تعليقة على معالم الاصول - ج ٦

السيّد علي الموسوي القزويني

تعليقة على معالم الاصول - ج ٦

المؤلف:

السيّد علي الموسوي القزويني


المحقق: السيد علي العلوي القزويني
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
المطبعة: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ١
ISBN: 964-470-559-9
الصفحات: ٤٨٦

وفيه : منع تساقط الأصلين لعدم تعارض بينهما إلاّ بحسب الصورة ، فإنّ أصالة الصحّة لا تجري إلاّ ولزمها خروج الاستصحاب الموضوعي من عموم دليل الحجّية ، كما أنّ الاستصحاب الموضوعي لا يجري إلاّ ولزمه ارتفاع موضوع أصالة الصحّة لمكان سببيّة شكّه.

وعلى التقديرين لا معنى للتساقط المبنيّ على التعارض الواقعي ، ومن ذلك ظهر ما عن المحقّق الثاني في شرح عبارة العلاّمة حيث إنّ العلاّمة في مسألة اختلاف المتبايعين بادّعاء البائع عدم البلوغ حال البيع قال : « فيه وجهان ».

وقال المحقّق في شرحه : « من أصالة حمل فعل المسلم على الصحّة ومن أصالة عدم البلوغ (١) » فإنّ الأصلين لا يجريان معا لاستلزام جريان أحدهما عدم جريان الآخر فلا يصحّ الاستناد إليهما معا ، وحيث إنّ الاستصحاب كان يقتضي فساد العمل ، فأصالة الصحّة مكانه يقتضي الصحّة ، على معنى ترتّب الآثار الشرعيّة المعلّقة على العمل الصحيح بوصف الصحّة من النقل والانتقال والملكيّة واشتغال الذمّة وبراءتها ، ولا يثبت بها ما زاد عليها من الآثار العقليّة الّتي يتوقّف عليها الصحّة وترتّب الآثار الشرعيّة كالبلوغ ونحوه ، ليجري عليه سائر الآثار المتوقّفة على البلوغ الغير المترتّبة على ذلك العمل ولا على صحّته ، كصيرورته وصيّا أو متوليّا على الوقف إذا علّق الإيصاء إليه أو توليته على بلوغه. فلو اختلف الموجر والمستأجر في صحّة عقد الإجارة وفساده فادّعى المستأجر عدم تعيين مال الإجارة وادّعى الموجر تعيينه وكونه مائة ، أو اختلف المتبايعان في كون الثمن خمرا أو خلاّ فادّعى أحدهما كونه خمرا ليفسد العقد ، فغاية ما يقتضيه أصالة الصحّة إنّما هو حصول ملكيّة المنفعة وملكيّة المثمن. وأمّا مقدار الثمن أو جنسه فيحتاج إثباته إلى طريق آخر من بيّنة ونحوها.

وقد يراد من أصالة الصحّة المقابلة للاستصحاب ما يجري في عمل المكلّف نفسه ، كما في مورد الشكّ بعد الفراغ أو في أثناء العمل بعد تجاوز محلّ المشكوك فيه ، فإنّ الأصل عدم الإتيان بالمشكوك فيه جزءا وشرطا. والقاعدة المستفادة من الأخبار العامّة والخاصّة يقتضي البناء على الصحّة ، وهي أيضا من الاصول التعبّديّة ولا إشكال في تقديمها على الاستصحاب تخصيصا لدليله بأدلّتها.

أمّا في مسألة الشكّ بعد الفراغ فمطلقا وأمّا في مسألة الشكّ بعد تجاوز المحلّ ففي الجملة ، للإجماع على أنّ الشاكّ في فعل من أفعال الوضوء قبل إتمام الوضوء يأتي به

__________________

(١) جامع المقاصد ٥ : ٣١٥ نقلا بالمعنى.

٤٦١

وإن دخل في فعل آخر ، وأمّا الغسل والتيمّم فكذلك على ما نصّ عليه جماعة. وأمّا التكلّم في تحقيق هذا الأصل وأدلّته وسائر ما يتعلّق به مثل بيان المعنى المراد من الفراغ وما بعده وتجاوز المحلّ والدخول في الغير ونحو ذلك فليس من وظيفة هذا الفنّ ولا هذا الكتاب.

المسألة الثالثة : في مقابلة الاستصحاب للقرعة ، ولا ينبغي التأمّل في كونه مقدّما عليها ، كما أنّ سائر الاصول كأصل البراءة وأصل الاشتغال وأصل التخير مقدّمة عليها.

والوجه في ذلك : أنّ دليلها كالخبر العامّي « القرعة لكلّ أمر مشتبه » كما في رواية (١) أو « لكلّ أمر مشكل » كما في اخرى (٢) أعمّ من أدلّة كلّ واحد من الاصول الأربع فيخصّص بتلك الأدلّة ، كما أنّه يخصّص بغير الفتاوى والأحكام بدليل الإجماع.

قال الشهيد في القواعد : ولا تستعمل القرعة في الفتاوى وفي الأحكام إجماعا (٣). فتختصّ القرعة بموارد لا يجري فيها الاستصحاب وغيره من الاصول المذكورة ، وضابطها الشبهات الموضوعيّة الخارجيّة الّتي لم يكن لها طريق شرعي يوجب الخروج عن الشبهة فيها سوى القرعة ، سواء كان المشتبه معيّنا في الواقع مجهولا في الظاهر ، أو غير معيّن في الظاهر والواقع ، كما لو اشتبه اخته بأجنبيّة فهو ما دام حيّا لا ينكحهما معا من باب الشبهة المحصورة ، وإذا مات فتعيين الوارث منهما يحتاج إلى قرعة ، وكما لو انهدمت الدار على رجل وجاريته وزوجته وكان لهما ابنان فمات الرجل والامّان وبقي الولدان فتشخيص السيّد منهما والوارث للرجل يحتاج إلى قرعة ، وإذا اختلف الولدان في الذكورة والانوثة فلا يتناكحان لقاعدة الشبهة المحصورة ولكن لتشخيص المولى منهما لا بدّ من القرعة بينهما ، والشاة الموطوءة للإنسان المشتبهة في قطيع غنم فإنّه لا بدّ لذبحها وإحراقها من تشخيصها بالقرعة ولا ينفعها قاعدة الشبهة المحصورة ، وكالشاة المغصوبة المشتبهة بشياة مملوكة فقاعدة الشبهة المحصورة وإن كانت تقضي بوجوب الاجتناب عن الجميع بالنظر إلى عمل نفسه ولكنّها لا تنفع في تشخيص المغصوبة ليدفعها إلى مالكها إلاّ القرعة ، وكما في اختلاط الموتى في الجهاد ، والعبدين المأذونين في شراء كلّ منهما صاحبه إذا اختلفا بعد الشراء أو مات أحدهما ، أو تعارض البيّنتين للخارجين ، والوصيّة بما لا يسعه الثلث مع العلم بالسبق دون السابق ، واشتباه المطلّقة والمنذورة وطؤها إذا مات الزوج ، والمتداعيين في بنوّة لقيط ، والمولود إذا لم يكن له ما للرجال ولا ما للنساء ، إلى غير ذلك من أمثلة

__________________

(١) لم نظفر عليه.

(٢) عوالي اللآلئ ٢ : ٢٨٥ ، ح ٢٥.

(٣) القواعد والفوائد ٢ : ٢٣.

٤٦٢

ما كان المشتبه معيّنا في الواقع.

