تعليقة على معالم الاصول - ج ٦

السيّد علي الموسوي القزويني

تعليقة على معالم الاصول - ج ٦

المؤلف:

السيّد علي الموسوي القزويني


المحقق: السيد علي العلوي القزويني
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
المطبعة: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ١
ISBN: 964-470-559-9
الصفحات: ٤٨٦

العبادة الّتي شكّ في أثنائها في صحّتها بسبب طروّ أمر وجودي أو عدمي ، كنسيان الجزء بعد فوات محلّ تداركه ، والشكّ فيه بعد تجاوز محلّه ، وانتفاء ما يشكّ في كونه شرطا كطهارة مكان المصلّي إذا حصل فيه نجاسة غير مسرية في الأثناء ، ووقوع ما يشكّ في كونه قاطعا للهيئة الاتصاليّة المعتبرة في العبادة كالتأمين في القنوت والبكاء للسيّد المظلوم روحنا فداه.

وضابط الجميع طروّ ما يشكّ في كونه مفسدا لشبهة حكميّة أو موضوعيّة فيحكم بالصحّة استصحابا لها وتمسّكا باستصحابها.

وقد أوضحنا ضعفه في مطاوي مباحث الجزئيّة والشرطيّة من أصل البراءة ، ونزيدك توضيحا هاهنا بأنّ الصحّة المستصحبة إن اريد بها موافقة الأمر فاستصحابها بالقياس إلى الأجزاء غير صحيح لانتفاء اليقين السابق ، إمّا لليقين بعدمها على تقدير إرادة الأمر الأصلي ، لتعلّقه بمجموع أجزاء العبادة لا بكلّ جزء جزء ، فالموافقة له إنّما يتأتّى بعد الفراغ عن العمل على الوجه المعتبر في المأمور به أو لعدم اليقين بوجودها ما لم يحصل الفراغ عن العمل على تقدير إرادة الأمر الضمني الّذي يعتبر في الجزء باعتبار الجزئيّة ، إذ موافقة الأجزاء السابقة لذلك الأمر مراعاة باتمام العمل على الوجه المعتبر في المأمور به فما لم يحصل الفراغ لم يحصل اليقين بها.

وإن اريد بها ترتّب الأثر من حصول الامتثال أو سقوط القضاء فالفعلي منه موقوف على حصول العمل بجميع أجزائه على الوجه المعتبر في المأمور به ، والشأني منه حاصل في الأجزاء السابقة بلا حاجة لا ثباته إلى الاستصحاب ، ومع هذا لا يجدي نفعا في الحكم بالصحّة الفعليّة لأنّ الشكّ فيها إنّما نشأ لأمر راجع إلى الأجزاء اللاحقة لا لأمر راجع إلى الأجزاء السابقة ، فاحراز الصحّة الشأنيّة فيها مع عدم الحاجة فيه إلى الاستصحاب لا ينفع في رفع ذلك الأمر.

وبيانه : أنّ الصحّة الشأنيّة في الأجزاء السابقة عبارة عن كونها بحيث لو انضمّ إليها الأجزاء اللاحقة وارتبطت بها لترتّب على مجموعهما الأثر ، فهي في الأجزاء السابقة ثابتة على وجه الحكم في القضيّة الشرطيّة.

ولا ريب أنّ صدق الشرطيّة لا يستلزم صدق الشرط ، والشكّ في صدق الشرط وتحقّقه لا يستلزم الشكّ في صدق الشرطيّة ولا ينافي القطع بصدقها ، والشكّ في الصحّة الفعليّة

٤٠١

فيما نحن فيه إنّما جاء من جهة الشكّ في الشرط ـ وهو حصول الانضمام أو ارتباط المنضمّ بالمنضمّ إليه ، كما في صورة طروّ ما يشكّ في كونه قاطعا ـ لا من جهة الشكّ في الشرطيّة.

ولا ريب أنّ صدق الشرطيّة بعنوان القطع أو بحكم الاستصحاب لا يحقّق الشرط ، فالصحّة الشأنيّة الثابتة في الأجزاء السابقة مع الشكّ في انضمام اللاحق إلى السابق أو في ارتباط المنضمّ إلى المنضمّ إليه لا يجدي نفعا في الصحّة الفعليّة المنوطة بصدق الشرط وتحقّقه.

نعم ربّما يتمسّك لاحراز صحّة العبادة عند طروّ ما يشكّ في كونه مفسدا لها باستصحابات اخر :

منها : استصحاب قابليّة الأجزاء السابقة المأتّي بها لصيرورتها أجزاء فعليّة ، فإذا صارت أجزاء فعليّة بحكم الاستصحاب لترتّب عليها الصحّة المشكوك فيها.

وفيه : أنّ القطع ببقاء القابليّة كما هو مفروض المقام لا يجدي نفعا في صيرورتها أجزاء فعليّة فضلا عن استصحابها ، لأنّ صيرورتها أجزاء فعليّة مشروطة بشرط لا تحرزه مجرّد القابليّة ، وهو انضمام ما بقي من الأجزاء إليها على وجه يرتبط بما سبق بعدم طروّ ما يقطع الهيئة الاتصاليّة المعتبرة في الصلاة ، إذ المفروض أنّ الشكّ في الصحّة إنّما هو لأجل هذا الشرط لا القابليّة ولا محرز له.

ومنها : استصحاب وجوب الاتمام قبل عروض الشكّ في الصحّة ولزمه الصحّة.

وفيه : أنّ الاتمام بمعنى الاتيان بتمام ما بقي من الأجزاء ما لم يكن مقدورا للمكلّف لم يتعلّق به وجوب ، والقدرة مع الشكّ المفروض ليست بمحرزة خصوصا في صورة نسيان الجزء مع فوات محلّ التدارك وهو الدخول في الركن.

والسرّ في انتفاء القدرة على الاتمام هو أنّ حقيقة الاتمام عبارة عن الحاق الأجزاء الباقية بالأجزاء السابقة ، والقدرة عليه موقوفة على قابليّة الأجزاء السابقة لأن يلحق بها وقابليّة الأجزاء الباقية لّلحوق بالأجزاء السابقة ، والقابليّة الاولى وإن كانت محرزة بالقطع واليقين ولكن القابليّة الثانية غير محرزة بالفرض ، ولا يمكن احرازها بالاستصحاب لانتفاء الحالة السابقة بسبب عدم سبق اليقين بهذه القابليّة ومع انتفاء القدرة على الاتمام لا معنى لاستصحاب وجوبه.

ومنها : استصحاب وجوب المضيّ في العمل.

وفيه : أنّ موضوع وجوب المضيّ إنّما هو العمل الصحيح ، ولذا لا يجب المضيّ فيه مع الافساد إلاّ في الحجّ والصيام لدليله الوارد على خلاف القاعدة ، وهذا الموضوع مع الشكّ

٤٠٢

في الصحّة غير محرز ، ولا يصحّ استصحاب الحكم مع عدم كون بقاء موضوع المستصحب محرزا ، والتمسّك لاحرازه باستصحاب الصحّة السابقة ممّا يدير البحث السابق.

ومنها : استصحاب حرمة القطع الثابتة يقينا قبل طروّ الشكّ ، فهذه الحرمة المستصحبة ممّا يلازم الصحّة المطلوبة.

وفيه : وضوح الفرق بين القطع والانقطاع ، ومع تحقّق الانقطاع قهرا لا يصدق القطع جزما ، ومرجع الشكّ في الصحّة إلى الشكّ في الانقطاع ومعه فصدق القطع غير محرز حتّى يستصحب حرمته.

