تعليقة على معالم الاصول - ج ٦

السيّد علي الموسوي القزويني

تعليقة على معالم الاصول - ج ٦

المؤلف:

السيّد علي الموسوي القزويني


المحقق: السيد علي العلوي القزويني
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
المطبعة: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ١
ISBN: 964-470-559-9
الصفحات: ٤٨٦

بخلاف الوجود فإنّه يفتقر إلى علّة في ابتدائه واستمراره معا ، فإذا علم وجود شيء في زمان للعلم بوجود علّة وجوده لم يلزم منه بملاحظته العلم ولا الظنّ بوجوده في الزمان الثاني ، إلاّ على تقدير العلم أو الظنّ ببقاء علّة وجوده أو وجود علّة بقائه.

ومن هنا ظهر الوجه في عدم اقتضاء الاستصحاب ترتّب الأمر العدمي على المستصحب الوجودي على هذا القول ، فإنّه إذا لم يفد ظنّ البقاء في الملزوم الّذي هو المستصحب الوجودي لزمه عدم ظنّ البقاء في لوازمه وجوديّة أو عدميّة ، فإذا لم يحصل الظنّ باستصحاب حياة زيد ببقاء حياته لم يحصل الظنّ بعدم جواز تزويج امرأته بغيره ، وهذا هو معنى عدم اعتبار الاستصحاب بالنسبة إلى المستصحب الوجودي ولو لترتيب أمر عدمي عليه.

ويرد على هذا القول ـ بناء على استناده إلى الدليل المذكور ـ ما أشرنا إليه من الإشكال عند تحرير محلّ النزاع على مدّعي خروج العدميّات عن محلّ النزاع من أنّه ما من استصحاب عدمي إلاّ وفي مورده أمر وجودي وإن كان لكونه ضدّا وجوديّا للمستصحب العدمي ، فيلزم من الظنّ ببقاء عدم المستصحب العدمي الظنّ ببقاء وجود ذلك الأمر الوجودي ، مثلا يلزم من الظنّ بعدم موت الغائب الظنّ بحياته ، وقضيّة ذلك أن يظنّ عدم جواز تزويج امرأته وانتقال مال مورّثه إليه ، وهذا يغني عن التكلّم في اعتباره في الوجوديّات ، والتكلّم في أنّ الأمر الوجودي هل يثبت بالاستصحاب؟ ولو من جهة ترتّبه على المستصحب العدمي.

وتوهّم دفعه : بأنّ اعتبار الاستصحاب في العدميّات عند هذا القائل لعلّه ليس لأجل الظنّ بالأعدام لينشأ منه الظنّ بالوجودات ، بل لبناء العقلاء في امور معاشهم على الاعتماد على الحالة السابقة والأخذ بها بمقتضى جبلّتهم.

يندفع : بما قيل من أنّ عمل العقلاء في معاشهم على ما لا يفيد الظنّ بمقاصدهم والمضيّ في امورهم بمجرّد الشكّ والتردّد في غاية البعد ، بل لا وجه له بعد ملاحظة عدم جواز الترجيح بلا مرجّح ، ولذا تقدّم التمسّك ببناء العقلاء لا ثبات الاستصحاب مطلقا من حيث الظنّ بتقريب : أنّ بناءهم على الأخذ بمقتضى الحالة السابقة والحكم ببقائها في الزمان الثاني لابدّ وأن يكون عن مرجّح وليس إلاّ الظنّ.

وأضعف من هذا التوهّم توهّم دفعة أيضا : بأنّ المعتبر عند العقلاء من الظنّ

٣٤١

الاستصحابي هو الحاصل ببقاء الشيء من تحقّقه السابق ، لا الظنّ الناشئ من هذا الظنّ بالقياس إلى ما عدا المستصحب العدمي من لوازمه وجوديّة أو عدميّة ، ويكفي في ضعفه ملاحظة أنّ ظاهر كلام القائلين بالاستصحاب من حيث الظنّ وصريح بعضهم بناء حجّيّة الظنّ الاستصحابي على كونه ظنّا والظنّ بقول مطلق حجّة ، ولذا جعل العضدي الخلاف في صحّة الاستدلال بالاستصحاب وعدمه في أمر صغروي ، وهو أنّه يفيد ظنّ البقاء أو لا يفيده؟ وهذا لا يستقيم إلاّ بعد الفراغ عن اثبات كون مناط دليليّة الدليل وصحّة الاستدلال به الظنّ بالحكم ، وقضيّة ذلك أن لا يفرّق بين أفراده ولا موارده ولا أسبابه ، وأمّا دفع الإشكال أيضا بالبناء على بطلان الاصول المثبتة ، فلا يلزم من ثبوت العدم بالاستصحاب ثبوت ما قارنه من الامور الوجوديّة اللازمة له عقلا أو عرفا.

فيمكن دفعه : بأنّ بطلان الاصول المثبتة إنّما هو على طريقة من يرى الاستصحاب من باب التعبّد من جهة الأخبار كما هو المختار لما سنوجّهه في محلّه مفصّلا.

وملخّصه : عدم قضاء الأخبار إلاّ على وجوب ترتيب الآثار المترتّبة على المستصحب شرعا عليه المعبّر عنها باللوازم الشرعية ، ومعناه : أن يترتّب عليه في زمان الشكّ كلّ ما كان من الآثار مترتّبا عليه شرعا في زمان اليقين ، وأمّا على طريقة من يراه من باب الظنّ فالظاهر عدم الفرق في اللوازم الواجب ترتيبها على المستصحب بين اللوازم الشرعيّة والعقليّة والعاديّة ، لأنّ مناطه الظنّ المتساوي نسبته إلى الجميع ، مع ملاحظة قضاء البداهة بأنّ الظنّ بالشيء يقتضي الظنّ بجميع لوازمه شرعيّة وعقليّة وعاديّة.

والانصاف : أنّ الإشكال المذكور ممّا لا مدفع له ، والالتزام بذلك أولى من القصد إلى دفعه بمنع الاطّراد ـ لو اريد اطّراد لزوم الأمر الوجودي للمستصحب العدمي ـ بأن يقال : انّه ربّ استصحاب عدمّي ليس في مورده ضدّ وجوديّ يترتّب وجوده على عدم المستصحب العدمي الثابت بقاؤه بالاستصحاب ، ومن ذلك استصحاب عدم الوجوب أو الحرمة الثابت قبل وجود المكلّف أو قبل بلوغه مع عدم ترتّب وجود شيء من الأحكام الباقية على وجه يكون الحكم المجعول للواقعة بعد نفي الوجوب أو الحرمة بالاستصحاب هو ذلك الحكم من اباحة ونحوها ، إلاّ إذا قام دليل من الخارج عليه.

ومنه أيضا أصالة عدم التذكية ، وأصالة عدم القرينة ، واستصحاب عدم العدالة بمعنى الملكة الراسخة الّتي تبعث على ملازمة التقوى ، واستصحاب عدم الفسق بمعنى ارتكاب

٣٤٢

الكبائر أو الإصرار على الصغائر ، بناء على ثبوت الواسطة بينهما وهو المجتنب عن الكبائر الغير المصرّ على الصغائر لا عن ملكة ، وهي الهيئة الراسخة في النفس الباعثة على الاجتناب وعدم الإصرار ، فلا يثبت الفسق بالأوّل ولا العدالة بالثاني لجواز الواسطة ، ونحوه الكلام في كلّ ضدّين بينهما واسطة أو وسائط.

نعم إنّما يستقيم دعوى اللزوم في كلّ ضدّين لا ثالث لهما ، فيلزم من استصحاب عدم أحد الضدّين وجود الضدّ الآخر لا محالة.

