تعليقة على معالم الاصول - ج ٦

السيّد علي الموسوي القزويني

تعليقة على معالم الاصول - ج ٦

المؤلف:

السيّد علي الموسوي القزويني


المحقق: السيد علي العلوي القزويني
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
المطبعة: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ١
ISBN: 964-470-559-9
الصفحات: ٤٨٦

الواجبات الشرعيّة ألطاف في الواجبات العقليّة ، فاللطف إمّا مأمور به حقيقة أو غرض للآمر.

وأيّا ما كان فلابدّ من إحرازه ولا يكون إلاّ بإتيان كلّ ما شكّ في مدخليّته.

قلت : الإيجاب في جميع الواجبات الشرعيّة الّذي هو عبارة عن طلب الفعل المقرون بمبغوضيّة الترك الّذي هو مدلول الخطاب اللفظي المأخوذ في وضع صيغة الأمر مسبوق بوجوبها العقلي ، وهو كونها بحيث يستحقّ تاركها الذمّ كما عليه مذهب العدليّة ، وأشار إليه الشيخ في العدّة في مسألة إثبات النسخ بقوله : « الشيء لا يجب بإيجاب موجب ، وإنّما يجب بصفة هو عليها تقتضي وجوب ذلك الشيء ، وإنّما يدلّ إيجاب الحكم على أنّ له صفة الوجوب لا بأن يصير واجبا بإيجابه ، لأنّ ايجاب ما ليس له صفة الوجوب يجري في القبح مجرى إيجاب الظلم والقبيح ». انتهى (١).

وحيث إنّ الغرض من الإيجاب المسبوق بالوجوب العقلي دلالة المكلّف على الوجوب العقلي الّذي لا يستقلّ بإدراكه العقل كما في أكثر الواجبات العقليّة ، فاللطف صفة فيه لا في الفعل الواجب ، ولذا صار أصحابنا الإماميّة وأكثر المعتزلة من العامّة في مسألة وجه العبادة ـ بعد ما اتّفق الفريقان الأشاعرة والمعتزلة على أنّه بحسب المفهوم عبارة عن السبب الباعث على إيجاب الواجب وندب المندوب ـ إلى أنّه بحسب المصداق عبارة عن اللطف الواجب على الله تعالى في الواجبات العقليّة الّتي لا يستقلّ بإدراك وجوبها العقل والمندوب في غيرها ، على معنى أنّ الإيجاب بنفسه لطف ، لأنّه يقرّب العبد إلى موافقة الوجوب العقلي في الواجبات العقليّة ويبعّده عن مخالفته ، وهذا هو معنى قولهم : « التكليفات السمعيّة ألطاف في الواجبات العقليّة » وقد يعبّر عنه : « بأنّ الواجبات الشرعيّة ألطاف في الواجبات العقليّة » ، ومعناه كون الواجب الشرعي لو صفه العنواني لطفا لا لذاته.

وبالجملة اللطف مصلحة في الإيجاب الّذي هو من فعل الشارع لا في الواجب الّذي هو فعل المكلّف ، فلم يتعلّق بالمكلّف لطف لا بعنوان كونه مأمورا به ولا بعنوان كونه غرضا من الأمر ليجب عليه إحرازه ، فلا مقتضي في اللطف لوجوب الإتيان بكلّ ما يشكّ في مدخليّته في المأمور به أصلا.

وقد يتمسّك لإثبات وجوب الإتيان بالأكثر وكلّما يشكّ في مدخليّته باستصحاب الأمر والاشتغال ، إذ على تقدير الاقتصار على الأقلّ يشكّ في ارتفاعهما والأصل يقتضي البقاء ،

__________________

(١) العدّة ٢ : ٥٠٨.

١٨١

وهو يقتضي وجوب مراعاة الأكثر.

ويزيّفه : انتفاء الشكّ اللاحق إن اريد به الأمر بالأقلّ ، وانتفاء اليقين السابق إن اريد به الأمر بالأكثر. وإن اريد به استصحاب الأمر والاشتغال المعرّى عن الخصوصيّتين وقيدي كونه بالأقلّ أو بالأكثر ففيه ـ مع ابتنائه على القول باستصحاب القدر المشترك وفيه كلام : أنّه يندفع بارتفاع موضوعه بسبب ورود أصل آخر عليه وهو أصالة عدم تعلّق الأمر بالأكثر.

وتوهّم كونه معارضا بأصالة عدم تعلّق الأمر بالأقلّ ، يندفع : بأنّ تعلّقه بالأقلّ متيقّن فلا يمكن نفيه بالأصل ، والشكّ في تعلّقه بالزائد ، لما عرفت من أنّ دوران المكلّف به بين الأقلّ والأكثر ينحلّ إلى علم تفصيلي بتعلّق التكليف بالأقلّ وشكّ في تعلّقه بالزائد ، والأصل النافي لتعلّقه به ممّا لا معارض له أصلا.

ويعلم السرّ في ذلك بمراجعة ما بيّنّاه في بحث مقدّمة الواجب عند منع مقدميّة جزء الواجب له ، من أنّ وجود الكلّ لا يغاير بالذات وجودات أجزائه ، بل وجوده عين مجموع وجودات أجزائه ، وحينئذ فإذا أمر بالكلّ كان المقصود منه إيجاده الّذي هو إيجادات أجزائه ، وهذا الأمر إنّما تعلّق في الحقيقة بإيجادات الأجزاء ، وإذا شكّ في جزئيّة شيء آخر له كان مرجعه إلى الشكّ في كون إيجاد هذا الشيء أيضا من جملة الإيجادات الّتي مجموعها عين إيجاد الكلّ ، وهو يوجب الشكّ في تعلّق الأمر المفروض بإيجاد ذلك الشيء وعدمه والأصل ينفيه ، فانحصر الأمر النفسي المفروض فيما تعلّق بالأقلّ ـ أعني إيجادات الأجزاء المعلومة ـ.

وبما صوّرناه اندفع أيضا شبهة عدم إمكان قصد القربة المعتبر في صحّة العبادة إذا كان المكلّف به من العبادات ، فإنّ الأمر الموجود في الأقلّ أمر نفسي فيقصد بإتيانه امتثاله والتقرّب به.

ودعوى أنّ الأمر بالنسبة إليه مردّد بين النفسي والغيري ، فإن قصد القربة بامتثال الأوّل فهو غير معلوم وإن قصدت بامتثال الثاني فهو غير كاف في النيّة المعتبرة في العبادة ، لأنّ الإتيان بالواجب الغيري غير مقرّب.

يدفعها : أنّه لا مقدميّة للأقلّ على تقدير كون المكلّف به الواقعي هو الأكثر ، فلم يتحقّق بالنسبة إليه أمر غيري مقدّمي ، بل ليس فيه إلاّ أمر نفسي سواء كان بحسب الواقع متعلّقا بالزائد أيضا أو لا ، فيمكن قصد امتثاله وهو بعد نفي تعلّقه بالزائد بالأصل مقرّب لا محالة ،

١٨٢

ولا حاجة مع ذلك في دفع الإشكال إلى تكلّف القول بأنّه يكفي في إحراز النيّة المعتبرة في العبادة قصد التخلّص من النار ، وهو على ما قرّر في محلّه إحدى الغايات المقصودة في العبادات الكافية في صحّتها كما صنعه بعض مشايخنا ، مع أنّه عند التحقيق مخدوش بأنّ قصد التخلّص من النار عند الإتيان بشيء ممّا لا يتأتّى إلاّ بعد إحراز الأمر النفسي في المأتيّ به ، فإن كان محرزا في الأقلّ وكما يتأتّى قصد التخلّص فكذلك يتأتّى قصد القربة وقصد الامتثال الموجب لها ، وإن لم يكن محرزا فكما لا يتأتّى قصد القربة فكذلك لا يتأتّى قصد التخلّص ، فالإشكال على حاله إلاّ بأن يلتزم وجود الأمر النفسي في الأقلّ ومعه لا فرق ولا حاجة إلى تكلّف أصلا.