وقد يتوهّم اثبات الصحّة المشكوكة في نظائر المقام بالتمسّك بالقاعدة المستنبطة من قوله عزّ من قائل : ( وَلا تُبْطِلُوا أَعْمالَكُمْ )(١) ، فإنّ الأعمال عامّ في كلّ عمل ومنه محلّ البحث ، فيحرم ابطاله وهو يلازم الصحّة.

وفيه : منع اندراج محلّ البحث في عموم القاعدة إلاّ بأن تكون القاعدة عبارة عن حرمة رفع اليد عن العمل مطلقا ، ولا يستقيم ذلك إلاّ بأن يحمل الابطال المنهيّ عنه في الآية على مطلق رفع اليد عن العمل ، واحتماله معارض باحتمال أن يراد منه ايجاد البطلان في العمل المشروع فيه بوصف الصحّة على حدّ قوله تعالى : ( لا تُبْطِلُوا صَدَقاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذى )(٢) كما يرشد إليه سابق الآية ، أو احتمال أن يراد منه ايجاد العمل باطلا ـ أي بوصف البطلان ـ من أوّل الأمر ، على حدّ قولهم : « ضيّق فم الركيّة » ولا قرينة على تعيين الأوّل إن لم نقل بظهور الثاني في متفاهم العرف من اللفظ في نفسه.

مضافا إلى بعض الروايات القاضية بذلك كالمروي عن ثواب الأعمال (٣) عن الباقر عليه‌السلام قال : « قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : « من قال سبحان الله غرس الله له بها شجرة في الجنّة ، ومن قال الحمد لله غرس الله له بها شجرة في الجنّة ، ومن قال لا إله إلاّ الله غرس الله له بها شجرة في الجنّة ، ومن قال الله أكبر غرس الله له بها شجرة في الجنّة ، فقال رجل من قريش : يا رسول الله إنّ شجرنا في الجنّة لكثير ، قال : نعم ولكن إيّاكم أن ترسلوا عليها نيرانا فتحرقوها ، وذلك أنّ الله تعالى يقول : ( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَلا تُبْطِلُوا أَعْمالَكُمْ )(٤).

مضافا إلى قضاء الحمل على المعنى الأوّل بلزوم تخصيص الأكثر ، لعدم حرمة رفع

__________________

(١) محمّد : ٣٣.

(٢) البقرة : ٢٦٤.

(٣) ثواب الأعمال : ٢٦ ثواب من قال سبحان الله و ... ، ح ٣.

(٤) محمّد : ٣٣.

٤٠٣

اليد عن العمل في كثير من الواجبات وجميع المندوبات والمباحات والمكروهات ، فلا يبقى إلاّ بعض الواجبات وهو بالقياس إلى غيره ليس إلاّ كشعرة بيضاء في بقرة سوداء ، فما شكّ في بطلانه لم يصدق على رفع اليد منه الابطال بالمعنى الثاني.

المطلب الخامس

في استصحاب الاشتغال حيث يجري قاعدة الاشتغال ممّا شكّ فيه في البراءة بعد اليقين باشتغال الذمّة ، واستصحاب البراءة حيث يجري أصالة البراءة ممّا شكّ فيه في التكليف ولو باعتبار اوله من المكلّف به إليه.

واعلم : أنّ الشكّ في البراءة في مجرى قاعدة الاشتغال إمّا أن يكون ناشئا من الشكّ في حصول المبرئ للذمّة ، أو من الشكّ في مبرئيّة الحاصل ، أو من الشكّ فيما اشتغلت به الذمّة من أوّل الأمر ، بأن يكون بحيث يجري فيه تقديران يحصل البراءة على أحدهما ولا تحصل على الآخر.

ومن أمثلة الأوّل ما لو شكّ في الاتيان بصلاة الظهر أو العصر مثلا بعد يقين الاشتغال بهما.

ومن أمثلة الثاني ما لو شكّ في كون فعل الصبيّ في صلاة الميّت بعد وجوبها على المكلّف عينا أو كفاية مسقطا لتكليف المكلّف ومبرءا لذمّته وعدمه ، ونحوه زكاة الفطر الّتي أدّاها الضيف عن نفسه في موضوع وجوبها على المضيف ، أو أدّاها المضيف عن الضيف في موضوع وجوبها عليه.

ومن أمثلة الثالث ما لو أتى يوم الجمعة بالظهر فقط أو الجمعة وحدها في موضع اشتباه المكلّف به المردّد بينهما ، ونحوه الاتيان بالصلاة خالية عن السورة ممّن اشتبه عليه الحكم الشرعي بالنسبة إلى جزئيّة السورة وعدمها ، ونحوه المأمور بعتق الكفّارة حال القدرة على المؤمنة إذا لم يأت به حتّى تعذّر عتق المؤمنة عند الشكّ في شرطيّة الإيمان وعدمها ، والأوّل لزمه في الصورة المفروضة براءة الذمّة والثاني لزمه بقاء الاشتغال.

ولا ريب في جريان قاعدة الاشتغال في جميع هذه الصور ، كما لا ريب في جريان استصحاب الاشتغال فيها ، كما أنّه لا ريب في جريان أصالة البراءة في غسل الجمعة المشكوك في وجوبه ولا في جريان استصحاب البراءة الأصليّة الثابتة فيه قبل البلوغ أو حال الجنون ، إلاّ أنّ الغرض من عقد هذا البحث بيان الاستغناء بالقاعدة والأصل عن الاستصحاب ،

٤٠٤

لتضمّنه كلفة مراعاة اعتبار زائد لا حاجة إلى مراعاته في إعمال القاعدة والأصل.

وتوضيح ذلك : أنّ الاستصحاب لا يتمّ إلاّ بامور ثلاث : سبق اليقين بالاشتغال ، ولحوق الشكّ في بقائه ، وانسحاب الاشتغال من زمن اليقين إلى زمان الشكّ ليترتّب عليه لزوم القطع بالبراءة ، واستصحاب أيضا لا يتمّ إلاّ بسبق اليقين بالبراءة ولحوق الشكّ في بقائها ، وانسحاب البراءة السابقة في زمان الشكّ ليحكم بها فيه ، بخلاف قاعدة الاشتغال وأصالة البراءة.

فإنّ الاولى لا تتضمّن إلاّ اليقين بالاشتغال والشكّ في البراءة ، ولا حاجة في الحكم بلزوم القطع بالبراءة إلى تجشّم إثبات انسحاب الاشتغال من الزمان السابق إلى الزمان اللاحق ، وذلك لأنّ الحكم المذكور حكم عقليّ يتأتّى من العقل إرشادا للمكلّف إلى طريق دفع الضرر الاخروي المحتمل ، وهو العقاب الّذي يخاف ترتّبه على ما احتمل من بقاء المكلّف به في الذمّة ، ويكفي فيه مجرّد عدم العلم بالبراءة بعد اليقين بالاشتغال ، ولا حاجة إلى ترتيبه على الاشتغال المستصحب الّذي يحرز بالاستصحاب.

ولذا يقال : إنّ اليقين بالاشتغال يقتضي يقين البراءة ، ولا يقال : إنّ الاشتغال بعد ثبوته بالاستصحاب يقتضي لزوم القطع بالبراءة ، فإنّ من الأشياء ما هو من لوازم عدم شيء فلا يترتّب عليه إلاّ بعد إحرازه بالوجدان أو بالاستصحاب ، ومنها ما هو من لوازم عدم العلم بالشيء فيترتّب عليه لمجرّد الشكّ في وجوده ولا حاجة إلى إحراز عدمه بواسطة طريق آخر والمقام من هذا الباب.

وهذا نظير ما أوردناه في محلّه ردّا على من تمسّك لعدم حجّيّة الظنّ بأصالة عدم الحجّيّة من أنّه لا حاجة في الحكم بعدم الحجّيّة إلى الأصل ، لما في عدم العلم بالحجّيّة من الكفاية في الحكم بعد الحجّيّة.

