تعليقة على معالم الاصول - ج ٦

السيّد علي الموسوي القزويني

تعليقة على معالم الاصول - ج ٦

المؤلف:

السيّد علي الموسوي القزويني


المحقق: السيد علي العلوي القزويني
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
المطبعة: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ١
ISBN: 964-470-559-9
الصفحات: ٤٨٦

١
٢

بسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

ـ تعليقة ـ

في أصل البراءة

واعلم أنّ المرجع الّذي يرجع إليه المجتهد في جميع المسائل الفرعيّة عند الاستنباط منحصر في الدليل والأصل ، وقد تقدّم الإشارة إلى الفرق بينهما ، وهو أنّ الدليل ما كان متعرّضا للواقع ناطقا به بإفادته القطع أو الظنّ به كما اشير إليه بوصف التوصّل المأخوذ في تعريفه الاصطلاحي ، والأصل ما لا تعرّض فيه للواقع أصلا باعتبار دخول الشكّ في موضوعه ، وهو بهذا المعنى المقابل للدليل منحصر في الاصول الأربع المعروفة : الاستصحاب ، وأصالة البراءة ، وأصالة الاشتغال ، وأصالة التخيير ، والحصر هنا مع مساعدة الاستقراء التامّ عليه عقليّ دائر بين الإثبات والنفي ، وذلك لأنّ المكلّف بالقياس إلى واقعة معيّنة إمّا أن يكون غافلا صرفا أو يكون ملتفتا إليها طالبا لمعرفة حكمها.

والأوّل خارج عن موضوع البحث ، فإنّه بالقياس إلى الواقعة المغفول عنها بضابطة قبح تكليف الغافل لا تكليف عليه في تلك الواقعة.

والثاني بعد استفراغ الوسع إمّا أن يحصل له القطع بحكم الواقعة ، أو يحصل له الظنّ به ، أو لا يحصل شيء منهما بل يبقى على شكّه ويستقرّ له ذلك الشكّ.

والأوّل خارج عن معقد البحث ، لأنّ وظيفته حينئذ اتّباع قطعه.

والثاني هو موضوع حجّيّة الظنّ الّذي عقد له باب على حدة.

والثالث مجرى الأصل ، وحينئذ فإمّا أن يكون الشكّ المفروض له بحيث يلاحظ معه حالة سابقة أو لا.

٣

والأوّل مجرى الاستصحاب.

وعلى الثاني فإمّا أن يكون الواقعة بحيث يمكن فيها الاحتياط أو لا يمكن ، لدوران الأمر بين المحذورين لشبهة موضوعيّة أو حكميّة.

والثاني مجرى أصالة التخيير.

وعلى الأوّل فإمّا أن يكون الشكّ في التكليف ، أو في المكلّف به الّذي لا يؤول إلى الشكّ في التكليف.

والأوّل مجرى أصل البراءة.

والثاني مجرى أصالة الاشتغال.

وقد عقد الاصوليّون للنوع الأوّل وهو الاستصحاب بابا برأسه ، لكثرة مباحثه وتكثّر أقسامه وتشتّت الأقوال في حجّيّته ، وكذلك عقدوا لأصل البراءة أيضا بابا على حدة لأجل ما ذكر.

وأمّا الأصلان الآخران فلقلّة مباحثهما وعدم وقوع خلاف معتدّ به فيهما لم يعقد لهما باب على حدة ، بل يذكر كلّ منهما في تضاعيف باب أصل البراءة. وبهذا البيان ظهر الوجه في دخول الشكّ في موضوع هذه الاصول الأربع ، فإنّ مؤدّيات هذه الاصول أحكام كلّيّة مجعولة جعلها الشارع للشاكّ بوصف كونه شاكّا ، ولأجل ذا جرت عادتهم بتسمية هذه الأحكام بالأحكام الظاهريّة.

لكن ينبغي أن يعلم أنّ الشكّ هاهنا لا يراد منه خصوص مصطلح المنطقي وهو الاحتمال المساوي ، بل ما يعمّه والظنّ الغير المعتبر ، فإنّ حكم الظنّ الغير المعتبر في مجاري الاصول الأربع بل مطلقا حكم الشكّ.

وبالتأمّل فيما ذكر يظهر أنّ أصل البراءة ليس من الأدلّة العقليّة كما أشرنا إليه أيضا في تعريف الدليل العقلي ، فإنّه ليس من جنس الدليل فضلا عن كونه عقليّا ، مع أنّ الدليل العقلي حكم عقليّ يتوصّل به إلى حكم شرعي ، وهذا نفي للتكليف الشرعي الإلزامي أو نفي للعقوبة أو المؤاخذة على الفعل أو الترك.

نعم قد يكون مدركه الدليل العقلي كقبح التكليف بما لا يطاق ، وقبح التكليف بلا بيان ، وقبح العقاب بلا إقامة البرهان ، فهو حينئذ من قبيل المدلول ، وهو مفاد قوله عليه‌السلام : « ما حجب الله علمه عن العباد فهو موضوع عنهم » (١) وقوله عليه‌السلام : « رفع عن امّتي

__________________

(١) الوسائل ١٨ : ١١٩ ، الباب ١٢ من صفات القاضي الحديث ٢٨.

٤

تسعة » (١) وعدّ منها ما لا يعلمون وقوله عليه‌السلام : « الناس في سعة ما لم يعلموا » (٢) ونحو ذلك ممّا يتلى عليك ، فهو مدلول يستنبط تارة من الأدلّة العقليّة واخرى من الأدلّة الشرعيّة. فما صنعه بعض الأعلام (٣) من عدّه من الأدلّة العقليّة ليس على ما ينبغي.

كما يظهر أيضا أنّ الأصل هنا لا محمل له من المعاني الأربع الاصطلاحيّة إلاّ القاعدة ، فلا يصحّ أن يراد منه الراجح ، إذ ليس مبنى اعتباره في مجاريه على الرجحان والظهور ، بل هو على ما عرفت من كون موضوعه الشكّ بالمعنى الأعمّ من الظنّ الغير المعتبر يجري ويعتبر مع الظنّ بالخلاف أيضا.

فما قد يستشمّ من بعض كلمات بعض الأعلام من كون ذلك الأصل دليلا ظنّيا ليس على ما ينبغي.

ولا الدليل لما عرفت من البينونة التامّة بينه وبين الدليل ، نعم قد يطلق عليه الدليل فيقال له : الدليل الفقاهي ، وأنّه دليل تعليقي ، وأنّه دليل حيث لا دليل ، غير أنّه مجاز كما يفصح عنه أيضا التزام التقييد في هذه الموارد.

