تعليقة على معالم الاصول - ج ٦

السيّد علي الموسوي القزويني

تعليقة على معالم الاصول - ج ٦

المؤلف:

السيّد علي الموسوي القزويني


المحقق: السيد علي العلوي القزويني
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
المطبعة: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ١
ISBN: 964-470-559-9
الصفحات: ٤٨٦

لدليل شرعي ، فصدق الرفع بحسب العرف منوط بثبوت الشيء المرفوع فعلا أو شأنا ، وبدون أحدهما لا معنى للرفع ، ورفع المؤاخذة إذا كان بواسطة انتفاء الإلزام فلا مقتضي لثبوتها فهي ليست بثابتة فعلا ولا أنّ من شأنها الثبوت ، فلا معنى لرفعها حينئذ.

قلت : شأنيّة الثبوت قد تتأتّى بوجود المقتضي لوجود الشيء ، فيكون المؤاخذة المرفوعة ممّا من شأنه الثبوت باعتبار كون الإلزام المرفوع ممّا من شأنه الثبوت ، لوجود المقتضي لوجوده وهو العمومات المثبتة للتكاليف الإلزاميّة في الأفعال والتروك ، فإنّها بعمومها تشمل موارد الخطأ والنسيان وغيرهما ، فيصدق الرفع بوجود هذا المقتضي ولا حاجة إلى مقتضي آخر ، وهذا هو الوجه في صدق الرفع في محلّ النسخ ، لأنّ شأنيّة ثبوت الحكم المنسوخ في زمان ورود الناسخ إنّما هو باعتبار عموم الخطاب الأوّل بحسب الأزمان.

ثمّ إنّ رفع الإلزام قد يكون باعتبار خلوّ الواقعة عن الحكم رأسا ، وقد يكون باعتبار خلوّ ذمّة المكلّف عن الحكم الإلزامي وإن اشتملت الواقعة عليه في الواقع. والرواية إنّما تنهض مدركا لأصل البراءة لو كان مفادها رفع الإلزام على الوجه الثاني لا مطلقا.

وبيان ذلك : أنّ الواقعة إذا اخذت مقيسة إلى ذمّة المكلّف المختلف حالاته لا تخلو عن صور أربع :

الاولى : أن تكون خالية عن الحكم الإلزامي بأن لم يجعل لها في الواقع حكم إلزامي ، على معنى عدم كون حكمها المجعول إلزاميّا كالمباحات ، بل المندوبات والمكروهات أيضا.

الثانية : أن تكون ذمّته خالية عن الحكم الإلزامي المجعول للواقعة ، على معنى عدم توجّهه إليه وعدم تعلّقه به لعذر من الأعذار ، كما في المجنون والناسي والنائم والغافل في موارد التكاليف الإلزاميّة ، فإنّ سقوط التكليف عن المجنون مثلا ليس معناه خلوّ الواقعة بالنسبة إليه عن الحكم الإلزامي بالمرّة ، بل خلوّ ذمّته عن هذا الحكم الإلزامي لكون الجنون عذرا مانعا عن توجّهه إليه وتعلّقه به.

الثالثة : اشتمال الواقعة على الحكم الإلزامي واشتغال ذمّة المكلّف به أيضا مع عدم العقاب على مخالفته ، لثبوت العفو الحتمي عنه.

الرابعة : الصورة بحالها مع ترتّب العقاب على المخالفة ، ومؤدّى أصل البراءة بملاحظة أنّه لا يتعرّض الواقع بإثبات ولا نفي إنّما هو نفي الحكم الإلزامي على الوجه المذكور في الصورة الثانية ، وصراحة الرواية أو ظهورها في رفع المؤاخذة يوجب خروج الصورة

٢١

الأخيرة عن موردها ، كما أنّ كون رفع المؤاخذة كناية عن رفع الإلزام يوجب خروج الصورة الثالثة عن موردها.

والأظهر أنّ مؤدّاها ما ينطبق على الصورة الثانية لا الاولى ، لأنّ قصر الحكم على الامور التسع يدلّ على أنّ المراد رفع الإلزام بالمعنى الراجع إلى ذمّة المكلّف ، فيكون مفاده خلوّ ذمّة المكلّف عن الحكم الإلزامي ، لوضوح أنّ رفعه باعتبار خلوّ أصل الواقعة عن الحكم الإلزامي بأن يكون حكمها المجعول غير الحكم الإلزامي لا يتفاوت فيه الحال بين صورتي الخطأ والعمد ، ولا بين صورتي النسيان والتذكّر ، ولا بين صورتي الجهل والعلم ، ولا بين صورتي الاضطرار والاختيار ، ولا بين صورتي الإكراه وعدمه.

فرفع المؤاخذة عمّا لا يعلمون كناية عن رفع الحكم الإلزامي عن ذمّة المكلّف لجهله به موضوعا أو حكما.

ولكن يشكل ذلك بالنسبة إلى الثلاثة الأخيرة وهي الطيرة والحسد والوسوسة ، فإنّ الظاهر أنّ الواقعة بالنسبة إلى هذه الثلاث ما لم يرتّب عليها الآثار الخارجيّة خالية عن الحكم الإلزامي وهو الحرمة بالمرّة ، إلاّ أن يدفع بجعل رفع الإلزام أعمّ منه باعتبار خلوّ الواقعة عن الحكم الإلزامي ومنه باعتبار خلوّ ذمّة المكلّف عن الحكم الإلزامي.

أمّا الأوّل ففي هذه الثلاث ؛ وأمّا الثاني ففي ما عداها.

أو يلتزم باشتمال الواقعة فيها على الحرمة لكن الذمّة لا تشتغل بها إلاّ عند ترتيب الآثار عليها ، فتأمّل.

والأوّل أظهر ، فلا إشكال حينئذ في كون الرواية من أدلّة أصل البراءة بالنسبة إلى ما لا يعلم.

لكنّ المعضل أنّها هل تفيده في الشبهات الحكميّة فقط ، أو في الشبهات الموضوعيّة ، كذلك أو فيهما معا؟

فعلى الأوّل والثالث يتّجه التمسّك بها فيما نحن فيه الّذي هو من قبيل الشبهات الحكميّة بخلافه على الثاني.

وتحقيق ذلك مبنيّ على النظر في كون الموصول في « ما لا يعلمون » كناية عن الحكم المجهول ، أو عن الموضوع المجهول ، أو عن الموضوع المجهول حكمه ، أو عمّا يعمّ الحكم والموضوع المجهولين ، والأظهر بقرينة السابق واللاحق كونه كناية عن الموضوع لا عن الحكم ، مع كون الجهالة في نفس ذلك الموضوع كما لو شرب الخمر لجهالة كونه خمرا.

٢٢

أمّا الأوّل : فلكون الموصول المتكرّر في سابق هذه الفقرة ولا حقها ـ كقوله : « ما استكرهوا عليه ، وما لا يطيقون ، وما اضطرّوا إليه » بل الخطأ والنسيان ـ أيضا كناية عن الموضوع لا غير.

وأمّا الثاني : فلا ستلزامه الاستخدام الّذي هو مجاز في الضمير أو خلاف ظاهر فيه فلا يعدل إليه بدون قرينة ، وعليه فالاستدلال بها على الشبهة الحكميّة غير متّجه.

ومنها : قوله عليه‌السلام : « ما حجب الله علمه عن العباد فهو موضوع عنهم (١) ».

ووجه الدلالة : أنّه عليه‌السلام أسند حجب العلم إلى الله تعالى ، وهذا يقضي بكون الموصول كناية عمّا من شأنه أن يبيّنه الله تعالى ، وليس ذلك إلاّ الحكم الكلّي المجعول للواقعة ، وكونه موضوعا عنهم كونه مرفوعا عن ذممهم على معنى خلوّ ذمّتهم عن ذلك الحكم المجعول ، فيكون هذه الرواية مخصوصة بالشبهات الحكميّة ، فيقال في الحكم المشتبه ـ كما في قراءة الدعاء عند رؤية الهلال : ـ إنّه ما حجب الله علمه عنّا ، وكلّما حجب الله علمه عنّا فهو موضوع عنّا ، فهذا موضوع عنّا.