وأمّا بطلان هذا القول فيظهر بإبطال دليله المتقدّم لو كان هو دليله ، فيرد عليه أوّلا : أنّ الفرق المذكور ـ وهو أنّ ظنّ البقاء يتأتّى في الامور العدميّة ولا يتأتّى في الامور الوجوديّة ـ غير متعقّل ، إذ غاية ما هنالك أنّ العدم ليس كالوجود ليفتقر إلى علّة بل يكفي فيه انتفاء علّة الوجود ، إلاّ أنّه لا بدّ في العلم أو الظنّ به من العلم أو الظنّ بانتفاء علّة الوجود ، كما أنّه لا بدّ في العلم أو الظنّ بالوجود من العلم أو الظنّ بوجود علّة الوجود ، فكما أنّه في الزمان الثاني في الأمر الوجودي لا يحصل العلم ولا ظنّ بالوجود بمجرّد ملاحظة الوجود في الزمان الأوّل ، بل لا بدّ فيهما من العلم أو الظنّ ببقاء علّة الوجود أو وجود علّة البقاء. فكذلك في الأمر العدمي فلا يحصل العلم ولا الظنّ ببقاء العدم في الزمان الثاني بمجرّد ملاحظة ثبوت العدم في الزمان الأوّل ، بل لا بدّ فيهما من العلم أو الظنّ بانتفاء علّة الوجود في الزمان الثاني أيضا كما كان منتفيا في الزمان الأوّل.

هذا مع أنّه مبنيّ على القول بالاستصحاب من حيث الظنّ ولقد أبطلناه وزيّفناه من أصله بما لا مزيد عليه ، فعلى القول به من باب التعبّد من جهة الأخبار لا فرق بين العدميّات والوجوديّات ، لأنّ مرجعه حينئذ إلى عدم نقض اليقين بالشكّ ، ومعناه ترتيب آثار المتيقّن ـ وهو المستصحب ـ المترتّبة عليه في زمان اليقين عليه في زمان الشكّ ، ولا يتفاوت الحال فيه بين كونه أمرا عدميّا أو أمرا وجوديّا.

لكن قد يقال : إنّه على القول بالاستصحاب من باب التعبّد أيضا كان القول بالفرق متّجها ، لرجوعه عند التأمّل إلى ما يقرب من مذهب المحقّق الخوانساري القائل بحجّية الاستصحاب فيما دلّ الدليل على استمرار الحكم إلى غاية معيّنة وشكّ في حصول الغاية (١) ومذهب المحقّق السبزواري القائل به فيما كان الشكّ من جهة المانع بمعنى

__________________

(١) مشارق الشموس : ٧٥ ـ ٧٦.

٣٤٣

الرافع (١) ومذهب صاحب الفصول القائل به فيما له استعداد البقاء وقابليّة الاستمرار (٢) ، فإنّ هذه المذاهب الثلاث مع استنادها إلى الأخبار متقاربة ، باعتبار اتّحادها موردا وكونها متشاركة في تخصيص الاستصحاب بما كان المقتضي لوجوده المطلق ـ أعني الوجود المسبوق بالعدم والوجود المسبوق بالوجود ـ المعبّر عن الأوّل بالحدوث وعن الثاني بالبقاء محرزا وكان الشكّ في البقاء والارتفاع باعتبار احتمال طروّ ما يرفعه ، فهؤلاء مطبقون على القول باستصحاب الطهارة في المتطهّر إذا طرأه الشكّ في الحدث ، إلاّ أنّ الخوانساري يقول باستصحابها لأنّها ما دلّ الدليل على استمرارها بعد الوضوء أو الغسل الّذي هو المقتضي لها إلى غاية حصول الحدث. والسبزواري يقول به لأنّها ما شكّ في بقائها من جهة المانع ، وصاحب الفصول يقول به لما فيها من استعداد البقاء وقابليّة الاستمرار ، وهذا القائل أيضا يقول بالاستصحاب في نحو هذا المورد الّذي ضابطه كون المقتضي محرزا وكون الشكّ من جهة المانع.

غاية الأمر في الفرق بين مختاره ومختار هؤلاء أنّهم في نحو المثال المذكور يعتبرون الاستصحاب في نفس الطهارة الّتي هي أمر وجودي ، وهذا يعتبره في عدم الحدث الّذي هو أمر عدمي بزعم عدم جريانه فيما عداه من الامور الوجوديّة اللازم وجودها لعدم ذلك الأمر العدمي.

وتوضيح ذلك : أنّ العدم في الأمر العدمي الّذي يراد استصحابه قد يكون جزءا من علّة وجود الشيء ابتداء كعدم القرينة الّذي هو مع الوضع علّة لحمل اللفظ على حقيقته ، وعدم التذكية الّذي هو مع الموت علّة لنجاسة الحيوان وحرمة أكله ، وما أشبه ذلك من الأمثلة. وقد يكون جزءا من علّة بقائه كعدم موت زيد الغائب الّذي هو مع العقد الواقع على امرأته علّة لبقاء حرمة تزويجها بغيره ، وعدم الحدث في المتطهّر الّذي هو مع الوضوء أو الغسل علّة لبقاء طهارته ، وما أشبه ذلك من الأمثلة.

والعلّة في الجميع مركبّة من أمر وجودي هو المقتضي وأمر عدمي هو فقد المانع الّذي يحرز فقده باستصحاب العدم ، وهذا الأمر العدمي الّذي وجوده مانع ، منعه في القسم الأوّل من باب الدفع وفي القسم الثاني من باب الرفع ، فالمانع المقابل للمقتضي هنا يراد به المعنى العامّ للدافع والرافع ، والامور العدميّة الّتي يستصحب عدمها عند هذا القائل لا تخلو عن

__________________

(١) الذخيرة : ١١٥.

(٢) الفصول : ٣٦٩.

٣٤٤

أحد هذين القسمين : فاللازم من مذهبه عدم حجّيّة الاستصحاب فيما كان الشكّ من جهة المقتضي كما هو مذهب هؤلاء الجماعة ، وفيما كان الشكّ من جهة المانع أيضا لو جعل المستصحب هو الأمر الوجودي لا الأمر العدمي.

فرجع قول هذا القائل بعدم حجّيّة الاستصحاب في الامور الوجوديّة إلى أنّ من الامور الوجوديّة ما كان الشكّ فيه باعتبار المقتضي كالنجاسة في الماء المتغيّر إذا زال تغيّره بنفسه ، ومنها : ما كان الشكّ فيه باعتبار احتمال وجود المانع بمعنى الدافع ، ومنها : ما كان الشكّ فيه باعتبار احتمال وجود المانع بمعنى الرافع ، وأيّا ما كان فلا استصحاب فيه.

أمّا الأوّل : فلعدم شمول قوله عليه‌السلام : « لا ينقض اليقين بالشكّ » (١) لما كان الشكّ فيه من جهة المقتضي كما زعمه الجماعة أيضا.

وأمّا الثاني : فلانتفاء الحالة السابقة كما يظهر وجهه بالتأمّل في مثالي استصحاب عدم القرينة واستصحاب عدم التذكية بالقياس إلى حمل اللفظ على الحقيقة والنجاسة والحرمة.

وأمّا الثالث فلأنّ الشكّ في بقاء الأمر الوجودي وارتفاعه مسبّب عن الشكّ في حدوث الرافع له ، والشكّ في بقاء الشيء إذا كان مسبّبا عن الشكّ في شيء آخر فلا يجتمع معه في الدخول تحت عموم « لا تنقض » ، سواء تعارض مقتضي اليقين السابق في الأوّل لمقتضي اليقين في الثاني أم تعاضدا ، بل الداخل فيه بمقتضى الاعتبار العقلي والانفهام العرفي هو الشكّ السببي ، فجرى فيه الاستصحاب دون الشكّ المسبّبي بنفسه ، وإن لزم من عدم الاعتناء بالأوّل عدم الاعتناء بالثاني أيضا كما هو معنى لا ينقض اليقين بالشكّ.

فظهر بعد التوجيه المذكور لهذا القول أنّه يوافق المذاهب الثلاثة المذكورة في الجملة ويخالفها في الجملة.

أمّا الموافقة ففي نفي حجّيّة الاستصحاب في أمر وجودي كان الشكّ فيه من جهة المقتضي.

وأمّا المخالفة ففي قصر الحجّية على الأمر العدمي الّذي هو دائما عبارة عن عدم وجود المانع بالمعنى الأعمّ ـ لا في الأمر الوجودي اللازم وجوده لذلك المستصحب العدمي ـ بل بمعنى الرافع خاصّة ، لأنّ عدم حجّيته في وجوديّ ليس له حالة سابقة وكان الشكّ في ابتداء وجوده لا في بقائه وفاقيّ ، بل إطلاق عدم الحجّية فيه مسامحة من باب سلب الحكم لانتفاء موضوعه ، إذ لا استصحاب فيما ليس له حالة سابقة ليكون حجّة ،

__________________

(١) الوسائل ٥ : ٣٢١ الباب ١٠ من أبواب الخلل الواقع في الصلاة ، ح ٣.