ومثل مشاحّة الإمامين إذا لم يكن لأحدهما مرجّح موجب لاستحقاقه في الواقع ، وقصور المال عن الحجّتين الموصى بهما ، والمتزاحمين في مباح أو مشترك أو عند مدرّس أو حاكم ، وثلث العبيد الموصى بعتقه والموصى لهما إذا قصر الثلث عن أحدهما ، وتعدّد السيف والمصحف وما أشبه ذلك ممّا اشتبه ظاهرا وواقعا.

فما يوجد في كلام بعض الأصحاب كثاني الشهيدين وغيره من حصر المشتبه والمشكل بما تعيّن واقعا واشتبه ظاهرا ومنع جريان القرعة في المشتبهين واقعا وظاهرا ، فلم يعرف له وجه واضح متلقّى بالقبول.

وهذا البيان في وجه تقديم الاستصحاب على القرعة في غاية المتانة لو لا شبهة لزوم تخصيص الأكثر ، باعتبار كون خارج دليل القرعة أكثر بمراتب شتّى من داخله ، بل الأوّل غير محصور والثاني مقصور على أمثلة مخصوصة.

ويحتمل توجيهه بكونه من باب التخصّص والخروج الموضوعي ، بتقريب أن يقال : إنّ موضوع القرعة إنّما هو الأمر المشكل أو الأمر المشتبه على اختلاف الروايتين ، ولا إشكال ولا اشتباه فيما يجري فيه الاستصحاب وغيره من الاصول ، كما في الشاة الموطوءة في قطيع غنم ، والاخت المشتبهة بالأجنبيّة فلا إشكال فيهما من حيث وجوب الاجتناب عنهما معا لأصل الشغل ، ولكنّ الإشكال في تشخيص عين الحرام ليلزم على قيمته مثلا على قاعدة الضمان ، وتشخيص محلّ التوارث وارثا أو مورّثا.

فضابط الأمر المشكل ما ليس له طريق شرعي يرفع الاشتباه ، وقد يجتمع في شيء واحد حيثيّتان يجري في إحداهما شيء من الاصول فلا إشكال فيه من هذه الحيثيّة ، ولا يجري في الاخرى شيء من الاصول فهو من هذه الحيثيّة من الأمر المشكل.

وهذا الوجه ربّما يظهر اختياره من بعض الأعلام بناء على ما ذكره في الشبهة المحصورة عند دفع مقالة من يقول فيها بإعمال القرعة.

وهاهنا وجه في توجيه تقديم الاستصحاب على القرعة ، مبناه على ما قيل من أنّ أدلّة القرعة لا يعمل بعمومها إلاّ مع جبره بعمل الأصحاب أو بعمل جماعة ممّن يعتنى بشأنهم كالشيخين والفاضلين والشهيدين وأحزابهم.

وحينئذ نقول : إنّه لا قرعة في مجاري الاستصحاب لا لعدم جريانها ، بل لعدم تماميّة دليل اعتبارها ، إذ لم يعمل أحد من الأصحاب بعمومه مع الاستصحاب. وأمّا في مجاري

٤٦٣

سائر الاصول فكلّ مورد لم يعمل الأصحاب بعموم دليل القرعة فيعمل فيه بالأصل الجاري فيه لعين ما عرفت ، وكلّ مورد عمل فيه الأصحاب أو جماعة بالقرعة دون الأصل الموجود فيه تعيّن تقديم القرعة فيه على الأصل كائنا ما كان ، لورود دليل القرعة حينئذ على أدلّة الاصول الثلاث لو كان مدركها العقل ، لوضوح أنّ العقل إنّما يحكم بالبراءة أو الاشتغال أو التخيير من حيث عدم البيان والقرعة المعتبرة بيان. وأمّا على تقدير الاستناد في هذه الاصول إلى النقل فالظاهر أنّ وجه تقديمها حينئذ حكومة دليلها على أدلّة هذه الاصول كما هو واضح.

المسألة الرابعة : في مقابلة الاستصحاب لغيره من الاصول العملية كالبراءة والاشتغال والتخيير ، حيث كان للمورد حالة سابقة تخالف مؤدّى هذه الاصول في شبهة حكميّة ـ كالعصير إذا ذهب ثلثاه بغير النار بعد صيرورته حراما بالغليان ، وكالحائض بعد الطهر وقبل الاغتسال بالقياس إلى حرمة الوطء ـ أو شبهة موضوعيّة كالعصير إذا شكّ في ذهاب ثلثيه ، والحائض إذا شكّ في انقطاع طمثه في باطن الفرج بعد انقطاعه في ظاهره ، إلى غير ذلك من الأمثلة الّتي يقدر المتدرّب على استخراجها ، والأصل في هذا الباب هو تقديم الاستصحاب على ما يقابله مطلقا إلاّ في بعض الصور على ما تعرفه.

والوجه في ذلك : أنّ المأخوذ في مورد أصل البراءة الشكّ في التكليف الناشئ عن عدم البيان واستصحاب الحالة السابقة من وجوب أو حرمة بيان لا يقبح معه العقاب على المخالفة.

وفي مورد أصل الاشتغال الشكّ في براءة الذمّة بدون الاحتياط والاستصحاب علم شرعي بها ، كاستصحاب وجوب الإتمام مثلا في بعض صور توقّف اليقين بها على الجمع بينه وبين القصر كما في المسير إلى ما يشكّ في بلوغه المسافة.

وفي مورد أصالة التخيير التحيّر كالتحيّر بين الإمساك والإفطار في يوم يشكّ كونه آخر رمضان أو أوّل شوّال واستصحاب بقاء رمضان أو عدم دخول شوّال رافع لهذا التحيّر ، فلا مورد مع جريانه لشيء من الاصول الثلاث ، والاستصحاب وارد على الجميع ، ومرجعه إلى أنّ الاستصحاب مزيل وغيره مزال.

ومن البيّن في تعارض الأصلين تقدّم المزيل على المزال.

وإن شئت قلت : إنّ الشكّ في بقاء الحالة السابقة المأخوذة في الاستصحاب سبب للشكّ المأخوذ في مجاري هذه الاصول ، وستعرف في تعارض الاستصحابين أنّ الشكّ السببي مقدّم على الشكّ المسبّبي.

وضابط الجميع هو الورود ، ومن ذلك يعرف أنّه قد يتقدّم أصل البراءة على

٤٦٤

الاستصحاب كما في مسألة الشكّ في الجزئيّة أو الشرطيّة من مسائل دوران المكلّف به بين الأقلّ والأكثر ، فإنّ أصالة البراءة عن العقاب على ترك الأكثر واردة على استصحاب الأمر والاشتغال المقتضي لعدم الاجتزاء بالأقلّ إن قلنا بجريانه ، لكون الشكّ في بقائهما مسبّبا عن الشكّ في مسألة الجزئيّة أو الشرطيّة ، وأصالة البراءة ممّا يوجب الخروج عن هذا الشكّ فيرتفع به الشكّ المسبّب منه.

ولك أن تقرّر ورود الاستصحاب على الاصول الثلاث الباقية : أنّ مؤدّى الاستصحاب في مجاريه حكم ظاهري مجعول للشاكّ في بقاء الحالة السابقة بعد اليقين ، فإذا حصل العلم به بمقتضى أدلّة الاستصحاب خرج المكلّف عن كونه جاهلا بالمعنى المأخوذ في مجاري الاصول الثلاثة ، أعني الجاهل بالحكم الإلزامي المؤثّر في العقاب على مخالفته واقعيّا كان أو ظاهريّا ، والجاهل بالمكلّف به بعد اليقين بأصل التكليف ، والجاهل بكون حكم الواقعة المعلوم إجمالا هو الوجوب أو الحرمة الموجب للتحيّر بين الفعل والترك ، فليتدبّر.

لا يقال : العكس أيضا ممكن ، لأنّ موضوع جميع الاصول الأربع هو الجاهل لا غير.