فإن قلت : إنّ الواقعة ليست خالية عن حكم مجعول ، وإسناد حجب العلم إليه تعالى إن اريد به ما يكون حقيقيّا ـ بأن يكون الحجب حاصلا بمباشرته تعالى ـ فهو لا يلائم عدله وحكمته ، إمّا لأدائه إلى العبث في جعل الأحكام ، أو لإخلاله باللطف الواجب عليه تعالى. وإن اريد به ما يكون مجازيّا ـ بأن يحصل الحجب بمباشرة غيره تعالى واسند إليه لضرب من المجاز ـ فهو خلاف ظاهر لا يصار إليه بغير دليل. فلابدّ وأن يحمل ما حجب علمه عن العباد على غير الأحكام المجعولة للوقائع ، من الامور المستورة عن العباد الّتي لا تكليف عليهم في معرفتها ، ككنه ذاته تعالى ، وأسرار القضاء والقدر ، وحقيقة الروح ، وما في الأرحام ، ووقت حلول الساعة ، ووقت ظهور إمام العصر عجّل الله فرجه وما أشبه ذلك ممّا لا سبيل للعباد إلى العلم به. وكونه موضوعا عنهم معناه عدم كونهم مكلّفين بمعرفة هذه المطالب ، وعليه فالرواية ممّا لا تعلّق له بباب أصل البراءة.

قلت : هذا يوجب ارتكاب خلاف ظاهر لا داعي إليه ، وهو التفكيك بين الموصول والموضوع عن العباد ، إذ الأوّل كناية عن الامور المذكورة والثاني عبارة عن التكليف

__________________

(١) الوسائل ١٨ : ١١٩ ، الباب ١٢ من أبواب صفات القاضي ، ح ٢٨.

٢٣

بمعرفتها ، والرواية ظاهرة في الاتّحاد. وما ذكر في الترديد لا ينهض قرينة على ارتكابه ، إذ الحجب المسند إلى الله سبحانه على أنحاء ثلاث :

الأوّل : حجبه العلم بالحكم الواقعي المجعول بعدم جعله سببا له ونصبه طريقا إليه.

الثاني : حجبه إيّاه برفعه السبب المجعول والطريق المنصوب بتقصير من العاد ، كإخفائه الحجّة عليه‌السلام في أزمنة الغيبة الّذي هو طريق منصوب إلى العلم بالأحكام الواقعيّة.

الثالث : حجبه بعدم منعه رافع الطريق المنصوب ـ إذا كان غيّره ـ عن الرفع ، كالقول الصادر عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أو الإمام عليه‌السلام في مقام بيان الحكم الواقعي الّذي أسقط عنه الراوي موضع الدلالة عليه ، أو غيّره سهوا أو نسيانا أو خطأ أو عمدا وعنادا ، ونحو ذلك ممّا نشأ من الأعداء والمخالفين في إخفائهم بل إعدامهم آثار الشريعة الحقّة.

وإسناد الحجب إليه تعالى في الأوّلين حقيقيّ وفي الأخير مجازيّ ، لكونه تعالى في عدم منعه الغير عن الرفع كالسبب للحجب الّذي باشره ذلك الغير ، والّذي يقبح منه تعالى هو الأوّل بخلاف الثاني ، لكون السبب في مباشرته تعالى للحجب فيه العباد ، فيصحّ صدوره منه وإسناده إليه مع كونه حقيقيّا ، لعدم منافاته عدله وحكمته ، ولا إخلاله باللطف الواجب عليه ، فليحمل الرواية عليه من دون داع إلى الخروج عن الظاهر ، وهي على هذا الحمل وإن كانت لا تتناول القسم الأخير ـ مع أنّ أصالة البراءة فيما لا نصّ فيه يعمّه والقسم الثاني لكون كلّ ممّا لا نصّ فيه ـ إلاّ أنّه في إثباته مطلقا لا حاجة إلى التعميم في مفاد الرواية ، لأنّ الحكم في غير موردها يتمّ بالإجماع المركّب وعدم القول بالفصل.

ومنها : قوله عليه‌السلام : « الناس في سعة ما لم يعلموا » (١) مع نكارة « سعة » فتكون كلمة « ما » مصدريّة ظرفيّة ، أو إضافتها إلى كلمة « ما » فتكون موصولة ، وعلى التقديرين يتمّ المطلوب.

ووجه الدلالة : أنّ السعة عبارة عمّا يقابل الضيق تقابل التضادّ أو العدم والملكة ، والتكليف الإلزامي إيجابا أو تحريما لتضمّنه المنع من الترك أو الفعل تضييق للأمر على المكلّف. وقوله عليه‌السلام : « سعة » كناية إمّا عن عدم هذا الضيق ، أو عن الرخصة في الفعل والترك معا ما لم يعلموا الضيق في شبهة حكميّة أو موضوعيّة على قراءة المصدريّة ، أو فيما معا ما لم يعلموا الضيق في شبهة حكميّة أو موضوعيّة على قراءة الموصولة ، بناء على كون الإضافة حينئذ ظرفيّة بتقدير « في » على حدّ ما في « ضرب اليوم ».

__________________

(١) المحاسن : ٤٥٢ ، المستدرك ١٨ : ٢٠ ، الباب ١٢ من أبواب مقدمّات الحدود ، ح ٤.

٢٤

واورد عليه تارة : بأنّ قوله عليه‌السلام : « ما لم يعلموا » ظاهر فيما لم يعلم حكمه مطلقا ، حتّى حكمه العامّ المستفاد من أدّلة الاحتياط ، والحكم المذكور على صحّة هذا الفرض مسلّم ، لبداهة الإباحة فيما لم يعلم وجوبه أو حرمته خصوصا ولا عموما ، فلا ينهض الرواية على محلّ الاستدلال ، لأنّ قصارى ما لم يعلم في الواقعة إنّما هو الحكم الخاصّ ، وأمّا الحكم العامّ فليس ممّا لم يعلم لمكان أخبار الاحتياط القاضية بوجوبه.

وفيه : أنّ الحكم العامّ أيضا بعد منع نهوض أدلّة الاحتياط لإثبات الوجوب غير معلوم ، هذا مع أنّ ظاهر الرواية في متفاهم العرف تعليق الحكم بالسعة على عدم العلم بالحكم الخاصّ ، وهذا في نفسه ينفي وجوب الاحتياط.

وبذلك اندفع ما قيل : من أنّ الاخبارييّن لا ينكرون عدم وجوب الاحتياط على من لم يعلم وجوبه من العقل والنقل بعد التأمّل والتتبّع ، فإنّ هذه الرواية تدلّ على عدم وجوب الاحتياط في الشبهات ، وعلى الاخباريّين إثبات وجوبه فيها ، وحينئذ تطرح هذه الرواية لا أنّه يناقش في دلالتها.

واخرى : بمنع نهوض الرواية على المطلوب ، إذ غاية ما تدلّ عليه إنّما هو كون الناس في سعة ما داموا جاهلين ، فلا يندرج فيه العالم بالحكم ولو إجمالا ، والعلم الإجمالي بالحكم حاصل في المقام ، لبداهة العلم بأنّ في الشريعة واجبات ومحرّمات.

وفيه : أنّها بإطلاقها بل عمومها تفيد الرخصة مطلقا ولو مع العلم الإجمالي المذكور ، فإنّ « الناس » من اسم الجمع المحلّى فيعمّ العالم بالإجمال وغيره إن فرض وجوده ، مع ظهور قوله عليه‌السلام : « ما لم يعلموا » في عدم العلم التفصيلي بالخصوص.

نعم يمكن المناقشة في الاستدلال بها بمنع ورودها لتأسيس أصل البراءة ، بل لتأسيس أصل آخر مجمع عليه وهو أصالة ، الطهارة ، الّتي ورد بها الخبر المستفيض المتلقّى بالقبول « كلّ شيء نظيف حتّى يعلم أنّه قذر (١) » نظرا إلى أنّ النجاسة أيضا ضيق ، فمعنى كونهم في سعة عدم كونهم في ضيق النجاسة ما لم يعلموا بها.