٣٤٥

ومرجعه إلى عدم جريان الاستصحاب مع انتفاء اليقين السابق بل هو في نحوه يقتضي العدم ، لأنّ الأصل فيما شكّ في حدوثه عدم الحدوث ، كما ظهر أيضا أنّ دليله على عدم الحجّيّة في الامور الوجوديّة المنقسمة إلى الأقسام الثلاث المذكورة ـ بناء على استناده في إثبات الاستصحاب إلى الأخبار ـ مركّب من جزئين :

أحدهما : دعوى عدم دخول الاستصحاب الوجودي في عموم تلك الأخبار كما في القسم الأوّل والثالث.

وثانيهما : انتفاء الحالة السابقة المعتبرة في جريان الاستصحاب كما في القسم الثاني.

وطريق الجواب حينئذ : أنّه لا كلام في القسم الثاني من الامور الوجوديّة ، إذ لم يقل أحد بالاستصحاب وحجّيّته فيما ليس له حالة سابقة.

وأمّا القسم الأوّل فقد مرّ الإشارة إلى ضعف القول بعدم شمول قوله : « لا ينقض اليقين بالشكّ » لما كان الشكّ فيه من جهة المقتضي في خاتمة الاستدلال بالأخبار ، وسنتكلّم فيه أيضا على وجه التفصيل عند الكلام على المذاهب الثلاث المتشاركة في منع حجّيّة الاستصحاب في الشكّ في المقتضي وعند دفع مقالتهم هذه.

وأمّا القسم الثالث فصحّة دعوى عدم اندراج الشكّ المسبّبي في عموم : « لا ينقض اليقين بالشكّ » (١) بعد اندراج الشكّ السببي فيه مبنيّة على القول بورود الاستصحاب الموضوعي على الاستصحاب الحكمي ، استنادا إلى قاعدة عدم اجتماع الشكّ المسبّبي مع الشكّ السببي في الاندراج تحت عموم : « لا ينقض اليقين بالشكّ » (٢) فعلى القول به ـ كما هو الأظهر على ما ستعرفه في مباحث تعارض الاستصحابين وغيرها ـ كان منع عموم الأخبار للاستصحاب الوجودي في نحو هذا القسم متّجها ، لكونه مع ما أشرنا إليه من وجه ورود الاستصحاب الموضوعي من واد واحد وإن كانا يتفارقان في اتّحاد مقتضى اليقين واختلافهما ، هذا.

ولكنّ الإنصاف : أنّ منع عموم « لا ينقض اليقين بالشكّ » (٣) في مسألة المتطهّر الشاكّ في الحدث ونظائرها لاستصحاب الطهارة وعمومه لاستصحاب عدم الحدث مع كون الحاضر في الأذهان من أفراد اليقين والشكّ إنّما هو اليقين والشكّ في الطهارة لا اليقين

__________________

( ١ ، ٢ ) الوسائل ٥ : ٣٢١ الباب ١٠ من أبواب الخلل الواقع في الصلاة ، ح ٣.

(٣) نفس الهامش السابق.

٣٤٦

والشكّ في عدم الحدث ـ مضافا إلى ما يظهر بالتأمّل من كون مورد الأخبار الاستصحابيّة إنّما هو الاستصحابات الوجوديّة ـ خروج عن الإنصاف ، بل الظاهر من اليقين المنهيّ عن نقضه بالشكّ إنّما هو اليقين بوجود الحكم ، وهذا المعنى لو لم ندّع ظهوره في جميع أخبار الباب فلا أقلّ من كونه ظاهر بعضها ، وبه الكفاية في مؤنة إثبات حجّيّة الاستصحاب الوجودي ، وعليه فيتوجّه المنع إلى صحّة دعوى عدم الاندراج.

فطريق الجواب عن الدليل المذكور في هذا القسم والقسم الأوّل واحد ، وحينئذ فلا بدّ إمّا من إنكار قاعدة عدم اجتماع الشكّ المسبّبي مع الشكّ السببي في الاندراج تحت العموم رأسا ، أو تخصيصها بما لو كان متعلّق الشكّ المسبّبي ومتعلّق الشكّ السببي أمرين وجوديّين ، محافظة على قاعدة الورود فيما لو اختلف مقتضى اليقينين.

ثمّ إنّ هذا القول بعد التوجيه المذكور وإبداء الفرق بينه وبين المذاهب الثلاث المتقدّمة ربّما يظهر اختياره من الفاضل النراقي في مناهجه ، إلاّ أنّه عبّر عنه بحجّيّة استصحاب حال العقل دون استصحاب حال الشرع ، مريدا بحال العقل مطلق الأمر العدمي وبحال الشرع خصوص الحكم الشرعي الوجودي ، حيث أشار إلى اختياره في ذيل الفائدة الاولى من الفوائد الّتي ذكرها في خاتمة مسألة الاستصحاب ، فقال : « وقد تلخّص أنّ الأحكام الثابتة إنّما يحكم ببقائها بالاستصحاب إذا شكّ في المزيل لا في غيره ، وأنّ الحجّة من الاستصحاب ما كان الشكّ المعتبر فيه من هذا القبيل ، ولكن لا استصحاب حال الشرع بل استصحاب حال العقل.

ومن هذا يظهر الفرق بين ما قلنا وبين قول من خصّ حجّيّة الاستصحاب بما إذا كان الشكّ في المزيل ، فإنّ الظاهر أنّه يريد استصحاب حال الشرع ، ولو أراد ما قلنا كما هو المحتمل فنعم الوفاق » انتهى ملخّصا.

واحتجّ لعدم حجّيّة استصحاب حال الشرع فيما قبل ذلك بتعارضه مع استصحاب حال العقل غير ما هو الحجّة منه ، وأوضحه فيما قبل ذلك أيضا في مسألة تعارض الاستصحابين المحكوم عليهما بعدم إمكان العمل بشيء منهما فيتساقطان ، بأنّه : « إذا قال الشارع في ليلة الجمعة مثلا : صم ، وقلنا : بأنّ الأمر للفور وكنّا متوقّفين في إفادته المرّة أو التكرار ، فنقطع بوجوب صوم يوم الجمعة ونشكّ في السبت ، وفيه يتعارض الاستصحابان لأنّا كنّا يوم الخميس متيقّنين بعدم وقوع التكليف بصوم يوم الجمعة ولا السبت ، وبعد ورود

٣٤٧

الأمر قطعنا بتكليف صوم يوم الجمعة وشككنا في السبت ، وهذا الشكّ مستمرّ من حين ورود الأمر وإلى يوم السبت ، ولا ينقض اليقين بالشكّ فيستصحب عدم تكليف يوم السبت بالصوم ، وكذا نقطع يوم الجمعة بالصوم ونشكّ في السبت فيستصحب التكليف ـ أعني وجوب الصوم ـ فيحصل التعارض.

فإن قلت : عدم التكليف المعلوم قبل الأمر إنّما يستصحب لو لا الدليل على التكليف ، واستصحاب الوجوب المتيقّن في الجمعة دليل شرعي فيرتفع عدم التكليف وينقض اليقين باليقين.

قلنا : مثله يجري في الطرف الآخر ، فيقال : وجوب صوم الجمعة إنّما يستصحب لو لا الدليل على عدمه ، واستصحاب عدمه المتيقّن قبل ورود الأمر دليل شرعي ، فيرتفع الوجوب.

لا يقال : إنّ العلم بالعدم قد انقطع وحصل الفصل فكيف يستصحب.

لأنّا نقول : إنّه لم يحصل فصل أصلا بل كنّا قاطعين بعدم إيجاب يوم السبت يوم الخميس ، وشككنا فيه بعد الأمر ولم نقطع بوجوب صومه أصلا فيجب استصحابه » انتهى.

وملخّص السؤال الّذي أشار إليه ثانيا بقوله : « لا يقال » أنّ اليقين السابق بعدم وجوب الصوم قد انتقض باليقين اللاحق بوجوبه ، وأنّ العدم المتيقّن سابقا قد انقطع وارتفع بالوجود المتيقّن لاحقا ، فلا شكّ في ارتفاع الحالة السابقة العدميّة ليصحّ استصحابها.