والثانية (١) لا تتضمّن إلاّ الشكّ في الاشتغال الّذي يعبّر عنه بالشكّ في التكليف ، ولا حاجة إلى تجشّم إحراز اليقين بالبراءة ثمّ انسحاب البراءة من زمان اليقين إلى زمان الشكّ ، ضرورة أنّ البراءة في مواردها ما يحكم به العقل لمجرّد عدم العلم بالتكليف تعويلا على قبح التكليف بلا بيان ، وقبح العقاب بلا إقامة البرهان ، بل العقل لمجرّد عدم العلم بالاشتغال يحكم بها وإن لم يكن هناك حالة سابقة.

__________________

(١) عطف على قوله : « فإنّ الأولى » الخ ، والمراد بالثانية هنا أصالة البراءة كما لا يخفى.

٤٠٥

وبالجملة الاستصحاب يقتضي اعتبارا زائدا لا حاجة إلى مراعاته في أصلي الاشتغال والبراءة ، وهذا الاعتبار الزائد في مورد أصل البراءة من وجهين وفي مورد أصل الاشتغال من وجه واحد.

هذا كلّه على رأي العدليّة القائلين بالتحسين والتقبيح العقليّين ، لما عرفت من ابتناء القاعدتين على قاعدة التحسين والتقبيح ، وأمّا على مذهب الأشاعرة المنكرين لحكومة العقل فتمسّ الحاجة إلى التمسّك بالاستصحابين ، لاستلزام انكارهم حكومة العقل لانكار القاعدتين ، إن لم يخدشه قضاء أصلهم الفاسد بانكارهم العمل بالاستصحاب لابتنائه أيضا على حكومة العقل في قضيّة : « كلّما ثبت دام ».

ولكن يدفعه : منع انكارهم حكومة العقل رأسا حتّى من غير جهة الحسن والقبح في مسألة التحسين والتقبيح ، وانكارهم ادراك العقل حسن الأشياء وقبحها ـ على ما شرحناه في محلّه ـ إنّما هو من باب السلب بانتفاء الموضوع ، على معنى رجوعه إلى انكار الصغرى وهو أنّه ليس في الأشياء حسنا ولا قبحا يدركهما العقل ، قبالا لمقالة العدليّة من أنّ فيها حسنا أو قبحا يدركهما العقل في بعضها ، وهذا هو معنى كون حسن الأشياء وقبحها بالشرع لا بالعقل على ما هو المعروف من مقالتهم ، فانكارهم حكومة العقل بهذا المعنى في مسألة التحسين والتقبيح لا ينافي قولهم بحكومة العقل فيما لا يرجع إلى ادراكه الحسن والقبح ، ومنه حكمه الظنّي بدوام ما ثبت ، وعليه مبنى الاستصحاب المثبت من جهة العقل لا على ادراكه الحسن والقبح.

لا يقال : الاستغناء عن استصحابي الاشتغال والبراءة بسبب قاعدتي الاشتغال والبراءة على مذهب العدليّة حسبما ذكرت على إطلاقه ممنوع ، لجواز مسيس الحاجة إلى استصحابها في بعض الأحيان ، كما لو شكّ في بقاء الاشتغال أو البراءة المثبتين بقاعدتيهما في زمان بعد اليقين بهما في زمان سابق عليه ، فيحكم ببقائهما استصحابا للحكم العقلي المذكور.

لأنّ العقل إنّما حكم بذلك الحكم في موضوع وهو الشاكّ في البراءة في حكمه بالاشتغال ، والشاكّ في التكليف في حكمه بالبراءة ، وهذا الموضوع إن كان مرتفعا في الزمان الثاني فلا معنى لاستصحابه حكم العقل فيه ، لاستحالة الاستصحاب مع ارتفاع موضوع المستصحب ، وإن كان باقيا فلا يعقل الشكّ في بقاء حكمه العقلي لتمسّ الحاجة

٤٠٦

إلى استصحابه.

ومن هنا يعلم طريق منع جريان الاستصحاب في الأحكام العقليّة ممّا يستقلّ العقل بادراك حسنه أو قبحه كقبح الظلم الملزوم لحرمته شرعا ، وحسن ردّ الوديعة الملزوم للوجوب شرعا ، فلا يعقل الاستصحاب في ذلك الحكم العقلي ولا ما يلزمه من الحكم الشرعي.

وتوضيحه : أنّ موضوع القضيّة العقليّة على حسبما لاحظه العقل وأحاط بجميع جهاته إن كان باقيا فلا يعقل الشكّ في بقاء حكمه ، وإن كان مرتفعا فلا يعقل الشكّ في ارتفاع حكمه ، ولو تطرّق إليه الاشتباه فإن كان الاشتباه للشكّ في وجود وصف وجودي مأخوذ في موضوع حكم العقل في ذلك الموضوع المشتبه ، كشخص من الكذب إذا شكّ في كونه ضارّا أو نافعا فلا يعقل الاستصحاب من جهته أيضا ، لا في الكلّيين ولا في المصداق المردّد بينهما.

أمّا في الأوّل فلانتفاء الشكّ ، وأمّا في الثاني : فلانتفاء الحالة السابقة.

وإن كان الاشتباه للشكّ في زوال وصف عنه بعد تحقّقه فيه ممّا هو مناط حكم العقل ـ كالسمّ المحكوم بقبح شربه عقلا سابقا باعتبار كونه ضارّا مهلكا إذا شكّ لطول مدّة بقائه في زوال هذه الخاصيّة عنه ـ فلا يعقل استصحاب قبحه أيضا ، لأنّ العقل الحاكم بقبحه في زمان وجود الوصف حاضر موجود ونراه أنّه لا يحكم فيه بالقبح ، والاستصحاب عبارة عن انسحاب الحكم المحتمل بقاؤه في لحاظ الحاكم به ، فإذا قطع أنّ الحاكم بالحكم الأوّل لا يحكم به في الزمان الثاني لم يصحّ استصحاب حكمه ، لعدم الشكّ في عدم بقائه.

إلاّ أن يقال : إنّ المقطوع بانتفائه في نحو الصورة المفروضة إنّما هو ادراك القبح وهو المراد من حكم العقل ، وهو لا يلازم ارتفاع القبح الواقعي الّذي هو عبارة عن كون الشيء بحيث يستحقّ فاعله الذمّ ، فيستصحب ذلك القبح الواقعي المتيقّن ثبوته المشكوك بقاؤه.

وبعبارة اخرى : أنّ محلّ الاستصحاب ليس هو ادراك العقل حتّى يستند في منع استصحابه إلى القطع بعدم بقائه ، بل مدرك العقل الّذي لا ينوط ثبوته وعدم ثبوته في الواقع بادراك العقل ، وهو قابل للاستصحاب للزومه ما اعتبر في الاستصحاب من سبق اليقين ولحوق الشكّ.

وفيه : أنّ ما يستقلّ العقل بادراكه لا يشكّ في بقائه وارتفاعه ، بل بقاؤه وارتفاعه تابع لبقاء موضوعه وارتفاعه ، فالمشكوك في المقام إنّما هو بقاء موضوع حكم العقل

٤٠٧

وارتفاعه ، لا بقاء نفس الحكم وارتفاعه مع بقاء موضوعه.

فاستصحاب الحكم من دون إحراز بقاء موضوعه غير صحيح ، وإحراز بقاء الموضوع بالاستصحاب حيثما صحّ ممّا يغني عن استصحاب الحكم.

وبالجملة حكم العقل من حيث هو غير قابل للاستصحاب ، وكذلك الحكم الشرعي التابع له بحكم الملازمة بين العقل والشرع ، ولقد سبق منّا بعض الكلام المتعلّق بهذا المقام عند التعرّض لتقسيمات الاستصحاب وبيان أقسامه.