لأنّا نقول : إنّ موضوع الاستصحاب هو الجاهل ببقاء الحكم الواقعي الّذي هو الحالة السابقة ، وموضوع سائر الاصول هو الجاهل بالحكم الشرعي واقعا وظاهرا ، والاستصحاب المفيد للعلم بالحكم الظاهري رافع للجهل بالحكم الظاهري المأخوذ في موضوع سائر الاصول ، فلا يعقل ورودها على الاستصحاب إلاّ في الصورة المذكورة.

وربّما يستشكل في تقديم الاستصحاب على أصالة البراءة في الشبهات الموضوعيّة بملاحظة رواية عبد الله بن سنان الّتي استدلّ بها جماعة على أصل الإباحة ، الّتي هي معارضة لاستصحاب حرمة التصرّف في الأشياء المذكورة فيها ، كقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله : « كلّ شيء حلال حتّى تعلم أنّه حرام بعينه فتدعه من قبل نفسك وذلك مثل الثوب عليك ولعلّه سرقة ، والمملوك عندك ولعلّه حرّ قد باع نفسه وقهر فبيع ، أو امرأة تحتك وهي اختك أو رضيعتك ، والأشياء كلّها على هذا حتّى يستبين لك غيره أو يقوم به البيّنة » (١).

ويدفعه : أنّ الاستصحاب الموجود في الأشياء المذكورة يوافق أصالة الإباحة المستفادة من الرواية ، وهو أصالة عدم السرقة ، وأصالة عدم بيع المملوك نفسه ، وأصالة عدم القهر عليه في بيعه ، وأصالة عدم تحقّق نسبة الاخوّة بين الرجل وامرأته ، وأصالة عدم

__________________

(١) الوسائل ١٢ : ٦٠ ، الباب ٤ من أبواب ما يكتسب به ، الحديث ٤.

٤٦٥

تحقّق الرضاع بينهما. وأمّا استصحاب حرمة التصرّف فيها فلا يعقل له حالة سابقة إلاّ الحرمة الثابتة فيها قبل وقوعها في يد المالك ، وهذه الحالة السابقة قد انقطعت بظاهر الأسباب الشرعيّة الجارية عليها من عقدي البيع والنكاح وغيرهما فلا يجوز استصحابها.

المقام الثالث : في تعارض الاستصحابين الّذي هو العمدة في هذا الباب ، وليعلم أنّ هذا العنوان ينقسم من جهات عديدة إلى أقسام كثيرة :

فتارة من جهة نفس التعارض ينقسمان إلى كون تعارضهما بأنفسهما ـ كما في استصحاب كرّيّة الماء ونجاسة الثوب المغسول به ، واستصحاب نجاسة الماء المتنجّس المشكوك في زوال نجاسته واستصحاب طهارة الجسم الملاقي له ـ أو بواسطة مقدّمة خارجيّة كما في الإنائين الطاهرين إذا أصاب أحدهما نجاسة واشتبه ، حيث إنّ استصحاب الطهارة في أحدهما مع مثله في الآخر لا يتعارضان بأنفسهما ، إلاّ أنّ العلم الإجمالي بانتقاض الحالة السابقة في أحد الإنائين يوجب عدم إمكان الجمع بينهما في العمل ، والماء القليل المتمّم كرّا بقليل طاهر المشكوك في طهره بإتمامه كرّا ، فإنّ استصحاب طهارة المتمّم ـ بالكسر ـ مع استصحاب نجاسة المتمّم ـ بالفتح ـ لا يتنافيان باعتبار الواقع ، لجواز كون بعض هذا الماء بحسب الواقع طاهرا وبعضه نجسا عقلا وإن لم يتمايزا حسّا ، إلاّ أنّ هنا مقدّمة إجماعيّة تمنع من الحكم بموجبها ، وهي عدم جواز اختلاف حكم ماء واحد في سطح واحد من حيث الطهارة والنجاسة.

واخرى من جهة المورد إلى كونهما في موضوعين كالأمثلة المذكورة ، أو في موضوع واحد ، كالماء المسبوق بالقلّة إذا شكّ في بلوغه كرّا ولاقاه نجاسة ، فيتعارض فيه استصحاب القلّة وعدم الكرّيّة واستصحاب الطهارة.

وقد يمثّل له بالجلد المطروح الّذي يتعارض فيه استصحاب عدم التذكية واستصحاب الطهارة.

ويمكن المناقشة فيه بعدم كون استصحاب الطهارة هنا في مجراه لتبدّل موضوع المستصحب ، بناء على دخول وصف الحياة في الموضوع ، أو لمكان الشكّ في موضوعيّة الباقي بناء على احتمال مدخليّة الوصف في الموضوع.

وثالثة من جهة الشكّ إلى ما كان الشكّ في أحدهما مسبّبا عن الشكّ في الآخر كما في الأمثلة المذكورة ، وما كان الشكّ في كلّ منهما مسبّبا عن ثالث كما في الماء القليل النجس المتمّم بطاهر كرّا ، فإنّ الشكّ في الاستصحابين فيه مسبّب عن الشكّ في مطهّريّة إتمامه كرّا

٤٦٦

باعتبار الخلاف في المسألة.

وأمّا القسم الثالث وهو ما كان الشكّ في كلّ منهما مسبّبا عن الشكّ في الآخر فممّا ينبغي القطع ببطلانه ، لاستحالة تقدّم الشيء على نفسه ، خلافا لمن تخيّل جوازه ومثّل له بالعامّين من وجه لمعارضة أصالة العموم في كلّ منهما لمثلها في الآخر مع كون الشكّ في كلّ مسبّبا عنه في الآخر.

وفيه : أنّ الشكّ في كلّ منهما مسبّب عن العلم الإجمالي بتخصيص أحد العامّين ، فلا يدرى في نحو « أكرم العلماء » و « لا تكرم الفسّاق » هل اريد العموم من الأوّل والخصوص من الثاني أو بالعكس.

ورابعة من جهة المستصحب إلى موضوعيّين أو حكميّين أو مختلفين.

وخامسة من جهته أيضا إلى وجوديّين أو عدميّين أو مختلفين.

ولا يخفى أنّ أكثر هذه الأقسام متداخلة كما يظهر بالتأمّل في الأمثلة ، بل التعرّض للتقسيمات المذكورة جري على ما ذكر في المقام ، وإلاّ فلا يترتّب على أكثرها فائدة ، بل الفائدة المطلوبة من تعارض الاستصحابين إنّما تحصل في قسمي التقسيم الثالث ، فنقتصر على البحث عن حكميهما ، سواء كان تعارض الاستصحابين لذاتهما أو بواسطة أمر خارج ، في موضوعين أو في موضوع واحد ، وسواء كانا موضوعيّين أو حكميّين أو مختلفين ، وجوديّين أو عدميّين أو مختلفين ، فيقع البحث المذكور في مقامين :

المقام الأوّل : فيما كان الشكّ في أحدهما سببا للآخر ، فالوجه فيه لزوم تقديم الشكّ السببي ورفع اليد عن الحالة السابقة في جانب الشكّ المسبّبي ، سواء على القول بالاستصحاب من باب الظنّ بالبقاء ، أو على القول به تعبّدا من جهة الأخبار.

أمّا الأوّل : فلأنّ قضيّة سببيّة الشكّ السببي دوام حصول ظنّ البقاء في جانبه دون جانب الشكّ المسبّبي.

أمّا أوّلا : فبالوجدان الغنيّ عن البيان ، فمن أنكره فقد كابر وجدانه.