وممّا يشعر به ما في ذيل خبر السكوني عن أبي عبد الله عليه‌السلام : « أنّ أمير المؤمنين عليه‌السلام سئل عن سفرة وجدت في الطريق مطروحة كثير لحمها وخبزها وجبنها وبيضها ، وفيها سكّين ، فقال أمير المؤمنين عليه‌السلام : يقوّم ما فيها ثمّ يؤكل ، لأنّه يفسد وليس له بقاء ، فإذا جاء طالبها

__________________

(١) الوسائل ٢ : ١٠٥٤ الباب ٣٧ من أبواب النجاسات ، ح ٤.

٢٥

غرموا له الثمن ، قيل له : يا أمير المؤمنين لا يدرى سفرة مسلم أم سفرة مجوسي؟ فقال : هم في سعة حتّى يعلموا (١) ».

ويمكن دفعها : بمنع ورود الرواية المستدلّ بها في شبهة الطهارة والنجاسة ، ولو سلّم فالعبرة بعموم اللفظ لا خصوص المورد ، فالرواية بلفظها تدلّ على عدم كون الناس عند الشبهة في ضيق ، سواء كان الضيق من جهة الوجوب أو الحرمة أو النجاسة ، بل ضيق النجاسة أيضا يرجع إلى ضيق الإيجاب والتحريم ، لأنّه لو لا وجوب الاجتناب عن النجس وحرمة تناوله لم يكن في نجاسته من حيث هي ضيق ، فالسعة في ضيق النجاسة أيضا سعة في ضيق الإيجاب والتحريم لا غير.

وأمّا الإجماع فيمكن تقريره بوجهين :

أحدهما : الإجماع على عدم وجوب الفعل وعدم العقاب على تركه ممّا لم يرد دليل عقلي ولا نقلي على وجوبه من حيث هو ، ولا من حيث إنّه مجهول الحكم ، وهو بهذا المعنى ممّا لا يمكن الاسترابة فيه ، كما لا يمكن لأحد إنكار الحكم المجمع عليه ، إلاّ أنّه لكونه معلّقا على موضوع لا يحرز إلاّ بعد إبطال أدلّة القول بوجوب الاحتياط ومنع نهوضها على وجوبه لا ينفع إلاّ بعد الفراغ عن إبطالها.

وثانيهما : الإجماع على عدم وجوبه وعدم العقاب على تركه مطلقا ، إذا كان ممّا لم يرد بوجوبه من حيث هو دليل عقلي ولا نقلي.

والفرق بينه وبين الأوّل أنّه لو تمّ دليل وجوب الاحتياط كان رافعا لموضوع الإجماع بالتقرير الأوّل ولم يكن الإجماع معارضا له ، وهو بالتقرير الثاني لكونه في نفسه نافيا لوجوب الاحتياط كان معارضا لدليله ، وحينئذ فلابدّ من تأويله أو إطراحه على تقدير حصول الإجماع بهذا المعنى.

ويمكن تحصيله بأحد الطرق الأربع :

الأوّل : تتبّع كلمات الأصحاب من المحدّثين والفقهاء والاصوليّين ، فإنّه يشرف المتتبّع على القطع بإطباقهم على الأخذ بمقتضى البراءة الأصليّة في نحو مفروض المسألة ، وعدم الا لتزام بالاحتياط بالبناء على وجوب الفعل من حيث كونه مجهول الحكم تعويلا على

__________________

(١) الوسائل ٢ : ١٠٧٣ الباب ٥ من أبواب النجاسات ، ح ١١ و ١٦ : ٣٠٧ الباب ٣٨ في حكم ما يوجد من الجلد واللحم في بلاد المسلمين ، ح ٢ و ١٧ : ٣٧٢ ـ ٣٧٣ الباب ٢٣ من أبواب اللقطة ، ح ١.

٢٦

الاحتياط ، ولا ينافيه ما يتّفق أحيانا من عملهم بموجبه مراعاة لرجحانه ، فإنّه غير الالتزام بالعمل به ، والمراد من الإجماع ما ينفي الثاني لا الأوّل.

نعم ربّما يذكر الاحتياط في تضاعيف أبواب الفقه للإشارة إلى وجه احتمال الوجوب فيما ذكر له وجهان الوجوب وعدمه من غير ترجيح ، أو للتنبيه على الأصل الموجود في المسألة عند الشروع في الاستدلال على ما هو ديدنهم من الإشارة إلى أصل المسألة من البراءة أو الاحتياط كلّ في مورده ، أو لتأييد دليل المسألة به أو غير ذلك. بل المعروف موافقة الاخباريّين للمجتهدين في الرجوع إلى البراءة الأصليّة في الشبهة الوجوبيّة كما نصّ عليه جماعة.

بل ربّما يظهر من الصدوق في اعتقاداته كونه من دين الإماميّة حيث قال : « اعتقادنا أنّ الأشياء على الإباحة حتّى يرد النهي (١) فإنّ المعهود من ديدنه أنّه حيث عبّر بهذا اللفظ يريد به اعتقاد معاشر الإماميّة. ومعقد ذلك وإن كانت الشبهة التحريميّة إلاّ أنّ حكمه يجري في الشبهة الوجوبيّة أيضا بطريق الأولويّة ، لعدم الخلاف فيها أو ضعفه.

الثاني : الإجماعات المنقولة في كلام جماعة ، ونفي الخلاف عن العمل بالبراءة الأصليّة في الشبهة الوجوبيّة في كلام آخرين ، فإنّها بكثرتها ربّما تعطي القطع بكون المسألة إجماعيّة.

ومن جملة ذلك عبارة بعض الأعلام (٢) الظاهرة بل الصريحة في ذلك.

ومنه ما في المحكيّ عن المحدّث الحرّ العاملي في باب القضاء من الوسائل (٣) من نفي الخلاف عن نفي الوجوب عند الشكّ فيه ، إلاّ مع العلم باشتغال الذمّة بعبادة معيّنة مشكوكة بين فردين كالقصر والإتمام ، والظهر والجمعة ، وجزاء صيد واحد أو إثنين ونحو ذلك ، فإنّه يجب الجمع بينهما لتحريم تركهما معا.

ومنه أيضا ما في محكيّ المحدّث البحراني في مقدّمات حدائقه (٤) من نفي الخلاف عن صحّة الاستدلال بأصل البراءة في نفي وجوب فعل وجودي حتّى يقوم دليل على الوجوب ، ونحوه في محكيّه عن كتابه الموسوم بالدرر النجفيّة قائلا : « إن كان الحكم

__________________

(١) الاعتقادات ـ للشيخ الصدوق ـ المطبوع ضمن مصنّفات الشيخ المفيد ٥ : ١١٤.

(٢) القوانين. ٢ : ١٦.

(٣) الوسائل ١٨ : ١١٩ ـ ١٢٠ ، الباب ١٢ من أبواب صفات القاضي ، ذيل الحديث ٢٨.

(٤) الحدائق : ١ : ٤٣.

٢٧

المشكوك دليله هو الوجوب فلا خلاف ولا إشكال في انتفائه حتّى يظهر دليله (١) » إلى غير ذلك ممّا يقف عليه المتتبّع.

الثالث : الإجماع العملي المعبّر عنه بالسيرة الكاشفة عن رضا المعصوم عليه‌السلام ، فإنّ سيرة المسلمين في جميع الأعصار والأمصار على البناء على البراءة فيما يحتمل وجوبه ممّا لم يرد بوجوبه دليل ، وعدم الالتزام بالاحتياط لمجرّد الاحتمال.

الرابع : الإجماع الّذي يحصل بواسطة اندراج المسألة المجمع عليها في أصل كلّي مأخوذ من العقل والنقل مع عدم خفائه ، كما في تكليف المؤمن الغير المتمكّن من القيام في الصلاة ، فيقال : إنّ تكليفه بالقيام تكليف بما لا يطاق وهو قبيح عقلا ، واستقلال العقل بقبحه غير خفيّ على أحد من العلماء ، فهم مجمعون على عدم وجوبه ، فيقال هاهنا أيضا : إنّهم مجمعون على الرجوع إلى البراءة الأصليّة في الشبهات الحكميّة ممّا لا نصّ فيه ، لاستقلال العقل بقبح الخطاب بلا بيان ، وقبح العقاب بلا إقامة البرهان وهذا طريق حسن في تحصيل الإجماع لو لا مناقشة أنّ هذا الأصل الكلّي على تقدير وجوده ممّا يغني عن التمسّك بالإجماع فلا حاجة إلى تكلّف تحصيله بالنظر فيه.