ولا الاستصحاب وإن احتمله بعض الأعلام ، وتبعه بعض من تأخّر عنه بإرادة استصحاب البراءة الأصليّة السابقة على زمن البلوغ ، أو على زمان تحقّق سبب الشكّ في التكليف ، لما عرفت من ضابط الفرق بينهما ، فإنّ الاستصحاب يعتبر فيه ملاحظة الحالة السابقة ، فإنّه عبارة عن الحكم ببقاء شيء وجودا أو عدما في الآن اللاحق تعويلا على ثبوته في الآن السابق ، ولا يعتبر ذلك في أصل البراءة سواء كان هناك حالة سابقة أو لا ، كما في خلق الساعة إذا شكّ في تكليفه بشيء ، مع أنّه يأباه تعدّد عنواني البحث عنهما ، بل يأباه أيضا تغايرهما بحسب الأدلّة ، لعدم جريان أدلّة هذا الباب في باب الاستصحاب ولا جريان أدلّة الاستصحاب هنا.

نعم لا نضائق أخذ الاستصحاب في بعض صور هذا الأصل مدركا له كما لا يخفى ، ولكنّه لا يوجب كونه بنفسه من الاستصحاب.

فتعيّن كونه عبارة عن القاعدة ، وهي القضيّة الكلّية المستنبطة من مجموع الأدلّة العقليّة والأدلّة الشرعيّة ، الّتي مضمونها الحكم على المكلّف بخلوّ ذمّته عن التكليف المشكوك فيه أو عن العقوبة والمؤاخذة المشكوك فيهما.

__________________

(١) الوسائل ١١ : ٢٩٥ ، باب جملة ممّا عفي عنه ، الحديث الأوّل. (٢) المستدرك ١٨ : ٢٠ ، الباب ١٢ من أبواب مقدّمات الحدود الحديث ٤ ، عوالي اللآلئ ١ : ٤٢٤. (٣) القوانين ٢ : ١٣.

٥

ويظهر بالتأمّل فيما ذكر أيضا أنّه ليس قسما من الأصل الّذي يعبّر عنه بأنّ عدم الدليل دليل على العدم كما توهّمه بعض الأعلام ، لأنّ هذا الأصل ـ إن قلنا به ـ متعرّض للواقع بنفي الحكم المشكوك فيه بحسب الواقع ، جار في موارد التكليف وموارد الوضع معا ، ولذا قد يخصّ بالوقائع الّتي يعمّ بها البلوى ، لعدم دلالة عدم الدليل فيما لا يعمّ به البلوى على العدم.

كما يظهر أيضا وجه تقديم الدليل على أصل البراءة ، كما ينبّه عليه قولهم : « إنّه دليل عند عدم الدليل » ، وذلك من جهة عدم معارضته للدليل ، فإنّه بموضوعه ناطق بأنّي لا أدري أنّ الحكم الواقعي أيّ شيء؟ والدليل بكشفه عن الواقع ناطق بأنّ هذا هو الحكم الواقعي ، فيكون تواردهما على الواقعة نظير توارد أدري ولا أدري على موضوع واحد ، وعدم التعارض بينهما باعتبار عدم كون النفي في السالبة نفيا لما أثبته الموجب في الموجبة ضروريّ ، بل موضوع الأصل على ما عرفت من دخول الشكّ فيه يرتفع بورود الدليل على الحكم الواقعي ، على معنى خروج المورد عن المجهول الحكم أو عن المشكوك في حكمه الواقعي أو عمّا لم يعلم حكمه الواقعي بواسطة العلم بحكمه الواقعي الحاصل من ذلك الدليل ، فيتعدّد الموضوع.

ومن المستحيل وقوع التعارض بين القضيّتين مع تعدّد موضوعيهما ، ولك أن تقول : بعد ورود الدليل لا مجرى للأصل بواسطة انتفاء موضوعه ، ليتكلّم في أنّه هل يعارض الدليل أو لا؟

وعليه ففي إطلاق التقديم أو الترجيح في هذا المقام نوع تسامح ، فما قد يوجد في كلمات غير واحد ـ ولا سيّما السيّد في الرياض ـ من إطلاق الخاصّ على الدليل والعامّ على الأصل ، ومن قولهم : يخصّص الأصل بالدليل ، أو يخرج عن الأصل بالدليل ، وما أشبه ذلك ليس على ما ينبغي ، لأنّ هذا كلّه فرع المعارضة وهو فرع اتّحاد الموضوع.

لكن هذا في الدليل العلمي واضح. وأمّا الدليل الغير العلمي فربّما أمكن فرض كون إطلاق الخاصّ عليه وإطلاق العامّ على الأصل على الحقيقة ، لكن لا في أنفسهما بل بملاحظة دليليهما ، فإنّ مؤدّى الأصل : أنّ ما لم يعلم حرمته مثلا بالخصوص فهو غير محرّم ، ومؤدّى دليل اعتبار الدليل الغير العلمي كخبر الواحد أو الشهرة : أنّ ما ظنّ حرمته بخبر الواحد أو الشهرة فهو محرّم ، وهذا أخصّ من دليل الأصل ، لأنّ ما ظنّ حرمته ، من أفراد ما لم يعلم حرمته فإذا حكم على الأوّل بالحرمة وعلى الثاني بعدم الحرمة كانا في

٦

مثل شرب التتن متعارضين ، فإذا قلنا فيه بالحرمة عملا بالخبر أو الشهرة فقد خرجنا عن عموم دليل الأصل بخصوص دليل الخبر والشهرة فيكون تخصيصا.

وفيه : أنّ رافع موضوع الأصل أعمّ من أن يكون في نفسه رافعا أو بجعل الشارع ، والدليل الغير العلمي وإن لم يكن في نفسه رافعا إلاّ أنّه رافع بجعل الشارع ، لأنّ مرجع أدلّة حجّيّة الأمارة الظنّية إلى بيان أنّ موضوع الأصل هو ما لم يعلم حرمته بالخصوص ولا يظنّ بأمارة ظنّية مطلقا أو من جهة خبر الواحد أو الشهرة خاصّة ، فمؤدّى دليل الأصل حينئذ عدم الحرمة فيما لا يعلم ولا يظنّ حرمته بالخصوص.

وإذا قامت الأمارة الظنّية بحرمة شرب التتن مثلا أوجبت خروجه عن موضوع الأصل ، وليس هذا من باب التخصيص لا في الأصل بالدليل الغير العلمي ولا في دليله بدليل حجّيّة ذلك الدليل الغير العلمي.

أمّا الأوّل : فظاهر.

وأمّا الثاني : فلأنّ قضيّة الفرض أن يكون دليل حجّيّة ذلك الدليل حاكما على أدلّة الأصل لا مخصّصا له.

وتوضيح المقام : أنّ الدليل إذا اخذ مقيسا إلى دليل آخر فإمّا أن يكون واردا عليه ، أو حاكما عليه ، أو معاضدا له ، أو معارضا له.

والوارد : ما كان بمؤدّاه رافعا لموضوع الدليل الآخر ، كالدليل العلمي مقيسا إلى الأصل.

