تعليقة على معالم الاصول - ج ٦

السيّد علي الموسوي القزويني

تعليقة على معالم الاصول - ج ٦

المؤلف:

السيّد علي الموسوي القزويني


المحقق: السيد علي العلوي القزويني
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
المطبعة: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ١
ISBN: 964-470-559-9
الصفحات: ٤٨٦

وهذا واضح لا كلام فيه.

وإنّما الكلام في أنّ الواقعة إذا اخذت من حيث إنّها محتملة الوجوب ، واحتمال كونها محبوبة للشارع بعد نفي وجوبها من هذه الحيثيّة بأصل البراءة ، ونفي وجوب الاحتياط فيها بمنع نهوض أدلّته لإثبات الوجوب ، هل يثبت لها الاستحباب الشرعي ويحكم على الفعل المحتمل الوجوب بكونه ـ بملاحظة احتمال المحبوبيّة ومبغوضيّة الترك ـ مستحبّا شرعيّا؟ يمكن التزامه لوجوه :

الأوّل : حسن الاحتياط الغير البالغ حدّ اللزوم على ما يحكم به العقل ، فإنّه وإن لم يحكم بوجوبه ولم يستقلّ بإدراك الحسن الملزم فيه إلاّ أنّه يستقلّ بإدراك حسنه في الجملة ، وهو الّذي يعبّر عنه بالرجحان ، وهذا معنى ما يقال من أنّ الاحتياط حسن على كلّ حال ، بل هو إجماعيّ ، ولا ريب أنّ الإتيان بما احتمل وجوبه لاحتمال كونه مطلوبا ومحبوبا لله تعالى وكونه أو قى نفسه عن مخالفة أمره تعالى والخروج عن طاعته احتياط فينتظم قياس صغراه ، وكبراه كون الاحتياط حسنا ، فينتج أنّ الإتيان بما احتمل كونه محبوبا له تعالى حسنا ، ثمّ بحكم الملازمة بين الحسن العقلي والحكم الشرعي يثبت الاستحباب الشرعي.

الثاني : حسن الانقياد الّذي هو أيضا حكم عقلي ، فإنّ الانقياد للمولى على معنى تعريض النفس لإطاعته وموافقة أوامره ونواهيه حسن لذاته ، على معنى استحقاق فاعله المدح ، فإذا عرض ذلك للفعل المحتمل الوجوب إذا أتى به لرجاء كونه محبوبا للشارع ، كان من الوجه والاعتبار القاضي بحسن ذلك الفعل ، باعتبار كون الإتيان به على الوجه المذكور تعريضا للنفس لإطاعته تعالى فيحسن ، كما يحسن الكذب بعروض جهة النفع له ، وضرب اليتيم بعروض جهة التأديب ، ثمّ يثبت له الاستحباب الشرعي بحكم الملازمة على ما أشرنا إليه.

الثالث : ما ورد من الأخبار المستفيضة الّتي فيها الصحيح وغيره فيمن بلغه ثواب على عمل القاضية باستحبابه إذا أتى به التماس ذلك الثواب (١) ، وظاهر أنّ الإتيان بما احتمل كونه مطلوبا برجاء المطلوبيّة عمل يعمل به التماس الثواب ، اللازم للوجوب المحتمل البالغ إلينا فيتناوله الأخبار المشار إليها ، بناء على شمولها لمطلق احتمال المطلوبيّة والرجحان ،

__________________

(١) راجع الوسائل ١ : ٥٩ ، الباب ١٨ من أبواب مقدّمة العبادات.

٤١

خصوصا إذا استند إلى رواية ضعيفة كما هو القدر المتيقّن من موردها ، أو إلى فتوى الفقيه أيضا كما يندرج ذلك أيضا في موردها على الأقوى وكون دلالتها على الاستحباب من باب التأسيس على معنى مفادها حكم كبرويّ لموضوع أحرزه بلوغ المطلوبيّة والرجحان ولو لمجرّد الاحتمال الغير المستند إلى رواية ولا إلى فتوى فقيه ، لا من باب تأكيد الاستحباب البالغ إلينا الّذي يقتضيه الامور الضعيفة المذكورة ، على معنى دلالتها على اعتباره وكشفها عن أنّ الشارع قرّره وأخذه حكما للفعل المذكور الّذي يؤتى به على الوجه المذكور ، أو على تخصيص الاستدلال بها بصورة واحدة من صور المسألة ، وهو ما دار الأمر فيه بين الوجوب والاستحباب فيؤخذ بذلك الاستحباب المحتمل ونحكم بكونه حكما شرعيّا تمسّكا بها ، وإن قلنا بكون دلالتها على وجه التأكيد هذا.

ولكن الإنصاف : أنّ إثبات الاستحباب الشرعي بالطريق الأوّل في غاية الإشكال بل محلّ منع على التحقيق ، لأنّ الاحتياط في جميع موارده طريق إلى إدراك الواقع بعنوان القطع ، ففي محتمل الوجوب مثلا طريق إلى القطع بعدم مخالفة الحكم المجعول الواقعي على تقدير كونه الوجوب ، فحسنه الّذي يحكم به العقل غيريّ لا يؤثّر في حسن الفعل المحتاط به لنفسه إن لم يكن بحسب الواقع في نفسه حسنا ، فلا يؤثّر في حدوث حكم بحسب الشرع في ذلك الفعل لو لم يكن حكمه الواقعي المجعول هو الوجوب أو الاستحباب ، وإن أخذ الفعل مقيّدا بكون الإتيان به على وجه الاحتياط لمجرّد احتمال المطلوبيّة والمحبوبيّة ، حتّى أنّه لو فرضنا في موضع حكم العقل بحسنه أمره به صريحا كان كأوامر الطبيب إرشاديّا محضا ، قصد به مصلحة عدم الوقوع في مخالفة محبوب الشارع ومطلوبه ، بل لو فرضنا تأثير حسنه الغيري حسبما أدركه العقل في أمر الشارع به كان ذلك الأمر أيضا إرشاديّا لا غير ، ومن حكم الأمر الإرشادي أنّه لا يترتّب على موافقته ومخالفته أزيد ممّا يترتّب على موافقة الواقع ومخالفته.

فعلى تقدير عدم كون الفعل المحتاط به محبوبا له تعالى بحسب الواقع فالاحتياط اللاحق به لا يعطيه المحبوبيّة ، كما أنّه على تقدير كونه بحسب الواقع محبوبا له تعالى على وجه مبغوضيّة الترك فالاحتياط اللاحق به لا يوجب فيه المحبوبيّة على وجه عدم مبغوضيّة الترك ليتمّ به الاستحباب الشرعي ، الّذي هو مناط ترتّب الثواب على وجه الاستحقاق باعتبار الفعل من حيث هو.

٤٢

ودعوى كون رجحان الاحتياط بالفعل إذا اتي به لداعي احتمال المحبوبيّة ممّا يؤثر في ترتّب الثواب عليه حتّى فيما احتمل إباحته بل كراهته أيضا ، ولا ريب أن ترتّب الثواب على الفعل من آيات محبوبيّته ، ولا نعني من الاستحباب الشرعي إلاّ هذا.

يدفعها : إنّ هذا الثواب ـ على تقدير تسليمه ـ لا يترتّب على الفعل المحتاط به ، بل إنّما يترتّب على عنوان الاحتياط بحسب النيّة ، باعتبار ما تضمّنه من نيّة الخير وقصد الحسنة ، وقد ورد في عدّة من الأخبار ـ بل المستفيضة منها ـ أنّ نيّة الحسنة تكتب حسنة (١) هذا مع إمكان منع ترتّب الثواب على تقدير عدم مصادفة الاحتياط للمحبوبيّة الواقعيّة ، لأنّ العقل لا يستقلّ بإدراكه.

لا يقال : إنّ غاية ما لزم ممّا ذكرت هو أنّ الاحتياط لا يؤثّر في الاستحباب الشرعي على أن يكون حكم الواقعة من حيث هي ، وهذا ممّا لا كلام فيه ، بل الكلام في حكمها بملاحظة الجهل بحكمها الواقعي مع احتمالها المحبوبيّة ، فلم لا يجوز تأثير الاحتياط في كون حكمها بهذا الاعتبار هو الاستحباب ، ومرجعه إلى أنّ الحكم المجعول للجاهل بحكم الواقعة من حيث إنّه جاهل المحتمل لكونه محبوبا لله تعالى هو الاستحباب.