وأمّا ثانيا فبالبرهان وبيانه : أنّ ظنّ البقاء إمّا أن يحصل في جانب السبب أو في جانب المسبّب أو في جانبيهما ، ولا سبيل إلى الأخير لأنّ قضيّة سببيّة الشكّ السببي لزوم الحالة السابقة في جانبه لنقيض الحالة السابقة في جانب المسبّب ، والظنّ بالملزوم يستلزم الظنّ باللازم ، ومعناه استلزام الظنّ ببقاء الحالة السابقة في جانب السبب للظنّ بعدم بقائها في

٤٦٧

جانب المسبّب ، وهذا لا يجامع الظنّ ببقائها لاستحالة الظنّ بطرفي النقيض.

ولا إلى ما قبله لأنّ السبب مقدّم طبعا على المسبّب فلا يحدث الشكّ المسبّبي إلاّ بعد حدوث الشكّ السببي.

وقضيّة ذلك تقدّم الالتفات إلى الحالة السابقة في جانب السبب وسبق ملاحظتها على الالتفات إلى الحالة السابقة في جانب المسبّب وملاحظتها ، وهو على أصلهم من حصول ظنّ البقاء بملاحظة الكون الأوّل بنفسه أو مع انضمام الغلبة يؤثّر في ظنّ بقاء الحالة السابقة في جانب السبب ، ومعه يستحيل حصول ظنّ البقاء في جانب المسبّب لما عرفت بل يلزمه ظنّ عدم البقاء ، فتعيّن الأوّل.

ومع حصول ظنّ البقاء في الاستصحاب السببي وظنّ عدم البقاء في جانب المسبّب خرج الاستصحاب عن صلاحية المعارضة ، إمّا لعدم جريانه رأسا مع فرض جريان الاستصحاب السببي إن أخذنا ظنّ البقاء في ماهيّة الاستصحاب كما هو ظاهر تعريف العضدي ، أو لعدم معارضة غير الحجّة للحجّة إن جعلناه خارجا عن الماهيّة شرطا للاعتبار.

ويمكن تقرير البرهان بوجه أخصر وهو : أنّ احتمال البقاء في المسبّب تابع لاحتمال الارتفاع في السبب ، كما أنّ احتمال الارتفاع في المسبّب تابع لاحتمال البقاء في السبب ، ومعلوم أنّ التابع لا يخالف المتبوع ، والمفروض أنّ الاحتمالين في السبب مختلفان في الرجحان والمرجوحيّة مع كون الراجح هو احتمال البقاء ، ويتبعهما في ذلك الاحتمالان في المسبّب مع مرجوحيّة احتمال البقاء فيه ورجحان احتمال عدم البقاء ، فيصير بقاء الحالة السابقة في السبب وعدم بقائهما في المسبّب مظنونين وهو المطلوب.

وبعبارة أخصر : أنّ الأمارة المفيدة للظنّ باعتبار أنّه لا يحصل إلاّ من أمارة إنّما هي الحالة السابقة ، إذ بملاحظتها يحصل الظنّ الاستصحابي ومع قطع النظر عنها لا ظنّ.

والمفروض أنّ الالتفات إليها في جانب السبب سابق على الالتفات إليها في جانب المسبّب ، وسبق الالتفات إلى الاولى لا ينفكّ عن حصول الظنّ ببقائها ، ومع هذا لا يترتّب على الثانية أثر ، فيبقى حصول الظنّ بالبقاء في جانب المسبّب بلا أمارة توجبه.

والعجب من جمع بين الاستصحابين بالعمل بهما في مسألة الصيد الواقع بعد رميه في الماء القليل المشكوك في استناد موته إلى الرامي أو إلى الماء ، فيشكّ معه في نجاسة الماء كما هو مقتضى استصحاب عدم التذكية ، وطهارته كما هو مقتضى استصحاب الطهارة فيه ،

٤٦٨

كما عن العلاّمة (١) ومن تبعه.

ويظهر القول به من بعض الأعلام أيضا (٢) ، مع أنّه إن كان بناؤههم فيه على اعتباره من حيث ظنّ البقاء محال ، ولذا ردّه صاحب الحدائق (٣) ـ على ما حكي ـ بالبناء على تقديم المزيل على المزال بما محصّله : أنّ فائدة الاستصحاب إنّما هي ترتيب آثار المستصحب والمزيل من الاستصحابين فيما نحن فيه إنّما هو استصحاب عدم التذكية لكونه سببا.

والمفروض أنّ ظنّ البقاء حاصل منه مقدّما على ظنّ البقاء الّذي في قوّة الحصول من المزال ، فكيف يمكن العمل بالمزال حينئذ مع أنّ استصحاب عدم التذكية الّذي هو المزيل لا فائدة له إلاّ ترتيب الآثار.

ومن المعلوم أنّ من آثار استصحاب عدم التذكية نجاسة الماء المفروض ، ومع الحكم بالنجاسة كيف يعقل استصحاب الطهارة ، إلاّ ممّن يجوّز اجتماع النقيضين وهو لا يقابل بالجواب.

وأمّا الثاني فيدلّ عليه وجوه :

الأوّل : الإجماع على العمل بالاستصحاب في الملزومات الشرعيّة لترتيب لوازمها ، وعدم الاعتناء بالاستصحاب في اللوازم في موارد كثيرة لا تحصى كثرة على وجه يحصل القطع من جهة الحدس بملاحظة كثرتها بكون مبنى عملهم على لزوم تقديم المزيل والاستصحاب السببي على غيره ، ومن جملة هذه الموارد استصحاب الطهارة من الحدث أو الخبث لإحراز جواز الدخول في الصلاة مع مقابلة استصحاب الأمر والاشتغال بها ، واستصحاب كرّيّة الماء أو إطلاقه لإحراز التطهّر أو التطهير به مع مقابلة استصحاب الحدث والنجاسة وعدم الطهارة ، واستصحاب حياة المفقود لترتيب وجوب إنفاق زوجته مع استصحاب عدم الوجوب ، واستصحاب عدالة الإمام في الاقتداء به مع استصحاب الأمر بالصلاة ، إلى غير ذلك ممّا لا يخفى على المتتّبع.

ويؤيّده سيرة العقلاء وأهل العرف في الامور العرفيّة المستقرّة على الأخذ بالمزيل وعدم الاعتناء بالمزال.

ودعوى أنّ المسلّم من الإجماع إنّما هو على العمل بالاستصحاب السببيّة حيث لم يعارضها الاستصحابات المسبّبيّة ـ وضابطة العمل بها بالنسبة إلى الآثار الّتي لا تخالف الاستصحابات المسبّبيّة دون الآثار المخالفة لها ، ففي استصحاب كرّيّة الماء مثلا يحكم

__________________

(١) انظر التحرير : ٦ وحكاه عنه في مفتاح الكرامة ١ : ١٣٣.

(٢) القوانين ٢ : ٧٩.

(٣) الحدائق ١ : ٥٢٧ ـ ٥٢٨.

٤٦٩

بطهارته عند ملاقاته النجاسة وجواز شربه واستعماله في سائر مشروط بالطهارة من مأكول ومشروب ونحوهما ، وإذا غسل به المتنجّس لا نسلّم الإجماع على الحكم بطهارته نظرا إلى استصحاب النجاسة فيه.