المطلب السادس

في الشكّ في الحادث الّذي يقال فيه تارة ببطلان الاصول في الفصول ، واخرى : بعدم جواز تعيين الحادث بالأصل ، ومورده ما لو علم انتقاض حالة أوّلية عدميّة أو وجوديّة بطروّ خلافها كوجود معدوم أو انعدام موجود وشكّ في محلّه.

وبعبارة اخرى : علم طروّ وصف وجودي أو عدمي على خلاف الحالة السابقة وشكّ في الموصوف ، كما لو علم دخول أحد في الدار وشكّ في الداخل أهو زيد أو عمرو ، أو علم خروجه من الدار وشكّ في الخارج أهو زيد أو عمرو ، ومنه ما لو أصاب الثوب ما يتردّد بين البول والماء ، أو علم في صورة كون زيد داخلا وعمرو خارجا بانتقاض إحدى هاتين الحالتين وشكّ في المنتقض ، أهو دخول زيد في الدار بخروجه منها أو خروج عمرو منها بدخوله فيها؟ فهل يجري في نحوه الأصل أو لا؟ وهل يعتبر على تقدير الجريان أو لا؟وهل يفيد على تقدير الاعتبار أو لا؟

وتحقيق المقام : أنّه إن اريد بالأصل المبحوث عنه أصالة عدم زيديّة الداخل ، أو عدم عمرويّة الخارج ، أو عدم بوليّة المصيب للثوب ، فهو واضح البطلان لعدم كون عدم الزيديّة حالة أوّلية في الحادث بوصف كونه حادثا ليستصحب بقاؤه ، وهذا هو معنى عدم معقوليّة الاصول في الفصول.

وإن اريد به أصالة عدم دخول زيد في الدار ، أو عدم خروج عمرو من الدار أو عدم حصول البول في الثوب مثلا ، فهو وإن كان جاريا في نفسه إلاّ أنّه غير معتبر لو كان الغرض منه إثبات كون الداخل عمرو مثلا ، لما سبق تحقيقه من بطلان الاصول المثبتة ،

٤٠٨

ولا سيّما بالنسبة إلى ما ليس من لوازم المستصحب بل من مقارناته الاتّفاقية كما فيما نحن فيه ، لوضوح كون ما ذكر ـ أعني كون الداخل عمرو ـ من لوازم عدم دخول زيد في الدار في زمان اليقين به عقلا أو عادة.

نعم لو كان الغرض ترتيب الأحكام الشرعيّة المترتّبة على المستصحب في زمان اليقين به عليه في زمان الشكّ فلا إشكال في جريان الاستصحاب وصحّته من هذه الجهة ، إلاّ أنّه قد يشكل الحال من جهة كونه معارضا بمثله وإن كانت المعارضة عرضيّة ناشئة عن العلم الإجمالي بانتقاض إحدى الحالتين السابقتين ، أو انتقاض الحالة السابقة في أحد الأمرين ، فأصالة عدم دخول زيد مثلا معارضة بأصالة عدم دخول عمرو.

وحينئذ فهل يعمل بهما معا مطلقا أو يطرحان معا كذلك ، أو يعمل بأحدهما تخييرا أو تعيينا ويطرح الآخر؟ احتمالات.

ولكنّ الانصاف : كون المقامات مختلفة بما يقتضي التفصيل ، ففي بعضها يعمل بهما معا ، وفي بعض يطرحان معا ، وفي ثالث يؤخذ بأحدهما تخييرا ، وفي رابع يؤخذ بأحدهما عينا ، وعليه فصور المسألة على حسب اختلاف الموارد أربعة :

الصورة الاولى : ما جاز العمل بهما معا ، وهو كلّ مورد لم يلزم من العمل بهما معا مخالفة عمليّة للعلم الإجمالي الموجود في المقام ، كما لو توضّأ بمايع اشتبه حاله بعد الفراغ من الوضوء بين الماء والبول ـ على معنى حصول الشكّ في ذلك بعد الوضوء ـ فيعلم بارتفاع أحد الأمرين من الحدث أو طهارة أعضاء الوضوء فيحكم ببقاء الحدث وطهارة العضو استصحابا لهما.

ونحوه ما لو غسل المتنجّس بماء يشكّ بعد الغسل في كريّته ، فيعلم بارتفاع أحد الأمرين من نجاسة المغسول أو طهارة الغاسل ـ أعني الماء ـ فيحكم ببقاء نجاسة المغسول وطهارة الماء استصحابا لهما ، من دون أن يلزم في المثالين ونظائرهما من مخالفة العلم الإجمالي المخالفة القطعيّة العمليّة ، لعدم تأثير العلم الإجمالي في نظائر الفرض في توجّه خطاب وتنجّز تكليف ليلزم من مخالفته مخالفة الخطاب والتكليف المنجّز.

وأمّا ما يقال ـ في منع جريان الأصل هنا ليترتّب عليه صحّة العمل به في كلّ من الأمرين ـ من أنّ العمل بالاستصحاب إن كان من جهة بناء العقلاء المنوط بافادته ظنّ البقاء فلا يعقل حصول الظنّ هنا مع وجود العلم الإجمالي ، لوضوح أنّ الظنّ بالموجبة

٤٠٩

الكلّية يناقضه العلم الإجمالي بالسالبة الجزئيّة وهو العلم بارتفاع أحد الأمرين.

وبالجملة لا يعقل الظنّ ببقاء كلّ من الأمرين مع العلم بارتفاع أحدهما.

وإن كان من جهة الأخبار فهو لا تشمل نحو المقام ، وهو ما لو توسّط بين اليقينين السابقين علم اجمالي موجب لانتقاض أحدهما باليقين ، ومرجعه إلى ظهور الشكّ في قوله : « لا ينقض اليقين بالشكّ (١) » في الشكّ الابتدائي وعدم تناوله الشكّ المتولّد من العلم الإجمالي.

فيدفعه : منع ظهور الشكّ في الابتدائي منه لعدم نهوض شاهد بذلك ، فهو أعمّ منه وممّا يتولّد من نحو العلم الإجمالي ، والظنّ الممتنع حصوله مع العلم الإجمالي بارتفاع أحد الأمرين إنّما هو الظنّ الشخصي ، ولا يقتصر في الاستصحاب ـ على القول به من حيث الظنّ ـ على الظنّ الشخصي على الأظهر ، بل يكفي فيه الظنّ النوعي الموجود في المقام ، لوضوح أنّ المراد به ما لو خلّي الشيء وطبعه لكان مورثا للظنّ ، وإنّما لا يحصل هنا فعلا لعروض مانع العلم الإجمالي.

الصورة الثانية : ما كان العلم الإجمالي بانتقاض إحدى الحالتين السابقتين في موضع توجّه خطاب وتنجّز تكليف بسببه على وجه يلزم من العمل بالأصلين فيهما المخالفة القطعيّة العمليّة بالنسبة إلى ذلك الخطاب ، كما في الشبهة المحصورة من مسألة ما لو أصاب نجاسة أحد الانائين الطاهرين واشتبه ، فإنّ العمل باستصحاب الطهارة فيهما يوجب مخالفة الأمر بالاجتناب عن النجس الواقعي ، والعمل به في أحدهما عينا ترجيح بلا مرجّح ، وتخييرا خروج عمّا يقتضيه الخطاب من لزوم مراعاة الموافقة القطعيّة على المختار في الشبهة المحصورة.

وضابط هذا القسم كون العلم الإجمالي محدثا للخطاب منجّزا للتكليف على الوجه الّذي هو الأصل في حجّيته من لزوم حرمة مخالفته القطعيّة ووجوب موافقته القطعيّة في موضع امكانها.