ومحصّل ما ذكره في الجواب : أنّ اليقين السابق بالعدم قد انتقض بقدر اليقين اللاحق بالوجود ، وأنّ المتيقّن بهذا اليقين قد انقطع على حسب مقدار الوجود المتيقّن لا ما زاد عليه ، وهو يوم السبت المشكوك في وجوب صومه ، فاليقين بالعدم بالنسبة إلى هذا الزمان غير منتقض بيقين ، ولا أنّ العدم بالقياس إليه منقطع بوجود وإلاّ لم يكن هناك شكّ.

وذكر أيضا بعد ذلك في أوائل الفائدة الاولى المشار إليها زيادة بيان لتعارض الاستصحابين بقوله : « إنّه إذا علم أنّ الشارع أمرنا بالجلوس يوم الجمعة ، وعلم أنّه واجب إلى الزوال ولم يعلم وجوبه فيما بعده ، فنقول : كان عدم التكليف بالجلوس قبل يوم الجمعة وفيه إلى الزوال وبعده معلوما قبل ورود أمر الشارع ، وعلم بقاء ذلك العدم قبل يوم الجمعة وعلم ارتفاعه والتكليف بالجلوس فيه قبل الزوال وصار بعده موضع الشكّ ، فهناك شكّ ويقينان ، وليس إبقاء حكم أحد اليقينين أولى من إبقاء حكم الآخر.

فإن قلت : يحكم ببقاء اليقين المتّصل بالشكّ وهو اليقين بالجلوس.

قلنا : إنّ الشكّ في تكليف ما بعد الزوال حاصل قبل مجيء يوم الجمعة وقت ملاحظة

٣٤٨

أمر الشارع ، فشكّ في يوم الخميس مثلا حال ورود الأمر في أنّ الجلوس غدا هل هو مكلّف به بعد الزوال أيضا أم لا؟ واليقين المتّصل به هو عدم التكليف فيستصحب ويستمرّ ذلك إلى وقت الزوال » انتهى.

ثمّ تعدّى عن الشكّ في المقتضي كما هو الحال في مثالي الصوم والجلوس إلى الشكّ في المزيل للشكّ في رافعيّة الموجود أو في وجود الرافع ، وأجرى تعارض الاستصحاب الوجودي والاستصحاب العدمي في جميع فروضه وموارده ، وذكر من أمثلته وجوب الصوم إذا عرض مرض يشكّ معه في بقاء وجوب الصوم ، والطهارة إذا حصل الشكّ فيها لأجل المذي ، وطهارة الثوب المتنجّس بالبول إذا غسل بالماء مرّة ، فحكم في الأوّل بتعارض وجوب الصوم قبل عروض الحمى واستصحاب عدم وجوبه الأصلي قبل عروض الوجوب ، وفي الثاني بتعارض استصحاب الطهارة قبل المذي واستصحاب عدم جعل الشارع الوضوء سببا للطهارة بعد المذي ، وفي الثالث بتعارض استصحاب النجاسة قبل الغسل واستصحاب عدم كون ملاقاة البول سببا للنجاسة بعد الغسل مرّة ، فيتساقط الاستصحابان في نحو هذه الصور.

ثمّ دفع توهّم أنّه يلزم على هذا انتفاء الحكم الثابت أوّلا بمجرّد الشكّ ، فلا يبقى للعمل بالاستصحاب مورد حتّى فيما كان الشكّ من جهة المزيل ، بأنّه : « ليس كذلك بل يحكم ببقاء الحكم لكن لا لأجل استصحاب حال الشرع وهو استصحاب الحكم الوجودي ، بل لأجل استصحاب آخر من حال العقل وهو استصحاب عدم تحقّق المزيل فيما كان الشكّ في البقاء مسبّبا عن الشكّ في تحقّقه ، واستصحاب عدم جعل الشارع إيّاه مزيلا فيما كان الشكّ مسبّبا عن الشكّ في كونه مزيلا » انتهى ملخّصا.

ثمّ قال ـ في آخر هذه الفائدة ـ : « هذا في الامور الشرعيّة وأمّا الخارجيّة كاليوم والليل والحياة والرطوبة والجفاف وأمثالها ممّا لا دخل لجعل الشارع في وجودها ، فاستصحاب الوجود فيها حجّة بلا معارض ، لعدم تحقّق استصحاب حال عقل معارض لوجودها في مقام الشكّ » إنتهى.

وأوّل ما يرد عليه : منع تعارض الاستصحابين في مثالي الجلوس والصوم وغيرهما من أمثلة الشكّ في المقتضي ، ليكون ذلك منشأ لشبهة عدم حجّيّة الاستصحاب رأسا في صور هذا القسم ، وذلك لأنّ الزمان الأوّل أو اليوم الأوّل في المثالين ونظائرهما إمّا أن يكون في

٣٤٩

لحاظ الآمر قيد للواجب ـ فيكون الواجب هو الجلوس المقيّد بما قبل الزوال ، والصوم المقيّد بيوم الخميس ، والمشكوك في وجوبه هو الجلوس المقيّد بما بعد الزوال ، والصوم المقيّد بيوم الجمعة ـ أو ظرفا للوجوب على معنى ثبوت الوجوب في ظرف هذا المقدار من الزمان مع الشكّ في ثبوته فيما بعده ، ومرجعه إلى الشكّ في مقدار امتداد الوجوب مع اتّحاد متعلّقه.

فإن كان الأوّل فليس هناك استصحاب وجودي ليعارضه الاستصحاب العدمي الجاري بالنسبة إلى الزمان الثاني ، واليوم الثاني للقطع بارتفاع وجوب أحد المقيّدين والشكّ في حدوث الوجوب للمقيّد الآخر ، ولا يعقل في نحوه استصحاب الوجوب فيكون استصحاب العدم بالنسبة إلى المقيّد الأوّل سليما.

وإن كان الثاني فليس هناك استصحاب عدمي ليعارض الاستصحاب المقتضي لبقاء الوجوب بالقياس إلى الزمان الثاني ، واليوم الثاني ، فإنّ معنى قوله عليه‌السلام : « لا ينقض اليقين بالشكّ » (١) ـ على ما بيّناه سابقا ـ هو المنع عن رفع اليد عن حكم اليقين بسبب الاعتناء بالشكّ ، ومرجعه إلى عدم الاعتناء بالشكّ وفرضه كأن لم يكن ، والشكّ الموجود في المثالين إنّما هو الشكّ في بقاء الوجوب وارتفاعه ، وهذا الشكّ لكون متعلّقة البقاء والارتفاع إنّما يرتبط باليقين اللاحق بالوجوب فوجب عملا بقوله : « لا ينقض اليقين بالشكّ » (٢) عدم رفع اليد عن هذا اليقين بسبب الاعتناء بذلك الشكّ ، ومعناه فرض وجوده بمنزلة عدمه وهذا هو الاستصحاب الوجودي ، ولا يبقى بعده شكّ آخر [ حتّى ](٣) يرفع اليد بسبب الاعتناء به عن حكم اليقين بعدم الوجوب المتحقّق به استصحاب عدمي معارض للاستصحاب الوجودي المفروض.

وبالجملة تحقّق استصحابين متعارضين مبنيّ على يقينين وشكّين ، فلا بدّ فيه مع تعدّد اليقين من تعدّد الشكّ ، والمفروض في المقام تعدّد اليقين ووحدة الشكّ ، وهذا الشكّ الواحد بملاحظة متعلّقه مرتبط باليقين بالوجوب ، فلا يلزم من العمل باستصحاب الوجوب نقض اليقين بعدم الوجوب بالشكّ لعدم شكّ آخر ينقض به هذا اليقين.

وإن شئت قلت : إنّ اليقين بالعدم إنّما نقض بيقين شرعي ـ بناء على أنّ اليقين الناقض

__________________

( ١ ، ٢ ) الوسائل ٥ : ٣٢١ الباب ١٠ من أبواب الخلل الواقع في الصلاة ، ح ٣.

(٣) وفي الأصل : « لا » بدل ما أضفناه في المعقوفيتن ، ومعه لا يستقيم العبارة ولذا صحّحناه بما في المتن.

٣٥٠

أعمّ من اليقين العقلي واليقين الشرعي ـ واليقين بالعدم الأزلي بالنسبة إلى الزمان الأوّل نقض باليقين العقلي ، وبالنسبة إلى الزمان الثاني وهو زمان الشكّ نقض بالاستصحاب ، وهو يقين شرعي لا بالشكّ ليكون ممّا نفاه قوله : « لا ينقض اليقين بالشكّ ».