لأنّا نقول أوّلا : إنّ التزام الاستحباب على هذا الوجه لا يحتاج إلى توسيط الاحتياط ، لا على أن يكون علّة مؤثّرة ولا على أن يكون علّة كاشفة.

وثانيا : إنّ الاحتياط قاصر عن إفادة هذا المعنى أيضا حتّى على وجه الكشف ، فكون الحكم المجعول للجاهل بحكم الواقعة المحتمل للمحبوبيّة هو الاستحباب يحتاج إلى دليل ، والاحتياط لا يصلح لذلك كما عرفت.

لا يقال : لو لا حدوث الاستحباب بطروّ الاحتياط لم يصحّ الفعل المحتاط به إذا كان من قبيل العبادات ، لاشتراط صحّة العبادة بنيّة التقرّب وقصد الامتثال ، وهو فرع الأمر الغير المحرز في المقام مطلقا.

أمّا الأمر الواقعي فلفرض عدم العلم به ، وأمّا الأمر الظاهري فلفرض عدم حدوثه بمجرّد الاحتياط ، ولعلّ الالتزام بعدم الصحّة خلاف ما استقرّت به سيرة العلماء الصالحين فتوى وعملا في جميع الأعصار والأمصار على إعادة العبادات وتكرارها لمجرّد الخروج

__________________

(١) الوسائل : ١ : ٣٥ ـ ٤١ الباب ٦ من أبواب مقدّمة العبادات.

٤٣

عن مخالفة النصوص الغير المعتبرة والأقوال الشاذّة النادرة.

لأنّا نقول : إنّ فعل العبادة بعنوان الاحتياط معناه الإتيان بها لرجاء كونها مأمورا بها امتثالا لذلك الأمر المرجوّ ، وهذا كاف في تحقّق النيّة المعتبرة في العبادة ، فإن صادفت هذه النيّة للأمر الواقعي صحّت العبادة المأتيّ بها ـ على معنى موافقة الأمر ـ وإلاّ لم يصحّ بهذا المعنى ، ولا يلزم بذلك التشريع المحرّم ، لأنّ النيّة المذكورة وإن لم تؤثّر في هذه الصورة في صحّة العبادة إلاّ أنّها تؤثّر في خروجها عن عنوان التشريع كما هو واضح ، وعلى هذا التفصيل مبنى سيرة العلماء الصلحاء في إعادة العبادات.

وبالجملة الإتيان بالفعل لداعي الأمر الاحتمالي إيجابا أو ندبا ممّا يخرجه عن عنوان التشريع ، ولذا يقال : إنّ قاعدة الاحتياط واردة على قاعدة التشريع ، وذلك حينئذ إن صادف الأمر الواقعي إيجابا أو ندبا أثّر في الصحّة بمعنى موافقة الأمر وإلاّ فلا صحّة.

بل الإنصاف أنّ إثبات الاستحباب الشرعي بالطريق الثاني أيضا مشكل ، لأنّ أقصى ما يستتبعه الانقياد إنّما هو حسن الفاعل لأنّ الانقياد وصف فيه ، والمقصود إثبات الحسن في الفعل المنقاد به لأنّه مناط الاستحباب.

وتوهّم إنّ حسن الفاعل معناه استحقاقه من حيث إنّه فاعل للمدح ، ولا يكون كذلك إلاّ لفعله فيكون الفعل حسنا ، على معنى كونه بحيث يوجب في فاعله استحقاق المدح.

يدفعه : إنّ الفعل في معنى الحسن والقبح أعمّ ممّا يكون من صفات النفس أو من أفعال الجوارح ، ولذا يقال : إنّ العلم أو الشجاعة أو السخاوة أو التوكّل حسن ، على معنى كونه بحيث يوجب في فاعله استحقاق المدح ، والانقياد أيضا من الفعل بهذا المعنى ، لأنّه عبارة عن كون العبد مع مولاه في مقام الإطاعة ، وهو منشأ للفعل المنقاد به.

وغاية ما يسلّم هنا استحقاق فاعل الانقياد من حيث إنّه فاعله المدح ، فيكون الانقياد حسنا على معنى كونه بحيث أوجب في فاعله استحقاق المدح ، ولا يلزم بذلك استحقاقه المدح أيضا من حيث إنّه فاعل للفعل المنقاد به.

ومن الفرق الواضح بين ما لو قيل : « فلان نعم الرجل لأنّه منقاد لمولاه » وما لو قيل : « فلان نعم الرجل لأنّه فعل كذا » والّذي يصدق لمجرّد الانقياد هو القضيّة الاولى ، والّذي يثمر في استحباب الفعل المنقاد به إنّما هو صدق القضيّة الثانية ، ولا ملازمة بين القضيّتين في الصدق ، فمن اعتقد كون شيء مطلوبا لمولاه على خلاف الواقع فأتى به انقيادا صدق

٤٤

في حقّه القضيّة الاولى دون الثانية.

إلاّ أن يقال : ليس المراد بالانقياد هنا مجرّد عقد القلب لإطاعة المولى ، فإنّه عنوان آخر متضمّن للحسن الذاتي المدلول عليه بالعقل والنقل ، ومرجعه في حاصل المعنى إلى نيّة الخير وقصد الحسنة ، بل المراد به تعريض النفس في ظرف الخارج لإطاعة المولى ، وهذا أيضا حسن لذاته باستقلال من العقل ، غير أنّه لا يدخل في ظرف الخارج إلاّ في ضمن فعل خاصّ ، فإن صادف ذلك واجبا أو مندوبا واقعيّا اجتمع فيه حسنان أحدهما ما يستند إلى ذات الفعل ، والآخر ما يستند إلى هذا العنوان العامّ المجامع له. وإن صادف ما احتمل كونه واجبا أو مندوبا مع عدم كونه كذلك في الواقع حصل فيه الحسن العرضي باعتبار العنوان العامّ المجامع له.

ويدفعه : أنّ الإطاعة مفهوم منتزع عن متعلّق الأمر والنهي باعتبار ما يلحقه من الموافقة ، كما أنّ المعصية عبارة عن مفهوم منتزع عن متعلّقهما باعتبار ما يلحقه من المخالفة ، وتعريض النفس للإطاعة ليس له معنى محصّل إلاّ حمل الجوارح على فعل خاصّ لداعي الإطاعة ، وحسنه إنّما يكون باعتبار صدق عنوان الإطاعة عليه ، وهي تابعة للأمر أو النهي ، وإلاّ فلا موافقة للأمر والنهي ولا مخالفة لهما ، فلا إطاعة ولا معصية ، فتعريض النفس للإطاعة ما لم يكن أمر هنالك لا يتّصف بحسن إلاّ باعتبار المعنى النفساني وهو حسن في الفاعل ، ولا يؤثّر في حسن الفعل الّذي يحصل في ضمنه لداعي الأمر الاحتمالي إيجابا أو ندبا.

نعم يمكن أن يقال : إنّا نقطع بملاحظة بناء العرف وطريقة العقلاء وشهادة الوجدان أنّ الآتي بما احتمل كونه مطلوبا للمولى بداعي احتمال المطلوبيّة مستحقّ للمدح بل الصلة أيضا لمجرّد إتيانه به على الوجه المذكور ، وذلك يكشف عن حسن الاتيان على الوجه المذكور ، فيكشف عن محبوبيّته للمولى ، وإن لم يكن الاتيان به من حيث هو ولا على الوجه المذكور محبوبا له ، فحسن ذلك الفعل الكاشف عن المحبوبيّة ممّا لا ينبغي التأمّل ، سواء سمّي الوجه فيه احتياطا أو انقيادا أو غيرهما.

وبالجملة فالإتيان بما احتمل المطلوبيّة بداعي احتمال المطلوبيّة ممّا استقلّ العقل بإدراك حسنه ورجحانه الغير البالغ حدّ المنع من النقيض ، فيكشف عن المحبوبيّة في نظر المولى ، ولا سيّما الشارع الّذي يكثر في أوامره ما يقصد به مجرّد تكميل النفس والتقرّب

٤٥

ليحصل بهما رفع الدرجات واستحقاق المثوبات الاخرويّة ، وإن كان الفعل معه خلوا عن سائر المصالح والخواصّ ، ولا نعني من الاستحباب الشرعي إلاّ هذا المعنى.