وأمّا الجهة الثانية : فالظاهر بل المقطوع أنّ أخبار البراءة المتقدّمة في الشبهة الحكميّة من الشكّ في التكليف كلّها آتية هنا ، ضرورة أنّ وجوب الأكثر الّذي مرجعه إلى وجوب الزائد على الأقلّ بعد العلم التفصيلي بوجوبه على وجه يترتّب العقاب على المخالفة على تقدير جزئيّة الزائد في الواقع ممّا حجب علمه عن المكلّف ، وأنّه ما لا يعلمه ، فيندرج في عموم قوله عليه‌السلام : « ما حجب الله علمه عن العباد فهو موضوع عنهم (١) » و « رفع عن امّتي تسعة » ـ ومنها ـ « ما لا يعلمون (٢) » و « الناس في سعة ما لم يعلموا (٣) » فيكون موضوعا ومرفوعا عنهم ، سواء فسّر الرفع برفع المؤاخذة خاصّة أو رفع الآثار الشرعيّة الّتي منها المؤاخذة ، ويكونون في سعة عن العقاب والمؤاخذة. والمراد بالمؤاخذة والعقاب المنفيّين بهذه الأخبار العقاب على ترك المأمور به الواقعي اللازم من الإخلال بالجزء المستندة إلى جهل المكلّف بجزئيّته فلا يرد أنّ الجزء لا يترتّب على الإخلال به من حيث هو عقاب ولو كانت جزئيّته ثابتة معلومة بالتفصيل فكيف يضاف إليه نفي العقاب والمؤاخذة.

ولو فرضنا عدم حكم العقل بمرجعيّة البراءة في مسألة الشكّ في الجزئيّة كان النقل من جهة الأخبار المذكورة كافيا في إثباتها ، لأنّ غاية ما يسلّم من العقل حينئذ إنّما هو تجويز العقاب على المخالفة ، على معنى أنّه ممّا لا ضير فيه ولا قبح على الشارع من جهته ، لا لزومه ووقوعه لا محالة ، ومؤدّى الأخبار المذكورة أنّ الشارع لا يعاقب عليها. ومن الظاهر أنّ نفي العقاب شرعا لا ينافي جوازه عقلا ، لأنّ مرجعه إلى عدم قبحه عقلا الموجب لامتناعه ، ومرجع نفيه إلى نفي وقوعه فعلا فلا تعارض ، كيف وقد عرفت حكم

__________________

(١) الكافي ١ : ١٦٤ ، ح ٣.

(٢) التوحيد : ٣٥٣ ، ح ٢٤.

(٣) عوالي اللآلئ ١ : ٤٢٤ ، ح ١٠٩.

١٨٣

العقل بقبحه فهو مع الشرع متطابقان.

ومن الفضلاء من توهّم عدم تناول عموم أخبار البراءة لما نحن فيه بقوله : « لا نسلّم حجب العلم في المقام ، لوجود الدليل على وجوب الأكثر وهو أصالة الاشتغال في الأجزاء والشرائط المشكوكة ».

ثمّ قال : « لأنّ ما كان لنا إليه طريق في الظاهر لا يصدق في حقّه الحجب قطعا ، وإلاّ لدلّت هذه الرواية على عدم حجّيّة الأدلّة الظنّية كخبر الواحد وشهادة العدلين وغيرهما » قال : « ولو التزم تخصيصها بما دلّ على حجّيّة تلك الطرق تعيّن تخصيصها أيضا بما دلّ على حجّيّة أصالة الاشتغال من عمومات أدلّة الاستصحاب ووجوب المقدّمة العلميّة.

ثمّ قال : والتحقيق التمسّك بهذه الأخبار على الحكم الوضعي وهي الجزئيّة والشرطيّة » انتهى (١).

وهذا كما ترى كلام ظاهريّ لا محصّل له ، إذ لا كلام في أنّ أصالة الاشتغال على تقدير جريانها طريق ظاهري لا يرجع معه إلى أصالة البراءة ولا العمومات الدالّة عليها ، وضابط جريانها العلم الإجمالي بالتكليف مع اشتباه المكلّف به وتساوي نسبته المعلوم بالإجمال إلى الطرفين ، بأن لا يكون أحدهما القدر المتيقّن من مورد التكليف كما في المتبائنين. وحينئذ لا معنى لأصالة البراءة لأنّه إمّا أن يقصد باعماله نفي الواقع أو نفي طرفيه أو نفي أحدهما على التعيين أو على التخيير ، والأوّل محال بالفرض ، وكذلك الثاني حذرا عن المخالفة القطعيّة ، بل الثالث أيضا لاستحالة الترجيح بلا مرجّح ، والرابع ليس من محتملات المقام لعدم دوران الأمر بين التعيين والتخيير ، فلا محيص من الرجوع إلى أصالة الاشتغال. وليست الحال في مسألة دوران المكلّف به بين الأقلّ والأكثر كذلك ، لعدم تساوي نسبته إلى طرفيه ، لوجود القدر المتيقّن الموجب لانحلال الأمر إلى علم تفصيلي وشكّ تفصيلي ، فلا مجرى لأصالة الاشتغال بالنسبة إلى القدر الزائد المشكوك فيه. فلا يلزم من الرجوع إلى أصل البراءة والعمل على الرواية الواردة فيه طرح شيء من الطرق الظاهريّة إلى وجوب الأكثر ، ولا يلزم بذلك دلالة الرواية على عدم حجّيّة الأدلّة الظنّية لأنّها حيثما وجدت كان دليل حجّيتها حاكما على الرواية وغيرها من أدلّة أصل البراءة ، فلا يجري فيه الأصل ولا يتناوله عموم دليله ، كما هو كذلك حيث كانت أصالة الاشتغال جارية ، فلا يتفاوت الحال حينئذ بين التمسّك بهذه الأخبار على نفي الحكم الوضعي وهو

__________________

(١) الفصول : ٥١.

١٨٤

الجزئيّة والشرطيّة والتمسّك بها على نفي الحكم التكليفي ، وهو تعلّق الوجوب النفسي بالزائد على وجه أوجب الإخلال به ترتّب العقاب على مخالفة الواقع ، كما يوجب الإخلال بالأقلّ ترتّبه عليها. بل نفي الحكم الوضعي ممّا ليس له معنى محصّل ما لم يكن آئلا إلى نفي الحكم التكليفي ، بناء على ما هو المحقّق ، من عدم مجعوليّة الأحكام الوضعيّة ، وإنّما هي امور اعتباريّة انتزاعيّة تنتزع من الأحكام التكليفيّة.

وقد يمنع التمسّك بعموم هذه الأخبار بدعوى ظهورها في نفي الوجوب النفسي المشكوك فيه ، وعدم جريانها في الشكّ في الوجوب الغيري كما فيما نحن فيه.

وهذا أيضا في الضعف كسابقه ، إذ قد عرفت سابقا أنّ الوجوب الغيري ممّا لا معنى له في جزء الواجب ، بل لا يضاف إليه باعتبار جزئيّته من الوجوب إلاّ الوجوب النفسي المتعلّق بإيجاد الكلّ الّذي هو عين إيجادات أجزائه ، فهو بحيث يلزم من الإخلال بكلّ جزء مخالفته الّتي يترتّب عليها العقاب ، فالشكّ في وجوب الجزء المشكوك في جزئيّته معناه الشكّ في الوجوب النفسي المتعلّق بالكلّ بالفرض باعتبار تعلّقه بذلك المشكوك في جزئيّته وعدمه ، وهو الوجوب الّذي نفته الأخبار باعتبار ذلك ، ومعنى نفيه نفي العقاب المترتّب على مخالفته اللازمة من الإخلال بالمشكوك فيه على تقدير جزئيّته في الواقع.

وربّما اورد أيضا : بأنّ أصل البرائة وإن كان يجري في جانب الأكثر وينفي اعتبار الزائد في المأمور به ، إلاّ أنّه لا ينتج كون الأقلّ مأمورا به إلاّ على القول بالاصول المثبتة وهو باطل. فوجب الإتيان بالأكثر تحصيلا لفراغ الذمّة ، فإنّ العلم الإجمالي بالمكلّف به بعد العلم التفصيلي بالتكليف يقتضي تحصيل فراغ الذمّة الشرعي أو اليقيني ، والأوّل متعذّر لعدم وفاء الأصل بإثبات كون الأقلّ هو المأمور به واقعا ، فتعيّن الثاني ولا يتأتّى إلاّ بالإتيان بالأكثر ، نظير ما مرّ في الشبهة المصداقيّة من دوران المكلّف به بين الأقلّ والأكثر ، كما في الأمر بصوم شهر رجب إذا اشتبه يوم الثلاثين بين كونه آخر رجب أو أوّل شعبان لعدم رؤية الهلال لغيم أو غيره من الموانع ، فيدور المأمور به بين تسعة وعشرين أو ثلاثين يوما ، حيث إنّ الحكم في ذلك على ما عرفت هو الإتيان بصوم اليوم المشكوك فيه تحصيلا للواقع ، فكذا الحال فيما نحن فيه لاتّحاد الطريق.