وهذا نظير أصالة الصحّة في العمل عند الشكّ بعد الفراغ حيث إنّها إنّما تقتضي الصحّة حيث لم يعارضها حكم ظاهري ، كما لو شكّ في صحّة الصلاة بعد الفراغ عنها للشكّ في الطهارة فيحكم بالصحّة عملا بأصالة الصحّة ، بخلاف ما لو عارضها حكم ظاهري كما لو تيقّن الحدث وشكّ في الطهارة قبل الصلاة فغفل ونسي تحصيل الطهارة إلى أن صلّى وفرغ عن الصلاة فتذكّر ، أو تيقّن نجاسة ثوبه وشكّ في تطهيره فنسي أن يغسله إلى أن صلّى فيه وفرغ عنها ، فإنّه لا يزال يشكّ في الصحّة بسبب ما سبقه من الشكّ قبل الصلاة وهو من الشكّ بعد الفراغ ، إلاّ أنّه لا يجوز البناء على أصالة الصحّة ، لمعارضة الحكم الظاهري وهو وجوب التطهّر وغسل الثوب حسبما اقتضاه استصحاب الحدث والنجاسة ـ شطط من الكلام ، إذ المفروض على ما قرّرناه استقرار عملهم بالاستصحابات السببيّة في الآثار كلّها حتّى ما خالف منها الاستصحابات المسببيّة.

هذا مع بطلان مقايسة ما نحن فيه على أصالة الصحّة في موضع معارضة الحكم الظاهري ، لأنّ أصالة الصحّة إنّما تجري حيث لم يعلم ببطلان العمل ، ولذا اخذ في موضوعه الشكّ بعد الفراغ ، والعلم بالبطلان أعمّ من الشرعي ، والاستصحاب في متيقّن الحدث والنجاسة المقتضي لوجوب التطهير والتطهّر علم شرعي ببطلان الصلاة بدونهما.

وبالجملة هذه الصلاة محكومة ببطلانها شرعا ومعه لا تأثير للأصل المذكور في اقتضاء الصحّة.

الثاني : الأخبار الاستصحابيّة الّتي هي العمدة في أدلّة حجّيّة الاستصحاب والاستدلال يقرّر من وجهين :

أحدهما : التعليلات الواردة فيها مع ملاحظة مواردها كقوله عليه‌السلام : « فإنّه كان على يقين من وضوئه ، ولا ينقض اليقين بالشكّ » بعد قوله : « لا ، حتّى يستيقن أنّه قد نام (١) » وقوله عليه‌السلام : لأنّك كنت على يقين من طهارتك فشككت ، فليس ينبغي لك أن تنقض اليقين بالشكّ أبدا »

__________________

(١) الوسائل ١ : ١٧٤ ـ ١٧٥ الباب ١ من أبواب نواقض الوضوء ، ح ١.

٤٧٠

بعد قوله عليه‌السلام : « تغسله ولا تعيد الصلاة » في صحيحته الاخرى (١) وقوله عليه‌السلام : « لأنّك أعرته إيّاه وهو طاهر ، ولم تستيقن أنّه نجّسه إيّاه » بعد قوله : « لا » في جواب السائل : « هل عليّ أن أغسله؟ » في رواية عبد الله بن سنان. (٢)

فإنّه عليه‌السلام اعتبر اليقين بالطهارة حدثا وخبثا في عدم وجوب الوضوء وغسل الثوب وجواز الدخول في الصلاة بدونهما وصحّتها وعدم وجوب إعادتها ، وهذا إعمال للاستصحاب السببي ورفع اليد عن الاستصحاب المسبّبي المقتضي بخلاف هذه الأحكام وهو استصحاب الأمر بالصلاة. ثمّ تعليل إعمال الاستصحاب السببي بعدم جواز نقض اليقين بالشكّ يفيد عدم كون رفع اليد عن الحالة السابقة في جانب الشكّ المسبّبي نقضا لليقين بالشكّ ، وإلاّ كان تعليلا بالعلّة المشتركة وهو قبيح عقلا وعرفا.

والسرّ في عدم كونه نقضا لليقين بالشكّ : أنّ معنى الاستصحاب السببي ترتيب جميع آثار المستصحب عليه ما لم يحصل اليقين بارتفاعه ، ومن آثار الطهارة المستصحبة حدثا وخبثا جواز الدخول في الصلاة وصحّتها وعدم وجوب إعادتها بدون التطهير ، وهذا يقين شرعي بارتفاع الأمر بالصلاة وسقوطه ، فيكون رفع اليد عن الحالة السابقة في جانب المسبّب نقضا لليقين باليقين لا بالشكّ ، بناء على أنّ المراد من اليقين الناقض لليقين السابق أعمّ من اليقين الوجداني واليقين الشرعي.

وبذلك يظهر اطّراد الحكم المستفاد من الروايات بالتقريب الّذي ذكرناه من لزوم تقديم المزيل وعدم الاعتناء بالمزال ، ويندفع به شبهة اختصاصه بالمورد.

وثانيهما : أنّ قوله عليه‌السلام : « لا ينقض اليقين بالشكّ » وما بمعناه خصوصا قوله : « من كان على يقين فأصابه شكّ فليمض على يقينه ، فإنّ اليقين لا يدفع بالشكّ » بناء على تماميّة دلالته على الاستصحاب عامّ يشمل جميع أفراد اليقين والشكّ ، حتّى اليقين والشكّ في موارد تعارض الاستصحابين المزيل والمزال.

وهذا بعد تسليم العموم في لفظي « اليقين » و « الشكّ » ممّا لا كلام فيه ، بل الكلام في أنّ الداخل في هذا العموم بحسب إرادة الإمام عليه‌السلام هل هو اليقين والشكّ في جانب المزيل فقط ، أو في الجانبين معا ، أو في جانب المزال فقط؟ والأخير باطل للزومه التخصيص

__________________

(١) الوسائل ٢ : ١٠٦٢ ـ ١٠٦٢ الباب ٤١ من أبواب النجاسات ، ح ١.

(٢) الوسائل ٢ : ١٠٩٥ الباب ٧٤ من أبواب النجاسات ، ح ١.

٤٧١

بلا موجب في الروايات بل تخصيص الأكثر ، وكذلك الثاني لأنّ دخول المزيل في العموم يوجب خروج المزال عن العموم خروجا موضوعيّا ، فتعيّن الأوّل.

وتوضيح ذلك كلّه : أنّ الاستصحاب وعدم نقض اليقين بالشكّ ممّا لا معنى له إلاّ لزوم ترتيب الآثار الشرعيّة المترتّبة على المتيقّن ما لم يحصل اليقين ـ بالمعنى الأعمّ من الشرعي ـ بارتفاعه ، سواء كانت الآثار ممّا لزم من بقاء المتيقّن بقاؤه كطهارة الجسم الطاهر الملاقي للماء المستصحب الكرّيّة أو الطهارة ، أو ممّا لزم من بقائه حدوثه كطهارة الجسم المتنجّس المغسول بالماء المستصحب الكرّيّة أو الطهارة.

ومن المعلوم أنّه ليس الحدث في مسألة من تيقّن الطهارة ، ولا النجاسة في مسألة من تيقّن طهارة ثوبه أو بدنه ، ولا الفسق في مسألة من تيقّن عدالته من آثار الأمر والاشتغال بالصلاة ، بل حصول الامتثال المسقط للأمر والصحّة المسقطة للإعادة من آثار العدالة والطهارة حدثا وخبثا.

وكذلك ليس عدم الكرّيّة فيما تيقّن كرّيّته ، وعدم الإطلاق فيما تيقّن كونه كرّا (١) والنجاسة في الكرّ المتيقّن طهارته المشكوك في تغيّره بالنجاسة من آثار نجاسة الثوب المغسول به ، ولا من آثار حدث من تطهّر به ، بل الطهارة الخبثيّة والحدثيّة من آثار كرّيّة الماء وإطلاقه وطهارته ، وكذلك ليس موت المفقود من آثار عدم وجوب نفقة زوجته ، بل وجوب نفقة الزوجة من آثار حياته ، وهكذا في سائر الأمثلة من تعارض المزيل والمزال.