وربّما يشكل الحال في التمسّك بجميع وجوهه من جهة وجود الخلاف في المسألة ، كما يظهر من محكيّ المحقّق في المعارج « العمل بالاحتياط غير لازم ، وصار آخرون إلى وجوبه ، وقال آخرون : مع اشتغال الذمّة يكون العمل بالاحتياط واجبا ومع عدمه لا يجب (٢) » بل يظهر منه المخالفة في الجملة في محكيّه عن المعتبر فإنّه مع اختياره في المعارج حجّيّة أصل البراءة مطلقا خصّها في المعتبر بما يعمّ به البلوى.

وممّن يظهر منه المخالفة في الجملة بل مطلقا بالنسبة إلى أزمنة الغيبة بل غيرها ممّا بعد انقطاع الوحي المحدّث الاستر آبادي في فوائده المدنيّة (٣) ، حيث خصّ جواز التمسّك بأصل البراءة بما قبل إكمال الدين دون ما بعده ، فأوجب التوقّف مطلقا والاحتياط في الجملة ، استنادا إلى الأخبار الآمرة بهما ، واستشهد لإكمال الدين بالأخبار المتواترة القاضية بورود خطاب قطعي في كلّ واقعة يحتاج إليها ، وأنّ كلّ ما جاء به نبيّنا فهو مخزون عند العترة الطاهرة عليهم‌السلام. وحينئذ فما تقدّم من نقل الإجماع تارة ونفي الخلاف اخرى عن

__________________

(١) الدرر النجفيّة : ٢٥.

(٢) المعارج : ٢١٦.

(٣) الفوائد المدنيّة : ١٣٨ ـ ١٣٩.

٢٨

جماعة فإمّا مبنيّ على عدم العثور بالخلاف ، أو على عدم الاعتداد به ، وعدم الاعتناء بشأنه إمّا لشذوذه فلا يقدح في الإجماع ، أو لسبق الإجماع عليه فيقطع بفساده.

وأمّا العقل : فلأنّه ببداهته يحكم بقبح العقاب والمؤاخذة على الفعل أو الترك من غير بيان للحكم الإلزامي الّذي يترتّب ذلك على مخالفته مع انحصار طريق معرفته في بيان الشارع ، فيحكم بخلوّ ذمّة المكلّف عن ذلك الحكم المشكوك فيه ما لم يبلغ بيانه إليه وإن كان مجعولا في الواقع.

ألا ترى أنّ العقلاء لا يرتابون في ذمّ المولى الّذي يؤاخذ عبده على مخالفة ما يعترف بعدم بيانه له ، ولو اعتذر العبد بعدم بلوغ بيان المولى إليه كان عذره مقبولا وليس للمولى دفعه بالاحتمال.

وقد يقرّر الدليل العقلي : بأنّ التكليف بما لا طريق للمكلّف إلى العلم به تكليف بما لا يطاق فيقبح وقوعه ، كما عن السيّد أبي المكارم في الغنية (١) ، وتبعه بعض من تأخّر عنه ، وكأنّ المراد به أنّ امتثال ما لا طريق إلى معرفته على وجه يجزم حين الفعل بكونه امتثالا غير مقدور ، ومرجعه إلى كون الإتيان بالفعل بعنوان أنّه مأمور به ـ على معنى القصد إلى هذا الوصف العنواني ـ مع الجزم به غير مقدور ، وإلاّ فالإتيان بالفعل من حيث هو أو لرجاء كونه مأمورا به بالنظر إلى احتمال الوجوب مقدور.

ولكن يتوجّه إليه أنّه إنّما يتمّ على تقدير اشتراط قصد الوجه والعلم به في الامتثال ، بأن يكونا من قيود المأمور به أو من شروط الامتثال ، أو اشتراط العلم بالوجه لكونه مقدّمة لقصد الوجه الّذي هو مقدّمة لقصد الإطاعة والامتثال الّذي هو من شروط صدق الامتثال ، والكلّ محلّ منع ، لأنّ الامتثال ربّما يتأتّى مع الاحتمال ، بأن يأتي بالفعل لرجاء كونه مأمورا به امتثالا لذلك الأمر المحتمل.

وقد عرفت أنّ الإتيان به على هذا الوجه مقدور ، كما أنّ امتثال التكليف به مع عدم العلم به عند احتماله والشكّ فيه مقدور.

نعم لا يصحّ أن يكون غرض الآمر من الأمر بالفعل مع عدم بيانه للمأمور امتثال أمره على هذا الوجه ، إلاّ أن يدلّه على وجوب الاحتياط عموما وهو الإتيان بكلّ ما احتمل فيه الوجوب لرجاء كونه مأمورا به في الواقع ، ومع عدمه كان أمره للغرض المذكور سفها

__________________

(١) الغنية ٢ : ١٠٥.

٢٩

وعبثا فالوجه في الدليل العقلي هو ما قرّرناه.

ولكن قد يورد عليه أيضا : بأنّ قبح المؤاخذة ـ على ما ظهر من تقرير الدليل ـ مبنيّ على انحصار البيان في بيان الشارع ، ولا ريب أنّ حكم العقل بوجوب دفع الضرر المحتمل بيان عقلي ، وهو كاف في صحّة المؤاخذة على ترك الفعل المحتمل الوجوب ، بل حكم العقل بقبح المؤاخذة كان معلّقا على عدم البيان ، وهذا بيان عقلي رافع لموضوع حكم العقل ، ومعه لا حكم للعقل بقبح المؤاخذة.

ويدفعه : أنّ ذلك على تقدير تسليمه ليس بيانا للحكم المجهول ، وحكم العقل بقبح المؤاخذة على مخالفته باق بحاله. ثمّ يتطرّق المنع إلى حكم العقل بوجوب دفع الضرر المحتمل فيما نحن فيه ، إمّا لعدم بقاء احتمال الضرر بعد حكم العقل بقبح العقاب والمؤاخذة ، أو لعدم كفاية مطلق الاحتمال في حكم العقل بوجوب دفع الضرر المحتمل ، بل يعتبر فيه كونه بحيث أوجب حصول الخوف في النفس ، وحكم العقل بقبح المؤاخذة يؤمننا من الضرر المحتمل ولا يحصل معه خوفه في النفس.

وبالجملة : فالضرر المحتمل إمّا العقاب على مخالفة الحكم الواقعي المجهول ، أو على مخالفة الاحتياط المحتمل وجوبه في الواقعة المجهول حكمها الواقعي. ولا سبيل إلى شيء منهما ، أمّا الأوّل : فلأنّه ممّا ينفيه العقل المستقلّ ، لحكمه بقبح المؤاخذة على ما لا طريق للمكلّف إلى معرفته.

وأمّا الثاني : فلأنّ احتمال وجوب الاحتياط إمّا لكونه طريقا إلى التخلّص عن مخالفة الواقع المؤثّرة في العقوبة والمؤاخذة ، أو لأنّ الحكم المجعول للواقعة بملاحظة الجهل بحكمها الواقعي من حيث إنّها مجهول الحكم هو وجوب الاحتياط.

وبعبارة اخرى : أنّ وجوب الاحتياط المحتمل في المقام إمّا إرشاديّ من العقل تخلّصا عن الوقوع في مهلكة العقوبة ، أو شرعي مجعول من الشارع للواقعة المجهولة الحكم.

والأوّل متفرّع على ما نفاه العقل فينتفي بارتفاع موضوعه.

والثاني يحتاج إلى بيان الشرع ، ولا يستقلّ بإدراكه العقل ، فالعقاب على مخالفته من دون بيان أيضا قبيح ، فالعقل الحاكم بقبح المؤاخذة على مخالفة الحكم الواقعي المجهول حاكم بقبح المؤاخذة على مخالفة الحكم الظاهري المجهول ، لأنّ الكلّ من واد واحد.

