تعليقة على معالم الاصول - ج ٦

السيّد علي الموسوي القزويني

تعليقة على معالم الاصول - ج ٦

المؤلف:

السيّد علي الموسوي القزويني


المحقق: السيد علي العلوي القزويني
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
المطبعة: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ١
ISBN: 964-470-559-9
الصفحات: ٤٨٦

موضع مخالفة الحكم الظاهري المجعول له على وجه يستند هذه الامور إلى الشارع ، بل هو فوات لمصلحة الترك ووقوع في مفسدة الفعل ، وعدم حصول لغرض الشارع مستند إلى جهل المكلّف مع عدم كونه مقصّرا في جهله ، ولذا كان الجهل عذرا في نظر العقل سواء رجع مفاد الجعل المذكور بالنسبة إلى الجاهل إلى بدليّة الحكم الظاهري عن الحكم الواقعي ، أو إلى طريقيّة الطرق الظاهريّة إلى الحكم الواقعي ، مع تطرّق المنع إلى لزوم هذه الامور بلا بدل بعد الالتزام بلزوم مراعاة الجاعل في البدل مصلحة يتدارك بها ما فات من مصلحة المبدل ، أو ما وقع فيه المكلّف من مفسدة مخالفة الواقع ، أو مراعاته في سلوك الطريق المجعول مصلحة يتدارك بها ما فات من مصلحة الواقع كما قرّر في محلّه.

وبذلك يندفع السؤال عن أنّه إذا بنى على جعل الحكم الظاهري كان وجوب الاحتياط أولى بأن يجعل حكما ظاهريّا للجاهل بالحكم الواقعي ، لما في سلوك الاحتياط من عدم فوات مصلحة الواقع أصلا وعدم الوقوع في مفسدة مخالفته رأسا.

لأنّ استدراك مثل المصلحة قائم مقام استدراك نفس المصلحة ، وبه يرتفع حزازة فوات نفس المصلحة. مع ما في الإلزام على سلوك الاحتياط من إيقاع المكلّف في المشقّة ، وكونه طريقا لا يرغب فيه أكثر النفوس لما فيه من المشقّة ، فيلزم من جعله طريقا أو الإلزام به كون ما يفسده أكثر ممّا يصلحه ، بخلاف جعل طريق يتضمّن سلوكه مصلحة يتدارك بها المصلحة الفائتة مع كونه ممّا يرغب إلى سلوكه جميع النفوس ، ولا يصحّ جعل نحوه للعالم بالإجمال ، لأنّ البدل الاضطراري إنّما يصحّ بدليّته عند تعذّر المبدل ، وهو غير متعذّر في حقّ العالم بالإجمال ، لمكان علمه وانكشاف الواقع له على وجه يتمكّن من الخروج عن عهدته ، وبعد اتّفاق طريق العلم له لا حاجة له إلى جعل طريق ظاهري يقوم مقامه ، ولذا كان ترخيصه في الارتكاب إذنا له في المخالفة القبيحة فيقبح صدوره من الشارع الحكيم.

فإن قلت : قد ذكرت أنّ الإذن في المخالفة إنّما يقبح على الحكيم إذا كان المأذون فيه مخالفة في نظر المكلّف لا مطلقا ، وإنّما يكون كذلك حيث علم المكلّف بتحقّق المخالفة حين الارتكاب ، سواء كان الارتكاب بنفسه مخالفة أو متضمّنا لها لا محالة ، وهذا إنّما يلزم في الشبهة المحصورة في صورة ارتكاب جميع أفراد المشتبه دفعة واحدة ، وأمّا في صورة ارتكابها على التدريج فلا ، لأنّ المكلّف عند كلّ ارتكاب لا يعلم كونه بالخصوص مخالفة.

١٢١

نعم بعد جميع الارتكابات يحصل له العلم بتحقّق المخالفة في بعضها ، فلا قبح في إذن الشارع في هذه الارتكابات.

وبالجملة : القبيح إنّما هو الإذن في المخالفة الحاصلة حين الارتكاب مع علم المكلّف بها حينه ، لا المخالفة اللازمة من التدريج مع علم المكلّف بحصولها في ارتكاب لا يعلمه بالخصوص وأنّه الارتكاب الأوّل أو الأخير أو المتوسّط بينهما.

قلت : إنّ المكلّف لعلمه الإجمالي بوجود الحرام المنجّز ـ لتوجّه الخطاب إليه باجتنابه ـ يعلم من حين الارتكاب الأوّل بكون أحد هذه الارتكابات مخالفة ، وهذه المخالفة المعلومة المردّدة أيضا قبيحة عقلا ، فيقبح على الشارع تجويزها ، فهو لبنائه من حين الشروع في الارتكاب الأوّل على جميع الارتكابات المتدرّجة مقدم على المخالفة القبيحة ، فإذن الشارع في كلّ ارتكاب يوجب الإذن في القبيح العقلي أيضا.

سلّمنا أنّه ربّما لا يعزم ابتداء إلاّ على الارتكاب الأوّل ثمّ يبدو له بعده الارتكاب الآخر وهكذا إلى آخر الارتكابات.

لكنّا نقول : إنّه كما يقبح إذن الشارع في ارتكاب القبيح العقلي ، فكذلك يقبح إذنه في فعل ما حكم العقل بتعيّن تركه وفي ترك ما حكم العقل بتعيّن فعله ، وستعرف أنّ العقل لمقدّمة الخروج عن عهدة الخطاب الفعلي بالاجتناب على وجه اليقين يحكم بتعيّن الاجتناب عن كلّ فرد من أفراد المشتبه.

فإن قلت : لو قبح مخالفة العلم الإجمالي وقبح من الشارع الإذن فيها لم يقع في الشرع كثيرا ، وقد وقع في مواضع عديدة.

منها : في مسألة ما لو أقرّ بمال معيّن لزيد ثمّ أقرّ به أيضا لعمرو ، فإنّ الحاكم يأخذ المال لزيد وقيمته لعمرو ، وأذن فيه الشارع أيضا مع علمه بأنّ أحدهما أخذ للمال بالباطل.

ومنها : أنّه لثالث أن يأخذ المال من يد زيد وقيمته من يد عمرو ويتصرّف فيهما معا ، وأذن فيه الشارع مع علمه بأنّ أحد الأخذين تصرّف في مال الغير بغير إذنه.

ومنها : مسألة ما لو قال : « هذا لزيد ، بل لعمرو بل لخالد » فإنّ الحاكم يلزمه لكلّ من عمرو وخالد بتمام القيمة ، مع علمه بعدم اشتغال ذمّته في الواقع بكلّ من العين والقيمتين.

ومنها : ما لو تداعيا في عين فحكم الحاكم بالتنصيف بينهما مع علمه بعدم كونها إلاّ لأحدهما.

ومنها : ما لو كان لأحد الودعيين درهم ولآخر درهمان فتلف أحد الدراهم عند

١٢٢

الودعي ، فإنّه يقسّم أحد الدرهمين الباقيين بين المالكين ، مع العلم بأنّ دفع أحد النصفين إلى أحدهما دفع للمال إلى غير صاحبه.

ومنها : ما لو اختلف المتبايعان في الثمن أو المثمن على وجه انجرّ أمرهما إلى التحالف الموجب لا نفساخ العقد ، فإنّه يلزم بذلك مخالفة العلم الإجمالي بل العلم التفصيلي في بعض الفروض ، كما لو جمع العالم بالإجمال بين التصرّف في كلا فردي المتنازع فيه مع شهادة القرائن بعدم رضاء كليهما بذلك التصرّف ، إلى غير ذلك ممّا لا يخفى على المتتبّع.

قلت : مرجع هذا السؤال إلى نقض قاعدة حرمة مخالفة العلم الإجمالي بالموارد المذكورة ونظائرها ، ويدفعه : منبع صغرى مخالفة العلم الإجمالي في جملة منها ، ومنع كبراها في اخرى.

