّة والمانعيّة فيما ثبت اعتباره في العبادة ولم يعلم أنّ المعتبر وجوده أو عدمه.

وبعبارة اخرى : تقييد المأمور به بقيد مردّد بين أمر وجودي أو أمر عدمي كالتكفير بالنظر إلى الصلاة.

وفيما دار الشرط بعد ثبوت الشرطيّة بين شيئين كالتسمية في الاوليين من الصلوات الاخفاتيّة المشروطة بما اشتبه كونه الجهر أو الاخفات ، ونحوه شرطيّة أحد الأمرين في قراءة ظهر الجمعة ، وفيما دار الأمر بين كون الشيء جزءا أو زيادة مبطلة كتدارك الفاتحة عند الشكّ فيه بعد الدخول في السورة.

وهذه ثلاث مسائل لا مجرى لأصل العدم في شيء منها لرجوعه إلى تعيين الحادث بالأصل ، بل الجميع مندرج في عنوان دوران المكلّف به بين المتبائنين.

وقد ظهر في محلّه أنّ حكمه وجوب الاحتياط بالجمع والتكرار ، لأصل الاشتغال وقاعدة وجوب دفع الضرر الاخروي المحتمل وهو العقاب الّذي يجوّزه العقل على المخالفة الّتي قد تلزم بترك الاحتياط والتكرار.

وتوهّم التخيير بينهما بناء على أصالة البراءة عن العقاب المحتمل ترتّبه على المخالفة الاتفاقيّة.

يدفعه : أنّ أصل البراءة فيما لم يكن الشكّ في التكليف ولا آئلا إليه كما في الشكّ في الجزئيّة والشرطيّة ممّا لا معنى له.

وتوهّم دوران الأمر بين المحذورين وهما الوجوب والحرمة فلا يمكن فيهما الاحتياط فيرجع فيه إلى أصالة التخيير.

يدفعه : منع الحرمة الذاتيّة ، والحرمة التشريعيّة غير قادحة لورود الاحتياط عليها.

نعم التزام التخيير في نحو المسألة الثالثة لعدم إمكان الاحتياط الّذي طريقه هنا التكرار ، لا لدوران الأمر بين المحذورين بل لخروج الصلاة الثانية على تقدير التكرار عن موضوع الشكّ المتحقّق في الصلاة الاولى الّتي تردّد فيها قراءة الفاتحة بين كونها جزءا أو زيادة مبطلة.

٢١٦

المطلب الثالث : من الشكّ في المكلّف به فيما لو اشتبه الواجب بالحرام ، بأن يعلم كون أحد الفعلين واجبا والآخر حراما واشتبه أحدهما بالآخر لشبهة موضوعيّة أو حكميّة ، ومن أمثلة الأوّل ما لو اشتبهت الزوجة المنذور وطؤها بالمطلّقة المحرّم وطؤها ، وهذا مما لا يمكن فيه الاحتياط لدوران الأمر بين المحذورين ، ففعل الجميع يوجب المخالفة القطعيّة بارتكاب الحرام ، كما أنّ ترك الجميع يوجب المخالفة القطعيّة بترك الواجب ، فتعيّن الرجوع فيه إلى أصالة التخيير القاضية بإتيان أحدهما وترك الآخر ، لاستقلال العقل بكون الموافقة الاحتماليّة مع احتمال المخالفة أولى من الموافقة القطعيّة مع القطع بالمخالفة عند دوران الأمر بينهما.

خاتمة : في شروط إعمال أصل البراءة وما بمعناه من الاصول ، كاستصحاب البراءة الأصليّة واستصحاب عدم التكليف الإلزامي من وجوب أو تحريم فيما كان حالته السابقة عدم ذلك الحكم ، والتحقيق أنّه ليس له إلاّ شرطان :

أحدهما : الفحص الّذي هو عبارة عن طلب ما يرفع الشبهة من أمارة أو دليل علمي أو ظنّي معتبر ، بل هو شرط في الجملة.

وتفصيل القول فيه : أنّ أصل البراءة على ما ظهر من تضاعيف مباحثه قد يكون معمولا في الموضوعات وهو الّذي يعبّر عن الشبهة المعتبرة في مجراه بالشبهة الموضوعيّة ، وقد يكون معمولا في غيرها ممّا يرجع إلى الحكم الشرعي الكلّي أو متعلّقه المعبّر عنه بالمكلّف به ، وهو الّذي يعبّر عن الشبهة المعتبرة في مجراه بالشبهة الحكميّة.