والحاكم : ما كان بمؤدّاه متعرّضا لحال الدليل الآخر ببيان مقدار موضوع الحكم في ذلك الدليل ، فيكون كالمفسّر له ، كأدلّة نفي العسر والحرج في الدين مقيسة إلى الأدلّة المثبتة للتكاليف في العبادات وغيرها ، فإنّ قوله تعالى : ( ما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ )(١) و ( يُرِيدُ اللهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ )(٢) متعرّض لحال قوله تعالى : ( أَقِيمُوا الصَّلاةَ )(٣) و ( أَتِمُّوا الصِّيامَ إِلَى اللَّيْلِ )(٤) و ( لِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ )(٥) وغير ذلك ، ببيان أنّ موضوعات هذه الأحكام ما لا حرج فيه ولا يكون عسرا وكذلك أدلّة نفي الضرر مقيسة إلى أدلّة العبادات والمعاملات.

ومن هذا الباب ما دلّ على أنّه لا حكم للشكّ في النافلة أو مع الكثرة أو بعد الفراغ أو

__________________

(١) الحجّ : ٧٨. (٢) البقرة : ١٨٥. (٣) البقرة : ٤٣. (٤) البقرة : ١٨٧. (٥) آل عمران : ٩٧.

٧

نحو ذلك ، بالقياس إلى أدلّة الشكوك في الأفعال والركعات. ومن علامات الحكومة أنّه لو لا الدليل المحكوم عليه لكان الدليل الحاكم في مؤدّاه لغوا.

والمعاضد : ما كان بمؤدّاه مؤكّدا لمؤدّى الدليل الآخر ، ومن شرط التأكيد وحدة موضوع المؤكّد والموكّد.

وبهذا علم أنّ الأصل بسبب ارتفاع موضوعه بورود الدليل كما لا يمكن كونه معارضا له فكذا لا يمكن كونه معاضدا له ، فما قد يوجد في كلام الفقهاء من قولهم ـ بعد ذكر دليل المسألة ـ : ويعاضده أو يؤيّده الأصل ، وارد على خلاف التحقيق.

والمعارض : ما كان مؤدّاه منافيا لمؤدّى دليل آخر ، ولذا عرّف تعارض الدليلين بتنافي مدلوليهما. وهذه المنافاة تنهض قرينة في نظر العقل بل العرف أيضا تارة على التصرّف في أحدهما بعينه كما في الخاصّ والعامّ المتنافي الظاهر وهذا هو التخصيص المصطلح.

واخرى على التصرّف في أحدهما لا بعينه فيحتاج التعيين إلى شاهد كما في العامّين من وجه. وثالثة على التصرّف فيهما معا فيحتاج إلى شاهدين كما في المتبائنين ، والتصرّف في الدليل بأحد هذه الوجوه الثلاث يسمّى جمعا. ورابعة على الأخذ بأحدهما بعينه وطرح الآخر لمرجّح منصوص أو غير منصوص وهو الترجيح ، أو الأخذ بأحدهما وطرح الآخر على التخيير كما في صورة التعادل إن قلنا بذلك فيها.

فبالتأمّل في ذلك وفيما عرفت من ضابط الحكومة يعلم السرّ في عدم كون دليل اعتبار الأصل معارضا لدليل حجّيّة الأمارة مطلقا أو الشهرة خاصّة ، وكون دليل الحجّيّة حاكما على دليل اعتبار الأصل ، فإنّ كلاّ من الدليلين وإن كان في نفسه علميّا إلاّ أنّه لا يفيد إلاّ حكما ظاهريّا ، وهو ما ثبت لفعل المكلّف بملاحظة الجهل بحكمه الواقعي ، فكما أنّ قوله عليه‌السلام : « كلّ شيء مطلق حتّى يرد فيه نهي » (١) يفيد أنّ الحكم الظاهري فيما لا يعلم حرمته بالخصوص هو الرخصة في الفعل ، فكذلك دليل حجّيّة الشهرة القائمة بحرمة شيء مثلا ـ بملاحظة أنّ من مقدّماته انسداد باب العلم إذا كان ذلك الدليل هو دليل الانسداد كما هو العمدة في باب حجّيّة الظنّ المطلق ـ يفيد أنّ الحكم الظاهري فيما ظنّ حرمته مطلقا ، أو بتلك الأمارة هو الحرمة ، ولذا اشتهر أنّ المجتهد في جميع الأحكام الظاهريّة الّتي منها مظنوناته عالم مستفاد علمه من صغرى وجدانيّة وكبرى برهانيّة ، يعبّر عنهما : بأنّ هذا

__________________

(١) الوسائل ٤ : ٩١٧ ، الباب ١٩ من أبواب القنوت ، ح ٣ ، الفقيه ١ : ٣١٧.

٨

مظنوني ، وكلّ مظنوني فهو حكم الله في حقّي.

ولا ريب أنّ دليل الأمارة بالمفاد المذكور ـ بملاحظة أنّ من مقدّماته المتمّمة لإنتاجه الحجّيّة إبطال مرجعيّة أصل البراءة في موارد الأمارة بالإجماع ، أو استلزامه مخالفة العلم الإجمالي ، أو الخروج عن الدين أو نحو ذلك ـ متعرّض لحال دليل الأصل ، ببيان أنّ موضوعه ما لم يعلم ولا يظنّ حكمه الواقعي ، وهذا ليس تخصيصا بالمعنى المصطلح ، بل هو شبه تفسير لدليل الأصل من حيث تكفّله لبيان ما يرجع إلى موضوعه.

وممّا يفصح عن ذلك أنّ من أدلّة الأصل العقل المستقلّ بقبح العقاب بلا بيان ، فلو كان دليل حجّيّة الأمارة ممّا أفاد تخصيصا في دليل الأصل لزم منه التخصيص في حكم العقل وأنّه محال ، بخلاف ما لو كان مفادّه ما يرجع إلى موضوع الأصل ، لكون خروج ما قامت الأمارة الغير العلميّة بحكمه الواقعي عن حكم العقل حينئذ خروجا موضوعيّا ، فحكم العقل بقبح العقاب على ما لم يعلم حكمه الواقعي غير شامل لما ظنّ بالأمارة وجوبه أو حرمته ، لدخول عدم الظنّ بالحكم الواقعي أيضا في موضوع ذلك الحكم ، ولذا لو عرض ما ظنّ وجوبه أو حرمته من جهة الأمارة على العقل لم يحكم بملاحظة دليل حجّيّة تلك الأمارة بقبح العقاب عليه.

فانقدح بما ذكرنا : أنّ الأمارة الغير العلميّة واردة على الأصل ، ودليل اعتبارها حاكم على دليل اعتبار الأصل ، فلا تعارض في شيء من المقامين ليتفرّع عليه التزام التخصيص ، المصحّح لإطلاق الخاصّ على الأمارة والعامّ على الدليل.

ثمّ الإضافة في « أصل البراءة » لابدّ وأن تكون لاميّة ، مفيدة للاختصاص من جهة كونه أصلا مفاده البراءة ، لعدم صحّة كونها بيانيّة وإلاّ جاز تقدير لفظة « من » البيانيّة ، وعدم كونها ظرفيّة واضح لعدم كون البراءة ظرفا للأصل ، إلاّ أن يراد بالظرفيّة اشتمال الأصل على البراءة لا اشتمال البراءة على الأصل ، لكن الأوجه هو اللاميّة المفيدة للاختصاص.