أمّا الأوّل : ففي أمثلة الإقرار والمثال الأخير ، فإنّ عموم إقرار العقلاء على أنفسهم جائز يقتضي لزوم العمل بكلّ ما يصدق عليه أنّه إقرار ، والإقرار ممّا يقتضي ملكيّة المقرّ به للمقرّ له فوجب العمل به مهما أمكن ، وقد صدر من العاقل في المثال الأوّل إقراران في مال شخصي لزيد وعمرو وهذا المال بمقتضى إقراره الأوّل صار مستحقّا لزيد ويستحيل أن يكون مع ذلك مستحقّا لعمرو أيضا ، فينهض ذلك قرينة على إرادته الإقرار بقيمة المال وإن ذكر في العبارة عينه.

أو يقال : إنّ أفراد العامّ متساوي النسبة إلى العامّ فيجب العمل بالجميع بإجراء حكم العامّ عليه بقدر الإمكان ولو في بعض الوجوه ، وهذان الإقراران فردان من عموم إقرار العقلاء ، والعمل بهما معا في عين المال وإن كان لا يمكن إلاّ أنّه في العين والقيمة ممكن فيجب إنفاذ الأوّل في العين وإنفاذ الثاني في القيمة عملا بالعموم ، وتخصيص العين بزيد لسبق الإقرار له على الإقرار لعمرو ، فلا يبقى له محلّ إلاّ القيمة ، فالأخذ بكلّ منهما أخذ للمال بالحقّ ، وتصرّف كلّ من زيد وعمرو فيما يصل إليه تصرّف في ملكه عملا بمقتضى الإقرار ، فلا مخالفة في شيء من ذلك لعلم تفصيلي ولا إجمالي.

ومن هنا يظهر وجه عدم المخالفة في الثالث الآخذ لما في يد زيد وما في يد عمرو بابتياع أو استعارة أو نحو ذلك وتصرّفه فيهما معا ، فإنّه على الأوّل تصرّف في ملكه ، وعلى الثاني تصرّف في مال الغير بإذن صاحبه. كما يظهر الوجه في المثال الثالث ، فإنّ لفظة « بل » فيه إمّا عاطفة مفيدة للتشريك في الإقرار فينحلّ الكلام إلى أقارير ثلاث ، ينفذ أوّلها في العين والآخران في قيمتين لأحد الوجهين المتقدّمين ، أو للإضراب فتفيد نفي الحكم عن

١٢٣

السابق وإثباته للاّحق فيلغى نفيه لكونه إنكارا بعد الإقرار ، ويؤخذ بإثباته فيكون إقرارا آخر ولا محلّ له إلاّ القيمة فيحمل عليها لأحد الوجهين أيضا.

وفي المثال الأخير لمّا انجرّ الأمر إلى التحالف وحلف كلّ من المتبايعين يقتضي وقوع العقد على ما وقع عليه الحلف ، ولا يمكن العمل بهما معا والترجيح بلا مرجّح غير جائز ، ولا بدّ من رفع التنازع ولا مناص له إلاّ الحكم بانفساخ العقد ، فهو انفساخ من الشارع ، ولازمه عود كلّ من المبيع والثمن إلى مالكه الأوّل ، فتصرّف البايع فيما عاد إليه وتصرّف المشتري أيضا فيما عاد إليه أيضا تصرّف في ملكه ، وليس فيه مخالفة لعلم تفصيلي ولا إجمالي.

وأمّا الثاني : ففي مسألة تنصيف الدرهم وتنصيف العين المتنازع فيها ، فإنّ العلم الإجمالي إنّما لا يجوز مخالفته ويقبح إذن الشارع في مخالفته حيث أوجب تنجّز التكليف وتوجّه الخطاب بالاجتناب بالفعل ، وإنّما يكون كذلك ـ على ما أشرنا إليه سابقا ـ حيث أمكن العمل به بإمكان الامتثال إذا كان في الموضوع ، وهو في المسألتين ونظائرهما ممّا لا يمكن العمل به ، فلا ضير في مخالفته ولا قبح في الإذن فيها أيضا.

وتوهّم أنّ التصرّف في أحد النصفين تصرّف في مال الغير ، يدفعه : أنّ حكم الحاكم لمّا كان رفعا لذات البين فحكمه بالتنصيف يجري مجرى الصلح ، فهو صلح إلزامي من الشارع.

وإن شئت قلت : إنّه صلح قهري والصلح من النواقل والمملّكات ، فالنصف الصائر إلى أحد المترافعين الّذي ليس له ذلك في الواقع صار ملكا له في الظاهر بمقتضى هذا الصلح.

غاية الأمر كونه ملكا ظاهريّا ، فتصرّفه فيه تصرّف في ملكه ويجوز له سائر التصرّفات الناقلة وغيرها.

وعلى هذا القياس جميع ما يرد عليك من الأمثلة ممّا توهّم كونه نقضا للقاعدة ، فإنّ الضابط في منع الجميع أحد الأمرين من منع صغرى المخالفة للعلم الإجمالي أو منع كبراها ، فليتدبّر.

ولا فرق في قبح المخالفة القطعيّة وحرمتها عقلا وشرعا بين ما لو كان المعلوم بالإجمال فردا من عنوان محرّم واحد كالخمر ، أو فردا مردّدا بين عنوانين محرّمين كالخمر والعصير العنبي بعد الغليان ، خلافا لما عن صاحب الحدائق (١) من الفرق بينهما في الشبهة فأوجب الاجتناب في الفرد من الخمر دون الفرد المردّد بين الخمر والمغصوب أو العصير.

__________________

(١) الحدائق ١ : ٥١٧.

١٢٤

وهذا مع عدم وضوح وجه له واضح البطلان ، لعدم تعقّل الفرق في حكم العقل بين الصورتين ، فإنّ قبح مخالفة العلم الإجمالي إنّما هو لقبح مخالفة الخطاب المتوجّه إلى المكلّف فعلا ، ولا يتفاوت الحال فيه بين كون الخطاب معلوما بالتفصيل أو بالإجمال.

ألا ترى أنّه لو فرض إناء واحد مردّد بين كونه من الخمر أو من العصير المغصوب وجب الاجتناب عنه ، لكونه مخالفة لأحد الخطابين من قوله : « اجتنب عن الخمر » و « اجتنب عن المغصوب » وإذا فرض أنّه اشتبه بإناء خلّ مباح فهو على وجوب اجتنابه السابق.

وبجميع ما قرّرناه تبيّن بطلان القول بجواز ارتكاب الجميع في الشبهة المحصورة مطلقا ، وبطلان دليله وهو على ما وقفنا عليه وجهان :

أحدهما : أنّ المعلوم بالإجمال غير مشمول لأدلّة تحريم المحرّمات ، إمّا لكون الألفاظ وضعا للمعلومات بالتفصيل أو لانصرافها في حيّز الخطاب إليها.

وثانيهما : عمومات أصل البراءة الّتي عمدتها قوله عليه‌السلام : « كلّ شيء فيه حلال وحرام ... » (١) إلى آخره ، وقد عرفت ما فيهما بما لا مزيد عليه.

وتبيّن أيضا بطلان القول بجواز الارتكاب تدريجا فقط ، مع عدم وضوح وجه له يعتمد عليه ، إلاّ توهّم أنّ المسلّم من حرمة المخالفة القطعيّة هو ما يتحقّق حين الارتكاب لا ما يحصل العلم به بعد الارتكاب ، فيرجع في كلّ ارتكاب إلى الأصل المستفاد من العمومات ، وقد عرفت بطلان الفرق بينهما في نظر العقل ومنع شمول أدلّة الأصل لما نحن فيه ، هذا كلّه في منع المخالفة القطعيّة للعلم الإجمالي مطلقا المقتضي لعدم ارتكاب الجميع مطلقا.

وبقي الكلام في وجوب الاجتناب عن الجميع المتضمّن لوجوب الموافقة القطعيّة للعلم الإجمالي كما هو المشهور ، على ما حكاه بعض مشايخنا (٢) ناسبا إلى المدارك (٣) كونه مقطوعا به في كلام الأصحاب ، وإلى المحقّق البهبهاني في الفوائد (٤) نسبته إلى الأصحاب ، وإلى المحقّق الكاظمي في شرح الوافية (٥) دعوى الإجماع عليه صريحا.

لنا على ذلك : وجهان تقدّم الإشارة إليهما :

أحدهما : أنّ العقل الحاكم بكفاية العلم الإجمالي في توجّه الخطاب يجوّز العقاب على

__________________

(١) الوسائل ١٢ : ٥٩ الباب ٤ من أبواب ما يكتسب به ، الحديث الأوّل.