هذا كلّه إذا اريد بالضرر المحتمل الضرر الاخروي ، وأمّا إذا اريد به الضرر الدنيوي

٣٠

كالهلاك وزوال العقل ، واستيلاء القساوة ، والمنع من استجابة الدعاء وما أشبه ذلك ، ممّا يترتّب على الشيء من باب الخاصيّة ولا يتغيّر بالعلم والجهل ، من المضارّ والمفاسد الّتي لا يندفع احتمالها بدفع احتمال الضرر الاخروي ، لعدم كون بيانها على الشارع.

فلابدّ في التخلّص عن حكم العقل بوجوب دفعه المانع من العمل بأصل البراءة في مورده من أحد المنعين :

إمّا منع احتماله نظرا إلى أنّ الغالب في الواجبات اشتمال فعلها على المصلحة الملزمة لا اشتمال تركها على المفسدة ، فغاية ما يترتّب على ترك الواجب الواقعي بسبب الجهالة إنّما هو فوات المصلحة وهو ليس من الوقوع في المفسدة ، خصوصا إذا كانت المصلحة مجرّد تكميل النفس الموجب لا ستحقاق المثوبات الاخرويّة من رفع الدرجة. ولا ريب أنّ احتمال فوات المصلحة ليس من احتمال المضرّة ليجب دفعه ، وهذا نظير ما يقال من أن عدم الربح في التجارة فوات منفعة وهو لا يعدّ في العرف ضررا على وجه الحقيقة ، لأنّ الضرر عبارة عن نقص في رأس المال والمنفعة زيادة فيه ، وعدمها ليس نقصا فيه. ومن فروعه أنّه لو منعه مانع عن الاسترباح في ماله بحبس أو نحوه فهل يضمن المنافع الفائتة؟ قيل : نعم لعموم أدلّة نفي الضرر ، لأنّه بتفويته المنافع عليه ادخل عليه الضرر. والحقّ لا ، لعدم صدق الضرر على فوات المنفعة فلا يندرج في العموم.

أو منع حكم العقل بوجوب دفعه لعدم كون احتماله عقلائيّا باعتبار عدم إيجابه.

وقد يدفع : بأنّه من حيث احتمال الضرر الدنيوي راجع إلى الشبهة الموضوعيّة لرجوعه إلى الشكّ في كونه من مصاديق الضرر ، فلابدّ حينئذ إمّا من منع وجوب الدفع ، وإمّا من دعوى ترخيص الشارع وإذنه فيما شكّ في كونه من مصاديق الضرر.

المسألة الثانية

في الشبهة الحكميّة

الوجوبيّة الناشئة من إجمال النصّ ، كالفعل الّذي دار فيه الأمر بين الوجوب والاستحباب أو الإباحة أو الكراهة لإجمال اللفظ الوارد في بيان حكمه ، كالصيغة على القول باشتراكها لغة بين الوجوب والندب ، أو إذا وقعت عقيب الحظر على القول بالوقف ، أو إذا قلنا بكونها في الندب من المجازات الراجحة المساوي احتمالها لاحتمال الحقيقة.

٣١

والمعروف من مذهب الأصحاب هاهنا أيضا هو العمل بالبراءة وعدم وجوب الاحتياط ، خلافا لصاحب الحدائق (١) تبعا للمحدّث الاستر آبادي (٢) لمصيره إلى وجوب التوقّف والاحتياط ، ولعلّه مذهب غيرهما من الأخباريّة. ومقتضي ما تقدّم عن المحقّق في المعارج (٣) من نقل الخلاف وقوعه هاهنا أيضا.

والحقّ الأوّل ، فلا فرق في العمل بأصل البراءة بين ما لا نصّ فيه وما فيه نصّ مجمل ، لأنّه من جهة إجماله وعدم اتّضاح دلالته لا يفيد شيئا ، والبيان المعتبر في صحّة التكليف المسقط للعذر المصحّح للعقاب والمؤاخذة على المخالفة غير حاصل به ، فيكون وجوده بمثابة عدمه ، فيجري فيه جميع ما تقدّم من الأدلّة ممّا عدا الإجماع ، حتّى حكم العقل بقبح التكليف بلا بيان ، والمؤاخذة على مخالفة ما لا طريق للمكلّف إلى معرفته.

ولقد أغرب صاحب الحدائق (٤) هاهنا ـ على ما حكي ـ حيث إنّه بعد ما ذكر التوقّف قال : إنّ من يعتمد على أصالة البراءة يجعلها هنا مرجّحة للاستحباب ، ثمّ أورد عليه :

أوّلا : بمنع جواز الاعتماد على البراءة الأصليّة في الأحكام الشرعيّة.

وثانيا : بأنّ مرجع ذلك إلى أنّ الله تعالى حكم بالاستحباب لموافقة البراءة.

ومن المعلوم أنّ أحكام الله تعالى تابعة للمصالح والحكم الخفيّة ، ولا يمكن أن يقال : إنّ مقتضى المصلحة موافقة البراءة الأصليّة ، فإنّه رجم بالغيب وجرأة بلا ريب.

وفيه ما لا يخفى من الغفلة الواضحة عن حقيقة معنى أصالة البراءة والاعتماد عليها ، فإنّه على ما مرّ مرارا عبارة عن البناء على خلوّ ذمّة المكلّف عن التكليف المشكوك فيه ، والحكم عليه بعدم العقاب على مخالفة الحكم الواقعي المجهول على تقدير كونه الحكم الإلزامي من وجوب أو حرمة ، من غير تعرّض له بإثبات ولا بنفي ، فلا يعقل كونها مرجّحة للاستحباب إن اريد به أحد الحكمين المردّد بينهما الواقعة من حيث هي ، كيف وخلوّ ذمّة المكلّف عن الحكم الإلزامي المشكوك فيه لا ينافي كون الحكم المجعول للواقعة من حيث هي هو ذلك الحكم المشكوك فيه ، حتّى أنّا لو قلنا بعد نفي احتمال الوجوب بالاستحباب فهو ليس من مقتضى أصل البراءة ولا من مقتضى أدلّته ، ولا أنّه هو الاستحباب المحتمل المقابل للوجوب المحتمل ، بل هو استحباب آخر أثبته دليل خارج للواقعة المحتملة

__________________

(١ و ٤) الحدائق ١ : ٦٩ ـ ٧٠.

(٢) الفوائد المدنيّة : ١٦٣.

(٣) المعارج : ٢١٦.

٣٢

للوجوب ، بل الرجحان مطلقا على ما ستعرفه.

وأمّا ما ذكره من منع جواز الاعتماد على البراءة الأصليّة في الأحكام الشرعيّة.

ففيه أنّه إنّما لا يجوز الاعتماد عليها في إثبات الحكم الشرعي كإثبات الاستحباب استنادا إليها. وأمّا نفي الحكم الشرعي الإلزامي عن ذمّة المكلّف من غير تعرّض للواقعة من حيث هي اعتمادا عليها ، فلا ينبغي التأمّل في جوازه لدليله المعتبر الخالي عن المعارض.

وبهذا كلّه ظهر أنّ الاعتماد على أصل البراءة لا يرجع إلى القول بأنّ الشارع حكم بالاستحباب لموافقة البراءة ، وليس في العمل بها ما ينافي تبعيّة الأحكام للحكم الخفيّة والمصالح النفس الأمريّة كما لا يخفى ، ولا يرجع ذلك إلى القول بأنّ مقتضى المصلحة موافقة البراءة الأصليّة كما زعمه ، إذ لا ينافي كون مقتضى المصلحة هو الحكم الإلزامي ولكنّه لعدم وصول بيانه إلى المكلّف لم يتوجّه إليه ولم يتعلّق بذمّته ، وهذا هو معنى البراءة لا غير.