لا يقال : إنّ انعكاس الفرض أيضا ممكن وهو أن يقال : إنّ استصحاب عدم الوجوب بالنسبة إلى زمان الشكّ يقين شرعي ، فترك العمل بمقتضى اليقين بالوجوب نقض له بذلك الاستصحاب الّذي هو يقين شرعي لا بالشكّ ، ودعوى عدم ارتباط الشكّ المفروض باليقين بعدم الوجوب لمكان تعلّقه ببقاء الوجوب وارتفاعه. يدفعها : أنّ هذا الشكّ هو الّذي حدث من حين ورود الخطاب والأمر من الشارع بالجلوس والصوم ، لأنّه أوجب الشكّ في انتقاض العدم الأزلي بالقياس إلى جلوس ما بعد الزوال وصوم يوم الجمعة وعدمه ، فيكون مرتبطا باليقين بالعدم ومن الواجب عملا بقوله : « لا ينقض اليقين بالشكّ » (١) عدم رفع اليد عن هذا اليقين بسبب الاعتناء بالشكّ المفروض ، وليس هنا شكّ آخر لئلاّ يرفع اليد بسبب الاعتناء به عن اليقين بالوجوب ، ومرجعه إلى أنّ رفع اليد عن هذا اليقين نقض لليقين باليقين الشرعي وهو الاستصحاب العدمي لا بالشكّ.

لأنّا نقول : ـ مع أنّ اللازم من ذلك كون المقام من تبادل الاستصحابين لا من تعارضهما ، فليس هناك إلاّ استصحاب واحد وهو على حدّ الانفصال الحقيقي إمّا استصحاب حال الشرع أو استصحاب حال العقل ، ويختلف بفرض الفارض واعتبار المعتبر ـ إنّ المتبادر إلى الذهن المنساق إلى الفهم في نحو المقام بعد ملاحظة قوله : « لا ينقض اليقين بالشكّ » (٢) إنّما هو اليقين والشكّ من حيث تعلّقهما بالوجود حدوثا وبقاء.

فالّذي يجري في المورد بحسب متفاهم العرف إنّما هو الاستصحاب الوجودي ، وهو لكونه مثبتا للتكليف بالقياس إلى الاستصحاب العدمي النافي له بمنزلة الدليل المثبت للتكليف الوارد على الأصل النافي له ، فيكون واردا عليه رافعا لموضوعه الّذي هو الشكّ في انتقاض العدم بالنسبة إلى الزمان الثاني واليوم الثاني.

والسرّ فيه : أنّ الوجود ناقض للعدم فالعدم لا يعارض الوجود ، وكما أنّ الوجود الواقعي ناقض للعدم الواقعي فكذلك الوجود الشرعي الاستصحابي ناقض للعدم الشرعي الاستصحابي. لذا ذكرنا أنّ رفع اليد عن اليقين بالعدم بعد إعمال الاستصحاب الوجودي

__________________

(١ و ٢) تقدم آنفا.

٣٥١

نقض له بذلك الاستصحاب الّذي هو علم شرعي لا بالشكّ.

فملخّص ما ذكرناه في دفع شبهة التعارض : أنّ الزمان إن اخذ ظرفا للوجوب وغيره من الامور الوجوديّة المتيقّنة في وقت فلا يجري هنا إلاّ استصحاب وجوده ، لأنّ العدم قد انتقض بالوجود المطلق وقد حكم عليه بالاستمرار عملا بأدلّة الاستصحاب ، وإن اخذ قيدا له فلا يجري إلاّ استصحاب العدم ، لأنّ انتقاض عدم الوجود المقيّد لا يستلزم انتقاض المطلق والأصل عدم الانتقاض ، كما إذا ثبت وجوب صوم يوم الخميس بقوله : « صم يوم الخميس » وشكّ في يوم الجمعة.

وثاني ما يرد عليه : أنّ تعارض الاستصحابين حسبما زعمه إن صحّحناه إنّما يتأتّى فيما لم يعلم استعداده للبقاء والاستمرار ، أو لم يعلم مقدار استعداده لهما ، فلا يتأتّي فيما كان الشكّ باعتبار المزيل ، لعدم جريان الاستصحاب العدمي المفروض معارضا للاستصحاب الوجودي فيه ، فإنّ صوم اليوم بمفهومه يقتضي استمرار وجوبه إلى الليل إلاّ أن يتحقّق في الأثناء ما جعله الشارع رافعا له ، والوضوء بذاته باعتبار إطلاق سببيّته للطهارة يقتضي استمرار الطهارة إلى أن تحقّق ما جعله الشارع رافعا لها ، وملاقاة البول لذاتها باعتبار تماميّة تأثيره في تنجّس الملاقي يقتضي استمرار النجاسة إلى أن يتحقّق ما جعله الشارع رافعا لها. فالعدم الأزلي بالنسبة إلى جميع أزمنة عدم تحقّق الرافع بالنظر إلى جعل الشارع في جميع هذه الأمثلة ونظائرها قد انتقض يقينا بلا شكّ في انتقاضه ، المستلزم لاستمرار الوجود إلى ما شاء الله ، بل إلى الأبد لو فرض عدم تحقّق ما جعل رافعا على هذا الوجه. والشكّ في البقاء حيثما طرأ إنّما يطرأ بسبب الشكّ في الرافع إمّا تحقّقا للمجعول أو جعلا للمتحقّق ، لا لقصور الحكم عن استعداد البقاء والاستمرار من قبل الشارع لو لا ما جعله الشارع رافعا. فلا يتصوّر حينئذ استصحاب حال عقل راجع إلى جعل الشارع بالنسبة إليه حتّى في مثال الوضوء المجعول سببا مطلقا للطهارة المطلقة المستمرّة إلى آن تحقّق شيء من النواقض ، إذ ليس الكلام في الوضوء العذري الّذي يقال له : الوضوء الناقص ـ كالحاصل في مورد التقيّة المسوّغة فيه غسل الرجلين أو المسح على الخفّين أو غيرها من الضرورة المسوّغة للمسح على الخفّين ، ونحوه وضوء المسلوس والمبطون والمستحاضة الحاصل حال استمرار وجود الحدث ، ليقبل الشكّ في مقدار استعداد أثره الّذي هو إباحة الدخول في الصلاة للبقاء ، لينشأ منه الشكّ في جواز الدخول به في الصلاة بعد زوال العذر أيضا كما

٣٥٢

أيضا كما جاز حال العذر أو لا؟ ومنشؤه أنّه لا يدرى أنّ كونه مبيحا للصلاة بحسب جعل الشارع هل هو ما دام العذر أو ما لم يحدث شيء من الأحداث الناقضة له؟ ـ بل الكلام إنّما هو في الوضوء الاختياري وهو المؤثّر في الطهارة ورفع الحدث لا مجرّد الاستباحة وهو لا يقبل التقييد بما دام العذر حيث لا عذر ، بل هو مغيّا بغاية طروّ ما جعل رافعا للطهارة ، فنحن نقطع تأثير الوضوء في حدوث أمر مستمرّ إلى الأبد لو لا ما جعل رافعا له ، ومعه لا معنى لاستصحاب عدم جعله سببا للطهارة بعد المذي ، لو لا المذي في الواقع ممّا جعل رافعا له ، بل لو كان رافعا له في الواقع لا معنى لذلك الاستصحاب أيضا ، لوضوح الفرق بين استناد ارتفاع الشيء إلى طروّ رافع له وبين استناده إلى عدم استعداده للبقاء لقصور مؤثّره في تأثيره بحسب جعل الشارع ، وما نحن فيه من قبيل الأوّل واستصحاب عدم الجعل من قبيل الثاني ، فلا يجري فيه إلاّ استصحاب الوجود الّذي عبّر عنه باستصحاب حال الشرع ، ويعضده استصحاب حال العقل الآخر وهو استصحاب عدم تحقّق ما جعله الشارع رافعا ، أو استصحاب [ عدم ] كون المتحقّق بحيث جعله الشارع رافعا ، فليتدبّر فإنّ المقام دقيق والطريق خفيّ.