والجواب عن ذلك بوجهين :

أحدهما : النقض بأصل الاشتغال الّذي هو المرجع في التزام الأكثر ، فإنّه أيضا لا ينتج

١٨٥

كون الأكثر مأمورا به إلاّ على القول بالاصول المثبتة ، فإن صلح ذلك لإثبات كون الأكثر مأمورا به فلابدّ وأن يصلح أصل البراءة أيضا لإثبات كون الأقلّ مأمورا ، به وإن لم يصلح أصل البراءة لإثبات ذلك بناء على بطلان القول بالاصول المثبتة فلابدّ وأن لا يصلح أصل الاشتغال أيضا لذلك.

فلو قيل : إنّ أصل الاشتغال وإن كان لا ينتج كون الأكثر بالخصوص مأمورا به إلاّ أنّه طريق بسلوكه يحصل الفراغ اليقيني ، لأنّ الأكثر المأتيّ به إمّا أن يكون هو المأمور به في الواقع أو أنّ المأمور به الواقعي مندرج فيه.

وأيّا ما كان فيحصل به فراغ الذمّة ، بخلاف أصل البراءة فإنّه طريق لا يحصل بسلوكه الفراغ اليقيني عن الواقع.

لقلنا : إنّ كلاّ من الأصلين في مجراه طريق سلوكه يؤثّر في فراغ الذمّة ، إلاّ أنّ أصل البراءة يوجب الفراغ الشرعي وأصل الاشتغال يوجب الفراغ اليقيني.

ودعوى أنّ أصل البراءة لا يوجب الفراغ الشرعي أيضا حيث لا ينتج كون الأقلّ هو المأمور به.

يدفعها : أنّه إنّما لا ينتج كونه المأمور به الواقعي ، ولا حاجة إلى إحرازه في تحصيل الفراغ الشرعي وإلاّ لم يكن شرعيّا ، بل يكفي كونه المأمور به الظاهري الشرعي ، لأنّه ينفي وجوب الزائد في الظاهر ، فينحصر المأمور به في الظاهر في الأقلّ ، والإتيان به حينئذ تعويلا على أصل البراءة تحصيل للفراغ الشرعي ، ولا يجب معه مراعاة الفراغ اليقيني لأنّ الشرعي قائم مقام الواقعي. ومقايسة ما نحن فيه على الشبهة المصداقيّة والمثال المذكور فيها باطلة ، لوجود الفارق بين المقامين ، وهو أنّ المأمور به ثمّة عنوان منضبط واقعي مردّد بين حصوله بالأقلّ أو عدم حصوله إلاّ بالأكثر وهو صوم شهر رجب.

ولا ريب أنّ الاشتغال اليقيني بالعنوان المذكور يقتضي إحرازه تحصيلا للفراغ ، ولا يتأتّى ذلك إلاّ بمراعاة صوم اليوم المشكوك فيه أيضا بخلاف ما نحن فيه ، فإنّ الأمر وارد هنا بمركّب مردّد بين كون أجزائه تسعة مثلا أو عشرة بحيث لو كانت تسعة لصدق عليها اسم ذلك المركّب من غير أن يكون الشكّ في الزائد موجبا للشكّ في صدق ذلك الاسم ولا في صدق عنوان آخر هو المأمور به ، كما في منزوحات البئر ، وكالصلاة إذا شكّ في جزئيّة السورة بعد ثبوت جزئيّة النيّة والتكبيرة وقراءة الفاتحة والركوع والسجود

١٨٦

والتشهّد والتسليمة ، ضرورة صدق اسم الصلاة عليها بدون السورة ومعها ، ولذا ذكرنا سابقا أنّ اللازم من الفرض انحلال الأمر إلى علم تفصيلي وشكّ تفصيلي ، فيرفع الشكّ بالأصل ويقتصر على الأجزاء المعلومة بالتفصيل تعويلا على الفراغ الشرعي المأذون في الاكتفاء به شرعا عن الفراغ اليقيني.

وثانيهما : الحلّ ، بأنّ المقتضي لكون الأقلّ مأمورا به إنّما هو الأدلّة المثبتة للأجزاء المعلومة ، والأصل إنّما يتمسّك به لنفي اعتبار الزائد ، وهو قيد عدمي ولا كلام لأحد في أنّ الأصل يثبته ، فيثبت بمجموع الأدلّة المذكورة مع انضمام الأصل أنّ المأمور به هو الأقلّ لا غير ، وهذا ينحلّ إلى أمر وجودي يثبته الأدلّة وأمر عدمي يثبته الأصل ، فيحصل الفراغ عن الاشتغال بسبب الإتيان بالأقلّ فراغا شرعيّا قائما مقام الفراغ الواقعي.

المقام الثاني : في الشبهة الناشئة عن الشكّ في الشرطيّة للاختلاف الواقع بين العلماء في شرطيّة شيء للمأمور به.

وليعلم أوّلا : أنّ أجود تفاسير الشرط هو أنّ شرط الشيء ما كان مقارنا بذلك الشيء ، تفسيرا للشيء بلازمه ، لما استظهر من أدلّة الشروط من اعتبار مقارنة الشرط لتمام المشروط من أوّله إلى آخره. وبذلك ربّما يستظهر كون النيّة المعتبرة في العبادة شرطا لا جزءا ، لما استفيد من أدلّة النيّة من اعتبار مقارنتها لتمام العبادة ، وعليه مبنى اشتراط الاستدامة الحكميّة فيها على القول بالإخطار. ومنه علم أنّ إطلاق الشرط على الوضوء للصلاة مسامحة من تسمية السبب باسم المسبّب ، لكونه من قبيل الفعل الغير القارّ بالذات فيستحيل مقارنته الصلاة ، بل الشرط هو الأثر الحاصل منه وهو الحالة القائمة بالمكلّف المعبّر عنها بالطهارة. وكذا الكلام في الاستقبال وستر العورة وغير ذلك من الشروط الّتي تنشأ من أفعال خاصّة هي أسباب لها ، فالوضوء حينئذ سبب لشرط الصلاة لا أنّه بنفسه شرط.

فإذا شكّ في شرطيّة شيء للمأمور به كالطهارة عن الحدث لصلاة الميّت أو عن الخبث لها أو للصوم مثلا ، فالمرجع فيه أيضا كالشكّ في الجزئيّة هو أصل البراءة من جهة العقل والنقل.

أمّا الأوّل : فلأنّ الجهل بشرطيّة شيء للمأمور به يجري عند العقل مجرى الجهل بجزئيّة شيء له ، فالجاهل بها معذور على تقدير اتّفاق مخالفة الواقع اللازمة من الإخلال بالشرط المجهول ، لقبح العقاب والمؤاخذة عليها عقلا.

وأمّا الثاني : فلأنّ اشتراط المأمور به بالشرط المجهول في موضع تعذّر العلم به على وجه

١٨٧

يؤثر الإخلال ـ على تقدير الشرطيّة في الواقع ـ في العقاب والمؤاخذة على مخالفة الواقع ممّا حجب علمه عن المكلّف فيكون موضوعا أو مرفوعا عنه ، على معنى رفع المؤاخذة.

ولك أن تقرّر الأصل في الفعل الّذي هو منشأ لحصول الشرط كالوضوء مثلا فتقول : إنّ التكليف بالوضوء على وجه يترتّب بسبب الإخلال به المؤاخذة والعقوبة على المخالفة اللازمة من انتفاء الشرط على تقدير شرطيّته في الواقع ممّا حجب علمه عن المكلّف فيكون موضوعا ومرفوعا ـ أي رفع المؤاخذة المذكورة ـ وهذا ممّا لا إشكال فيه.

نعم ربّما يشكل الحال في أنّ الشرط قد يكون قيدا في المأمور به كالطهارة بالنسبة إلى الصلاة ، وقد يكون في متعلّق المأمور به كالإيمان في الرقبة عند الأمر بعتقها مع الشكّ في شرطيّة الإيمان ، ولا كلام في كون المرجع في الأوّل هو البراءة. وربّما يتأمّل في الثاني لدوران المكلّف به بين المطلق ونفس المقيّد وليس بينهما مشترك يكون القدر المتيقّن من متعلّق التكليف لكون المطلق أحد طرفي الترديد والجنس الموجود في ضمن المقيّد لا ينفكّ عن الفصل فيكونان من قبيل المتبائنين ، بخلاف الأوّل للعلم بثبوت التكليف بالصلاة وكون الشكّ في التكليف بالطهارة وينفيه أصل البراءة.