(٢) فرائد الاصول ٢ : ٢١٠.

(٣) المدارك ١ : ١٠٧.

(٤) الفوائد الحائريّة : ٢٤٨.

(٥) الوافي في شرح الوافية ( مخطوط ) ، الورقة : ٢١٠.

١٢٥

مخالفة المعلوم بالإجمال ، ففي كلّ ارتكاب لاحتمال كونه المعلوم بالإجمال يحتمل ترتّب العقاب المقطوع به عليه ، وهو احتمال للضرر الاخروي فيجب دفعه باستقلال من العقل ، ولا يتأتّى إلاّ بالاجتناب.

وتوهّم أنّه يلزم على ذلك أن لا يكون لأصل البراءة مورد حتّى الجاهل بالحكم أو الموضوع في الشبهة الحكميّة أو الموضوعيّة لقيام احتمال العقاب في الجميع.

يدفعه : وضوح الفرق بين الجاهل والعالم بالإجمال ، فإنّ الأوّل يؤمنّه العقل المستقلّ بقبح التكليف بلا بيان ، والمؤاخذة على مخالفة ما لا سبيل للمكلّف إلى معرفته وامتثاله عن الضرر ، بخلاف الثاني.

وبالجملة وجوب دفع الضرر المحتمل حكم عقلي موضوعه احتمال الضرر ، وقبح عقاب الجاهل على مخالفة الواقع لجهله أيضا حكم عقلي وارد على الأوّل رافع لموضوعه ، وهذا في العالم بالإجمال ممّا لا وارد عليه في حكم العقل ، لما عرفت من تجويزه العقاب على المخالفة ، فيبقى حكمه بوجوب دفع الضرر المحتمل على حاله لتحقّق موضوعه.

وثانيهما : أنّ الخطاب بالاجتناب عن الحرام الواقعي المعلوم بالإجمال يقتضي الخروج عن العهدة على وجه اليقين ، وهو لا يتأتّى إلاّ بالاجتناب عن الجميع ، فيجب مقدّمة.

والمناقشة فيه إمّا بإنكار وجوب ذي المقدّمة أو بإنكار وجوب المقدّمة. ويندفع الأوّل بأنّا قد فرغنا عن إثبات وجوب الاجتناب عن المعلوم بالإجمال ، والثاني بما تقرّر في محلّه من وجوب مقدّمة الواجب ولو علميّه بل قيل لا خلاف في وجوب المقدّمة العلميّة.

ويؤيّد المختار امور :

منها : الشهرة المحقّقة المعتضدة بما عرفت من الشهرة المحكيّة والإجماعات المنقولة ، وهذا عند التحقيق دليل مستقلّ على المطلب لكفاية نحوه في المسألة ، لكونها في أصل وضعها فرعيّة تذكر في الاصول تأسيسا للقاعدة الكلّيّة.

ومنها : عدّة روايات غير نقيّة الأسانيد بمضمونها إمّا خاصّة بالشبهة المحصورة أو عامّة لها أيضا ، كالمرسل المرويّ الّذي يمكن دعوى كونها متلقّاة بالقبول عند الأصحاب : « ما اجتمع الحلال والحرام إلاّ غلب الحرام الحلال (١) » فإنّ الشبهة المحصورة بجميع أطرافها ما اجتمع فيه الحلال والحرام فوجب أن يغلب فيها الحرام الحلال ، ولا معنى له

__________________

(١) عوالي اللآلئ ٢ : ١٣٢ ، ح ٣٥٨.

١٢٦

إلاّ وجوب الاجتناب عن الحلال أيضا.

وقوله عليه‌السلام في المرسل الآخر : « واتركوا ما لا بأس به حذرا عمّا به البأس (١) » فإنّ الحلال المشتبه بالحرام لا بأس به والحرام به بأس فيجب الاجتناب عن الأوّل أيضا حذرا عن ارتكاب الحرام.

ومنها : قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله في خبر التثليث : « من ركب الشبهات وقع في المحرّمات ، وهلك من حيث لا يعلم (٢) » بناء على أحد وجوهه المتقدّمة من كون المراد من الوقوع في المحرّم الوقوع الحقيقي الدائمي ، فلا ينطبق إلاّ على الشبهة المحصورة ، ضرورة أنّ من ارتكب جميع أطراف الشبهة ـ كما هو قضيّة عموم « الشبهات » ـ وقع في الحرام الواقعي المعلوم وجوده فيها ، وقوله : « هلك من حيث لا يعلم » يدلّ على توجّه الخطاب بالاجتناب عنه ، لكون الهلاك كناية عن العقاب الاخروي.

ومنها : الاستقراء الّذي أخذه بعضهم دليلا مستقلاّ على المطلب ، وحيث إنّه بمكان من الضعف عندنا لعدم غلبة يعتدّ بها فيما نصّ الشارع بوجوب الاجتناب عنه بالخصوص من أفراد الشبهات المحصورة أخذناه مؤيّدا ، لعدم ثبوت هذا النصّ إلاّ في عدّة موارد لا تبلغ حدّ الغلبة ، كالانائين المشتبهين أحدهما نجس حيث أمر الشارع باهراقهما ، والصلاة في الثوبين المشتبهين ، ووجوب غسل الثوب من الناحية الّتي علم إصابة النجاسة لبعضها.

ووجه التأييد : أنّه يستشمّ من هذه الموارد أنّ بناء الشارع في الشبهة المحصورة على ايجاب الاجتناب عن الجميع.

فظهر بجميع ما ذكر فساد القول بجواز الارتكاب إلى أن يبقى مقدار الحرام كما هو خيرة بعض الأعلام ، مع عدم مستند له يصلح للاعتماد عليه ، عدا ما يستفاد من تضاعيف عباراته من الاستدلال على جواز ارتكاب ما عدا مقدار الحرام من أنّه ارتكاب بما لم يعرف حرمته بعينه فيكون جائزا للأصل ، وعلى عدمه في الباقي بأنّه كما أنّ ارتكاب الحرام المتيقّن حرام فتحصيل اليقين بارتكاب الحرام أيضا حرام ، قال : « وتحريمه من هذه الجهة ، فارتكاب الفرد الآخر الّذي يوجب العلم بارتكاب الحرام الواقعي مقدّمة لتحصيل اليقين بارتكابه ، ومقدّمة الحرام حرام (٣) » ولا خفاء في ضعفهما.

أمّا الأوّل : فلأنّ هذا القائل إمّا أن يقول بتنجّز التكليف في واقعة العلم الإجمالي أو لا ،

__________________

(١) ورد ما يقرب منه في البحار ٧٧ : ١٦٦ ، الحديث ١٩٢ ، وتحف العقول : ٦٠ ، سنن ابن ماجة ٢ : ١٤٠٩ ، ح ٤٢١٥.

(٢) الوسائل ١٨ : ١١٤ ، الباب ١٢ من أبواب صفات القاضي ، الحديث ٩.

(٣) القوانين ٢ : ٢٥.

١٢٧

وعلى الثاني لا وجه لاستثناء مقدار الحرام ، وعلى الأوّل لزمه الالتزام بوجوب اجتناب الجميع لما ذكرناه.

وأمّا الثاني : فلمنع تحريم تحصيل العلم بارتكاب الحرام الواقعي حيث لا دليل عليه من عقل ولا نقل ، وإنّما المحرّم هو نفس الارتكاب في موضع العلم بالمحرّم الواقعي ، ولا ينافيه ما قدّمناه من حرمة المخالفة القطعيّة ، إذ ليس معناه حرمة القطع بالمخالفة على أن يكون معروض الحرمة هو القطع ، بل معناه حرمة المخالفة لمن يقطع بها.

وقد عرفت أنّه لا يتفاوت الحال في قبحها عند العقل بين قطعه بتحقّقها حال الارتكاب وقطعه بتحقّقها في أحد الارتكابات.