ثمّ إنّ الشكّ الّذي عليه مدار الاصول الثلاث المبحوث عنها في هذا الباب إمّا في التكليف أو في المكلّف به ، والمراد بالتكليف هنا خصوص الوجوب والحرمة ، على معنى الإلزام بفعل أو ترك ، ولا حاجة إلى تعميمه بالنسبة إلى الاستحباب والكراهة لا لعدم كونهما من التكليف المأخوذ من الكلفة ليرد : أنّه بحسب الاصطلاح أعمّ من الخمس المعروفة ، ولا لعدم جريان الأصل فيهما أو عدم انصراف أدلّته إليهما ، بل على فرض الجريان

٩

والانصراف أيضا يخصّص العنوان بالوجوب والحرمة لأنّهما المقصود الأصلي من عقد الباب.

وإذا ظهر حالهما من حيث إعمال الأصل فيهما وعدمه يعلم حال غيرهما بالمقايسة بل بطريق أولى.

والمراد من الشكّ فيهما ما يعمّ كونه شكّا في حدوث الوجوب أو الحرمة ـ على معنى أنّ الشارع ألزمنا بفعل ذلك الشيء أو لا؟ أو ألزمنا بتركه أو لا؟ ـ أو في الحادث ، على معنى أنّ إلزامه المفروض كونه معلوما هل هو الإيجاب أو التحريم؟

والمراد من الشكّ في المكلّف به الشكّ في متعلّق التكليف بعد العلم بأصل التكليف تفصيلا ـ ولزمه كون متعلّق التكليف أيضا معلوما في الجملة إذا رجع الشكّ إلى ما يحتمل كونه جزءا أو شرطا ـ أو إجمالا إذا رجع الشكّ إلى التعيين.

وعلى تقديري الشكّ في التكليف والشكّ في المكلّف به ، فإمّا أن يكون الشبهة حكميّة إذا استند الشكّ إلى أمر يرجع إلى الشارع ، أو لشبهة موضوعيّة إذا استند إلى أمر خارج لا مدخل للشارع فيه ، من اشتباه كما في اشتباه القبلة والمائع المردّد بين الخلّ والخمر ، أو عدم تمييز كما في الانائين المشتبهين ، وغيرهما من فروض الشبهة المحصورة.

وضابط الفرق بينهما : أنّ كلّ شبهة يكون رفعها من وظيفة الشارع ويرجع في رفعها إلى الأدلّة الشرعيّة المسوقة للأحكام الشرعيّة الكلّية فهي شبهة حكميّة ، وكلّ شبهة رفعها ليس من وظيفة الشارع بل يرجع فيها إلى الأمارات المشخّصة للموضوعات الخارجيّة الّتي منها قول أهل الخبرة فهي شبهة موضوعيّة.

وبعبارة اخرى أنّ الشبهة الحكميّة ما يكون بيان المشكوك فيه من شأن الشارع ، ويكون الشكّ في موارده بحيث لا يزول إلاّ ببيانه ، بخلاف الشبهة الموضوعيّة لكون الشكّ فيها ناشئا عن أمر لا مدخل للشارع فيه.

ومرتفع الاثنين في الاثنين أربع ، وعلى التقادير الأربع فالشبهة إمّا وجوبيّة أو تحريميّة فالصور ثمانية ، وهي الشبهة الوجوبيّة الحكميّة في التكليف أو المكلّف به ، والشبهة الوجوبيّة الموضوعيّة في التكليف أو المكلّف به ، والشبهة التحريميّة الحكميّة في التكليف أو المكلّف به ، والشبهة التحريميّة الموضوعيّة في التكليف أو المكلّف به.

ثمّ الشبهة الحكميّة بأقسامها الأربع إمّا أن تكون ناشئة من فقد النصّ أو إجماله أو تعارض النصّين.

١٠

وبعبارة اخرى : إمّا أن تستند إلى فقد المقتضي أو قصوره في الاقتضاء ، أو وجود المانع ، ومرتفع الأربع في الثلاث اثنى عشر صورة.

ثمّ الأمر في الشبهة الوجوبيّة الحكميّة في المكلّف به بصورها الثلاث إمّا أن يكون دائرا بين المتباينين كالظهر والجمعة ، أو بين الأقلّ والأكثر الارتباطيّين ، أو الاستقلاليّين.

وضابط الفرق بين المتباينين والأقلّ والأكثر عدم وجود قدر متيقّن من متعلّق التكليف في الأوّل ووجوده في الثاني.

والمراد بالارتباطيّين أن يكون امتثال الأمر على تقدير ثبوت التكليف بالأكثر مرتبطا بالإتيان بالأكثر ، وعدم كون الأقلّ كافيا في الامتثال حتّى بقدره وعلى حسبه ، كما في التكليف بالصلاة المردّدة بين كونها مع السورة أو بدونها. وبالاستقلاليّين أن لا يكون الامتثال مطلقا مرتبطا بحصول الأكثر بل يكون الإتيان بالأقلّ كافيا في حصول الامتثال بقدره وعلى حسبه.

ثمّ إنّ الشكّ في العبادة إن كان في جزئيّة شيء لها كالسورة للصلاة فلا إشكال في كونه حينئذ من باب الدوران بين الأقلّ والأكثر. وإن كان في شرطيّة شيء لها فإن كان الشرط من الشروط الذهنيّة ـ وهي الّتي تكون متّحدة مع المشروط في الخارج كالقصر والإتمام والجهر والاخفات ـ فلا إشكال حينئذ في كونه من الدوران بين المتباينين ، وإن كان من الشروط الخارجيّة ـ وهي الّتي لا تتّحد مع المشروط في الخارج كالطهارة والاستقبال وغيرهما بالقياس إلى الصلاة ـ ففي كونه من الدوران بين المتباينين. أو الأقلّ والأكثر خلاف ، ولعلّنا نتعرّض لتحقيقه ، فالصورة الحاصلة من ضرب الثلاث في مثلها تسعة ، وإذا انضمّت إلى التسعة الباقية من إثني عشر صورة ترتقي إلى ثمانية عشر ، وإذا انضمّت إليها الأربع الباقية من الثمانية المتقدّمة ترتقي إلى إثنتين وعشرين صورة.

ثمّ الشبهة الحكميّة في التكليف لفقد النصّ أو إجماله أو تعارضه إمّا أن تكون من الشكّ في الوجوب وغير الحرمة ثنائيّا أو ثلاثيّا أو رباعيّا ، أو في التحريم وغير الوجوب ثنائيّا أو ثلاثيّا أو رباعيّا ، أو في الوجوب والتحريم ثنائيّا أو ثلاثيّا أو رباعيّا أو خماسيّا ، وهذه أيضا تسعة صور إذا اضيفت إلى الصور الباقية كثرت صور المسألة جدّا ، لكنّا نتعرّض لبيان أحكام هذه الأقسام بالتكلّم في مقامين بملاحظة الشكّ في التكليف ، والشكّ في المكلّف به.

١١

المقام الأوّل

في حكم الشك في التكليف لشبهة حكمية او موضوعية.