الصورة الثالثة : ما كان العلم الإجمالي منجّزا للتكليف في موضع لم يمكن الموافقة القطعيّة ، كما في الانائين الطاهرين إذا وقع على أحدهما نجاسة على وجه الاشتباه بعد ما تعيّن استعمال أحدهما المعيّن وترك استعمال الآخر بنذر وشبهه ، فلا بدّ من استعمال ما تعيّن

__________________

(١) الوسائل ١ : ١٧٤ ـ ١٧٥ الباب ١ من أبواب نواقض الوضوء ، ح ١.

٤١٠

استعماله وترك الآخر حذرا عمّا يلزم من المخالفة القطعيّة في صورتي استعمالهما معا أو ترك استعمالهما ، وحيث إنّ استعماله في مشروط بالطهارة مشروط بطهارته فلا بدّ من احرازها فيه بالأصل واستصحاب الطهارة السابقة ، وهذا عمل بأحد الأصلين على وجه التعيين.

وقد يجعل الضابط لهذا القسم كون أحد الاستصحابين بحيث لا يترتّب عليه ثمرة ولا فائدة باعتبار عدم أثر شرعي للمستصحب يترتّب عليه ، ويمثّل له بأصالة عدم سيادة زيد بمعنى استصحاب عدم تولّده من بني هاشم ، فإنّه وإن كان معارضا باستصحاب عدم تولّده من غير بني هاشم ، فإنّ الثاني ممّا لا يترتّب عليه شيء من الآثار والفوائد بخلاف الأوّل الّذي يترتّب عليه عدم جواز دفع الخمس ونحوه إليه فيتعيّن العمل عليه.

ونحوه استصحاب عدم المسجديّة في أرض اختلف في كونها مسجدا أو دارا ، فإنّه يترتّب عليه نفي أحكام المسجد من تحريم تنجيسها وادخال النجاسة فيها ولبث الجنب فيها ، بخلاف معارضه الّذي هو استصحاب عدم الدارية الّذي لا يترتّب عليه حكم إلاّ على القول بالاصول المثبتة ليترتّب أحكام المسجديّة.

ونحوه مسألة اختلاف الموكّل والوكيل بعدم اشترائه الجارية وكالة ، فادّعى الأوّل توكيله في اشتراء العبد والثاني توكيله في اشتراء الجارية ، فأصالة عدم توكيله في اشتراء الجارية يوجب الحكم بفساد العقد الواقع عليها وعدم تملّكها ، بخلاف أصالة عدم توكيله في اشتراء العبد إذ لا يترتّب عليه شيء إلاّ على العمل بالأصل المثبت.

ونحوه ما لو ادّعى زيد كونه ولد عمرو ليرثه ، وادّعى بكر بن عمرو كونه ولد خالد قصدا إلى نفي توارثه من عمرو ، فأصالة عدم تولّده من عمرو يقتضي ذلك فيعمل عليه ، لا على معارضه الّذي هو أصالة عدم تولّده من خالد ، لأنّه لا يقتضي توارثه من عمرو إلاّ على العمل بالأصل المثبت وهو باطل ، إلى غير ذلك من الأمثلة الّتي يذكر أكثرها في باب الدعاوي.

الصورة الرابعة : ما كان العلم الإجمالي منجّزا للتكليف أيضا مع عدم امكان موافقته القطعيّة على وجه أوجب الأخذ بأحد الأصلين وطرح الآخر تخييرا ، كما في الانائين إذا تعيّن استعمال أحدهما وترك الآخر بالنذر وشبهه ، ثمّ أصاب أحدهما نجاسة على وجه اشتبه كلّ من المنذور استعماله مورد النجاسة.

وقد يجعل من ذلك مطلق الانائين المشتبهين على القول بعدم جواز ارتكابهما معا لحرمة المخالفة القطعيّة وعدم وجوب اجتنابهما معا لعدم وجوب الموافقة القطعيّة ،

٤١١

فالتخيير في ارتكاب أحدهما دون الآخر في معنى التخيير في الأخذ في الأخذ بالأصل الجاري في أحدهما وطرح الجاري في الآخر.

المطلب السابع

في الاستصحاب المتمسّك به لإثبات وجوب الأجزاء الباقية من العبادة المركّبة بعد تعذّر بعضها الآخر.

واعلم : أنّه إذا وجب عبادة مركّبة عند دخول وقتها واجتماع سائر شرائطها فلم يأت بها المكلّف حتّى تعذّر بعض أجزائها ، كما إذا قطع بعض أعضاء الوضوء بعد تنجّز التكليف به ، فلهم في إثبات وجوب الإتيان بالأجزاء الباقية وعدم سقوط وجوبها بسبب سقوط وجوب الكلّ طرق عديدة.

منها : العمومات القاضية بعدم سقوط الميسور بالمعسور (١).

ومنها : الغلبة الملحقة لمورد الشكّ بمورد الغالب ، المحرزة باستقراء التكاليف المركّبة الّتي وجدت في الغالب بحيث لم يعف الشارع عن باقي أجزاء المركّب بسبب تعذّر بعضها.

ومنها : الاستصحاب على ما قد يوجد في بعض الكلمات ، وإليه يرجع كلام الفاضلين في المعتبر (٢) والمنتهى (٣) في مسألة الأقطع في الاستدلال على وجوب غسل ما بقي من اليد المقطوعة ممّا دون المرفق ، بأنّ : « غسل الجميع بتقدير وجود ذلك البعض واجب ، فإذا زال البعض لم يسقط الآخر » انتهى على أحد احتماليه.

ويقرّر الاستصحاب المذكور بوجهين :

أحدهما : استصحاب وجوب ما بقي من الأجزاء بعد تعذّر ما عداه ، فإنّه كان واجبا قبل زمان التعذّر فيستصحب بعده.

وفيه من الضعف ما لا يخفى ، فإنّ أجزاء العبادة المركّبة ـ على ما حقّقناه في بحث المقدّمة ـ لا يلحقها وجوب بواسطة وجوب المركّب إلاّ ثانيا وبالعرض وعلى سبيل المجاز.

ولو سلّم فالمراد بوجوبها الّذي اريد استصحابه إمّا أن يكون هو الوجوب التبعي المقدّمي ، فلا شكّ في ارتفاعه لارتفاع المعلول بزوال العلّة وهي وجوب الكلّ على أنّه

__________________

(١) عوالي اللآلئ ٤ : ٥٨ ، ح ٢٠٥.

(٢) المعتبر ١ : ١٤٤.

(٣) المنتهى ٢ : ٣٧ ـ ٣٦.

٤١٢

ذو مقدّمة ، أو يكون الوجوب الأصلي النفسي فلا يقين بثبوته ، وعلى التقديرين لا يعقل استصحابه.

وثانيهما : استصحاب اشتغال الذمّة المتيقّن ثبوته قبل تعذّر الجزء المتعذّر ، فيستصحب بعده.

وهذا أضعف من الأوّل ، إذ الاشتغال المستصحب إن اريد به اشتغال ذمّة المكلّف بالكلّ فلا شكّ في ارتفاعه بتعذّر الكلّ ، وإن اريد به اشتغال ذمّته بما بقي من أجزائه فلا يقين بثبوته.

وتوهّم تصحيحه بجعل المستصحب هو الاشتغال لا بوصف إضافته إلى الكلّ ولا إلى الجزء ، وهو إذا شكّ في بقائه قابل للاستصحاب.

يدفعه : أنّ الاشتغال أمر وجودي فلا بدّ له من موضوع في نفس الأمر ، وهو إمّا الكلّ أو الجزء فيعود الكلام السابق.