وبقي من أقوال المسألة خامسها ، وهو القول بوجوب التخلّص عن الحرام المشتبه بالحلال بالقرعة ، استنادا إلى ما ورد من عموم « القرعة لكلّ أمر مشكل (١) » وخصوص ما ورد في قطيع الغنم عن أبي الحسن الثالث حين سئل عن مسائل ، منها عن رجل أتى إلى قطيع غنم فرأى الراعي ينزو على شاة منها ، فلمّا أبصر صاحبها خلّى سبيلها فدخلت بين الغنم ، كيف تذبح؟ وهل يجوز أكلها أم لا؟ فأجاب عليه‌السلام : إن عرفها ذبحها وأحرقها ، وإن لم يعرفها قسّم الغنم نصفين وساهم بينهما ، فإذا وقع على أحد النصفين فقد نجى النصف الآخر ، ثمّ يفرّق النصف الآخر ، فلا يزال كذلك حتّى يبقى شاتان فيقرع بينهما ، فأيّهما وقع السهم لها ذبحت واحرقت ونجى سائر الغنم (٢) »

وفيه : أنّ مفاد هذا الخبر حكم مخالف للقاعدة فيقتصر فيه على مورده ، وليس فيه عموم ولا إطلاق يوجب التعدّي إلى غيره.

وأمّا عمومات القرعة فهي روايات ضعاف فلا يسوغ العمل بها إلاّ مع جابر لأسانيدها ، ولا يكون إلاّ عمل الأصحاب ، وهو وإن كان ثابتا في الجملة إلاّ أنّهم لم يعملوا بعمومها بالقياس إلى جميع الموارد ، فكما أنّ عملهم في الجملة جابر لضعف السند فكذلك تركهم العمل بعمومها موجب لضعف الدلالة على العموم ، فهي موهونة بذلك.

والحاصل : أنّ الخبر الضعيف المنجبر بعمل الأصحاب يجب الاقتصار فيه على القدر المتيقّن من مورد الجابر وليس إلاّ بعض الموارد ، فالقاعدة في الشبهة المحصورة تقتضي وجوب الاجتناب عن الجميع إلاّ ما خرج عنها بالدليل.

__________________

(١) الوسائل ١٨ : ١٨٧ الباب ١٢ من أبواب كيفيّة الحكم ...

(٢) تحف العقول : ٤٨٠.

١٢٨

ثمّ إنّ هاهنا امورا مهمّة ينبغي التعرّض لها :

الأمر الأوّل : في أنّ وجوب الاجتناب عن الشبهة المحصورة على المختار هل هو على حدّ الوجوب الشرعي الّذي يعاقب على مخالفته ولو بارتكاب البعض وإن لم يصادف المحرّم الواقعي أو لا؟ فلا يعاقب إلاّ على مخالفة الواقع كما في صورة ارتكاب الجميع دفعة ، وفي صورة ارتكاب البعض المصادف للمحرّم الواقعي ، فإنّه يعاقب فيهما باعتبار ارتكابه المحرّم الواقعي لا غير ، وجهان بل قيل : قولان ، أجودهما بل أقواهما الثاني.

وربّما يشير إليه ما في حديث التثليث بناء على انطباقه على الشبهة المحصورة من قوله عليه‌السلام : « وقع في المحرّمات وهلك من حيث لا يعلم (١) » لقضائه بكون الهلاك الّذي هو العقاب الاخروي مترتّبا على الوقوع في المحرّم الواقعي المتحقّق في صورة ارتكاب جميع الشبهات ، والشأن إنّما هو بيان سرّ ما قوّيناه.

ويستظهر ذلك من الدليل المقام على وجوب الاجتناب عن الشبهة بجميع أطرافها من قاعدتي المقدّمة ووجوب دفع الضرر المحتمل ، فإنّ الوجوب المستفاد منهما وجوب عقلي ، وهو على الاولى مقدّمي فيكون غيريّا وقد تقرّر في محلّه أنّ الواجب الغيري لا يعاقب تاركه من حيث هو تاركه ، ومع ذلك فهو إرشاديّ لكون وجوب ذي المقدّمة وهو تحصيل العلم بالخروج عن عهدة التكليف إرشاديّا من العقل ، فإنّه إنّما يلزم المكلّف به إرشادا له إلى طريق الاطمئنان بالتخلّص عن العقاب على مخالفة الواقع ، ولذا لا يترتّب على موافقته ومخالفته أزيد ممّا يترتّب على تحصيل العلم وتركه ، فإنّه على الأوّل يحصل الاطمئنان بالتخلّص عن العقاب ، وعلى الثاني ربّما يتوجّه العقاب على تقدير اتّفاق مخالفة التكليف بارتكاب الحرام الواقعي ، وعلى قياسه وجوب مقدّمته وهو الاجتناب عن الجميع فلا يترتّب على مخالفته أزيد ممّا يترتّب على ترك اجتناب الجميع من العقاب على ارتكاب الجميع دفعة أو على ارتكاب البعض على تقدير مصادفته الحرام الواقعي.

وعلى الثانية أيضا لا يكون إلاّ إرشاديّا ، لأنّ العقل يلزم المكلّف بترك كلّ [ ارتكاب ] إرشادا له إلى التخلّص عن الضرر المحتمل وهو العقاب ، فلا يؤثّر مخالفته من حيث هو في العقاب على كلّ ارتكاب.

وتوهّم أنّ العقاب ربّما يثبت باعتبار التجرّي الحاصل عند كلّ ارتكاب لكونه قبيحا.

__________________

(١) الكافي ١ : ٦٧ ، ح ٩ ، الفقيه ٣ : ٨ ـ ١١ ، ح ٣٢٣٣ ، التهذيب ٦ : ٣٠١ ، ح ٥٢. وفيها : « ارتكب » بدل « وقع في ».

١٢٩

يدفعه : أنّ قبح التجرّي ما لم يؤثّر في حدوث تحريم شرعي في الفعل المتجرّى به لم يؤثّر في العقاب عليه.

ومن المقرّر في محلّه أنّه لا يبلغ حدّا يؤثّر في ذلك ، لأنّه قبح في الفاعل لكشفه عن صفة قبيحة فيه ، وهو خبث الباطن وسوء السريرة ، لا أنّه قبح في الفعل المتجرّي به بحيث به يكشف عن صفة قبيحة فيه ، فلا يؤثّر في حدوث حكم فيه ولا عقاب عليه ، ثمّ على تقدير العقاب ولو باعتبار التجرّي إذا ارتكب المكلّف ما صادف الحرام الواقعي ففي تعدّد العقاب وعدمه احتمالان وربّما قيل بتداخل العقابين ، وعليه ففائدة الخلاف تظهر في غير صورة المصادفة.

وربّما يتمسّك لإثبات العقاب بالأدلّة الشرعيّة الدالّة على الاحتياط.

ويزيّفه : بعد الغضّ عن منع دلالتها على وجوبه كما أوضحناه بما لا مزيد عليه عند الكلام على أدلّة الاخباريّين في القول بوجوب الاحتياط في محتمل التحريم ، أنّه أيضا كأوامر الإطاعة من باب الأمر الإرشادي يقصد به حمل المكلّف على التخلّص عن الوقوع في المحرّم الواقعي الموجب للعقاب ، كما يشير إليه قوله عليه‌السلام : « إنّ الوقوف عند الشبهات خير من الاقتحام في الهلكات (١)

الأمر الثاني : في أنّه قد ظهر من تضاعيف كلماتنا السابقة أنّ مناط وجوب الاجتناب في الشبهة المحصورة إنّما هو تنجّز التكليف بالاجتناب عن الحرام أو النجس المعلوم بالإجمال ، نظرا إلى كفاية العلم الإجمالي فيه ، وذلك إنّما يكون حيث لم يكن في واقعة العلم الإجمالي جهة اخرى موجبة للشكّ في تنجّز التكليف بالاجتناب عن المعلوم بالإجمال ، إذ مع وجود نحو هذه الجهة يرجع الشكّ بالنسبة إلى الطرف من الشبهة الّذي عزم المكلّف على استعماله إلى الشكّ في التكليف لا المكلّف به ، فيرجع إلى الأصل المقتضي لجواز الاستعمال.