وإن شئت إثبات الكراهة الشرعيّة أيضا بهذه الطريقة فعمّم المقال بالقياس إلى ترك كلّ ما احتمل كون تركه مطلوبا للمولى ، فإنّ هذا الترك أيضا حيثما حصل بداعي احتمال المطلوبيّة فالعقل مستقلّ بإدراك حسنه واستحقاق فاعله المدح والصلة ، ويكشف ذلك عن محبوبيّة ذلك الترك للمولى ، وإن لم يكن تركه من حيث هو ولا على هذا الوجه محبوبا له ، ولا نعني من الكراهة إلاّ هذا المعنى.

ولا فرق في احتمال المطلوبيّة المأخوذ في عنوان هذين القسمين بين احتمال الطلب الحتمي أو غيره ، فالاستحباب يثبت بحكم العقل في كلّ ما احتمل كونه واجبا أو مندوبا من قبل المولى ولم يقم على وجوبه أو ندبه دليل معتبر. والكراهة أيضا تثبت بحكم العقل في كلّ ما احتمل كونه حراما أو مكروها من قبله ولم يقم على حرمته أو كراهته دليل معتبر ، فمناط حكم العقل إنّما هو قيام احتمال المطلوبيّة من غير فرق بين كونه مستندا إلى خبر ضعيف أو فتوى فقيه أو غيرهما من الأسباب الغير المعتبرة ، ومرجع ما بيّنّاه إلى إثبات الحسن المستتبع للاستحباب الشرعي للفعل المأتيّ به بداعي احتمال المطلوبيّة ، ويتأكّد ذلك من جهة الأولويّة فيما دار الأمر فيه بين الوجوب والاستحباب ، فإنّ المطلوبيّة فيه محقّقة لا محالة والفعل راجح البتّة ، فالإتيان به بداعي المطلوبيّة المحقّقة أولى بالحسن والمحبوبيّة الغير البالغ حدّ مبغوضيّة الترك.

وحيث ظهر أنّ موضوع الاستحباب الثابت بهذه الطريقة هو الفعل المحتمل للمطلوبيّة المأتيّ به لداعي احتمال المطلوبيّة ، علم أنّ الاستحباب لا يثبت لهذا الفعل من حيث هو ، ولا المأتي به لا لداعي احتمال المطلوبيّة.

وربّما يشكل الحال من جهة كون موضوع الاستحباب هو الفعل المأخوذ على الوجه المذكور في مقام الإفتاء ، لعدم جواز الحكم باستحباب الفعل بقول مطلق ، بأن يقال مثلا : « يستحبّ غسل الجمعة » واريد به الاستحباب الثابت بالطريقة ، المذكورة لأنّه إفتاء بالحكم الشرعي في غير موضوعه ، فلابدّ في صحّة هذا الإفتاء من التنبيه على موضوع الحكم أيضا بأن يقال : « غسل الجمعة ـ مثلا ـ ما احتمل كونه مطلوبا للشارع ، ويستحبّ فعل ما احتمل كونه مطلوبا له لداعي احتمال المطلوبيّة ، فيستحب غسل الجمعة لداعي احتمال المطلوبيّة ».

٤٦

ولعلّ نحو هذا البيان غير معهود من المفتين في فتاويهم ، فإمّا أن يقال : بأن نحو هذا الاستحباب ممّا لا أصل له عندهم ، أو يقال : إنّ بيان موضوعه على الوجه المذكور غير لازم ، بل يجوز الاقتصار فيه على ذكر الفعل من دون التعرّض بما أخذ فيه من احتمال المطلوبيّة وكون الداعي إلى فعله احتمال المطلوبيّة.

والأوّل أظهر ، لتطرّق المنع إلى إثبات حسن الفعل بالبيان المذكور ، فإنّ استحقاق الآتي بما احتمل المطلوبيّة بداعي هذا الاحتمال عند العقل للمدح بل الثواب أيضا وإن كان مسلّما ، إلاّ أنّه لا يكشف عن حسن الفعل المأتيّ به على هذا الوجه إلاّ إذا كان استحقاقه لهما لإتيانه وهو غير واضح ، بل الظاهر أنّه يستحقّهما لكيفيّة إتيانه وهو كونه بداعي احتمال المطلوبيّة ، فإنّه ممّا يكشف عن وصف نفساني ممدوح من حسن نيّة وطيب سريرة ، ومرجعه فيما بين العبد والمولى إلى الانقياد بالمعنى المتقدّم ، وهو كون العبد مع مولاه في مقام الإطاعة ، فمرجع الحسن المذكور أيضا إلى الفاعل لا من حيث فعله بل من حيث وصفه الحسن ، وقد عرفت أنّه لا يكفي في ثبوت الاستحباب للفعل.

بل الإنصاف : أيضا أنّ إثبات الاستحباب بالطريق الثالث وهو التمسّك بروايات بلوغ الثواب مشكل لقصورها عن إفادة ذلك ، فإنّ غاية ما يستفاد منها أنّ من عمل عملا بلغ فيه ثواب طلبا لذلك الثواب حصل له ذلك الثواب ، وهذا ممّا لا قضاء له بكون ذلك على وجه الاستحقاق ، ولا بترتّبه على العمل ليكشف عن رجحانه عند الله سبحانه ومطلوبيّته له ، ولو لمجرّد كون الإتيان به مقرونا بطلب الثواب ، لجواز كونه من جهة أنّه نوى الخير ، أو أمل الثواب ممّن لا يخيّب أمله ، أو أنّه لا يضيّع عمل عامل ، أو نحو ذلك.

وتوهّم أنّ التعبير عن الاستحباب بالثواب كثير شائع في أخبار أهل البيت عليهم‌السلام ، كما أنّ التعبير عن الوجوب بالعقاب على الترك وعن الحرمة بالعقاب على الفعل كثير شائع في أخبارهم ، بل أكثر المستحبّات ثبت استحبابها بوعد الثواب من دون تصريح بالاستحباب ، نظرا إلى أنّ الثواب من آثار الاستحباب ومعلولات الفعل المستحبّ ، فيستدلّ به عليه استدلالا إنّيّا فكذا فيما نحن فيه. وإن شئت قلت : إنّ الاخبار بحصول الثواب كناية عن الاستحباب.

يدفعه : أنّه إنّما يتمّ فيما لو دلّ النصّ على ترتّب الثواب على الفعل ، كما لو قيل ـ مثلا ـ : « من عمل كذا فله من الأجر والثواب كذا وكذا » وليس كذلك الأمر فيما نحن فيه ، لظهور الأخبار المذكورة في ترتّب الثواب على رجائه والتماسه المقرون بالفعل ، لا على

٤٧

الفعل المقرون به الرجاء والالتماس ، ولعلّه تفضّل منه تعالى لجريان عادته بأنّه لا يخيّب أمله ، أو لأنّه يستحقّه بحسن نيّته الكاشفة عن مقام الانقياد ، بلا دلالة فيها صراحة ولا ظهورا على رجحان أصل العمل ومطلوبيّته له تعالى.

نعم إنّما تدلّ على الاذن والرخصة فيه فيخرج بها عن عنوان التشريع المحرّم إذا كان عبادة ، وهذا بمجرّده لا يكفي في ثبوت الاستحباب الشرعي.

ويحتمل قويّا أن يراد من الثواب الحاصل للعامل بمجرّد رجائه والتماسه ثواب خاصّ ، أو قدر معيّن منه بالغ في عمل مستحبّ ثابت استحبابه من غير جهة تلك الأخبار ، لم يعدّ له ذلك في الواقع بل ما دونه بقرينة التعبير ب « الخير » في غير واحد من تلك الأخبار ، الظاهر فيما ثبت خيريّته مع قطع النظر عنها. واحتمال إرادة ما ثبت خيريّته بها كما احتمله بعض الفضلاء (١) بعيد عن الفهم ، فلا ينبغي الإصغاء إليه بلا شاهد. وعليه فاتّضح ظهورها فيما ذكرناه ، لا فيما زعموه من كونها لإفادة تشريع العمل البالغ فيه وجعل الاستحباب له.