ومن التفاصيل ما حكاه المحقّق الخوانساري في شرح الدروس (١) واستظهره بعض الأعلام (٢) من المحقّق السبزواري (٣) من الفرق بين الامور الخارجيّة مثل حياة زيد ورطوبة ثوبه ويبوسة بدنه والأحكام الشرعيّة بالحجّية فيها دون الامور الخارجيّة ، تمسّكا بعدم ظهور شمول الأخبار لها ، لبعد أن يكون مراد المعصوم الّذي وظيفته بيان الأحكام الشرعيّة بيان الحكم لهذه الامور. وربّما يحتمل في مراد هذا القائل من عدم حجّيّة الاستصحاب في الامور الخارجيّة وجهان :

أحدهما : ما كان المستصحب من الامور الخارجيّة وإن كان منشأ لحكم شرعي ، كالرطوبة الّتي هي منشأ لنجاسة الملاقي للنجس ، فيراد بالأحكام الشرعيّة الّتي يجوز استصحابها ما كان المستصحب حكما شرعيّا جزئيّا ، كما لو كانت الشبهة في بقائه وارتفاعه موضوعيّة ناشئة عن اشتباه الأمر الخارجي أو كلّيا كما لو كانت الشبهة حكميّة.

وثانيهما : ما كان منشأ الشكّ فيه من الامور الخارجيّة وإن كان المستصحب حكما شرعيّا ، فيراد بالأحكام الشرعيّة حينئذ ما لم يكن منشأ الشكّ في بقائه أمرا خارجيّا ،

__________________

(١) مشارق الشموس : ٧٦.

(٢) القوانين ٢ : ٦٣.

(٣) راجع ذخيرة المعاد : ١١٥ ـ ١١٦.

٣٥٣

ومرجعه إلى الفرق في استصحاب الحكم الشرعي بين الحكم الجزئي والحكم الكلّي ، وبعبارة اخرى : بين الشبهة الموضوعيّة والشبهة الحكميّة.

وهذا الوجه على عكس ما ستعرفه من تفصيل الأخباريّين وهو في وضوح من الفساد ، لقضائه بأن لا يبقى للاستصحاب مورد إلاّ قليلا ، ضرورة أنّ أغلب الموارد الاستصحابيّة الأحكام الجزئيّة الّتي طرأها الشكّ باعتبار اشتباه حال الموضوع الصرف بقاءا أو ارتفاعا ، مع أنّه يؤدّى في أكثر الأخبار المتقدّمة إلى محذور تخصيص العامّ بالمورد ، لكون النوم في حديث الخفقة والخفقتان من الامور الخارجيّة ، وكذلك إصابة الدم في حديث دم الرعاف للثوب ، وملاقاة الذمّي للثوب بالرطوبة أو تنجيسه إيّاه بالخمر ، ونحوه في حديث إعارة الثوب للذمّي ، والظاهر أنّ هذا ليس بمراد القائل وإنّما ذكرناه إحتمالا ، وإن كان الوجه الأوّل أيضا قريبا منه في الفساد.

أمّا أوّلا : فلأنّ عدم كون بيان الموضوع من وظيفة المعصوم معناه أنّه لا يجب عليه بيانه بحيث يلزم من ترك بيانه قبح عليه ، لا أنّه لا يجوز له بيانه بحيث يلزم من بيانه قبح عليه ، فإذا صدر منه لفظ عامّ للموضوعات والأحكام ـ كما فيما نحن فيه ، لكون قوله عليه‌السلام : « لا ينقض اليقين بالشكّ » (١) بمعنى عدم نقض شيء من أفراد اليقين بشيء من أفراد الشكّ عامّا ـ فقضيّة عدم كون بيان الموضوعات من وظيفته بالمعنى المذكور لا تصرفه عن الموضوعات ولا تخصّصه بالأحكام.

وأمّا ثانيا : فلأنّ ما ليس بيانه من الموضوعات وظيفة المعصوم إنّما هو الموضوعات الّتي لا مدخليّة لها في الأحكام الشرعيّة ولا يترتّب عليها شيء من الأحكام ، أو لا يبتلى بها المكلّف الناظر في الاستصحاب ، بخلاف الموضوعات الّتي يترتّب عليها الأحكام ويبتلى بها المكلّف على وجه يتوقّف معرفة الأحكام المترتّبة عليها على معرفتها ، ولذا ترى أنّ المعصوم في صحيحة زرارة بيّن حقيقة النوم بقوله : « قد تنام العين ولا ينام القلب والاذن » (٢) إلى آخره مع أنّه من الموضوع ، لكونه ممّا يترتّب عليه وجوب الوضوء ، والمفروض كون اشتباه السائل في وجوب الوضوء ومنشأ سؤاله اشتباه حقيقة النوم عليه ، فإنّ بيان نحو هذا الموضوع قد يجب على المعصوم بحيث يلزم من تركه قبح عليه ، وليس

__________________

(١) الوسائل ٥ : ٣٢١ الباب ١٠ من أبواب الخلل الواقع في الصلاة ، ح ٣.

(٢) الوسائل ١ : ١٧٤ ـ ١٧٥ الباب ١ من أبواب نواقض الوضوء ، ح ١.

٣٥٤

مراد القائل بحجّية الاستصحاب في الامور الخارجيّة دعوى حجّيته في الموضوعات الّتي لا يترتّب عليها حكم شرعي أصلا أو لا يبتلى بها المكلّف الناظر في الاستصحاب ، بل الموضوعات الّتي ينشأ منها الأحكام الشرعيّة المتعلّقة بالمكلّف ، كرطوبة ثوبه الّتي يترتّب عليها النجاسة بملاقاة النجس ، وكرّيّة الماء الّتي يترتّب عليها عدم انفعاله بملاقاة النجاسة ، وحياة الغائب الّتي يترتّب عليها حرمة تزويج امرأته وحرمة التصرّف في أمواله وما أشبه ذلك.

وأمّا ثالثا : فلأنّ الموضوع الخارجي كما أنّ بيانه ليس من وظيفة المعصوم فكذلك الحكم الجزئي للموضوع الخارجي أيضا ليس بيانه من وظيفته ، فكما أنّ رطوبة الثوب أو يبوسته من حيث إنّه موضوع خارجي بيانها ليس من وظيفته ، فكذلك نجاسته الحاصلة بالملاقاة لأجل الرطوبة وطهارتها الباقية لأجل اليبوسة من حيث إنّها حكم جزئي ليس بيانها من وظيفته ، بل وظيفته بيان حكم كلّي لموضوع كلّي ، كأن يقول : كلّ طاهر ملاق للنجس نجس مثلا.

وقضيّة ذلك أن يبعد كون مرادهم بقولهم : « لا تنقض اليقين بالشكّ » (١) بيان للحكم لمثل هذه الأحكام الجزئيّة أيضا.

وأمّا رابعا : فلأنّ الخارج عن وظيفته إنّما هو بيان الأحكام الجزئيّة للموضوعات الصرفة الخارجيّة المأخوذة بوصف الجزئيّة ، وأمّا الحكم الكلّي المجعول لها باعتبار وصف الاشتباه العارض لها فبيانه ليس إلاّ وظيفة الشارع ، فلو اشتبه مايع بين كونه طاهرا كالخلّ أو نجسا كالخمر مثلا فبيان أنّه خلّ أو خمر ليس من وظيفته ، ولكن بيان أنّ الحكم الكلّي فيه من حيث الاشتباه هو الطهارة ليس إلاّ من وظيفته. فلذا ورد في الخبر المستفيض : « أنّ كلّ شيء نظيف حتّى يعلم أنّه قذر (٢) ». ولو اشتبه ماء قليل بين ملاقاة النجاسة المنجّسة له وعدمها فبيان الملاقاة أو عدمها ليس من وظيفته ، غير أنّ بيان أنّ الحكم الكلّي له باعتبار وصف الاشتباه هو الطهارة من وظيفته. ولذا ورد في الخبر المتلقّى بالقبول : « أنّ كلّ ماء طاهر حتّى تعلم أنّه قذر (٣) ». ولو اشتبه شيء بين الحلّ والحرمة لدورانه بين الملك والسرقة أو الغصب مثلا فبيانه أنّه أيّهما ليس من وظيفته. وأمّا بيان أنّ حكمه الكلّي باعتبار الاشتباه هو الحلّ فمن وظيفته لا غير. ولذا ورد في الخبر المعمول به : « أنّ كلّ شيء لك

__________________

(١) تقدّم آنفا.

(٢) الوسائل ٢ : ١٠٥٤ ، الباب ٣٧ من أبواب النجاسات ، الحديث ٤.