والضابط في هذه الجهة كون المعلوم بالإجمال مردّدا بين تقديرين :

أحدهما مؤثّر في حدوث التكليف قطعا ، والآخر ليس مؤثّرا في حدوثه قطعا ، وضابط هذا الضابط كون حدوث التكليف معلّقا على شرط عقلي أو شرعي أو عرفي فهم عرفا من الخطاب الوارد في تحريم المحرّم الواقعي يكون ذلك الشرط متحقّقا في أحد

__________________

(١) الوسائل ١٨ : ١١٤ ، الباب ١٢ من أبواب صفات القاضي ، ح ٩.

١٣٠

طرفي الشبهة ومنتفيا في الطرف الآخر ، فهاهنا صور ثلاث لا يجب الاجتناب عمّا أراد المكلّف ارتكابه من أطراف الشبهة المحصورة :

الصورة الاولى : كون الشرط المعلّق عليه التكليف بالاجتناب عن المعلوم بالإجمال شرطا عقليّا متحقّقا في أحد الطرفين ومنتفيا في الطرف الآخر ، كالقدرة فيما كان الاشتباه بين المقدور والغير المقدور. ومن أمثلته ما لو طار قطرة بول إلى إنائين يقدر المكلّف على استعمال أحدهما ولا يقدر على استعمال الآخر ووقعت على أحدهما واشتبه في نظر المكلّف ، فإنّه لا يوجب الاجتناب عمّا يقدر على استعماله لرجوع الشكّ بالنسبة إليه إلى التكليف لا المكلّف به.

الصورة الثانية : كون الشرط المذكور شرعيّا مع تحقّقه في أحد الطرفين دون الطرف الآخر ، وذلك كما في ملاقاة النجاسة فإنّها وإن كانت سببا لحدوث التكليف بالاجتناب عن الملاقي لكن بشروط ثلاث :

الأول : تحقّق الملاقاة في الظاهر.

الثاني : ظهور أثرها وهو الانفعال فيه.

الثالث : كون الاستعمال مشروطا بطهارته.

فإذا انتفى أحد هذه الشروط انتفى التكليف بالاجتناب.

ومن أمثلة تحقّق الشرط الأوّل في أحد الطرفين وانتفائه في الطرف الآخر ما لو طار قطرة بول إلى إنائين أحدهما بول والآخر ماء واشتبهت بين وقوعها في إناء البول أو في إناء الماء ، فإنّه لا يوجب المنع عن استعمال الماء.

ومن أمثلة تحقّق الثاني وانتفائه ما لو طارت القطرة إلى كرّ وإناء من قليل واشتبهت بين وقوعها في الأوّل أو الثاني ، فإنّه لا يوجب المنع من استعمال القليل.

ومن أمثلة تحقّق الثالث وانتفائه ما لو طارت القطرة إلى إناء من ماء واشتبهت بين وقوعها فيه أو في خارجه ، فإنّه لا يوجب المنع من استعمال مائه في طهارة أو غيرها من مشروط بطهارة الماء. وعليه يحمل ما في صحيحة عليّ بن جعفر عن أخيه عليه‌السلام في رجل رعف فامتخط فصار الدم قطعا صغارا فأصاب إناه هل يصلح الوضوء منه؟ فقال عليه‌السلام : « إن لم يكن شيء يستبين في الماء فلا بأس به ، فإن كان شيئا بيّنا فلا (١) » وبذلك يسقط

__________________

(١) الوسائل ١ : ١١٢ ، الباب ٨ من أبواب الماء المطلق ، الحديث الاوّل.

١٣١

استدلال الشيخ قدس‌سره بها على عدم انفعال القليل بملاقاة ما لا يدركه الطرف من الدم.

الصورة الثالثة : كون الشرط المعلّق عليه التكليف بالاجتناب عرفيّا يفهم العرف من الخطاب ، ككون الحرام أو النجس الواقعي محلاّ لابتلاء المكلّف به ، فقول الشارع : « حرّمت عليكم الخمر أو الميتة » أو نحو ذلك يفهم منه وجوب الاجتناب عن هذه الأشياء في محلّ الابتلاء ، فكأنّه قال : إذا ابتليتم بالخمر أو الميتة يجب عليكم اجتنابه ».

وأمثلة تحقّق هذا الشرط في أحد طرفي العلم الإجمالي وانتفائه في الطرف الآخر كثيرة ، منها : النجاسة الواقعة فيما يتردّد بين الإناء أو الثوب أو موضع آخر ونحوه من محلّ الابتلاء وغيره ممّا ليس بمحلّ الابتلاء ، فإنّه لا يوجب المنع من استعمال ما هو من محلّ الابتلاء لمكان الشكّ في تنجّز التكليف بالاجتناب عن المعلوم بالإجمال.

وبجميع ما بيّنّاه اندفع كلام صاحب المدارك حيث إنّه في مسألة الإنائين المشتبهين نقل احتجاج العلاّمة في المختلف على وجوب اجتنابهما معا بأنّ اجتناب النجس واجب قطعا ، وهو لا يتمّ إلاّ باجتنابهما معا ، وما لا يتمّ الواجب إلاّ به فهو واجب.

وأورد عليه بما يقتضي باختياره عدم وجوب الاجتناب في الشبهة المحصورة عن جميع ما وقع فيه الاشتباه من أنّ اجتناب النجس لا يقطع بوجوبه إلاّ مع تحقّقه بعينه لا مع الشكّ فيه ، [ ثمّ ] أيّده بقوله : « ويستفاد من قواعد الأصحاب أنّه لو تعلّق الشكّ بوقوع النجاسة في الماء وخارجه لم ينجّس الماء بذلك ولم يمنع من استعماله وهو مؤيّد لما ذكرناه ، فتأمّل » انتهى (١).

ووجه الاندفاع : أنّ السرّ في عدم اجتناب الأصحاب عن الإناء في نحو هذا الفرع إنّما هو لرجوع الشكّ المفروض بالنسبة إلى الإناء إلى كونه في التكليف ، باعتبار ما اجتمع فيه مع العلم الإجمالي من الجهة الموجبة للشكّ في تنجّز التكليف ، وهو لا يوجب نقضا لقاعدة وجوب الاجتناب عن الشبهة المحصورة المنوط بعدم اجتماع نحو هذه الجهة مع العلم الإجمالي ، ليكون الشكّ المعتبر فيها في المكلّف به لا التكليف الصرف ، ولعلّ قوله قدس‌سره : « فتأمّل » إشارة إلى ذلك.

ودفعه في الحدائق (٢) بخروج الفرع المذكور عن ضابط الشبهة المحصورة ، وهو ما كان للمشتبهين عنوان جامع بينهما ليصحّ تعلّق الخطاب به كما هو المعهود فيها ، ولا يتأتّى ذلك

__________________

(١) المدارك ١ : ١٠٨.

(٢) الحدائق ١ : ٥١٧.

١٣٢

إلاّ في المتجانسين ، ولا مجانسة فيما بين الماء والأرض وغيرها من الامور الخارجة من الاناء ، فليس بينهما جهة جامعة.

وفيه : ما لا يخفى ، فإنّ المجانسة إن اريد بها المشاركة في الجنس القريب فلم يعتبرها أحد ، وإن اريد بها المشاركة في الجنس مطلقا ولو بعيدا فهي حاصلة بين الماء والأرض وغيرها ولو بنحو من الانتزاع وهو النجس أو المتنجّس ، فيشمله قوله : « اجتنب عن النجس أو المتنجّس ».

وأضعف من ذلك دفع التأييد بإرجاع الفرع المذكور إلى الشبهة الغير المحصورة وهو السرّ في عدم اجتناب الأصحاب عن الإناء كما عن بعضهم ، وكأنّه وهم من بناء المسألة على كون المراد من خارج الإناء الّذي يحتمل وقوع النجاسة فيه صحراء وسيعة ، وهو بعيد غاية البعد ، بل الخارج قد يكون ظاهر الاناء من خارج ، وقد يكون الأرض القريبة من الإناء ، وغير ذلك ممّا يكون الشبهة معه محصورة.

ومن مشايخنا (١) من دفعه بجعل خارج الإناء هاهنا من غير محلّ الابتلاء ، ومن شرط وجوب الاجتناب عن الشبهة المحصورة كون جميع ما وقع فيه الاشتباه محلاّ لابتلاء المكلف ، إذ لو لاه لعاد الشكّ بالنسبة إلى محلّ الابتلاء إلى أصل التكليف.