ولك أن تجعل العمل في مورد هذه الأخبار ما يعمّ العمل المستحبّ المحرز استحبابه لخارج منها ، والعمل الغير المستحبّ الّذي لم يثبت له استحباب مع قطع النظر عنها بقرينة كلمة الوصل الواردة فيها المفيدة للفرد الخفيّ ، لوضوح أنّه إذا كان ما لم يقله رسول الله فردا خفيّا فالفرد المقابل له هو ما قاله رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، ولا يكون إلاّ في مستحبّ ثابت استحبابه من غير جهة هذه الأخبار ، وهذا ينهض قرينة قويّة على عدم كونها مسوقة لتشريع العمل البالغ فيه الثواب بطرق غير معتبرة وجعل الاستحباب له ، ولا جعل الكراهة أيضا بناء على تعميم العمل بالنسبة إلى الترك أيضا ، إمّا لأنّ الترك المقترن بالقصد والإرادة عمل حقيقة ، أو بقرينة التعبير بالشيء في بعض هذه الأخبار الشامل بعموم مفهومه للفعل والترك معا ، بل هي مسوقة للترغيب والتحريض على تحصيل المثوبات البالغة في أفعال وتروك برجائها والتماسها في الإتيان.

وتوهّم أنّ اعتبار مقارنة الرجاء والالتماس للعمل كما هو ظاهر الأخبار ممّا يأبى عدم كونها مسوقة للترغيب على أصل العمل ، وكون الثواب المرجوّ مترتّبا على مجرّد الرجاء والالتماس من دون مدخليّة للعمل فيه ، لأنّه لو صحّ ذلك فلا حاجة إلى اعتبار العمل ، بل

__________________

(١) الفصول : ٣٠٥.

٤٨

وجب ترتّب الثواب على الرجاء النفساني والالتماس الغير المقارن للعمل أيضا.

يدفعه : أنّ النكتة في ذلك إمّا اعتبار اندراج المقام في عموم ( لا أُضِيعُ عَمَلَ عامِلٍ )(١) إن كان حصول الثواب على وجه التفضّل لا على وجه الاستحقاق ، أو ليشبه من جهته بالمطيعين المقرّبين حيث أتى بعمل غير مطابق على وجه الانقياد طلبا لما بلغه فيه من الثواب فيحصل له مقام القرب ، أو زيادة قرب إليه تعالى ويستحقّ به الثواب المرجوّ ، إن قلنا بكون حصوله على وجه الاستحقاق.

وأمّا الاستدلال لتتميم دلالة هذه الأخبار بأنّه إذا ثبت بهذه الأخبار ترتّب الثواب على العمل تناوله عموم الخطابات الدالّة على الأمر بالاستباق إلى الخيرات والمسارعة إلى المغفرة والجنّة ، إذ لا ريب في أنّ ما يترتّب عليه الثواب مندرج في الخيرات ، والثواب الّذي يتضمّن الخبر ترتّبه على العمل قد يكون مغفرته تعالى ، أو دخول الجنّة أو ما يستلزم دخولها من نيل ما فيها من حور أو قصور ، فيتناوله الأمر بالمسارعة.

ففيه أوّلا : ما عرفت من منع ترتّب الثواب على العمل ، بل على مقارنه بشرط العمل.

وثانيا : منع اندراجه بمجرّد ذلك في الخير ما لم يثبت رجحانه ومطلوبيّته له تعالى ، فلا يتناول عموم الأمر بالاستباق إلى الخيرات ، ولو اريد إثبات خيريّته بنفس هذا العموم يلزم المحال ، لأنّ موضوع الخطاب لا يحرز بنفس هذا الخطاب المسوق لبيان حكمه لا غير.

وبما ذكر يتوجّه المنع إلى كون هذا العمل سبب المغفرة والجنّة ، ولو سلّم فهو لا يلازم الرجحان والمطلوبيّة.

ثمّ ولو سلّم دلالة هذه الأخبار على تشريع العمل البالغ فيه الثواب وجعل الاستحباب له ، فهي غير متناولة لمحتمل الوجوب المنفيّ وجوبه التكليفي بأصل البراءة لشبهة موضوعيّة أو حكميّة عن فقد النصّ أو إجماله أو تعارض النصّين ، لاختصاصها بمحتمل الاستحباب فقط ، أو هو ومحتمل الكراهة لما تضمّنها من بلوغ الثواب ، فإنّ أقصاه التناول للاستحباب إذا بلغ بهذا اللفظ ، نظرا إلى أنّ المنساق منه في أذهان المتشرّعة إنّما هو الثواب على الفعل. فلو قيل : « يستحبّ كذا » ينساق منه عرفا كونه ما يثاب على فعله ، فالإخبار بالثواب على عمل لا يتناول الإخبار بوجوب عمل ولا الإخبار بحرمة عمل ، فإنّ

__________________

(١) آل عمران : ١٩٥.

٤٩

الوجوب والحرمة وإن كانا يتضمّنان الثواب على الفعل أو على الترك ، لكن المنساق من لفظيهما في أذهان المتشرّعة إنّما هو العقاب على الترك أو على الفعل. فلو قيل : « يجب كذا أو يحرم كذا » ينساق من الأوّل عرفا كونه ما يعاقب على تركه ومن الثاني كونه ما يعاقب على فعله ، فقوله عليه‌السلام : « من بلغه ثواب [ من الله ] على عمل (١) » مثلا المتناول لبلوغ الاستحباب أيضا ، لا يتناول ما بلغ فيه الوجوب ولا الحرمة برواية ضعيفة أو فتوى فقيه ، أو لمطلق الاحتمال إن قلنا بشمولها له ، ولذا ترى أنّ القائلين بقاعدة التسامح في أدلّة السنن من أصحابنا استنادا إلى هذه الأخبار لا يجرونها في غير الاستحباب والكراهة.

فتلخّص من جميع ما قرّرناه أنّ القول بالاستحباب الشرعي بالمعنى المصطلح في الشبهات الوجوبيّة بعد نفي الوجوب عنها بأصل البراءة غير متّجه ، لعدم مساعدة دليل عليه ، ولعلّه لذا ما هو المعهود من طريقة الفقهاء في كتب الفتوى والاستدلال من ـ قولهم بعد نفي الوجوب في الوقائع المشكوكة بالأصل ـ : أنّ الاحتياط أن لا يترك ، والأحوط كذا ، وما يؤدّى مؤدّاهما ، دون قولهم : يستحبّ ونحوه.

كما ظهر بما قرّرناه من منع دلالة أخبار البلوغ على الاستحباب ولا الكراهة أنّ قاعدة التسامح في أدلّة السنن ممّا لا أصل له ، إلاّ أن يرادوا بهما غير معنييهما المصطلح عليهما ، فقولنا : « يستحبّ كذا أو يكره كذا » إذا كان مستندهما هذه القاعدة معناه : أنّه ما يثاب على فعله أو تركه ، وإن لم يكن راجحا ولا مطلوبا له تعالى في الواقع.

وحينئذ فلا مضائقة في القول بالقاعدة لتطابق العقل والنقل عليها بهذا المعنى.

نعم ربّما يشكل الحال في بعض الفروع المتفرّعة على القول بهذه القاعدة ، مثل ارتفاع الحدث بالوضوء المستحبّ الثابت استحبابه بها ، فإنّه إذا لم يكن مأمورا به أو لم يثبت كونه مأمورا به فتأثيره في رفع الحدث مشكل وإن استحقّ فاعله الثواب ، وكذا الكلام في منع المسح ببلل المسترسل من اللحية في الوضوء إن ثبت استحباب غسله بهذه القاعدة أو بطريقة الاحتياط ، أو من جهة الانقياد اللذين قد عرفت عدم نهوضهما لإثبات الاستحباب المصطلح ، وإن قلنا بإفادتهما استحقاق الفاعل المدح بل الأجر والثواب كما تقرّر ذلك في قاعدة الانقياد على ما عرفت ، والله العالم بحقائق أحكامه.

__________________

(١) الوسائل ١ : ٦٠ الباب ١٨ من أبواب مقدّمة العبادات ، ح ٧.