وفيه مطالب :

المطلب الاول

فيما اشتبه حكمه الشرعي الدائر بين الوجوب وغير الحرمة ، وفيه مسائل أربع :

المسألة الاولى : فيما لو كان الاشتباه من جهة فقد النصّ المعتبر ، كقراءة الدعاء عند رؤية الهلال ، وغسل الجمعة ، والكفّارة بوطئ الحائض ، وصوم نهار نسيان العشاء ، وتوجيه المحتضر نحو القبلة ، وغير ذلك ممّا لا يحصى كثرة.

والمعروف من الأصحاب هو نفي الوجوب عملا بأصل البراءة ، وعن الأخباريّين موافقة المجتهدين هنا في الجملة.

لنا على ذلك : الأدلّة الأربعة ، من الكتاب والسنّة والإجماع والعقل.

أمّا الكتاب فآيات ، منها : قوله عزّ من قائل : ( وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً ) (١).

ووجه الاستدلال : أنّ بعث الرسول بملاحظة أنّ الفائدة المقصودة منه تبليغ الأحكام كناية عن تبليغ الأحكام وبيانها ، فتدلّ الآية على نفي التعذيب قبل البيان ، وملخّصه نفي العقاب على مخالفة الأحكام الواقعيّة المستورة عن المكلّف لجهله بها لأجل عدم بلوغها إليه ، ويلزم من ذلك كون الجهل عذرا مانعا عن تأثير الحكم الواقعي في العقاب على مخالفته واستحقاقه ، لا انتفاء الحكم عن الواقعة المشكوك في حكمها بحسب الواقع ، لينافي ما تقدّم من عدم تعرّض أصل البراءة بدليله للواقع أصلا لا بإثبات ولا بنفي.

وبهذا سقط ما عساه يقال على الاستدلال بالآية من أنّ نفي التعذيب إن اريد به نفي فعليّة العذاب فهو لا ينافي استحقاقه ، فلا ينافي كون الفعل واجبا أو حراما ولا يعاقب عليه فعلا لعفوه تعالى عن تلك المعصية.

وإن اريد به نفي استحقاقه فلازمه انتفاء الحكم الشرعي بحسب الواقع ، فالآية على التقديرين لا تعلّق لها بأصل البراءة.

أمّا على الأوّل : فلعدم تعرّضها لنفي الحكم الشرعي في الظاهر.

__________________

(١) الإسراء : ١٥.

١٢

وأمّا على الثاني : فلتعرّضه لنفيه في الواقع.

فإنّا نقول : إنّ مفاد الآية نفي استحقاق العذاب باعتبار كون الجهل عذرا مانعا عن تعلّق الحكم الواقعي على تقدير ثبوته بالمكلّف الجاهل ما دام جاهلا ، لا باعتبار انتفاء أصل الحكم الشرعي بحسب الواقع.

وبعبارة اخرى : أنّ الآية بظاهرها تدلّ على نفي اللازم باعتبار انتفاء شرط تعلّق الملزوم ، لا نفيه باعتبار انتفاء الملزوم رأسا.

وبعبارة ثالثة : أنّها ظاهرة في نفي استحقاق العذاب لوجود المانع وهو الجهل ، لا لفقد المقتضي وهو الحكم الشرعي الواقعي الموجود في الواقعة من وجوب أو تحريم ، بدليل اختصاص النفي بما قبل البعث والتبليغ والبيان.

ولا ريب أنّ الأحكام الواقعيّة لا تتغيّر بالبيان وعدمه ، ولا بعلم المكلّف وجهله لبطلان التصويب.

وأمّا ما عساه يقال من أنّ الآية بقرينة « كنّا » إخبار بمجرى عادته تعالى في الامم السالفة ، من أنّه تعالى ما كان يعذّبهم إلاّ بعد بعث الرسل إليهم وإتمام الحجج عليهم ، فظاهر التعذيب المنفيّ عنهم تعذيبهم بالعذاب الدنيوي من المسخ والخسف ونحو ذلك ، وهذا لا ينافي استحقاق العذاب الاخروي في هذه الامّة على مخالفة الأحكام الواقعيّة لأجل الجهالة بعد بعث الرسل.

وبالجملة فالآية على هذا المعنى ممّا لا تعلّق له بما نحن فيه.

فيدفعه أوّلا : منع ظهورها في الإخبار عمّا كان عليه تعالى في الامم السالفة بل هو إخبار عمّا هو عليه في دار الآخرة بقرينة الآيات السابقة عليها ، حيث قال تعالى : ( وَكُلَّ إِنسانٍ أَلْزَمْناهُ طائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ كِتاباً يَلْقاهُ مَنْشُوراً )(١)( اقْرَأْ كِتابَكَ كَفى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً )(٢)( مَنِ اهْتَدى فَإِنَّما يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّما يَضِلُّ عَلَيْها وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً )(٣).

وثانيا : منع ظهور « كنّا » في المضيّ ، بل هو يجري مجرى الماضي المأخوذ في التعريفات فيكون منسلخا عن الزمان ، على حدّ قوله تعالى : ( وَما رَبُّكَ بِظَلاَّمٍ لِلْعَبِيدِ )(٤) و ( ما كانَ مُحَمَّدٌ أَبا أَحَدٍ مِنْ رِجالِكُمْ )(٥) وغير ذلك ممّا لا يحصى في الكتاب كثرة. وفائدة

__________________

(١) الإسراء : ١٣. (٢) الإسراء : ١٤. (٣) الإسراء : ١٥.

(٤) فصّلت : ٤٦. (٥) الأحزاب : ٤٠.

١٣

« كان » في هذه المقامات لتقرير النفي ، والتنبيه على كون انتفاء الخبر عن الاسم من الصفات اللازمة له الغير المنفكّة عنه ، وعليه فلا يتفاوت الحال بين المضيّ والحال والاستقبال ، فالآية شاملة لهذه الامّة أيضا ، ولا عذاب بالقياس إليهم إلاّ ما في قوّة الوقوع من العذاب الاخروي.

وثالثا : أنّ حاصل مفاد الآية على ما بيّنّاه كون الجهل عذرا مانعا من استحقاق العذاب فهو المناط لنفي العذاب ، وعلى تقدير اختصاصه بالعذاب الدنيوي الواقع في الامم السابقة جرى حكمه في العذاب الاخروي المحتمل وقوعه عليهم وعلى هذه الامّة ، ضرورة أنّ الجهل إذا صلح عذرا مانعا من استحقاق العذاب الدنيوي على مخالفة الأحكام الواقعيّة قبل البعث ، لصلح عذرا مانعا عن استحقاق العذاب الاخروي أيضا على مخالفة هذه الأحكام ، بل بطريق أولى كما لا يخفى.

وبالجملة مناط النفي منقّح بنفس الآية ، فيجري حكمها وهو نفي العذاب في العذاب الاخروي أيضا.

فاندفع بأحد هذه الوجوه الثلاث ما قيل في المناقشة من ظهور الآية في الإخبار بوقوع التعذيب سابقا بعد البعث ، فيختصّ بالعذاب الدنيوي الواقع في الامم السابقة.