وضابطه الكلّي أنّ نقيض الحالة السابقة في جانب المزال من آثار الحالة السابقة في جانب المزيل ، وليس نقيض هذه الحالة من آثار الحالة السابقة في جانب المزال.

وحينئذ فلو دخل اليقين والشكّ من المزال فقط في عموم قوله عليه‌السلام : « لا ينقض اليقين بالشكّ » لزم خروج اليقين والشكّ من المزيل عن حكم العامّ ، وهو تخصيص ينفيه الأصل ، مع كونه من تخصيص الأكثر لقلّة استصحاب غير سببي ، بخلاف ما لو دخل اليقين والشكّ في جانب المزيل في العموم ، فإنّه يوجب خروج المزال خروجا موضوعيّا ، لأنّ الاستصحاب بالنسبة إلى الآثار الشرعيّة المترتّبة على المستصحب علم شرعي ، فلا يكون رفع اليد عن الحالة السابقة من المزال نقضا لليقين بالشكّ ، بل هو نقض لليقين بالعلم الشرعي ، وهذا هو معنى ما يقال من أنّ الاستصحاب السببي مقدّم على الاستصحاب

__________________

(١) والظاهر وقوع سهو هنا من قلمه الشريف ، وينبغي أن تكون العبارة هكذا : « وعدم الاطلاق فيما تيقّن كونه مطلقا » والله العالم.

٤٧٢

المسبّبي من باب الحكومة.

ولكنّ الإنصاف : أنّه من باب التخصّص والخروج الموضوعي حسبما عرفت. وبهذا كلّه ـ مضافا إلى ما سبق ـ ظهر أنّ القول بالمعارضة الموجبة للتساقط والرجوع إلى أصل ثالث كما عن الشيخ والمحقّق والعلاّمة في بعض أقواله وجماعة من متأخّري المتأخّرين ـ على ما حكي ـ ليس على ما ينبغي.

فعن الشيخ في المبسوط (١) أنّه ذهب إلى عدم وجوب فطرة العبد المفقود إذا لم يعلم خبره ، والظاهر أنّ مستنده أصل البراءة.

وعن المحقّق في المعتبر (٢) أنّه استحسنه مجيبا عن الاستدلال للوجوب بأصالة البقاء بأنّها معارضة بأصالة عدم الوجوب ، وعن تنظير وجوب الفطرة عنه بجواز عتقه في الكفّارة بالمنع عن الأصل تارة والفرق بينهما اخرى.

وعنه في اصول المعتبر (٣) التصريح بأنّ استصحاب الطهارة عند الشكّ في الحدث معارض باستصحاب عدم براءة الذمّة بالصلاة بالطهارة المستصحبة.

كما أنّه ظهر أنّ ما عليه العلاّمة في بعض كتبه (٤) ـ على ما حكي ـ من الحكم بطهارة الماء القليل الّذي وقع فيه صيد مرميّ لم يعلم استناد موته إلى الرمي مع الحكم بنجاسة الصيد عملا بالاستصحابين ، ليس على ما ينبغي. لكن عنه في غير واحد من كتبه (٥) الحكم بنجاسة الماء ، وتبعه الشهيدان (٦) واختاره بعض مشايخنا قدس‌سره (٧) وهو المختار ، لأنّه إذا ثبت بأصالة عدم التذكية موت الصيد جرى عليه جميع أحكام الميتة الّتي منها انفعال الماء الملاقي له.

وخلاصة الكلام : أنّ إعمال الاستصحابين أو تعارضهما الموجب للتساقط والرجوع إلى المرجّحات مبنيّ على توهّم شمول الحكم المستفاد من الأخبار لهما معا ، بدعوى : أنّ الشكّ واليقين في جانب السبب مع الشكّ واليقين في جانب المسبّب مع قطع النظر عن الأخبار ودلالتها على الاستصحاب ـ أعني لزوم بقاء الحالة السابقة في زمن الشكّ ـ

__________________

(١) المبسوط ١ : ٢٣٩.

(٢) المعتبر ٢ : ٥٩٨.

(٣) المعتبر ١ : ٣٢.

(٤) انظر التحرير : ٦ ، وحكاه عنه في مفتاح الكرامة ١ : ١٣٣.

(٥) انظر قواعد الأحكام ١ : ١٩٠ ونهاية الإحكام ١ : ٢٥٦ ، المنتهى ١ : ١٧٣.

(٦) راجع الذكرى ١ : ١٠٦ والبيان : ١٠٣ وتمهيد القواعد : ٢٨٩ ـ ٢٩٠.

(٧) فرائد الاصول ٣ : ٤٠٢.

٤٧٣

في كونهما مصداقين للشكّ اللاحق باليقين السابق على حدّ سواء ، فليكن الحكم المستفاد من الأخبار باعتبار عموم لفظي « اليقين » و « الشكّ » لكلّ شكّ لا حق ويقين سابق شاملا لهما على حدّ سواء.

ويدفعه : أنّ مناط عموم الأخبار إنّما هو صدق نقض اليقين ، وهذا إنّما يصدق إذا بقي الشكّ على حاله ، ويختصّ ذلك باليقين والشكّ في جانب السبب ، لتبدّل الشكّ في جانب المسبّب بالعلم بعدم البقاء ولو شرعا ، فشمول العامّ للشكّ السببي كما هو المقطوع به ينزّل الشكّ المسبّبي منزلة العدم ، ويوجب اليقين الشرعي بعدم بقاء الحالة السابقة الّتي في جانبه ، فيكون رفع اليد عن هذه الحالة السابقة من قبيل نقض اليقين باليقين لا بالشكّ ، فلا يشمله عموم الحكم المستفاد من النهي في قوله « لا ينقض » فخروج الاستصحاب المسبّبي عن الحكم العامّ إنّما هو من جهة عدم المقتضي لا من جهة وجود المانع.

وبذلك يقوى القول بكون تقديم الاستصحاب السببي على المسبّبي من باب الحكومة ، وإن كان الأقوى كونه من باب الورود.

ومن هنا ظهر أنّه لا وجه للقول بالرجوع إلى المرجّحات الخارجيّة كما هو ظاهر الإطلاق المحكيّ عن تمهيد القواعد (١) في تعارض الأصلين ، فإنّه إنّما يصلح مع وجود المعارضة وقد عرفت أن لا معارضة ، لعدم شمول العامّ كلا المتعارضين ، كما أنّه لا وجه للقول بطرح الاستصحابين معا والرجوع إلى ما يوجد في المورد من سائر الاصول كالبراءة والاشتغال والتخيير ، إذ مع خلوّ الاستصحاب السببي عن المعارض باعتبار الحكومة أو الورود لا مفرّ من العمل بمقتضاه ، نظرا إلى أنّ العبرة في مقام المعارضة إنّما هو بالمعارضة الفعليّة فلا يكفي المعارضة الفرضيّة ، كما أنّه قد اتّضح فساد القول بالجمع بينهما بما لا مزيد عليه.

وممّا يرشد إلى فساد توهّم الجمع أنّ الاستصحاب السببي معه يصير كاللغو لانتفاء ما يترتّب عليه من الفوائد ، إذ المقصود بذلك الاستصحاب إمّا ترتيب الآثار الموافقة له وهي الآثار الموجودة سابقا كالحكم بزوجيّة زوجة زيد باستصحاب حياته فلا حاجة لها إلى ذلك الاستصحاب ، لكفاية الاستصحاب الجاري في نفس هذه الآثار ، إذ المفروض أنّ

__________________

(١) تمهيد القواعد : ٢٨٨ ـ ٢٨٩.

٤٧٤

الشكّ في حياة زيد يستلزم الشكّ في بقاء زوجيّة زوجته ، فكما أنّ الاستصحاب يستدعي بقاء الحياة فكذلك استصحاب بقاء الزوجيّة يستدعي الزوجيّة.