وفيه : أنّ الشرط إذا كان قيدا فمرجع الشكّ فيه في القسم الأوّل أيضا إلى دوران المكلّف به بين المطلق ونفس المقيّد ، فوجب أن لا يجري فيه الأصل أيضا.

والتحقيق : أنّ هذا الدوران لا يمنع عن جريانه في شيء من القسمين ، لأنّ التكليف بصلاة مّا وعتق رقبة مّا متيقّن ، والشكّ إنّما هو في اشتراط المكلّف به بالطهارة وإيمان الرقبة فالأصل البراءة عنه على معنى البراءة عن المؤاخذة والعقاب المترتّبين على المخالفة اللازمة من الإخلال بالشرط على تقدير شرطيّته ، للجهل بها.

نعم يمكن الفرق بين القسمين بأنّ امتثال التكليف بالمكلّف به المشروط في نحو القسم الأوّل يقتضي الالتزام بإيجاد شيئين :

أحدهما : إيجاد الشرط بالإتيان بمنشائه وسببه.

والآخر : الإتيان بالفعل مقرونا بالشرط الموجود.

فالتكليف المذكور ينحلّ إلى تكليفين ، والقدر المتيقّن منهما في محلّ الشكّ في الشرطيّة هو التكليف بأصل الفعل والتكليف بإيجاد الشرط مشكوك فيه وينفيه الأصل ، بخلاف القسم الثاني فإنّ امتثال التكليف في نحوه لا يقتضي إلاّ إيجاد شيء واحد ، وهو

١٨٨

الاتيان بالفعل مقرونا بالشرط الموجود في الفرد من متعلّق المأمور به ، فالتكليف المذكور لا ينحلّ إلى تكليفين ليكون أحدهما في موضع الشكّ في الشرطيّة متيقّنا والزائد مشكوكا حتّى ينفي بالأصل ، فمرجع الشكّ فيه في الحقيقة إلى الشكّ في التعيين والتخيير ، لأنّ ثمرة مقابلة المطلق للمقيّد في مثال عتق الرقبة وعتق الرقبة المؤمنة إنّما يظهر فيما لو أتى بالماهيّة في ضمن فردها الآخر غير المقيّد ، كما لو أعتق الكافرة فهل يبرأ ذمّته أو لا يبرأ إلاّ بعتق المؤمنة؟ فالتكليف اليقيني ثابت والمكلّف به مشتبه مع انتفاء القدر المتيقّن ممّا تعلّق به التكليف لينفى الزائد بالأصل ، ووجود القدر المتيقّن ممّا حصل به البراءة وهو المقيّد فيجب العمل به تحصيلا ليقين البراءة ، وهذا هو الفارق بين القسمين في كون المرجع في الأوّل هو البراءة وفي الثاني هو الاشتغال.

ويؤيّده : أنّ البراءة أصل وضعه الشارع لرفع كلفة عن المكلّف لم يعلم كونها عليه ، ولا ريب أنّ الاشتراط في القسم الأوّل يتضمّن كلفة زائدة على الكلفة الحاصلة من جهة التكليف بأصل الفعل بخلاف القسم الثاني ، فإنّ عتق المؤمنة لا يزيد كلفة على عتق الكافرة.

هذا ولكنّ الّذي يهوّن الخطب ويسهّل الأمر في عدم الفرق هو القطع بجريان أصل البراءة في اشتراط المكلّف به بالطهارة والإيمان بعد العلم بالتكليف بصلاة مّا وعتق رقبة مّا ، على معنى البراءة عن العقاب المحتمل ترتّبه على تقدير اتّفاق مخالفة الواقع بسبب الاخلال بالشرط المجهول ، والقسمان من هذه الجهة سيّان.

وما ذكر من وضع أصل البراءة لرفع الكلفة مسلّم ، لكنّ الكلفة أعمّ من الكلفة الجسمانيّة والكلفة النفسانيّة ، والتعيين تضييق لدائرة الامتثال على المكلّف ، وفيه من الكلفة النفسانيّة ما لا يخفى ، بخلاف التخيير الّذي هو في معنى التوسعة وفي قوله عليه‌السلام « الناس في سعة ما لم يعلموا (١) » إشارة إلى هذا المعنى ، وما قرع سمعك من أنّ المرجع في مسألة دوران الأمر بين التعيين والتخيير هو أصل الاشتغال على الأقوى فإنّما هو في التخييرات الشرعيّة ، كما لو ثبت وجوب شيء معيّن في الجملة وشكّ في كونه على التعيين أو على التخيير بينه وبين شيء آخر.

وحينئذ فلا مناص من الاتيان بذلك المعيّن لأنّه القدر المتيقّن ممّا تعلّق به التكليف ويحصل به الامتثال ، فالعقل يجوّز العقاب على مخالفة الواقع المحتمل لزومها على تقدير

__________________

(١) عوالي اللئالي ١ : ٤٢٤ ، ح ١٠٩.

١٨٩

الإتيان بغيره ، فلا يجوز الاقتصار عليه بحكم قاعدتي الاشتغال ووجوب دفع الضرر المحتمل ، المعتضدتين بأصالة عدم تعلّق الوجوب به أصلا بعد اليقين بتعلّقه بالأوّل ، وكون التعيين ممّا يتضمّن ضيقا ـ يشكّ فيه والأصل براءة الذمّة عنه ، كما عليه مبنى القول بأصالة التخيير ـ إنّما يسلّم حيث لا مقتضي لوجوب الالتزام بالضيق المشكوك فيه ، وقد عرفت مقتضى الأصل والقاعدتين.

هذا كلّه في الشرط وعلى قياسه المانع ، فإذا شكّ في مانعيّة شيء لصحّة العبادة للاختلاف الواقع بين العلماء من غير نصّ ، فالكلام في جريان أصل البراءة لنفيها كالكلام في الشكّ في الشرطيّة نعلا بنعل وقذّا بقذّ ، فإنّ المانع أيضا كالشرط من قيود المكلّف به.

غاية الأمر أنّ المعتبر في الشرط هو وجوده وفي المانع عدمه ، وكما يعتبر المقارنة لتمام العمل في القيد الوجودي فكذلك يعتبر في القيد العدمي ، فمرجع المانعيّة إلى ترتّب العقاب على المخالفة اللازمة من الإخلال بالقيد العدمي ، والأصل في موضع الشكّ براءة الذمّة عنه.

وكذا الكلام في القاطع وهو ما كان وجوده مخلاّ بالهيئة الاتّصاليّة المعتبرة في المأمور به من دون أن يكون عدمه من قيوده ، كالضحك والبكاء للدنيا وقول آمين عقيب الفاتحة ، وفعل يسير لا يمحو صورة الصلاة ، والتكفير ، فلو شكّ في قاطعيّة شيء فأصل البراءة ينفي العقاب المحتمل ترتّبه على ترك المأمور به اللازم من الإخلال بالهيئة الاتّصاليّة المعتبرة فيه بوجود ذلك الشيء ، ومرجعه إلى ترتيب آثار عدم القاطعيّة ، وقد يتمسّك لذلك باستصحاب الصحّة وهو عندنا ممّا لا يرجع إلى محصّل ، إذ الصحّة المستصحبة وصف عرضي لابدّ له من موضوع يقوم به ، فإمّا أن يراد بها صحّة الأجزاء السابقة ، أو صحّة الأجزاء اللاحقة ، أو صحّة مجموع الأجزاء السابقة والأجزاء اللاحقة وهو الكلّ.

والأخير باطل إذ الكلّ حين وقوع ما يشكّ في قاطعيّته غير متحقّق ليحكم بصحّته للاستصحاب ، ولو فرض إعماله بعد الإتيان بالأجزاء اللاحقة ، ففيه : عدم كون بقاء موضوع المستصحب محرزا ، لأنّ الهيئة الاتّصاليّة جزء من المأمور به ولا يعلم حصولها مع وجود ما يشكّ في قاطعيّته.

وكذلك الثاني لانتفاء الحالة السابقة المعبّر عنها باليقين السابق ، لأنّ الأجزاء اللاحقة إنّما يصحّ على تقدير ارتباطها بالأجزاء السابقة ، وهو بتخلّل ما ذكر بينهما محلّ الشكّ ،

١٩٠

فالصحّة في الأجزاء اللاحقة غير متيقّنة حتّى يمكن استصحابها.