(٣) الوسائل ٢ : ١٠٩٥ ، الباب ٧٤ من أبواب النجاسات ، الحديث ١.

٣٥٥

حلال حتّى تعرف أنّه حرام بعينه (١) ». وكذلك الجلد المطروح المشتبه بين المذكّى والميتة فإنّ بيان أنّه أيّهما ليس من وظيفته ، وأمّا بيان أنّ حكمه الكلّي باعتبار وصف الاشتباه فليس إلاّ من وظيفته.

وحينئذ نقول : إنّ الاستصحاب المدلول عليه بالأخبار حكم كلّي تعرّض لبيانه المعصوم للموضوعات الصرفة والأحكام الجزئيّة والأحكام الكلّية باعتبار اشتباه حالها من حيث البقاء والارتفاع ، فهو حكم كلّي بيّن لموضوع كلّي وإن طرأه الكلّية بالعرض لما اخذ فيه من وصف الاشتباه.

لا يقال : كون الاستصحاب حكما كلّيا لا معنى له إلاّ كون المستصحب في زمان الشكّ حكما ظاهريّا مجعولا كما كان في زمان اليقين حكما واقعيّا مجعولا ، فلا بدّ وأن يكون المستصحب من الامور القابلة للجعل ليكون حكما واقعيّا في زمان وظاهريّا في زمان آخر ، والامور الخارجيّة كحياة زيد الغائب وعدالته ورطوبة ثوبه وكرّيّة الماء وقلّته وما أشبه ذلك ليست قابلة للجعل ، بل هي كنفس زيد وثوبه والماء من الامور الواقعيّة الّتي لا مدخل لجعل الشارع فيها ، فكيف يقال : إنّها في زمان الشكّ أحكام ظاهريّة مجعولة؟

لأنّا نقول : إنّ مدلول قوله عليه‌السلام : « لا ينقض اليقين بالشكّ » (٢) ليس كون المستصحب بنفسه في زمان الشكّ حكما مجعولا ليعتبر فيه قابليّة الجعل ، بل مدلوله وجوب ترتيب الآثار الشرعيّة على المستصحب وإجراء اللوازم الثابتة للمتيقّن في زمان اليقين عليه في زمان الشكّ ، على معنى تنزيل القضيّة المشكوكة منزلة القضيّة المتيقّنة ليترتّب على المشكوك فيه من الآثار واللوازم الشرعيّة كلّما كان مترتّبا على المتيقّن. فاستصحاب حياة زيد معناه وجوب ترتيب الأحكام المترتّبة عليها على تقدير كونها متيقّنة من حرمة تزويج امرأته ، وحرمة التصرّف في أمواله. واستصحاب عدالة زيد معناه وجوب ترتيب أحكامها المترتّبة عليها في آن اليقين على زيد في زمان الشكّ في عدالته ، كجواز الائتمام به وقبول شهادته وصحّة الطلاق بمحضره ونحو ذلك ، فهذا هو الحكم الظاهري المجعول للمستصحب باعتبار اشتباه حاله من حيث البقاء والارتفاع. ولا يتفاوت الحال حينئذ بين كونه من الامور الخارجيّة أو من الأحكام الشرعيّة كلّية أو جزئيّة ، فإنّ لكلّ واحد بحسب الشرع آثارا يراد باستصحابه ترتيبها عليه.

__________________

(١) الوسائل ١٢ : ٦٠ ، الباب ٤ من أبواب ما يكتسب به ، الحديث ٤ ، مع تفاوت.

(٢) تقدّم آنفا.

٣٥٦

نعم يشكل الحال في أنّه إذا كان الغرض من استصحاب الامور الخارجيّة ترتيب الآثار الشرعيّة على المستصحب فيها فلم لا يستصحب نفس تلك الآثار ليستغنى به عن استصحاب الموضوعات ، فإنّ استصحاب حرمة تزويج امرأة الغائب وحرمة التصرّف في أمواله الثابتتين في حال حياته يغني عن استصحاب الحياة ، واستصحاب جواز الائتمام بزيد وقبول شهادته الثابتين له في حال اليقين بعدالته يغني عن استصحاب العدالة. بل استصحاب الموضوعات لأجل ترتيب الأحكام عليها دون استصحاب نفس الأحكام المترتّبة عليها ربّما يشبه بكونه من باب الأكل من القفاء ، كما هو واضح.

إلاّ أن يقال : إنّ استصحاب الموضوعات إنّما يجدي في ترتيب كلّ من الآثار القديمة المتيقّنة سابقا والآثار المتجدّدة الغير المتيقّنة سابقا ، فلا يستغنى عنه بالنسبة إلى الآثار المتجدّدة الّتي لا يعقل استصحابها من جهة تجدّدها وعدم كونها متيقّنة في زمان اليقين بموضوعاتها بل ربّما كان عدمها متيقّنا ، كنجاسة الثوب بالملاقاة المترتّبة على استصحاب رطوبته ، وانتقال المال إلى الغائب من قريبه المتوفّى في زمان الشكّ في حياته ، واستحقاق زيد للوقف أو التولية أو الوصيّة المعلّقة على عدالة الطبقات من الأولاد وغيرهم طبقة بعد طبقة عند انقراض الطبقة السابقة في زمان الشكّ في عدالة زيد الّذي هو من الطبقة اللاحقة ، ونحوه وجوب الفطر عن العبد أو الابن الغائبين المترتّب على حياتهما على المولى والأب المنفقين لهما ، فلو لا استصحاب الموضوعات استحال ترتيب نحو هذه الآثار المتجدّدة والأحكام الغير الثابتة للموضوع في زمان اليقين بوجوده.

ولكن يزيّفه : أنّ عدم ثبوت هذه الأحكام المتجدّدة لموضوعاتها في زمان اليقين بوجودات تلك الموضوعات تنجيزا لا ينافي ثبوتها لها على وجه التعليق ، بل القطع حاصل بانتقال مال قريب الغائب إليه على تقدير اتّفاق وفاته في زمان اليقين بحياته ، ونجاسة الثوب على تقدير حصول ملاقاته للنجس في زمان اليقين برطوبته ، وبانتقال الوقف أو التولية أو الوصيّة إلى زيد على تقدير حصول انقراض الطبقة السابقة في زمان اليقين بعدالته ، وبوجوب زكاة العبد والابن على السيّد والأب على تقدير دخول العيد في زمان اليقين بحياتهما.

وبالجملة عدم وجود الآثار المتجدّدة في زمان اليقين بالموضوع إنّما هو لوجود مانع أو فقد شرط ، بحيث لو كان المانع ثمّة مفقودا أو الشرط موجودا لكانت الآثار مترتّبة عليه

٣٥٧

البتّة فيستصحب تلك الآثار في زمان الشكّ في بقاء الحياة أو الرطوبة أو العدالة الّذي فقد فيه المانع الموجود ووجد الشرط المفقود ، ومرجعه إلى استصحاب الآثار الشأنيّة أو ترتّبها الشأني ، فليتأمّل.

نعم يمكن الذبّ عن الإشكال : بأنّ استصحاب الآثار والأحكام الشرعيّة بدون إحراز موضوعاتها غير صحيح ، بل غير معقول.

ولا ريب أنّ الحياة والرطوبة والعدالة في الأمثلة المذكورة جزء من موضوع الأثر الشرعي المترتّب عليه ، فلابدّ من إحرازه ولا يحرز إلاّ بالاستصحاب ، فاستصحاب الأثر لا يغني عن استصحاب الموضوع ، بخلاف استصحاب الموضوع فإنّه كاف في إثبات الآثار ومغن عن استصحابها ، لما عرفت من أنّ معنى استصحابه وجوب ترتيبها.

ومن التفاصيل : ما أحدثه الأخباريّون ـ كالفاضل الأستر آبادي (١) والمحدّث الشيخ الحرّ العاملي (٢) ومن يحذو حذوهم ـ من قصر الحجّية على غير الحكم الشرعي الكلّي لكن لا بالمعنى الّذي هو في طرف العكس من التفصيل السابق كما توهّمه غير واحد ، بل بمعنى نفي الحجّية عن الحكم الشرعي الكلّي الّذي شبهة بقائه في زمان الشكّ حكميّة ـ كالخيار وحقّ الشفعة والماء المتغيّر بالنجاسة بعد زوال تغيّره والمتيمّم الواجد للماء في الصلاة وما أشبه ذلك ـ وإثباتها لغيره حتّى الحكم الشرعي الجزئي الّذي شبهة بقائه موضوعيّة كما أشرنا إليه عند نقل الأقوال.