٥٠

المطلب الثاني

في الشبهة الحكميّة التحريميّة

لفقد النصّ أو إجماله ، وإنّما قيّدناها بالحكميّة لعدم دخول الموضوعيّة في الخلاف الآتي مطلقا ، ووجه التقييد بفقد النصّ أو إجماله لما أشرنا إليه من أنّ في تعارض النصّين خلافا آخر تحقيقه موكول إلى محلّه ، ولهم في الخبرين المتعارضين بالحظر والإباحة كلام آخر ، والمشهور تقديم الحاظر على المبيح ، وتحقيق ذلك أيضا موكول إلى محلّه ، والكلام في هذا المقام مقصور على ما نشأت الشبهة عن أحد الأمرين مع دوران الأمر بين التحريم وغير الوجوب ، من كراهة أو إباحة أو ندب كشرب التتن ونحوه.

وقد اختلف فيه أصحابنا ، فالمجتهدون منهم على عدم وجوب الاجتناب الّذي يعبّر عنه تارة بالبراءة واخرى بالإباحة ، ولعلّهما عبارتان عن معنى واحد ، بأن يكون الاختلاف بينهما في مجرّد اللفظ دون المعنى مفهوما ومصداقا ، بناء على أنّ البراءة عبارة عن خلوّ ذمّة المكلّف عن التكليف التحريمي المشكوك فيه ، والإباحة من المباح بمعنى ما لا حرج في فعله ، وعدم الحرج في فعل الشيء عبارة اخرى عن خلوّ الذمّة عن التكليف المشكوك فيه.

ويحتمل تغايرهما معنى أيضا بحسب المفهوم ، بأن يراد من الإباحة ما هو اللازم العقلي للبراءة بمعنى خلوّ الذمّة ، فإنّه يلزمه التسوية بين الفعل والترك عقلا ، فهما مفهومان متلازمان ، وقد عبّر بعضهم بأحد المتلازمين والآخر بالمتلازم الآخر.

ويحتمل أن يراد بالإباحة التسوية بين الفعل والترك بالمعنى الإنشائي الّذي جعله الشارع للواقعة بملاحظة الاشتباه واحتمالها التحريم ، كما ربّما يوهمه التمسّك بقوله عليه‌السلام : « كلّ شيء مطلق حتّى يرد فيه نهي (١) » بناء على أن يكون معنى « مطلق » أنّه ما لم يعلم ورود النهي فيه مخيّر فيه بين الفعل والترك ، على معنى أنّ حكمه المجعول هو التخيير بينهما.

والأخباريّون منهم على وجوب الاجتناب الّذي قد يعبّر عنه بوجوب التوقّف على معنى الوقوف عن الفعل.

واخرى بوجوب الاحتياط من الاتّقاء المرادف للاجتناب ، كما يقول الطبيب للمريض : إحتط.

وثالثة بالتحريم الظاهري ، على معنى أنّ الحكم الشرعي الّذي ظهر من الشارع لمشتبه الحكم المحتمل للحرمة بمقتضى الأدلّة الشرعيّة من أخبار الاحتياط وغيرها هو التحريم ،

__________________

(١) الوسائل ٤ : ٩١٧ ، الباب ١٩ من أبواب القنوت ، ح ٣. الفقيه ١ : ٣١٧.

٥١

بمعنى حتميّة الترك ، فكونه ظاهريّا باعتبار ظهوره من الشارع بالأدلّة.

ورابعة التحريم الواقعي ، لا بمعنى كونه حكم الواقعة من حيث هي ، بل بمعنى كونه الحكم المجعول للمشتبه بحسب نفس الأمر ، والمفروض أنّه عبارة عن حتميّة الترك ، وكلّ حكم مجعول لموضوع حكم واقعي في موضوعه بهذا المعنى ، فهذه أيضا عبارات مختلفة لبيان معنى واحد فلا تغاير بينها بحسب المعنى.

ومنهم من زعم تغايرها معنى أيضا كالعلاّمة البهبهاني (١) ، ولذا اسند إلى الأخباريّة مذاهب أربع بحسب العبارات الأربع.

والأظهر من وجوه الفرق على تقدير تسليم التغاير المعنوي بينها أيضا هو أن يكون التوقّف عبارة عن الوقف في الوقائع المجهولة المحتملة للتحريم عن الإفتاء بالحكم الخاصّ والحكم العامّ معا ـ أعني الوقف عن حكم الواقعة من حيث هي ـ وعن حكمها من حيث الاشتباه مع التزام الاحتياط في مقام العمل ، ويكون مراد من عبّر بوجوب الاحتياط أنّ الحكم العامّ للواقعة المجعول لها بملاحظة اشتباه حكمها الواقعي وجوب الاحتياط ، ويكون مراد من عبّر بالحرمة الظاهريّة هو أنّ الحكم العامّ المجعول للواقعة بملاحظة الاشتباه وإن كان هو الإباحة إلاّ أنّه يجب الترك في الظاهر لحماية الحمى.

ومراد من عبّر بالحرمة الواقعيّة هو أنّ في ارتكاب المشبهة احتمال الوقوع في المهلكة كما هو قضيّة حديث التثليث الآتي ، ولا ريب أنّ الوقوع في المهلكة حرام فيجب ترك المشتبه مقدّمة ، فوجوب الترك على هذا البيان وإن كان مقدّميا ، إلاّ أنّه بملاحظة المقدّميّة حكم الواقعة من حيث هي فيكون تحريما واقعيّا ، فتأمّل.

وربّما يحتمل كون الاختلاف بين وجوب التوقّف ووجوب الاحتياط لاختلاف مدرك الحكم ، فمن اعتمد على الروايات الآمرة بالوقف عبّر بالأوّل ومن اعتمد على الأخبار الآمرة بالاحتياط عبّر بالثاني ، ولا يترتّب على تحقيق هذا المقام فائدة مهمّة ، فالحريّ بالمقصد هو الرجوع إلى أدلّة القولين.

فنقول :

احتجّ الأوّلون بالأدلّة الأربعة : فمن الكتاب الآيات المتقدّمة مضافة إلى قوله تعالى :

__________________

(١) الفوائد الحائريّة : ٢٤٠ ، والرسائل الاصوليّة : ٣٤٩ ـ ٣٥٠.

٥٢

( قُلْ لا أَجِدُ فِي ما أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلى طاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلاَّ أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَماً مَسْفُوحاً )(١) وقوله عزّ وجلّ أيضا : ( وَما لَكُمْ أَلاَّ تَأْكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللهِ عَلَيْهِ وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ ما حَرَّمَ عَلَيْكُمْ )(٢) ردّا في الآية الاولى على اليهود فيما حرّموه ممّا رزقهم الله افتراء عليه ، بالاستدلال على إبطال الحكم بحرمة ما حرّموه بعدم وجدانه فيما اوحى إليه من المحرّمات ، فيدلّ على كفاية عدم الوجدان بعد الفحص وملاحظة الأدلّة في الحكم بعدم الحرمة.

والمناقشة فيه : بأنّ عدم وجدانه صلى‌الله‌عليه‌وآله نفس عدم الوجود ، فهو المستدلّ به لا مجرّد عدم الوجدان.

يدفعها : أنّ الأمر في نفس الأمر وإن كان كما ذكر ، إلاّ أنّ ظاهر الآية كون مناط الاستدلال هو عدم الوجدان لا غير وهو الحجّة.

ودلّت الثانية على المنع من التزام ترك شيء بمجرّد عدم وجوده فيما فصّل من المحرّمات ، ويندرج فيه التزام ترك مشتبه الحكم فيما لا نصّ فيه لمجرّد الاحتياط.

ويرد على الأوّل : أنّ إبطال الحكم بالحرمة فيما لم يوجد فيه نصّ لا يلازم تصحيح الحكم بعدم الحرمة ، لإمكان الواسطة وهو الوقف عن الحكم خصوصا وعموما في الفتوى والتزام الاحتياط في العمل. فما قيل : من أنّ في الآية إشارة إلى المطلب ـ مثل ما في الوافية (٣) ـ من أنّ فيها إشعارا بأنّ إباحة الأشياء قبل الشرع مركوزة في العقل ، ليس على ما ينبغي للمنع من ذلك أيضا.

وقد يقرّر وجه الدلالة : بأنّه صلى‌الله‌عليه‌وآله ردّ على المشركين في تحريمهم بعض المباحات ، بأنّ الذّي أوحى تحريمه إليه هو أشياء مخصوصة ، فلا بدّ أن يكون باقي الأشياء ممّا لم يوح إليه تحريمه مباحا ، فيظهر منه أنّ التحريم هو المحتاج إلى الدليل الّذي هو الوحي ، وأمّا الإباحة فيكفيها عدم وحي التحريم ، وليس المراد بأصالة الإباحة إلاّ هذا.