وكذلك الأوّل لأنّ الصحّة عبارة عن ترتّب الأثر من موافقة أمر على رأي المتكلّمين ، وسقوط قضاء على رأي الفقهاء ، وهي في الأجزاء السابقة لا يمكن أن تكون فعليّة بل شأنيّة ، ويعبّر عنها بالصحّة التأهلّيّة ، ولا يمكن استصحابها لانتفاء الشكّ اللاحق ، فإنّها عبارة عن كون الأجزاء السابقة بحيث لو انضمّ إليها الأجزاء اللاحقة وارتبطت بها كان المجموع منهما صحيحا فعليّا ، وثبوت هذا المعنى لها يقيني والشكّ إنّما هو في صحّة التقدير ، ولا يمكن إحرازها بيقين الصحّة التأهّليّة فضلا عن استصحابها مع عدم الحاجة إليه ، فلا مقتضي لترتيب آثار عدم القاطعيّة الّذي هو معنى ترتيب آثار الصحّة الفعليّة.

ثمّ إنّ القول بمرجعيّة أصل البراءة في مسألة الشكّ في الجزئيّة أو الشرطيّة أو المانعيّة أو القاطعيّة لا ينافي القول بأصالة الفساد في العبادات والمعاملات كما توهّمه بعض الفضلاء ، واعترض به على بعض الأعلام القائل بالأصلين ، بناء على أنّ قضيّة الفساد الّذي جعله أصلا في العبادات هو البناء على أصل الاشتغال أخذا بالقدر المتيقّن ممّا يحصل به الامتثال ، لوضوح أنّ معنى الشكّ في كون شيء جزءا أو شرطا للعبادة إنّما هو الشكّ في صحّة الخالي عن المشكوك فيه وفساده ، وإذا كان الأصل في جانب الفساد تعيّن القول بالاشتغال أخذا بالقدر المتيقّن.

ووجه عدم المنافاة : أنّ الفساد بمعنى عدم كون الشيء بحيث يترتّب عليه الأثر أصل أوّلي يثمر في الرجوع إليه حيث لم يكن أصل ثانوي وارد أو حاكم عليه ، وكما أنّ عموم الدليل أو إطلاقه أصل ثانوي فكذلك أصل البراءة عند الشكّ في الأجزاء أو الشروط أصل ثانوي.

غاية الأمر أنّ الأوّل لكونه أصلا لفظيّا اجتهاديّا وارد على الأصل الأوّلى ، والثاني حاكم عليه بحكومة دليله على دليل الأصل الأوّلي فلا تدافع.

الصورة الثانية : فيما لو كانت الشبهة الحكميّة من مسألة دوران المكلّف به بين الأقلّ والأكثر من جهة الشكّ في الجزئيّة أو الشرطيّة أو المانعيّة لإجمال النصّ ، ومن فروضه ما لو عبّر عن العبادة في الخطاب الوارد في التكليف بها بلفظ مجمل مفهوما أو مرادا ، وذلك كلفظ « الصلاة » وغيرها من العبادات المختلف في كونها للصحيحة أو الأعمّ منها ومن الفاسدة ، بناء على ما حقّقناه في ثمرة الخلاف فيها من أنّها بالقياس إلى الأجزاء عند الإشكال فيها باعتبار الشكّ في الجزئيّة مجملة على القولين ، غير أنّ الإجمال على القول

١٩١

بالصحيحة مفهومي وعلى القول بالأعمّ مرادي ، ومن حكم الاجمال المفهومي هو البناء على الاشتغال ومن حكم الاجمال المرادي هو البناء على البراءة ، وقد سبق بيان جميع هذه المراتب مشروحا في مسألة الصحيح والأعمّ (١) ولا حاجة هنا إلى الاعادة.

وحيث إنّ المختار ثمّة هو القول بالأعمّ فلا محيص من الرجوع إلى أصل البراءة في تلك الصورة أيضا لعموم أدلّته ، من غير فرق فيه بين الشكّ في الجزئيّة والشرطيّة والمانعيّة ، مضافا إلى الأصل اللفظي في الأخيرين وهو الإطلاق وأصالة عدم التقييد النافيين لاحتمال التقييد ، بناء على أنّ مرجع شرطيّة الشرط ومانعيّة المانع إلى تقييد المسمّى بقيد وجودي في الشرط وعدمي في المانع ، والشكّ فيهما شكّ في التقييد والأصل اللفظي ينفيه. ويشكل : بأنّ فرض المورد بحيث يجري فيه الأصل اللفظي يخرجه عن عنوان المسألة المأخوذ فيه اشتباه المكلّف به بشبهة حكميّة في الجزئيّة أو الشرطيّة أو المانعيّة لاجمال الدليل.

أمّا أوّلا : فلأنّه مع وجود الأصل اللفظي لا اشتباه في المكلّف به.

وأمّا ثانيا : فلأنّه مع وجوده لا إجمال في الدليل.

ويمكن الذبّ عنه في الجملة : بفرض الاجمال في دليل الشرط والمانع ، بأن يكون مؤدّاهما الشرطيّة والمانعيّة على طريقة القضيّة المهملة لا المطلقة المتناولة لجميع مواردهما ، وذلك في الشرط كاشتراط الاستقبال إذا استفيد من صحيحة زرارة عن أبي جعفر عليه‌السلام : « لا تعاد الصلاة إلاّ من خمسة : الوقت ، والطهور ، والقبلة ، والركوع ، والسجود (٢) » لعدم عموم فيها بحيث يتناول كلّ أحد وكلّ حالة حتّى المتحيّر ، فيكون بالقياس إليه مجملا ، وهو يوجب شبهة شرطيّة الاستقبال للمتحيّر إذا صلّى إلى جهة فبان وقوعها إلى غير القبلة ، فيرجع لنفي الشرطيّة هنا إلى أصل البراءة ، وفي المانع كمانعيّة الحرير إذا استفيدت من نحو قوله عليه‌السلام : « لا تحلّ الصلاة في حرير محض (٣) » في صحيحة محمّد بن عبد الجبّار عن أبي محمّد عليه‌السلام ، حيث إنّ المنساق منه الحرير الّذي يكون من جنس اللباس ، فلا يتناول صورة الالتحاف أو التدثّر أو الاتزار بالحرير ، فهو من جهة الانصراف إن لم يكن ظاهرا في غير هذه الفروض لم يكن شاملا لها أيضا فيكون مجملا ،

__________________

(١) التعليقة على معالم الاصول ٢ : ٣٨٦ ـ ٢٩٧.

(٢) الوسائل ٤ : ٦٨٣ الباب الأوّل من أبواب أفعال الصلاة ، ح ١٤.

(٣) الكافي ٣ : ٣٩٩ ، ح ١٠ ، التهذيب ٢ : ٢٠٧ ، ح ٨١٢ ، الاستبصار ١ : ٣٨٥ ، ح ١٤٦٢ ، الوسائل : ٢٦٧ الباب ١١ من أبواب لباس المصلي ، ح ٢.

١٩٢

وهو يوجب شبهة مانعيّة الحرير فيها ، فيرجع لنفيها إلى أصل البراءة.

ويرد عليه : أنّه يدفع الأوّل من وجهي الإشكال لا ثانيهما ، لوجود الأصل اللفظي وهو الإطلاق في لفظ العبادة المفروض عدم الإجمال فيه بالقياس إلى الشرائط والموانع ، ومعه لا اشتباه وهو رافع لموضوع أصل البراءة.

إلاّ أن يذبّ عن ذلك أيضا : بمنع الإطلاق وجواز التمسّك به حينئذ بعد فرض ثبوت الشرطيّة والمانعيّة في الجملة ، وإلاّ لزم إرادة الماهيّة المطلقة بالنسبة إلى مورد الشكّ مع إرادة الماهيّة المقيّدة بالنسبة إلى مورد اليقين في نحو لفظ « الصلاة » ، وهو من استعمال اللفظ في معنيين وليس بسائغ.

مع إمكان أن يقال : إنّ إجمال المقيّد ربّما يسري إلى المطلق ، كما أنّ إجمال المخصّص يسري إلى العامّ ، فيبقى المطلق بالقياس إلى مورد الشكّ مردّدا بين إرادة الماهيّة المقيّدة أو الماهيّة المطلقة فلا إطلاق فيه حينئذ [ حتّى ] يتمسّك به.