ومنها : قوله تعالى : ( لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ )(١) قصّر تعالى فيه الهلاك والحياة على صورة وجود البيّنة ، فيدلّ على إنتفاء الهلاك عند انتفاء البيّنة وهو المطلوب ، فإنّ الهلاك والحياة كنايتان إمّا عن الإطاعة والمعصية المستلزمتين لترتّب المثوبة والعقوبة في دار الآخرة ، أو عن الوقوع في المثوبة والعقوبة في دار الآخرة من دخول الجنّة والورود على النار.

وعلى التقديرين فحاصل مفادّ الآية : أنّ مناط الثواب والعقاب في دار الآخرة إنّما هو ورود البيان وبلوغه وعدمه.

ومنها : قوله تعالى : ( لا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْساً إِلاَّ ما آتاها )(٢) فإنّ الموصول كناية عن الحكم الواقعي المجعول الّذي لا يبلغ حدّ التكليف إلاّ ببيانه وعلم المكلّف به ، فقوله : ( آتاها ) أي أعطى ذلك الحكم وبيّنه لها وأعلمها به.

لكنّ الإنصاف أنّ هذا المعنى خلاف ظاهر الآية ، فإنّ الموصول بقرينة ما قبل الآية

__________________

(١) الأنفال : ٤٢.

(٢) الطلاق : ٧.

١٤

وهو قوله تعالى : ( لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتاهُ اللهُ )(١) كناية عمّا أعطاه الله تعالى من المال الّذي يجب الإنفاق منه على الموسر على حسب إيساره وعلى المعسر على حسب إعساره ، لكون كلّ مقدورا لصاحبه ، مع عدم كون إنفاق ما لم يعطه الله سبحانه مقدورا. فالمقصود من الآية نفي التكليف بغير المقدور فلا تشمل ما نحن فيه ، لعدم خروج فعل ما احتمل وجوبه ولا ترك ما احتمل حرمته بسبب الجهل بحكمه الواقعي بالخصوص مع الالتفات إليه عن مقدور المكلّف.

وبذلك ظهر أيضا منع الاستدلال بآية اخرى وهي قوله تعالى : ( لا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَها )(٢) فإنّه لنفي التكليف بما هو خارج عن وسع المكلّف ومقدوره ، ومحلّ البحث ليس خارجا عن وسعه.

نعم معرفة ما لم يبيّنه الله تعالى من الحكم الشرعي المجعول غير مقدورة للمكلّف فيكون التكليف بها منفيّا بنصّ الآيتين ، ولذا استدلّ بهما الإمام عليه‌السلام لنظير ذلك في المرويّ عن الكافي عن الصادق عليه‌السلام أنّه سئل هل جعل في الناس أداة ينالون بها المعرفة؟ قال : « لا ، قيل : فهل كلّفوا المعرفة؟ قال : على الله البيان ( لا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَها ) و ( لا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْساً إِلاَّ ما آتاها )(٣) غير أنّ ذلك خارج عن معقد البحث ، إذ ليس الكلام في معرفة ما لا يمكن معرفته لعدم بلوغ بيانه إلى المكلّف ممّا بيانه من شأنه تعالى لا غير ، بل في فعل ما لم يعلم وجوبه من حيث إنّ حكمه بملاحظة الجهل بحكمه الواقعي هل هو عدم الوجوب فلا يعاقب على تركه أو الوجوب أخذا بالاحتياط؟

ومنها : قوله تعالى : ( وَما كانَ اللهُ لِيُضِلَّ قَوْماً بَعْدَ إِذْ هَداهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ ما يَتَّقُونَ ) (٤) أي ما يجتنبون به عن الأفعال والتروك ، وظاهرها أنّه تعالى لا يخذلهم ولا يعذّبهم بعد هدايتهم إلى الإسلام إلاّ بعد ما يبيّن لهم ما يطيعونه وما يعصونه به ، ولذا ورد في المروي عن الكافي (٥) وتفسير العيّاشي (٦) وكتاب التوحيد (٧) يعني : « يعرّفهم ما يرضيه و [ ما ] يسخطه ».

وبالجملة فالآية تدلّ على نفي خذلان المكلّفين على ترك التقوى ، وهو الاجتناب عن

__________________

(١) الطلاق : ٧. (٢) البقرة : ٢٨٦.

(٣) الكافي ١ : ١٦٣ ، ح ٥ ، كتاب التوحيد : ٤١٤ ـ والآيتان من سورة البقرة : ٢٨٦ ، والطلاق : ٧.

(٤) التوبة : ١١٥. (٥) الكافي ١ : ١٦٣ ، ح ٣.

(٦) تفسير العيّاشي : ٢ : ١١٥ ، ح ١٥٠. (٧) كتاب التوحيد ـ للصدوق : ٤١٤ ، ح ١١.

١٥

المعاصي بترك المحرّمات الواقعيّة وفعل الواجبات الواقعيّة ما لم يبيّن لهم ما به يحصل التقوى من الأحكام والشرائع ، وحمله على بيان الموضوع إذا كان من قبيل العبادات تخصيص في الموصول من غير مخصّص.

ولو سلّم كونه كناية عن نفس الواجبات والمحرّمات فإنّما يراد به بيانها من حيث الوصف العنواني المعبّر عنه بالوجوب والتحريم ، لا لذواتها ليرجع إلى بيان موضوع الحكم لا نفسه إلاّ في العبادات الّتي بيانها من وظيفة الشارع ، فهذه الآية واضحة الدلالة على المطلب ، وظنّي أنّها أوضح دلالة من سائر الآيات.

وربّما اورد على مجموع الآيات المستدلّ بها في هذا الباب بأنّ غاية مفادها عدم المؤاخذة على مخالفة الأحكام الواقعيّة على تقدير ثبوتها في الوقائع المجهولة ، وهذا لا ينافي المؤاخذة على مخالفة الاحتياط المحتمل وجوبه في المقام ونظائره ، والمفروض أنّ القائل بوجوب الاحتياط إنّما يدّعيه لدليل علمي ، والآيات على تقدير تماميّتها لا تعارضه ، كما أنّ أصل البراءة عند قائليه لا يعارض الدليل ، فلم يثبت بها أصل البراءة على وجه ينتفي بها احتمال وجوب الاحتياط كما هو المقصود.

ويدفعه : أنّ الآيات وغيرها من أدلّة هذا الأصل إنّما دلّت على نفي المؤاخذة في الوقائع المجهولة مطلقا عن المكلّف الجاهل بأحكامها الواقعيّة ، وعدم معارضتها لأدلّة وجوب الاحتياط على تقدير تماميّتها إنّما هو لحكومة تلك الأدلّة عليها بالتعرّض لبيان كمّيّة موضوعها ، وهو المؤاخذة على مخالفة الواقع من حيث هو لا أزيد ، وإذا منعت دلالاتها على وجوبه بما سنقرّره بقيت الآيات وغيرها على إطلاقها في نفي المؤاخذة وليس هنا موضع هذا المنع.