فالكلام في اشتراط العمل به بالفحص وعدمه يقع في مقامين :

المقام الأوّل : فينبغي القطع بعدم وجوب الفحص في إعمال أصل البراءة في الموضوعات ، وعدم اشتراطه بالبحث والسؤال في شبهة تحريميّة أو وجوبيّة ، دليله بعد الإجماعات المنقولة الإجماع العملي وهو السيرة القطعيّة من المسلمين الكاشفة عن الرضاء ، فإنّها في جميع الأعصار وكلّ الأمصار مستقرّة في البناء في الموضوعات على الاصول من دون فحص وسؤال ، من دون فرق فيه بين العوامّ والخواصّ من العلماء والفقهاء ، حتّى أنّ الفقهاء في كلّ عصر كانوا يرخّصون أتباعهم من العوامّ بالبناء على الاصول فيها من دون أن يكلّفوهم الفحص ، مضافا إلى أخبار ذلك الأصل ممّا يختصّ بالشبهات التحريميّة كصحيحة عبد الله بن سنان ، ورواية مسعدة بن صدقة ولا سيّما في

٢١٧

ذيلها من قوله عليه‌السلام : « الأشياء كلّها على ذلك حتّى يستبين لك غير هذا أو تقوم به البيّنة (١) » الظاهر في صورة إمكان تحصيل العلم أو تحصيل البيّنة ، وما يعمّها والشبهات الوجوبيّة كالنبويّ المصرّح برفع مؤاخذة التسعة الّتي منها ما لا يعلمون (٢).

ويمكن الاستدلال عليه ببناء العقلاء في الامور المتعلّقة بهم ، ألا ترى أنّ السيّد إذا قال لعبده : « أكرم العلماء أو أعط الفقراء » فالعبد لا يبالي عدم اجراء حكم العامّ فيمن يشكّ كونه عالما أو فقيرا تعويلا على الأصل من دون فحص ، ولا يذمّه العقلاء ولا يؤاخذه السيّد على تركه الفحص ، ولا ينافي ذلك التزامهم الفحص فيما لو قال السيّد لعبده : « احضر علماء البلد أو أضف أطبّاء البلد » حيث إنّ العبد لا يزال يسأل عن العلماء والأطبّاء في مورد الشكّ ولا يقتصر على المعلومين عنده ، ولا ما لو قال : « أعط كلّ بالغ رشيد من هذه الجماعة » حيث إنّه لا يزال يسأل عمّن جمع الوصفين من الجماعة ولا يقتصر على من علم اجتماعهما فيه ، فإنّ التكليف في الأوّل وارد على المجموع لظهور الخطاب في العموم المجموعي ، فلا بدّ من احرازه تحصيلا ليقين الامتثال ولا يكون إلاّ بالاحتياط أو بالسؤال ، بخلاف ما ذكرناه في الدليل.

وفي الثاني وإن كان واردا على كلّ فرد ولكنّ الباعث على السؤال فيه إنّما هو العلم الإجمالي بأنّ في الجماعة أيضا من جامع الوصفين غير من علم اجتماعهما فيه تفصيلا ، فهذا التكليف المقطوع به بالنسبة إلى محلّ العلم الإجمالي أيضا يقتضي الامتثال اليقيني ولا يتأتّى إلاّ بالاحتياط أو السؤال ، ولذا لو لم يعلم العبد إجمالا بوجود من جامع الوصفين في الجماعة زائدا على ما علمه تفصيلا وشكّ بالنسبة إلى واحد في اجتماعهما فيه ، فهو لا يبالي حينئذ في عدم اجراء حكم العامّ فيه من دون سؤال ولا يذمّ ولا يؤاخذ.

فحاصل الفرق بين ما ذكرناه في الاستدلال وبين المثالين أنّ ما في الاستدلال من الشكّ في التكليف وما في المثالين من الشكّ في المكلّف به بعد اليقين بالتكليف المقتضي للامتثال اليقيني.

وبعبارة اخرى : أنّ مورد الشكّ في الأوّل من مورد أصل البراءة وفي المثالين من مورد أصل الاشتغال ، فالتزام الفحص في الثاني تحصيلا ليقين البراءة لا ينافي ترك الفحص في

__________________

(١) الوسائل ١٢ : ٦٠ الباب ٤ من أبواب ما يكتسب به ، ذيل الحديث ٤.

(٢) الوسائل ١١ : ٢٩٥ الباب ٥٦ من أبواب جهاد النفس ، ح ١.

٢١٨

الأوّل تعويلا على أصل البراءة.

نعم ربّما يشكل الحال بالنسبة إلى ما ذكرناه من عدم وجوب الفحص في إعمال أصل البراءة في الموضوعات مطلقا في شيئين :

أحدهما : أنّ نفي وجوب الفحص في الموضوعات ـ على ما ذكرت ـ كيف يجامع ما ذكروه في ثمرة مسألة دخول العلم في مداليل الألفاظ وضعا أو خطابا وعدمه ، من أنّها تظهر في وجوب الفحص وعدمه في مثل قوله : « صلّ إلى القبلة ، واعمل بخبر العادل ، ولا تعمل بخبر الفاسق » فعلى القول بعدم دخوله فيها مطلقا يجب الفحص في معرفة القبلة الواقعيّة وبثبوت وصفي العدالة أو الفسق للمخبر ، وهو يناقض نفي وجوبه في العمل بالأصل.

ويندفع : بأنّ الثمرة المذكورة مفروضة فيما ورد الخطاب واشتبه مدلوله ـ باعتبار الخلاف في دخول العلم ـ بين التكليف المشروط كما هو لازم القول بدخوله والتكليف المطلق.