فيشكل : بأنّ الابتلاء بالنسبة إلى كلّ شيء بحسبه ، فيكون كلّ من ماء الإناء ونفس الإناء والأرض القريبة منه من محلّ الابتلاء ، أمّا الماء لاستعماله في الطهارة والإناء للاغتراف منه والأرض للوقوف فيها ، بل المخرج للفرع المذكور عن ضابط الشبهة المحصورة ليس إلاّ أمرا شرعيّا كما أشرنا إليه.

وتوضيحه يعلم بملاحظة اشتراط الطهارة وضوء وغسلا بطهارة الماء ، وعدم اشتراطها بطهارة ظاهر الإناء وطهارة مكان الطهارة ، حتّى أنّه لو علم نجاستهما تفصيلا لم يقدح في صحّة الطهارة وجواز استعمال الماء فيها ، فالنجاسة المشكوكة في الفرع المذكور مردّدة بين إصابتها لما يجب الاجتناب عنه في الطهارة وإصابتها لما لا يجب الاجتناب عنه في الطهارة ، وهذا هو الباعث على عود الشكّ فيه إلى أصل التكليف.

نعم لو فرض الإناء والأرض معا بحيث يكون طهارة كلّ منهما شرطا في استعماله اتّجه وجوب اجتنابهما ، لعود الشكّ حينئذ إلى المكلّف به المبنيّ على تنجّز التكليف وتوجّه

__________________

(١) فرائد الاصول ٢ : ٢٣٦.

١٣٣

الخطاب بعنوان القطع ، كما لو أراد استعمال الماء في طهارته والسجود على الأرض في صلاته ، فهو مخاطب بالاجتناب عن المتنجّس المعلوم بالإجمال المردّد بين كونه الماء الّذي يشترط طهارته في الطهارة والأرض الّتي يشترط طهارتها في السجود ، فالتكليف بالاجتناب معلوم والشكّ في المكلّف به ، ولا يتمّ العلم بالخروج عن عهدته إلاّ باجتنابهما معا ، والفارق بينه وبين الفرع السابق أنّ المعلوم بالإجمال فيه دائر بين تقديرين كلّ منهما مؤثّر في حدوث التكليف بالاجتناب قطعا ، وثمّة بين تقديرين أحدهما مؤثّر فيه دون الاخر.

وقد عرفت أنّه جهة موجبة للشكّ في تنجّز التكليف بالاجتناب عن المعلوم بالإجمال ، فليتدبّر.

الأمر الثالث : فيما لو كان المعلوم بالإجمال في واقعة الشبهة المحصورة نجسا واقعيّا اشتبه بطاهر فلاقى طاهرا آخر أحد المشتبهين ، فهل يلحق بالمشتبه الملاقى في وجوب اجتنابه بناء على تنجّسه أو لا؟ قولان ، أقواهما وأشهرهما الثاني ، لأنّ الاجتناب عن الشيء باعتبار النجاسة إنّما يجب لكونه نجسا لذاته ، أو متنجّسا بواسطة ملاقاة النجس ، أو مشتبها بالنجس أو المتنجّس في الشبهة المحصورة ، وهذا ليس بشيء من ذلك.

أمّا الأوّل : فلفرض كونه طاهرا بالأصل.

وأمّا الثاني : فلعدم كون ملاقاة النجس محرزة فيه.

وأمّا الثالث : فلعدم كونه طرفا للعلم الإجمالي ، بضابطة عدم كون المعلوم بالإجمال دائرا بينه وبين غيره من المشتبهين ، ولذا لا يتناوله الحكم المقدّمي بوجوب الاجتناب ، فالشبهة بالنسبة إليه يعود إلى التكليف الصرف فيرجع إلى الأصل.

وتوهّم إحراز ملاقاة النجس فيه بالبناء على القول بكون النجاسة عبارة عن الأحكام التكليفيّة المنتزعة عن الشيء النجس الّتي منها وجوب الاجتناب عنه ، لا عن صفة ثابتة فيه موجبة لتلك الأحكام ، فيقال حينئذ : إنّ وجوب الاجتناب عن المشتبه الملاقي نجاسة فيه ، فيكون نجسا لاقاه طاهر.

أو بالبناء على أنّ الشيء قد يكون نجسا بتنزيل الشارع له منزلة النجس الواقعي وإجراء جميع أحكام النجس عليه ، كما في البلل المشتبهة الخارجة قبل الاستبراء عن البول أو المنيّ ، فإنّها بول أو منيّ تنزيلي من الشارع وإن كان في الواقع غيرهما ، ولذا كان ناقضا للطهارة ومنجّسا لملاقيه ، فيقال حينئذ : إنّ المشتبه الملاقي نجس ولو بواسطة تنزيل

١٣٤

الشارع ، ولذا يجب اجتنابه فينجس ملاقيه أيضا كما ينجس ملاقي البلل المشتبهة.

يدفعه : منع البناء المذكور بكلا وجهيه :

أمّا وجهه الأوّل فأوّلا : بأنّ كون النجاسة عبارة عن الأحكام التكليفيّة المنتزعة خلاف التحقيق ، بل الأقوى ـ على ما قرّرناه في محلّه ـ كونها صفة متأصّلة ثابتة في الشيء ينشأ منها تلك الأحكام.

وأمّا ثانيا : فلأنّ وجوب الاجتناب عن الشيء إنّما يكون نجاسة على القول المذكور إذا ثبت فيه على أنّه نجاسة فيه ، لا لوجوب الاجتناب عن شيء آخر على أنّه نجاسة فيه ، وهذا المعنى غير محرز في المشتبه الملاقي ، مع أنّ وجوب الاجتناب عن كلّ من المشتبهين ليس من الشارع أصالة بل من العقل إرشادا ، ونحوه لا يعدّ نجاسة على القولين.

وأمّا وجهه الثاني : فلأنّ التنزيل الشرعي خلاف الأصل فيقتصر على مورد دليله ، ولم يثبت نحوه في المشتبه الملاقي ، مع أنّه في البلل المشتبهة لعلّه لنوع من تقديم الظاهر على الأصل ، وهذا غير متحقّق فيما نحن فيه.

وبالجملة فتنجيس الملاقي بالبناء على كونه ملاقيا للنجس أصعب شيء في المقام لا يقبله الطبع السليم.

ودعوى أنّ ما دلّ على وجوب الاجتناب عن النجس الواقعي يدلّ على وجوب الاجتناب عن ملاقيه الملزوم لنجاسته ، ولذا استدلّ السيّد أبو المكارم في الغنية (١) على انفعال القليل بملاقاة النجاسة بما دلّ على وجوب هجر النجس كقوله تعالى : ( وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ )(٢).

مدفوعة ـ بعد منع أصل هذه الدلالة بالقياس إلى الملاقي خصوصا إذا كان نحو الماء ـ بأنّه فرع تحقّق الملاقاة للنجس.

وقد عرفت أنّه غير متحقّقة فيما نحن فيه ، لاحتمال كون المشتبه الملاقي هو الطاهر الواقعي.

وتوهّم كونه النجس تعبّدا لحكم الشارع بوجوب اجتنابه فينجّس ملاقيه ، ولذا تمسّك العلاّمة في المنتهى (٣) على ذلك بأنّ الشارع أعطاهما حكم النجس. يندفع بأنّ حكم الشارع بذلك لو فرض صدوره منه بالخصوص كما في الإنائين المشتبهين حيث أمر بإهراقهما إنّما هو على طبق حكم العقل باجتنابهما ، وقد عرفت أنّه إرشاديّ مقدّمي ، وهو لا يفيد كون

__________________

(١) الغنية : ٤٦.

(٢) المدثر : ٥.

(٣) المنتهى ١ : ١٧٨.

١٣٥

مورده مطلقا ممّا أعطاه الشارع حكم النجس مطلقا حتّى في تأثيره في تنجيس ملاقيه.

وممّا يرشد إلى ذلك أيضا ما ورد في الثوبين المشتبهين من الأمر بتكرار الصلاة فيهما المعلوم كونه لأجل اليقين بحصول الصلاة في الثوب الطاهر ، فلو صحّ كونهما بحيث أعطاهما الشارع حكم النجس لم يصحّ الصلاة بشيء منهما ووجب الحكم باجتنابهما معا.