وأمّا السنّة فروايات ، منها : حديث التسعة المعروف الّذي رواه الصدوق في الخصال بسند صحيح عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : « قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : رفع عن امّتي تسعة ؛ الخطأ ، والنسيان ، وما اكرهوا عليه ، وما لا يعلمون ، وما لا يطيقون ، وما اضطرّوا إليه ، والحسد ، والطيرة ، والتفكّر في الوسوسة في الخلق ما لم ينطقوا بشفة (١) ».

ورواه الكليني أيضا مع نوع اختلاف في السند بالرفع والمتن في آخر أبواب الكفر والإيمان من اصول الكافي عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : « قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : وضع عن امّتي

__________________

(١) الخصال : ٤١٧.

١٦

تسعة أشياء : الخطأ ، والنسيان ، وما لا يعلمون ، وما لا يطيقون ، وما اضطرّوا إليه ، وما استكرهوا عليه ، والطيرة ، والوسوسة في التفكّر في الخلق ، والحسد ما لم يظهره بلسان أو يد (١) ».

والطيرة بكسر المهملة وفتح المثنّاة مع جواز سكونها التطيّر ، وهو في الأصل التشؤّم وهو التحدّث بالشرّ والسوء والمكروه ، وإنّما سمّي تطيّرا من الطير لأنّ العرب كانوا يتشأّمون بالطيور ولا سيّما الغراب والجغد ، وكان ذلك يصدّهم عن مقاصدهم. وعلاجه إنّما هو بعدم الاعتناء به وترك العمل بموجبه وتسليم الأمر إليه تعالى ، ولذا ورد في الخبر : « أنّه يذهبه الله تعالى بالتوكّل (٢) » ومعناه أنّه إذا خطر له عارض الطيرة فليتوكّل على الله ، ويسلّم أمره إليه ، ولا يعمل بموجبه وهو المعنيّ من المضيّ المأمور به في الحديث من قوله عليه‌السلام : « ثلاث لا يسلم منها أحد ، الطيرة والحسد والظنّ ، قيل : فما يصنع؟ قال : إذا تطيّرت فامض ، وإذا حسدت فلا تبغ ، وإذا ظننت فلا تحقّق (٣) ».

وفي النبوي : « ثلاث لا ينجو منها أحد : الظنّ ، والطيرة ، والحسد ، وساحدّثكم بالمخرج عن ذلك ، إذا ظننت فلا تحقّق ، وإذا تطيّرت فامض ، وإذا حسدت فلا تبتغ (٤) »

وإنّما نفاه الشرع لما ذكر ، أو لمنافاته التوكّل المأمور به ، أو لكونه نحوا من الشرك المنهيّ عنه كما في الخبر : « الطيرة شرك ولكنّ الله يذهبه بالتوكّل (٥) ».

قيل : إنّما جعلت الطيرة من الشرك لأنّهم كانوا يعتقدون أنّ التطيّر يجلب لهم نفعا ويدفع عنهم ضررا إذا عملوا بموجبه ، فكأنّهم أشركوه مع الله ، ولكنّ الله يذهبه بالتوكّل.

والحسد هو كراهة نعمة الغير مع حبّ زوالها عنه ومع عدمه.

والوسوسة في التفكّر في الخلق يحتمل معنيين :

أحدهما : وسوسة الشيطان للإنسان عند التفكّر في أمر الخلقة ، نظير ما ورد في الخبر من أنّه قد جاء رجل إلى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقال : يا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إنّي هلكت فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « أتاك الخبيث ، فقال لك : من خلقك؟ فقلت : الله ، فقال : الله من خلقه؟ فقال : أي والّذي بعثك بالحقّ ، قال : ذاك والله محض الإيمان (٦) ».

وثانيهما : الوسوسة في الناس عند التفكّر في امورهم ، على معنى سوء الظنّ بهم الّذي

__________________

(١) الكافي ٢ : ٤٦٣ ، ح ٢. (٢) البحار ٥٨ : ٣٢٢ ، ذيل الحديث ١٠ ، مع تفاوت. (٣) البحار ٥٨ : ٣٢٠ ذيل الحديث ٩. (٤) كشف القناع ٦ : ٥٤٦.

(٥) البحار ٥٨ : ٣٢٢ ، ذيل الحديث ١٠ ـ مع تفاوت.

(٦) الكافي ٢ : ٤٢٥ ، ح ٣.

١٧

أصله من الشيطان ، والأوفق بكلّ من المعنيين هو لفظ المرفوعة.

وقوله عليه‌السلام : « ما لم ينطقوا بشفة » (١) و « ما لم يظهر بلسان أو يد » (٢) إمّا قيد للحسد كما هو ظاهر المرفوعة ، فيفيد اختصاص الرفع في الحسد بصورة عدم ترتيب الآثار الخارجيّة على تلك الصفة الخبيثة الموجودة في النفس ، ممّا يرجع إلى المحسود من إهانة أو تحقير أو نحوهما بلسان أو يد أو غيرهما ، أو ممّا يكشف عن وجود تلك الصفة في النفس. أو قيد الوسوسة في التفكّر في الخلق بالمعنى الثاني كما هو ظاهر رواية الخصال ، فيفيد اختصاص الرفع في سوء الظنّ بالخلق بصورة عدم تحقيق المظنون في الخارج ، على معنى ترتيب الآثار عليه.

ثمّ إنّه للمحافظة على كلام المعصوم عن الكذب بملاحظة عدم كون أعيان التسعة مرفوعة عن الامّة لابدّ من تقدير ما يصحّ إسناد الرفع والوضع إليه ممّا يضاف إليها ، ليدلّ الخبر على كونه مرفوعا من باب دلالة الاقتضاء ، وهو إمّا جميع الآثار الشرعيّة المجعولة تكليفا ووضعا المترتّبة على هذه الأشياء لو لا كونها مرفوعة ، أو الآثار الظاهرة الشرعيّة الّتي منها المؤاخذة ، أو أثر خاصّ معيّن عند الله غير معيّن عند الامّة ، أو خصوص المؤاخذة عليها.

والأوّل ممّا لا سبيل إليه ، للعلم الضروري من جهة الإجماع وغيره من الأدلّة بعدم ارتفاع كثير من الآثار الشرعيّة التكليفيّة والوضعيّة عنها ، كدية القتل في الخطأ ، ووجوب القضاء والإعادة فيما تركه أو أخلّ به في الوقت نسيانا ، ووجوب الكفّارة بنسيان العشاء الموجب لصيام نهاره ، والضمان على من أتلف مال الغير خطأ أو نسيانا أو جهلا ، وعلى من اضطرّ إلى أكله أو شربه ونحو ذلك.

وكذلك الثاني لكون أكثر هذه المذكورات ـ إن لم نقل كلّها ـ من الآثار الظاهرة.

وكذلك الثالث لقضائه بخلوّ كلام المعصوم في الخبرين عن الفائدة ، خصوصا إن قلنا بوروده في معرض الامتنان ، لأنّه لا يتمّ برفع ما لا يعلمه الامّة ، فتعيّن الأخير.