فعلى الأوّل لا فحص لانتفاء التكليف بانتفاء موضوعه ، لأنّ كلّ تكليف مشروط بتحقّق موضوعه.

وعلى الثاني لا بدّ من الفحص أو الاحتياط باتيان المحتملات امتثالا للتكليف المقطوع به.

ومحلّ البحث ما لو شكّ في التكليف بسبب اشتباه الموضوع ، على معنى الشكّ في صدق العنوان المعلّق عليه الحكم على الموضوع الخارجي ، فنفي وجوب الفحص هنا لا ينافي إيجابه ثمّة ، والفارق أنّ مورد الثمرة ما كان على فرض الاشتباه من مجاري أصل الاشتغال ومحلّ البحث ما كان من مجاري أصل البراءة.

وثانيهما : ما صار إليه جماعة في مسألة استطاعة الحجّ ونصاب الزكاة عند الشكّ في بلوغ المال حدّ الاستطاعة والنصاب من ايجاب الفحص بمحاسبة المال ، ومنع العمل بأصل البراءة عن وجوب الحجّ ووجوب الزكاة قبل المحاسبة ، حتّى أنّه يظهر من بعض هؤلاء كبعض الأعلام كونه أصلا كلّيا في مطلق الواجبات المشروطة إذا شكّ في حصول شرط وجوبها ، حيث قال : « إنّ الواجبات المشروطة بوجود شيء إنّما يتوقّف وجوبها على وجود الشرط لا على العلم بوجوده ، فبالنسبة إلى العلم مطلق لا مشروط ، مثل أنّ من شكّ في كون ماله مقدار استطاعة الحجّ لعدم علمه بمقدار المال لا يمكنه أن يقول : إنّي لا أعلم أنّي مستطيع فلا يجب عليّ شيء ، بل يجب عليه محاسبة ماله ليعلم أنّه واجد للاستطاعة أو فاقد لها.

٢١٩

نعم لو شكّ بعد المحاسبة في أنّ هذا المال هل يكفيه في الاستطاعة أم لا؟ فالأصل عدم الوجوب حينئذ » انتهى (١).

فإنّ مقتضى الفرض كون المسألة من الشكّ في التكليف باعتبار الشكّ في الموضوع الخارجي وهو كون المال في حدّ الاستطاعة أو كون المكلّف مستطيعا ، وقضيّة القاعدة المتقدّمة المجمع عليها جواز البناء على الأصل من دون فحص كما عليه جماعة ، فما وجه التزام محاسبة المال بحيث ينهض لتخصيص القاعدة؟

ولا ريب أنّ المسألة ليست إجماعيّة ليعتذر بالإجماع ، ولو كان هناك وجه صالح لأن يعوّل عليه فهو في غاية الخفاء.

نعم يظهر من بعض الأعلام في عبارته المتقدّمة حيث ذكر حديث توقّف الوجوب في الواجبات المشروطة بوجود شيء على وجود الشرط لا العلم بوجوده ، بناء الحكم المذكور على القول بعدم دخول العلم في مداليل الألفاظ ، وكونه من فروع ما يترتّب على هذا القول من وجوب الفحص في معرفة الموضوع المعلّق عليه الحكم.

وأنت بالتأمّل فيما بيّناه تعرف ضعف ذلك ، فإنّ مقتضى القولين في المسألة المشار إليها كون التكليف المستفاد من نحو « صلّ إلى القبلة » مشروطا على أحدهما ومطلقا على الآخر ، ولذا يترتّب على الثاني وجوب الفحص لكونه مقدّميا ، وهو في الواجب المشروط حال انتفاء شرط وجوبه غير معقول ، والتكليف فيما نحن فيه مشروط على القولين ، وأثر الخلاف يظهر في الشرط هل هو الاستطاعة الواقعيّة أو العلم بها؟

غاية الأمر أنّه على الثاني مقطوع الانتفاء فيقطع انتفاء المشروط ولا حاجة معه إلى الأصل ، وعلى الأوّل مشكوك الحصول فيشكّ معه [ في وجوب ](٢) المشروط فتمسّ الحاجة إلى الأصل في نفيه ، ومعه لا مقتضي لوجوب الفحص لأنّه من آثار إطلاق التكليف ، فلا يعقل ترتّبه على ما يشكّ في إطلاقه.

ومن الأعاظم من نفى وجوب الفحص في مسألتي الاستطاعة والنصاب استنادا إلى الأصل ، واحتمل كون وجه القول بالوجوب فهم العرف قائلا : « بأنّه لمّا كان الناس صنفين فالمفهوم عرفا وجوب الفحص ، فإنّ المولى إذا أمر عبيده بأنّ من كان عنده ألف دينار فليأت بمثلها بمائة ، ومن كان عنده مائة فليأت منها بعشرة ، فيفهم عرفا وجوب

__________________

(١) القوانين ١ : ٤٦٠.

(٢) أضفناها لاستقامة العبارة.

٢٢٠