ويمنع لزوم الاستعمال في معنيين على التقدير الثاني بأنّ غاية ما ثبت بالأدلّة إنّما هو تقييد الماهيّة في لحاظ الجعل والاختراع ، وهو لا يلازم إرادة المقيّد في لحاظ الاستعمال ، كما هو الحال في موارد إطلاق الكلّي على الفرد.

فالإنصاف أنّ جعل الصلاة وغيرها من العبادات من موضوع المسألة على وجه يطّرد بالقياس إلى الشكّ في الجزء والشرط والمانع مبنيّ على القول بالصحيحة فيها.

وملخّص ما بيّنّاه من حكم المسألة : هو أنّ إجمال الدليل إن كان بحيث أوجب دوران المكلّف به بين تحقّقه بالأقلّ أو عدم تحقّقه إلاّ بالأكثر ، فلا محيص من الرجوع إلى أصل الاشتغال إحرازا لعنوان المكلّف به ، وإن كان بحيث أوجب دوران المكلّف به بين نفس الأقلّ أو هو مع الزيادة المشكوكة ، فلا حجر من الرجوع إلى أصل البراءة الحاكم دليله على أصل الاشتغال ، ومن أمثلته الصلاة وغيرها من العبادات إذا شكّ في جزئيّة شيء أو شرطيّته أو مانعيّته لها على الخلاف الواقع فيها من حيث الصحيحة (١) والأعمّ ، لكونها على الصحيحة من قبيل القسم الأوّل وعلى الأعمّ من قبيل القسم الثاني ، وذلك لأنّ التكليف المستفاد من قوله تعالى : ( أَقِيمُوا الصَّلاةَ )(٢) متعلّق بمسمّى اللفظ على القولين معا ، فلا بدّ في الحكم بالبراءة من إحراز المسمّى على القولين ، غير أنّه على القول بالأعمّ يكفي فيه

__________________

(١) وفي الأصل : « الصحّة » بدل « الصحيحة » والصواب ما أثبتناه في المتن.

(٢) البقرة : ٤٣ ، ٨٣ وغيرها.

١٩٣

الإتيان بالأقلّ بعد نفي الزيادة بأصل البراءة ، إذ الشكّ فيها جزءا أم شرطا أم مانعا لا يرجع إلى الشكّ في تحقّق المسمّى بدون الزيادة ، لصدق الاسم على الأقلّ معها وبدونها ، فكان قدرا متيقّنا ممّا تعلّق به التكليف ، ويبقى الشكّ في اعتبار الزائد وينفيه أصل البراءة ، بخلافه على القول بالصحيحة لرجوع الشكّ في الزيادة حينئذ إلى تحقّق المسمّى بدون الزائد ، فلا بدّ في إحرازه من الإتيان بالأكثر.

ومن مشايخنا من جزم بجريان أصل البراءة على هذا القول أيضا فقال : « إنّ وجوب الاحتياط في المجمل المردّد بين الأقلّ والأكثر ممنوع ، لأنّ المتيقّن من مدلول هذا الخطاب وجوب الأقلّ بالوجوب المردّد بين النفسي والمقدّمي ، فلا محيص عن الإتيان به لأنّ تركه مستلزم للعقاب ، وأمّا وجوب الأكثر فلم يعلم من هذا الخطاب فيبقى مشكوكا فيجيء فيه ما مرّ من الدليل العقلي والنقلي.

والحاصل أنّ مناط وجوب الاحتياط عدم جريان أدلّة البراءة في واحد معيّن من المحتملين ، لمعارضته بجريانها في المحتمل الآخر حتّى يخرج المسألة بذلك عن مورد البراءة ويجب الاحتياط فيها لأجل تردّد الواجب المستحقّ على تركه العقاب بين أمرين لا تعيّن لأحدهما انتهى (١) ».

ولعلّه قدس‌سره لحظ أنّ الخطاب في قوله تعالى : ( أَقِيمُوا الصَّلاةَ )(٢) وإن كان متعلّقا بمسمّى الصلاة المردّد بين تحقّقه بالأقلّ أو عدم تحقّقه إلاّ بالأكثر ، ولكن لمّا كان بيان مدخليّة المشكوك فيه في المسمّى واعتباره معه في لحاظ الاختراع والتسمية من وظيفة الشارع والمفروض عدمه ، فيقبح العقاب على المخالفة اللازمة من الإخلال به عند العقل مع الأدلّة النافية لمؤاخذة الجاهل لجهله.

ويشكل : بأنّ التكليف إنّما تعلّق بالصلاة وهي عنوان معيّن في الواقع مردّد في نظر المكلّف بين تحقّقه بالأقلّ أو عدم تحقّقه إلاّ بالأكثر ، وإحراز عنوان المأمور به والإتيان بما يصدق عليه اسمه ممّا استقلّ العقل بالحكم بوجوبه في الحكم بالبراءة وفراغ الذمّة ، فيجوز المؤاخذة على المخالفة على تقدير مدخليّة المشكوك فيه في الواقع في تحقّق أصل العنوان وصدق اسمه ، وردّ عذره بعدم العلم بجزئيّة المشكوك فيه أو شرطيّته أو مانعيّته بأنّك وإن لم تعلم بذلك إلاّ أنّك علمت بتعلّق التكليف بالصلاة ، وأنّه لا بدّ في الحكم بالبراءة من

__________________

(١) فرائد الاصول ٢ : ٣٤٠.

(٢) البقرة : ٤٣ ، ٨٣.

١٩٤

إحرازها والإتيان بما يصدق عليها اسمها على وجه يقطع به. مع إمكانه بمراعاة الإتيان بالمشكوك فيه ، فلا تكون أدلّة البراءة من العقل والشرع جارية في الواحد المعيّن وهو الأكثر رأسا ، ولا يلزم فيه كونه لأجل المعارضة بجريانها في المحتمل الآخر.

وأضعف ممّا ذكره قدسّ سرّه ما أفاده في دفع ما أورده على نفسه بأنّه إذا كان متعلّق الخطاب مجملا فقد تنجّز التكليف بمراد الشارع من اللفظ ، فيجب القطع بالإتيان بمراده ، واستحقّ العقاب على تركه مع وصف كونه مجملا وعدم القناعة باحتمال تحصيل المراد واحتمال الخروج عن استحقاق العذاب ، فقال : « قلت : التكليف ليس متعلّقا بمفهوم المراد من اللفظ ومدلوله حتّى يكون من قبيل التكليف بالمفهوم المبيّن المشتبه مصداقه بين أمرين حتّى يجب الاحتياط فيه ـ إلى أن قال ـ : وإنّما هو متعلّق بمصداق المراد والمدلول ، لأنّه الموضوع له اللفظ والمستعمل فيه ، واتّصافه بمفهوم المراد والمدلول بعد الوضع والاستعمال ، فنفس متعلّق التكليف مردّد بين الأقلّ والأكثر لا مصداقه. ونظير هذا التوهّم أنّه إذا كان اللفظ في العبادات موضوعا للصحيح والصحيح مردّد بين الأقلّ والأكثر فيجب فيه الاحتياط ، ويندفع بأنّه خلط بين الوضع للمفهوم والمصداق فافهم (١) ».

وفيه : أنّ اللفظ في العبادات كالصلاة وإن كان لمصداق الصحيح لا مفهومه ، ولكنّ المصداق إنّما تعلّق به التكليف بعنوان أنّه مسمّى اللفظ ، فلا بدّ من إحرازه ليتّجه الحكم بالبراءة الرافعة للعقاب والمؤاخذة.

وبالجملة المكلّف به هو الصلاة ، ولا يقطع بالبراءة إلاّ بإحراز ما يصدق عليه الصلاة ، ولا يكون إلاّ بالاحتياط والإتيان بالأكثر.

الصورة الثالثة : ما لو كانت الشبهة الحكميّة في دوران المكلّف بين الأقلّ والأكثر ، فاشتبه عن تعارض نصّين متكافئين في جزئيّة شيء لشيء ، كأن يدلّ أحدهما على جزئيّة السورة للصلاة ونفاها الآخر ، وتحقيق حكمه موكول إلى باب التعادل ، فعلى القول بالتخيير يتبع المختار وإن خالف الأصل براءة أو اشتغالا ، وعلى القول بالتساقط أو التوقّف والرجوع إلى الأصل يبنى الرجوع إلى أحد الأصلين في العبادات على الخلاف فيها من حيث الصحّة والأعمّ حسبما بيّنّاه ، وفي غيرها تعيّن الرجوع إلى أصل البراءة النافية لاحتمال الجزئيّة أو الشرطيّة أو المانعيّة.