وفيه : أنّ حصر المحرّم الّذي يوحى إليه تحريمه في الأشياء المخصوصة يدلّ على نفي التحريم عمّا عداها ، ولا يدلّ على كون مستند النفي هو مجرّد عدم وحي التحريم ، فيجوز كونه وحي عدم التحريم ـ أعني وحي الإباحة ـ فإنّ الموصول فيما اوحي عامّ يتناول المحرّم والمباح ، ومن الجائز اشتمال ما اوحي إليه صلى‌الله‌عليه‌وآله على محرّمات ومباحات ، وإذا لم يكن ممّا حرّموه من القسم الأوّل فلا جرم كان من القسم الثاني ، وهذا يفيد الإباحة الواقعيّة وهذا إنّما يتمّ فيما تردّد بين ما علم حرمته بالوحي وما علم اباحته بالوحي أيضا

__________________

(١) الأنعام : ١٤٥.

(٢) الأنعام : ١١٩.

(٣) الوافية : ١٨٦.

٥٣

مع انحصار الأشياء فيهما ، فلا يندرج فيهما محلّ البحث.

أمّا أوّلا : فلأنّ مفاد الأصل بعد ثبوته ليس إلاّ الإباحة الظاهريّة ، وهي المجعولة للجاهل بحكم الواقعة من حيث كونه جاهلا ، مع إمكان منعها أيضا ، بل القدر المسلّم من مفاده إنّما هو خلوّ ذمّة المكلّف عن التكليف المشكوك فيه مع بقاء احتمال كون الحكم المجعول للواقعة من حيث هي هو الحرمة.

وأمّا ثانيا : فلأنّ الأشياء عندنا خمسة أقسام : ما علمنا حرمته ، وما علمنا إباحته ، والمحرّم الواقعي ، والمباح الواقعي ، وما يتردّد بينهما. وظاهر أنّ ما نحن فيه من قبيل القسم الأخير ، وهو كما لا يدخل فيما علم حرمته كذلك لا يدخل فيما علم إباحته أيضا.

ويرد على الثاني : أنّ عدم وجود شيء في المحرّمات المفصّلة لمن علمها بالتفصيل دليل علمي على عدم الحرمة واقعا ، والمفروض في محلّ البحث عدم العلم بتفاصيل المحرّمات الواقعيّة ، ولا ريب أنّه لا يلزم بمجرّد عدم وجوده فيما علمناه من المحرّمات عدم الحرمة واقعا ولا ظاهرا.

أمّا الأوّل : فلجواز كونه من المحرّمات الواقعيّة الغير المعلومة لنا.

وأمّا الثاني : فلعدم كون الآية في معرضه.

ومن السنّة : ما تقدّم من الروايات في المطلب الأوّل مضافة إلى روايات اخر :

منها : ما رواه الصدوق في الفقيه مرسلا واستدلّ به على جواز القنوت بالفارسيّة من قوله عليه‌السلام : « كلّ شيء مطلق حتّى يرد فيه نهي (١) » وهذا أوضح روايات وأدلّها على المطلب بل نصّ فيه عند التحقيق ، فإنّ الإطلاق في قوله عليه‌السلام : « مطلق » عبارة عمّا يقابل النهي ، وإنّما اطلق عليه الإطلاق لأنّه بحسب العرف عبارة عن حالة منتزعة عن الشيء باعتبار عدم ورود قيد به ، والتكليف الإلزامي بالشيء كائنا ما كان قيد فيه ، فالإطلاق المقابل للنهي عبارة عن خلوّ الشيء عن قيد التكليف الإلزامي بالترك ، أو عن الرخصة في فعله وتركه لتضمّنها الخلوّ عن القيد المذكور.

فقوله عليه‌السلام : « مطلق » يراد به أنّه خال عن هذا القيد ، أو أنّه مرخّص في فعله وتركه. ومبنى الاحتمالين على كون قضيّة الرواية إخبارا فيحمل على إرادة الأوّل ، أو إنشاء وهو الأظهر فيحمل على إرادة الثاني.

__________________

(١) الفقيه ١ : ٣١٧.

٥٤

وورود النهي إمّا عبارة عن جعل المنع في الواقع وإن لم يصدر من الشارع بيانه ، أو عن صدوره منه بعد الجعل وإن لم يبلغ إلى المكلّف ، أو عن بلوغه إليه بعد صدوره من الشارع وهو الظاهر ، لظهور الورود في متفاهم العرف في صدور الحكم على وجه اطّلع عليه المكلف وعلم به ، فمعنى الرواية حينئذ كون كلّ شيء خاليا عن التكليف الإلزامي بالترك ، أو مرخّصا في فعله وتركه ما لم يبلغ المنع الشرعي منه إلى المكلّف ، وإن كان حكمه المجعول هو المنع ، ولا يستقيم ذلك مع فرض مجعوليّة المنع إلاّ على تقدير كون المراد من الخلوّ أو الرخصة المتضمّنة له ما هو بحسب ذمّة المكلّف ، وهذا بعينه مؤدّى الأصل. فالرواية منطبقة عليه في مشتبه الحكم بالشبهة الحكميّة التحريميّة ، بل ظاهر الإطلاق عدم وجوب الاحتياط ولا التوقّف أيضا ، إذ لا إطلاق مع وجوبهما.

وبما قرّرناه ظهر أنّ النهي يراد به النهي العلمي ، وبذلك مضافا إلى ما عرفت من ظهور الإطلاق في نفي مطلق التكليف حتّى وجوب الاحتياط سقط ما لعلّه يقال : من أنّ ظاهر النهي هو النهي الواقعي ، ولا ريب أن وروده في الواقعة بحسب الواقع محتمل فلا يتّجه الحكم بالإطلاق إلاّ بعد نفي ذلك الاحتمال بالأصل ، فلا يتمّ الاستدلال بالرواية على أصل البراءة إلاّ بانضمام هذا الأصل إليها.

وهذا ممّا يشبه بكونه أكلا بالقفاء ، لكفاية هذا الأصل بانفراده عن إثبات أصل البراءة بالنظر في الرواية ، فإنّ النهي الواقعي إن اريد بوروده توجّهه إلى المكلّف في الواقع فاحتماله يندفع بما يتبادر من حاقّ الإطلاق الظاهر فيه بحسب ما في ذمّة المكلّف ، القاضي بخلوّها عن مطلق التكليف الإلزامي بالترك خصوصا وعموما ، فلا حاجة في دفعه إلى انضمام الأصل إلى الرواية ، مع أنّ النهي الواقعي إن اريد به ما يقابل النهي الظاهري فاحتمال وروده في الواقعة غير مانع من التمسّك بالأصل فضلا عن الاستدلال عليه بالرواية ، لما عرفت من عدم تعرّضه للواقع إثباتا ولا نفيا ، ولو اريد به ما يقابل النهي العلمي فدعوى ظهوره ممنوعة ، بل الحمل عليه توجب فساد معنى الرواية إذا اريد من الإطلاق إطلاقه قبل الجعل ، لرجوع المعنى حينئذ إلى أنّ كلّ شيء لا يمنع منه إلى أن يمنع منه في الواقع ، وهذا من باب توضيح الواضحات ، لأنّ الأشياء قبل جعل الأحكام لها غير ممنوع منها بالبداهة ، فلا حاجة إلى التنبيه عليه أصلا. فلا بدّ وأن يكون المراد من ورود النهي صدور الحكم وبلوغه إلى المكلّف ، ومن عدم المنع عدمه بحسب ما في ذمّة المكلّف ،

٥٥

لئلاّ ينافي ثبوت المنع بحسب ما في الواقعة من حيث هي.

ومنها : قوله عليه‌السلام : « أيّما امرئ ركب شيئا بجهالة فلا شيء عليه (١) » فإنّ من ارتكب شيئا من المشتبه لجهله بحكمه الواقعي فقد ركب شيئا بجهالة ، فلا شيء عليه لعموم الرواية.