المسألة الثالثة

في الشبهة الحكميّة الوجوبيّة الناشئة عن تعارض النصّين

واعلم أنّ المراد من النصّين المتعارضين في عنوان هذه المسألة إنّما هو ما لو جامع الخبران بل الدليلان جميع شرائط الحجّية والاعتبار ، بحيث لم يكن لترك العمل بهما أو بأحدهما جهة إلاّ وجود المانع وهو التعارض ، إذ النصّ الغير الجامع لشرائط الاعتبار وجوده بمنزلة عدمه ، فيكون المسألة حينئذ ممّا لا نصّ فيه إن كان كلاهما غير جامعين ، أو ممّا تعيّن العمل بالنصّ الموجود فيه إن كان أحدهما غير جامع ، إذ الحجّة لا يعارضها غير الحجّة ، وإنّما يتأتّى التعارض على تقدير الحجّية الذاتيّة فيهما. ومع اعتبار ما ذكر في عنوان المسألة لابدّ من اعتبار كونهما بحيث لا يمكن الجمع بينهما ، ولا ترجيح أحدهما على الآخر إمّا لفقد المرجّح في الجانبين ، أو لوجوده فيهما ، وهذا هو الّذي يعبّر عنه في باب التعادل والتراجيح بتعادل الأمارتين على معنى تكافئهما. وفي ترجيح ما وافق الأصل منهما أو التخيير بينهما أو التساقط والرجوع إلى الأصل أو الوقف والرجوع إلى الأصل وجوه ، والأخباريّون على الوقف والعمل بالاحتياط ، والكلام في تحقيق هذا المقام موكول إلى محلّه ، ولا غرض لنا هاهنا إلاّ منع ما عليه الأخباريّون من وجوب الوقف في الخبرين والاحتياط في العمل ، ولا مستند لهم في ذلك إلاّ أخبار التوقّف وستعرفها مع قصور دلالتها على الوجوب.

٣٣

فالأقوى في مسألة التعادل هو التخيير على ما سنحقّقه في محلّه ، ولئن قلنا بالتساقط أو الوقف ، فالمرجع هو أصل البراءة لعموم أدلّته.

وممّا يدلّ على التخيير في المتعارضين التوقيع المرويّ عن الاحتجاج عن الحميري ، حيث كتب إلى الحجّة عجّل الله فرجه « يسألني بعض الفقهاء عن المصلّي إذا قام من التشهّد الأوّل إلى الركعة الثالثة ، هل يجب عليه أن يكبّر؟ فإنّ بعض أصحابنا قال : لا يجب عليه تكبيرة ويجوز أن يقول بحول الله وقوّته أقوم وأقعد. الجواب في ذلك حديثان : أمّا أحدهما : فإذا انتقل عن حالة إلى اخرى فعليه التكبير وأمّا الحديث الآخر : فإنّه روي أنّه إذا رفع رأسه من السجدة الثانية وكبّر ثمّ جلس ثمّ قام فليس عليه في القيام بعد القعود تكبير ، والتشهّد الأوّل يجري هذا المجرى ، وبأيّهما أخذت من باب التسليم كان صوابا » الخبر (١).

فإنّ الجواب بما ذكر تعليم لطريق العمل بالخبرين عند التعارض ، والنكتة في العدول عن بيان الحكم الواقعي مع إمكانه إليه في تلك الواقعة لا بدّ وأن تكون اقتضاء المصلحة ثمّة بقاء هذا الاختلاف الناشئ عن اختلاف الخبرين ، وعليه فلا حاجة إلى التزام عدم وجوب التكبير عنده في الواقع ، لتمسّ الحاجة إلى التزام كفاية قصد القربة في العمل ، دفعا لتوهّم لزوم الإغراء بالجهل من حيث تضمّنه قصد الوجوب فيما ليس بواجب على تقدير اختيار ما يدلّ من المتعارضين على الوجوب ، إذ لا مانع من كون الحكم الظاهري الناشئ من التخيير في الخبرين المتعارضين هو الوجوب. وبعد اختياره والالتزام بالوجوب يترتّب عليه جميع أحكام الوجوب ، ومورد الرواية وإن كان ما يشكّ في وجوبه على وجه الجزئيّة للعبادة ، إلاّ أنّ حكمها يجري في غيره ممّا يشكّ في وجوبه بالاستقلال بالإجماع المركّب والأولويّة القطعيّة.

المسألة الرابعة

في الشبهة الموضوعيّة من الشكّ في التكليف لدوران الأمر بين الوجوب وغير الحرمة ، وليعلم أنّ المراد من الشبهة الموضوعيّة في جميع مسائل هذا الباب هو الشبهة في الحكم الشرعي ، كما أنّ المراد من الشبهة الحكميّة المقابلة لها هو ذلك من غير فرق بينهما إلاّ في جهتين ، الاولى : كون الشبهة في الاولى ناشئة عن اشتباه الموضوع الخارجي كالمائع

__________________

(١) الاحتجاج ٢ : ٣٠٤ ، الوسائل ٤ : ٩٦٧ ، الباب ١٣ من أبواب السجود ، ح ٨.

٣٤

المردّد بين كونه من أفراد الخلّ أو الخمر ولذا تسمّى موضوعيّة ، وفي الثانية من أحد الامور الثلاث المتقدّمة.

والاخرى : كون المشتبه في الثانية هو الحكم الكلّي لموضوع كلّي معلوم ، وفي الاولى هو الحكم الجزئي لموضوع جزئي بعد معلوميّة الحكم الكلّي للموضوع الكلّي.

وبالجملة : الشبهة الموضوعيّة ما لم تكن آئلة إلى الحكم الشرعي لم يكن البحث عنها من وظيفة الفقيه ، كالبحث عن خمريّة المائع الموجود في الخارج وخلّيته ، بل وظيفته البحث عن حرمة ذلك المائع وحلّيته ، وحيث كانت الشبهة هاهنا مسبّبة عن اشتباه الموضوع تسمّى موضوعيّة ، ولذا لو زال الاشتباه عن الموضوع لزالت الشبهة عن الحكم الشرعي أيضا.

ثمّ الحكم الشرعي المشتبه في الشبهة الموضوعيّة إذا كان هو الوجوب فالشبهة فيه إمّا أن يكون لدوران الأمر بينه وبين الاستحباب ، أو بينه وبين الإباحة ، أو بينه وبين الكراهة ، والحكم في الجميع واحد وهو البناء على البراءة وعدم وجوب الاحتياط ، وذلك كصوم يوم الشكّ ، وردّ سلام من تردّد بين البالغ وغيره ، أو بين المؤمن والكافر ، ومن عبّر بلفظ « سلام » واحتمل كونه غالطا أو حاذفا للخبر ، وقضاء الوالدين على الولد الأكبر إذا شكّ في أنّ عليهما فائتة أو لا؟ أو أنّ ما عليهما من الفائتة فاتت لعذر أو عن عصيان؟ وتغسيل الميّت اللقيط وتكفينه ودفنه والصلاة عليه إذا تردّد بين المسلم والكافر ، إلى غير ذلك ممّا لا يحصى كثرة.

والعمدة من دليل العمل بأصل البراءة وعدم وجوب الاحتياط هاهنا الإجماع محصّلا ومنقولا على الاستفاضة من المجتهدين والأخباريّين ، بل هو من ضروريّات الدين في الجملة ، مضافا إلى قوله عليه‌السلام : « وما لا يعلمون » في حديث رفع التسعة ، فإنّه إن لم يختصّ بالشبهات الموضوعيّة فلا أقلّ من عدم اختصاصه بالشبهات الحكميّة على ما بيّنّاه ، وقوله عليه‌السلام : « الناس في سعة ما لم يعلموا (١) » وحكم العقل بقبح التكليف بلا بيان ، وقبح العقاب على مخالفة الحكم المجهول ، فإنّ كون الحكم الكلّي ممّا بيّنه الشارع وبلغ بيانه إلى المكلّف ممّا لا يجدي نفعا في صحّة التكليف في القضيّة الشخصيّة والعقاب على مخالفته مع جهالته ، كما أنّ مجرّد الاحتمال لا يصحّح شيئا من ذلك في نظر العقل.

وبالجملة بيان الحكم المشتبه في هذه القضيّة الشخصيّة وإن لم يكن على الشارع

__________________

(١) عوالي اللآلئ ١ : ٤٢٤ ، ح ١٠٩.

٣٥

إلاّ أنّه يقبح عليه العقاب على مخالفته.

وقضيّة ذلك خلوّ ذمّة المكلّف عن التكليف المشكوك فيه.