وعن المحدّث الأستر آبادي بعد التصريح بنفي اعتباره في الحكم الشرعي الكلّي استثناء استصحاب عدم النسخ مدّعيا للإجماع بل الضرورة على اعتباره ، وله كلام حكي عن فوائده المكّية (٣) ربّما يظهر من تضاعيفه حجّته على عدم الاعتبار في الحكم ، حيث إنّه بعد ما نقل أخبار الاستصحاب وأثبته بها قال : « لا يقال : هذه القاعدة تقتضي جواز العمل بالاستصحاب في أحكام الله تعالى كما ذهب إليه المفيد والعلاّمة من أصحابنا والشافعيّة قاطبة ، ويقتضي بطلان قول أكثر علمائنا والحنفيّة بعدم جواز العمل به.

لأنّا نقول : هذه شبهة عجز عن جوابها كثير من فحول الاصوليّين والفقهاء ، وقد أجبنا عنها في الفوائد المدنيّة تارة بما ملخّصه : أنّ صور الاستصحاب المختلف فيها عند النظر

__________________

(١) الفوائد المدنيّة : ١٤٣.

(٢) الفوائد الطوسيّة : ٢٠٨ ، والفصول المهمّة في اصول الأئمّة : ٢٥٠.

(٣) حكاه الفاضل التوني في الوافية : ٢١٢.

٣٥٨

الدقيق والتحقيق راجعة إلى أنّه إذا ثبت حكم بخطاب شرعي في موضوع في حال من حالاته نجريه في ذلك الموضوع عند زوال الحالة القديمة وحدوث نقيضها فيه.

ومن المعلوم أنّه إذا تبدّل قيد موضوع المسألة بنقيض ذلك القيد اختلف موضوع المسألتين ، فالّذي سمّوه استصحابا راجع في الحقيقة إلى إسراء حكم موضوع إلى موضوع آخر متّحد معه في الذات مختلف معه في الصفات.

ومن المعلوم عند الحكيم أنّ هذا المعنى غير معتبر شرعا وأنّ القاعدة الشريفة المذكورة غير شاملة له.

وتارة : بأنّ استصحاب الحكم وكذا الأصل ـ أي الحالة الّتي إذا خلّي الشيء ونفسه كان عليها ـ إنّما يعمل بهما ما لم يظهر مخرج عنهما ، وقد ظهر في محلّ النزاع لتواتر الأخبار بأنّ كلّما يحتاج إليه الامّة ورد فيه خطاب وحكم حتّى أرش الخدش ، وكثير ممّا ورد مخزون عند أهل الذكر عليهم‌السلام فعلم أنّه ورد في محلّ النزاع أحكام لا نعلمها بعينها ، وتواتر الأخبار بحصر المسائل في ثلاث : بيّن رشده ، وبيّن غيّه ـ أي مقطوع فيه ذلك لا ريب فيه ـ وما ليس هذا ولا ذاك ، وبوجوب التوقّف في الثالث (١) » انتهى.

ومحصّل هذا الكلام : أنّه استدلّ لنفي حجّيّة الاستصحاب في أحكام الله تعالى بوجهين ، مرجعهما إلى دعوى فقد المقتضي ووجود المانع.

أمّا الأوّل : فلأنّ الظاهر والمتبادر من قوله عليه‌السلام : « لا ينقض اليقين بالشكّ (٢) » اتّحاد متعلّق اليقين والشكّ ، بأن يكون القضيّة المشكوكة بعينها هي القضيّة المتيقّنة من دون اختلاف بينهما إلاّ في الزمان ، على معنى اجتماع الوحدات ـ الّتي منها وحدة الموضوع ـ إلاّ وحدة الزمان.

وهذا المعنى حاصل في مثل رطوبة الثوب أو طهارته مثلا بعد اليقين بهما ثمّ الشكّ في بقائهما ، بخلاف نحو نجاسة الماء المتغيّر بعد زوال التغيّر ، وجواز مضيّ المتيمّم في الصلاة بعد وجدان الماء ، لتعدّد موضوعي القضيّتين واختلافهما بكونه في القضيّة المتيقّنة هو الماء المتغيّر والفاقد للماء ، وفي القضيّة المشكوكة هو الماء الغير المتغيّر والواجد للماء ، فيكون النهي عن نقض اليقين بالشكّ الوارد في الأخبار شاملا للأوّل دون الثاني. وهذا هو معنى قوله : « وأنّ القاعدة الشريفة غير شاملة له ».

ويرد عليه حينئذ : أنّه إن أراد بما ذكره أنّ في استصحاب الحكم الشرعي قد يختلف

__________________

(١) الفوائد المكّيّة ( مخطوط ) : الورقة ١٠٣.

(٢) الوسائل ٥ : ٣٢١ الباب ١٠ من أبواب الخلل الواقع في الصلاة ح ٣.

٣٥٩

متعلّق اليقين والشكّ ويتعدّد موضوع القضيّتين فهو حقّ ولا سترة عليه ، كما في مسألة البقاء على تقليد الميّت فيمن قلّد المجتهد الحيّ حال حياته فمات ، نظرا إلى كون الحياة في الجملة شرطا في جواز التقليد ـ بناء على عدم جواز تقليد الميّت ابتداء ـ الثابت بالإجماع ولو منقولا ، كما أنّ غيره من البلوغ والعقل والإسلام والإيمان والاجتهاد والعدالة شروط له ، فيكون كلّ قيدا وجزءا للموضوع ، فالحكم في زمان ثبوته إنّما يثبت لهذا الموضوع ـ أعني الرجل البالغ العاقل المسلم المؤمن المجتهد العادل الحيّ ـ فإذا زال أحد هذه القيود استحال استصحاب الحكم الثابت حال وجوده لتبدّل الموضوع ، ونفي القيديّة الّذي هو انكار لكون الوصف جزءا من الموضوع عدول عن فرض كونه شرطا ، والكلام إنّما هو على هذا التقدير وإلاّ فعلى تقدير عدم شرطيّة الحياة مثلا مطلقا حتّى بالنسبة إلى ابتداء التقليد أو مع الشكّ في شرطيّتها كذلك فلا كلام.

وبالجملة اختلاف متعلّقي اليقين والشكّ وتعدّد موضوعي القضيّتين في بعض الموارد ليس بمنكر ، إلاّ أنّه لا يوجب السلب الكلّي ـ أعني نفي اعتبار الاستصحاب في الأحكام الشرعيّة مطلقا ـ.

وإن أراد اختلاف المتعلّقين وتعدّد الموضوعين في جميع الموارد فهو واضح الضعف. وظاهر المنع ، لكثرة ما اتّحد فيه المتعلّق والموضوع من موارد الأحكام الشرعيّة ، حتّى أنّ جميع صور الشكّ باعتبار الرافع وجودا أو وصفا من هذا الباب ، لعدم تبدّل حالة فيها إلى اخرى ، كالمتطهّر الشاكّ في بقاء طهارته للشكّ في وقوع الحدث أو في رافعيّة المذي ، فإنّ عدم الرافع بالقياس إلى الحكم ـ كالطهارة مثلا ـ ليس قيدا لوجوده الأوّلي بل هو قيد لوجوده الثانوي ، فهو شرط لبقائه واستمراره لا لحدوثه وإلاّ انقلب الرافع دافعا.

والفرق بينهما أنّ الرافع يمنع البقاء والدافع يمنع الحدوث ، ومن ذلك ما يقال : من أنّ الدفع أهون من الرفع ، فإذا لم يكن عدم الرافع قيدا للحكم في الزمان الأوّل لم يكن جزءا لموضوعه.

وقضيّة ذلك أن يتّحد متعلّق اليقين والشكّ ، على معنى كونه شيئا واحدا ذاتا ووصفا وإن اختلفا في تعلّق اليقين بحدوث ذلك الشيء وثبوته وتعلّق الشكّ ببقائه ، ولئن سلّمنا كون الشبهة فيما يشكّ فيه من جهة الشكّ في وجود الرافع موضوعيّة فهي فيما يشكّ فيه من جهة الشكّ في رافعيّة الموجود حكميّة جزما.

٣٦٠