أو ترتيب الآثار المخالفة له وهي الآثار المعدومة سابقا ، فلا حاجة لها إليه أيضا بالفرض ، لأنّها تابعة للاستصحاب المسبّبي المعارض له ، وإن فرضت الكلام في الآثار الّتي لم يعلم حالتها السابقة فلا حاجة لها أيضا إلى هذا الاستصحاب ، لأنّها مندرجة لا محالة تحت أصل من الاصول من البراءة والإباحة والاشتغال والتخيير ، ومع كفاية هذا الأصل لا حاجة إلى اعتبار أمر زائد.

ولكن آورد : بمنع عدم الحاجة إلى الاستصحاب في الآثار السابقة ، فإنّ اجراء الاستصحاب في نفس تلك الآثار موقوف على احراز الموضوع لها ، وهو مشكوك فيه ، فلا بدّ من استصحاب الموضوع إمّا ليترتّب عليه تلك الآثار فلا يحتاج إلى الاستصحاب في أنفسها المتوقّفة على بقاء الموضوع يقينا كما سبق تحقيقه في مسألة اشتراط بقاء الموضوع ، وإمّا لتحصيل شرط الاستصحاب في نفس تلك الآثار كما توهّمه بعض في المسألة المتقدّمة ، فالاستصحاب في الملزومات ممّا يحتاج إليه على التقديرين ، فتأمّل.

المقام الثاني : فيما كان الشكّ في كلا المتعارضين مسبّبا عن ثالث ، وحيث إنّ ذلك لا ينفكّ عن العلم الإجمالي بانتقاض إحدى الحالتين السابقتين ، فالأمر فيهما يدور بين طرحهما معا والرجوع إلى ما يجري في المورد من الاصول ، وبين الجمع بينهما في العمل ، ويختلف ذلك بحسب الموارد باعتبار حدوث تكليف إلزامي بسبب العلم الإجمالي بحيث يلزم من العمل بالأصلين مخالفته بعنوان القطع الّتي يعبّر عنها بالمخالفة القطعيّة العمليّة ، وعدم حدوث تكليف إلزامي بسببه على الوجه المذكور ، فهاهنا صورتان كان المتّجه فيهما التفصيل بينهما في الحكم من حيث الطرح والجمع.

الصورة الاولى : ما كان العلم الإجمالي مؤثّرا في حدوث تكليف إلزامي ، كما في الانائين الطاهرين إذا أصاب أحدهما نجاسة واشتبه ، فإنّ الاستصحاب في كلّ منهما بانفراده يقتضي البناء على الطهارة مع العلم بانتقاض الحالة السابقة في أحدهما إجمالا وتأثيره في تنجّز التكليف بالاجتناب عمّا تنجّس منهما في الواقع ، وحينئذ فالعمل بالاستصحابين معا يوجب المخالفة القطعيّة العمليّة لذلك العلم الإجمالي ، وهي قبيحة عقلا

٤٧٥

وشرعا ، والعمل بأحدهما بعينه ترجيح بلا مرجّح ، والعمل بأحدهما على وجه التخيير أيضا غير واضح بل غير سائغ ، إذ لا دليل على التخيير هنا من عقل ولا شرع ، أمّا الثاني : فظاهر وأمّا الأوّل : فلأنّ العقل إنّما يحكم بالتخيير في فردين من العامّ شملهما العموم ولكن وقع بينهما تعارض لأجل امتناع الجمع بينهما في العمل من جهة خارجيّة ، كما لو أمر السيّد عبده بضيافة كلّ عالم فوقع التعارض بين ضيافة زيد وضيافة عمرو لعدم إمكان اجتماعهما معا ، فحينئذ يحكم العقل بالتخيير بينهما بالأخذ بأحدهما وطرح الآخر ، لوجوب العمل بالعامّ بقدر الإمكان.

والمفروض أنّ أحدهما لا بعينه ممكن والممتنع هو الأخذ بالآخر لا بعينه بشرط انضمامه إلى الأوّل ، فيؤخذ بالممكن ويطرح غيره.

وأمّا إذا كان تعارضهما لخروج أحدهما عن العامّ واشتباه الخارج بغيره ممّا هو داخل تحته ، كما إذا علمنا في المثال أنّ السيّد أخرج عن العموم بمخصّص استثنائي مثلا واشتبه الخارج بين كونه زيدا أو عمرو فلا تخيير حينئذ عقلا ، بل العرف يحكم بالتوقّف ، وظاهر أنّ محلّ البحث من هذا القبيل ، لوضوح أنّ مناط الاستصحاب هو اليقين السابق والشكّ اللاحق ، فما لا شكّ فيه باعتبار حصول العلم بعدم البقاء فلا يتناوله عموم « لا ينقض ».

والمفروض في محلّ التعارض ارتفاع ذلك المناط في أحدهما ، وهذا يوجب انتفاء أحد الاستصحابين في الواقع ، فالموجود في المقام استصحاب واحد معيّن في الواقع وقد اشتبه محلّه ، ومعه لا يعقل التخيير ، ولا معنى أيضا لترجيح أحدهما بالرجوع إلى المرجّحات إن وجد مرجّح وإلاّ فالتخيير ، فإنّ كلاّ من الترجيح مع المرجّح والتخيير بدونه فاسد ، أمّا الثاني : فلما عرفت ، وأمّا الأوّل : فلأنّ المرجّح الّذي يرجّح أحد المتعارضين إمّا أن يكون من قبيل الأمارات الظنّية كالشهرة ونحوها ، أو يكون من غيرها من الاصول العمليّة الّتي لا يدور اعتبارها على ظنّ ، ولا سبيل إلى شيء منهما.

أمّا الأوّل : فلأنّ الأمارة الظنّية المفروضة في المورد إن كانت معتبرة بحسب الشرع خصوصا أو عموما فهي بنفسها حجّة مستقلّة لا حاجة معها إلى التمسّك بالاستصحاب ، بل بناء على ما سبق تحقيقه من حكومة الأمارات على الاستصحاب لا مجرى له مع وجودها ، وافقت مؤدّاه أو خالفت.

نعم لو كان اعتبار الاستصحاب من باب الظنّ النوعي أمكن ترجيحه بالمرجّحات

٤٧٦

الاجتهاديّة ، غير أنّ هذه الطريقة على ما عرفت غير تامّة.

وإن كانت من الظنون الغير المعتبرة فهي لا تنهض للترجيح كما لا تنهض للدليل ، مع أنّها لكونها ناظرة إلى الواقع لا يوافق مؤدّاها للاستصحاب الّذي هو حكم ظاهري ، فلا تصلح للترجيح لوجوب اتّحاد مدلولي المرجّح والمرجّح.

وبالجملة الاستصحاب المأخوذ من الأخبار يقضي بكون المستصحب أو الأثر المترتّب عليه حكما ظاهريّا اخذ في موضوعه الجهل بالواقع ، والمرجّح الظنّي يقضي بكونه حكما واقعيّا اخذ في موضوعه الواقعة من حيث هي ، ومن الظاهر تغاير الحكمين فلا يتأكّد ولا يتقوّى أحدهما بالآخر ، ولذا لو كان هذا المرجّح من الظنون المعتبرة خصوصا أو عموما ارتفع بوجوده موضوع الحكم الظاهري.