والحاصل : أنّ العقاب المتصوّر في هذا المقام إمّا أن يكون مترتّبا على مخالفة الحكم المشتبه أو على مخالفة الاحتياط ، والأوّل باطل لمكان الجهالة والاشتباه ، وكذلك الثاني لأنّه فرع على وجوب الاحتياط ووصول بيانه من الشارع إلى المكلّف ولا دليل عليه ، بل الدليل على خلافه ، لكن هذا إذا تعذّر الاستعلام ورفع الاشتباه ، وإذا أمكن وتساهل المكلّف فيه فلا يقبح العقاب على مخالفته عقلا ، لأنّ الجاهل المقصّر في موضوع الحكم الشرعي حكمه حكم الجاهل المقصّر في نفس الحكم الشرعي ، وكما أنّ الأوّل غير معذور عقلا فكذا الثاني.

وينبغي التنبيه على أمرين :

أحدهما : أنّ المراد بالوجوب المبحوث عنه في مسائل هذا المقام الّتي قد عرفت جريان أصل البراءة في الجميع هو الوجوب النفسي ، لأنّ الشكّ في وجوب الشيء لغيره باعتبار كونه جزءا أو شرطا لذلك الغير راجع إلى الشكّ في المكلّف به وهو خارج عن محلّ الكلام في هذا المقام ، وإن كان المختار فيه أيضا جريان أصل البراءة على ما ستعرفه. ثمّ الوجوب النفسي أعمّ من العيني والكفائي ، ومن التعييني والتخييري ، فلو شكّ في وجوب الشيء على الكفاية أو في وجوب شيئين أو أشياء على التخيير مع القطع بعدم وجوب الأوّل عينا ولا الثاني تعيينا يعمل فيه بأصل البراءة لا غير.

وأمّا ما يقال : من أنّ الظاهر اختصاص أدلّة البراءة بصورة اختصاص الشكّ في الوجوب العيني سواء كان أصليّا أو عرضيّا كالواجب المخيّر المتعيّن لأجل الانحصار ، أمّا لو شكّ في الوجوب التخييري والإباحة فلا يجري فيه أدلّة البراءة ، لظهورها في عدم تعيين الشيء المجهول على المكلّف بحيث يلتزم به ويعاقب عليه.

ففيه : منع ظهور أدلّة البراءة في الوجوب العيني ، لأنّ الواجب المخيّر ـ بناء على مذهب العدليّة من أنّه كلّ واحد على البدل ـ وإن كان يتضمّن عدم وجوب الجميع إلاّ أنّه يتضمّن أيضا عدم جواز ترك الجميع.

فالشكّ في الوجوب التخييري والإباحة معناه الشكّ في اشتغال ذمّة المكلّف بالوجوب المتعلّق بكلّ واحد على البدل على وجه لو ترك الجميع كان معاقبا وعدمه ،

٣٦

ولا ريب أنّه ممّا يجري فيه جميع أدلّة البراءة.

والظاهر عدم كون مراد القائل من الشكّ في الوجوب التخييري والإباحة هذا المعنى ، بل غيره وهو الشكّ في وصف الوجوب بعد الفراغ عن إثباته في شيء مردّد بين كونه واجبا بعينه أو أحد أفراد الواجب المخيّر ، بقرينة قوله ـ عقيب ما تقدّم ـ : « وفي جريان أصالة عدم الوجوب تفصيل » لأنّه إن كان الشكّ في وجوبه في ضمن كلّي مشترك بينه وبين غيره أو وجوب ذلك الغير بالخصوص فيشكل جريان أصالة عدم الوجوب ، إذ ليس هنا إلاّ وجوب واحد مردّد بين الكلّي والفرد.

فتعيّن هنا إجراء أصالة عدم سقوط ذلك الفرد المتيقّن الوجوب بفعل هذا المشكوك ، وأمّا إذا كان الشكّ في استحبابه بالخصوص جرى أصالة عدم الوجوب ، وأصالة عدم لازمه الوضعي ، وهو سقوط الواجب المعلوم إذا شكّ في إسقاطه له.

وتحقيق المقام : إنّ الشكّ قد يكون في أصل وجوب فعل على الكفاية وعدمه ، ووجوب فعلين على التخيير وعدمه ، بأن يدور الفعل في الأوّل بين كونه واجبا على الكفاية أو مباحا على معنى عدم وجوبه أصلا بعد الفراغ عن عدم وجوبه عينا ، وفي الثاني بين كونهما واجبين على التخيير أو مباحين بعد الفراغ عن عدم وجوبهما على التعيين ، وحينئذ فلا ينبغي التأمّل في جريان أصل البراءة ويكون مفاده خلوّ ذمّة المكلّف عن التكليف المشكوك فيه ، وعدم ترتّب العقاب على ترك الفعل والفعلين.

وقد يكون في وصف الوجوب المردّد بين العين والكفاية أو بين التعيين والتخيير ، وحينئذ ففي جريان أصالة البراءة وعدمه مطلقا أو في الجملة تفصيل.

أمّا في المقام الأوّل فلأنّ الوجوب الكفائي يمتاز عن العيني بسقوط الفعل بمباشرة بعض المكلّفين عن الباقين في الأوّل دون الثاني ، مع اشتراكهما في تعلّق الخطاب بالجميع.

وحينئذ فإن سبق اطّلاع المكلّف بالخطاب أو سببه على مباشرة الغير ثمّ شكّ بعد حصول مباشرة الغير في وجوب الفعل عليه أيضا وعدمه ، فلا مجرى لأصالة البراءة ، لأصالة بقاء التكليف في ذمّتة استصحابا للحالة السابقة على مباشرة الغير ، لما عرفت من أنّ مباشرة البعض إنّما توجب سقوط التكليف عن الباقين إذا كان كفائيّا دون ما إذا كان عينيّا.

وإن لم يسبق اطّلاعه بهما إلاّ بعد حصول مباشرة البعض ، فيحكم بعدم وجوبه عليه عملا بأصل البراءة ، لرجوع الشكّ حينئذ إلى كونه في التكليف ، فلا وارد على أصل البراءة بخلاف ما في صورة سبق الاطّلاع ، فإنّ الاستصحاب المذكور وارد عليه.

٣٧

وأمّا في المقام الثاني : فقد يقال : إنّ التعيين يتضمّن ضيقا على المكلّف وأصل البراءة ينفيه لعموم أدلّته ، خصوصا قوله عليه‌السلام : « الناس في سعة ما لم يعلموا (١) » ولا يتفاوت الحال فيه بين ما لو فرضت مسألة الدوران في أمرين متبائنين كالظهر والجمعة ، أو في فرد وكلّي مشترك بينه وبين غيره إذا قطع تعلّق الوجوب بالأوّل وشكّ في تعلّقه به بالخصوص ، أو على أنّه أحد فردي الواجب المخيّر بينه وبين الثاني أو بين الفرد الآخر من الكلّي ، بناء على كون متعلّقه بحسب الواقع هو الكلّي لا الفرد بالخصوص.

ولكن هذا كلّه حسن لو لا أصالة الاشتغال المقتضية ليقين البراءة ، بناء على أنّ أصل البراءة إنّما يجري فيما لو كان الشكّ في التكليف ، أو آئلا إلى الشكّ في التكليف ، ومرجع دوران الأمر بين التعيين والتخيير إلى الشكّ في المكلّف به الّذي لا يؤول إلى الشكّ في التكليف ، لأنّه لو قيل بأنّ الأصل عدم تعلّق الوجوب بالظهر بالخصوص كان معارضا بأصالة عدم تعلّقه بالكلّي أو بالثاني على التخيير بينه وبين الأوّل ، فيشكّ في أنّ البراءة لا تحصل إلاّ بالظهر أو تحصل به وبالجمعة ، والقدر المتيقّن ممّا يحصل به البراءة هو الأوّل ، فهو المتعيّن عملا بالأصل المشار إليه. ويعضده استصحاب الاشتغال إن قلنا باستصحاب القدر المشترك وهو نفس الاشتغال المتيقّن ، لا بقيد كونه اشتغالا بأحدهما على التعيين ولا بقيد كونه اشتغالا بأحدهما على التخيير.