لا يقال : لو فرض موضوع الاشتغال الأمر المجمل المردّد بين الكلّ والقدر المشترك بينه وبين الأجزاء الغير المتعذّرة أمكن استصحابه بعد تعذّر الجزء المتعذّر.

لأنّ المصحّح للاستصحاب على هذا التقدير إنّما هو احتمال كون متعلّق الاشتغال هو القدر المشترك المذكور ، وحيث إنّه عبارة عن الأمر المردّد بين الكلّ والجزء فالاشتغال بالنسبة إليه إن فرض على وجه التخيير لزم كون وجوب الجزء في مرتبة وجوب الكلّ وهو ضروري البطلان ، وإن فرض على وجه الترتيب انحلّ إلى أمرين : مطلق بالكلّ ، ومشروط بتعذّر الكلّ بالنسبة إلى الجزء الغير المتعذّر ، والأوّل ممّا لا شكّ في ارتفاعه ، والثاني ممّا لا يقين بثبوته ، مع أنّه إن صحّ الفرض لكفى تحقّق الشرط في تنجّز الأمر بالجزء ولا حاجة معه إلى استصحاب.

ومع الغضّ عن جميع ذلك فاستصحاب الاشتغال على الوجه المذكور لا ينتج المطلوب ـ وهو وجوب الأجزاء الباقية ـ إلاّ على القول بالاصول المثبتة ، أو ادّعي اتّحاد القضيّتين وهما الاشتغال الثابت بالاستصحاب ووجوب الأجزاء الباقية بحسب العرف وعدم المغايرة بينهما إلاّ باعتبار العبارة ، فيكون إحداهما عبارة اخرى للاخرى.

وبالجملة فالاستصحاب المتمسّك به لإثبات وجوب ما بقي من أجزاء المركّب ممّا لا يرجع إلى محصّل.

٤١٣

المطلب الثامن

في استصحاب القدر المشترك الّذي قد يعبّر عنه باستصحاب الكلّي ، ونعني به ما كان المستصحب كلّيا مشتركا بين أمرين أو أزيد ، سواء كان من قبيل الجنس المشترك بين أنواع ، أو النوع المشترك بين أفراد.

ومحلّه ما إذا كان المتيقّن في الزمان السابق كلّيا في ضمن فرد مردّد بين تقديرين يقطع ببقائه على أحد التقديرين وارتفاعه على التقدير الآخر ، فيشكّ لذلك في بقاء الكلّي وارتفاعه ، سواء كان الشكّ من جهة المقتضي ـ كما لو تردّد ما في الدار من الحيوان بين ما لا يعيش إلاّ سنة وبين ما يعيش مائة سنة ، فيحكم ببقائه بعد انقضاء السنة استصحابا للحيوان الكلّي المشترك بين الفردين ، ويرتّب عليه آثاره الشرعيّة إن كانت من دون تعرّض للفردين بنفي الأوّل وإثبات الثاني ـ أو من جهة الرافع إذا حصل ما كان مزيلا للفرد الموجود على أحد تقديريه غير مزيل له على التقدير الآخر ، كالنجاسة الواقعة على الثوب المردّدة بين البول وغيره ، بناء على اعتبار التعدّد في إزالة الأوّل وكفاية المرّة في إزالة الثاني مع حصول غسله مرّة واحدة ، فيستصحب النجاسة من حيث إنّها كلّي مشترك بينهما ويترتّب عليه أحكامها الّتي منها وجوب غسله مرّة اخرى ، من دون تعرّض لإثبات خصوص البول ونفي الآخر.

ونحوها الحدث المردّد بين الأصغر والأكبر المتحقّق بخروج البلل المشتبهة بين البول والمنيّ ، مع حصول إحدى الطهارتين من الوضوء أو الغسل الموجب للشكّ في ارتفاع الحدث الكلّي المشترك بينهما ، فيستصحب إلى أن يحصل الطهارة الاخرى أيضا من دون تعرّض لإثبات شيء من الخصوصيّتين ونفي الاخرى.

وقد يجعل من استصحاب القدر المشترك ما لو علم بتحقّق الكلّي في ضمن فرد معيّن مع الجزم بارتفاع ذلك الفرد والشكّ في وجود فرد آخر مكانه على وجه يتقوّم به ذلك الكلّي وعدمه ، وهذا على قسمين :

أحدهما : أن يكون الشكّ في تعيين الفرد الموجود أهو من جنس الفرد الأوّل أو من غير جنسه ، كالسواد المشترك بين الأسود الشديد والأسود الخفيف إذا علم بتحقّقه في ضمن الفرد الأوّل ثمّ ارتفاعه بالغسل وتبدّله إلى ما يشكّ في كونه الفرد المجانس له وهو الأسود الخفيف سواده أو الفرد المغائر له كالأبيض ، وهذا يوجب الشكّ في بقاء القدر

٤١٤

المشترك وهو السواد المطلق وتقوّمه بالفرد الآخر وارتفاعه بسبب ارتفاع الفرد الأوّل وعدم قيام فرد آخر من جنسه.

ومن أمثلته أيضا نسخ الوجوب مع الشكّ في بقاء الجواز وتقوّمه بأحد الأحكام الثلاث الباقية وعدمه لاحتمال طروّ الحرمة.

وثانيهما : أن يكون الشكّ في أصل وجود فرد آخر يتقوّم به الكلّي المشترك وعدمه رأسا ، وذلك كما لو علم بوجود الإنسان الكلّي في ضمن زيد الموجود في الدار ثمّ علم بخروج زيد مع الشكّ في دخول عمرو الّذي يتقوّم به الإنسان الكلّي وعدمه ، ويرجع ذلك إلى الشكّ في بقاء الإنسان الكلّي في الدار وارتفاعه.

ومن أمثلته في الشرعيّات ولاية الأب أو الجدّ الثابتة على الصغير إلى أن يبلغ الصغير سفيها فيشكّ في حصول ولاية اخرى لهما عليه من حيث كونه سفيها وعدمه ، ومرجعه إلى الشكّ في بقاء كلّي الولاية ، ومن أمثلته أيضا عدم المذبوحيّة الّذي حكم المشهور باستصحابه في الجلد المطروح ، الّذي هو كلّي مشترك بين ما قارن منه حال الحياة وبين ما قارن منه حال الموت حتف الأنف ، حيث ارتفع الأوّل جزما بعد تيقّن ثبوته مع الشكّ في قيام الثاني مقام الأوّل وعدمه.

فهل يصحّ استصحاب القدر المشترك في جميع الأقسام المذكورة ، أو لا يصحّ في شيء منها ، أو يفصل بينها فيصحّ في البعض دون بعض؟

وتحقيق المقام : أنّه إن بنينا على دقّة النظر وراعينا المداقّة الفلسفة ينبغي القطع بعدم صحّته في شيء من أقسامه وفروضه.

أمّا في نحو القسمين الأوّلين : فلدورانه فيهما بين تقديرين لا يشكّ في بقائه على أحدهما ولا في ارتفاعه على الآخر ، فلا معنى لاستصحابه على التقديرين لخروجه عن ضابط الاستصحاب ، وهو الشكّ في بقاء الشيء وارتفاعه على وجه يتساوى الاحتمالان بعد اليقين بوجوده. وأمّا في نحو القسمين الأخيرين : فللقطع بانتفاء الخصوصيّة الاولى والشكّ في حدوث خصوصيّة اخرى يتقوّم بها الكلّي والأصل عدمها ، ومرجع المنع إلى تغاير القضيّة المشكوكة والقضيّة المتيقّنة موضوعا ، لتغاير الفردين من حيث الخصوصيّة ، والحصّة من الكلّي الموجودة مع الفرد المعلوم المأخوذ في القضيّة المتيقّنة مرتفعة جزما ، وبدليّة حصّة اخرى مأخوذة في الفرد المشكوك غير معلومة ، واستصحاب القدر المشترك

٤١٥

عند التحقيق يرجع إمّا إلى إبقاء ما لا يشكّ في عدم بقائه ، أو إلى إبقاء ما لم نحرز حدوثه بعد ، والكلّ كما ترى.