وأمّا الثاني : فلأنّ الأصل العملي الّذي يرجع إليه للترجيح لا يخلو من كونه بحسب الرتبة مقدّما على الاستصحاب فيكون مزيلا له ، فلا مجرى معه لشيء من الاستصحابين ليكون مرجّحا لأحدهما أو مؤخّرا عنه فلا يصلح لكونه مرجّحا مع وجود ما هو مقدّم عليه ، كما لا يصلح لكونه دليلا معه ، نظير أصالة الإباحة والبراءة في مقابلة الدليلين الاجتهاديّين المتعارضين. ومرجعه إلى ما ذكرناه مرارا من أنّ الأصل العملي كما لا يعارض الدليل فكذلك لا يعاضده.

أو مقارنا له على معنى كونه مساويا للمتعارضين من حيث الاعتبار والحجّية ، فهو من حيث كونه في عرض الاستصحابين بل من سنخهما ـ على معنى استصحاب ثالث موافق لأحدهما إذ لا يعقل مساواته لهما في الرتبة إلاّ على هذا التقدير ـ تابع لما يوافقه منهما في الحكم ، والمفروض عدم إمكان العمل بذلك من جهة التعارض فكذلك ذلك المساوي الموافق له ، ومجرّد كونه معه وموافقته له لا يوجب قوّة فيه أصلا.

لا يقال : إنّ الأمر حينئذ بالنسبة إلى عمومات الاستصحاب دائر بين تخصيص الأكثر وتخصيص الأقلّ ، لدورانه بين طرح الاستصحابين المتوافقين وإخراجهما من العمومات وطرح الاستصحاب المخالف لهما وإخراجه عنها ، ومن البيّن أولويّة الثاني تقليلا للتخصيص المخالف للأصل ، وهو المراد من ترجيح أحد المتعارضين بالأصل الثالث الموافق لأحدهما المساوي لهما في مرتبة الاعتبار.

لأنّا نقول : إنّ أولوية تخصيص الأقلّ إنّما هي حيث كان الأقلّ مندرجا في الأكثر ، كما

٤٧٧

إذا شككنا في قوله : « أكرم العلماء » مقرونا بمخصّص استثنائي مثلا في أنّ المخرج رجل واحد من الفقهاء مثلا أو رجلان ، فالعرف في نحوه يحكم بأولويّة الأقلّ بل العقل أيضا حاكم ، لأنّه القدر المتيقّن ممّا خرج من حكم العامّ.

وأمّا إذا لم يكن كذلك بل كانا متبائنين بأن لا يكون الأقلّ من جنس الأكثر كما إذا شككنا في المثال المذكور في أنّ المخرج هل هو الفقهاء الّذين هم ثلاثة رجال أو الحكماء الّذين هم رجلان أو أربعة رجال فلا أولويّة للأقلّ ، لعدم بناء العرف على الحكم بذلك ، ولعدم حكم العقل أيضا بل العقل حاكم بالوقوف ، وبناء العرف أيضا على التوقّف.

المبحث الثالث : في اشتراط التمسّك بالاستصحاب بالفحص عن الدليل الاجتهادي بل مطلق المعارض ، وظاهر من ذكره كونه شرطا للاعتبار ، ولكن الّذي يساعد عليه النظر كونه شرطا للجريان ، لا لما علّل به من أنّ المقتضي للفحص إنّما هو العلم الإجمالي بوجود معارضات لجملة كثيرة من الاستصحابات مع وقوع الاشتباه ، ولا مجرى للاستصحاب إلاّ أن يعلم خلوّه عن المعارض ، وهو لا يمكن عادة إلاّ بالفحص ، لأنّه إن تمّ يقضي بعدم الاعتبار لا بعدم الجريان ، بل لأنّ المعارض على تقدير وجوده في الواقع فلا يخلو عن كونه واردا على الاستصحاب أو حاكما عليه كما سبق تحقيقه في المبحث الثاني.

وأيّا ما كان فلا مجرى للاستصحاب معه ، وبهذا ظهر وجه الاشتراط ودليله وهو أنّ الاستصحاب لا يجري إلاّ في موضوعه ولا يحرز موضوعه إلاّ بفقد ما يرد عليه أو يحكم عليه ، ولا يحرز ذلك إلاّ بالفحص فيجب.

هذا مضافا إلى الإجماع محصّلا ومنقولا ، والأدلّة الدالّة على وجوب سؤال أهل الذكر والتفقّه في الدين ، وطلب العلم بالأحكام كتابا وسنّة ، نظرا إلى أنّ مورد هذه الأدلّة هو الجاهل ، والشاكّ في بقاء الحالة السابقة جاهل. ولكن هذا كلّه في الأحكام الّتي يسمّى اشتباهها شبهة حكميّة وأمّا الموضوعات كالعدالة والرطوبة ونحوها فقضيّة ما ذكرناه من تقرير الوجه الأوّل من أنّ الاستصحاب لا يجري إلاّ في موضوعه الّذي لا يحرز إلاّ بالفحص لزوم اعتباره فيها ، لما عرفت في المبحث السابق من أنّ في الأمارات والاصول التعبّديّة المعمولة في الموضوعات الخارجيّة أيضا ما يكون واردا أو حاكما على الاستصحاب فلا مجرى له مع وجوده ، ولكنّ الظاهر عدم وجوب الفحص فيها بدليل الإجماع محقّقا ومنقولا ، وعليه فحصل الفرق بين الاستصحاب في الشبهات الحكميّة

٤٧٨

وبينه في الشبهات الموضوعيّة.

ومحصّله كون العلم بعدم المعارض شرطا للعمل بالاستصحاب في الأوّل والعلم بوجود المعارض مانعا من العمل به في الثاني ، وحيث لا يعتبر فيه العلم بالعدم فلذا لا يشترط في العمل به الفحص عن المعارض وإن احتمل وجوده ، بل علم وجوده فيما بين الاستصحابات ، من غير فرق في ذلك بين المجتهد ومقلّده حيث رخّصه المجتهد في العمل به في الموضوعات إن جوّزناه فيعمل به حينئذ بلا فحص ، غير أنّه ربّما يستشكل في جواز ترخيصه في العمل به ولو كان عاميّا بحتا لأنّه كثيرا مّا يعمل بالاستصحاب مع معارضة استصحاب آخر مزيل له أو غيره ممّا يرد أو يحكم عليه من الأمارات أو الاصول ، لعدم تميّزه بين المزيل والمزال ، والوارد والمورود ، والحاكم والمحكوم عليه ، فالوجه حينئذ أن لا يرخّصه المجتهد في العمل بالاستصحاب على الوجه الكلّي ، بل يفتي له في كلّ مورد استصحابي بالحكم الاستصحابي الموجود في هذا المورد بالخصوص ، مثل أن يقول فيمن تيقّن الطهارة وشكّ في الحدث : أنّه يبني على الطهارة ، وفيمن تيقّن الحدث وشكّ في الطهارة : أنّه يبني على الحدث ، وفيمن تيقّن طهارة ثوبه وشكّ في تنجسه أو تيقّن نجاسته وشكّ في ازالتها : أنّه يبني على الطهارة في الأوّل والنجاسة في الثاني ، وهكذا يصنع في سائر الموارد كما هو الطريقة المعمولة عند أصحابنا المفتين رضوان الله عليهم.

ويمكن الفرق بين المقلّد العالم الّذي يعرف الاستصحاب وشرائطه فيرخّصه في العمل والعامي الّذي ليس بهذه المثابة فلا يرخّصه في العمل به ، بل يفتي له بما يحتاج إليه من الحكم الاستصحابي في كلّ مورد بما يخصّه.

هذا آخر ما أوردنا في باب الاستصحاب ، الحمد لله أوّلا وآخرا وظاهرا وباطنا ، وقد وقع الفراغ في ليلة الأربعاء السابعة والعشرين من الجمادي الأوّل من سنة ألف ومائتين وخمسة وثمانين سنة ١٢٨٥.

٤٧٩
٤٨٠