وحينئذ فلا يرد : أنّه إن اريد بالاشتغال المستصحب اشتغال الذمّة بأحدهما تخييرا أو بالكلّي ، فهو مرتفع يقينا بفعل المعادل المشكوك في تعلّق الوجوب به أو بأداء الفرد الآخر من الكلّي ، وإن اريد اشتغال الذمّة بأحدهما تعيينا فهو من أوّل الأمر غير ثابت.

وربّما يذكر من صور دوران الأمر بين التخيير والتعيين ما إذا قطع بكونه مسقطا للواجب المعلوم وشكّ في كونه واجبا مسقطا للواجب الآخر أو مباحا مسقطا لوجوبه ، نظير السفر المباح المسقط لوجوب الصوم ، وهذا الفرض إن صحّ واستقام لا يجري فيه شيء من أصلي البراءة والاشتغال ، وإن قلنا بجريان الأوّل في غير هذا الفرض لنفى احتمال التعيين ، إذ لا ضيق بوجود المسقط حتّى ينفى بأصل البراءة ، ويكفي حصوله في رفع الاشتغال وحصول البراءة وإن لم يصدق معه الامتثال ، فلا مجرى لأصالة الاشتغال.

نعم يجري بالنسبة إلى المسقط أصالة العدم ، ومفادها نفي تعلّق الطلب به ولو تخييرا.

__________________

(١) عوالي اللآلئ ١ : ٤٢٤ ، ح ١٠٩.

٣٨

لكن صحّة هذا الفرض لا تخلو عن تأمّل ، بل هي عند التحقيق محلّ منع ، إذ الوجه في إسقاط المسقط المفروض إمّا كونه محصّلا للمصلحة المقصودة من الأمر بالواجب المعلوم ، فلا مناص من التزام وجوبه ليكون أحد فردي الواجب المخيّر ، عملا بالاعتبار القاضي في فعلين متشاركين في المصلحة بوجوب طلب كلّ منهما على البدل لئلاّ يلزم الترجيح من غير مرجّح ، أو كونه رافعا لموضوع ذلك الواجب المعلوم أو شرط وجوبه ، فلا يصحّ كونه أحد فردي الواجب المخيّر ، بل إطلاق المسقط عليه حينئذ مسامحة ، وإلاّ فلا سقوط ولا إسقاط في الحقيقة.

وبذلك ظهر أنّ التمثيل لهذا الفرض بالسفر المباح المسقط لوجوب الصوم وارد على خلاف التحقيق ، لأنّ وجوب الصوم مشروط بالحضر ، فموضوعه المكلّف الحاضر بوصف كونه حاضرا ، والسفر المباح رافع لهذا الموضوع ، فليس هذا من باب سقوط الواجب مع بقاء موضوعه ، بل من باب تبدّل موضوع حكم بموضوع حكم آخر ، فعدم وجوب الصوم بعد السفر إنّما هو من جهة عدم كون المسافر من موضوعه.

وربّما جعل من هذا الباب ما لو شكّ في وجوب الائتمام على من عجز عن القراءة وتعلّمها ، بناء على رجوع المسألة إلى الشكّ في كون الائتمام مستحبّا مسقطا أو واجبا مخيّرا بينه وبين الصلاة مع القراءة ، فيندفع وجوبه التخييري بالأصل يعني أصل العدم.

وفيه : أنّ الإسقاط هاهنا ممّا لا معنى له ، لسقوط القراءة في الصلاة بالعجز ، مع امتناع وقوع الصلاة مع القراءة مع العجز عنها أحد فردي الواجب المخيّر ، لانتفاء القدرة عليها ، إذ القدرة على المكلّف به وعلى أجزائه كما أنّها شرط في الوجوب التعييني فكذلك في الوجوب التخييري ، فكما لا يصحّ وقوع الوجوب التعييني على هذه الصلاة فكذا لا يصحّ وقوع الوجوب التخييري عليها ، ففرض هذا المكلّف هو الصلاة الخالية عن القراءة ، كما أنّ فرض العاجز عن القيام في الصلاة هو الصلاة بلا قيام ، والشكّ في وجوب الائتمام إنّما هو للشكّ في بدليّة قراءة الإمام عن قراءة المأموم وقيامها مقامها ، وعليه فهو من دوران الأمر بين الوجوب التعييني والاستحباب لا من التخييري والاستحباب.

وربّما أمكن القول بعدم تعذّر الصلاة مع القراءة على من يتمكّن من الائتمام ، بناء على أنّ الإمام يتحمّل قراءة المأموم فيقوم قراءته مقام قراءته ، ومن الواجب على المكلّف تحصيل القراءة لصلاته إمّا بالتعلّم أو بالائتمام ، فالائتمام أحد فردي مقدّمة الواجب ، ومن

٣٩

المقرّر في فروع مقدّمة الواجب أنّه إذا تعذّر أحد فردي المقدّمة تعيّن الفرد الآخر ، ويصير واجبا معيّنا لا مخيّرا بينه وبين الفرد المتعذّر ، ولعلّه على ذلك مبنى القول بوجوب الائتمام في نحو المقام ، كما عن العلاّمة في الإرشاد قائلا : « والأقرب وجوب الائتمام على الامّي العاجز (١) » ولذا ذكر ولده في الإيضاح في وجهه ـ على ما حكي ـ : « أنّ وجه القرب تمكّنه من صلاة صحيحة القراءة » وقال : « ويحتمل عدمه لعموم نصّين أحدهما : الاكتفاء بما يحسن مع عدم التمكّن من التعلّم ، الثاني : ندبيّة الجماعة ، والأوّل أقوى لأنّه يقوم مقام القراءة اختيارا ، فتعيّن عند الضرورة ، لأنّ كلّ بدل اختياري يجب عينا عند تعذّر مبدله ، وقد بيّن ذلك في الاصول. ويحتمل العدم لأنّ قراءة الإمام مسقطة لوجوب القراءة عن المأموم والتعذّر أيضا مسقط ، فإذا وجد أحد المسقطين للوجوب لم يجب الآخر ، إذ التقدير أنّ كلاّ منهما سبب تامّ والمنشأ أنّ قراءة الإمام بدل أو مسقط (٢) » انتهى.

ومن مشايخنا (٣) من ذكر في المقام أنّ صلاة الجماعة فرد من الصلاة الواجبة فتتّصف بالوجوب لا محالة ، واتّصافها بالاستحباب من باب أفضل فردي الواجب ، فيختصّ بما إذا تمكّن المكلّف من غيره ، فإذا عجز تعيّن وخرج عن الاستحباب ، كما إذا منعه مانع آخر عن الصلاة منفردا.

لكن يمكن منع تحقّق العجز فيما نحن فيه ، فإنّه يتمكّن من الصلاة منفردا بلا قراءة ، لسقوطها عنه بالعذر كسقوطها بالائتمام ، فتعيين أحد المسقطين يحتاج إلى دليل.

أقول : الاولى أن يقال : إنّ أحد المسقطين إذا كان اضطراريّا سقط به اعتبار المسقط الاختياري ، على أنّ إطلاق المسقط عليه حينئذ مسامحة ، لاستناد السقوط في الحقيقة إلى العذر لتقدّمه على الائتمام ، فهو على تقدير حصوله لم يكن مسقطا جزما لتعذّر تحصيل الحاصل.

وثانيهما : أنّه قد عرفت بما لا مزيد عليه أنّ أصل البراءة بموضوعه ناطق بأن لا تعرّض فيه للواقع بنفي ولا إثبات ، فهو بهذا الاعتبار قاصر عن نفي كون الحكم المجعول للواقعة من حيث هي هو الوجوب ، وكما أنّه قاصر عن نفي ذلك فكذلك قاصر عن إثبات كون حكمها المجعول من هذه الحيثيّة هو الاستحباب فيما دار الأمر بينه وبين الوجوب ، أو الإباحة فيما دار الأمر بينها وبين الوجوب ، أو الكراهة فيما دار الأمر بينها وبين الوجوب ،

__________________

(١) لم نجده في الإرشاد ولعلّه سهو من قلمه الشريف ، ولكن العبارة موجودة في القواعد ١ : ٣١٨ ، وفيه ( بالعارف ) بدل ( العاجز )

(٢) إيضاح الفوائد ١ : ١٥٤. (٣) إيضاح الفوائد ١ : ١٥٤.

٤٠