ولكنّ الإنصاف : أنّ نهوض هذه الرواية على ما نحن فيه مشكل ، لظهور الجهالة في الجهل الساذج الّذي لا يشوبه التفات وهو الغفلة ، كما لو شرب الخمر غفلة عن خمريّته أو حرمته مثلا ، فالرواية مسوقة لإعطاء حكم للغافل ، فلا يندرج فيه الجهل مع الالتفات كصورة الشكّ والتردّد ، هذا مع إشكال آخر في شمولها لمشتبه الحكم لظهورها في الجهل بالموضوع الخارجي.

وربّما ادّعي ظهور « الجهالة » في الرواية ونظائرها كما في قولك : « فلان عمل كذا بجهالة » في الجهل المركّب وهو اعتقاد الصواب فيما ليس بصواب في الواقع ، فلا يعمّ صورة التردّد في كونه صوابا أو خطأ ، والأوّل أظهر.

وهكذا يجاب عن كلّ رواية علّق فيها الحكم بالجهالة ، مثل صحيحة عبد الرحمن بن الحجّاج عن أبي إبراهيم عليه‌السلام : « قال : سألته عن الرجل يتزوّج المرأة في عدّتها بجهالة ، أهي ممّن لا تحلّ له أبدا؟ فقال عليه‌السلام : لا ، أمّا إذا كان بجهالة فليتزوّجها بعد ما تنقضي عدّتها ، وقد يعذر الناس في الجهالة بما هو أعظم من ذلك ، فقلت : بأيّ الجهالتين أعذر ، بجهالة أن يعلم أنّ ذلك محرّم عليه أم بجهالة أنّها في عدّة؟ فقال : إحدى الجهالتين أهون من الاخرى ، الجهالة بأنّ الله قد حرّم عليه ذلك ، وذلك لأنّه لا يقدر على الاحتياط معها ، فقلت : هو في الاخرى معذور؟ قال : نعم إذا انقضت عدّتها فهو معذور في أن يتزوّجها (٢) وفيها قرينة اخرى على إرادة صورة الجهل الساذج والغفلة ، وهو التعليل بعدم القدرة على الاحتياط ، وإن كان ربّما يشكل الحال في تفكيكه عليه‌السلام في ذلك بين جاهل الحرمة وجاهل العدّة ، لقضاء تخصيصه بالأوّل بقدرة الثاني على الاحتياط وهذا لا يجامع الغفلة.

ومنها : صحيحة عبد الله بن سنان المرويّة عن نوادر المعيشة من الكافي عن الصادق عليه‌السلام قال : « كلّ شيء يكون فيه حلال وحرام فهو لك أبدا حتّى تعرف الحرام بعينه فتدعه (٣) ».

__________________

(١) الوسائل ٥ : ٣٤٤ الباب ٣٠ من أبواب الخلل في الصلاة ، الحديث الأوّل و ٩ : ١٢٥ الباب ٤٥ من أبواب تروك الإحرام ، ح ٣ و ٩ : ٢٨٩ الباب ٨ من أبواب بقية كفّارات الإحرام ، ح ٣ ، مع تفاوت يسير.

(٢) الوسائل ١٤ : ٣٤٥ ، الباب ١٧ من أبواب ما يحرم بالمصاهرة ، ح ٤.

(٣) الوسائل ١٢ : ٥٩ الباب ٤ من أبواب ما يكتسب به ، الحديث الأوّل.

٥٦

وعن الشهيد في الذكرى (١) الاستدلال بها على المطلب ، واختلفت الأنظار في اختصاصها بشبهة الموضوع كما جزم به بعض الأعلام (٢) وعمومها لشبهة الحكم أيضا كما زعمه السيّد صدر الدين في شرحه للوافية ، بناء على أحد محتملات الرواية قائلا : قوله عليه‌السلام : « كلّ شيء فيه حلال وحرام » يحتمل أحد معان :

الأوّل : إنّ كلّ فعل من جملة الأفعال الّتي تتّصف بالحلّ والحرمة ، وكذا كلّ عين ممّا يتعلّق به فعل المكلّف ويتّصف بالحلّ والحرمة إذا لم يعلم الحكم الخاصّ به من الحلّ أو الحرمة فهو لك حلال ، فخرج ما لا يتّصف بهما جميعا من الأفعال الاضطراريّة ، والأعيان الّتي لا يتعلّق بها فعل المكلّف ، وما علم أنّه حلال لا حرام فيه ، أو حرام لا حلال فيه ، وليس الغرض من ذكر هذا الوصف مجرّد الاحتراز ، بل هو مع بيان ما فيه الاشتباه.

فصار الحاصل : أنّ ما اشتبه حكمه وكان محتملا لأن يكون حلالا ولأن يكون حراما فهو حلال ، سواء علم حكم لكلّي فوقه أو تحته ، بحيث لو فرض العلم باندراجه تحته أو تحقّقه في ضمنه لعلم حكمه أيضا أم لا ... إلى آخر ما ذكره (٣).

ومراده من الكلّي المعلوم حكمه الّذي فوق المشتبه كالمذكّى بالقياس إلى اللحم المشترى من يد مجهول الحال المشكوك في حلّه وحرمته ، وهو بحيث لو علم اندراجه في المذكّى لعلم حكمه.

ومن الكلّي الّذي تحته ، الفقّاع بالقياس إلى المسكر المشكوك في تحقّقه في ضمن الفقّاع المعلوم حرمته وعدمه ، المشكوك من جهته في حلّه وحرمته ، مع العلم بحرمة الفقّاع الّذي هو كلّي تحته على تقدير كونه كالخمر مسكرا ، فإنّه بحيث لو علم تحقّق المسكر في ضمنه لعلم حكم المسكر أيضا وإلاّ فلا.

وممّا لا يعلم حكم كلّي فوقه ولا تحته ما هو مثل شرب التتن ولحم الحمير وغيرهما من المشتبه بالشبهة الحكميّة.

وقضيّة الفرض شمول حكم الرواية لمشتبه الموضوع ومشتبه الحكم ، والكلام في صحّة حمل الرواية عليه وسقمه مبنيّ على النظر في ألفاظ الرواية ، لتشخيص ما يظهر منها عن غيره.

فنقول : إنّ « الشيء » مفهوم عامّ يشمل بعموم مفهومه للموضوع الخارجي والعنوان الكلّي ، والظرفيّة في قوله عليه‌السلام : « فيه » تفيد الاشتمال ، وهو حسبما يتصوّر في مورد الرواية

__________________

(١) الذكرى ١ : ٥٢.

(٢) القوانين ٢ : ١٧.

(٣) شرح الوافية ( مخطوط ) : ٢٤٧ ـ ٢٤٨ ، نقلا بالمضمون.

٥٧

يحتمل معاني ثلاث :

الأوّل : الاشتمال الفعلي الحسّي الخارجي كاشتمال الكلّ على أجزائه ، فيكون التقدير حينئذ كلّ مركّب مشتمل على جزئين حلال وحرام بواسطة اختلاط الحرام بالحلال ، فهو لك حلال حتّى تعرف الحرام منه بعينه.

الثاني : الاشتمال الفعلي المعنوي العقلي كاشتمال الكلّي على أفراده ، فيكون التقدير حينئذ : كلّ كلّي مشتمل على فرد حلال وفرد حرام فهو لك حلال إلى أن تعرف الحرام منه بعينه.

الثالث : كون المراد به الاشتمال الشأني الاحتمالي ، وذلك كما في المحتمل للحلّ والحرمة ، فإنّه بحسب الاحتمالين صالح للاتّصاف بكلّ منهما ، فيكون مشتملا على الحلال والحرام اشتمالا شأنيّا ، وبناء المعنى المذكور على تنزيل الظرفيّة على الاشتمال الشأني بدليل قوله : « فصار الحاصل أنّ ما اشتبه حكمه وكان محتملا لأن يكون حلالا ولأن يكون حراما » فإنّه يعطي جعل الشيء عبارة عمّا اشتبه حكمه ، وهذا أردأ الوجوه وأضعفها.

فأوّل ما يرد على الحمل المذكور : أنّه خلاف ظاهر الظرفيّة ، لظهورها في الاشتمال الفعلي على الحلال والحرام وهذا مشتمل على احتمالي الحلّ والحرمة مع كونه في الواقع إمّا حلالا أو حراما على وجه الانفصال الحقيقي ، هذا مع قضائه بارتكاب خلاف ظاهر آخر في لفظي « الحلال » و « الحرام » لأنّهما عبارتان عن الذات الموصوفة بالحلّ والحرمة ، والحمل المذكور يستلزم إرادة نفس الحلّ والحرمة على حدّ إطلاق المشتقّ على المصدر.