__________________

(١) فرائد الاصول ٢ : ٣٤١.

١٩٥

ومن الأعلام من يظهر منه في بحث المطلق والمقيّد تبعا للعلاّمة في التهذيب مرجعيّة أصل الاشتغال ، حيث إنّه بعد الكلام في وجوب حمل المطلق في قوله : « أعتق رقبة » على المقيّد في قوله : « أعتق رقبة مؤمنة » وترجيح المجاز في المطلق بإرادة المقيّد على المجاز في المقيّد بإرادة الاستحباب ، قال : « ولئن سلّمنا تساوي الاحتمالين ، فنقول : إنّ البراءة اليقينيّة لا تحصل إلاّ بالعمل بالمقيّد كما ذكره العلاّمة في النهاية (١) ».

ثمّ دفع اعتراض سلطان العلماء بأنّه لم يحصل العلم بشغل الذمّة مع احتمال إرادة المجاز من المقيّد حتّى يجب تحصيل اليقين بالبراءة عنه ، فلا وجه لوجوب العمل به ، بقوله : « إنّ المكلّف به حينئذ هو القدر المشترك بين كونه نفس المقيّد أو المطلق ، ونعلم أنّا مكلّفون بأحدهما ، فاشتغال الذمّة إنّما هو بالمجمل ولا يحصل البراءة منه إلاّ بالإتيان بالمقيّد ، وإنّما يتمّ كلام المعترض لو سلّمنا أنّا مكلّفون بعتق رقبة مّا ، ولكن لا نعلم هل يشترط الإيمان أم لا؟ فحينئذ يمكن نفيه بأصل البراءة وليس كذلك ، بل نقول بعد تعارض المجازين وتصادم الاحتمالين يبقى الشكّ في أنّ المكلّف به هل هو المطلق أو المقيّد؟ وليس هنا قدر مشترك يقيني يحكم بنفي الزائد عنه بالأصل ، لأنّ الجنس الموجود في ضمن المقيّد لا ينفكّ عن الفصل فلا تفارق بينهما » (٢) انتهى.

وفيه : أنّ مقابلة المقيّد للمطلق بعد البناء على تساوي الاحتمالين لم تؤثّر إلاّ في إجمال المطلق ، لدورانه حينئذ بين إرادة الماهيّة لا بشرط أو الماهيّة بشرط شيء ، وهذا يوجب الانقطاع عن الأصل اللفظي وهو الإطلاق ، لا الانقطاع عن الأصل العملي وهو أصل البراءة ، لتيقّن التكليف بعتق رقبة مّا ورجوع الشكّ إلى اشتراطها بالإيمان ، ودوران المكلّف به بين المطلق والمقيّد لا ينفي تعلّق التكليف بعتق رقبة مّا ، وهو القدر المشترك اليقيني الّذي لا يمكن نفيه بالأصل ، بخلاف اشتراطها بالإيمان الّذي يمكن نفيه بالأصل السليم عن المعارض.

الصورة الرابعة : فيما لو كانت الشبهة في دوران المكلّف به بين الأقلّ والأكثر باعتبار الشكّ في الجزئيّة أو الشرطيّة موضوعيّة ، وقد تقدّم بيان حكمها بكلا قسميها من الاستقلاليّين والارتباطيّين في ذيل الصورة الاولى من دوران المكلّف به بين المتبائنين ، ولا حاجة إلى الإعادة.

ثمّ إنّ في المقام امورا مهمّة متعلّقة بالجزء والشرط والمانع وينبغي التعرّض لها.

__________________

(١) القوانين ١ : ٣٢٥.

(٢) القوانين ١ : ٣٢٥ ـ ٣٢٦.

١٩٦

الأمر الأوّل : إذا ثبت جزئيّة شيء للعبادة وشكّ في ركنيّته فهل الأصل كونه ركنا أو كونه غير ركن ،أو الأصل هو التفكيك بين أحكام الركن بإثبات بعضها ونفي الآخر؟ احتمالات.

وليعلم أنّ الركن ليس من الموضوعات اللغويّة ولا العرفيّة ليرجع في استعلام حاله في محلّ الشكّ إلى العرف واللغة ، ولا أنّه من الموضوعات الشرعيّة الثابت فيها الوضع ليرجع في معرفة حاله عند الشكّ إلى الشارع ، ولم يوجد له أثر في الأخبار المأثورة عن أهل العصمة ليرجع لمعرفته إلى عرف زمان صدور هذه الأخبار ، بل هو اصطلاح محدث للفقهاء منشؤه ثبوت الفرق من الأدلّة بين أجزاء بعض العبادات في الأحكام من بطلان العبادة بنقصه سهوا وعدم بطلانها كذلك ، وبطلانها بزيادته عمدا وعدم بطلانها بزيادته كذلك ، وبطلانها بزيادته سهوا وعدم بطلانها كذلك ، ولذا عرّف الركن : « بأنّه ما تبطل العبادة بنقصه عمدا أو سهوا » تعريفا للشيء بأحكامه ، وقد يضاف إليه الزيادة فيقال : « ما تبطل العبادة بنقصه أو زيادته عمدا أو سهوا » ويقابله غير الركن وهي ما لا تبطل العبادة بنقصه سهوا أو نقصه وزيادته عمدا أو سهوا.

فلا بدّ في تأسيس الأصل من التكلّم في أصالة هذه الأحكام ما عدا بطلانها بنقص الجزء عمدا ، فإنّ ثبوت هذا الحكم للجزء من القضايا الّتي قياساتها معها ، لأنّه لو لم يكن نقصه عمدا مبطلا لم يكن في صورة السهو أيضا مبطلا بطريق أولى ، فخرج عن كونه جزءا ويبطله دليل الخلف ، ولذا كان ذلك الحكم ما به الاشتراك بين الركن وغيره فلا حاجة إلى التكلّم في إثباته ، وإنّما المحتاج إليه الأحكام الثلاث الباقية ، وهو يتمّ في طيّ مسائل ثلاث :

المسألة الاولى : إنّ قضيّة الأصل العقلي الّذي لا محيص عنه بطلان العبادة المركّبة بنقص جزئها سهوا إلاّ أن يقوم على صحّته دليل خصوصا أو عموما ، وذلك إذ قد بيّنّا في غير موضع أنّ المركّب ليس له وجود مغاير لوجودات أجزائه ، بل وجوده عين مجموع وجودات أجزائه ، فإذا أمر به كان الغرض منه إيجاده الّذي هو عين مجموع إيجادات أجزائه الّتي منها إيجاد هذا الجزء المبحوث عنه ، فيكون مطلوبا بمطلوبيّة إيجاد المركّب ، فإذا انتفى عمدا أو سهوا عمّا بين إيجادات سائر الأجزاء لم يكن المأمور به ، حاصلا ولا الحاصل مأمورا به ولا نعني من البطلان بنقص الجزء سهوا إلاّ هذا.

وربّما يتوهّم ابتناء المسألة على مسألة الإجزاء ، فعلى القول باقتضاء الأمر للإجزاء ولو ظاهريّا شرعيّا أو عقليّا اتّجه القول بأصالة عدم البطلان.

١٩٧

ويندفع : بفساد المبنى ومنع الابتناء ، أمّا الأوّل : فلما حقّقناه من عدم اقتضاء الأمر الظاهري العقلي الإجزاء مطلقا وكذلك الظاهري الشرعي إلاّ في بعض الصور ، وليس المقام من قبيله.

وأمّا الثاني فلعدم اندراج محلّ البحث في عنوان مسألة الإجزاء لأنّ الإجزاء فرع على الامتثال ، وهو موقوف على وجود الأمر ، والأمر المفروض في المقام إمّا واقعي ، أو ظاهري شرعي ، أو ظاهري عقلي ، والكلّ منتف.

أمّا الأوّل : فلأنّ الأمر العقلي إنّما ورد بالمركّب التامّ الأجزاء ، ومفروض المقام نقصان بعض الأجزاء.

وأمّا الثاني فلأنّ الأمر الظاهري الشرعي لا بدّ وأن يستفاد من خطاب الشرع وهو غير معقول مع فرض السهو والنسيان ، فإنّ الأعذار الطارئة للإنسان على قسمين :

أحدهما : ما يمنع من الطلب التخييري ولا يمنع من أصل الخطاب ولو بنحو التعليق كالعجز والمرض ، إذ لا يقبح مخاطبة العاجز والمريض بأنّه : « إن قدرت على فعل كذا فافعله وإلاّ فلا شيء عليك » ، وإنّما يقبح توجيه الطلب إليهما منجّزا.