ويؤيّده مضافا إلى فهم العلماء حيث لم يحملوه إلاّ على رفع المؤاخذة خاصّة ، استقراء موارد إطلاق هذا اللفظ في خطابات الشرع القاضي بعدم معهوديّة إرادة ما عدا رفع المؤاخذة ووضعها.

__________________

(١ و ٢) الوسائل ١١ : ٢٩٥ الباب ٥٦ من أبواب جهاد النفس ، ح ١ و ٣.

١٨

ومنها : ما ورد من رفع القلم عن الصبيّ والمجنون (١) ، على معنى رفع قلم المؤاخذة والعقوبة عنهما.

ومنها : ما في الخبر من قوله عليه‌السلام : « كلّ كذب مسؤول عنه صاحبه إلاّ في ثلاثة : رجل كائد في حربه فهو موضوع عنه (٢) » إلى غير ذلك ممّا يقف عليه المتتبّع.

لا يقال : تخصيص الرفع بهذه الامّة ربّما تعطي كون المرفوع عنها في هذه التسعة أثرا خاصّا غير المؤاخذة وإن لم يكن معيّنا عندهم ، لاستقلال العقل بقبح المؤاخذة على الامور الخارجة عن اختيار المكلّف وما اضطرّ إليه أو اكره عليه ، فلا اختصاص لرفعها بهذه الامّة ، فلابدّ وأن يقدّر أثر شرعي آخر لم يستقلّ العقل بالحكم برفعه كان ثابتا في الامم السابقة فتفضّل تعالى على هذه الامّة برفعه عنهم ، كما وقع نظيره في بعض الأحكام المختصّة بقوم موسى على نبيّنا وعليه‌السلام ، ككون توبتهم قتالهم فيما بينهم ، وكون تطهيرهم عن البول حيث أصابهم أخذ الموضع بالمقاريض ، وقد رفعهما سبحانه عن هذه الامّة ببركات نبيّهم صلى‌الله‌عليه‌وآله.

لأنّا نمنع انفهام التخصيص المتوهّم في المقام بدلالة معتبرة ، ألا ترى أنّه لو قيل : « رفع الفقر عن زيد » لم يدلّ في متفاهم العرف على نفي رفع الفقر عن عمرو.

وبالجملة هذا التخصيص المتوهّم المتضمّن لنفي رفع المؤاخذة عن سائر الامم ممّا لا موجب له إلاّ مفهوم اللقب ، وهو غير حجّة عند الجمهور.

وتوهّم كونه ممّا يقتضيه الامتنان ، يدفعه : منع ورود الخبر في معرض الامتنان ، بل المقصود منه الإخبار برفع المؤاخذة على التسعة من باب بيان الواقع.

ولو سلّم فالقصد إلى إيقاع المنّة على هذه الامّة بذلك الخطاب لا ينافي وقوع مثلها على الامم السابقة بخطاب متقدّم من أنبيائهم ، إذ من الجائز كونه تعالى قد منّ الله على جميع الامم برفع المؤاخذة على التسعة عنهم.

وبالجملة الامتنان المقصود في الرواية على [ تقدير ] تسليمه لا يصلح مقتضيا لكون رفع التسعة من خصائص هذه الامّة ، وذلك إمّا من جهة كون عدم رفعها عن الامم السابقة محقّقا ومقتضيا لحصول الامتنان برفعها عن هذه الامّة ، أو باعتبار كون رفعها عن الامم السابقة مانعا عن حصوله برفعها عن هذه الامّة ، ولا سبيل إلى شيء من ذلك ، لأنّ حصول

__________________

(١) الوسائل ١ : ٣٢ الباب ٤ من أبواب مقدّمة العبادات ، ح ١١.

(٢) قرب الأسناد ( الجعفريّات ) : ١٧٠ ( باختلاف يسير ) ، وانظر المستدرك ٩ : ٩٤ ب ١٢٢ من أبواب أحكام العشرة ، ح ٤.

١٩

الامتنان برفعها في هذه الامّة لا ينافي حصول مثله برفعه في الامم السابقة أيضا ، لجواز كونه تعالى قد منّ الله على جميع عباده برفع المؤاخذة عنهم في هذه التسعة ، فلا صارف للرواية عن ظهوره في رفع المؤاخذة.

وبما قرّرناه في دفع السؤال ظهر أنّه لا حاجة في دفعه إلى تكلّف منع استقلال العقل بقبح المؤاخذة على أكثر هذه التسع ، لعدم قبح المؤاخذة على الخطأ والنسيان الصادرين عن ترك التحفّظ عقلا ، ولا على مخالفة ما لا يعلمون مع احتمال وجوب الاحتياط ، ولا قبح عقلا في التكليف الشاقّ الناشئ عن اختيار المكلّف ، مع وضوح فساد هذا الكلام في نفسه ، لابتنائه على القول بعدم منافاة الامتناع بالاختيار للاختيار ، لما حقّقناه في محلّه من منافاة الامتناع للاختيار مطلقا خطابا وعقابا ، فيقبح مؤاخذة الخاطئ والناسي في خطائه ونسيانه مطلقا وعلى الممتنع كذلك. نعم إنّما يجوز المؤاخذة على ترك التحفّظ وعلى سبب الامتناع الصادر عن المكلّف.

ولا دلالة في قوله تعالى حكاية عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في ليلة المعراج : ( رَبَّنا لا تُؤاخِذْنا إِنْ نَسِينا أَوْ أَخْطَأْنا رَبَّنا وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنا إِصْراً كَما حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنا )(١) على وجود المؤاخذة على هذه الثلاث في الامم السابقة ، لأنّ قوله : ( كَما حَمَلْتَهُ ) مخصوص بالأخير.

و « الإصر » هو الثقل ، وحمله عبارة عن التكليف الشاقّ كما في موارد العسر والحرج. ومنه ما تقدّم في قوم موسى. ولا ريب أنّه ليس من التسعة المنفيّة في الرواية وإن كان هو أيضا منفيّا في الشريعة.

ثمّ إنّ رفع المؤاخذة عن الامّة في هذه التسعة كناية في متفاهم العرف عن رفع التكليف الإلزامي المستتبع للمؤاخذة على مخالفته ، فلا يرد : أنّ رفع المؤاخذة قد يكون باعتبار انتفاء أصل التكليف الإلزامي ، وقد يكون للعفو عن المؤاخذة على مخالفته ، فيكون أعمّ من عدم الإلزام في موارد التسعة ، ومن البيّن عدم دلالة العامّ على الخاصّ.

فإن قلت : جعل رفع المؤاخذة كناية عن رفع الإلزام ربّما يؤدّي إلى فساد المعنى ، لأنّ الرفع في مقابلة الدفع لا يطلق إلاّ على منع بقاء الشيء بعد وجوده ، وبعبارة اخرى : المنع عن ثبوت الشيء الثابت. غاية الأمر : أن يتوسّع في الاستعمال فيطلق على المنع عن ثبوت ما من شأنه أن يثبت لوجود المقتضي لثبوته. ومنه النسخ الّذي عرّفوه : برفع حكم شرعي

__________________

(١) البقرة : ٢٨٦.

٢٠