وإن بنينا على المسامحات العرفيّة وجعلنا المقام من مواردها ينبغي القطع بصحّته في الكلّ ، لبناء أهل العرف فيها على القاء الخصوصيّة واعتبار القدر المشترك لا بشرط شيء.

ولا ريب أنّه إذا اعتبر على هذا الوجه من مجرى الاستصحاب مطلقا وإن كانت الأقسام المذكورة متفاوتة في الظهور والخفاء.

ولكن كون جميع الأقسام المذكورة ممّا يتسامح فيه عرفا دون إثباته خرط القتاد ، بل الّذي يساعد عليه النظر منع صحّة الاستصحاب في نحو القسمين الأخيرين لو قدّر من باب استصحاب القدر المشترك ، لخروجه فيهما عن ضابط الاستصحاب بناء على التقدير المذكور.

قال الفاضل التوني ـ ردّا على استصحاب عدم التذكية الّذي تمسّك به الأكثر على نجاسة الجلد المطروح ـ : « إنّ عدم المذبوحيّة لازم لأمرين الحياة والموت حتف الأنف والموجب للنجاسة ليس هذا اللازم من حيث هو بل ملزومه الثاني ـ أعني الموت حتف الأنف ـ فعدم المذبوحيّة لازم أعمّ لموجب النجاسة ، فعدم المذبوحيّة اللازم للحياة مغاير لعدم المذبوحيّة العارض للموت حتف الأنف ، والمعلوم ثبوته في الزمان السابق هو الأوّل لا الثاني ، وظاهر أنّه غير باق في الزمان الثاني ، ففي الحقيقة خرج مثل هذه الصورة من الاستصحاب ، إذ شرطه بقاء الموضوع وعدمه هنا معلوم ، وليس مثل المتمسّك بهذا الاستصحاب إلاّ مثل من تمسّك على وجود عمرو في الدار باستصحاب بقاء الضاحك المتحقّق بوجود زيد في الدار في الوقت الأوّل وفساده غنيّ عن البيان » انتهى (١).

ومن مشايخنا (٢) من استجود ما أفاده من عدم جواز الاستصحاب في المثال المذكور ونظائره.

ويمكن تصحيح هذا الاستصحاب ونظائره بجعله من باب استصحاب الحالة الواحدة العدميّة المستمرّة إلى حين الموت القابلة للاستمرار إلى ما بعد الموت ، من دون تعدّد الحالتين لتكونا فردين من القدر المشترك المشكوك في بقائه باعتبار الجزم بارتفاع الفرد الأوّل والشكّ في وجود الفرد الآخر ، إذ ليس هاهنا ما يوجب الفرديّة الملزومة للتعدّد والمغائرة إلاّ مقارنة الحالة المذكورة في الزمان السابق لحياة الحيوان ومقارنتها في الزمان

__________________

(١) الوافية : ٢١٠.

(٢) فرائد الاصول ٣ : ١٩٧.

٤١٦

الثاني لموته ، وهذا بمجرّده لا يلازم الفرديّة الّتي ملاكها كون الخصوصيّة مقوّمة للماهيّة ، وإلاّ لزم كون الاستصحاب في جميع موارده من استصحاب القدر المشترك ولم يقل به أحد.

وعلى هذا فلا مانع من استصحابها احرازا لمقتضي النجاسة الّذي شرط اقتضائها الموت وهو متحقّق بالفرض والشكّ إنّما هو في انتقاض الحالة العدميّة وارتفاعها بطروّ الذبح الشرعي. وهكذا الكلام في مثالي الولاية والسواد وغيرهما فالاستصحاب في هذه الأمثلة ونظائرها صحيح ، ولكن لا من باب استصحاب القدر المشترك بل من باب استصحاب الحالة الوحدانيّة القابلة للاستمرار وجوديّة كانت أو عدميّة ، وعلى هذا فانحصر استصحاب القدر المشترك في نحو القسمين الأوّلين ، والظاهر صحّته بناء على المسامحة وثبوت هذه المسامحة فيه عرفا.

المطلب التاسع

في استصحاب الامور التدريجيّة ، والمراد بالأمر التدريجي ما ينعدم سابقه بوجود لا حقه.

وبعبارة اخرى : ما يتوقّف وجود جزئه اللاحق على انعدام جزئه السابق.

وبعبارة ثالثة : ما لا يجتمع أجزاؤه في الوجود الخارجي ، كالقراءة والتكلّم والمشي ونبع الماء وسيلان دم الطمث ، وعلى هذا فما قد يوجد في كلام بعضهم من عدّ الكريّة من الامور التدريجيّة غير جيّد ، لأنّ الكرّ عبارة عن مقدار مخصوص من الماء وغيره يجتمع أجزاؤه في الوجود.

نعم قد يكون حصول أجزائه واجتماعها في الوجود تدريجا وهذا لا يوجب كونه من الامور التدريجيّة ، وإلاّ لزم كون المركّبات الخارجيّة بأجمعها من الامور التدريجيّة لوضوح أنّ كلّ مركّب كما يمكن تحصّل أجزاؤه في الخارج دفعة فكذلك يمكن تحصّلها تدريجا.

وعلى أيّ تقدير فالمقصد الأصلي من عقد هذا البحث هو التكلّم عن قابليّة الامور التدريجيّة للاستصحاب وجريانه فيها وعدمه.

فنقول : أنّ الاستصحاب المذكور إن كان عدميّا ـ كعدم القراءة وعدم جريان الماء ونحو ذلك ـ فلا ينبغي التأمّل في صحّته وجريانه ، بل هو عند التحقيق خارج عن معقد البحث.

وإن كان وجوديّا فالمعهود من طريقة العرف وعمل العلماء جريانه ، غير أنّ دقيق النظر يأباه ويقضي بعدم معقوليّة جريانه في الامور التدريجيّة ، لأنّها تدخل في الوجود جزء

٤١٧

فجزء أو كلّ جزء منه ينعدم بمجرّد وجوده ليخلفه الجزء الآخر ، فلو اريد من استصحابها استصحاب الأجزاء السابقة فقدار تفعت ، ولو اريد استصحاب الأجزاء اللاحقة فلم توجد بعد.

وعلى التقديرين لا معنى للاستصحاب فيها إلاّ أن يصحّح بالبناء على المسامحات العرفيّة ، الّتي مرجعها هنا إلى أخذ المستصحب الأمر الملئتم لذاته من أجزاء خارجيّة مرتّبة من حيث هي هي ولا بشرط وصفها بالسبق ولا اللحوق ، فيكون بهذا الاعتبار أمرا وحدانيّا مستمرّا وقابلا للاستمرار.

أو بإرجاع الاستصحاب إلى استصحاب الحالة المنتزعة عن الأمر التدريجي ، سواء كان متأصّلا في ذاته أو اعتباريّا محضا ، كالتلبّس بالكلام والقراءة والجريان أو اتّصافه به ، فمعنى استصحاب الأمر التدريجي استصحاب هذا الأمر المنتزع ولا ضير فيه ، إلاّ أنّ انتزاعه مشروط ببقاء الاتّصال العرفي بين الأجزاء المترتّبة في الوجود وعدم تخلّل فصل بينها ، إذ لو لاه لا معنى لاستصحابه حتّى في الأمر المنتزع للقطع بارتفاع ما سبق بسبب تخلّل الفصل.