وثاني ما يرد عليه : أنّه لا يلائم الحرام بعينه في قوله : « حتّى تعرف الحرام بعينه » ، بل لا يلائمه وكلمة « منه » على ما في بعض النسخ لا لفظا ولا معنى.

أمّا الأوّل : فلأنّ المناسب له إنّما هو التعبير بحرمته لا الحرام منه.

وأمّا الثاني : فلأنّه يدلّ على أنّ الحرام أمر محقّق في الشيء ، موجود فيه بحسب الواقع ، مغاير له بحسب المفهوم والعنوان مغايرة الجزء للكلّ أو الجزئي للكلّي ، كما يساعد عليه أيضا ظاهر قوله عليه‌السلام : « بعينه » وقضيّة الفرض وجود الحرمة فيه على سبيل الاحتمال والترديد ، لا وجود الحرام فيه على سبيل التحقيق.

وثالث ما يرد عليه : أنّه يوجب عراء الوصف عن الفائدة ، لأنّ محصّل ما ذكره في بيان فائدته من أنّه لبيان ما فيه الاشتباه مع الاحتراز عمّا لا يتّصف بشيء من الحلّيّة والحرمة ، وعمّا لا يتّصف إلاّ بأحدهما ، هو أنّه لبيان موضوع الحلّيّة المستفادة من قوله عليه‌السلام :

٥٨

« فهو حلال » وهو المشتبه مع إخراج المذكورات عن هذا الحكم ، ليكون مفاد الرواية إثبات الحلّيّة للمشتبه ونفيه عمّا لا اشتباه فيه كالمذكورات.

وهذه الفائدة حاصلة بدونه ، بملاحظة الغاية في قوله عليه‌السلام : « حتّى يعرف » ، لوجوب مغايرة الغاية للمغيّا ، وإذا كانت الغاية هو صورة معرفة الحرمة فلا جرم يكون المغيّا هو صورة عدم معرفة الحرمة ، ولا تكون إلاّ صورة الاشتباه ، فالغاية بنفسها تفيد أنّ قضيّة الرواية مسوقة لبيان حكم للمشتبه مع خروج المذكورات بذلك أيضا عن هذا الحكم ، ولا حاجة معه إلى اعتبار قيد آخر لمراعاة هذه الفائدة ، كما يعلم ذلك بمراجعة رواية اخرى عن الصادق عليه‌السلام : « كلّ شيء هو لك حلال حتّى تعلم أنّه حرام بعينه فتدعه من قبل نفسك ، وذلك مثل الثوب يكون عليك قد اشتريته وهو سرقة ، أو المملوك عندك ولعلّه حرّ قد باع نفسه ، أو خدع فبيع أو قهر ، أو إمرأة تحتك وهي اختك أو رضيعتك ، والأشياء كلّها على هذا حتّى يستبين لك غير ذلك أو يقوم به البيّنة (١) ».

فلا بدّ وأن يتضمّن ذكر الوصف فائدة اخرى وهو التعرّض لبيان منشأ الاشتباه كما تنبّه عليه بعض مشايخنا (٢) ، وأنّه اندراج المورد تحت كلّي ذي أفراد بعضها حلال وبعضها حرام ، ولا يدرى أنّ المورد من أيّ القسمين.

وقضيّة هذا كلّه تعيّن حمل الرواية على الوجه الثاني من الوجوه المحتملة في الظرفيّة ، فيكون « الشيء » بقرينة الوصف عبارة عمّا ينقسم إلى الحلال والحرام وغيرهما من الأفراد المشتبهة ، فيكون حاصل مفاد الرواية : أنّ الأصل في الأشياء المنقسمة إلى الحلال والحرام المشتملة عليهما عندنا أو في الواقع هو الحلّيّة بعنوانها الكلّي المتحقّق في جميع أفراده إلى أن يعرف ما هو بعينه حرام من هذه الأفراد ، ويندرج فيه المشتبه ويعلم أنّ حكمه ما دام الاشتباه هو الحلّيّة لا غير.

وأمّا الوجه الأوّل من الوجوه المذكورة وإن كان الحمل عليه لا يتضمّن محذورا ولا تكلّفا ، إلاّ أنّ الظاهر المتبادر من قوله : « كلّ شيء فيه حلال وحرام » هو الكلّي المنقسم إليهما لا الكلّ المتضمّن لهما ، هذا مع ما قيل من ظهوره في كون الشيء واحدا بالأصالة ، والمركّب وإن صحّ إطلاق الواحد عليه إلاّ أنّه واحد بالاعتبار ، فحمل ما ظاهره الواحد بالأصالة على الواحد بالاعتبار غير جائز إلاّ لقرينة.

__________________

(١) الكافي ٥ : ٣١٣ ، ح ٤٠ ، التهذيب ٧ : ٢٢٦ ، ح ٩٨٩.

(٢) فرائد الاصول ٢ : ٤٨.

٥٩

ومن الأعلام من أورد على كلام الفاضل المتقدّم في تنزيله الرواية على المعنى الأخير بوجوه :

الأوّل : أنّه يوجب استعمال اللفظ في قوله : « فيه حلال وحرام » في معنيين : قابليّة الاتّصاف بأحدهما ليخرج به ما لا يقبل الاتّصاف بشيء منهما ، وفعليّة الاتّصاف بهما على معنى انقسام الشيء إليهما ، ليخرج به ما لا يتّصف فعلا بهما أو بأحدهما.

الثاني : أنّه يستلزم استعمال آخر للفظ في قوله : « تعرف الحرام » في معنيين : المعرفة الحاصلة بالدليل بالقياس إلى الشبهة في الحكم ، والمعرفة الحاصلة من البيّنة وقول العدل وقول أهل الخبرة وغيرها من الأمارات الشرعيّة المشخّصة للموضوعات.

الثالث : أنّه لا معنى لإخراج المذكورات ، لأنّ قوله عليه‌السلام : « فهو لك حلال » أنّ مجهوله لك حلال ولا جهالة فيها.

الرابع : أنّه لا معنى لاعتبار المفهوم المخالف في إخراج المذكورات إلاّ من باب السالبة المنتفية الموضوع ، لكون موضوع الحكم هو المجهول المنتفي في المذكورات وهي غير مفيدة (١).

وفي الجميع ما لا يخفى ، أمّا الأوّل : فلمنع ابتناء إخراج المذكورات على إرادة قابليّة الاتّصاف وفعليّة الاتّصاف معا من القيد الّذي هو وصف للشيء ، بل يكفي في إخراج الجميع اعتبار قابليّة الاتّصاف الّتي هي مفاد الاشتمال الشأني المراد من الظرفيّة القاضي بإرادة ما اشتبه حكمه من الشيء ، فإنّه لاحتمال كونه حلالا واحتمال كونه حراما من شأنه الاتّصاف بهما ، وهو عبارة اخرى لكونه قابلا للاتّصاف بكلّ منهما ، والحكم المستفاد من قوله : « هو لك حلال » معلّق على وصف الاشتباه ، فيدلّ التعليق بضابطة مفهوم الوصف على انتفاء ذلك الحكم عمّا انتفى فيه الاشتباه ، إمّا لعدم إمكان اتّصافه بشيء منهما أو لعدم اتّصافه بهما جميعا وإن أمكن ، أو لعدم اتّصافه إلاّ بأحدهما ، سواء كان الاشتباه في موضوع المنطوق لشبهة نفس الحكم الشرعي أو لشبهة موضوعه ، فالمفهوم عامّ لجميع المذكورات ، كما أنّ المنطوق عامّ للشبهة في الحكم والشبهة في الموضوع معا.

وأمّا الثاني : فلمنع استلزام الحمل المذكور لاستعمال قوله : « تعرف » في معرفتين ، لجواز إرادة القدر الجامع بينهما ، وهو المعرفة المطلقة لا بقيد حصولها بالدليل ولا بالبيّنة ونحوها.

غاية الأمر أنّها باعتبار الخارج تحصل تارة بالدليل واخرى بالبيّنة ، وهذا لا يقضي

__________________

(١) القوانين ٢ : ١٩.

٦٠