هذا كلّه مع أنّه يكفي في الحكم بطهارة الملاقي استصحاب الطهارة السابقة ، وأصالة الطهارة المستفادة من قوله عليه‌السلام : « كلّ شيء طاهر حتّى تعلم أنّه قذر (١) » ولا يجري نحو الأوّل في شيء من المشتبهين ، لانتفاء ما هو من أركانه من الشكّ اللاحق ، فإنّ اشتباه الطاهر بالنجس كما لا يوجب الشكّ في زوال النجاسة عن النجس الواقعي كذلك لا يوجب الشكّ في طروّ النجاسة للطاهر الواقعي.

نعم لو كان المشتبهان قبل عروض الاشتباه طاهرين فأصاب أحدهما نجاسة على وجه الاشتباه تحقّق في كلّ منهما الشكّ المذكور بعد سبق اليقين بالطهارة ، لكن استصحاب الطهارة في أحدها معارض بمثله في الآخر ، ولا يمكن العمل بهما معا لمكان العلم الإجمالي بانتقاض الحالة السابقة في أحدهما ، والأخذبه في أحدهما ترجيح بلا مرجّح فيتساقطان.

ولا ينقض الثاني بمثله في المشتبهين لعدم شمول دليله لهما ، لوضوح الفرق بين الشبهة في طهارة الشيء ونجاسته من جهة الشكّ في محمول القضيّة وهو الشكّ في أنّ هذا طاهر أو نجس ، وبين الشبهة فيهما للشكّ في موضوع القضيّة وهو الشكّ في أنّ هذا طاهر أم ذاك ، وقوله عليه‌السلام : « كلّ شيء طاهر حتّى تعلم أنّه قذر » ظاهر في الأوّل فلا يتناول بظاهره الثاني وما نحن فيه من هذا القبيل.

ولو سلّم عدم الفرق في عموم الرواية فأقصاه تعارض الأصل المذكور في أحدهما بمثله في الآخر فيتساقطان.

فروع :

أوّلها : إذا اشتبه الملاقي بالمشتبه الملاقى أو بالمشتبه الآخر غير الملاقى انقلب حكمه فيجب اجتنابه أيضا معهما ، لوقوعه بالاشتباه المذكور طرفا للعلم الإجمالي ، لدوران المعلوم بالاجمال حينئذ بينه وبينهما ، فيشمله الشكّ في المكلّف به ، غايته أنّه قبل الاشتباه

__________________

(١) المستدرك ٢ : ٥٨٣ الباب ٣٠ من أبواب النجاسات والأواني ، ح ٤ ، الوسائل ٢ : ١٠٥٤ الباب ٣٧ من أبواب النجاسات ، ح ٤. وفيه : « نظيف » بدل « طاهر ».

١٣٦

كان دائرا بين اثنين وبعده صار دائرا بين ثلاث ، نظير ما لو دخلهما طاهر آخر من غير ملاقاة لأحدهما فاشتبه بهما ، وظاهر أنّ يقين الخروج عن عهدة الخطاب بالاجتناب عن المعلوم بالإجمال لا يتمّ إلاّ باجتناب الجميع.

ثانيها : إذا لاقى طاهر أحد المشتبهين وآخر المشتبه الآخر وجب اجتنابهما أيضا كأصلهما ، لتحقّق علم إجمالي آخر فيهما.

غاية الأمر كون متعلّقه هنا المتنجّس وثمّة النجس ، وكما يتوجّه الخطاب بالاجتناب عن النجس المعلوم بالإجمال ولا يتمّ إلاّ باجتناب الأصلين معا. فكذلك يتوجّه الخطاب بالاجتناب عن المتنجّس المعلوم بالإجمال ، ولا يتمّ إلاّ باجتناب الملاقيين معا.

ثالثها : إذا لاقى طاهر أحد المشتبهين ثمّ انصبّ المشتبه الملاقى أو فقد أو تعذّر ارتكابه فهل يقوم الملاقي مقام المشتبه الملاقى المفقود في وجوب اجتنابه مع المشتبه الباقي ، أو هو على حكمه الأوّل من جواز ارتكابه؟ وجهان : من أنّ المفقود إن كان هو الطاهر الواقعي فالمشتبه الباقي نجس ، وإن كان هو النجس الواقعي فالملاقي متنجّس ، فهو مع المشتبه الباقي دائران بين كونه متنجّسا والمشتبه الباقي طاهرا ، أو كونه طاهرا والمشتبه الباقي نجسا ، فالعلم الإجمالي حاصل ، والمعلوم مردّد بين كونه نجسا أو متنجّسا ، فيتوجّه الخطاب بالاجتناب واشتبه متعلّقه بكونه اجتناب النجس أو اجتناب المتنجّس. وهذا نظير إنائين دائرين بين كون هذا خمر أو ذاك خلاّ أو كون ذاك بولا وهذا ماء ، حيث إنّ الخطاب بالاجتناب متوجّه وهو مردّد بين كونه « اجتنب عن الخمر » أو كونه « اجتنب عن البول » ففيما نحن فيه أيضا كان الخطاب المعلوم توجّهه مردّدا بين قوله : « اجتنب عن النجس » وقوله : « اجتنب عن المتنجّس » ولا يتمّ يقين الخروج عن عهدته إلاّ باجتناب الجميع.

ومن أنّ الأصل الجاري فيه قبل الفقدان على حاله ، وهو يقتضي الجواز. ودعوى معارضته بأصالة الطهارة في المشتبه الباقي ، مدفوعة : بأنّ تعارض الأصلين ليس معناه فيما نحن فيه تنافي مدلوليهما ، إذ لا تنافي بين طهارة كلّ من الإنائين ، وإنّما لا يمكن العمل بهما فيما تقدّم لمنع العلم الإجمالي ، وإنّما يمنع حيث توجّه معه الخطاب بالاجتناب. وإنّما يكون كذلك إذا علم بكون أحد الإنائين فردا من محرّم واقعي منهيّ عنه وإن جهل عنوانه ، كما لو اشتبه الإناءان بين كون أحدهما خلاّ والآخر إمّا خمرا أو مغصوبا ، فكون ذلك فردا من محرّم واقعي معلوم وعنوانه مجهول ، وجهالة العنوان بعد العلم بفرديّة أحدهما لأحد

١٣٧

العنوانين لا تقدح في توجّه الخطاب ، فيقطع بتوجّه أحد الخطابين من قوله : « اجتنب عن الخمر » وقوله : « اجتنب عن المغصوب » وهذا الاعتبار منتف فيما نحن فيه ، إذ لا يعلم كون هذا نجسا ولا كون ذاك متنجّسا. فالخطاب المفروض توجّهه إن اريد به قوله : « اجتنب عن النجس » فالنجس غير معلوم تفصيلا ولا إجمالا ، وإن اريد به قوله : « اجتنب عن المتنجّس » فالمتنجّس غير معلوم تفصيلا ولا إجمالا ، فيجري في كلّ بحسبه الأصل الشرعي ، وهو في كلّ منهما سليم عن معارضة العلم الإجمالي ، كما في مسألة واجدي المنيّ في الثوب المشترك حيث إنّ كلاّ منهما يرجع إلى الأصل المعوّل عليه في حقّه ، لسلامته عن معارضة العلم الإجمالي.

ومقايسة ما نحن فيه على ما ذكر من دوران إنائين بين كون هذا خمرا وذاك خلاّ أو ذاك بولا وهذا ماء باطلة ، لمنع الحكم في المقيس عليه ، إذ لا يعلم كون هذا فردا من الخمر ولا ذاك فردا من البول ، فيعود الشكّ في كلّ منهما إلى كونه في التكليف ، فيرجع إلى الأصل الجاري فيه ، لسلامته عن مزاحمة العلم الإجمالي بتوجّه الخطاب وتنجّز التكليف بالاجتناب.