وبالجملة فلو لا الالتزام بأحد الوجهين لم يصحّ الاستصحاب في شيء من الامور التدريجيّة مع فرض كون المستصحب نفس الأمر التدريجي.

ومحصّل ما ذكرناه في وجهه : أنّ مورد الاستصحاب هو الشكّ في بقاء الشيء المستصحب في الآن الثاني بعد اليقين بوجوده في الآن الأوّل ، والبقاء الّذي هو عبارة عن وجود الموجود الأوّل في الآن الثاني غير ممكن في الأمر التدريجي ليشكّ فيه ثمّ يحكم به بالاستصحاب ، إذ الّذي يشكّ في تحقّقه لو كان متحقّقا في آن الشكّ في الواقع كان تحقّقه مسبوقا بعدمه فيكون حدوثا ، لا أنّه مسبوق بالوجود ليكون بقاء ، فمرجع الشكّ في الحقيقة إلى الحدوث ، والاستصحاب يقتضي عدمه.

ومن طريق هذا البيان يظهر منع جريان الاستصحاب في الزمان الّذي هو غير قارّ بالذات ولا استقرار لوجوده ، بل يتجدّد شيئا فشيئا ولا يجتمع أجزاؤه في الوجود ، وإن اشتهر إعماله في الليل والنهار.

وعن بعض الأخباريّين (١) كون استصحاب الليل والنهار من الضروريّات.

ويزيّفه : منع الضرورة ، مضافا إلى مساعدة البرهان ببطلان هذا الاستصحاب لوجهين :

__________________

(١) الفوائد المدنيّة : ١٤٣.

٤١٨

أحدهما : أنّ الزمان لا يتصوّر له آن آخر يكون ظرفا لوجوده ، وينقسم إلى زمان اليقين بوجوده وزمان الشكّ في بقائه.

وثانيهما : أنّه لا يتصوّر له بقاء ، لأنّ سابقه منعدم ولا حقه غير معلوم التحقّق ، وعلى فرض تحقّقه في الواقع كان مسبوقا بالعدم فكان حدوثا ، فالشكّ في تحقّقه شكّ في حدوثه لا في بقائه ، وهذا هو معنى ما يقال ـ في منع جريانه ـ من : أنّه لا يجري لتشخيص كون الجزء المشكوك فيه من أجزاء الليل أو النهار ، لأنّ نفس الجزء لم يتحقّق في السابق فضلا عن وصف كونه نهارا أو ليلا.

نعم ربّما يمكن الاستصحاب هنا أيضا بالبناء على المسامحة ، بجعل النهار أو الليل عبارة عن مجموع قطعة محدودة من الزمان من دون تحليلها إلى أجزائها ولا ملاحظة السبق واللحوق فيها ، ويقال : إنّها ما يشكّ في بقائه وانقضائه والاستصحاب يقتضي بقاءه.

أو بإرجاعه إلى امور عدميّة اخر متلازمة للزمان كعدم غروب الشمس وذهاب الحمرة وطلوع الفجر ، وعدم وصول القمر إلى المنزل الفلاني الّذي لزمه رؤية هلاله في استصحاب الشهر ونحو ذلك.

وربّما أمكن الاستصحاب الحكمي أيضا كحرمة الإفطار وإباحة تناول المفطرات ، غير أنّه لا يفيد كون الزمان المشكوك فيه نهارا أو ليلا لبطلان الأصل المثبت ، مع ابتنائه على غضّ النظر عن الشكّ في بقاء موضوع المستصحب بل الشكّ في موضوعيّة الباقي ، لأنّ الشكّ في أنّ هذا الجزء المتحقّق من الزمان من النهار أو من الليل لا في بقاء النهار أو الليل ومعه لا معنى للاستصحاب.

ومن هنا ظهر أنّه كما لا يصحّ الاستصحاب في الزمان فكذلك لا يصحّ في الزماني وهو الأمر المقيّد بالزمان ، كوجوب صيام نهار رمضان إذا شكّ في انقضاء النهار ، فليتأمّل حتّى تعرف أنّ المقام في استصحاب الزمان أو الأمر الزماني من مجاري أصلي الاشتغال والبراءة لا الاستصحاب.

المطلب العاشر

في الاستصحاب التقديري الّذي يراد به استصحاب الأمر التقديري ، وقد يعبّر عنه بالتعليقي فيما لو كانت القضيّة المستصحبة قضيّة تعليقيّة حكم فيها بوجود حكم على تقدير وجود أمر آخر ، كالحكم على العنب بحرمة مائه على تقدير الغليان ، وإذا صار زبيبا

٤١٩

فهل يستصحب هذه الحرمة التعليقيّة في مائه أيضا فيحرم عند تحقّق الغليان أو لا ، بل يستصحب في مائه الإباحة السابقة على الغليان بعد تحقّقه؟ وقد اختلف فيه ، فعن العلاّمة الطباطبائي (١) التمسّك به في مسألة حرمة العصير الزبيبي بالغليان بدعوى تقديمه على استصحاب الإباحة.

وعن السيّد صاحب المناهل منعه حاكيا له عن والده في مجلس الدرس ، حيث إنّه في ردّ تمسّك العلاّمة المذكور قال : « يشترط في حجّيّة الاستصحاب ثبوت أمر أو حكم وضعي أو تكليفي في زمان من الأزمنة قطعا ، ثمّ يحصل الشكّ في ارتفاعه بسبب من الأسباب ، ولا يكفي مجرّد قابليّة الثبوت باعتبار من الاعتبارات ، فالاستصحاب التقديري باطل.

وقد صرّح بذلك الوالد العلاّمة في مجلس الدرس ، فلا وجه للتمسّك باستصحاب التحريم في المسألة (٢) » انتهى.

ومن مشايخنا أورد عليه : « بأنّه لا إشكال في أنّه يعتبر في الاستصحاب تحقّق المستصحب سابقا والشكّ في ارتفاع ذلك المتحقّق ولا إشكال أيضا في عدم اعتبار أزيد من ذلك.

ومن المعلوم أنّ تحقّق كلّ شيء بحسبه ، فإذا قلنا : « العنب يحرم ماؤه إذا غلا ، أو بسبب الغليان » فهناك لازم وملزوم وملازمة ، أمّا الملازمة ـ وبعبارة اخرى : سببيّة الغليان لتحريم ماء العصير ـ فهي متحقّقة بالفعل من دون تعليق.

وأمّا اللازم وهو الحرمة فله وجود مقيّد بكونه على تقدير الملزوم ، وهذا الوجود التقديري أمر متحقّق في نفسه في مقابل عدمه ، وحينئذ فإذا شككنا في أنّ وصف العنبيّة له مدخل في تأثير الغليان في حرمة مائه فلا أثر للغليان في التحريم بعد جفاف العنب وصيرورته زبيبا ، فأيّ فرق بين هذا وبين سائر الأحكام الثابتة للعنب إذا شكّ في بقائها بعد صيرورته زبيبا؟ » انتهى كلامه رفع مقامه (٣).

أقول : والتحقيق في دفع هذا القول والطعن على الدليل المذكور أن يقال : « انّ هاهنا مقدّمات بني عليها الدليل.

المقدّمة الاولى : أنّه يعتبر في الاستصحاب الشكّ في بقاء الشيء في الآن الثاني بعد اليقين بتحقّقه في الآن الأوّل ، على معنى كون المستصحب أمرا ثابتا في وقت ثمّ شكّ في

__________________

(١) المصابيح ( مخطوط ) : ٤٤٧.

(٢) المناهل : ٦٥٢ ( كتاب الأطعمة والأشربة ).

(٣) فرائد الاصول ٣ : ٢٢٣.

٤٢٠