وثانيهما : ما يمنع أصل الخطاب فضلا عن الطلب كالغفلة والنوم والصبا والجنون ، فإنّ فهم الخطاب موقوف على الشعور ، ومخاطبة هؤلاء قبيحة عقلا لعدم الشعور لهم ، ولا ريب أنّ السهو والنسيان من هذا القبيل ، فإنّ الساهي حال السهو والناسي حال النسيان لا يلتفت إلى كونه ساهيا أو ناسيا ، فيقبح أن يخاطبه الشارع بايجاب ما عدا الجزء المنسيّ من أجزاء المركّب لينعقد به الأمر الظاهري الّذي موضوعه الساهي والناسي ، ضرورة قبح أن يقول الشارع : « أيّها الساهي والناسي أنت مأمور بغير ما سهوت أو بما عدا ما نسيت ».

فإن قلت : انعقاد الأمر الظاهري بالقياس إليه لا يقتضي خطابا ، لجواز أن يلاحظه الشارع بوصف السهو والنسيان ويجعل له بهذا الاعتبار حكما ظاهريّا أدركه العقل وهو وجوب الاتيان بالمركّب الناقص ، كما أنّه لاحظ الشاكّ في الجزئيّة أو الشرطيّة مثلا وجعل له حكما ظاهريّا أدركه العقل ، وهو وجوب الاتيان بالأكثر على القول بالاحتياط ، أو جواز الاقتصار على الأقلّ على القول بالبراءة.

قلت : جعل نحو هذا الحكم أيضا قبيح ، إذ الحكم التكليفي المجعول لموضوع لا يتوجّه إلى المكلّف إلاّ إذا اندرج في ذلك الموضوع والتفت إلى اندراجه فيه لئلاّ يلزم تكليف الغافل ، والتفات الساهي والناسي إلى سهوه ونسيانه حال الفعل محال وإلاّ لم يكن ساهيا

١٩٨

وناسيا ، والتنبّه بعد الفعل لا يجدي في توجّه الحكم المذكور إليه ، لانقضاء زمان العمل به فيكون جعله لغوا.

ومقايسة المقام على الشاكّ باطلة ، إذ الشاكّ حال الشكّ وفي زمان الفعل وقبله ملتفت إلى كونه شاكّا ، فيتوجّه إليه الحكم المجعول له ويعمل بمقتضاه.

وأمّا الثالث : فلاستحالة مخاطبة العقل المكلّف الناسي حال النسيان بإنشاء حكم مختصّ به ، وهو وجوب ما عدا الجزء المنسيّ عليه ، فإنّه حال النسيان غير ملتفت إلى نسيانه ليخاطبه عقله بذلك الحكم وإلاّ لم يكن ناسيا ، وإن اريد بالعقل نوعه لا خصوص عقل الناسي حال النسيان ، فغاية ما يسلّم منه إنّما هو حكمه بنفي تكليف الناسي بالجزء المنسيّ ونفي العقاب على مخالفة الواقع الحاصلة له بسبب نسيانه ، لا إثبات تكليفه بما يأتي به من المركّب الناقص ، والفرق بينهما واضح.

لا يقال : إنّ الناسي حال النسيان يأتي بما عدا الجزء المنسيّ باعتقاد أنّه المأمور به في حقّه ، والعقل أيضا يخاطبه بالعمل بموجب اعتقاده بقوله : « اعمل بمعتقدك » وهذا هو الأمر العقلي المقتضي امتثاله للإجزاء.

لأنّا نقول : إنّ الناسي لذهوله عن نسيانه إنّما يأتي بالمأتيّ به باعتقاد أنّه المركّب التامّ وهو المأمور به في حقّه ، لا أنّه يعتقد نقصانه وهو بوصف النقصان مأمور به في حقّه ، وحكم العقل بالعمل بالمعتقد الزام له بالعمل به على أنّه المركّب التامّ وهو المأمور به الواقعي في حقّه ، لا على أنّه مركّب ناقص وهو مأمور به في حقّه في تلك الحال ، فإذا انكشف النقصان بعد التنبّه والتذكّر تبيّن أنّ المأمور به بذلك الأمر العقلي الّذي هو إرشاديّ محض غير حاصل ، والحاصل غير مأمور به بذلك الأمر العقلي ، كما أنّه غير مأمور به بالأمر الشرعي الواقعي.

نعم لو قيل بابتناء المسألة على كون حالة السهو والنسيان من الوجوه المغيّرة للواقع الموجب تبدّلها لتبدّل الأحكام الواقعيّة واختلافها كان له وجه ، إلاّ أنّه أيضا فاسد بفساد المبنى ، لعدم تبدّل الأحكام بتبدّل الذكر والنسيان ، كما أنّه لا تتبدّل بتبدّل العلم والجهل ، كيف فلو كان النسيان من الوجوه المغيّرة فالجهل أولى بكونه منها كما هو واضح ، ولقد منعناه في محلّه في الجهل وبرهنّا على امتناعه ، فكذلك في النسيان بل هو أولى بالمنع كما لا يخفى ، وقضيّة ذلك كون الجزء جزءا في كلّ من حالتي التذكّر والنسيان ، فلا محيص من

١٩٩

التزام أصالة البطلان بالنقصان ولو سهوا أو نسيانا.

فإن قلت : إن لم ندّع الدليل على عدم جزئيّة الجزء في حالة السهو والنسيان فلا أقلّ من عدم الدليل على جزئيّته فيها ، إذ القدر المتيقّن منها إنّما هي في حال التذكّر ، خصوصا إذا استفيدت من إجماع أو خطاب تكليف مختصّ بالمتذكّر الشاعر ، كقوله : « أقرأ الفاتحة في الصلاة » أو « أقرأ السورة فيها » مثلا ، فغاية ما هنالك كونها في حالة النسيان مشكوكة ، فيرجع إلى أصالة البراءة على ما اخترته في مسألة الشكّ في الجزئيّة والشرطيّة.

قلت : أصل البراءة بالنسبة إلى الناسي ممّا لا محصّل له ، لأنّه بموجب دليله من العقل والنقل أصل موضوعه الشكّ ومؤدّاه نفي التكليف الإلزامي أو نفي الآثار المترتّبة عليه من المؤاخذة واستحقاق العقوبة ، والناسي إذا لم يلتفت إلى نسيانه فكيف يفرض له الشكّ في الجزئيّة حتّى يستعمل أصل البراءة.

وأيضا فإنّ العقل مستقلّ بقبح العقاب على المخالفة المستندة إلى النسيان لخروجه عن الاختيار ، ومعه لا يحتاج إلى إعمال البراءة ، وهو مع ذلك لا ينافي البطلان في نفس الأمر ، ويظهر فائدته بعد التنبّه في الوقت أو في خارجه في وجوب التدارك إعادة وقضاءا.

فإن قلت : نعم ولكن أصل البراءة يجري بعد التنبّه لنفي الإعادة والقضاء ، لأنّ الشكّ في الجزئيّة الموجبة للبطلان يرجع إلى الشكّ في التكليف بهما ، والأصل براءة الذمّة عنه وعن العقاب المحتمل ترتّبه على تركهما.

قلت : أصل البراءة بالقياس إلى ما بعد التنبّه أيضا ممّا لا مجرى له لنفي الإعادة والقضاء ، إمّا لما قيل : من أنّه أصل من شأنه نفي الحكم التكليفي أو الآثار المترتّبة على الحكم التكليفي من المؤاخذة واستحقاق العقوبة ونحوها ، وليس من شأنه نفي الحكم الوضعي ولا الآثار المترتّبة عليه.

ولا ريب أنّ وجوب الإعادة والقضاء من آثار الحكم الوضعي ، وهو جزئيّة الجزء المبحوث عنه في حالة النسيان ، وكما أنّه لا يصلح لنفي الجزئيّة فكذلك لا يصلح لنفي الآثار المترتّبة عليها ، فإعماله لنفي وجوب الإعادة والقضاء غير صحيح.

أو لأنّ من شروط جريانه أن لا يكون في المورد أصل موضوعي رافع للشكّ وارد عليه لرفعه الشكّ المأخوذ في موضوعه ، وفي المقام بالنسبة إلى كلّ من الإعادة والقضاء أصل موضوعي وارد على أصل البراءة.

٢٠٠