وهذا غير بعيد ، لكنّ الأوجه هو الأوّل ، لأنّ فرض عود الشكّ إليه في التكليف إنّما هو إذا أخذ كلّ منهما بانفراده ، وأمّا مع انضمام أحدهما إلى الآخر فيقطع بتوجّه خطاب مردّد بين كونه أمرا بالاجتناب عن النجس أو أمرا بالاجتناب عن المتنجّس ، وفي المقيس عليه بين كونه أمرا بالاجتناب عن الخمر أو أمرا بالاجتناب عن البول.

وأيّا ما كان فهو من الشكّ في المكلّف به بعد اليقين بالتكليف.

رابعها : إذا لاقى أحد المشتبهين طاهرا والمشتبه الآخر طاهرا آخر ، فانصبّ أو فقد أحد الأصلين ، فهل يجب الاجتناب عن الملاقيين مطلقا ، أو لا مطلقا ، أو يفرّق بين سبق العلم بنجاسة أحد الأصلين على تعذّر المتعذّر منهما وعدمه ، فعلى الأوّل يجب اجتناب الملاقيين وعلى الثاني لا يجب ، أو يعكس الأمر بوجوب اجتنابهما على الثاني دون الأوّل؟ وجوه :

من أنّ الطاهرين بملاقاتهما المشتبهين على الوجه المذكور صارا واقعة اخرى من الشبهة المحصورة ، تحقّق فيها العلم الإجمالي الكافي في تنجّز التكليف وتوجّه الخطاب بالاجتناب ، كما أنّ الأصلين قبل تعذّر أحدهما كانا واقعة منها مع كون المعلوم بالإجمال فيها النجس الواقعي وفي الاخرى المتنجّس الواقعي ، وكما أنّ الاجتناب عن النجس الواقعي كان واجبا ولا يتمّ إلاّ باجتناب الأصلين ، فكذلك الاجتناب عن المتنجّس الواقعي

١٣٨

واجب ولا يتمّ إلاّ باجتناب الملاقيين.

غاية الأمر أنّ الواقعة الاولى خرجت عن عنوان الشبهة المحصورة بتعذّر أحد الأصلين وارتفاع العلم الإجمالي عن الأصل الباقي ، ولا يلزم منه خروج الواقعة الثانية عن عنوانها ، بل هي باقية على ما كانت عليه من وجوب الاجتناب عن طرفيها ببقاء العلم الإجمالي فيها على حاله.

ومن أنّ الملاقيين تابعان للأصلين في وجوب اجتنابهما ، فيكون وجوب اجتنابهما فرعا على وجوب اجتناب الأصلين ، والفرع يتبع الأصل في حدوثه وبقائه ، فإذا ارتفع الأصل بتعذّر أحد الأصلين ارتفع الفرع أيضا.

ومن استصحاب الحالة السابقة من وجوب الاجتناب عن الملاقيين في صورة سبق العلم بالنجاسة ، بناء على أنّ تعذّر أحد الأصلين يوجب الشكّ في زوال وجوب الاجتناب عنهما الثابت بسبق العلم ـ على ما هو المفروض ـ فيستصحب ، وعدم وجوب الاجتناب عنهما في صورة عدم سبق العلم الملازم لعدم وجوب الاجتناب عن الأصلين والملاقيين معا ، فإذا حصل العلم بنجاسة أحد الأصلين بعد تعذّر أحدهما أوجب الشكّ في طروّ وجوب الاجتناب عن الملاقيين فيستصحب عدم الوجوب السابق.

ومن أنّه إذا تعذّر أحد الأصلين بعد العلم الاجمالي بالنجس الواقعي انقلب الشكّ بالنسبة إلى الأصل الباقي بدويّا ، فيجري فيه ما يجرى من الاصول كأصالة الطهارة المعتضدة بأصل البراءة ، فيجوز ارتكابه ويتبعه ملاقيه في جواز ارتكابه ، ومن قواعد الشبهة المحصورة أنّه إذا علم حكم أحد طرفيها بأصل من الاصول الموضوعيّة خرج عن كونه مشتبها عاد الشكّ بالنسبة إلى الطرف الآخر بدويّا ، فتبقى أصالة الطهارة واستصحابها سليمة عن المعارض فيجوز ارتكابه أيضا ، بخلاف صورة عدم سبق العلم فإنّ الملاقيين بعد اتّفاق العلم بتنجيس أحدهما بملاقاة النجس الواقعي كانا واقعة مستقلّة من الشبهة المحصورة فوجب اجتنابهما ، كما لو علم بوقوع النجاسة في أحد الانائين الطاهرين واشتبه بالآخر ، هذا لكنّ الأوجه الأقوى هو أوّل الوجوه لما عرفت.

ودعوى التبعيّة يزيّفها : أنّ التبعيّة في الملاقيين ليس معناها أنّ وجوب اجتنابهما كان متفرّعا على وجوب اجتناب الأصلين ، بل كونهما تابعين لهما في استناد تحقّق السبب المقتضي لوجوب اجتنابهما إلى ملاقاة الأصلين ، وهو تنجّس أحدهما بملاقاة النجس

١٣٩

الواقعي مع العلم به إجمالا ، وظاهر أنّ ارتفاع وجوب الاجتناب عن الأصلين بتعذّر أحدهما لا يوجب ارتفاع السبب المقتضي لوجوب اجتناب الفرعين.

واستصحاب عدم وجوب الاجتناب عنهما السابق على العلم بملاقاة أحدهما النجس الواقعي كما توهّم في أحد شقّي الوجه الثالث.

يزيّفه : أنّ الاستصحاب المذكور مع العلم إجمالا بانتقاض الحالة السابقة في أحدهما ممّا لا حكم له ، وتبعيّة الملاقي للأصل الباقي له في وجوب الاجتناب حدوثا وارتفاعا قد عرفت منعها بكونه تابعا لواقعته الّتي هي من الشبهة المحصورة بالاستقلال.

وخامسها : إذا لاقى المشتبهين طاهران ثمّ فقد من الملاقيين أحدهما ومن الأصلين أيضا أحدهما لكن على وجه التعاكس ، حتّى بقي من الملاقيين ما لاقى الأصل المفقود ومن الأصلين ما لاقاه الملاقي المفقود ، ففي انعقاد واقعة الشبهة المحصورة حينئذ بهما فيجب اجتنابهما احتمال خال عن الوجه ، بل الوجه هو العدم لارتفاع العلم الإجمالي في كلّ منهما بتعذّر أحدهما ، فيعود الشكّ بالنسبة إلى الباقي من كلّ منهما إلى التكليف ، فيجري في كلّ ما هو بحسبه من الاصول ، لبقائه سليما عن معارضة مثله ومزاحمة العلم الإجمالي ، ولا أثر بعد ذ لك للعلم إجمالي الثالث المنتزع عن الباقيين باعتبار قضاء التعاكس بكون الباقي من الأصلين نجسا أو الباقي من الملاقيين متنجّسا ، إذ لا يعلم بكون الأوّل في واقعته فردا من النجس ولا بكون الثاني في واقعته فردا من المتنجّس.

وفيه : أنّ هذا في الحقيقة من قبيل الفرع الثالث ، والعلم الإجمالي المتولّد من الانضمام كاف في توجّه الخطاب بالاجتناب وإن كان متعلّقه مردّدا بين النجس والمتنجّس ، وهذا أيضا مانع من العمل بالأصلين معا ، لكون الشكّ معه من الشكّ في المكلّف به بعد اليقين بالتكليف ، فيجب الاجتناب عنهما معا مقدّمة ليقين الخروج عن عهدته.

وسادسها : إذا فقد أحد المشتبهين اللذين تنجّس أحدهما بالملاقاة ، فقد ظهر من تضاعيف كلماتنا المتقدّمة أنّ الوجه بالنسبة إلى الباقي جواز الارتكاب ، لعود الشكّ بالنسبة إليه ابتدائيّا ، لارتفاع العلم الإجمالي الموجب لكون الشكّ في المكلّف به ، من غير فرق فيه بين كون الفقدان بعد ملاقاة النجاسة وقبل العلم بالملاقاة أو بعدهما معا على الأقرب.

وقد يتخيّل الفرق بينهما بوجوب الاجتناب عن الباقي في الثاني ، لكون المتعذّر في حكم المتروك ، وكما أنّ ترك أحد المشتبهين بعد العلم الإجمالي وتوجّه الخطاب لا يجوّز

١٤٠